يُحكى أن …

يُحكى أن…

يُحكى أن سادة دول الخليج، من ملوك، وأمراء، وقادة، يجزمون بأن إيران لم تكن شيعية في زمن الشاه، وأكبر دليل على ذلك، أنها كانت بلا أطماعٍ في المنطقة، وأنهم في أسوء الأحوال لم يكونوا يعرفوا بشيعيّتها في ذلك العهد، وأنه، ربما، أخفى عنهم الشاه هذا السر كي لا يزعجهم ويوتر علاقاته معهم، خاصة أن الشاه، طيب الله ثراه، كان رجلاً فاضلاً، صالحاً، خلوقاً، كريماً، مؤدباً، ورغم كونه ملك الملوك، إلا أنه ظل متواضعاً ، بدليل أنه لم يدس أذنابهم يوماً إن أراد شيئاً، بل كان يخاطبهم مخاطبة السيد لعبده -…عفواً على زلة اللسان هذه…- السيد للسيد…

ويُحكى أن بعض الذي عَرف منهم هذا السر الخطير، لم يقله للآخرين… فظل السر سراً.. ولهذا ظلوا متساهلين مع الشاه و دولته، وعقدوا معه الإتفاقات ووقعوا المعاهدات،  وفي كثير من الأحيان تقاربوا و تصاهروا وتزاوروا، بمناسبات وبدون مناسبات…

ويُحكى أن هذه الخديعة التي وقعوا بها لحسن نيتهم وطيب شيمهم، ونتيجة عدم معرفتهم بشيعيّة بلده، هي التي منعتهم من أن يعملوا آنذاك بكل قوتهم لمحاصرة بلده إيران، مؤلبين عليها الإخوان والجيران، واقفين سداً منيعاً أمام برامج بلاده الطموحة التي كانت ستهدد بلادهم القنوعة..

ويُحكى أن الشاه استطاع خداعهم بقصد، لذلك لم يقوموا بتخريب برامجه وبتقويضها، فلم يزيدوا من انتاج النفط وتنزيل سعره كي يضربوا اقتصاده ويدمروه ويخلقون له الهوس والجنون… ولو عرفوا سره لقُضي أمره…

ويُحكى أنهم خُدعوا، كونه، رحمه الله، وأبقى رائحة ذكراه، كان داعماً أساسياً للقضية الفلسطينية مثلهم، باذلا في سبيلها الرخيص والرخيص -…عفواً على زلة اللسان هذه… – الغالي والنفيس مثلهم…. ولديه كل الإستعداد، مثلهم، كي تصل القضية الى هذه الحال المتطورة التي وصلت اليها، وخاصة  -ما شاء الله-  أن بعض قادتها الأساسيين انتقلوا (بجهدهم و همتهم) من إرهابيين الى متمدّنين، ومهذّبين، ومفاوضين من الطراز الأول، رغم انهم لم يكملوا سوى ربع قرن في هذا الطريق الطويل والصعب والشائك، فحققوا -و الحمد لله-  كل هذه الإنجازات التي يحسدهم عليها العدو والحبيب…

ويُحكى أنهم يعرفون سراً وعلانية، كممارسة ونظرية، العُهر بأبهى صوره، من العهر السياسي الى الثقافي الى أنواع أخرى، لا تخطر على بال الكثير منا، نحن الذين لن نصل يوماً الى درجة الملوك و الأمراء و الرؤساء… لذلك، فانهم لم يجدوا صعوبة لحشد الكثير من الأقلام التي يدفعون لها بسخاء وكرم، رغم أقاويل الحُسّاد ووصفهم لها بالأقلام العاهرة، التي باعت نفسها فأنزلت غُمامة سوداء على بصر وبصيرة الكثيرين… لكن ما لنا وما لأقاويل الحُسّاد هذه، لأن حقيقة الأمر، أن طويلي العمر لهم من دقة البصر واتساع البصيرة ما ينير الطريق لمن يريد…

ويُحكى أن طويلوا العمر اكتشفوا إيران الشيعية عند قدوم الإمام الخميني وهروب الشاه.. فقط في تلك اللحظة… ، وأن معرفتهم هذه المتأخرة لم تُثنهم عن اطلاق العراق في حرب مدفوعة من جيوبهم في أول الأمر، ومن جيبه لاحقاً، فأفلسوه وقضوا على مئات الآلاف من شبابه وشباب إيران…وبعد أن أوقف الحرب ورفع شعار   “نفط العرب للعرب”، أزعجهم الأمر فأطلقوا عليه كُتّابهم ومثقفيهم ينبحون، واستجلبوا سيّدهم، وبنقودهم أحرقوه مع بلده، وآثار بلده، وشعبه، وحضاراته، وما يزالون… لعل هذا يكون درساً لمن يجرؤ على محاولات تغيير منطقهم في هذه المنطقة…

ويُحكى أن كل ذلك لم يوصلهم إلى تصحيح خطأهم، فقاموا بمحاصرة إيران وأستقدموا الى حدودها القاعدة وابنائها واخواتها من داعش والنصرة وجبهات اسلامية متعددة، وموّلوها وسلّحوها وزرعوها في العراق كله، وبذلك كانوا يريدون ضرب عصفوران بحجر واحد: أيران الشيعية و شيعة العراق…

ويُحكى أنهم فكروا لاحقاً بضرب أكثر من عصفورين بذات الحجر، فبعثوا جزءأً ممن استقدموه الى سوريا أيضاً، فالنظام قريب من الشيعة والروافض، ومنها حاولوا -وسيحاولون- تصدير جزءٍ آخر الى لبنان، فهناك حزب شيعي خطير على الإسلام و المسلمين تدعمه إيران، وبكل وقاحة يريد محاربة اسرائيل!!!…تخيلوا…ا!!!، وبذلك يهدد برنامجهم الذي رسموه منذ عشرات السنين لازالة اسرائيل من فلسطين، وتشتيتها في العالم العربي جميعه، كي يسهل القضاء عليها في هذا الفضاء الكبير..

ويُحكى أن أمراً خطيراً آخراً بدأ يظهر الآن، و يجب القضاء عليه قبل أن ينضج ويكبر، وهو أن قوى الإسلام السياسي في قلسطين لديها برنامج أشبه ببرنامج حزب الله الشيعي الرافضي، وتريد أن تغادر منطقة السنّة الخليجية الحنيفة، والدليل الذي يفضح هذه المؤامرة، أنهم يستحضرون سلاحاً إيرانياً، ومعرفة إيرانية-سورية في تصنيع السلاح، وخبرة حزب الله في تجربة الإعتداء على اسرائيل المسالمة… و تحاول نقل تجربة غزة البغيضة الى الضفة الفاسقة…

لذلك:

يُحكى أن اجتماعاً ضم طويلوا العمر، بجلاليبهم البيضاء الناصعة، وحطاتهم التي وإن كانت بيضاء، فهي لا تثير أي اشتباه بكونها رايات استسلام، وتناقشوا، وتسامروا، وشربوا من العنب عصيره، وقرّروا:

  • زيادة الأقلام التي تكتب ضد هذا الحلف الخطبر، في كل الصحف، وشاشات التلفاز، والكتب، وفي أسواق الشعر، وفي الليل والنهار، كي تُظهره على حقيقته أمام الأمة الإسلامية السّنية، بكافة فروعها الخليجية وغير الخليجية…

  • التحالف مع الأصدقاء والأعداء، من أجل الوصول الى هذا الهدف النبيل، والإستعانة بالملائكة أمريكا واسرائيل، لمحاربة الشياطين الشيعية وحلفائهم من السنة الكفرة في المنطقة…

  • استجلاب كل ما يمكن استجلابه واستحضاره وتجنيده لهذا الغرض النبيل، حتى لو من غوانتانامو أو الشيشان، وأفغانستان وباكستان، وكافة الدول الاسلامية السّنية المؤمنة، لمجابهة هؤلاء الشيعة الرافضة وحلفائهم من السنة الكفرة…

  • دفع المليارات لتسليحهم وتنظيمهم وتسفيرهم وتوصيلهم وتعبئة أرصدة من ينظمهم ويشحنهم ويوصلهم الى الهدف المنشود.

– إلقاء المزيد من الشباب في السجون والمعتقلات، وتخييرهم لاحقاً، بين الجهاد في تلك الدول وعلى حدودها، أو البقاء داخل السجون، كي يتم توجيههم الى ساحات الجهاد، في سبيل الأصدقاء الذين يحافظون على مصالحهم كما على بؤبؤ العين…

  • قطع أي مساعدة، مهما كانت بسيطة، عن أهالي غزة، الذين يحاولون التشيّيُع، وأهالي الضفة المرتدين الفاسقين، وتجويعهم ما أمكن، وإبقائهم دون منازل أو خيام في البرد والحر، و على مدار الفصول الأربعة، و لسنوات طوال، ليعلموا أن الله حق ، وأن الباطل باطل، وليعودوا من غيّهم الى رشدهم إن كانوا يفقهون…

…ويُحكى أنهم أقسموا الأيمان العظام، بأن لا يوافقوا أبداً وبتاتاً، على برنامج إيران الشيعية النووي، مهما كلف الأمر    ( …إلا إذا صرخ بهم سيّدهم أو بصق في وجوههم… عندها يمكن التكفير عن حلف الأيمان بصيام يومي إثنين وخميس، أو إطعام مسكينٍ على مدار الشهر كله).

ويُحكى أنهم اقسموا ايضاً على أن يستمروا في برنامجهم ومشروعهم، بأن يبعثوا القنابل والاحزمة الناسفة والسيارات المفخخة والعبوات المتفجرة الى سوريا والعراق وحزب الله وحتى الى اليَمَن، بكل الطرق، ولو بطير أبابيل أو مع أصحاب الفيل، ليهدّوا من عزيمتهم ويوقفوا شرورهم على كل الأصدقاء والأعداء من جماعاتنا وصداقاتنا الإسلامية السّنية في داعش و أخواتها، النصرة وحبيباتها، واسرائيل ومكوناتها…

…ويُحكى أن أصحاب الجلالة والسُّمو قد عاهدوا الله وملائكته و كُتبه ورُسله، والأهم، أنهم عاهدوا الأصدقاء والحلفاء على القيام بذلك، أو الهلاك دونه……………………………… وعليه بصموا……….

محمد النجار

آكل اللحم … الأرنب

هكذا خلقه الله، لم يستحدث شيئاً من عنده، ومن فطره الله على شيء ظل عليه، ولا إعتراض على خلق الله.

الأرانب تمتاز بالتحسب واليقظة ورهافة الحس وسرعةالشعور بالخطر، تظل يقظة على مدار الساعة لتحفظ جلدها، وهكذا هو، فالأعداء متربصين من وسط  جبال الأرض ومن خلف أشجار الغابة، من بين غيوم السماء ومن حدود القمر ومن أطراف طرقات السماوات يطلون، من كل هدب وصوب، صيف شتاء، ترى آثارهم وعلامات مخالبهم، والأرانب سارحات أو متمشيات أو يتناولن طعامهن أو حتى نائمات في الجحور، أو وهن يحاولن الراحة تحت ظلال أشجار الغابة.

ما عرفن يوماً راحة، عيونهن اللامعة تجوب السماء والأرض، تبحث في زواريب الغابة وبين طيات غيوم السماء عن خطر مُحدق مختبئ، لئلا يداهمهن الموت المتربص، من حيوانات كاسرة أو طيور جارحة. حتى اكثر الحيوانات خِسّة يجدن فيهن مرتعاً، يغزوهن ولا يتركون لهن متسعاً لراحة أو لحظات طمأنينة، فتجد حتى الثعالب والكلاب والواويات والبوم والغربان تهاجم مع سبق إصرار وترصد للقتل والغزو.

لا يتذكر الأرنب لحظة واحده بأن قبيلته كانت على خلاف مع أحد، أو بأنها غزت يوماً قبيلة أخرى من قبائل الغابة كبرت أوصغرت، قويت أو ضعفت، بل ظلت دائماً تحاول خلق علاقات السلم وحسن الجوار مع الجميع، لكن ذلك، رغم ذلك، لم يجلب لها سوى المزيد من المتاعب والغزو المتكرر.

ربما لهذا السبب بالذات، كان الأرنب الأبيض الذي لا تشوب لونه أي رتوش أو ألوان مغايرة، بياض لا يشبه أبيض الأرانب في شيء، أقرب إلى رايات الإستسلام منه إلى لون الأرانب الثلجي، تكتشفه العين من بين رصاصات الحروب، ربما لذلك كان الأرنب الأبيض أكثر حرصاً على نفسه، وهو يدرك تمام الإدراك أن الخوف مربك والجبن ذل، وهو يُفضل أن يعيش جباناً ذليلاً على أن يفقد جلده، فما فائدة الشجاعة عندما تكون تتلوى في فم ثعلب، أو عندما تنتف لحمك، قطعة قطعة، البوم والغربان؟!.  لذلك كان يواجه منتقديه من الأرانب بمنطقه هذا، ويدلل عليه بعدد الأرانب الكبير الذي أكلت الثعالب حتى هيكلها العظمي، بعد أن لم يتبقَ من لحمها شياً من الطيور الجارحة، ومن نجى من بين مخالبها ونيوبها ومناقيرها المعكوفة، عاش بجروحه ودمه النازف ما قدّر الله له أن يعيش، عاش ليعايش الألم ويتعايش مع العاهات الدائمة المستديمة، حتى أن جزءاً من الأرانب التي حاولت أن تكون شجاعة مازالت تعيش محاصرة في سجون تلك الطيور والحيوانات، التي تنقض عليها كلما جاعت ولم تجد لها طريدة في ذلك اليوم.

لذلك فالحرص واجب، وهو يعيش حرصه ضمن شروطه وقوانينه، وليمارس غيره الشجاعة التي يدّعي، فلن يعرف صعوبة لحظات المطاردة كما يعرفنها الأرانب؟!!! كيف والمطاردة جزءاً من حياتك؟! أن تكون مطارداً أثناء قيامك وقعودك، أكلك وشربك، عملك وراحتك، ليلك ونهارك، لا تستطيع أن تنام مرة ملئ جفونك، أو تتقلب على فرش الحشائش الخضراء المبتلة الندية أمام جحرك، ولا حتى أن تقرض “جزرة” هانئاً تحت ظل شجرة في ساحة الدار.

الأمر الذي لم يوقف خوف الأرنب ولم يردع جبنه، بل فاقمه وصعّده، فظلت تحركاته المتوترة مشوبة بالحذر المبالغ به أكثر من أي أرنب آخر في الغابة كلها، عازياً الأمر إلى لونه الأبيض الفاقع الذي يدل عليه في تحركاته ويشير للجميع عليه بإصبعه في الغابة كلها، وظل يقنع نفسه أنه جرّاء هذا الحرص ظل حياً كل هذا الوقت.

صحيح أنه بقي حياً، لكن بعض الأرانب قالت أن في بعض الحياة موت، تماماً كما في بعض الموت حياة، وأخذوا عليه معاتبين خوفه إلى درجة الهوس، معتبرين خوفه تجاوز درجات الجبن ، ووضَعَه حياً على عتبات الموت، فالموت والحال هذا أرحم بكثير من هكذا حياة.

النفس معقل أسرار الأرنب، ونفسه كانت تضحك من تعليقاتهم وتسخر، خاصة وهو يرى الموت المتربص بالأرانب في كل لحظة، يحصد حياة أحد “المغامرين” من الأرانب في كل يوم. وهو سعيد بالعقل الذي أعطاه له الله، ويستخدمه خير إستخدام، ولن يُبقيه مُعلّقاً على غصون الأشجار أو على رفوف الجحور مثل البعض، لهذا، ولهذا بالذات مازال على قيد الحياة حتى هذه اللحظات، رغم هزء الهازئين ومزايدات المزايدين.

 

ظل الأمر كذلك حتى اليوم الذي وقعت له تلك الحادثة التي غيرت مجرى حياته كلها، ولم لم تتم هذه الحادثة لما تغير من حياته شيئاً.

كان في ذلك اليوم سائراً جائعاً تائهاً في الغابة على غير هدى، بعدما شح الطعام في منطقة الأرانب، وصار لا بد من الجرأة للتقدم على أطراف المراعي، والجرأة ليست ما ميّز الأرنب الأبيض، رغم أن الكثير من الأرانب كانت تتجه إلى أطراف المراعي التي ما زالت خضراء لتبحث عن طعام، وأطراف المراعي كانت أكثر إنكشافاً للثعالب والواويات والكلاب، وتسبح في سمائها البوم والغربان أسراباً، وكثيراً ما شهد الأرنب الأبيض بأم عينيه كيف تنقض هذه الطيور من علو السماء على بعض الأرانب قابضة بمخالبها عليه ممزقة لحمها بمناقيرها الحادة، أو من الحيوانات المفترسة قابضة بأنيابها عليها بعد مطاردات طويلة أو قصيرة، ممزقة عظامها مفتتة لحومها. لكن “الجوع كافر”، ومن تنقصه الجرأة سيقتله الجوع، فصار الموت واقفاً في كل زوايا المراعي وأطراف الغابة، ومن لم يمت بمناقير الجوارح وأنياب الكواسر سيستقبله الموت المتربص منتظراً واثقاً بين أنياب الجوع.

كثرت تنقلات الأرانب على أطراف الغابة، وكثرت حالات القتل اليومي، لكن الغريب في الأمر، أن معظم الأرانب لم يعد يهمها الموت، وصارت تتحداه أكثر يوماً بعد آخر، بل أن بعضها صار يتصدى لغزوات الكواسر متحدياً، وأحياناً مهاجماً أيضاً، رغم اتضاح نتيجة المعركة سلفاً.

أكد بعض حيوانات الغابة أن بعض الأرانب التي سئمت الموت، صارت تسن قواطعها، وتلبس مخالباً لتجبر الكواسر على وقف القتل اليومي، مضاعفة في نفس الوقت من حذرها عند تسللها بحثاً عن طعام، وصارت عيون بعضها ترى في الليل حتى الدامس منه، الأمر الذي فسّره البعض بحسن “البصيرة” التي وهبها الله لهم. ما جعل الأرنب يعتصر شيئاً من عصارة عقله، يسير خلف المتقدمين خلف مغامراتهم وجهل عقولهم، باحثاً عن طعام يومه من خلال دمائهم، متجاوزاً الموت الذي كان يختبئ خلف كل شجرة وكل منعطف، بسيره وحيداً بعيداً خلف طلائع الأرانب الأقرب لمداهمات الموت.

مشى الأرنب وحيداً معتقداً أن وحدته ستبعد عنه الموت، مشى حاضناً حذره محاولاً التخفي في صمت المراعي الذي يقطعه صخب زئير الأسود أحياناً، وكان خوفه يتزايد معلناً عن نفسه بتسارع دقات قلبه التي كانت تتعالى كلما تقدم نحو أطراف الغابة، وكادت تُسمِع الكواسر صوتها قبل أن تراه عيونها. كلما مشى أكثر كلما تعب أكثر، وكلما زاد تعبه تصاعد جوعه إلى حلقه، ثقلت رجلاه وأعياهما التعب وهدّهما طول الطريق. وهو يريد الوصول لمأربه قبل أن يلف الظلام الغابة، فهو ليس من الأرانب التي وهبها الله حسن البصيرة لترى في ظلمات الليل وأكوام العتمة.  فجأة، وقبل دخول الليل ليفرد ظلامه في المكان، إذ بالأرنب يرى في مكان قريب، وبين مجموعة أشجار ضخمة شكلت ما يشبه الدائرة المغلقه، كوم برسيم منثور مثل بساط أو فراش، تتوزع على أطرافه المستديرة مجموعات من جذور الجَزَر  وأوراق القرنبيط وكأنها باقات ورد، وفي المنتصف زجاجات من الخمر المعتق في مواقع مختلفة، وكأن المكان قد هُيئَ لحبيبين أو عاشقين لم يجدا لهما متسعاً إلاّ في الغابة ليعيشا لحظات عشقهما المتوتر .

لم يصدق الأرنب ما يرى، كاد يجزم أنه في حلم وليس علم، أن ما يراه بعينيه لا يعدو عن أضغاث أحلام، هلوسات أرنب هدّه طول السفر ودق الجوع كامل أعضاء جسده. رماه التعب فوق فرش البرسيم الممتد مثل سجادة خضراء، وألقى الجوع بيده نحو أحد الجزرات المغروسة بين ثناياه، الأمر الذي جعله يوقن أن الأمر حقيقة وليس خيالاً، فبدأ يقرض الجزر وينظر للمكان لدراسته، وما أن وقعت عيناه على إحدى زجاجات الخمر المعتق حتى قرر أن يحتسي شيئاً منه، و”يمز” على الجزر الذي بين يديه، فالعمر واحد وما عليه سوى التمتع بنعمة الله هذه التي وضعها بين يديه. وهكذا فعل، شرب من النبيذ بضع رشفات، وقضم من الجزرة بضع قضمات، وما هي إلّا بضع دقائق لم تكتمل لتصبح ساعة واحدة، حتى ثَقُلَ رأسه، وتآمر عليه تعب يومه وجوعه مع الخمر المعتق مُركّز الكحول كثيفه، حتى غاب عن وعيه فوق فراش البرسيم والحشائش.

من لا يعرف الغابات يظنها منطقة يسكنها الموت الظاهر على قشرتها، لكن في الغابة حيوات وحيوات، ما أن تدخلها حتى تشعر بها بكل أحاسيسك، تشمها وتلمسها وتراها بالعين المجردة، حتى وإن كان الظلام سيد المكان في تلك العتمة من الليل. كان في تلك اللحظات ثعلباً شاباً لم تعركه الحياة بعد، مغروراً مزهواً بشبابه، كان ماراً من نفس الطريق الذي سلكه الأرنب، حتى إذا رأى المكان الذي يتوسطه جسد الأرنب النائم فوق فراش البرسيم وبضع زجاجات من النبيذ المعتق، والتي كانت إحداها مفتوحة دون غطاء، مشروب منها ربعها إلّا قليلاً، حتى رمى بجسده فوق سرير العشب، ناسياً حذر الثعالب وذكاءها الفطري، وكونه كان قد جاء من وليمة للتو، لم يكن معنياُ بأمر الأرنب كثيراً، فأخذ يحتسي الخمر حتى أنهى الزجاجة كلها، فهدّه ثقل الكحول وذهبت ببصيرته بضع نجمات متطايرات متهيئات للإنتحار، ودارت به الغابة وتباعدت عن عينيه فوانيس السماء، حاول المغادرة لكن أرجله خانته، فوجد نفسه ملقى فوق فراش البرسيم ثملاً غائباً عن الوعي.

لم يمر طويل وقت على أمر الثعلب، حتى قاد الأسدَ أنفُه إلى مكان الثعلب، أثناء تفقده لمنطقته في تلك الليله، وما أن رأى الثعلب حتى غضب عليه واغتاظ وسخط من معشر الثعالب كلهم، الذين ينتهكون حرمة منطقته وهم يصولون ويجولون بها، الأمر الذي يشجع الحيوانات الأخرى على فعل الأمر نفسه، فزأر زئيراً قوياً طويلاً، بدى كإرتداد صدى رعد قادم من طرف الأرض البعيد المتمدد في حضن السماء، لكن الثعلب لم يسمعه في ثمالته ونومته العميقتين، فما كان من الأسد إلاّ أن أمسك بالثعلب وفسخه فسختين، ورغم أنه لا يحبذ أكل الحيوانات المفترسة، إلا أن شيئاً في رأسه همس في أذنه قائلاً له أن يجرب الأمر، فربما يستحسن ما يأكل ويستطيبه، خاصة أن زجاجات الخمر المعتق التي أمامه تتطلب “المازة”، وجسد الأرنب لا يفي بالغرض ولا يقدم ولا يؤخر من الأمر شيئاً.

بدأ الأسد يحتسي الخمر ويأكل من لحم الثعلب، وظل يمسح مكان القضم بلسانه وكأنه يهدهد على جسد لبؤة، ثم يقطع اللحم من ذات المكان بنيوبه “مُمَزمزاً”، ساكباً فوقه جزءاً من الخمر في فمه، منتظراً أن تنتهي مدة حراسته في هذا المساء، باقياً على نفس السياق وذات المنوال حتى كاد يداهمه فجر الصباح. كان قد إرتوى وشبع، وأمام ثمالته كان الأرنب متمدداً أمامه يتقلب على ضفاف سكرة ليلته الماضية، وقرر الأسد أن يتركه في مكانه، فهو قد شبع على أية حال، ولن يقدم الأرنب ولن يؤخر في أمره شيئاً، فتركه مكانه وغادر متوجهاً إلى عرينه.

في الصباح، إخترقت الشمس الحواجز كلها، ودخلت الغابه مسبوقة بإبتسامة النهار التي فردها مع ضوء يومه على كامل الغابة، وصعدت بشعاعها سيقان الأشجار وتمددت على أغصانها، كعروس محمولة على كفي حبيبها فاردة فوقه شعرها الذهبي المتطاير بين نسمات الهواء، وأرسلت بعضاً من أشعتها على عيني الأرنب لتوقظه، فالنهار الذي ابتدأ نهاره منذ مطلع الفجر كان قد إبتدأ المسير، وعلى الأرنب أن يلحق به ليقوم بما عليه القيام به، فالنهار لن ينتظره ليصحو من غفلته أو سكرته، فهو لم يعتد أن ينتظر أحداً.

أزاح الأرنب عينيه من أمام أشعة الشمس التي إندلقت فيهما أول الأمر، سرعان ما فركهما بقائمتيه الأماميتين، ونهض جالساً على مؤخرته، ويا لعجب ما رأى، دماء تغطي المكان كله، جلد الثعلب ممزقاً منثوراً، عظامٌ مرمية في الأنحاء كلها، بعض زجاجات الخمر المعتق فارغة متناثرة، فقال مدهوشاً من نفسه مزهواً بها:

ـ ياالله…………. ما كنت أعلم أنني إن ثملت أقوم بكل هذا التدمير.

أكل ما إستطاع من جذور الجزر، وكان يتصاعد في داخله غرور واهم كاذب، مبني على فرضية أن الدماء التي ملأت المكان ماهي إلا من صنع يديه وأسنانه القاطعة.

جمّع الأرنب الأبيض بعض زجاجات الخمر في كيس، ربطها ولف الحبل حول جسده وأخذ يسحبها خلفه، رامياً حذره خلف الأشجار.

إنتزع الأرنب الأبيض خوفه وجبنه ورماهما بين قرقعة زجاجات النبيذ، خلع حذر الأرانب ولبس ثوب الشجاعة الزائفة التي جاءته مع جرعات الخمر، وصار يمشي على رجليه الخلفيتين متحدياً كواسر الأرض وجوارح السماء، كأنه يمتلك القوة كلها، ولم يكن يعلم بعد أن وهم إمتلاك القوة أكثر خطراً من الضعف، وأن تعلم ضعفك أساس لتغير واقعك وتصنع قوة حقيقية، على أن تعيش واهماً بقوة زائفة سرعان ما يسقطها الواقع، وتكون أنت أحد ضحاياها.

