جاءتني على غير عادتها قبل أن أفتح عيني، كنت قد أطلت السهر مع مجموعة من الأصدقاء في الليلة الماضية، ما جعلني أظل نائماً حتى هذه الساعة التي تجاوزت الثامنة بقليل، دخلت غرفتي الصغيرة حاملة فنجانين من القهوة، وجلست على كرسي مكتبي. خلتها أمي عندما استيقظت على وقع أقدامها، فوقع أقدامهن متشابه، وأكاد أجزم أنه متطابق في الكثير من الحالات إن لم يكن في معظمها، قالت:
ـ يسعد صباحو… “من سرى باع واشترى” يابني، وأنت مازلت نائماً والشمس غمرت المدينة كلها، هيا لتشاركني شرب القهوة قبل أن تبرد…
فركت عيني بقبضة يميني على عادتي، أسندت ظهري على ظهر تختي، ورددت الصباح وزدته ترحيباً، وعلت شفتاي ابتسامة عندما رأيتها. وبدأنا نشرب القهوة، قبل أن تأتي أمي التي كانت قد بدأت منذ ساعة بشطف البيت على عادتها في كل يوم جمعة، خاصة إن غابت زوجتي، عادة لم تفارقها منذكانت في سن المراهقة.
قدّرت أنها جاءت لتقول لي شيئاً ما، أو لتسمعني رسالة ما، أو ربما تريد أن تفرغ غضباً جماً في صدرها لسبب ما، ولم يخب ظني، قالت:
ـ لا أراك تسمع الموسيقى، كل الشباب تفعل ذلك!!
أوقفتني كلماتها عن التفكير وتساءلت عمّا تريد قوله، فأنا لم أستيقظ من النوم بعد حين اقتحمت عليّ سكون نومي وطرقت بكلماتها باب نعاسي، كما أنني لم أعرفها من محبي الموسيقى لتسألني عنها، لكنني قلت مجاملاً:
أي شباب ياخالتي أم علي؟ إنني أقف على أعتاب الخمسين…
فقالت سريعاً وكأنها كانت تعرف إجابتي:
ـ يعطيك طيلة العمر يابني، فالشباب شباب القلب والعقل، وأنا كما تعلم تجاوزت الثمانين قليلاً وما زلت أسمع الأهازيج والعتابا والميجنا…
فقلت متجاوزاً زلة لساني التي طالما انتقدتني على مثلها زوجتي، التي غادرتني مع أبنائنا الى مدينة نابلس لزيارة أهلها منذ يوم أمس، مذكراً هذه المرأة العجوز بسنها:
ـ صدقت والله ياخاله، قصدت أنني أستمع للموسيقى لكن ليس كما مضى…
فقالت وما زالت تقود دفة الحوار:
ـ كلنا كذلك يابني ولست وحدك، حتى أذواقنا تتغير مع مرور الزمن وجريان العمر…
سكتت هنيهة، وقبل أن أحاول المجاملة سألت من جديد:
ـ أي المطربين تحب الإستماع إليه؟
وأجبت أنا حتى دون أن افكر بمغزى سؤالها:
ـ فيروز ياخالتي، وأنت تعرفين ذلك…
لم تعقب على الجزء الثاني من سؤالي، وقالت دون أن تنظر نحوي:
ـ إنك لست مثل الرئيس الذي يحب الإستماع الى “موشي إلياهو”… العظيم.