لم يكن يدرك الأرنب أن قوة الأرانب تكمن في تجمعها، وأن وحدته تجعل عيون الموت أقرب إليه من رموش عينيه، وأن أسنان الأرانب القاطعة حتى لو لم تكن أنياباً حادة يمكن أن تكون هي السلاح الذي يحميها، واعتقد أنه الوحيد الذي يملك مثل تلك الأسنان، وأن بقية الأرانب من دونه لا تستطيع أن تفعل شيئاً ذا وزن في الغابة كلها.

برعم الغرور وأزهر وكبرت ثماره في رأس الأرنب الأبيض، ولم يعد يرى من هو أفضل منه في الأرانب جمعاء، وصار يبحث عمن يشبهه في الغابة، مَنْ هم بقوته، لكن ليس من بين أبناء جنسه، بل من أجناس الثعالب والكلاب والبوم والغربان.

ملك الثعالب الذي كانت عيونه تتربص مشارف الغابة، إلتقت مع عيون حليفه الغراب الذي كان قد ركب موجة هواء باحثاً عن فريسة، فصار يحوم ويحوم ليساعد الثعلب في معرفة المنطقة المقصودة. لكن ما فاجأه أن الأرنب هذا قد رمى حذره كله بعيداً، وأعلن عن نفسه من خلال قرقعة زجاجات الخمر، ورأى الغرور يلبسه من ذيله حتى أبواب أنفه، فأكله الفضول وحاول أن يعرف السر الذي جعل عقل الأرنب يكون بهذا القدر من الغباء.

حام في مساحة السماء، راكباً موجات ريح مقترباً مرة من الغابة ومرة مبتعداً، يحاول الإغارة على الأرنب ثم متراجعاً، والثعلب الذي كان يتقدم نحو ذات المكان دون أن يرى الفريسة بعد، يقترب أكثر دون أن تثير حركاته أدنى صخب.

إنقض الغراب على مكان الأرنب الأبيض فارداً جناحيه، وسرعان ما غير رأيه وحط بالقرب منه، لكن الأرنب الأبيض لم يهرب بعيداً ولم يدخل جحراً، وفي ذات اللحظة كان الثعلب قد وصل لذات المكان.

شجاعة الأرنب الزائفة جعلته ينظر إليهما بغرور أحمق، وما أن رآهما حتى قال:

ـ أهلاً… أهلاً… أهلاً بأكلة اللحوم، “الطيور على أشكالها تقع”، إنني مثلكما من أكلة اللحوم، إنني مفترس في جلد أرنب، إننا أبناء عمومة رغم المظاهر المختلفة…

نظر الثعلب إلى الغراب، وبدهائه سأل الأرنب:

ـ وكيف ذلك أيها الأرنب؟

قال الأرنب جازماً:

ـ هذه القواطع التي ترونها في فمي هي أمضى من مخالبكم ونيوبكم، لقد أدركت بالأمس أنها لم تُخلق لأكل الجزر والقرنبيط فقط ، بل للحوم أيضاً…

نظر نحوهما وأكمل:

ـ لا تستغربا الأمر، بل على جنسيكما كما بقية الكواسر التعامل مع الأمر بهذه الطريقة من الآن فصاعدا…

وقص عليهما كيف إستطاع تمزيق الثعلب ليلة أمس وأكله ولم يتبقَ منه سوى فروته وهيكله العظمي، بعد أن شرب شيئاً من الخمر.

سأل الثعلب قائلاً:

ـ أتقصد أنك بعدما تشرب الخمر تصبح من أكلة اللحوم؟

ـ صحيح… هذا ما أردت قوله.

أدرك الإثنان أن الأرنب يهذي أو ما زال يحلم من تأثير الخمر، وطالباه أن يثبت لهما ذلك.

أخذ الأرنب يسكب في جوفه جرعات متتالية من الخمر، وسرعان ما نام في مكانه.

إتفق الغراب والثعلب على متابعة الأمر حتى نهاياته، وغادر الغراب ليحضر فريسة ليرى ويفهم الأمر أكثر.

لم يمر طويل وقت حتى عاد بفأر، إلتهمه وترك بقايا جلده ودمه في المكان، وغادرا المكان دون أن يبعدا عيونهما عنه.

كما في المرة الماضية، عندما أفاق الأرنب الأبيض من سكرته، ورأى مارأى، أخذ يمسح بقايا الدم الذي تناثر على وبره، وأطلق صيحات فرح مغرور غبي، متأكداً أنه صار من أكلة اللحوم والخضار أيضاً، وصار يرى في نفسه غير ما هي عليه، ولم يجد بأساً من التشبه بالدب الذي يأكل الفاكهة والخضار واللحوم أيضاً.

عاد الغراب والثعلب إلى الأرنب الفرح الواهم، وقال الثعلب ناثراً الإستغراب المزيف بين يدي الأرنب، قال سائلاً:

ـ مَنْ الذي فعل كل هذا؟ لا تقل لي أنك أنت أيها الأرنب…

إندفع غرور الأرنب مع كلماته، وقال:

ـ أم ماذا كنت تعتقد؟ ها أنت ترى بأم عينيك، وربما لو لم ترَ ذلك ما كنت لتصدق…

صار الأمر واضحاً أمام الغراب والثعلب، مدركين إلى أي حدٍ من الجهل وصل له عقل الأرنب الأبيض، وهما خير من يعلمان أن الجهل عدو، وخير ما يفعله الطائر أو الحيوان هو الإبتعاد عنه، وقال الغراب للثعلب بعد ذلك:

ـ إن أخطر أنواع الجهل جهلك بعدوك، والأخطر منه أن تصير جزءاً من هذا العدو بغباء أو إدراك، فالأمر سيان والنتيجة واحدة، وأن يرسم لك الخمر أو الجهل عدم رؤية الألوان وعدم التمييز بينها، فهذا ورب العزة غضب من الله، وهو في نفس الوقت ما نحن بأشد الحاجة إليه…

قال الغراب للأرنب الأبيض:

ـ مثلك نادر في مملكة الحيوانت جميعها، بل في الغابة الممتدة بين البحر وبين النهر، عليك أنت، وأنت وحدك أن تقود كل جموع الأرانب في شرق البلاد وغربها، وما دمت تعتقد أنك من جلدتنا، وأنت كذلك، فنحن سنساعدك في أن تكون قائدهم الأعلى…

ـ ستساعدانني أنا؟ كيف؟

ـ كما ساعدنا العديد من أمثالك من بهائم وحيوانات في طول الغابة وعرضها، وصولاً للصحاري والواحات…

ـ سأكون قائدهم، ومن يتمرد عليّ سأقطعه بأسناني، لكن المعارضين كثيرون، هل سأستطيع القضاء عليهم؟

فقال الثعلب متداركاً الأمر:

ـ في هذه المرحلة إترك أمر المعارضين لنا، فأسنانك الحادة هذه لا تستطيع تقطيع كل مخالف في الرأي أو معارض، فأنت ومن معك مازلتم أقلة، سنساعدكم لتشكيل جيشاً من المساعدين الذين يشبهونك، من المسحجين وهزّازي الرؤوس، كذلك في تدريب جيش تستطيع التغلب به على كل ما هو مختبئ من مصاعب في ثنايا الأيام.

أمروه أن يختار كل مَنْ يثق به من أرانب الغابة، يختارهم بعناية، وأخذوا يسنون لهم قواطعهم لتأكل الأرانب بعضها بعضا، لتتمزق وحدتهم ويتفرق شملهم، وأغرقوا مملكتهم بالخمر والجزر والقرنبيط، مقابل مياه الغابة النقية وخشب أشجارها في أول الأمر.

صارت قبيلة الأرانب قبائل، كل ما كان يظن أو يقول ويبوح بأن الأمر ما هو سوى أوهام خمر قد صعد إلى الرؤوس كان يودع السجون، وكل من كان يشير إلى الثعالب والغربان كأعداء علقوه على أعواد المشانق وجعلوا من لحمه وجبات طعام شهية.

أغلق الأرنب الأبيض ومساعدوه وحلفاؤه المدارس، فكلما زاد العلم إتضحت الرؤى، والأرانب بحاجة لعلم الشيوخ وفتاويهم وليس لعلم الفلسفة والفلك وآلية عمل المنجنيق، وصار التعذيب جزءاً من حياة الأرانب بين بعضها البعض، واتسعت السجون وصارت عصا بيد الأرنب الأبيض، وصار لون رايات الإستسلام الأبيض، وليس الأبيض الثلجي، هو اللون المميز عند قبيلة الأرانب، وحُرّم من الأبيض إلّا لون الزعيم، وكتبت الشعارات أن “الأرانب على لون قائدها”، وأن الألوان الأخرى هي ألوان دخيلة على حياة الأرانب ويمكن أن تشكل خطراً على مجتمع الأرانب وتحالفاته، لذا يجب “قلع السن لتقطع وجعه” كما يؤكد المأثور الشعبي، وكلما زادت حركة الإحتجاج في مجتمع الأرانب كلما إستعان الأرنب الأبيض بأسراب الغربان وجموع الثعالب لتساعد في وقفها، الأمر الذي صار يتطلب دفع ثمن أكثر سخاءاً مقابل هذه المساعدات السخية، فصار الثعلب يدفع ديونه من لحوم الأرانب وجلودها أيضاً، ورغم تكاثر الأرانب وحمل الأرنبات المتكرر وولاداتها، إلا أن الأمر كاد لا يغطي حاجات الغربان والثعالب.

صار الأرنب الأبيض يرسل قواته مع جنود الغربان والثعالب في حملات مشتركة لقمع الأرانب المنتفضة على هذا العبث، الأمر الذي لاقى سخط الأرانب وإستهجانها وإستنكارها، ومع مرور الشهور والسنين اللاحقة ظل الأرنب الأبيض وحلفاؤه الجدد يراهنون على  دخول الأمر دائرة الإعتياد.

إزدادت زجاجات الخمر التي تباع في مجتمع الأرانب، ومن ثم أدخل الغربان والثعالب المخدرات لتبقى سلطة الأرانب وقادتها موهومة غائبة عن الوعي، وصاروا لا ينتظرون حصتهم من الأرنب الأبيض وجماعته ومساعديه، بل صاروا يدخلون بأنفسهم ليأخذوا ما يريدون ومَن يريدون ومن المكان الذي يريدون، ويختاروا مَنْ يأكلون وقدر ما يريدون.

سرعان ما صارت الثعالب والغربان وحلافاؤهما تقوم بتغيير معالم مرعى الأرانب، فقتلوا الأرانب وأخذوا جلودها واحتلوا جحورها وسكنوها، وسهّلوا هروب البقية لتصبح المراعي خالية لهم، وأدخلوا تعديلات وراثية على الأشجار، وغيروا في تاريخ الحجارة وألوانها، وأسكنوا جماعتهم في الكثير من مساحات المرعى، في الأماكن المعشوشبة والأكثر إخضراراً، ولاحقاً على رؤوس الجبال في الأماكن الأكثر كثافة بالأرانب، وأكد الغراب الأكبر والثعلب الكهل أن عليهما خلق تاريخ لهم في المراعي في عقول أتباعهما وفي عقول الأرانب قبل أن يصنعوها على الأرض، فاستخرجوا التاريخ من باطن الأرض، رسموا فوقها صوراً للثعالب والغربان والبوم والكلاب، مدّعين أن هذه الأدلة والرسوم تُثبت عمق جذورهم التاريخية في هذه المراعي، وغيروا مناهج التعليم فيما تبقى من مدارس وجامعات عند مجتمع الأرانب، مصرين على أن الأكاذيب يمكنها أن تصنع تاريخاً، ولو للفترة محددة على الأقل.

وتقلصت مساحة تأثير الأرنب الأبيض داخل مجتمع الأرانب، وسرعان ما وظّفه الغربان والثعالب كمرشد لهم، ولما حاول أن يحتج خجلاً أخبره الثعلب الكهل بشكل حاسم:

ـ خجل؟!!! ممن ومن ماذا؟ إنها وجهات نظر، مجرد وجهات نظر أيها الأرنب، فالبعض يرى أن تضع يدك في يدنا أمراً طبيعياً، والبعض الآخر من متطرفي الأرانب لا يرى ذلك… ثم هل مثلك يخجل من شيء؟ أقصد لماذا الخجل و”نحن قد دفناه سوياً” كما يقول مأثوركم الشعبي؟ ” فمن يخجل من عروسته لا ينجب أطفالاً”. الموضوع بإختصار شديد هو أن تكون مع السلام الذي ندعو إليه في المرعى أو تكون مع المتطرفين من الأرانب التي لا تعرف الواقع ولا تريد التعايش معه…

ولما حاول الأرنب التحاجج بقصد إستدرار المزيد من زجاجات الخمر، قال له الغراب بفجاجة فسرها لاحقاً للثعلب “بأن الضرورة تستوجب فرك إذن العميل قليلاً لتذكيره بماهيته، كي لا يرى نفسه أمامنا كما يراها ويروج لها أمام أرانبه”:

ـ ربما مازلت تعتقد أنك من أكلة اللحوم أيها التافه، إن أسنانك هذه بالكاد تقطع جذراً من الجزر، وإن حاولت التمادي أرحناك منها أيضاً، والأسنان والمخالب في الغابة هي الأساس، فمن يملك نيباً يأكل لحماً ومن يملك قواطعاً يأكل عشباً وفاكهة وخضاراً، لكن من إهتزت أسنانه بفعل الخمر والحهل والتسوس وعمى البصيرة،  سيموت جوعاً ما لم يجد حماة له وداعمين، لذا فالأفضل لك أن تبقى قائداً عند المخمورين الموهومين المهزومين من أت يقتلك الجوع والفقر والنيوب على قارعة الطريق.

سكت قليلاً وتابع هامساً منتشياً:

ـ حتى أن أقرب الناس إليك عليك يتجسسون، إنهم أوغاد أليس كذلك؟ يقدمون لنا كل ما تقول أو تفكر وحتى تهمس به، وينتظرون اليوم الذي نلتهمك به ونختار منهم قائداً سواك، ولديهم الإستعداد لكل الوفاء لنا.

وقال مستدركاً:

ـ لا ليس الوفاء… فالخائن لا وفاء له… لنقل الأستعداد لتنفيذ كل مطالبنا، أعني لديهم كل الإستعداد للخضوع… مثلك وربما أكثر، “فمن أصله كلب لابد أن ينبح” أيها الأرنب، بل يظل ينبح ما قُدّر له أن يعيش، أليس كذلك؟.

وضحكا طويلاً الثعلب والغراب…

فقال الأرنب راجياً:

ـ لن تجدوا من يخدمكم مثلي ووفائي لن تجدوه عند غيري…

فقال الثعلب موضحاً:

ـ قلت لك لتوي لا وفاء ممن يخون أيها الأرنب، مَنْ يخون قبيلته لن يكون أميناً لأحد أو على أحد، وكي أكون واضحاً فأنت أدمنت الخيانة كما أدمنت الخمر، إن جل ما تريده هو مصلحتك، مصلحتك فقط، ونحن مازلنا كما كنا، مادمتَ تابعنا فلن ينقصك الخمر ولا أوراق القرنبيط أبداً…

وأكمل موجهاً حديثه للغراب قائلا:

ـ يصعب على أمثاله الإدراك أن لا حرث دون أن يترك أثراً، وأن لا حصاد دون زرع، وأمثال هؤلاء إعتادوا على أن يعيشوا طفيليات على دماء أبناء جلدتهم، و”بعلاً” إن تطلب الأمر عملاً ومجهوداً، لا كلاْ ولا ماء…

وأكمل موجهاً حديثه للأرنب الأبيض:

ـ لقد استطبتم الراحة في العمل، وكما هان عليكم المرعى هانت عليكم الأرانب، ومن يهن عليه كل ذلك هل ننتظر منه نحن الوفاء؟!!!

فقال الغراب مكملاً من حيث إنتهى الثعلب بشكل هادئ رزين بعد أن نعق مخيفاً بنعيقه الأرنب الأبيض وحاشيته كلها:

ـ إن حاولت الإحتجاج لن ترى من الخمور شيئاً، لنرى كيف ستفعل وترضي من يسحجون لك ويهتفون باسمك… ألم تدرك بعد أنهم أقرب إلينا منك؟ يالك من غبي جاهل.

وأضاف متابعاً، كي لا يعود الأرنب الأبيض لشكاويه ولو مرة واحدة:

ـ أم تعتقد أنهم يُسحجون لك ويهتفون بإسمك دون ثمن؟ دون أن تقدم لهم الخمور ومخالي العلف؟

كان الأرنب الأبيض قد أدرك ما قالاه تماماً، ورغم تزايد التحركات ضده وضد الغربان والثعالب إلا أنه لم يجرؤ يوماً على مغادرة موقعه، لأن يعود أرنباً حذراً نبيهاً لا يخلو من شجاعة أبداً…

ظل ينتظر زجاجات الخمر بعد أن أدمنها ولم يعد بإمكانه التخلي عنها، يعانقها في لياليه وأيامه، ويسكب في أفواه حاشيته جرعات لتظل تسحج له وتهتف بإسمه.

كان يشعر ب”حكةٍ” في كافة أعضاء جسده، قال البعض أنها بسبب الإدمان، وأن الكلاب والثعالب والبوم والغربان دفعاه ليسرع في عملية الإدمان كي يظل مربوطاً بهم وبحاجتهم أكثر، وكانت تتلاشى حكات جسده عندما يكثر من إحتساء الخمر، ولاحقاً بعد أن يأخذ بعض المخدرات، وكلما تحدث الأرنب الأبيض كان يظل يسمع تسحيج الحاشية والتابعين، حتى وهو لا يعرف أو لا يدري ما يقول، وكان يشاركهم بعض الخمر وبعض المازة، ويقطعها عنهم عندما يغضب أو عندما يريد، تماماً كما يتعاملون معه أصدقاءه أكلة اللحوم الجدد.

لم يجرؤ الأرنب الأبيض على مخالفتهم يوماً، وكلما قرر الخروج عن طاعتهم أو أن يمارس القليل من التمرد عليهم، كلما إزدادت “حكة” أعضاء جسده، فكانت يده تبدأ بالحكة في كل مكان حتى يتهتك اللحم وتنزف من الجرح بعض الدماء،  دماء لزجة برائحة كريهة، فتمتد يده لزجاجة خمر ليسكب ما تيسر منها في قاع فمه، أو ليشتم شيئاً من مخدر ما، وإن غابت زجاجة الخمر تمتد يده للأعلى لتسبح حمداً لعطائهم وتمجيداً بهم، مبتعداً عن هموم الأرانب ومراعيها ومصالحها، وقريباً لمعظم ملوك الغابة وأمرائها ورؤسائها من مختلف أنواع الحيوانات “المسالمة”، التي جنحت لل”سلم” مع الثعالب والكلاب والبوم والغربان، وسرعان ما عمّق معها العهود والصكوك والإتفاقات، وازداد إبتعاداً عن الأرانب ومراعيها، وتعمقت الهوة مع معظم أرانب المرعى،  وظل يرسل جيوش الأرانب وشرطتها لقمعهم وإسكاتهم، وأحياناً كثيرة يشارك قوات الثعالب والغربان والكلاب والبوم أنفسها،  لمهاجمة مراعي الأرانب المنتفضة التي لم تتوقف يوماً عن الحراك والإحتجاج.

محمد النجار

الخبّاز

الحكاية تكالب عليها المخصيون وعشرات السنين سيدي القاضي، ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، ورغم ذلك لم تشخ ولم تمت، ظلت حية إلى يومنا هذا، وهذا هو المهم في الأمر كله، والله وحده يعرف إلى متى ستعيش. لكن المؤكد أنها ستظل تُجدد نفسها من تلقاء نفسها، إن قسى عليها أصحابها أو بخلوا عليها أو حتى تقاعسوا عن نسج حكاياها من جديد، دون أن يُعيدوا لها تاريخها الذي توقف منذ ذلك التاريخ.

قيل عنها الكثير سيدي القاضي ومازال، قيل أنها ثابتة ثبات أشجار التين والزيتون، تمتد جذورها عميقاً في أمعاء الأرض، تتشابكان وتتحدان في لحن رياني مثير، راسخة رسوخ الجبال لا تتنازل عن مكانها التي منحته لها الجغرافيا وخصها التاريخ به، لا تبدله أو تغيره، وتحافظ على كل ما لها من رمل وحجر وبشر وأشجار، تحتضنهم حتى لو كانوا جثثاً هامدة، تضمهم في أعماقها ليكون لثمار التين معنى بعد أن تزرع فيه عصارتهم وتمنح روحه طعم الشهد.

كان جدي في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر، يُعمّر الفرن وسيجارة الهيشي المقتلعة من “تتن” الحاكورة تتدلى من بين شفتيه، ويداه تُذري كوماً من الجفت كما تذريان في الخلاء زهور القمح، يدخله الفرن ويضعه فوق بواقي الجمر الذي غفا في ليلته الماضية مخلفاً بعض رماد دون أن يتنازل عن جمراته، فيتحول  كل “الجفت”إلى جمر أحمر يبث حرارته في الأرجاء كلها، ناثراً عبق الزيتون في كل رغيف خبز يدخل بين أحضانه ليتحمص قليلاً. ولما يتعب في آخر النهار يصعد فوق الفرن محتضناً الجفت متمرغاً في حرارته التي طالما شبهها بحرارة حضن جدتي، يرتاح فوقه ساعة أو بضع ساعة، متدثراً بالدفء الذي ينفثه كوم “الجفت” في الهواء المشبع بزيت الزيتون، لكنه يظل معظم الوقت يخبز للقرية كلها دون أجر نقدي، لكن أهل قريتنا لا يأكلون حق أحد، كانوا يعوضونه بالبيض والدجاج والفواكه والخضار، رغم أننا كنا نملك منها الكثير.

كانت حكاياته لا تنقطع ولا تنتهي، والمرحوم والدي يتشرب الصنعة والحكايات منه كما الإسفنجة تتشرب الماء، ويجعل من كل شيء داخل ذاكرته حكاية، من تجاربه المتراكمة هناك في دولاب الذاكرة، من قصص الناس وتجارب القرية يصنع الحكمة، وأبي يُخزن تلك الحكايات ويستلهم الحِكَم ليتلوها علي فيما بعد، كما تتلو آيات من الذكر الحكيم، فصرت أشعر أن جذوري تمتد عميقاً في باطن الأرض لتعانق جذور التاريخ هناك، وتناغي الفرن الذي بناه جدي في تلك القرية التي تكاد تلتقطها العين من الجنوب اللبناني، بناه بيديه وبمساعدة طفيفة من إخوته الكبار، فأنا في ذلك الوقت لم أكن موجوداً، لم أُخلق بعد، جئت بعد أن إقتلعونا من جذورنا من قريتنا في الشمال، أين ومتى وكيف، يمكنني الجزم أنني مثل الكثيرين الذين جاؤوا وحسب، لا يهم كيف ولا أين، المهم انهم جاؤوا بجذور مقطعة وأوصال ممزقة، والله وحده يعلم كيف استطاعوا شبك جذورهم من جديد رغم طول المسافة ومرور الزمن.

منذ ذلك الزمن صرنا لاجئين، وبنى والدي فرنه في مخيم عين الحلوه في لبنان، وصار يعجن ويخبز ويطعم المخيم كله، وفي المساء يجلس في ركن من أركان غرفتنا يعاتب الرب أحياناً ويستعطفه أحياناً أخرى، وكنت أحس دمعاته وأنا في فرشتي، دون أن أملك الجرأة عن الإفصاح عن سهر حاسة السمع عندي إلى تلك الساعة، لكن الأكيد أن الله لم يستمع له في كل تلك السنين.

كان محترفاً إلى حد الذهول، يُلاعب العجين على أصابعه مثل “الجني”، لا تكاد ترى حركة أصابعه، وفي مرات كثيرة كان يحذف بالرغيف في زاوية الفرن البعيدة دون حاجة للمزلاج، لكنه لم ينسَ يوماً ذكرياته في قرية الشجرة التي هجّروه منها ، مُنتزعينه من وسط كرم الدوالي وأشجارالتين والزيتون، لذلك ظلت قرية الشجرة في رأسه ولم تفارقه يوماً، وكلما تقادم الزمن كلما زادت شموخاً في رأسه، كالنبيذ المعتق سيدي القاضي، وزادت أقاصيصه لي عنها، وصارت أمنيته أن يختطف حزمة ضوء  من سمائها بين جفنيه قبل أن يموت، لكنه بعد زمن مات دون أن يختطف تلك الحزمة التي تمنى أو أراد.

وصرت أنا الخبَّاز الجديد سيدي القاضي، كنت أعمل في مكان أبي، في مخيم عين الحلوه قبل أن أنتقل مع القادمين الجدد الى هذه الأرض، التي إعتقدتها ستوصلني لاحقاً إلى قرية الشجرة، قريتي وقرية والدي وجدي الذي لم يسعفهما الزمن ولم تساعدهما القوة في أن يقطفا من حقول سمائها ضمة ورد من ضياء ويموتان. ماتا قبل أن يريا قريتنا، قرية الشجرة، لعلك سمعت بها سيدي؟!!!

ـ ماذا ؟ لم تسمع بها، ليس مهماً على أي حال، إنها هناك في الشمال، أبعد من صفد التي تخلى عنها سيادته وسيادتهم، قالوا أنها لا تهمهم، ومن لا تهمه صفد وحيفا ويافا أتعتقد أنه يمكن أن تهمه قرية الشجرة؟ “مجنون يحكي وعاقل يستمع” سيدي القاضي.

كنت أقف طوال نهاري على قدميّ دون “آه” واحدة، دون ملل أو ضجر، أو حتى حالة تأفف، لأنني ببساطة شديدة كنت أحب عملي، هل قلت كنتُ؟ لا بل ومازلت أحبه، فأنا في متاهات تفاصيله منذ الصغر، لم أترك كبيرة أم صغيرة دون أن أتعلمها حين كنت مساعداً للمرحوم والدي، وبقيت كذلك حتى غيبه الموت وأنا ما أزال طفلاً.

لن تصدق أبداً أنه مات جوعاً والخبز بين يديه، قالوا فقر دم وقالوا هزالاً وقالوا “أنيميا”، لكن النتيجة واحدة وهي نتاج الجوع، أتصدق أن خبازا يموت جوعاً؟ مات هناك مكانه في الحفرة المقابلة للفرن تماماً، تكوم على نفسه ولفظ بقية أنفاسه فارغ الجفنين رغم أن كل ما أراده حزمة ضوء يشم منها تاريخاً حاولوا سلبه، معتقدين أن الأكاذيب يمكن أن تصنع لهم تاريخاً، ما أسخفهم، وهل يُصنع التاريخ بالأكاذيب؟!!!.

كان رحمه الله خبازاً محترفاً سيدي القاضي، لم يترك رغيفاً واحداً طوال حياته يحترق، فبالنسبة إليه الرغيف المحروق وصمة عار في جبين خبّازه لن تُمحى أبداً، لأنك إن صنعت شيئاً عليك أن تصنعه جيداً أو أن تختفي خلف جهلك وتعانق المقهى وألعاب الورق…

حاضر سيدي القاضي، سأتكلم عن نفسي فقط وأوجز، أعرف أن ليس لديك وقتاً تضيعه على أمثالي.

مات واستلمت أنا مهنته، كنت قد تعلمتها وعشقتها، حتى قبل أن أكبر وتستطيع عيناي أن ترى ما بداخل الفرن، كنت قد وضعت كرسياً في حفرة الفرن بجانب المرحوم ليزيد من طولي قليلاً، ورغم أن المرحوم كان يتعثر به إلا أنه لم ينهرني من حواف قدميه.

وكبرت، وكنت أقطع من العجين كتلة صماء فأخلق منها رغيفاً ساخناً يتطاير منه البخار فخوراً مختالاً نحو السماء، أفرش تحتها بعض حبيبات الطحين وكذلك فوقها كي أمنع محاولات إلتصاقها، أضغط الكتلة بأصابع يدي الثمانية، وأقلبها وأحملها وأناغيها وأدللها، فتنفرد أمامي وتتمدد كعاشقة عارية تنتظر حبيبها لتضمه بين أحضانها لعله يُخفف قليلاً من ألم الجوى، أُلقيها في الهواء، فتطير متضاحكة وترتفع دائرة حول نفسها مثل عروس ترقص في يوم زفافها، قبل أن تتهاوى وتنزل بين كفي، تستدير وتتمدد وتظل كما هي وكأنني رسمتها رسما على سطح ورقة، لم تُثقب ولم تتمزق يوماً ولم يختلف شكلها ولم يتعكر صفو حوافها، ثم أضعها على المزلاج الخشبي الذي أمامي رغيفاً من عجين، فأضعه بعيداً على حافة الفرن المقابلة للنار، فقربه من النار يحرقه، وبعده عنها يجففه ويسبغه بلون الموت، يجب أن يظل على مسافة مناسبة… لا ليس وسطياً سيدي، بل في مكان مناسب، فالوسطية لا تصنع رغيفاً من الخبز بمذاق جيد. ثم أبدأ بتحريكه وهو في مكانه، أجعله يدور حول نفسه كمخمور، ليبدأ يكتسي لوناً جديداً، وكم كنت أتمتع وأنا أراه ينتقخ وينتفخ ويبدأ بالإحمرار، فأحركه من جديد لتصل النار ألى كامل سطحه، ويتساوى عليه لون النار دون فروق، المساواة ضرورية حتى للخبز كي لا يكون طرفاً ناضجاً وآخر غير ناضج، ثم أخرجه قبل أن تهزمه النار ويتفجر من أحد أطرافه الضعيفة ويكون البخار مازال يتصاعد عن وجهه كما يتصاعد الدخان من مصباح علاء الدين قبل صعود الجني وتحرره منه . ولا أضع الخبز واحداً على ظهر أخيه قبل أن يبرده الهواء قليلاً، كيلا يتحول البخار الى حبيبات ماء تفسد الرغيف وتفسد أكله، ففي مهنتنا، مثل كل مهنة، هناك أسرار بدونها لن تصل لدرجة خباز محترف كما كان المرحوم والدي وقبله جدي.

وهكذا كنت، أعمل من الفجر الى آخر النهار، وكان معظم المخيم يشتري خبزه مني رغم وجود أفراناً أخرى، ترى رجاله ونساءه مصطفين ليشتروا الخبز الذي تصنعه يداي، نعم سيدي… قبل أن يُحرّموا الإختلاط ويُحرّموا المرأة جسداً وروحاً، وقبل أن تخرج الفتاوى بلفلفتها وبرقعتها وسجنها بين طناجر الطعام وعلى “فرشات” الجنس البارد، بعد أن كانت قد بدأت تقبض على البندقية.

وجاءني جنابه وقتها، نعم في يوم صيفي قائظ، وأنا في الحفرة أواجه النار، وأتصدى لجحيم الطبيعة الذي فجّر ينبوع نهر من العرق يسيل من رأسي حتى تحت خاصري، وطلب مني أن آتيه في يوم الجمعة اللاحق، حيث كان يوم عطلتي.

ذهبت لمقابلته، وسألني:

ـ كم يعطيك، أبو خليل،  مالك الفرن أجرة في الشهر؟

وقلت له بصدق المبلغ والذي لم أعد أذكره، فقال:

ـ كيف إستطعت أن تعمل عنده بعد أن قتل أباك؟

كان يريد أن يزرع الفتنة بينيوبين أبي خليل، وهي مقدمة لفتنة بين أبناء المخيم الواحد!

أنظر إليه، هاهو يضحك من خلفك سيدي القاضي، إن كنت أكذب فليقاطعني، كيف يمكن أن يكون خلفكم أنتم القضاة أيضاً؟ عقلي سيتفجر سيدي القاضي، أجده خلف القضاة وخلف الوزارات وخلف الوزراء والمؤسسات!!! بل صار بديلاً عن كل شيء سيدي القاضي، كيف يتم ذلك؟ كيق وصل تأثيره ألى كل شيء؟.

أعرف سيدي القاضي أنه ليس من شأني، لكنه مجرد فضول…قلت:

ـ مات والدي قضاء وقدراً، فالأعمار بيد الله.

قال:

ـ الأعمار بيد الله لكنه كان المتسبب.

وسكت هنيهة وكأنه يريد أن تدخل الكلمات ثنايا رأسي وتستقر فيه، وقال:

ـ لو كنت مكانك لقتلته… على كل حال ليس هذا موضوعنا، موضوعي أنني رأيت مهارتك، واستشرت القيادة التي وافقت على تسليمك فرناً تخبز به للثوار، للفدائيين، هل تقبل أن تستلم فرن الثورة وتقوده، وتترك أبا خليل، وبهذا تثأر من قاتل والدك؟

لم أعلق على جملته الأخيرة سيدي القاضي، لكنني قلت متسائلاً:

ـ فرن الثورة؟ كيف لا؟ ومن يرفض هذا الشرف؟

لم أكن أعرف أن للثورة فرنها الخاص، وأن للثوار فرنهم وخبازهم الذي يختلف عن فرن المخيم وخبازه، ولم أتردد في الإلتحاق به، فأعطيت أبا خليل مهلة ليجد عني بديلاً، والتحقت للعمل في فرن الثورة، وكان جنابه، ربنا الله، قد زاد معاشي عشرين ليرة لبنانية كاملة، ووضع بجانبي مساعداً أيضاً، لأن عملي لن يستطيع إنجازه شخص واحد أبداً، وصرت أعمل مثلما كنت أعمل هناك، لكن بزيادة طفيفة، قدر ساعة أو ساعة ونصف الساعة في اليوم الواحد، كي نستطيع أن نؤدي عملنا على أكمل وجه، ولا نترك الفدائيين يتضورون جوعاً.

جنابه لم يقصر معي أبداً، دفع أجرتي قبل أن يجف عرقي، ربنا الله، وأحياناً عندما يزيد الخبز عن أكل الفدائيين كان يُحمّلني بضعة أرغفة لبيتي دون أن يأخذ ثمنه إلا آخر الشهر، يخصم ثلاثة أرباع سعرها وليس سعرها كاملاً، لأنها تكون قد فقدت سخنوتها، أو ظلت الى اليوم التالي نائمة في مكان ما. وكونه هو في الأصل محاسباً، دخل الثورة ليضبط حساباتها، واستطاع ضبطها ولملمة تبعثرها لكن لتتوجه إلى جيبه، وكان واضحاً منذ البدء، حدد بوصلته جيداً، البوصلة هي المال العام والمكان هو جيبه كما قال الكثيرون. كان يأتي لي بفواتير يومية أوقعها عن عدد الأرغفة وسعرها… وكانت هذه الأرغفة بعدد ثابت كل يوم، وكان العدد ألف رغيف في اليوم الواحد، لم تزد يوماً ولا تقل، وأنا كنت أعتقد أنه عدّها أو على الأقل قدرها بشكل تقريبي، حتى جاء يوم واستدعاني أحد المسؤولين الكبار عن مخابز الثورة، وأراني أحد الفواتير بتوقيعي وبصمتي أيضاً، فرأيت بأم عيني أن العدد لم يكن ألفاً في أية فاتورة، بل تم تكبير الأصفار وتحريكها لتصبح أرقاما كبيرة، كان جنابه قد حركها بلمساته السحرية الخفيفة، فجعلت من الأرقام الصماء الميتة فوق الأوراق جبالاً من النقود في جيبه، ومن يستطيع أن يفعل ذلك غير محاسب محترف كان قد دخل الثورة لضبط حساباتها؟!!!

ولك أن تعد سيدي القاضي كم ألف من الأرغفة سُحبت من فم الفدائيين لتتحول للنهر المنساب  مالاً قي جيبه كل شهر، دون أن يفرد بأصابعه الناعمة حتى لو رغيفاً واحداً، ودون أن تلفحه نيران الفرن ولو ساعة واحدة، ولا حتى أن بنام ساعة واحدة في “جفت” الزيتون الذي ما زال يحتفظ لنفسه بحصة من الزيت، وحينها تذكرت كلمات المرحوم والدي ناقلاً المأثور الشعبي ” المال السايب يعلم السرقة” ليس هذا فحسب، بل هو يسرق وأنا المتهم وأنا من يُحاسب، فهل يحق لمثله أن يكون خلفكم أنتم القضاة في قضية المتهم فيها غريمه سيدي القاضي؟

ـ حاضر، “سأسد نيعي” مادام الأمر ليس شأني.

لم أعلم شيئاً عن الأمر في مخيمنا اللبناني، وأخذني بمعيته لما رحلنا إلى تونس لأتابع إطعام الفدائيين هناك، وكان قد سافر الى هناك قبل الجميع، فهو لم يكن من أنصار البندقية الفدائية سيدي الرئيس، بل من أنصار تلك البنادق التي بحوزة الأنظمة، البنادق التي تُطلق للخلف سيدي القاضي، لذلك رحل قبلنا جميعاً، وكان يتحدث كثيراً عن السياسة والدبلوماسية والتكتيك، وكان يحب كثيراً “أنصار السلام” عندهم سيدي القاضي ويلتقيهم ويأكلون اللحوم فقط دون خبز المخيم.

أنا لم أعرف شيئاً عن كل ذلك سيدي القاضي، أنا رجل بسيط إلا في فن الخبز أمام  الفرن، فأنا “داهية” ولن أكون متواضعاً ، وأبي وأنا من صححا المأثور الشعبي القائل:”فلان لا يضحك للرغيف الساخن”، بحيث جعلنا “فلاناً” يضحك له رغم أنفه، بل ويقهقه عندما يراه، لكنني فيما عدا ذلك أقر بما يقولون عني، أنني على باب الله، وأنني على نياتي، وأن القطة تأكل عشاي، لكن البعض ممن كانوا يعرفون بالأمر وشمّوا رائحته التي تزكم الأنوف، أوصلوا الأمر للقائد الكبير رحمه الله، والقائد الكبير كان يحب مثل جناب المحاسب ويُقربهم منه، لأنه كما قال بعض المخيم يستطيع أن يقودهم، بعد ذلك، كالأنعام سيدي القاضي، فبعد أن يمسك عليهم المماسك، يهز الأوراق الممسك بها عليهم أمام وجوههم الصلفاء، يشتمهم ويُهزأهم ويقل قيمتهم “بعيدا عن جنابك” وهم لا يجرؤن على الرد، بل يخرون له ساجدين، لأن جلودهم تكون قد تعودت على الشتائم ووجوههم على البصاق وضرب النعال دون أن يرف لهم جفن. وقال القائد الكبير رحمه الله لمن أوصله الخبر بلهجة مصرية:

ـ ده حرامي وشبع حجبلكوا واحد جديد يبتدي من الصفر؟ اعمل ليكو إيه؟ ده قدركم بقه.

وأبقاه محاسباً مؤتمناً كما كان، بل علّا من شأنه أيضاً لأنه زاد بصماً بحافريه كما قال الكثيرون، وأكد البعض أنه فرك له أذنه واستعجله ليعرف نتائج لقاءاته مع “مشجعي السلام ” من الطرف الآخر.

كان هذا قبل أن تنمو له مخالباً وتكبر، قبل أن ننتقل إلى هذه الأرض من حمّام الشط، وقبل أن يبدأ بمد يده إلى ما تحت يد القائد الكبير، ليرثه ويركب فوق ظهورنا نحن العامة، حيث ظل يعتبر نفسه أحد الأسباب الذي أوصلنا لما نحن فيه من هيبة وعنفوان وازدهار!!! وأننا لولاه لما كنا في مثل هذا العز الذي “نتمرغ” في خيره ونرعى كالإبل.

ـ أنا لا أستهزئ سيدي القاضي… حاضر لن أتكلم في السياسة، فهي التي أوصلتني للوقوف هذه الوقفة بين أيديكم.

بعد أن كبر وانتشر خلف كل شيء في البلاد، صار كل ريع الخبز يذهب إلى جيبه وليس الفرن الذي أعمل به فقط، ولم يعد يحاسبه أحد على ذلك، بل سمعت أنه يأخذ الكثير من الأموال من “معسكر السلام” القريب والبعيد، ولم يعد بحاجة إلى هذا الفتات، لكنه رغم ذلك أعطاه لبعض أقاربه كي لا يتسرب هذا المصدر إلى آخرين.

ـ “ما علينا” سيدي القاضي، أنا لن أتنازل عن حقي، والمخيم كله إلّا البعض القليل، كلهم يدعمني ويقف في صفي، تعرف سيدي القاضي أن المسحجين والمطبلين يتواجدون عند كل الشعوب وفي كل الأوقات، لكنني قررت أن لا يستحمرني أحد من جديد…

ـ نعم حقي سيدي القاضي، كيف لا؟ أنا لا أريد مالاً، أنا أريده أن يشرح لسيادتكم وهو الموظف من أين له كل هذه الثروة؟ ومن أين لأولاده وأحفاده كل هذه القصور والعقارات والشركات والأملاك وأنا الذي إشتغلت وتعبت وليس هو، إحسبوا دخله على مدار العمر لتعرفوا بأنفسكم أنه لو عاش مائة حياة لن يكون لديه كل هذه الأموال، التي حول إتجاهها ويتهمني بها، وأنا لا أملك كيس طحين واحد في بيتي.

ربما عمل بأشياءٍ أخرى، إحسبوها له، لكن عليه أن يُرجع ما سرقه من أموال خبز الفدائيين، وأموال خبز أهاليهم الذين كانوا يتلقون جحيم الطائرات في المخيم في كل وقت، وهو سيدي القاضي لم يكن في المخيم ولم يعش فيه يوماً واحداً، حتى أنه لم يمر فيه إلّا ليحادثني وأمثالي من البسطاء الذين يوقعون على الفواتير دون سؤال، أما ماعدا ذلك فلا شأن له بالفقراء…

إسألوه كيف إستجمع كل هذه القوة بين يديه؟ ليس بالمال وحده بالتأكيد، وليس بالتسحيج والتطبيل والتزمير فقط، فعلو النباح لا يجلب القوة ولا يُسنن النيوب ويُنمي المخالب ، إسألوه كيف أحرق كل بنادق الفدائيين الذين أطعمتهم خبزاً من صنع يدي؟ ومن الذي زوده ببنادق الأنظمة هذه التي لا يربطها رابط ببنادق المخيم.

لا أعرف لماذا لا توقفون إبتساماته المتتالية من خلف ظهوركم سيدي القاضي، أإلى هذه الدرجة فرد نفوذه وصار يمسك بكل مفاصل البلد؟

أتعرف سيدي القاضي، لو كان يتعامل معهم كما يتعامل معنا بنفس الطريقة والحدة ما كنت غضبت، لكنه هناك يستجدي ويركع ويسجد بين الأقدام، لا يجرؤ أن يرفع عينه في عيونهم وكأنهم يمسكون عليه المماسك وأوراق الإذلال، وتراه عندنا يمشي مثل طاووس، قلت طاووساً وليس نسراً سيدي القاضي، فمثله لم يكن نسراً يوماً ولن يكون، لا يعرف ولا يستطيع، فللنسور صفاتها وميزاتها التي لن تتوفر به يوماً، النسور شامخة حتى في إحتضارها، وهو ذليل حتى في عز قوته وغناه.

هذه صفات سيدي القاضي وليس قدحاً وذماً، وإن لم تصدقني ضعه أمام التجربة، أمام المواجهة مهما كانت طفيفة وبسيطة، ستجده في الهريبة “كالغزال”. كما تريد، أتعتقد أن الغريق يخاف من البلل؟ سجل تهماً جديدة إن أردت، فأنا “تحت المزراب” سيدي القاضي ولن تُخيفني أمطار الشتاء.

لا يعنيني من يكون ومن وراءه، المهم أصل الفتى، صفاته، معدنه، “سألوا الحمار من أبوك فقال خالي الحصان”، أتعتقد سيدي القاضي أن خاله الحصان كان قادراً على تغيير ماهيتة؟!!! ظل الحمار حماراً وإن إدّعى بأن الحصان خاله، ومهما “طلع أو نزل” سيظل حماراً، “حاشاك” سيدي القاضي.

لا أعرف لماذا تظل تقاطعني سيدي القاضي، فأنا إنسان بسيط وعلى “باب الله”، كلما قاطعتني نسيت ما أريد قوله، وكما ترى فلا محامي لدي يدافع عني وعن حقوقي، كما أنني سمعت أن المحامين في بلدنا لا يستطيعون “حماية مؤخراتهم”، كما أكدت أمي رحمها الله ذات يوم، وأنتم القضاة كما سمعت صرتم تحاكمون الشهداء وتقتصون من الفدائيين، أصحيح هذا أيها القاضي؟

سأقول لك سيدي إن نفيت هذه الأقاويل، إن كان ما سمعته كذباً وتشويهاً، سأقول سيدي وتاج رأسي أيضاً، وإلا فلن تكون سيدي أبداً بل وستسقط من عيني إلى تحت حذائي ولن يرفعك أحد أبداً، تماماً كمن سقط من يقف وراءك، وها هو يقدم لك أقاصيص أوراق تملؤها الكلمات.

ـ لا سيدي لن أكون خبازهم، يستطيع إكتشاف صلة قرابته معهم كما يشاء وكيفما يشاء، “أبناء عمومة” فليكن بالنسبة له، لكنهم بالنسبة لي هم قتلة أبي الحقيقيين… نعم هم، فلولا تهجيرهم لما مات أبي الخباز جائعاً تنخره الأمراض، ولما تيتمت أنا وترملت أمي، لما كنا متهمين في العالم كله وكلٌ يركلنا بقدمه، لما كنت أنا هنا أقف أمام سيادتكم في قفص الأتهام، ولما كنت وقعت على فواتير أحد لأملأ جيوبه مالاً، وكلما إمتلأت جيوبه مالاً كلما جاع الفدائيون الذين جئت خصيصاً لأطعمهم خبزي. لكنت مازلت في قريتي الشجرة، لكنت عشت حياة طبيعية بين أبي وأمي، لما مات والدي في حفرة أمام فرن في الغربة، لما جاع وبين يديه “حاكورة” البيت وزيتونات الحقل وزعتر الجبل وأرغفة الفرن التي يتماوج فوق وجوهها لون النار الذي أعطاها طعمه ، كما أنني لا أريد أن أكون “خباز السلام”، أرفض عرضكم لسحب التهمة عني مقابل ذلك، أريد أن أظل خباز الفدائيين، خباز المخيم وما يحيط به من قرى ومدن…

ـ ماذا؟ لم يعد هناك فداييون!، ليس مهماً، ما تبقّى منهم، مهما كانوا أقلة لن أتركهم يجوعون، “عاقل يتكلم ومجنون يستمع”، أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، أتستدرجني لتعرف أماكنهم؟ سيعرفون هم مكاني إن لم أعرف أنا مكانهم، سيأتون هم عندي لأطعمهم خبزي.

ـ نعم أقولها بصوتٍ عال، وبكل ثقة أيضاً، أنا لن أتركهم يموتون جوعاً، كما لن أترك مهنتي تموت وأصابع يدي يضخ إليها القلب دماً، فمهنتي مرتبطة بهم، بإشباعهم بعد أن جوّعوهم وأفقروهم وسحبوا منهم قوّتهم ورحّلوهم من المخيم إلى حمام الشط مبعدينهم عن حدود الوطن، كي لا يعودوا يشمون راحة صفد والجليل وقرية الشجرة، كي يموتون غيظاً وجوعاً وإختناقاً، نعم، لقد إختنقوا بعد أن صاروا غير قادرين عل التنفس بهواء الجليل الذي صار بعيداً.

رغم بساطتي فإنني أعرف جيداً كيف حول سعادته كل معظم مَنْ أتي بهم إلى موظفين ومسحجين ومطبلين ينتظرون “مخالي العلف” في آخر الشهر، بعد أن إقتلع نيوبهم وقصقص أجنحتهم فلم يعودوا يحسنوا فن الطيران، ومن ليس لديه أجنحة لن يستطيع التحليق ليرى القدس وعكا وطبريا ونتانيا وصفد والجليل، لن يستطيع السباحة في بحر يافا، ولن يعرف يوماً كيف تنتظرنا الناصرة وكفر قاسم عرائس بلباسها الأبيض.

أما أنا فسأجعل من العجين لآلئ من خبز، ومن الخبز أنواعاً، سأزيد من حجمه ووزنه، وسأضيف إليه “الملاتيت” وأرشها بالسكر،سأصنع لهم أقراص الزعتر والسبانخ وكافة أنواع المعجنات، وإن توافرت في جيوبي نقوداً سأشتري لهم اللحوم وأقطعها بنفسي وأصنع لهم “الصفيحة” ليستعيدوا قوتهم، المهم أن لا يجوعوا، وكما تلاحظ فالأساس هو الخبز، فبدون الخبز سيدي القاضي ما فائدة زيت الزيتون والزعتر؟ ما فائدة الميرامية وابريق الشاي؟ إنها تفقد قيمتها ولا يبقى لوجودها معنى.

أمّا أنا سأظل أعجن وأخبز لأطعم الفدائيين ولن أتنازل أبداً عن هذا الشرف، هدّد كما تريد، فلن “يقطع الرأس إلّا من ركّبها”، أعيد مجدداً أنني لن أكون خباز “السلام”، فأي سلام دون أن أعود لقريتي “الشجرة” وتعود لي، دون أن يلعب أولادي في أزقتها وطرقاتها، دون أن أزرع حكورتها وأدهن خبزي بزيت زيتونها؟!!!

أعرف أنكم جميعاً كما الدجاح “لا تتحكمون حتى في بيضاتكم”، وأن روحكم في يده، وتفتت ضميركم وتبعثر ولن تستطيعوا إسترجاعه أبداً ولا حتى لملمته.

إحكم كما تريد فلن يتذوق خبزي إلا من يستحق، الفدايون، وفقط الفدايون، إفعلوا ما تريدون، فلن تثنوني عن قراري هذا أبداً.

محمد النجار

 

Iarta-ma… ca nu te-am cunoscut

Dedicat sufletului tau pur

A trai cu o persoana tot acest timp si a nu il cunoaste indeajuns, este o tragedie, dar cum cand esti pedeasupra si indragostit

Credeam ca esti doar o femeie buna, eleganta, harnica, daruitoare, modesta, iubitoare, cultivata, inteligenta, talentata, determinata, toate acestea facand parte din obiceiul, educatia sau modul tau de a fi.

Aceste insusiri se aduna toate mai mult sau mai putin in caracterele oamenilor de rand ca noi, insa nici intr-un caz intr-o singura persoana asa cum erai tu. De aceea m-am considerat norocos avandu-te pe tine, si ma invidiam pe mine insumi de norocul ce-l aveam, o combinate de sentimente de uimire si mandrie pe care nu pot sa o explic, un sentiment feeric plin de orgoliu si trufie

Privindu-ti trasaturile chipului tau dumnezeiesc imbinat cu frumusetea trupului tau perfect, se intarea convingerea mea ca Dumnezeu mi te-a daruit datorita norocului meu dobandit prin rugaciunile parintilor mei, si ca insusi secretul acestui noroc se ascunde in ceea ce aveam noi , si nu in averi si alte bogatii.

Ma innecam in ochii tai albastri ca cerul senin, si ma intindeam pe malurile oceanurilor lor lasandu-i valurile sa se joace cu mine, simtind o placere infinita, o placere care nu se poate compara cu oricare alta.

Ascultam conversatiile tale cu fetele noastre si imi dadeam seama cat de adanc este sufletul tau, si cat de inteleapta erai iar vazand impactul ce l-ai lasat asupra educatiei si indrumarii nepotilor nostri, imi doream sa ma afle cesul mortii inaintea ta, pentru ca orice as fi facut, nu as fi putut fi ca tine, ba chiar nu as fi putut nici macar sa ajung la jumatatea intelepciunii tale.

Si cu toate incercarile inconstiente ale mintii mele barbatesti cu mentalitate orientala de a-ti invinge intelepunea, tu invingeai mereu cu liniste, tact si logica fara a fi ridicat vreodata drapelul victoriei, fiindca niciodata nu te-a interest sa-ti declare victoria.

Ce ma impresiona cel mai mult la tine era faptul ca, cu toate ca erai mezina dintre fratii tai, tu aveai cel mai mare impact asupra lor, erai centrul in jurul caruia se adunau toti, soarele in jurul caruia se invarteau planetele si stelele. Erai cartea pe care o deschideau toti cand aveau nevoie de raspunsuri sau pareri ce niciodata nu dau gres.

Dintr-o data, pe cand erai in floarea daruirii, si pe cand te pregateai sa te odihnesti putin de oboseala zilelor trecute, te ataca Boala. Te ataca cu putere de parca ar vrea sa se razbune prin tine pe noi si pe tot trecutul tau, napustindu-se asupra ta cu toate armele mortii sfasietoare, insa tu I te opui, cu forta cu care ai rezistat in fata turturor furtunilor si uraganelor intalnite pe toata durata anilor vietii tale, cu forta unui trup suplu si frumos in fata unei boli indaratnice medicinei si stiintei zilelor noastre, soptindu-mi intre clipele durerii : ” daca voi nu ati fi, eu as fi plecat demult…”

Te lupti cu vitejie, iar Boala, incruntandu-se tot mai tare si adunand tot mai multe arme covarsitoare in fata ta, atacandu-te cu viclenie, cere ajutorul altei boli puternice ce si ea te ataca in acelasi loc.

Se aduna cancerul pulmonar si pneumonia, umplandu-ti cu apa plamanii, interzicand aerului de a mai intra insa tu lupti, iti inchizi ochii insa nu renunti la lupta…

Ti-am soptit la ureche ca nepotii si fetele tale au nevoie de tine, atunci tu te-ai revoltat si te-ai intors repede deschizand ochii, de parca ai fi vrut sa le fi de ajutor chiar si inaintea plecarii tale, insa aerul nenorocit te-a inselat, te-a tradat si nu a mai ajuns la tine, intorcandu-te la somnul cel de veci din nou, in ciuda incercarilor doctorilor si a stiintei de a te readuce inapoi.