ومطت كلمة العظيم تماماً كما مطّها الرئيس في لقائه المتلفز، وأخذت ترتشف من قهوتها بصمت عجيب، ورأيت عينيها وكأنها تغادر الغرفة وتصرخ عالياً مستنجدة بإبنها علي، الذي استشهد قبل عقود ثلاثة وزنده قابضاً على حجر، عندما اخترقت رصاصة قناص قلبه عن بعد مئات الأمتار، وكأنها تستنجد به من مرحلة الإنحطاط هذه التي لفت السلطة وغطتها بردائها…. وسكت أنا، لم ارد أن أقول شيئاً يثير فيها الغضب والذكريات المؤلمة، وأخذت أرتشف شيئاً من فنجان قهوتي التي أحضرته بيدها، لكنها سألت من جديد دون انتظار اجابة:
ـ أتعتقد أنهم فقدوا الحياء أم الكرامة أم عزة النفس أم الشهامة أم الرجولة أم فقدوا كل شيء؟ أم كانوا يفتعلون أنهم يمتلكونها فقط؟
عرفت الآن لماذا جاءت ولأي سبب، لكنني كعادتي بقيت مصغياً لكلماتها التي تبدأ عادة كزخات من قطرات مطر قليلة مستكشفة، قبل أن تطلق العنان لرشات الأمطار الكثيفة المتتابعة… وأكملت لتقول ما تفكر به أو ما جمعته من معلومات وأخبار في الأيام الأخيرة، ترميها أمامي قبل أن تعود خائبة الى بيتها:
ـ أصحيح ما يقولون من أن السلطة وآل سعود سهلوا هجرة اليهود اليمنيين الذين جاؤوا قبل أيام؟
فقلت وقد تهيأت للإجابة على أسئلتها:
ـ هذا ما يقوله البعض، لكن الله وحده يعلم ما في الصدور…
فقالت وكأنها تريد تفنيد أقوالي:
ـ لا ليس الله وحده يابني، فلا دخان دون نار، كما أن “الصهاينة” شكروهم على ذلك، هل كانوا ليشكرونهم لو لم يساعدونهم في ذلك؟!!!
وسكتنا من جديد، قبل أن تكمل متداركة ناثرة بوجهي كلمات أخرى، لتؤكد المعلومات التي بحوزتها:
ـ أم لماذا تعتقد أن بعض “الحاخامات” الذين يُحرّضون ليل نهار على قتل أبنائنا، يأتون لعنده ويباركونه داعين الله أن يبقيه في خدمة “بني اسرائيل”!!!
وأمام الصمت الذي كان يخلفه سؤالها من جانبي كانت تظل تزداد اصراراً على ايصال ما لديها، فقالت من جديد:
ـ قالوا أن الرئيس بعث بوفد لتعزية رئيس الإدارة المدنية السابق، أليس هو من أفلت جنوده لقتل المنتفضين؟ ألا تعتقد أنه هو من أعطى الأمر بقتل ابني علي؟ أم ربما هو شخصياً من أطلق النار عليه في ذلك الوقت؟
كان سؤالها ثقيلاً بثقل ما تفعله تلك القيادات التي لم تعد تقيم وزناً للشهداء والجرحى والأسرى، ولا حتى لأي من أفراد الشعب، أو مثل سكيناً كالذي تطعننا به ذات القيادة المخصية في كل يوم وكل لحظة، غير مهتمة بمن تطعن أو تصيب أو تقتل، وكل ما يهمها تقديم”صكوك” الطاعة والغفران والحماية للصهاينة، وأبقاني ثقل السؤال عاجزا عن الإجابة عليه، وأكملت هي وكأنه لا يهمها ما سأقوله لوقلت شيئاً:
ـ ألم تلاحظ أن الصهاينة يكافئونهم أمام سيل التنازلات هذه بمزيد من مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والتهديد بمصادرة منطقة c. يعني كلما ازدادوا جماعتنا خضوعاً كلما ازدادوا هم عنصرية وعنجهية وتطرف… لكن “العلة” مش فيهم فقط يابني، قيادتنا نحن التي تستحق الضرب “بالصرامي”…
وشددت على كلمتها الأخيرة وكأنها تضربهم الآن في هذه اللحظة بالذات بها، وقلت أنا دون قصد هذه المرة:
ـ أأكثرمن ذلك؟
قلت وفي ذهني اللطمات التي يصفعهم بها الصهاينة كل يوم، فقالت:
ـ منّا نحن هذه المرة وليس منهم، “ضرب صرامي” الصهاينة لهم يعتبرونه مفخرة وعزة، لنرى ماذا سيعتبرون ضرب “صرامي” الشعب لهم!!! ربما حركت فيهم شيئاً من الرجولة المفقودة!!! لكن من أين ستأتي الرجولة لأناس مخصيين؟!!!