                                                               …………………………………………………………………………………….

Ramane chipul tau de inger in ciuda bolii, a luptei si a durerilor, in ciuda prafului de pe greul drum parcurs si urletele razboiului din trupul tau, frumos asa cum l-am vazut dintodeauna. Da, asa l-am vazut in toti anii in care te-am acompaniat, si am crezut ca, chipul tau e doar un chip omenesc caruia i-a fost daruita frumusetea ingerilor… ai vazut tu nestiinta mai mare decat atat?

Nu am putut concepe, dragostea vietii mele, ca un inger se poate deghiza intr-un trup omenesc, si ca, chipul tau nu era unul pamantesc. Nu stiam ca tu fluturai din aripi in stolul ingerilor cand ai hotarat, poate din curiozitate, a te cobora in lumea noastra, iar dupa consintamantul ingerilor ai venit… te-au imprumutat vietii omenesti timp de saizeci de ani, iar eu am fost norocosul caruia i-ai daruit patruzeci de ani din ei, imagineaza-ti maretia norocului meu!

Patruzeci de ani pe malurile raurilor tale, invelindu-ma in mireasma Inului, Iasomiei, Cuișoarelor, a Narciselor, Crizantemelor și Trandafirilor in culorile lor diverse.

Patruzeci de ani din care jumatate i-ai petrecut intre zidurile Jerusalimului pe care l-ai cunoscut metru de metru si pietricica de pietricica, la Biserica Invierii si in Moscheea AlAqsa, pe strazile orasului vechi, in Ramallah, pe strada Rukab si Manara, la Betlehem la Biserica Nasterii, in Nazareth si Galileea si in muntii Carmelului, la marea Yaffei si cetatea Akkei, la piata Firas si malurile Gazei, intre pomisorii de Cimbru si Salvie, sub umbrele maslinilor a portocalilor si a smochinilor.

Patruzeci de ani de oboseala efort si alergat continu in care niciodata nu am auzit un off… Doar Dumnezeu stie cata rabdare ai avut…

Corpul tau pur era acum pustiu, iar ingerii se adunasera in chipul tau care nici acum nu si-a dezlipit zambetul in ciuda tuturor suferintelor, in ciuda aerului ce nu a mai ajuns in plamanii tai, iar cei ce auzisera de cele intamplate au inceput a te vizita, pentru a vedea cum arata un inger adormit…

La aflarea vestii oamenii au venit din taramuri departate pentru a fii martorii acestui eveniment: a ingerului ce se intoarce in zbor spre roiul sau de ingeri, au venit din orase departate pentru a-ti saluta si omagia sufletul…

Tristetea le acoperea chipurile iar lacrimile curgeau, ei indoliati in negru iar tu impodobita cu rochia ta ce a imprumutat putin din albastrul marii din ochii tai frumosi, si albul inimii tale pure care s-a oprit ieri din a mai bate…

Ti-au daruit o inmormantare vrednica doar ingerilor prin prezenta si numarul lor, prin tristetea si lacrimile lor sincere…

Ne-au amintit de viata si sentimentele tale, de copilaria si tineretea ta, care nu ti-a parasit niciodata ochii si seninatatea chipului tau…

Asupra-ti s-a citit Biblia si Koranul… Iti imaginezi? Cine si-ar fi putut imagina sa se uneasca doua mari religii in fata trupului unui inger in aceste vremuri…

A fost o inmormantare lunga si „frumoasa“, vrednica de tine, te-a plans fiecare cu lacrimi din inima, te-au plans oamenii, arborii si pietrele,si cu toate diferentele de cultura au ajuns la comun acord ca drumul iti va fi verde si senin

Iarta-ma iubita sufletului meu, inmormantarea ta nu a fost doar o inmormantare, ci a fost o nunta, cununia unei mirese la care se aduna oamenii cu lacrimi in ochi pentru a-si lua ramas bun, iar ingerii din cer pentru a o intampina…

Iarta-ne pentru ca ti-am asezat trupul pustiu, pe care sufletul l-a parasit zburand, sub un mar bogat, care nu-si pierduse inca frunzele, langa trupurile pure ale parintilor tai, si langa trupul bunicului tau cu care te mandreai pe parcursul anilor vietii tale scurte…

Iarta-ne tristetea omeneasca cu care ti-a acoperit pamantul mormantului impodobit cu coroane din diferite flori miresme si nuante, florile refuzand a-si parasi culorile si a se ofili chiar si dupa trecerea zilelor…

Iarta-ne pentru ca am zarit ochii cerului ce te-a plans de dimineata, norii care s-au adunat pe el, pentru ca apoi vantul sa ii imprastie lasand loc razelor soarelui sa-ti lumineze mormantul si coroanele de pe el ca pe o stea inflacarata, continuand a sufla norii mai multe zile, in ciuda tomnii care ne-a surprins si a incercat sa-si intinda ghearele peste loc…

Iarta-ma pentru ca nu stiam ca ingerii se pot deghiza in trupuri omenesti… si pentru ca am vrut sa mai traiesc in titlurile paginilor principale ale cartii vietii tale…

Da-mi voie sa imi adun propriile fragmente de pe cararile zilelor tale , de pe drumurile buzelor tale fine si de pe malurile marii din ochii tai…

Iarta-ma ca poate nu te-am iubit indeajuns pentru a opri boala si pentru a-ti ocrotii trupul frumos …si pentru ca am crezut ca este doar norocul meu ca imbratisez o femeie in care s-a adunat frumusetea tuturor femeilor, si a adunat intre aripile ei calitatile lor cele mai frumoase, fiind o sotie, o mama, o fiica, o sora nemaipomenita, o partenera o prietena si o iubita de neintalnit, si o bunica extraordinara…

Si pentru ca eu credeam ca e doar o coincidenta ca aveai nevinovăția copiilor, tinerețea fetelor, râsul izvoarelor, răbdarea profeților, frumusețea trandafirilor, inaltimea vulturilor, fermentarea vinului și mila dumnezeiasca.

Ai mai intalnit o asa nestiinta? Ai vazut cum nu te cunosteam, crezand ca esti un om ca si noi? Ai vazut cata necunoastere nepricepere si nestiinta se ascund in colturile mintii mele?!

Si iarta-ma pentru ca ti-am daruit in timpul spitalizarii tale, in doua dimineti succesive doi trandafiri, fara a le cunoaste simbolul nuntii tale ca mireasa spre cer…

Si pentru ca inca am lacomia de a -mi dori sa traiesc pe malurile ochilor tai in cealalta parte a lumii…

Iarta-ma si iarta-mi necunostinta, si da-mi voie a-ti pastra dragostea intr-o inima care nu stiu cat va mai putea tine acest trup atat de ostenit si de trist, si cat va mai putea pompa viata in el pe caile incrucisate ale acestei vieti…

Te felicit pentru intoarcerea ta la locul tau, sus, intre ingeri, in rai si printre campiile cerului.

Te felicit pentru ciripitul pasarilor si fosnetul frunzelor si adierea vantului si sursurul izvoarelor in cerurile raiului tau nou.

Iar pe mine iarta-ma din nou pentru ca ma pregatisem a-mi petrece zilele ramase din viata pe malurile sentimentelor tale, a batailor inimii tale si a valurilor pieptului tau, si nu m-am gandit niciodata ca te voi plange.

Mohammed El-Najjar

traducere

سامحيني… لقد كنت أجهلك

إلى روحك الطاهرة…

أن تعيش مع شخص كل هذا العمر وتجهله، لعمري إنها الفاجعة الأكثر إيلاماً، فما بالك لو كنت عاشقا؟!!!

كنت أعتقد أنكِ مجرد إنسانة طيبة، أنيقة، نشطة، مضحية، ناكرة للذات، مُحبة، مثقفة، ذكية، موهوبة، ومثابرة، الإيثار لديك جزء من عادة أو تربية أو تكوين، وكلها صفات إنسانية توجد بقليل منها أو كثير لدى البشر أمثالنا، لكنها بالتأكيد لا توجد كلها في شخص واحد أبداً كما وجدت فيك، لذلك إعتبرت نفسي محظوظاً بك، وكنت أحسدها أحياناً كثيرة عليك، نوع من الحسد الفخور الذي لا أعرف كيف أصفه، لكنه جميل مليء بالكبرياء والشموخ.

ولما كنت أنظر الى تقاسيم وجهك الجميل وجسدك المتناسق الرائع، وأرى هذا الجمال الإلهي، كنت أزداد قناعة أن الإله خصني بك لأنني رضي الوالدين محظوظ، وأن الحظ يكمن سره فيما أنا فيه، وليس بالمال والممتلكات والأشياء الدنيوية.

ولما كنت أسبح في بحر عينيك السماويتين، وأتمدد على شواطئ بحرهما، وتعبث بي أمواجهما، كانت قمة متعتي التي لا تشابهها متعة غلى وجه الأرض.

وعندما كنت أستمع لأحاديثك وحواراتك مع بناتنا، كنت أدرك مدى عمقك وحبك ورجاحة عقلك.

وعندما رأيت مدى أثرك في تربية أحفادنا وتوجيههم، كنت أتمنى أن يكون يومي قبل يومك، لأنني مهما فعلت لن أستطيع أن أكون مثلك، أو أن أصل إلى نصفك.

ورغم كل محاولات العقل الذكوري الكامن في شرقيتي الإنتصار على عقلك، كنت بهدوئك ورجاحة عقلك ومنطقك المتين تنتصرين دون أن ترفعي أعلام النصر، ولم يعنيك يوماً إعلان نصرك أو إشهاره.

ما أدهشني أنك رغم كونك الأصغر بين إخوتك وأخواتك، كنت الأكثر تأثيراً، كنت المركز الذي يلتف الجميع حوله، الشمس التي تدور حوله الكواكب والنجوم.

كنت الكتاب الذي يفتحه الجميع إذا ما إحتاج إلى معلومة مجهولة أو رأي سديد.

فجأة وأنت في ذروة عطائك، في اللحظات التي كنت تتهيئين لترتاحين قليلاً من تعب الأيام، يهاجمك المرض، يهاجمك بشدة وكأنه يريد أن ينتقم بك منا، ومن كل حياتك الماضية، يُشهر بوجهك كل أسلحة الآلام الفتاكة الماضية، وتبدأين بالمقاومة، أنت التي قاومت كل صنوف الرياح والعواصف العاتية على مدار سني عمرك، مقاومة جسد نحيف جميل لمرض استعصى عليه الطب والعلم، وبين لحظات الألم كنت تسرين لي قائلة: “لو لم تكونوا أنتم لغادرت مسرعة”.

تقاومين وتقاومين، وهو يشتد ويشتد ويحشد ما استطاع من أسلحة الموت، ويهاجمك مُباغتاً في نفس المكان مستعينا بمرض خطير آخر في نفس المكان، يتجمع عليك سرطان الرئة مع الألتهاب الرئوي الحاد، وأنت تقاومين، فيملآ رئتيك ماء كي يحجبا الهواء عنك، وينجحان، وتغمضين عينيك وأنت ما زلت تقاومين.

ولما همست في أذنك أن أحفادك وبناتك يحتاجونك، إنتفضت وعدت مسرعة مفتحة العينين، وكأنك أردت خدمتهم قبل أن تغادرين، لكنه الهواء الملعون الخائن الذي خانك وخذلك من جديد ولم يصل إلى رئتيك، فردك الى النوم الأبدي من جديد، رغم كل محاولات الطب والأطباء استدعاء حضورك.

يظل وجهك ملائكياً رغم المرض والمقاومة والآلام، رغم غبار الطريق وزعيق شظايا الحرب في جسدك الجميل، أو هكذا كنت أعتقد. نعم هكذا إعتقدت طوال سنوات مرافقتي لك، أن وجهك مجرد وجه بشري أخذ من الملائكة حسنها، أرأيت جهلاً أكثر من ذلك؟

لم أكن أعلم ياحبيبة القلب أنك ملاك من الملائكة تخفى في زيٍ بشري، وليس انساناً بوجه ملاك، لم أكن أعلم أنك كنت ترفرفين مع سرب من الملائكة عندما قررت فضولاً ،ربما ،أو طلباً للمعرفة أن تعايشين البشر حياتهم، وافقك الملائكة وتسللت من سربهم وأتيت لهذه الحياة، أعاروك لحياة بشرية مدة ستين عاماً، وكنت أنا المحظوظ، فكان نصيبي منها أربعين كاملة، تصوري مدى حظي منك أيها الملاك!!!

أربعون عاماً على ضفاف نهرك، تغمرني رائحة الفل والياسمين والقرنفل والنرجس وزهور الأقحوان والجوري بألوانه وروائحه المختلفة، نصفها على أسوار القدس التي عرفتيها شبراً شبراً وحجراً حجراً، في كنيسة القيامة والأقصى والشوارع القديمة، في رام اللة وشارع ركب والمنارة، في بيت لحم وكنيسة المهد، في الناصرة والجليل وجبال الكرمل وبحر يافا وقلعة عكا، في سوق فراس وشواطئ غزة، بين شجيرات الزعتر والميرامية، تحت ظلال أشجار الزيتون والتين البرتقال، أربعون عاماً من الجهد والتعب والركض المتواصل لم أسمع فيها آه واحدة، لله درك ما أصبرك.

كان جسدك الطاهر مُسجى، وتجمع الملائكة في وجهك الذي لم يرمِ ابتسامته رغم كل العذابات، ورغم الهواء الذي اختفى فجأة من رئتيك، وابتدأ من عَلِم بالأمر يأتي ليرى كيف يكون شكل الملاك النائم.

لقد جاؤوا من دول بعيدة عندما علموا أن ملاكاً كان قد أفلت من سرب ملائكة طائر سيعود إلى سربه، وأتوكِ من مدن متباعدة، ليلقوا على روحك السلام.

كان ينتشر الحزن على وجوههم ودموعهم مدرارة، متوشحين بالسواد وأنت تتوشحين بثوبك الذي استعار شيئاً من لون البحر في عينيك الجميلة، ويعلوه بياض قلبك الذي كف بالأمس عن الخفقان.

صنعوا لك جنازة تليق بالملائكة، عددا وحضوراً وبشراً ورثاء.

ذكّرونا بمآثرك وحياتك، بطفولتك وشبابك الذي لم يغب عن عينيك وبهاء وجهك.

وقرأوا على قبرك الإنجيل والقرآن… أتتخيلين، مَنْ كان يصدق أن يجتمع دينين كبيرين ويتوافقا فوق جسد ملاك في هذا الزمن؟!!!

وكانت جنازة كبيرة “جميلة” ممتدة تليق بك، بكى عليك كل من فيها بالدمع والقلب، وترحم الجميع على روحك، وبكاك البشر والحجر والشجر، وأجمعوا على أن طريقك أخضر رغم إختلاف المشارب.

إعذريني ياحبيبة الروح، جنازتك لم تكن مجرد جنازة، كانت عرساً، حِنة عروس وزفتها، يبكيها الناس ويصطفون لوداعها، وأسراب الملائكة تتقاطر في السماء للإستقبال.

إعذرينا لزراعة الجسد، بعد أن فارقته الروح مُحلقة، تحت شجرة تفاح وارفة لم تتساقط أوراقها بعد، مقابل جَسَدّيّ والديك الطاهرين، وجدك الذي بقيت طوال سنوات عمرك القصيرة به تفخرين.

واعذري الحزن البشري الذي غطى تراب قبرك أكاليل ورد من كل الصنوف والروائح والألوان، والورد يرفض أن يغادر ألوانه، يرفض الذبول حتى بعد أيام .

إعذرينا لأننا كنا نراقب عيون السماء التي بكتك صباحاً، وكيف تجمعت الغيوم وركبت موجات ريح كانت تنتظر، لتسمح لشعاعات شمس لتنزل على تراب قبرك وأكاليلة كنجم مضيء، وظلت توسع المسافات في مساحات السماء مع توالي الأيام، رغم أنف فصل الخريف الذي داهمنا منذ أسابيع وحاول فرد ريشاته فوق المكان.

وسامحيني كوني كنت أجهل أن الملائكة يمكن أن تتخفى في زي إنسان.

ولأنني كنت أطمع في الحياة في عناوين دفاترك الرئيسة.

اسمحي لي أن أُلملم شتات نفسي وشظاياها من بين طرقات أيامك ومن على أرصفة شفتيك العذبيتين وضفاف بحار عينيك.

وسامحيني لأنني ربما لم أعشقك بما يكفي لأمنع عنك المرض وأحمي جسدك الجميل منه.

ولأنني كنت أظن أنه مجرد حظ أن أحتضن إمرأة تجمّع فيها كل حسن النساء، وحوت وضمت بين جوانحها أجمل صفاتهن، وأنها كانت خير زوجة وخير أم وخير أخت وخير بنت، خير رفيقة وصديقة وعاشقة ومعشوقة وحبيبة، كما كانت خير جدّة.

ولأنني كنت أظن أنها مجرد صدفة أن تكونين في براءة الرضّع وشقاوة الفتيات وضحكات الينابيع وصبر الأنبياء وجمال الورود وشموخ النسور واختمار النبيذ ورحمة الآلهة.

أرأيت مثل هذا الجهل؟ أرأيت كيف كنت أجهلك ظاناً أنك بشراً مثلنا؟ أرأيت عدم التمييز والجهل الجهول المختبئ في ثنايا رأسي؟

وسامحيني لأنني أهديتك، في مشفاك، وردتين جوريتين في صباحين متتالين دون وعي برمزيتهما  لزفافك كعروس الى طبقات السماء.

ولأنني ما زلت أطمع في أن أعيش على شواطئ عينيك في الجانب الآخر من الحياة.

سامحيني، واعذري جهلي….واسمحي لي بأن أحتفظ بحبك في قلب لا أعرف إلى أي حد سيظل قادراً على حمل هذا الجسد المنهك الحزين، وقادراً على ضخ الحياة فيه في معارج هذه الحياة وطرقاتها.

هنيئاً لك عودتك الى مكانك، في الأعالي، بين الملائكة في جنات الخلد وبين حقول السماء.

هنيئاً لك تغريد العصافير وحفيف أوراق الشجر ونسمات الهواء وخرير ماء الجداول في سماء جنتك الجديدة.

وسامحيني من جديد، فقد كنت قد هيأت نفسي لإكمال ما تبقى في العمر من أيام على سواحل عواطفك ودقات قلبك وأمواج صدرك، ولم أكن أفكر يوماً برثاء.

محمد النجار

 

 

 

هنية

عندما سمعت الزغاريد تسبح في الفضاء منطلقة من بيتنا، ويطغى عليها صوت أمي، يتعالى ويرتفع ويتبعثر حبات أرز فوق الرؤوس، أيقنت أن عرساً لأحد أبناء الجيران أو الأقارب أو بناتهما قد اكتمل، ورأيت ،لما إقتربت، حركة غريبة غير معتادة أمام باب منزلنا، وأياد توزع الحلوى أمام الباب، أدركت أن أمراً جللاً قد حصل، ولما رأيت بعض الوجوم على الوجوه وظلت زغاريد أمي تصدح وتتماوج راكبة نسمة هواء داهمت الشارع على حين غرة، وتكسرت على أبواب أذنيّ، مؤكدة أنني لا أتخيل الأمر، بل إنه أمر واقع لا جدال فيه، أيقنت صحة ما توقعت.

كنت عائداً من عملي في ذلك اليوم الصيفي الحارق، أحمل شنطة زوادتي الفارغة، وأحث الخطى في الطريق الطويل الموصل إلى منزلي، وكان الباص الذي قذف بي على رأس الشارع قد أكمل طريقه إلى المحطة الرئيسية في مركز القرية، حيث يلتف حول شجرة التين العملاقة، يستريح من تعب الطريق قليلاً ثم يعود، وأنا طالما رأيت في طول الطريق الترابي هذا، الذي يفصل بيتنا القابع في أعلى التلة عن المحطة في أسفل الوادي، “سراطاً مستقيماً” طويلاً لا يكاد ينتهي، خاصة بعد يوم عمل طويل، أستحث الخطى فيه لأصل إلى منزلي، أستظل بداليتها قبل أن تطل زوجتي “هنية” بوجهها المشرق الباسم، بيدها كأساً من الماء البارد وفي فمها بضع كلمات تعيدهن على مسمعي كل يوم، بعد أن تكون قد أنهت عملها بدورها، في نشاطها التطوعي لمحو أمية مَنْ لم يستطع “فك الخط”، من قريتنا، لهذا السبب أو ذاك.

ـ أوصلت؟!!!

ودون ان تنتظر جواباً تكمل:

ـ الله يعطيك العافية، هيا ارتح قليلاً وقم لتغسل يديك ووجهك، فأكون قد حضّرت لك الطعام.

كانت زوجتي “هنية” حاملاً في شهرها السابع، وكان خوف أمي عليها يكاد يربكني، فلم أعد أستطيع أن “أأمرها” أو أُطالبها بأيما شيء، حيث تتصدى لي أمي وكأنها حماة وليست أماً، ولطالما استفزيتها بعبارتي المتكررة عندما كانت تقف في صف “هنية”، أميل عليها، وقلبي يتدفق فرحاً، وأقول:

ـ لا تنسي يا أمي أنني أنا ابنك وليست “هنية”، خففي عني قليلاً ولو من باب صلة الدم…

وكانت تنهرني وتبتسم، وتظل على موقفها، وتقول أحياناً:

ـ عليك أن تشكر ربك صباح مساء، الذي رزقك بمثل هذه الجوهرة، فليست كل النساء نساء، فمنهن من تفوقن على الشيطان نفسه، لكن هذه المسكينة ملاك متخفي في ثوب إنسان، وها هي لم تبخل عليك فوهبتك إستمرارية الحياة؟

ويحتضن كفها بطن “هنية”، وتأخذ تحركه حركة دائرية، وأرد بدوري:

ـ أنت من وهبتني الحياة ياأمي، و”هنية” زوجتي وليست أمي.

ـ أعرف أنني من وهبتك الحياة ياولد، لكنها وهبتك إمكانية إستمراريتها، فردت أمامك بساط العمر سنوات إضافية إلى الأمام.

تسكت وكأنها عاتبة على قلة فهمي، كي لا أقول غبائي، وتكمل:

ـ الحياة، عند الكثيرين، ليست سوى كم من السنين تمضي مع الأيام وتختفي مع الزمن، تبدأ وتنتهي مثل زهرة، تبرعم وتكبر وتتفتح ثم تذبل وتموت، لكنها تحافظ على البذور لتستمر وتعيش وتنعم بالحياة أكثر، لتنشر رحيق عودها فوق غصون الأشجار، على رؤوس البشر في البيوت والحقول وتحت ظلال الدوالي، البذرة يابني التي تصنع جذراً يغوص في قلب الأرض مثل نصل الفأس الحاد، وينتزع من أحشائها غذاء الغصن والأوراق، وينفخ في الساق عنفوان إقتحام السماء، نعم الأصل هي البذور، والمهم نوع البذرة نفسها، فالبذرة الفاسدة تنغص عليك يومك تماماً كالبيضة الفاسدة، لا تستطيع التخلص من نتانتها بسهولة، أما الجيدة فهي التي ترسل أغصان شجرها مراسيلاً جميلة متهادية نحو النجوم، ألم تسمع بهذه البذور التي طالما علت برأسها نحو الشمس؟!!! فالحياة في نهاية المطاف حرب ضروس متشابكة متتالية، إن لم تحافظ على بذرتها الجيدة فقدتها مرة وإلى الأبد، ورغم ذلك هي شيء واستمراريتها شيء آخر، وإستمرارية الأشياء، دائماً وأبداً هي مَنْ تجعل لها معنى.

كنت أبتسم، أهز برأسي يميناً وشمالاً لأوهمها بعدم قناعتي ب”فلسفتها”، أغادر وأنا أقول على مسامعهما:

ـ لا عجب أن تسميك القرية بالحكيمة، فأحياناً أشعر أنني أمام فيلسوف ولست أمامك ياأمي، ولا أعرف أبسبب التعب  أم بسبب صغر عقلي وجهالته لا أفهمك أحياناً، النتيجة أنك تحرضينها علي ياأمي، من يراك يعتقد أنك لم تحبلين ولم تلدين دستة من الأطفال! ما هكذا تفعل الأمهات!!!

فترد قبل أن أدخل غرفتي المجاورة لغرفتها في بيتنا الريفي:

ـ لهذا السبب بالضبط قلت لك ما قلته، ثم مَنْ قال لك أن الأمهات لا يُخطئن أحياناً؟

وكانت تعني الأخريات وليس نفسها في هذا الأمر على وجه التحديد، وكي أكون صادقاً، فإنني لطالما إعتقدت جازماً أنه لم يجانبها الصواب، فمعظم تعليقاتي لم تكن جادة، بل من باب إستفزازها والمزاح.

“هنية” زوجتي فتاة ريفية بسيطة، مجبولة بالطيبة والعطف والحنان، ترى الحب يشع من عينيها السوداوين، نبع الحنان يتدفق جداول من كل أطرافها ليشكل نهراً يكفي القرية كلها، لم تخالف “أمراً” أو طلباً أو رجاء من أبويّ أو إخوتي حتى الصغير منهم، لا لتتزلف أو تستميل أحداً، بل هكذا هي حتى مع أهل القرية دون تمييز، فصارت بسرعة قياسية إبنة في البيت وصديقة قريبة للجميع، وصرت محسوداً على “هنية”، ولطالما سمعت أدعية العجائز على مسمعي:”الله يبارك له على هيك زوجة ويطرح له البركة”، وهي في ذات الوقت خلية نحل متكاملة، تراها تتقافز بخفة غزال وتتطاير بجمال يمامة وخفتها وسرعتها وهي تتحرك متنقلة من عمل لآخر، لم تأمر أحداً يوماً، كانت تبادر فيتبعنها أخواتي وأخوتي بكل أمور البيت، وكثيراً ما استدعنها بعض الجارات لتساعدهن في بعض الأشياء، فتترك ما بيدها وتستأذن أمي وتذهب، وسرعان ما تعود لتكمل ما كانت تقوم به، وكان يجن جنونها إن رأت أمي تجهد نفسها، فتأخذ من يدها العمل وتنهاها عن التعب، وتقول:

ـ ألا يكفي كل ما تعبت في حياتك؟ ألم يحن الوقت كي ترتاحي قليلاً؟ ألا تريننا “مصفطين مثل أباريق الجامع”؟ لا بورك فينا إن تركناك تعملين ونحن جالسين ننظر بعيوننا إلى تعبك المتواصل.

حتى حديقة المنزل كانت تسقي شجيرات الخضار فيها، لم تنس يوماً أن تفعل ذلك، لكن ظل على رأس أولوياتها، وردة الجوري الحمراء التي كانت تعتني بها أكثر من بقية الشجيرات الأخرى.

“هنية” ظلت تحب الورد والأطفال والخضرة والحياة، وأهم ما يميزها ابتسامتها التي لم تتنازل عنها يوماً، ولم تنسها مرة خلفها، ولا تعبت من حملها فوق شفتيها، بل ظلت تحملها في كل حركاتها وتنقلاتها وعملها، تفردها على صفحة وجهها منذ سويعات الصباح، فما أن تتفتح عينها مع شروق شمس الصباح حتى تتفتح ابتسامتها مع تفتح وردات الجوري التي تفرد أوراقها عرايا تحت شعاعات الشمس، بعد أن تكون قد أكملت إغتسالها في بحر من حبيبات الندى، فتنشر رحيقها حباً وسعادة وحياة في البيت كله، وتُبقي عطرها سابحاً مخيماً في مساحات البيت، تجول وتتطاير مع أبتسامة وحركات زوجتي “هنية” حتى ينام البيت كله، ولا أذكر مرة واحدة نامت فيها “هنية” قبل أن ينام البيت قبل هذا اليوم.

ما أثار فضولي أنني لم أسمع زغرودتها هي أيضاً، وأنا ما زلت أمشي صاعدا الطريق الجبلي نحو البيت، واستهجنت زغاريد أمي دون “هنية”، واستغربت أكثر عندما لم أرها تتأبط ذراعها في مثل هذا العرس، حتى أنني لم أفكر لحظة بأن أبواي لم يخبراني بزفاف أي من إخوتي أو اخواتي أو أقاربي وجيراني، فما هكذا يتزوج الشباب، ولا هكذا ترتفع رايات الأعراس في القرية، وظل عقلي سارحا في شتى الأحتمالات حتى بدأ الناس يداهمون عقلي ويغتصبون يدي قائلين:

ـ شكر الله سعيكم!!!

ورددت دون وعي:

ـ عظم الله أجركم

وكدت أسأل:

ـ بمن؟!!!

وقال بعضهم معزياً:

ـ اللي خلف ما مات.

وعلى حد علمي أنني لم “أخلف” بعد، وأنا الوحيد المتزوج من كل إخوتي وأخواتي، وأبواي كبرا على ذلك، وكنت أنتظر بفارغ الصبر جريان الأيام كي تُفرج “هنية” عما في أحشائها وتجعلني أباً.

ورغم ذلك أسكتتني كلمات الناس، كادت أن تشل قدماي للتقدم نحو البيت خطوة إضافية واحدة، وسرعان ما صرت أرى أفراد أسرتي واحداً بعد الآخر يخرجون من عتبة البيت المشرع  نحوي، تتقدمهم أمي بدموع ثلجية متجمدة ظلت واقفة في حضنيّ جفنيها عازفة على الإنزلاق، رغم زغاريد حنجرتها التي غطت الجبل والبيوت والحقول.

لم يمر على الحدث أكثر من بضع ساعات، كانت دورية لجيش الإحتلال قد إخترقت متاريس القرية الحجرية المتفرقة، حاملة ثلة من المسعربين بثياب عربية، وأقسم شباب قريتنا أن بعضهم من قوات الأمن الفلسطينية الذين ظلوا يمارسون التنسيق الأمني على الأرض، بعد أن قاموا بدور الرقابة بدلاً من جنود الإحتلال على بيت أبو علي، الذي استعصى على الإعتقال أو القتل منذ فترة مطاردته للإحتلال والسلطة، وكان أبو علي يمتاز بحدسه الأمني العالي، غادر بيته، عندما اشتمّ رائحة مكيدة تلتف حول حياته في المكان، تماماً في اللحظات الأخيرة، فغادر بيته صاعداً أعلى الجبل، واختار طريق بيتنا ليختفي عن الأنظار، ولاحقه الجنود والمستعربين وبنادقهم ومسدساتهم في أيديهم، وكان أبو علي أقرب إليهم من مسافة رصاصة في جوف مسدس، ورأتهم أمي وزوجتي هنية وقد اكتشفوا اكتشافه مؤامرتهم، وخرجن ليعطلن خطوات هؤلاء الغرباء، غرباء السلطة وغرباء الإحتلال، ليمنحن المزيد من الزمن لأبي علي للمراوغة، ولقدميه لشد الخطى والإبتعاد عن عيون سلاحهم، فاعترضتا الجنود، وأمسكتا ببعضهم، وصرختا، فخرجن بعض الجارات أيضاً، وفعلن مثلهما، وكأنهن حافظات درس تعلمنه مرة واحدة واستعصى على النسيان، فرجال القرية في الحقول والأعمال، وأطفال القرية في المدرسة اليتيمة التي لم تلفظهم نحو بيوتهم بعد، وصارت المسؤولية كلها على بضعة نساء، وصار التعارك بالأيدي من مسافة صفر، وأبو علي يصعد أعلى وأعلى نحو قمة الجبل، وأمسك أحد المستعربين مسدسه ووجهه إلى قلب أمي التي عبثاً حاول التخلص من قبضات يديها، ورأته زوجتي “هنية”، فهاجمته وأبعدته عن أمي، وكادت تنتزع قوته من بين يديه، سلاحه الذي به يمتلك جرأته، والجندي الذي يحتمي خلف مسدسه أطلق رصاصته إلى صدر زوجتي “هنية” العزلاء، ليثبت أنه من الجيش الذي لا يُقهر، فرمتها وجنينها تماماً في حضن أمي.

إخترقت الرصاصة صدر “هنية”، لكنها لم تمت، بل شعرت بسكين متوهج الحرارة، أنزلوه لتوهم من على جمر النار، ينغمس في صدرها، يغوص عميقاً مفتتاً صدرها الجميل نتفاً، ولما رأت نفسها في حضن أمي أمسكت كف أمي واقتربت بها من بطنها، وأتمنتها عليه، وبصعوبة تلفظت ببضع كلمات:

ـ ديري بالك عليها ياأمي…

وكأنها تعرف جنس مافي بطنها، وأمام تدفق نهر الدم من الثقب الذي أحدثته الرصاصة المتفجرة في صدرها، أخذت تحث الخطى نحو السماء إلى جنات الله، لتعانق الرب وترتمي على صدره الدافئ، خاصة أنه تعلم أن هذا النوع من الرصاص صنعوه خصيصاً للفلسطينيين.

لم تخاطب “هنية” أمي يوماً بحماتي أو عمتي أو إمرأة عمي، فقط بكلمة “أمي”، منذ اللحظة التي خطت عتبة بيتنا إلى اليوم الذي إختارت فراقنا، الأمر الذي جعلها أقرب لقلب أمي من “كِنّة” مطيعة، بل كانت أقرب لبنت من بنات “بطنها” كما كانت تقول، ولمّا حاول الجنود منع نقل جسد “هنية” إلى المشفى في المدينة، حينها بالضبط انهالت كميات من الحجارة فوق رؤوس الجنود والمستعربين لم يعرف أحد كيف أو من أين، صارت سماء القرية تمطر حجارة من الحقول والمدرسة والطرقات، لكن الموقف لم تكن تكفي فيه قوة الحجارة وحدها، فجاءت رصاصات من أعلى الجبل، وانهالت على رؤوس الجنود والمستعربين، وسنت أسنانها المناجل و”صهلت” قادمة من الحقول كخيول عربية أصيلة لا تثنيها الصعاب ولا توقفها أشواك الطريق، وهذا الجيش الذي كان لا يقهر أمام نساء قريتنا وأطفالها العزل، صار يتقافز إلى أسفل الوادي هارباً من أصوات رصاصات أبي علي ومن عيون المناجل وحجارة الأطفال، ولم تتوقف، رغم ذلك، الرصاصات، وظلت تلاحق خطواتهم الجبانة الفارّة، فأدركت القرية أن الجيش الذي كان لا يُقهر صار سرعان ما يُقهر أمام إرادة صلبة وحفنة رصاص، وفي الأعلى، هرّبوا جسد هنية، على الأكتاف، إلى قرية قريبة، ثم إلى مشفى المدينة، وهناك انتزعوا الطفلة من بين طيات الموت التي كانت تتزايد حول عنقها، وحينها فقط ابتسمت هنية وأمالت رأسها باتجاه الشمس وغادرت نحو السماء.

قطعت أمي عهداً على نفسها بأن لا تسمح بأن يناديها أحد بغير “أم هنية”، وأقامت الأحتفالات ووزعت الحلوى إحتفاءً بإرتقاء هنية أبواب السماء، وظلت تقول أن ليس بالإمكان لأي كان الوصول لتلك الأبواب، أو العلو والسمو إلى هذه المنزلة والمهابة ومعانقة الرب، فالرب في الوقت الذي يسعد بإستقبال الشجعان فهو لا يحترم الجبناء، وأكثر ما يغضبه الحشرات عندما تحمل سلاحاً تتمادى به على الأنقياء من خلقه، لذلك كانت زفّة هنية أجمل بكثير من يوم زفافنا، علت فيه صوت الزغاريد وتصاعدت نحو السماء، متمازجة متماوجة مع أصوات العتابا والميجنا ونهر دموع كان قد إنهار من عيون القرية ساقياً الحقل كله، كما يسقيه نبع القرية القادم من أعلى الجبل .

عادت أمي بال”هنيتين” إلى القرية، إنتظروني حتى نزرع إحداهما سوياً في مركز القرية، تحت شجرة الزيتون الرومية المعمرة، فشجر الزيتون تتجدد أغصانه وتزداد إخضراراً أوراقه كلما ارتوى من دماء الشهداء، و”هنية” المولودة الجديدة التي أسمتها أمي على اسم أمها، تبتسم وتتراقص كما يليق بزفة أمها، وأقسم بعض سكان قريتنا، الذين حضروا ولادتها، أن هذه المولودة قديسة في ثياب مولود رغم ولادتها القيسرية “المبتسرة”، ورغم عدم إكتمال شهور حملها، وأنهم شاهدوها بأعينهم، التي سيأكلها الدود، تكاد تمشي على قدميها، وأقسم البعض على سماعها تتحدث وتحث الناس على اللحاق بأبي علي، على صعود الجبال مساكن النسور،  والإقتراب أكثر من حدود السماء، هناك على شواطئ الشمس وضفاف النجوم، وحذرتهم من أن يظلوا كالحشرات التي تختبئ جبنا تحت قشرة الأرض، وأنها أعادت مرات بيت شعر لأبي القاسم الشابي يقول فيه:

“ومن لا يحب صعود الجبال    يعش أبد الدهر بين الحفر”

وأن لا يهابوا الموت كما قال أبو الطيب المتنبي:

“فطعم الموت في أمر حقير   كطعم الموت في أمر عظيم”

وذهب البعض أبعد من ذلك ليؤكدوا أنهم خالوها أو رأوها بأم أعينهم وهي تتأبط سلاحاً بين ذراعيها، وأنهم شاهدوها تتحدث مع أبي علي ويخططان لشيء ما، وأن “هنية” الجديدة التي سرعان ما ستصبح صبية بهية جميلة قوية، كما هي بنت أمها الشهيدة وجدتها الحكيمة، فهي في ذات الوقت بنت جدها القابع في سجون “بني صهيون” منذ ما يزيد عن عقد كامل، وأن من قال بأن “فرخ البط عوام” لم يكذب أبداً.

غرسنا “هنية مثلما نغرس شجرة زيتون في قلب الأرض، ووضعت وردة جورية حمراء على قبر “هنية” إنتزعتها من شجيرتها الجورية، ونهرتني أمي قائلة:

ـ عليك أن تزرع شجرة لتنبت ورداً لا أن تقطف وردة من حضن أمها، إتركها لتنجب بذوراً لتستمر بها حياتها.

قلت:

ـ هنا؟ أأزرع جورية تحت شجرة الزيتون ياأمي؟

قالت:

ـ لا، فهنا ستبرعم “هنية” وتزهر ورداً لم تره قريتنا من قبل، إزرع في أي مكان، ف”هنية” تحب الورد الجوري محمولاً متباهياً فخوراً بين يدي أمه، إزرع واملأ المساحات وردا وقمحا وأملاً وحبا ورصاصاً وزيتون، هكذا فقط تثأر لدماء هنية.

في اليوم التالي، نظرت في عيون “هنية”، كانت عيوناً سوداء بلون الأرض، وبشرة رقيقة جميلة بلون القمح، وبدت لي أنها تريد أن تقول شيئاً، فوجدتني أمسك فأساً في يدي، وصرت أدق قلب الأرض، أنتزع شيئاً من أحشائها لأغرس جورية فيه، أزرع شجيرة هنا وأخرى هناك، لتملأ القرية بعطرها الفواح، و”هنية” تنظر إلي وتبتسم من الأرض ومن السماء.                                                                                                                                         محمد النجار

 

بعض العشق قد يشفي

ظل حنا يجادلني طوال سنوات، بل يدافع عن هجوماتي المتتالية على ” دينه المُحرّف”، يغضب أحياناً ويحزن أياماً ويصمت معظم الأوقات، كان يأتي بالحجج متهادياً مفسراً مؤكداً على صحة معتقداته في أول الأمر، مثلي تماماً وربما أكثر، وكنت عندما تضغطني حججه وتقيدني تفسيراته أقذفه بحديث نبوي من صحيح البخاري أو صحيح مسلم يفقده توازنه ويعيد الأمور إلى بداياتها، وسط ضحكات صديقنا عاهد، ذلك اليساري الذي لم يشارك أينا رأيه أو حججه يوماً، والذي طالما رمى بوجهينا عباراته الناهية، لتضع حداً لعنادنا، وتوقف عباراتنا قبل أن تتحول إلى كريات من كُرْه، تنمو وتكبر ككريات الثلج عندما تتدحرج، فيضحي الكُرْه سيفاً للذبح بيد الدين، ويصير الدين أداة بيد الأعداء، وطريقاً لهم لإختراق جدران البيوت وتفتيت الإخوّة وتقسيمها، ونكون نحن الوسيلة، كذئاب حيناً وخراف حيناً آخر كما قال.

قال لنا ذات يوم:

ـ أنا لا أفهمكما، ماذا يهمكما بماذا يعتقد الآخر، سواء أكان مصيباً أو مخطئاً؟ ماذا يزعجكما في الأمر مادمتما تعتقدان أن الله مَنْ سيبُت بالأمر وليس أيكما؟ ولماذا يؤرقكما الأمر إلى هذه الدرجة؟ ألا تستطيعان النوم وأنتما مختلفان؟

ويتابع بعد أن يسحب نفساً من سيجارته المتقدة إشتعالاً من طرفها البعيد عن فمه:

ـ ألم تتساءلا يوماً كيف تعايش أجدادنا طوال القرون الفائتة؟ كيف جمعهم الحب والوئام والتزاوج وصلات الرحم والقربى؟ ولماذا لم يقم أحد بطرح مثل هذه الخلافات حتى الأمس القريب؟ لماذا بقينا قريبين من بعضنا رغم إختلاف مذاهبنا وطوائفنا وأدياننا ومعتقداتنا؟ لماذا كان ما يجمعنا أضعاف ما يفرقنا؟ ثم من المستفيد من تسعير هذا الخلاف بيننا؟ بل لماذا ممنوع في بلاد من يُحرضوننا، المس بمعتقدات الآخرين مهما كانت، ومطلوب وضروري في بلادنا تسعير هذا الخلاف؟

كنت أرد عليه كعادتي:

ـ أنت يساري ولا تؤمن بما نؤمن، فاتركنا نتحاور في أمور دينينا.

إجاباته كانت حاضرة دائماً، كأنه رتب كلماتها منذ ليال بعد معرفة مسبقة بأقوالي واسئلتي، فكان يقول:

ـ ألا تلاحظان وكأنكما تأتيان من أجل المناكفة فقط؟ لم نعد نتحدث عن أمور أخرى، ولا أدري بماذا يهمك أو يقلكك بماذا يعتقد الآخر؟!!!

كان يجمعنا سوياً عند توجيه ملاحظاته، رغم معرفتنا جميعاً أنني أنا مَنْ كان يلح على مثل تلك الحوارات والأحاديث، يسكت قليلاً ويتابع وكأنه إلتقط فكرة داهمته فجأة كما يلتقط زهرة، ويتابع:

ـ تتغنيان، أنتما الإثنان، بإبداع الله في خلقه، بتنوع هذا الخلق وجمال ألوانه، لكنكما تصران، في ذات الوقت، على فرضية اللون الواحد!!! ألم تدركا بعد أن الله لو اراد الكون لوناً واحداً لكان الأمر عليه أيسر وأسهل؟ لكنه آثر خلق الكون ألواناً متعددة وتضاريس مختلفة وفصول عديدة، فخلق من الحيوانات الآلاف ومن النباتات الملايين وكذلك الحشرات، حتى البشر خلق منهم الأبيض والأسود والأصفر والأحمر وما بينها، والأمر نفسه بالنسبة للديانات، فلو أراد ديناً واحداً لكان له ما أراد، ولجعل منا نسخة كربونية وأنهى الأمر، لكنه أراد ديانات وأفكار ونظريات عديدة ومختلفة.

قلت وقد استفزني حديثه:

ـ لكنك لا تؤمن بكل ذلك، ناهيك عن الإيمان بالله، وأنا لم أرك يوماً تمارس الطقوس الدينية والعبادات.

قال بكل هدوء، وكأن ما قلته لم يستفز شيئاً فيه:

ـ ليس من شأنك بماذا أؤمن أو بمن، وأنا لا أعرف من أعطاك الحق بمراقبة قلوب البشر والحكم عليها أيضاً، والأكيد أن الله لن يُميزك عني كونك تُصلي وأنا لا، فكما أعلم أن الدين معاملة، أليس كذلك؟ ورغم ذلك عليك أن تعرف أن اليساريين لا خلاف لهم مع الله، خلافهم مع مَنْ يستغل الله ويجعل منه أداة استرزاق، مادة يضحك بها على بسطاء الناس، فيحول الخالق من عادل إلى تاجر، خلافهم مع مَنْ يجعل المظلوم يرتاح لظلمه، يستأنس بعبوديته ويستسلم لها، وبدلاً من أن يستنهض الثورة فيه يربطه بحبل الخنوع والإستزلام والذل، منتظراً الموت ليدخل الجنة، ليأكل ويشرب ويمارس الجنس وينام، ليعوض ما ينقصه في الدنيا، بدلاً من أن تكون الجنة مكان الثوار البررة، الذين لم يقبلوا الذل ولا المهانة، الثائرين أول الأمر على “أولي الأمر”، من حكام الظلم والجهالة والفساد، فتكون لهم الجنة ليرتاح الجسد وتهنأ الروح.

الأمر الآخر وكأنك ياصديقي تتناسى أننا، نحن اليساريون، أبناء هذا المجتمع، بإيجابياته وسلبياته، تاريخنا من تاريخه ومستقبلنا من مستقبله، لذلك لطالما روت دماؤنا أرضه، وظل لحمنا على جدران زنازينه، وكنا السباقين في الحوض عن كرامته، فهل تُنكر؟

حواراتنا تلك جردت علاقة صداقتنا من قوتها، فوهن عودها وضعفت أوراقها وتساقطت ويبس ساقها، وصارت لا تحتاج إلّا لمن يهز جذرها ويقتلعها من جذورها، فتباعدت لقاءاتنا وصارت تعتمد على المصادفات، وسرعان ما صرنا نتجنب حتى تلك المصادفات كي لا نحرج أنفسنا، الأمر الذي جعلني أعيد الأمور برأسي مجدداً، فوجدت أنني أنا من كان يختلق الحوارات، وأن حنّا كان في معظم أوقاته مدافعاً وليس مهاجماً، ورأيتني أخال نفسي كرجل مدجج بالسلاح يهاجم إنساناً أعزلاً، ورغم كل محاولات تبريراتي رأيتني لا أستطيع الإجابة على سؤال عاهد الجوهري:

ـ ما الذي يقلقني ويريبكني ويضج مضجعي في إيمان حنا ودينه، سواء أكان صحيحاً أم لا؟ وكيف استطعت التدخل في صلاحيات الخالق؟ ومن الذي أعطاني هذا الحق؟

لكن وكما يقول المأثور الشعبي أن ” الكُفْر عناد”، فإنني رأيت في تراجعي ضعفاً وفي إعتذاري هواناً، وفضلت بتر العلاقة على الإعتراف بذنبي، وعليه قررت مع نفسي أن لا أتراجع قيد أُنملة حتى لو افترقت طرقنا وتشظت علاقتنا في الهواء نتفاً.

أحداث واقعنا ظلت كالعادة تجعل للطرق المتباعدة تقاطعات لا يعرف أحد كيف جاءت ولا من أين، وصرت أشاهدهما سوياً جيئة وذهاباً، وكنت أعلم أن سر قربهما أنهما لا يتناقشان ولا يتجادلان في المعتقدات، أو المحرمات كما أسماها عاهد، تماماً كما كنا سابقاً قبل أن تقتحمني مشاعر الكُرْه التي لم أعهد لها مثيلاً في حياتي أبداً، أو مشاعر “عشق اللون الواحد” كما سماها عاهد، وأضاف:

ـ حتى أنك لم تحسن إختيار اللون، فاخترت الأسود الدامي الذي لا شفاء منه دون نفي الآخر والقضاء عليه، وصولاً للقضاء على الذات أيضاً.

كنت أذهب للصلاة في الأقصى عندما أغلقه “بني صهيون” في وجوه المصلين، وكنت أرى نفسي كالأعراب “أشد كفراً ونفاقاً” لو لم أفعل ذلك، ولم أتخيل مسلماً مؤمناً لا يحوض عن أحد أقدس المقدسات الإسلامية، المسجد الأقصى، وكان الجند يمنعوننا ويهاجموننا بكل ما لديهم من عدوان وكراهية، فكنا نتجمع ونصلي على أبواب البلدة القديمة، على باب الأسباط وباب الخليل وباب الساهرة، وعلى مدخل باب العامود ودرجاته، وفي طرقات القدس القديمة القريبة من ساحات المسجد الأقصى، وأحياناً على باب كنيسة القيامة نفسها، والجند يحيطون بنا من كل جانب، وكنا نتكاثر على أبواب كل صلاة، بل ودون مواعيد الصلوات، ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم، وكلما زادت أعدادنا تصاعدت في دواخلنا طاقات لم نعهدها من قبل، وتزايدت قناعتنا بحتمية إنتصارنا، الأمر الذي كان يمدنا بطاقة جديدة متجددة لم نعهدها من قبل، فكنت أحمد الله على “نعمة الإسلام” التي أنعم بها علينا، وتجليها بهذه الزيادة البشرية المستمرة، حيث الناس نهر متدفق متتابع، يزداد في كل لحظة وكأن أمطار الدنيا تصب في مجراه وحده، وتوسع نبعه وتدفقت مياهه لتغطي ساحات القدس جميعها وشورعها وأزقتها.

كنت قد تهيأت للصلاة في باب الأسباط، بعد أن وصلت متأخراً قليلاً بسبب حواجز قوات الإحتلال، وتفاجأت بهما الإثنان، حنا وعاهد، يصطفان مع بقية المصلين، حنا يحمل صليبه وكتابه المقدس، يقوم بشعائره وسط صفوف المسلمين، يقرأ في سره من الكتاب وتقوم يداه بالتصليب، وعاهد يسجد ويركع ويصلي كالبقية، كدت أكذب نفسي، وأتهم عيني بالعمى، وخجلت لأعيد النظر مرة أخرى نحوهما، وصليت وركعت وسجدت وأنا مشغول البال سارح الذهن، ولا أعرف إن كان الله سيقبل صلاتي تلك أم يرفضها لكثرة ما تشابكت في رأسي التساؤلات والأفكار، ولم ينقذني من أفكار رأسي سوى قنبلة غاز انفجرت بين يدي وأنا أهم للسجود، فأوقفتْ سجودي وأفكاري وأغرقتْني في بحر من السعال حتى الإغماء، أفقت بعدها بوقت لا أعرف مدته على بصلة فلقها عاهد بيديه القويتين ووضعها على أبواب أنفي، وأنا أريح رأسي بين يدي حنّا، لا أعرف الشعور الذي داهمني، كانت تتدفق دموعي كينبوع، ليس بفعل الغاز وحده الذي داهمهما قبل حين، ومرت حواراتي العقيمة كلها دفعة واحدة أمام وجهي، أليس هذا الذي عاديته بسبب دينه؟ أليس ذلك الذي قاطعته بسبب معتقداته؟ وما هي ميزتي عنهما؟ ومن يعلم إن كنت أقرب منهما إلى الله؟ وقلت سائلاً:

ـ أنتما؟!!!

قال أحدهما، ولم أميز صوت مَنْ منهما بالضبط:

ـ أكنت تعتقد أن الوطن لك وحدك؟ دينك ومعتقدك لك، لكن الوطن لنا جميعاً.

ولا أعرف ما الذي ذكرني ببعض كلمات عاهد البعيدة، عندما كان يكرر:

ـ إن العشق ياعزيزي إله، إله واسع الأفق ورب كبير، يحب القمح والربيع والألوان والزهور على إختلاف ألوانها، وأكثر من ذلك يمنح الحياة، ولمّا تستعصي قدماك عن حمل سنوات عمرك أكثر، وتتيبس العروق في جسدك، وتضيق على دمك الطرق والأزقة ليصل لكامل أنحاء جسدك، فيبهت الجسد ويصفر لونه كأوراق شجرة في طريقها إلى الإنتحار، يمنحك السكينة والهدوء والطمأنينة، ويحملك على أكتافه ليمنحك حياة متجددة أخرى.

كان يتحدث سارحاً بعيداً متأملاً في ملكوته الخاص، عيناه تنظران وراء الأفق، ويتابع قائلاً:

ـ كل ذلك مشروط بأن تكون عاشقاً… فهل تفعل؟

وسرعان ما صحح له حنا:

ـ تقصد فهل تقدر؟

حملاني إلى خارج الإزدحام، ابتعدا عن دوريات الجيش التي ظلت تعتقل الجرحى وتنهال بالعصي على كبار السن كونهم لا يستطيعون ذلك مع الشباب الذي ظل يزداد تصميماً، وحجارته تهزم رصاصاتهم، وكنت أتساءل دون صوت، كم من هؤلاء لا أعرفهم بين جموع المصلين لا يحملون إنجيلاً ولا يبوحون بمعتقدات؟ وكيف استطعت الحكم على هؤلاء الناس ومعاداتهم؟ وأدركت حينه بالذات أن الله أنعم على كل منا بدينه أو بمعتقده أو بمذهبه، بغض النظر عن ماهيته، لكن ظل سؤال متمرد يقف أمامي مثل مارد متحدياً:

ـ هل كنت سأدافع عن “كنيسة حنّا” لو تعرضت للخطر؟!!! وهل كنا سنفتح مساجدنا ليقرعوا منها أجراسهم كما فتحوا لنا أبواب كنائسهم للآذان وإقامة صلواتنا وطقوسنا الدينية؟

ولاحقتني الأسئلة وتابعتني، ووجدتني لا أستطيع التخلص منها وهي تدق جدران جمجمتي، ووقف أمام عيني السؤال الأكثر خطراً ومباشرة ينتظر جواباً:

ـ هل كنت أستطيع حمل السلاح في وجه صديقيّ حنا وعاهد، بسبب دين أحدهما ومعتقدات الآخر، في ظرف مختلف؟

أربكني الأمر إلى درجة الشلل، فعجز لساني عن النطق، وكبّلتْ عقلي أصفاداً من حديد، ولأول مرة أشعر بثقل القيد على العقل واللسان، وحاولت مطاردة السؤال وإبعاده الى الجحيم بعيداً، لكنه ظل يزنّ في تلافيف رأسي مثل ذبابة لا تهدأ، تغيب وتغيب لتعود وتحط على ذات المكان، ولأول مرة أفشل في طرد سؤال يلاحقني ويطاردني مثل بضعة جنود، مدججين بالسلاح، يحيطون بي من كل جانب ومكان، في تلك اللحظة بالذات أدركت كم أنا بحاجة لبعض العشق، وأن بعض العشق قد يشفي.