عادت تجمعنا حالة الصمت من جديد، ودخلت أمي الغرفة وجلست على كرسي مقابل للحاجة أم علي مرحبة باسمة، وردت الحاجة التحيةبمثلها وعادت لتقول:
ـ رأيته بالأمس يتحدث على التلفاز، كان يتحدث العربية وفجأة أخذ”يرطن” بلغة أجنبية، وقال أنه حزن عندما طعنوا المستوطنة، لكنه لم يقل أنه يحزن على قتل أولادنا، لم يقل أنه يحزن على الإعدامات الميدانية بحق فتياتنا وشبابنا، قال أن كل ما يريده هو محاكمات عادلة!!! منذ متى كانت لديهم محاكمات عادلة لأولادنا؟ لكنه لا هو ولا أبناءه ذاقوا مرارة السجن ولا جربوا المحاكم الصورية ليعرفوا ماهية محاكمهم!!! وكيف يمكن أن تكون محاكمة طفل لم يتجاوز الثانية عشر محاكمة عادلة، أو قتل طفل بدم بارد أو أم في سيارة متوقفة على حاجز في أرض محتلة دون حتى أن تنزل منها، أو عجوز تحت زيتونة زرعها وسقاها وكبرها وقنّبها وفتت حبات التراب تحت جذورها، بذريعة أنهم يشكلون خطرا عليهم، من لم يجرب شيئاً من هذا لا يحق له إعطاء الفتاوى والنصائح والأحكام، ومن لم يقل يوماً اتبعوني ولم يتقدم الصفوف يوماً لا يحق له أن يقول لهم تقدموا، فما بالك بمن لم يقل يوماً اتبعوني ويكسر مع الأعداء أرجل المتقدمين!!!… نعم يابني هؤلاء لا يهمهم سياسة القتل والتقتيل والسجن لأبنائنا، هؤلاء منذ اليوم الذي عبدوا فيه المال وكفروا فيه بالثورة، منذ ذلك الحين لم يعد يؤتمن لهم جانب.
وأمي التي كادت أن تكسر التلفاز عندما رأت الرئيس يتذلل ويتزلف للصحفية “الإسرائيلية”، في ذات المقابلة التي تتحدث عنها الحاجة أم علي، علقت كعادتها عند أي حوار سياسي يتم أمامها:
ـ أسمعته ياحاجة؟ يقول أنهم يفتشون طلاب المدارس باحثين عن سكاكين!! إنه يكذب بالطبع فأطفالنا لم يحملوا يوماً سكيناً عندما يذهبون لمدارسهم، لكنه تزلف وانحناء وخضوع، يريدهم أن يعطوه “جائزة” لأنه يحفظ أمنهم، ألم تسمعينه يقول أنه طلب مرات لقاء زعيمهم ومستعد للقائه!!! يريد لقاءه بأي ثمن بعد أن كان يقول أنه لن يلتقيه دون أن يوقف الإستيطان!!! تماماً كما كان يقول بأنه أوقف التنسيق الأمني ليقول لاحقاً أنه “مقدس”.
وأم علي التي أنهت فنجان قهوتها، قالت معقبة:
ـ ويفتخر أنهم اجتمعوا سراً عشرات المرات للتنسيق الأمني وأنه أحبط عمليات وصادر أسلحة واعتقل مناضلين!!! الله يرحمك ياعلي يابني، لقد أكرمك الله بالشهادة قبل أن ترى هؤلاء الأوباش الذين باعوا دمك ودم رفاقك على مدى مائة عام، وربما لو بقيت لليوم لمت غيظاً وقهراً ياولدي….
واستدارت بعينيها الى أمي وقالت: الله لا يوفقهم، أذلونا هؤلاء السفلة، الل لا يوفقهم…
وساد الصمت الثقيل المتوتر الغاضب، وملأ جو الغرفة الصباحي المشمس حزناً، وكانت رشفات أمي لقهوتها تمزقه للحظات قبل أن يتجمع متكاثفاً ويعود، الى أن قطعته الحاجة أم علي قائلة من جديد:
ـ قولي لي يا أم جمال، أأعطوك هذه المرة تصريح زيارة لأبنك عمر أم رفضوك من جديد؟ ربما زرنا أولادنا في السجن سوياً هذه المرة…
وقمت متسللاً خارجاً من غرفتي الى الحمام، مستعيداً مع نفسي كلمات الشاعر الذي قال، واصفاً مثل هذا الزمان وهؤلاء الناس:
لا تأسفن على غدر الزمـــــــــــــــــــان لطالمـــــــــــا رقصت على جثث الأســـــــود كلاب لا تحسبن برقصهـــــــــــــا تعلو على أسيادهــــــــــــا تبقى الأسود أسودا والكلاب كــــلاب
محمد النجار