إلتقينا بعد ذلك، كنت قد بدأت أعود إلى ذاتي، ويعود إليّ صوابي، ووجدتني أقتحم عليهما وحدتهما، أعبث بخلوتهما وأرميها بعيداً، تماماً كما كان يفعل كل منا من قبل، ولم أتركهما اثنين قط، بل زرعت نفسي معهما لنصير ثلاثة، مدركاً أنه حتى “الموت مع الجماعة رحمة”، وأن الجمع مهما كان قليلاً يبقى جمعاً، وهو، في معظم الحالات، خير من المثنى وربما أجمل.

محمد النجار

أبعد من الحياة

أقول لك مقسماً أنني لا أعرف السبب وراء ترددي وتكرار ذهابي، لكنها ربما رتابة الحياة، بؤسها، شقاؤها، أو مجرد حق الجيرة، هي التي كانت تحملني وتوصلني لبيت الحاج عمران وزوجته الحاجة مريم، أو إلى “المضافة” كما يسميه سكان المخيم، أو الكثير ممن كانوا يتقولون في غيابه، فيسأل بعضهم بعضاً:

ـ أذاهب إلى الديوان اليوم؟

ورغم ذلك لم يقصد أيهم الإساءة لاسمح الله، بل كله من باب الفكاهة التي ميزت سكان مخيمنا، وكنت أُكثر من الترداد، ليس لإضاعة الوقت طبعاً، فمقهى المخيم أوسع بكثير وأكثر رحابة، بل أظنني كنت أذهب طرباً لسماع كلماتهما في الحياة وعنها، فالحكمة يمتلكها بعض الناس كهولاً، فتجد نفسك أمام كنز ثمين لمّا يفتحا خزائن أسرارها، وتصير الجواهر تتناثر من شفتيهما حتى تملأ البيت كله، ولك أن تغرف منها ما طاب لك دون مساءلة أو حساب، فتجدني وقد جلست فاتحاً فمي مُرخياً أذني للملمة كل ما يتناثر من بين شفتيهما.

ورغم أنهما لمّا يصلا يوماً لصحاري المملكة ولم يغرقا في جهنم صيفها، بل لم يعبرا أكثر من نهر الأردن طوال حياتهما، أصر الناس على إلباسهما ثوب الحج، ربما لتوالي تدحرج السنوات فوق كتفيهما دون توقف، أو من باب إحترام الكبير الذي تعودنا عليه، وربما لأشياء أخرى لا أعرفها.

الحاج عمران وزوجته، وإن كانت لا تخرج “القبيحة” من فم أي منهما، لأي شأن أو إنسان، فقد كانت تخرج “القبيحة والأقبح” منها، منهما معاً عندما يتعلق الأمر بحكام العرب، وأقبح القبائح عندما يأتي الأمر على القيادة الفلسطينية، فكان طبيعياً جداً أن تسمع بعض الكلمات النابية التي لا تروق للمسحجين والواقفين مادّين أعناقهم بإنتظار مخالي العلف، والذين إمتنعوا بمحض إرادتهم عن التردد على البيت ـ المضافة، خوفاً من أن تحوم فوق رؤوسهم شهبات المعارضة، فيصبحوا على زياراتهم نادمين، ولمّا سألته ذات يوم عن سر غضبه هذا على “معشر الزعامات”، رغم الهدوء الذي يغمره فيما تبقى من شئون، قال:

ـ لا مجال للمهادنة يابني عندما يتعلق الأمر بمستقبل الأوطان.

وقالت هي، بالأمس بالذات، عندما رأت الرئيس، يبعث بباقات الورد الحزين لهم، من على صفحة تلفازهما القديم، ودموع الأسى تنهال من تحت جفونه شلالاً، وتنزلق الكلمات الغاضبة من خلف أسنانه على المنفذين، مواسياً حكومتهم معتذراً لها عن عملية الأمس الفدائية، واصفاً الشبان الذين حاولوا من خلالها إعادة الأمور إلى طبيعتها قبل أن يصعدوا نحو السماء، بالإرهابيين، دون أن يرف له جفن:

ـ “يا شايف الزول يا خايب الرجا”، يبقى النذل نذلاً، هؤلاء حسموا أمرهم، و”ذيل الكلب لن يعتدل حتى لو وضعته بألف قالب”.

بالنسبة لي، ما قالاه الإثنان كله سياسة، ومهما تعددت الأسباب واختلفت التسميات تظل السياسة خادعة خطرة ملعونة، تسقي الذل وتجلب المعضلات وتذهب بالحياة، وأنا بطبعي أحب الحياة وأقبل عليها مثل النحلة على رحيق زهرة، بقدر كرهي للسياسة والسياسيين، خاصة بعدما استقرت رصاصة في رأس أخي صالح أثناء مشاركته في إحدى المظاهرات، فدثّرناه بالعلم وحملناه على الأكتاف وأهلنا التراب فوق شبابه اليافع، وغيّب السجن أخي حسن منذ سنتين ولسنين طويلة قادمة، والأهم كوني رأيت بأم عيني كيف أحضرت قيادتنا معها “الموبيقات” كلها منذ قدومها، على حين غرة، فوق أجنحة “أوسلو”، ودلقتها مياهاً قذرة فوق البلد والناس، فحولت الوطن إلى مبغى بإشرافها وتحت قيادتها، وجعلت من البلاد إقطاعيات لها تُباع وتُشترى تحت ذرائع ومسميات شتّى، وصارت الوطنية لباس ذئب لمهاجمة كل معترض، وتغير إتجاه مجرى نهر الدم إلى جيوبهم مالاً، فصارت الأرض تُهرّب “لليهود” من خلال جماعتهم الموزعين في كل الأماكن الحساسة، بما فيها بعض رجالات الدين عرباً وأجانب، أو عبر القادة أنفسهم الذين يستبدلون الأراضي من أ إلى ب إلى ج، أو من خلال سماسرة أو عملاء يتبوأون أعلى المراكز بين صفوف السلطة، ضمن صفقة إتفاق بينهم وبين السلطة، وكلمّا فتحت عيني أكثر رأيت كيف يتساقط بعض من كانوا مناضلين كأوراق الخريف أكثر في سراديب التنسيق الأمني، وصاروا عبيداً لمعاشات المحتل وعلف الصحراء، أو لفتاوى شيوخ القهر والجهل والتحريم على حساب الناس والوطن، لذلك ربما وجدتني صرت أنتشي عندما أسمعهما يقذفان الحكام والسلطة بأشد العبارات قبحاً، ولما كانت الحاجة مريم تراني فارغ الفيه منتشياً، كانت تستل لسانها السليط وتقول له مشيرة نحوي دون حياء:

ـ شوف… شوف كيف فاتح “تمه وراخي بيضه”.

وتتوجه نحوي مقتربة من أذني مكملة:

ـ اعمل شيئاً ينتفع به الناس بدلاً من فتح فمك “على الغارب” هكذا؟

ويكمل هو متحدثاً بالعام ودون تخصيص:

ـ الله لم يخلق الفم “لزلط” الطعام فقط، وإلا لكان خلقنا مثل باقي البهائم، ولسانك يابن آدم “حصانك، إن صنته صانك، وإن خنته خانك”، فصُنْه عن جلد الناس، واجلد به من يستحق الجلد، ولا تُبقه نائماً في فمك منبطحاً مستسلماً مقهوراً صامتاً، ممنوعاً من قول كلمة الحق خوفاً و جبناً أو طمعاً، فالحياة واحدة والرب واحد، و”لن يخلع الرأس إلا مَنْ ركبه”.

وسكت قليلاً قبل أن يكمل ما بدأه:

ـ إن خفت أن يخذلك لسانك ويظل متقاعساً عن جلد مَنْ يستحق الجلد، إقتلعه وارمه بعيداً، فذلك أشرف بكثير، فكر دائماً بماذا ستفعل ليوم غد.

ولما كنت أغمز من وضعهما بكلمتين وبسمة هازئة من فمي معلقاً:

ـ أعمل ماذا ياحاج عمران؟ ثم أعمل لماذا؟ ألا ترى كيف يبيع البعض الأوطان والبعض الآخر يبيع مناضليه ويتركهم لمصيرهم؟ ألست مثالاً أمامنا؟

وكان يرد علي مدافعاً قائلاً رغم كل الذي أصابه:

ـ لكن من تقصدهم لم يبيعوا وطناً، وهم ليسوا ملائكة على أي حال.

وكنت أرد وكأنني في جدال علي إثبات وجهة نظري من خلاله:

ـ ربما لم يبيعوا الوطن لأنهم لم يمتلكوا حرية التصرف فيه كالآخرين؟

قال حينئذٍ وقد قطب حاجبيه غاضباً:

ـ ربما لدى الجميع أخطاءً، لكن لا تُفلسف عجزك وتبرر قعودك باتهام الناس، فليس الجميع مثل هذه السلطة العاجزة البائسة، والمأثور الشعبي يقول “إن خِلَتْ بِلَتْ”، ولن تَخْلى قضيتنا أبداً من المدافعين عنها والذائدين عن حياضها أفراداً وأحزاباً وجماعات، ونهر الدم لن يتوقف عن سقايتها، رغم كل محاولاتهم لتحويل مجراه، وهؤلاء “طلعوا أم نزلوا” يبقون أفراداً سيبصق عليهم الشعب ويغيبهم التاريخ في مزابله، سواء من باع القضية أو باع الشعب أو تخلّى عن المناضليين، لكن لن يتم ذلك بغير العمل الجاد الدؤوب المتواصل، من الجميع، أتفهمني؟ الجميع ما أمكن ذلك.

كنت أعرف أنه رجل “مُكابر”، وأنه لن يعترف بمرارة تاريخه أمام شاب مثلي، ولا كيف رموه خارجهم دون وجه حق، وكيف ظل سنوات يعتاش على كرت وكالة الغوث، بعد أن كان عاجزاً عن العمل بسبب بطاقته الخضراء، يستغني مجبراً عن بعض أجزائه فيبيعها ليشتري بعض حاجات أخرى، فمرة يبيع الأرز ومرة جزءاً من الطحين وثالثة بعضاً من الزيت ليشتري مكانها مادتي الشاي والزعتر، التي كانت أهم مقومات بقائهما، حتى صار يتردد عليه أصدقاؤه من المخيم، وبعض أفراد عائلته، حاملين معهم بعض الضروريات، حالّين بذلك، لبعض الوقت، أزمته تلك، وظل الأمر كذلك حتى وجد له بعض الأصدقاء عملاً في توزيع القهوة والشاي على العاملين في مكتب لوكالة الغوث.

وظل الحاج عمران صلب الرأس كصخر جبال جبل النار في تلك الظروف بالذات، ولم يتنازل قيد أُنملة عن أيما فكرة أو رأي طالما كان يتعلق الأمر بالمبادئ، وطالما تذكر سنوات السجن وتمناها في ظروفه تلك، وكم رافق الجوع معتصراً معدته كي تتوقف عن الصراخ، ورغم ذلك ظل تفكيره منصباً على الحاجة مريم، زوجته، التي لا تشكو ولا تنبس ببنة شفة، كي لا تزيد بؤسه بؤساً وحزنه غضباً وكفراً، معتبراً نفسه السبب في بؤس حياتها، وأنه هو نفسه العذاب الذي يأكلها وتحاول جاهدة إخفاء آلامه.

وقيل أن الحاجّين عاشا قصة حب نادرة، حب إلى درجة الهوس أو الجنون وفقدان البوصلة، الأمر الذي عارضه الحاج ونفاه، و أسماه حباً طبيعياً “غير منقوص”، حب إتجاه بوصلته واضحة لا لبس فيها ولا عَمَيان بصر أو بصيرة، بل ظل يؤكد أن لا حب دون وضوح الرؤى، وأن الحب ،كباقي الأشياء في هذه الحياة، لا يبقى على حاله، لأن في جموده الموت، بل يكبر ويتمدد ويتفرع، ليغطي الأرض والسحاب وأركان السماء، فيزهر ويورق ويبرعم، ويلد الورد والعطر والقمح والربيع والحياة، تسقيه أنهر الأرض وينابيع السماء، فيسمو ويكبر ويزهر ويثمر عشقاً، ونحن لسنا أكثر من اثنين من العشاق لا أكثر ولا أقل.

كما أنهما لم يُرزقا بأطفال طوال حياتهما، وقيل أن الحاج عمران رفض الزواج بغيرها أو “تسريحها”، بل رفض حتى نقاش الأمر خارج نطاقهما وحدهما، واكثر من ذلك، قال بعض أترابه، أنه إدعى أن “العيب فيه هو وليس فيها”، ليحميها من كلام الفضوليين، وليوقف تكرار جَلْدها بألسنتهم الحادة، رغم أنه وضع نفسه لقمة صائغة جاهزة لهم، ليلوكون لحمه ويمضغونه طويلاً، ورغم ذلك، فهو يحمد الله ويشكره على تحملها له، فأي إمرأة ترتضي الحياة مع زوج دون أطفال كما ظل يردد؟ رغم أن الجميع كان يعتقد غير ذلك، ولمّا تقوَّل البعض أن الحياة دون أطفال ليست سوى صحراء جرداء قاحلة خالية من المطر والشجر، أكد هو الموضوع ولم ينفه، وقال :

ـ هذا صحيح، وهل تعتقدون أنني لم أنجب؟ هل هناك بيت واحد في كل المخيم يعج بالحياة مثل بيتي؟ ومن كل الأجيال أيضاً.

وهكذا كان، لم يخل بيته يوماً من الناس، بل كان يتفوق على عدد سكان مسجد المخيم في الكثير من الأحيان، وإن كان الناس يصلون في المسجد وسرعان ما يغادرونه، فكانوا في الوقت نفسه يستصعبون مغادرة بيته، فيبقون ويسهرون ويتسامرون ويتحاورون ويشتمون السلطة والحكومات حتى آخر الليل، حتى أن المقهى الوحيد في المخيم كان يغلق أبوابه قبل أن تنام عيونهم وفوانيس بيته، والأمر الغريب أو حتى الأكثر غرابه أنه لم “يجُظ” أو يشكُ يوماً، بل وكأن الأمر على قلبه “أحلى من العسل” كما كان يقول، ويشعرك في كل الأحيان أنه متأسف على مغادرتك.

وظلا كل منهما سنداً للآخر، مترافقان في المنزل والسوق والطريق، لا يكاد أن يرى الرائي أحدهما دون الآخر، إلا في سنوات سجنه قبل بضعة عقود من الآن، حين لم تنقطع عن زياراته أبداً، ولم يمنعها لا مرض ولا حر صيف أو برد شتاء، إلا حين كان الإحتلال يجبرها على الغياب ويمنعها بشتى الأعذار، أو يتأخر “باص الصليب الأحمر” عن الحضور، حين لم تكن تملك أجرة الطريق، فتجدها حائرة مشغولة القلب حائرة، تفرك أصابع يديها وكأنها، للتو، فاقدة لعزيز، حتى يحين موعد الزيارة القادمة، فتجد أساريرها تنفرج، وتعود الحياة لمحياها من جديد، وفي كل زيارة كانت تسند والديه، ولا تنسى أدويتهما ورغيفي خبز وبعض المياه لتسند بها رمقهما، وتطرد هجومات العطش المتكررة على العجوزين طوال ساعات النهار.

في كل تلك السنوات لم تشْكُ له شيئاً، بل ظلت تدعي أنها ووالديه بأحسن حال ولا ينقصهم أيما شيء، رغم أنها لم يصلها مساعدة ولو مرة واحدة من أحد، ومن رفاق دربه على وجه التحديد، ولم تكن تملك أجرة الوصول لمكتب الأسرى القابع في عمان، في ذلك الوقت، لتأخذ له حقوقه من “نادي الأسير، ولما ألح عليها يوماً مُحرجاً بإحضار زجاجة من زيت الزيتون ليكون على قدم واحدة مع باقي الرفاق، خجلت أن تقول له أن ما يصل له ولرفاقه هو من التبرعات، وأن زوجات رفاقه يمنعونه عنها، يوزعنه على بعضهن ويطالبنها بشراء حصتها، ولا تعرف لماذا، رغم أنها لم تتوانَ يوماً عن القيام بكل ما يطلبنه منها، واحضرت له ما كان أهلها قد أحضروه لها من باب المساعدة، ولم يعلم بالأمر إلا بعد ذلك بسنوات، لكنه لم يعرف هو أيضاً، حتى هذه اللحظات، السبب الكامن خلف تعاملهم معه أو تعاملهن معها حتى هذه اللحظات.

لم يخجل الحاج يوماً من مساعدتها في أمور البيت، من طبخ وكنس وتنظيف، وفي الوقت الذي عاب الكثيرون الأمر عليه، صاروا يرون الأمر عادياً جداً بعد ذلك، ولما صرن نسوة المخيم يشرن له بالبنان كمثال لرجل حقيقي، وقمن بثورات في بيوتهن، صار الكثير من الرجال يتبعوا خطواته وإن كانوا في البدايات مُجبرين، فأقل كلمة كانت تخرج من أفواههن لبعولهن عندما يتذرعون بأن هذا ليس عملاً لرجال، كن يسألونهم قائلات ثائرات:

ـ وهل أنتم أكثر رجولة من الحاج عمران؟

واحياناً يستعملن كلماته رصاصات في وجوههم:

ـ ليس من الرجولة بشيء أن تترك زوجتك تقوم بشئون البيت وأنت جالس، مثل شوال، تتفرج على تعبها، إنه استغلال مقيت وليس رجولة.

بماذا سأخبرك بعد؟ فأنا أرى أن الموضوع استثار فضولك، على أية حال سأقول لك كل ما أتذكره عن هذين الزوجين، فأنا وحدي لن أستطيع الإحاطة بهما، وصدقني لو قلت لك أن المخيم كله غير قادر على ذلك وحده.

يقول بعض أترابه أنهما تعارفا من “خلال لجان العمل التطوعي” الذي كانا من مؤسسيه في السبعينات، وأنهما بمحض الصدفة تشاركا في جَدِّ نفس شجرة زيتون لأحد الفلاحين الفقراء، وتقابلت عيونهما في منتصف الطريق لمّا نظر كل منهما ليرى زميله، فتوقفت عن رؤية أي شيء آخر للحظات، وساد الجمود والسكون والهرج الصامت كل شيء محيط، وتوقفت للحظات الأرض عن الدوران، وسكن الجسدان وتوقفا في مكانهما دون حراك، حالة من التجمد اللحظي سكنتهما فأصبحا صنمين في هيئة بشر، وعلا ضجيج قلبيهما حتى كاد أن يكشف أمرهما، فكأنهما صنمان بقلوب عامرة حية، وعادت الأرض إلى حركتها، وتفلّت شيئاً من بين شفتيها، وبعد جهد وطول محاولة ولدت ابنتسامتها، ابتسامة أمام نهر من الدم كان قد تجمد في عروقه، فحركت النهر وفاض على وجهه وكساه بحمرة الخجل مثل فتاة، فعادت لجسده الحياة، وظلت ابتسامتها معلقة مجمدة فوق وجهها، قبل أن تبتلعها وتخفي ملامحها، لكنها كانت دون أن تدري قد شجعته على الكلام، فهمس بشيء من صدره، وحياها بحركة من رأسه، تلقفتها وردت التحية بمثلها في ذات اللحظة، وتابعت أيديهما الحركة والعمل، وظللت خجلهما شجرة الزيتون، ووفرت لهما غطاء من العيون المتلصصة، فعادت النظرات بجرأة أكبر، وتمادت وتكررت وتشابكت وتعانقت وصار من الصعب عودتها إلى مكانها، ولا حتى فك نسيج خيوطها، وسرعان ما صارا ينتظران يوم الجمعة ليترايا في عمل تطوعي جديد، وعبثاً كانت تحاول إخفاء إرتباك جسدها، أو حتى لملمة انتفاضتة، ومرات شعرت أن قلبها ينتفض متفلتاً لمغادرة الجسد، وأنها تكاد أن تفشل في تهدأته وإرجاعه الى مكانه، وصارا يقرآن لتكون لمشاركتهما معنى في الحوارات الثقافية المعقودة على هامش العمل، وربما ليُري كل منهما الآخر أن الرأس الذي بين كتفيه ليس فارغاً، وأن لديه ما يقوله ويختزنه، وفي يوم ما، على بعد سنة، أخبرها بمكنون قلبه الذي كانت تعرفه، لكنها شعرت بسعادة رغم ذلك، وصارا يتقابلان في المكتبة العامة، يقرآن ويتناقشان مع الآخرين، ويسترقان بعض ساعات للتمشي في الشوارع اليقظة، والتي لم تخبر أحداً عن أسرارهما شيئاً، ولم يكونا قد أدركا بعد أن العمل التطوعي يمكن أن يُحرض دورية الجيش ومخابراته عليه ويرشدهم إلى بيته، إلا عندما رأى تلك الدورية أو مشابهة لها تقرع بعنف باب منزله، ولن ينسى الحاج عمران ماذا قال له ضابط التحقيق حينئذٍ:

ـ مَنْ لديه الإستعداد لخدمة الناس والمجتمع تطوعاً في الكنس والمسح وجدّ الزيتون، بالتأكيد سيجد لنفسه متسعاً لعمل أشياء أخرى لخدمتهم، أكثر خطورة وبالكثير من السريّة.

حاكموه سنتين أو ثلاث، لا أعرف بالضبط، الأمر الذي عمّق في صدره إيماناً لم يكن بهذا القدر من قبل، ولما خرج لم يفكر بالجلوس جانباً، وكأنه يحث الخطى على الرجوع إلى السجن، ولما حذره البعض لمخاطر ما يقوم به، قال:

ـ ما دام لا طريق للعودة إلا عبر الرجوع للسجن، فليكن الرجوع، فهذا أضعف الإيمان.

ومنهم مَن فهم ومنهم مَنْ لم يفهم مقصده، لكنه رجع محكوماً بسنوات طوال، مات أبويه دون أن يراهما، وكانت هي الحاجة مريم من قامت بواجب دفنهما كما قامت بواجب رعايتهما في حياتهما، وتابعت مهنة التطريز لتعتاش في سنوات غيابه.

مرت على كل ذلك سنوات وعقود، وصار المخيم يظل يجتمع في بيتهما، وكان نتاج عملهما يقدمانه سعداء للمخيم وأهله، ولم يعرف أحد لماذا تخلّى عنه أقرب رفاقه إليه، حتى هو نفسه لم يعرف ذلك، لكن بعض المخيم يقسم أن الموضوع موضوع مصالح، وأنه كان ضد “أوسلو وجماعتها” وبعضهم دخلوه بأرجلهم بطرق وأساليب مختلفة، ووظفوا معارضتهم في خدمة مصالحهم، وأكد هذا البعض، أن المصالح عندما تتعارض لا يبقى للعلاقات الرفاقية والإنسانية مكان، وتُخان المبادئ وتُرفع راية الأوطان لتحقيق مصالح الذات وشئونها.

لا أعرف لماذا أثرثر لك بكل ذلك، ولا أعرف لماذا لا يتوقف لساني عن الحديث، وها أنا لم أجاوبك بعد كل هذه الثرثرة على مبتغاك، كيف حصل ذلك؟

أظن أنني لم أخبرك بعد أنني والكثيرين بقينا ساهرين في بيتهما لوقت متأخر من مساء يوم أمس، بل داهمنا الفجر قبل أن نخجل من إطالتنا المكوث وننسحب إلى بيوتنا، وكيف كانا، الحاج وزوجته، في قمة سعادتهما، ولأول مرة أرى كيف تكون السعادة نبعاً ينساب، كالعرق، من مسامات الجسد، وكيف للوفاء أن يكون بحراً من مشاعر صادقة، وكيف للحب أن يتدفق نهراً من ماءٍ زلالٍ باردٍ في يوم قائظ، وكيف يمكن أن تكون الكلمات نسائم طائرة تمر على الأجساد لتمحو بيدها عرقها وجحيم ريحها الخماسيني، وكيف تكون الزغرودة تعبيراً عن كل هذه المشاعر مجتمعة، عندما أطلقتها الحاجة مريم محتفلة بالعملية الفدائية الأخيرة، وكيف يمكن لكهل أن يعود مراهقاً في لحظات، يُزجل ويدبك ويغني الميجنا، ويوزع بنفسه الشاي والعصائر وحتى السجائر التي إشتراها بآخر ما يملك من بقايا نقود، وعندما يجلس على كرسيه ليرتاح يقول:

ـ الآن، لو جاء “عزرائيل” سأستقبله بالترحاب غير آسفٍ.

وسمِعَتْ زوجتي همسها دون أن تبتلع إبتسامتها:

ـ لا قدّر الله، “الشر برة وبعيد”.

وعلى غير عادتهما، تراءى لي عجوزين ثرثارين يتعاملان كثملين أحمقين، يحتفلان كشابين مراهقين بعملية فدائية، واعتقدت أنه نوعاً من فقدان التوازن، أو ربما خفة الكهول عندما يفقد العقل وزنه وتطغى عليه العاطفة بكل جبروتها، لكني أحجمت عندما رأيت الجميع مثلهم، يكادون يموتون فرحاً وكأن “هذه الفلسطين” كلها ملكاً خالصاً لهم، وأنهم إستعادوها أو على وشك ببحرها ونهرها وأرضها وبحيراتها، وكأن مرج ابن عامر يعيد الإصطفافات على مداخل حيفا، وعكا تسن مدافعها ويرتفع بنيان سورها شامخاً متأهبة لقتال، والكرمل إعتلت نفسها لتراقب آفاق السماء البعيد حراسة لهم، والشعب إستعاد نفسه وامتشق الحجارة، وأن رجالات التنسيق الأمني و”أبطاله” لفظتهم مدينة رام الله خارج الحدود، وغزة جهزت صواريخها “العبثية” لتكون في حالة إستعدادها القصوى، وجنود المقاومة المرابطة في شمال الوطن قد إعتلت مناطق الجليل.

وكنت أرقب الجميع كيف يحملون أفراح قلوبهم وينشرونها إبتسامات وضحكات وأفراح وغناء، ولَجَمَتْ أفكاري زغاريد زوجتي التي كانت تُكمل ما ابتدأته الحاجة مريم وتضيف عليه أحياناً، زيادة في إحتفائها بالأبطال الذين إعتلوا السماوات شهداء، ولأول مرة أشعر أنني أخاف النظر في عيني زوجتي كي لا تقرأ أفكار رأسي وتكشف أمري، فرأيتني حذراً من كشف أمري وسط هذا البحر من الفرح والغبطة، أتستطيع أن تدرك مدى شعوري وأنا أخاف فرحتهم أو أخشاها أو أتجنبها؟!!! أتستطيع تصور جبني وضحالتي وأنا أخ شهيد وأخ أسير؟ أتتخيل أنني ما كنت أعرف حتى يوم أمس بالذات قيمة أن تكون أخاً لشهيد؟!!! لم أكن أعلم أن هذا الجهل يساوي الكفر بالله وربما يتفوق عليه، وتراءى لي أن الله يغفر الذنوب كلها إلاّ جهلك بقيمتك كأخٍ لشهيد، كما أنني لم أكن أعلم أن الذي جرى سيعيد شيئاً من الرجولة المفقودة لي، أو سيعيدني إلى رشدي من جديد، وأثبت لي أن ما يحويه قلبي لزوجتي وأطفالي ليس حباً ولم يكن كذلك يوماً، فالحب لا ينقسم ولا يختبئ ولا يجبن، وأن شعوري بإمتلاء قلبي لم يكن حباً حقيقياً كما كنت أظن، بل خوفاً مختبئاً وجبناً منزوياً داخل أعضائي خوفاً من الحب، يا الله كم كانت الأمور ملتبسة!!! كيف كنت قادراً على الوقوف محايداً أمام دماء أخي الشهيد؟ كيف أمكنني التعامل مع زيارة أخي الأسير كأمر عادي متفرجاً عل آلامه من خلف القضبان مثل غريب؟ هل كنت بحاجة لهذا البركان ليهزني ويعيدني إلى حقيقة ما يجري؟ وهل كان بالضرورة حصول ماحصل لأصحو من غبائي وأصحح مسيرتي؟ أكان فعلاً الضباب بهده الكثافة ليحجب الطريق؟أم أنه الخوف من الشوك والأسلاك الشائكة والبنادق المصوبة على كل عابر لذاك الطريق؟!!!

في الصباح، حضرتُ وزوجتي بعد أن رجتني الحاجة مريم بإستدعاء الطبيب، قالت أن الحاج عمران متوعك أو مغمىً عليه، وصارت تشرح لي الأمر وكأنني كنت غائباً وغير موجود، وقالت:

ـ إنه لم يستيقظ من نومة منذ ليلة البارحة أو فجر اليوم، بعد أن سهر كعادته لوقت متأخر، وأنه تحدث كما لم يتحدث من قبل، وضحك كما لم يفعل منذ سنين، وبعد أن خرج الجميع، إمتدح حسني وجمالي، تغزل بقوامي وكأنه يراني بعيون الأمس، ضمني ووضع رأسه فوق صدري وغفى، غفى بعمق كما لم يغفُ منذ سنوات، لم يتحرك طوال الليل، وأنا غفوت بدوري، واستيقظت وانسللت من جانبه كي أبقيه نائماً ليرتاح، لكنه كان قد توقف عن تجرّع الأنفاس، فأرجوك يابني أن تذهب خلف طبيب المخيم ليتفحصه.

وهكذا كان، وأحضرت الطبيب، وتفحصه، وكانت إبتسامة الأمس ما تزال معلقة فوق شفتيه، تخاله يعيش ذات اللحظات، ولولا تأكيد الطبيب لما طننت أنه قد غادرنا إلى جوار ربه، ورأيت بضع دمعات تنساب على خديها عندما سمعت الطبيب يترحم عليه، ودمعتان عبرتا إخدودين محفورين مع إمتداد كيس الدمع على طرف العين، وسالت بهما على جانبي خديّها إلى أسفل الأنف، إخدودين بفعل السنوات وشظى العيش والزمن، وبكل هدوء ولطف همست لزوجتي مشيرة إلي:

ـ دعيه يرتاح عل صدرك، مسِّدي على رأسه، زوجك إنسان طيب وإن ضل الطريق قليلاً أو تاه على مشارفها، واصبري عليه قليلاً فسيعود إلى رشده.

وخاطبت الجميع بصوت عالٍ ووجهت كلماتها لي:

ـ اسمحوا لي يابني للإختلاء به نصف ساعة فقط، أتسمعني نصف ساعة ثم تدخلون.

وخرجت وزوجتي والطبيب وبعض الجيران، وأخذنا نخبر بعضنا بعضاً بوفاة الحاج عمران، وتكاثر الناس على بابه مندهشين، منهم من دعا له بالرحمة ومنهم من قرأ الفاتحة على روحه الطاهرة، ومنعت بنفسي أيهم من الدخول لكسر خلوة الحاجة مريم مع زوجها، وانقضت نصف الساعة وغادرَت، وتبعتها نصف ساعة أخرى، وأمسكت بطرف النصف الثالثة قبل أن تغادر كاملة، وطرقت الباب، وطرقت مجدداً، ولمّا لم يجب أحداً فتحت الباب بهدوء ودخلنا، وكلهم رأوا ما رأيت، كانت الحاجة مريم ممددة بجانبه، يديها ممدتان عل طولهما، وجهها في مقابل وجهه، بثوبها القديم المطرز بيدها منذ سنوات، وشاشتها البيضاء الجديدة التي كانت مختبئة لهذا اليوم خصيصاً، وعلى وجهها ابتسامة استعصت على الولادة لكن بالإمكان تشخيصها بوضوح، ودمعتين اثنتين كانتا ماتزالان واقفتان في مجريي وجهها بعد، ظننتها نائمة أو فاقدة الوعي حزناً، همست في أذنها لتستيقظ، فمن العار أن تنام بهذا العمق وزوجها للتو قد إختار طريق السماء، ثم هززت ذراعها وسحبتها منه، لكنها بقيت كما هي عليه، حاولت أن أسقي وجهها جرعة ماء لتستيقظ، لكن زوجتي أمرتني بإحضار الطبيب من جديد، الذي أكد مخاوفنا جميعاً، أكد أن قلبها الصغير قد توقف عن الخفقان، مصرة على اللحاق به عبر طرقات السماء لئلا تتركه وحيداً هناك، وربما لتدله على طريق الجنة.

كان وجهها صافياً هادئاً وأكثر شباباً، تكاد ترى الدم ما زال يجري في عروقه، مازال يسرح ويمرح مختالاُ في أزقة جسدها وطرقاته المتفرعة، لا يردعه رادع ولا يقف في وجهه عائق، فأخذ يُعيد لها الصبا والشباب، وأنها حية ولا علامة للموت فيه، ومهما كثرت ظنونك لن تظنه الموت، ولأول مرة أرى في الموت كل هذه الحياة، بل ورأيت بأم عيني كيف يكون في نفس الموت حياة غير ما نعرفه من حياة، تماماً كما أن ليس هذا الموت الذي نعرفه، لم يكن الموت الذي نجزعه ونخافه ونحاول الهروب أو الإختفاء من جبروته، وأكثر من ذلك أننا لسنا كلنا نستطيع أمر الموت الهادئ بالحضور، مَن منا يستطيع ذلك؟ يأمره فيستجيب صاغراً آتياً دون ضجيج، يقف أمانها منتظراً سماع أوامرها، يلبسها مُطيعاً ويتركها حية في ذات اللحظة!!! وكانت قد اقتطفت حزمة من الوقت لتخط لنا بضع كلمات، وصيتها التي تنتظر من يقوم بتنفيذها، كلمات مسترخية أو غافية نائمة في بطن ورقة بيضاء واقفة على باب تلفازهما القديم:

” ادفنوننا، هكذا كما نحن، بجانب بعضنا بعضا، فهناك شيء أبعد من الحياة”.

ما كنت أعلم، حتى تلك اللحظات، أن هذا التفاني وهذا الصفاء، هذه الطهارة وهذا الإخلاص والنقاء، هي ما تُثمر الأوطان، ما يجعل لها معنى، ما يجعلها أكبر من المال وعصية على الكسر والتفريط، وأدركت حينها فقط أن الحب ليس بالضبط الذي يتراءى لنا أحياناً، وأن ما نعرفه ربما يكون خادعاً مُزيفاً، وبعضه سراباً في صحراء ممتدة في الأفق كله، وجزمت مع نفسي أن ما أراه شيئاً أعمق من الحب وأكثر شموخاً من العشق، وأن هناك فعلاً ما هو أبعد من الحياة… وربما أجمل.

محمد النجار

 

نذالة

كثيراً ما استذكرت والديّ، رحمهما الله، في الآونة الأخيرة، كلما نظرت إلى أوضاع دول المنطقة، خاصة دويلات الخليج ومشايخه، من مشيخة الشيخة “موزة” حماها الله ورعاها، التي وصفها “حمد الأصغر” ذات يوم ، عندما كان رئيس وزرائها ووزير خارجيتها، بمشيخة “النعاج”، وصولاً لمملكة آل سعود ملوكاً وأمراء وغلماناً وخصياناً ومحرمين، أستذكرهما عندما كانا يُرددان أمثالهما الشعبية عند كل حدث وأمام كل منعطف، فكانا عندما يستعصي الفهم على أحد، ويرفض أن يفهم مفضلاً أن يبقى حماراً، يقول أحدهما للآخر:

ـ ما في فايدة، “علّم في المتبلم يصبح ناسياً”.

الأمر الذي ينطبق على كل التابعين، فهؤلاء يستعصي عليهم الفهم، أو يرفضون أن يفهموا، أو أن عقولهم ضحلة لدرجة لا تستطيع الإستيعاب، أن أمريكا لا يهمنها شيئاً إلا مصالحها، وأنها لا تحبذ منهم أحداً على الآخر إلا بمقدار ما يدفع، يعني بحجم ما يؤمنه لمصلحتها، وإن دفع اليوم أحد وفاقه في الغد آخر ولو بقرش واحد، ستتخلى عن تعهداتها مع الأول لمصلحة الثاني مؤقتاً، وتضحي به دون أن يرف لها جفن، لحين وجود ثالث يرفع المزاد ويدفع لها أكثر من سابقه، وأنها لا مبدأ لها ولا أخلاق، ولا ترى في كل الأعراب والتابعين وتابعي التابعين أكثر من أبقار حلوبات تأكل التبن وتتحلى بالكرسنة وأحياناً بالشعير، وأن أقصى طموحهم إبتسامة بنت من بنات “بني الأصفر”، حتى لو بالت فوق رؤوسهم إهانة وإذلالاً.

وهم يعرفون جيداً أنها نفسها بارعة في خلق المشاكل والحروب والأزمات، لكنها ليست مستعدة لحل أي منها، بل تبقيها ناراً مشتعلة وتديرها بطريقتها لتحتوي الجميع وتستفيد منه، وقالها الصهيوني الأمريكي العتيق قبل عقود من الآن، هنري كيسنجر: “أن على أمريكا عدم إنهاء الأزمات، بل إدارتها لتخدم مصالحها القومية”.

كما يعرفون أيضاً أنه بعد أن تأمرهم وتورطهم في حروب هم ممولوها وهي ما تحصد نتائجها، تحاسبهم أمام العالم عليها كداعمين للإرهاب، كما يحصل اليوم مع المشيخة، وكما حصل بالأمس مع مملكة آل سعود، واختراع قانون “جاستا” لهم لحجز كل أموالهم التي في بنوكها، والتي ليس مسموحاً لأي فرد في قيادة “مملكة الصحراء” أن يودعها في أي مكان آخر غير أمريكا، ولا التصرف بأي مبلغ خارج نطاق بضعة ملايين إلا بمعرفتهم وموافقتهم، وبعد أن إستغلتهم لدرجة الإفلاس وما زالت، وجلدتهم إلى درجة النزيف، وهم مازالوا على أبوابها واقفين يقبلون الأحذية.

ولو استرجعنا التاريخ القريب أو البعيد لهم معها، لوجدناها تورطهم لدفع تكاليف الحرب الإيرانية العراقية لثماني سنوات طوال، ومن ثم دعم الأرهابيين في سوريا والعراق وليبيا ومصر وتونس والجزائر والصومال بالمال والسلاح، وبشراء الدول والمنظمات الإرهابية والأفراد لإستجلابهم لمواقع المعارك، كما وحربهم منذ ما يزيد عن عامين على شعب اليمن العظيم الذي سيمرغ “خشم” آل سعود وحلفائهم وداعميهم في جبال اليمن العظيم، وغباءهم لدرجة أنهم وبعد عشرات آلاف السنين من الجيرة مع اليمن واليمنيين، لم يفهموا بعد أن اليمن ظل دائماً مقبرة للغزاة وأن صنعاء استعصت على كل استعمار!!!…إلخ، وقبل ذلك دعمهم بالمال للثورة المضادة في دول أمريكا اللاتينة مثل “ثوار” الكونتراس في نيكاراغوا، كي يمنعوا شعبها وثورتها المنتصرة من الوصول للسلطة، والدفع بسخاء لقوى اليمين الأوروبي لإستبعاد الشيوعيين الأوروبيين الذين فازوا في الإنتخابات في بلدانهم في تلك الأزمان، وتشكيل حكومات يمينية بدونهم، كما والدفع لكل حرب القاعدة ضد السوفييت في أفغانستان، وتخفيض سعر النفط إلى أقل من الثلث ليضربوا إقتصاد روسيا وفنزويلا وإيران، حتى لو خسروا هم وضربوا إقتصادهم بأيديهم، وفعلاً خسروا ستين ـ سبعين بالمائة من دخلهم الفومي، وترنح إقتصادهم وصار على وشك الإنهيار، لدرجة صاروا يبيعون فيها أصولهم النقدية وليس فقط مخزونهم المالي، وتربح أمريكا جراء ذلك بضربها إقتصاد تلك البلدان ومحاولة إخضاعها، والجرد لا ينتهي، لكن المهم أن الخسارة من الحبيب الأمريكي ليست بخسارة مادامت تؤجل هدم العروش فوق رؤوسهم ولو مؤقتاً، والمأثور الشعبي يقول “ضرب الحبيب زبيب” فما بالك بالخسارة بسببه.

لو كانت هذه الدول تدافع عن شعوبها، لكنا أول المصطفين خلفها، ولوكانت قد أنهت المشاكل في بلادها من فقر وبطالة وأمية وجهل وتصنيع وتحديث زراعي، ثم صارت تبذر الأموال لمصلحة خصيانها الأمراء، ربما لفهمنا أو تفهمنا الأمر، لكن أن لا تفعل شيئاً في الداخل لشعوبها غير القمع وتكميم الأفواه ونشر الفتنة، وتحارب مالياً على كل الجبهات لمصلحة أمريكا، يعني هم يدفعون والعوائد لأمريكا، فهذا ورب الكعبة عصي على الفهم أو الإستيعاب.

كما أن هؤلاء القادة من غلمان ومخصيين، لا يريدون أن يفهموا أو يتعلموا أن أمريكا لا يمكن أن تحمي نظاماً يثور شعبه عليه، حتى لو كانت أنظمتهم، إلا بقدر تحقيق مصالحهم، بل بالعكس، يمكن أن تتأمر ملتفة على المطالب الشعبية بالتضحية بهم، كما حصل في ما أسموه زوراً وبهتاناً بالربيع العربي في مصر وتونس مثلاً، حيث ضحوا بالرئاستين بصفقة مع الإخوان المسلمين على حساب الرئيسين وهما من أكثر التابعين لهم في المنطقة، لكن انتهى زمنهم، أو انتهت مدة صلاحيتهم ولم يبق أمامهما إلا “الكب” في صناديق القمامة والإتيان بتابع جديد، فبدلوهم غير آسفين عليهم، “رغم أنف أل سعود الذين استماتوا لبقائهم واستضافوا أحدهما وفشلوا في استضافة الآخر”، ثم وعادوا وبدلوا من أتوا به في مصر بآخر تابع لهم من جديد، مادامت قد خرجت الملايين ضده وما كانت لتتراجع قبل إقصائه، وما كان بيد أمريكا القدرة على إبقائه، جاعلة الجماهير “الفقيرة الجاهله في معظمها”، تعتقد أنها أتت بالمنقذ وبمن تريد.

والجدير ذكره أن نظاماً مثل نظام السيسي هو من نفس العينة، لكنه يمتاز بقيادته لدولة بحجم مصر بالفهلوة والكذب والتذاكي، إضافة لما اعتادت فعله كل الأنظمة الصهيوـ أمريكية من قمع وتكميم الأفواه بالخطف والإعتقال والقتل، وهو الذي جاء بصفقة على حساب الصفقة الأولى مع الإسلام السياسي، معتقداً أن أمريكا وإسرائيل ستحميانه من الهبّة القادمة للشعب المصري على الفقر والإفقار والجوع والتجويع والجهل والتجهيل والأمية والتبعية والفساد والإفساد، ظاناً أن دوره في تصفية القضية الفلسطينية وحماية الكيان العبري، سيشكل له صك براءة أو غفران لبقائه في السلطة، كما أن بيعه لمصر للبنك الدولي سيشكل له مخرجاً لنمو الإقتصاد وتغافيه، وكأنه لم يرَ أو يسمع أو يقرأ أن البنك الدولي لم يدخل بلداً إلاّ وأفقر شعبها وخرّب إقتصادها ونهب ثرواتها ورشى قادتها وأفسد من لم يُفسد بعد ووضعها على حافة الإفلاس، ولجأ لبيع أرض مصر وجزيرتيها لدولة النفط الأكثر تبعية للعم سام، وسيبيع جزءً من أرض سيناء لإقامة دولة فلسطين البديلة للدولة الفلسطينية، ضمن المشروع الصهيو أمريكي، ظاناً أو حالماً أن هذه الدول ستظل تدفع له كلما أراد، ربما لجماله أو سواد عينيه، وهو يعلم أن تلك الدول ستتوقف عندما تتلقى أول إشارة من أمريكا، أو عندما تغتقد أن “العلف” الذي دفعته كاف، وسيفتعلون له قضية كما مع أزمة مشيخة “الحاجة موزة” الآن، هذه القضية المفتعلة من “المسرح العبثي” والتي تُحرك خيوطها أمريكا من الألف إلى الياء.

تعتقد مثل هذه الأنظمة أنها ستظل في السلطة حتى لو رفضتها الجماهير وانتفضت ضدها، مادامت صديقة للكيان العبري وأمريكا، وبعضها حتى أنه لا يفكر لحظة أن الجماهير يمكن أن تنتفض عليه، ربما “لأنه على رأسه ريشة” كما يقول المأثور الشعبي، أو لأنه ذكي أو قوي أو غني، أو كون درجة الغباء السياسي التي وصل إليها هي درجة اللامعقول.

وهنا بعض أبيات وكلمات من الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم مستهزئاً منبهاً من غضب الجماهير، بكلمات وضعها على لسان السادات عند سقوط الشاه، فقال:

” أخوي الأمير بزرميط الإيراني

وعظني ونصحني وسلك وداني

لأن اللي نابه ياحبة عنية

ما يتخيلوش أي كاتب أغاني

دا كان لسه قاعد معاي النهارده

ولابس خواتم دهب أمريكاني

صحيح الشعوب بنت كلب ولئيمة

وممكن تزيح العروش في ثواني”

والقيادة المصرية التي جاءت في غفلة من الزمن، وضمن صفقة على حساب الإسلام السياسي، الذي فشلت المراهنة عليه من الشارع المصري، بعد خروج عشرات الملايين في الشوارع ضده، معتقداً أنه بسياساته تلك سيوقف مخططات الكيان العبري ضده، وأنه من الذكاء بمكان كي يبعدهم عن مصر وشعبها وأراضيها، أو يُسكتهم عنهما، في نفس الوقت الذي يرى بأم عينه كيف دعمت “إسرائيل” وأمريكا ومملكة آل سعود بناء سد النهضة الذي سيُعطش مصر ِشعباً وأرضاً، ويرسلون له الإرهابيين الذين يعيثون فساداً بأرض مصر، محاولين إثارة الفتنة الدينية بين مسلم ومسيحي قبطي مرة، أو تحويل العدو من الكيان الصهيوني إلى إيران بحجة أنها “تُشيّع” المصريين، وبكل فهلوة وغباء وخيانة يتنازل عن جزيرتي صنافير وتيران مقابل حفنة مال، ليحولها آل سعود بدورهم للكيان العبري، كما يرى بأم عينه كيف ابتدأ الكيان ببناء قناة بديلة لقناة السويس، ليجرد مصر من كل ما بين أيديها من مواقع قوة، كما سرطن أرضها وزرع البلاد بالعملاء وقوض إقتصادها بالمشاركة مع الكمبرادور المصري من خلال القضاء على التصنيع والزراعة خاصة القطن والقمح، رغم كل ما يقدمه لهم على الأصعدة كافة، ويخنق “في حبهم” 2 مليون فلسطيني في غزة، ويحاول فرض شخصاً أكثر رداءة على شعب فلسطين مما هو موجود الآن، أو أكثر قابلية على بيع كل شيء دفعة واحدة.

أما على صعيد رئيسنا الفلسطيني وحاشيته، فالأمر متطابق، فهؤلاء كما وصف الشاعر الكبير مظفر النواب قائلاً”:” هذا ملك يستأنس بالخازوق”، فهو ملك وإن أسموه رئيساً، و”يتخوزق مختاراً…لا إكراه ولا بطيخ …بمحض إرادته”، وبمثل هؤلاء لا تستطيع أن تفعل شيئاً وتصحح إعواجاجاً، “فذنب الكلب لا يمكن عدله لو وضعته في مائة قالب” كما قالت الوالدة رحمها الله، فجل متعتهم التمتع بجمع المال والتمتع بالخازوق، وفي تعبير المرحوم والدي في وصف أمثالهم كان يقول: ” الرجل الهامل يابني لا يساوي ملات أذنه نخالة”، وهذا يابني “زلمة هامل”، فهؤلاء مطبلون مزمرون مسحجون معلوفون، فها هم يرون ولي أمرهم ترامب وهو يسحب البساط من تحت أقدامهم، ولا يجرؤون على الإعتراض، ويسحب كل شيء من بين أيديهم وهم ينظرون، ومازالوا يقبلون الأحذية للحفاظ على بعض المكاسب الشخصية، ولزيادة رصيد العائلة من مال وعار ونذالة، ويفعلون ما يؤمرون دون مواربة أو حتى خجل، كما في قضية أسر الشهداء والأسرى، أو بحائط البراق، وحتى لو كان الأمر يتعلق بالتاريخ الفلسطيني النضالي نفسه، الذين يريدون تحويله من نضال إلى إرهاب.

وعليه فشهاب الدين أظرط من أخيه، و”الرئيس لا يُخيّر عن دحلان ولا دحلان عنه”، فالخل أخو الخردل، والإثنان كلاهما نسخة مشوّهة عن الآخر بشكل أكثر سوءاً وقبحاً، والجميع لا يريد التعلم مما يرى أمامه أو معه على مدى ربع قرن من “أوسلو” الذي جلبوه فرضاً على الشعب دون أي إستشارة أو أخذ رأي لشعب أو منظمات قدمت عشرات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، وهم يرون كيف يحلبهم الأمريكي كالأبقار ويجلدهم كالبغال، لكنه له منهم بالمقابل كل الوفاء “خوفاً وطمعاً”، لكنهم، في ذات الوقت، لا يتحملون مواطن عربي يصف ما يفعلون، فيسلمونه للإعتقال كما في الحالة الفلسطينية، أو يحاكمونه بتهمة التعرض للمقامات العليا، “وهذا أضعف الإيمان”،أو يخطفونه ويعذبونه ويقتلونه كما في الحالة الفلسطينية والعربية أيضاً، لكن من علّى هذه المقامات ووضعها عالياً فلا يريد أن يجيب أحداً، لأنهم ببساطة “يُحبون الكبرة ولو على خازوق”.

وجميع هؤلاء وأمثالهم ينسون أو يتناسون، كبف رفضت أمريكا حتى إستقبال حليفها الأول بعد الكيان العبري، شاه إيران، عند سقوطه على يد الشعب الإيراني الثائر، والذي كان يأمر آباء هؤلاء وأجدادهم، في مجلس “التهاون” الخليجي وغيره، بالحذاء وليس بالكلام بعد أن يُقبِّلوا يديه، وفي حضوره كانوا خانعين صاغرين مطأطئي الرؤوس وعيونهم تحت حذائه، ويتغاضون عن إذلاله وكيف هام “ملك الملوك” وعائلته متنقلاً في الجو غير قادر على تعبئة طائرته الخاصه بالبنزين من معظم بلاد العالم، لولا استقبال السادات له ليموت في مصر بعد عام واحد فقط، وللصدق والتاريخ أيضاً لم يكن يعلم أحد منهم أنه كان “شيعياً رافضياً” كما هم قادة إيران اليوم، والدليل أنه هو من ساعدهم في ضرب قوى التحرر الوطني العربية في بلدانهم بدءً بالجبهة الشعبية لتحرير ظفار والخليج العربي مروراً بالجبهة الشعبية في البحرين وصولاً إلى خلق الأزمات لليمن الجنوبي، كما أنه كان أحد أهم أذرع الموساد في المنطقة والعالم، ومن أهم حلفاء “إسرائيل” وأمريكا، وأكبر مَنْ عادى القضية الفلسطينية، وتقوّلوا حينها وتساءلوا: “كيف سيكون شيعياً من فعل كل ذلك؟!!!

وعليه وبعد أن رأى الشاعر المصري الكبير، المرحوم أحمد فؤاد نجم ماذا حل بالشاه وكيف تخلت عنه أمريكا، كتب قصيدته الشهيرة بإسم “الندالة”، مُتهماً رئيسها “كارتر” آنذاك بالنذالة لأنه تخلى عن أهم تابع لأمريكا دون أن يرف له جفن، ننشرها هنا من باب إيماننا بالمآل الذي ستصل إليه هذه الأنظمة، وسيكون موقف أمريكا منها كموقفها من شاه إيران، التي وصفها الشاعر فأحسن الوصف وأبدع كعادته:

النـــــــــــــــــــــداله

“يا كارتر ياندل

حبيبك وصاحبك

وصاحب مراتك

وتبقى انت صاحبه

وصاحب مراته

وكان والده أيضاً

مصاحب حماتك

وكان برضه والدك

مصاحب حماته

وطول عمره نافد

على استخباراتك

وشغال جاسوسك

على استخباراته

وقاعد يزوّد

رصيد ملياراتك

وسارق

وشايل معاك ملياراته

وراجل مآمنك

وخاين ضميره

وخايف

وحاطط في إيدك مصيره

ودابح في حبك

ألوف الضحايا

ودايس في طين الدنس

والخطايا

يقوم لما يطبق عليه المحيط

تطنش ياكارتر

وتعمل عبيط

وتخلع

وتنسى الحمار والغبيط

وتاكل عيالك بدون وجه عدل

صحيح

إنت ندل”.

للشاعر الرحمة، ولهؤلاء الطغاة مزبلة التاريخ

محمد النجار

عندما يستعيد الثلج لونه

استقبلني عامر، كعادته، في بيته إستقبالاً يفيض ترحاباً، كمن يرى إنساناً عزيزاً عليه بعد زمن من الإنقطاع والإشتياق، كيف لا ونحن الإثنان كنا رفاق درب وسجن وحزب ومسيرة مليئة بالمد والجزر والفرح والحزن، وكلانا حمى الآخر بكل ما فيه من قوة في زمن الزنازين المقاوم، عندما كانت الفكرة شعلة، والقابض على الفكرة قابض على الشعلة، التي حتماً ستصل لنهاياتها الظافرة، عندما كانت الفكرة شعلة وبرنامج عمل ومنارة تضيء الطريق، مبدأ لا مجال للتشكيك في الإيمان به، إنه القول الفصل والمذهب الذي لا يختلف عليه إثنان، عندما لم يكن للعذاب ولا الموت كبير إعتبار أمام الإصرار على نشر تلك المبادئ والأفكار.

وفرقتنا الطريق بعد أن جاء “أوسلو” محملاً على ظهور القيادة مربوطاً بجيدها مثل “رسن”، كما يحب أن يقول، إفترقنا عندما “شرعنت” قيادتنا بدورها الدخول لمؤسسات “السلطة” القيادية، ووجدت الكثير منها أماكن عمل لها بوظائف “مدراء” بفروعها المختلفة:”ا و ب و ج “، مبررة أنها ستعفي الحزب من إلتزاماته المالية نحوها، وارتفع صوته المندد بالخطوة، المحذر من الإنزلاق في نفق “أوسلو” بغض النظر عن التبريرات، متهماً من وافق على تلك الوظائف بأنهم في خطوتهم الأولى لخيانة الأمانة التي وضعها الناس في أعناقهم، وأن الأمر لا يعدو سوى الخطوة الأولى للمهادنة والدخول في القفص، فطعم المال يُغري بالمزيد، وقال:

ـ إن العبيد وحدهم الذين يدخلون القفص بأقدامهم، ومن دخل القفص يكون قد ودع الطيران إلى غير رجعة، ولن يعود قادراً على التحليق نحو السماء حتى إن حمل زوجاً من الأجنحة بحجم أجنحة طائر الفينيق، ثم ما فائدة الأجنحة إن لم تكن قادرة على حمل صاحبها فوق أجنحة الرياح ومطباته وطرقاته المُتعرجة بإتجاه  الشمس؟!!

وتابع بكل مافيه من غضب وقال:

ـ أنتم تجردوننا من أحلامنا، تدفنوها في مزابل التاريخ وخلف الزمن، إنكم تضللوننا وتخدعوننا عن سبق إصرار، فضوء القمر هذا الذي تشيرون نحوه خادع كاذب، ليس سوى إنعكاس لحظي عن الأصيل عند بعض لحظات غيابه، الأصل هو ضوء الشمس الذي تُغيِّبون وتتجاهلون.

ولمّا سأله البعض عن ماهية العمل في مثل هذه الظروف قال:

ـ “إن أبغض الحلال عند الله الطلاق”، لم يعد يربطنا بهم رابط، والمنظمة ثمنها دماء الشهداء وأنات الجرحى والأسرى، لم يرثوها عن آبائهم، إنها حق من لا يخون دماء الشهداء، إن كنتم ترون بأنفسكم أهلاً لذلك استعيدوها، وإلاّ فسيكون أي كلام أو احاديث مجرد كلام، لا يستحق التوقف عنده.

أجاب بعض القادة حينئذٍ مُتجنبين النظر في أعماق عينيه:

ـ الطلاق؟ إنه مجرد عمل، إنها حقوقنا من منظمة التحرير.

فقال وقد تشابك عنده الغضب مع العتب:

ـ ياحيف على الرجال ياحيف، أتستحمرونني وتستهينون بقدراتي العقلية إلى هذه الدرجة؟ عن أي منظمة تتحدثون؟ وهل بعد هذا تبقَّى شيء من منظمة التحرير؟ في أيام العز كانت قيادة المنظمة المهترئة الفاسدة المفسدة، تمنع حصصنا المالية عند كل منعطف، ولو لم تكن كذلك لما ركبت قطار “أوسلو” أصلاً، أتريدونها بعد هذه الردة وهذا الإنحدار أن تعطي للفصائل المعارضة حقوقها؟!!!

سكت قليلاً ثم أضاف:

ـ كي أسهل عليكم الأمر، أنا أوافق على أمر الوظائف ضمن قانونين اثنين، الأول أن يكون الأمر مؤقتاً بشهور عدة ولا تزيد عن سنة، ويتم تداوره بين الرفاق، كل بضعة شهور يُعطى لرفيق غير الذي كان، والثاني، أن يأخذ صاحب المنصب قدر التفرغ الحزبي فقط ويُحوِّل ما يزيد عن ذلك لمالية الحزب.

طبعاً لم يوافق أحد عل إقتراحه، فزاد نقده لهم، لنفس رفاقه الذين طالما حماهم داخل الزنازين وحموه، قال:

ـ إنها الخطوة الأولى لتبتلعوا ألسنتكم، ومن يبتلع لسانه سيلجم فعله لا محالة، ولن تُلعلع رصاصاته سوى في الأعراس.

وتابع حديثه المتلاحق في كل مناسبة:

ـ إنكم لن تجرؤوا على إصطياد عصفور، فما بالكم بجندي أو مستوطن؟!!! بل لن تجرؤوا على تأييد من يفعل ذلك، هذا إن لم تتبرأوا منه أصلاً، هذا هو ثمن الوظائف تلك، وأمام أي موقف ستقارنون بين الفرق في دخلكم وحياتكم الماضية والحاضرة، وستنحازون إلى الراحة والبذخ، وليس لسنوات المطاردة والسجون والمواجهة، إنها سنن الحياة التي إخترتمونها.

وارتفع صوته وعلا، وتراجع حضوره أو قَلَّ بينهم، وغاب أو غُيِّب لا فرق فالنتيجة واحدة، ثم انفصل أو فُصل أو لم يعد أحد يتصل به، سيّان، وقلنا أنه تساقط في الطريق، وبررنا بأن الطريق الطويل متعب وشاق، وليس كل من يسير به يصل لنهايته، وأن هذه سنن النضال والحياة، وأن من الناس من يتحول لذاتي بعد تعبه أو فشله لئلا يعترف بعجزه، والبعض يتحول لجزء من جمهور المتفرجين، وحللنا وتفلسفنا واخترعنا النظريات، وظل هو يُعتقل عند سلطة أوسلو بسبب “طول لسانه”، لكنه بدل أن يصمت تصاعدت إنتقاداته وعلا صوته، وظل يعلو ويعلو، وصرنا نحن رفاقه السابقين الأشد تعرضاً لإنتقاداته، نحن و”حلفاء إسرائيل الجدد” كما سمّاهم، الأمر الذي جعل الرفاق ينتدبونني لأضع له حداً، أو لأخجِّله، لأذكِّره بماضيه الذي يحاول تناسيه ورميه بعيداً خلف جدران الوهم التي تحوم في رأسه، وكأن ذاك الماضي ليس منه ولا هو من صنع يديه، في جزء يسيرٍ منه على الأقل، ولأقول له أن مَنْ لا ماضي له ليس له مستقبل تحت هذه الشمس.

أخذت أستعيد الماضي معه ونحن نحتسي شاينا “الباذخ” الغارق برائحة النعناع حتى حدود “البطر”، وصحني الزيت والزعتر أمامنا، نغمس بهما قطعاً من خبز الطابون ليصل الزيت حتى نهاية عقلة السبابة والوسطى والإبهام، ونسكب خلفه جرعات من الشاي المُحلّى، فطعم الزعتر وزيت الزيتون المجبول بحلاوة الشاي لا يضاهيها شيء في هذا العالم.

فصار يتحدث وكأنه يترنم بمعزوفة موسيقية، وقال وهو يلوك الطعام ويصوغ العبارات، مذكرني بتلك الفترة التي كدت أنساها:

  •           *          *

في تلك الليلة الخريفية الباردة، أمّنت ظهري لصخرة في بطن الجبل، وشددت السماء المرصّع بالنجوم، بعيني، لحافاً، لكنه لم يحمني من برد ليل أواخر الخريف، كانت من بين ثقوب النجوم تتسلل حبيبات الهواء الباردة وتتكاثف جداول من برد ينخر جسدي من كل الأماكن، ولم ينفعني معطفي الهزيل في التصدي لها، فصرت ألتَّف بجلدي منتظراً قدوم شمس الصباح، التي تأخرت كثيراً عن موعدها، كأنها تتآمر مع الليل على جسدي البارد، ولم تأتِ قط.

في تلك الليلة قررت أن لا أعود لحضن الجبل مرة أخرى قبل إختفاء البرد، مع يقيني أنه لن يفعل مادام الفصل القادم يقف متحفزاً بالمرصاد للدخول من كل الأماكن والأبواب والمساحات المشرعة دون رابط، لكن ليس للأمر علاقة بالرغبات، فالقرار كان واضحاً، كما تعلم، لا لبس فيه : ” لا تُسلِّموا أنفسكم للعدو كالخراف”، وفي نفس الرسالة :” الوطن بحاجة لكل الطاقات، لا تهدرونها في الزنازين وخلف القضبان”، فتوجب علي أن أجد البديل.

كنت أنت جديداً على الحزب، ولم تكن علاقتنا بهذا العمق، وكنت أنا قد أمضيت الكثير من الليالي موزعاً نفسي عند بعض الأصدقاء، فارضاً نفسي بشكل لا يخلو من بعض الوقاحة أحياناً، وأحياناً مستغلاً باب الصداقة أو طيبة الآخرين، لكنني في معظم الأحيان لم أمكث أكثر من ليلة أو بضع ليال، لأعود أسعى في مناكبها باحثاً عن مكان للمبيت، وفي مثل هذا الحال ينقضي الوقت في البحث ويغيب الوطن عن جدول الأعمال، فيصبح الأمر “وكأنك يابو زيد ما غزيت”، فما الأهمية لوجودي إن لم أكن قادراً على متابعة المهام؟ لكن حملة الإعتقالات الأخيرة تلك لم تُبق لدي الكثير من الخيارات.

منذ دخول الفصل البارد القادم من وراء البحار سماء البلاد، تغير وجه المدينة بالكامل، كانت الغيوم تأتي متكاثفة متجمعة، وسرعان ما تُبطئ المسير لتهيل ما في أحشائها من مياه، وما أن تصطدم ببرد الهواء حتى تتحول إلى ثلوج قطنية بيضاء، ثمار القطن الذي نضج بفعل حرارة الصيف الذي مضى تراها تتطاير في فضاء هذا الشتاء دون رياح، تتراقص متحررة من الغيم الداكن لتفترش مساحات الحقول، وما أن تجد لها مكاناً على سطح الأرض، حتى تبدأ بالتراكم ثمرة فوق أخرى، وتنمو وتكبر وتتسع مدى، حشائش بيضاء مترامية تغطي السهل كله، مخفية أسطح المنازل و العمارات والطرقات والسيارات المتوقفة على رصيف الشوارع في لحظات، تعتلي أغصان أشجار التين والزيتون، تغطي أشجار السرو واللوز والمشمش، وتظل السماء حبلى بالغيوم، والغيوم حبلى بالثلوج كما كانت قبل الولادة الأخيرة، مستعدة لإنجاب التوائم الثلجية المتعددة، مليئة كما جاءت، كأنما لم تكتفِ بما جادت، ولا تنوي المغادرة بعد، وأنا تحملني وتسير بي قدماي، مُهشِّمة وجه الثلج الأبيض المتراكم، غائصة به إلى ما فوق الرسغ، أسير لاهثاً كأنني في رمال الصحراء، ممتلئة قدماي بالثلج المتحول لمياه ثلجية ما أن تَتلامَس مع حرارة قدماي، ماشياً متنقلاً بين أطراف المدينة مبتعداً عن عيون دوريات الجيش، كي أجد لي لحافاً غير السماء.

كنت مطلوباً منذ مايزيد عن عام كامل، كان “جيش الدفاع” قد داهم مرات عدة كما في هذه المرة أيضاً، منزلي بعشرات الجنود، كأنه في معركة حامية الوطيس، حاصر البيت من كافة جوانبه قبل أن يقتحمه مفجراً بابه متعمداً زرع الرعب والخوف في البيت كله، ووسط صراخ أطفالي المرعوبين من الجند وصوت الإنفجار راح يكسر المقاعد والخزانة الواقفة بصمت بجانب الحائط، يمزق الفراش ويهيل مافي “البراد” من طعام، ومن باب الإحتياط، كان يسكب حليب طفلي الرضيع على الأرض، ليتأكد أن عبوة الحليب لا تُخفي قنابل أو رصاص أو متفجرات، والغريب، قالت زوجتي، أنه يفعل هذا الأمر بالحليب في كل مداهمة، وكأنه يؤكد كرهه للأطفال أو خوفه منهم، وربما يرى فيهم خطراً مستقبلياً يمسح كل ماضي كيانه وكل حاضره الفاشي، وكنت أنا قد أخذت إحتياطي وغبت عن الأنظار قبل ذلك بكثير، لأنهم يعتقلون كل شيء وأي شيء، فهم لا يستطيعون إستيعاب ولا فهم كيف يجرؤ هؤلاء “الأغيار” على التمرد عليهم هم الأسياد؟ ألم يخلق الله العالمين جميعاً لخدمتهم؟ ألم يُسخر البشر جميعاً لخدمة شعب “يهوه” المختار؟

تجمع البرد والثلج والضربات الأمنية المتتالية في أجواء المدينة وسائر الوطن، وسقىت دماء مصطفى العكاوي أرض الزنازين، فارتقى شهيداً إلى السماء، فبكت مدينة القدس حباً وورداً وقمحاً وحياة، فتحولت مدينة رام الله الوادعة الجميلة إلى مدينة غريبة لا يكاد يعرفها المرء، وصارت أسطح عماراتها عيوناً متلصصة على الطرقات بعد أن إغتصب الجنود أسطحها، وخلف عماراتها أشباح وكمائن صيد متنقلة من دوريات الجيش، وأضحت الشوارع البيضاء ملتبسة غامضة، والجنود المشاة إستغلوا فقر الشوارع بالمشاة ليوقفوا ما طاب لهم من أُناس متلذذين بتعذيبهم بدعوى الأمن، ومن مكان مسيري الحذر الموازي لشوارع مركز المدينة، كنت أرى دورية من الجيش، وقد أوقفت عائلة بدعوى التفتيش والتدقيق، فلعل الأب أو الأم أو أحد الطفلتين مطلوبون، فرادى أو جماعة، لقوات الأمن، وبعد أن جاء الرد بالنفي عبر جهاز اللاسلكي، طلبوا من الأب الشاب أن يعانق الأرض الغارقة بالثلج والماء المتجمد ويداه خلف ظهره، مرة على بطنه ومرة على ظهرة ليفتشوا جيوبه الأمامية والخلفية، فهم لا يستطيعون تفتيشه واقفاً، وبين المرتين دقائق تمر وبكاء طفلتين ما بين  الخامسة والثامنة لا ينقطع وجسد ممدد فوق الثلج مرتعش، من البرد أو الخوف ربما، أو الأمرين معاً، وتفكك لحبيبات الثلج لتتحول إلى ماء مثقل بالبرودة والمرض ينغرس سكاكيناً حادة في جسد الأب الراجف، فلم يعد ل” وجعلنا من الماء كل شيء حياً” مكان، وصار الماء عدواً قاتلاً دون جدال، وصار الجسد الممدد فوق الأرض يمتص الماء مجبراً، فيرتج ويرتجف كأوراق شجرة داهمتها رياح عاتية مباغتة ودون رحمة فانهالت متهاوية من علِ، قبل أن يُعيدوا له ولزوجته بطاقتيهما، ويسمحوا للعائلة بالمغادرة، وأنا أقف على حافة الخطر أُراكم الحقد في داخلي ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، أسناني تصطك مع بعضها البعض، والبرد ينخر عظامي ويلتهمها دون رحمة، فيصير السجن رحمة، ويصبح الإعتقال أمنية، والوصول إلى بيت الرفيق المتوجه أنا إليه، في تلك اللحظات بالذات، هدف سامي، والحلم بكوب من الشاي، حتى دون الزيت والزعتر وخبز الطابون، من مواصفات الجنة.

هذا الرفيق الذي كنت متوجهاً لبيته كان أنت، وإتفقنا في إجتماعنا، إنْ كنت مازلت تذكر، على مباغتة دوريات الجيش بقنابلنا البدائية الحارقة، وظلت تتزاحم بين جفون عينيّ دماء الشهيد مصطفى الطاهرة تسيل، وصورة الرجل الذي يرتجف برداً وعذاباً دون ذنب، وأصوات بكاء الطفلتين تسيل في أذني حديداً مصهوراً، وكانت تتراءى لي بصاطيرهم وهي تعبث تكسيراً في خزائن بيتي، وتداخل صوت بكاء الطفلتين الخائف ببكاء أطفالي المرعوب، وكدت أرى أيديهم تسكب حليب أطفالي فوق ركام البيت مستهزئة مستهينة منتشية، فبدى لي أن الزجاجة الحارقة يجب أن تكون قنبلة، وألقيتها فوق دورية الجيش المارة متسللة في ليل المدينة، وألقيت أنت زجاجتك أيضاً، وكنا نرى دورية الجيش تحترق، وبدى لي أن الجنود هم أنفسهم الذين قتلوا الشهيد في الزنازين، وهم الذين إقتحموا بيتي، وهم من عبث بأثاثه، وهم أنفسهم من أبكوا الطفلتين الصغيرتين وعذّبوا أبويهما، وهم الذين قتلوا عمي وأجبروا أبي عندما كان صبياً وبقية القرية الوادعة على مغادرة بيوتهم، وأنهم يتكررون نسخة كربونية لا تجديد فيها سوى في فن القتل والذبح والعنصرية المتأصلة، وكدت أظل أتفرج على النار المشتعلة فيها، وبدى لي أن الدفء صار يتدفق إلى جسدي، ولم تعد أسناني تصطك ببعضها برداً، وأن قدمي قد جفّا واختفى الورم والتضخم من أصابعهما، وبدى لي أن الثلج قد بدأ يستعيد بياضه ولونه، واستعاد حيويته فازداد ضرع الغيوم عطاءً، وكبر حجم ندفه وتكاثف ليشكل لنا باب حماية للإختفاء، وكان لون الثلج أبيضاً، لكن ليس ذلك الأبيض الذي خبرناه منذ مجيء أوسلو، لم يكن أبيضاً مُزيفاً، كان ناصع الوجه نقياً غير متسخ وغير مُشوّه، فعادت مدينة رام الله جميلة كما أعرفها، وعادت لها الحياة، واستعادت الأسواق المغلقة رونقها، والشوارع حركتها، والمساجد والكنائس رحيقها، فارتفع الآذان وقرع الأجراس عزفاً متلألئاً في الأجواء، وتداخلت أصوات الباعة وزعيق الأطفال، وتعالت أصوات العتابا والميجنا والدحية، وارتفعت الدلعونا وحضر “زريف الطول”، ومن مكان قريب هلّت “زفة” لعريس جديد، وتجمعن الصبايا في ليلة حناء لعروس واقفة على أبواب المدينة ماتزال تبتسم، وأمام وقوفي العبثي متفرجاً، كانت يدك تشدني وتهزني بعنف:

ـ هيا بسرعة، أتريدهم أن يقتلوننا؟

وغادرنا المكان وسط بكاء رصاصهم المتفجر خلفنا، تماماً في أعقابنا دون أن يصلنا أو تصيبنا شظاياه، وفي كل مكان واتجاه، واحتوتنا شوارع المدينة التي لم تعد غريبة، وغطت إنسحابنا كاملاً من المكان، وكأنها توجهنا إلى طرق الحقول، وكانت أصوات إعلانهم لمنع التجوال في المدينة المرافقة لأصوات الرصاص لم تهدأ بعد، ونحن نصعد الجبل مبتعدين عن المكان.

في ركن بعيد في ثنايا ذاكرتي وخباياها، استحضرت بعض كلمات أبي قبل أن يغادرنا مبكراً إلى ربه يقول:

ـ “إقضِ على البرد بالحركة، السكون هو الموت بعينه، ورؤية النار، حتى البعيدة منها، تجعلك تشعر بالدفء”.

  •            *            *

أعاد لي عامر بقصته ذكريات وشجون، قلت قاطعاً حبل ذكرياته المتدفقة نبعاً من عمق جبل:

ـ ليس هذا ما أتى بي إليك، إنه شيء آخر، لسانك السليط علينا، لماذا كل هذا الحقد؟ أفقدت كل احترام لهذا التاريخ الذي تستعيده.

انزلقت قطعة الخبز من بين أصابعه إلى صحن الزعتر، كفت أسنانه عن المضغ، سكت طويلاً قبل أن يسكب في فمه ما تبقى من كاسة شايه ليسهل لها طريق الوصول لمعدته وقال:

ـ الحقد؟!!! أنا أحقد عليكم؟وهل هناك من يحقد على نفسه؟ على أمله؟ ولماذا؟ ربما كان الأجدر بك أن تقول الحب وليس الحقد، فأنتم الأمل الأخير إن إستطعتم استئصال أوراكم السرطانية، إن أخرجتم المستفيدين الذين استطابوا الراحة في الزمن الصعب، إن إستطعتم العمل، كما سبق، تحت الأرض، كنا بإحتلال ونعمل سراً، فما بالك عندما صار للإحتلال أعواناً وعيوناً ومنسقين أمنيين؟!!! صار له أذرعاً طويلة تلاحق وتعتقل وتُخبر وترشد وتكمم الأفواه وتقتل؟ أرأيت قيادة وطنية تُحاكم شهيداً وأسيراً؟

سكت قليلاً وكاد يغتصب إبتسامة فخاف أن تبدو حمقاء كاذبة فعدل، وقال:

ـ قال المرحوم والدي:” أُحب من أبكاني وبكى علي وليس من أضحكني وضحك علي”.

قلت ومازلت مصراً على إيصال رسالة الرفاق له:

ـ على الأقل انتقدهم هم، هم الذين فرطوا وليس نحن.

قال:

ـ “الضرب في الميت حرام” كما تعلم، رغم أن لساني لم يستثنهم أبداً، لكن وكما تقول هم فرطوا لكن ما الذي فعلتموه أنتم؟ ماذا فعلتم لوقف هذا التفريط أو إستمراره في الربع قرن الأخير؟ إنكم صرتم “مؤدبين” أكثر مما يجب، لا أعلم أخوفاً عل جرح مشاعرهم أم للحفاظ على مصالح بعض أفراد القيادة؟!!!وفي الحالتين النتيجة واحدة، وأنتم، في مثل هذه الحال، لا تستحقون غير الشفقة.

كنا نتحث بلغتين مختلفتين، وكان قد أخرج من علبة سجائره واحدة وأشعلها، وتابع مفصلاً:

ـ هناك تفريط يومي لدى قيادات “أوسلو” كما تعرف، فلماذا معارضتكم خجولة هزيلة إلى هذه الدرجة؟ ثم ما هي العوامل المشتركة التي ظلت تجمعكم بهم؟ لماذا مازلتم متشبثين بمواقعكم في مؤسسات السلطة القيادية؟ ما سر هذا “الحب العذري” معهم؟ ألم تتعلموا بعد أن الذي يخجل من عروسته لا يُنجب أطفالاً؟ لماذا لا ترفعوا صوتكم عالياً في وجههم؟ لماذا لا ترفعون صوت أفعالكم أعلى في وجه مَنْ يخدمون؟ لماذا لم تؤدبوا ولو مرة واحدة مسؤولاً أمنياً ممن يُنسقون مع آل صهيون؟ من الذين يشون برفاقكم ويعتقلونهم ويعذبون؟ ما الذي جرى لكم؟ ألا تنظرون أين صرتم والى اين وصلتم؟ أرفضتم المشاركة في إنتخابات البلديات كي تتمسكون في مفرزات “أوسلو”؟ لماذا لم تُكملوا ما عاهدتم الناس عليه من تصعيد الموقف وعدم الوقوف عند مجرد رفض المشاركة في إنتخابات بلدية؟ ألا تعتقد أن ذلك هروباً للأمام وتغطية على عجزكم؟!!!

سحب من رأس سيجارته نفساً عميقاً، اقترب مني، وأطلق سهمين من عينيه لتخترقني وقال:

ـ ما فعل هؤلاء القادة المتمسكون بهذه العلاقة أمام إعتقال رفاقهم في سجون السلطة؟ ماذا فعلوا ليحمونهم من أجهزة أمنهم وسجونهم؟ أهذا هو الحزب أو الفصيل الذي كانوا يرتعدون منه ويحسبون له ألف حساب؟ أهذا هو الحزب الذي ظل على الدوام حامياً ومدافعاً عن الوطن والرفاق والناس والقضية؟

عدل من جلسته وتابع سحب الأنفاس من رأس سيجارته وقال:

ـ ترى مَنْ الذي عليه إعادة النظر في مفرداته الوطنية؟!!!

ودون مقدمات، وكأنه يريد الخروج من الموضوع أو الإبتعاد عنه، قال:

ـ لقد قاطعتني دون أن أكمل لك القصة.

وأكمل دون أن يسمع لي رداً:

ـ لقد كان هواء الجبل البارد نقياً، كان عطراً برائحة الميرمية والشيح والزعتر إن كنت مازلت تذكر، وكان يبتلع برده المتجمد كأنما يريد حمايتنا من مرض كامن في أزقة الهواء، يزيله ويخفيه بعيداً في أعماق الأرض، أو ينثره بعيداً فوق مساحات السحاب، وكان لون الجبل أبيضاً ناصعاً كأجنحة ملائكة الجنة، إستعاده الجبل بعد مرور سنوات على ذلك، لون أبيض لا علاقة له بالرايات البيض، تخاله يشبه الرايات الحمر في زمن الحرب، أو بلون حشائش الأرض الربيعية الخضراء الممتدة على طول السهول، وربما بلون الأرض الأسود الممدة على ظهرها بإنتظار الإخصاب، لكنها لا تتخصب من ثلج خصي مزيَّف اللون عاجز، بل من ثلوج ناصعة بيضاء استعادت لونها الأصيل الشامخ، مشرئب العنق مرفوع الجبين ويحتضن الجبل والسهل كله، كأنه يحميهما من رصاصهم المتطاير حقداً وعنفاً وانتقاماً وسفور، وظل يطاردنا ونحن نصعد عالياً عالياً من صخرة إلى أخرى، متسلقين السلاسل الحجرية محاذين أشجار الزيتون الراقصة بنا فرحاً، وحينه فقط أدركت طريقي إلى الدفء…. أأدركته أنت؟

قلت مغلوباً على أمري:

ـ يعني ما في فايدة؟

قال:

ـ بلى، عندما يستعيد الثلج لونه الأبيض، ويصير كالراية الحمراء وحشائش السهل الربيعية الخضراء ولون الأرض الأسود المستعدة للإخصاب.

محمد النجار

 

 

 

الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار