إنهم يقتلون الخيول…

أجلستني عناصر الشرطة والمحققون على باب غرفة التحقيق، لأكون قريباً منهم وقتما يحتاجونني للإدلاء بشهادتي، فيبدو أن هذا الرجل “الأكتع” خطير على الأمن العام، خطر ذئب جائع على قطيع غنم، فكما يقول المأثور الشعبي “كل ذي عاهة جبار”، ما بالك وهذا “الجبار” حر طليق يجوب الشورع والطرقات دون رقابة، ومن أمام الباب يمكن سماع نتفاً من التحقيق المتسرب من تحته ومن مساماته الخشبية، ويصير الأمر أوضح عندما يفتحون الباب لأسباب متعددة، دخول أو خروج، قهوة أو شاي، أو لإستحضار أحد الضباط نتيجة لخطورة الوضع والموضوع، أو عندما يتطلب الأمر إستدعاء شاهد ما، حينها ترى وتسمع بكل وضوح، كيف يتدفق نهر الكلمات جملاً بكاملها وفواصل وحروف ونقاط، خارجة من باب الغرفة، متدافعة مع دخان السجائر المكبوت في تلك المساحة الضيقة، ليغطي الرواق الذي نقف على بابه، كما الغرف المجاورة أيضاً . ولست أدري كيف كانت أذناي، حتى والباب مغلق، كالمغناطبس تلتقط الحروف، تجلبها، تُجمّعها، تلملمها من الهواء وتنقيها، كإمرأة موهوبة تلتقط حبات الزوان والحجارة الصغبرة من بين حبيبات الأرز بسرعة فائفة، ثم تصهرها وتُِشكلها كلمات وجمل مترابطة داخل رأسي، رغم أنني رجلاً لا يحب الفضول، بل يمقته، لكن يبدو أن للخوف قوانينه، له إنعكاسات وسلوك وطقوس، الأمر الذي لم أكن أعرفه قبل ذلك أبداً إلا لماماً، في مناسبات متباعدة تكاد لا تُذكر، ما زلت أتذكر تفاصيلها رغم كل محاولاتي الفاشلة لنسيانها، متذكراً في كل لحظة كلمات المرحومة أمي، وهي تقول لي آسفة على الرعب الذي يتلبسني:

ـ يا حسرة يابني، أعلم أن “الرجولة” والشهامة والعزة والإباء لا تُورّث، وعبثاً ذهبت كل محاولاتي والمرحوم والدك أن نحشوها في أوصالك، فهي ليست مثل حبيبات الأرز هذه داخل حبة من “الكوسا”ـ مشيرة إلى ما كانت تحضره من طعام بين يديهاـ من سوء حظك يابني أنها تنمو وتكبر وتبرعم وتثمر في معمعان المعارك، في الزمن الصعب، تتطلب الحكمة والوضوح والتحدي والإقدام، تماماً كما جذور الزيتون التي تخترق الصخور وتُفتتها، في لحظات تمتحنك بها الحياة، لحظات الحسم التي لا مجال فيها لتردد أو تسويف، خوفي يابني من نهر الخوف الذي يندلق في عروقك في اللحظات الصعبة، وينازع دمك على لونه، خوفي أن ينتصر عليه ويغير لونه، أن يحوله الى ماء مُعكّر نجس، ويحولك إلى جبان رعديد، يمقتك بسببه الناس والمجتمع، وحتى زوجتك التي تستقبلك بداخلها ظانة أنك أمين عليها، وتشكل لها السند القوي وحائط الأمان…تماسك يابني تماسك، فبين الخوف والجبن لحظة واحدة أرق من ورقة السيجارة وكم هائل من الدمار، تماسك يابني، إن كل العالم لن يستطيع إصلاح لحظة جبن واحدة إن تفلتت منك وانكسرت، لأن أول خساراتك هي نفسك، وخسارة النفس ليس يوازيها خسارات.

كما أنني لا يمكن أن أنسى توصيات والدي المرحوم منذ صغري، وتنبيهاته لي بأن لا أثق مطلقاً بسلطة أو ملك أو رئيس أو أمير أو عاهرة، لأن كل منهم “عاهر” بطريقته، والعهر واحد لا ينقسم، حتى وإن اختلفت أشكاله وطرائقه، فالعاهرة تبيع جسدها، وهم يبيعون بلادهم ومصالح شعبهم، ولوحدي أضفت اليهم لاحقاً الكتبة والمسحجين والمطبلين من لاعقي الصحون والأحذية، لكنني لم أبح بذلك لأحد.

وعليه وكي أحمي نفسي، فإنني أطلقت العنان لحواسي مجتمعة، لكل قرون الإستشعار عندي، خافية وظاهرة، لتعرف كل ما يدور داخل غرفة التحقيق، فلا أحد ضامن أن لا أتحول من شاهد إلى متهم، ورغم أنني لعنت اليوم بل اللحظة التي أخرجتني من باب منزلي في ذلك الصباح، التي لولاها لما وصلت أمام غرفة التحقيق في قسم الشرطة هذا، بسبب ذلك  “الرجل الأكتع”، إلا أنني لمت نفسي أكثر ولعنتها مراراً على شفقتي عليه، وضعف قلبي على حِنيّته المفرطة، قبل التأكد من أن هذه الشفقة وهذا الحنين لن يكونا في غير مكانهما، لكن ما العمل أمام مثل هذه الطيبة المفرطة والسذاجة القاتلة؟نعم “ليس باليد حيلة” كما يقول المأثور الشعبي…

خرجت من باب منزلي صباحاً كعادتي في الفترة الأخيرة، بسبب دخولي عالم العاطلين عن العمل منذ شهور عدة، لأتفرج على ذلك الرجل الطيب الهرم، الذي يأتي كل يوم ليطعم الحمام البري، فازداد إيماني وثقتي بالله الذي “يرزق الدودة في باطن الأرض”، ولا ينسى من فضله أحدا، ورأيت التفاؤل هذا والإيمان يزيدان التفاؤل داخلي بأن أجد عملاً من جديد، فالدنيا لا تخلو من “أولاد الحلال”، وأنها “إن خلت بلت” كما يقول المأثور الشعبي، وحلمت واعياً أنني ربما وجدت عملي القادم عند هذا الرجل الطيب، مبتعداً عن غابة البطالة الكثيفة هذه، التي تمتد وتكبر وتنتشر مثل النار في الهشيم، حاصدة آلاف الأيدي الباحثة عن رغيف خبز يوما بعد آخر، وعدت أنظر لهذا العجوز المنقذ الذي يأتي للحمام بالخبز و الحبوب من منزله في كل يوم.

لا أستطيع القول من “بيته”، فكلمة “بيت” فيها الكثير من الغبن والإجحاف، ربما الكلمة الأصح هي من “قصره”، وبغض النظر عن المعنى لهذه الكلمة وهذا التوصيف، فالرجل كان يأتي، دعني أقول، من “بيته الكبير”، المؤلف من عدة طبقات، لا أعرف ماذا يحوي أي منها،  لكنني أعرف أن البيت محاط من كل جوانبه ببساط أخضر وشجر مثمر من كل صنف، تلفه الرعاية والشمس والمياه والحنين، وأي تقاعس من قبل العاملين فيه يواجه بالتوبيخ والتعزير والخصم من الراتب الشهري وحتى الفصل من العمل، لدرجة قال البعض أن أحداً من الذين عملوا في هذا “القصر” لم يأخذ يوماً راتباً كاملاً أبداً، وكنت أقول في نفسي “أن الله يعطي اللحمة لمن ليس له أسناناً”، فهؤلاء العاملون الحمقى لا يعرفون ماذا يعني أن يكون لديك عمل، أن تكون ضامناً لرغيف خبزك لليوم التالي، أن لا تسمع بكاء أطفالك متضورين جوعاً وتعنيف زوجتك لأنك لم تجد ملاً، وكأنك قادر على ذلك وترفض أو تتمنع، لذلك هم يتكاسلون ولا يقومون بعملهم كما يجب، وكذّبت صديقي الذي يعمل هناك، عند العجوز الطيب منذ شهرين ويزيد، عندما إدعى أن الرجل العجوز يفتعل القصص ليخصم عليهم أجورهم.

كما يوجد في البيت حمام سباحة في المنطقة الخلفية، ومظلات للحماية من الشمس، كي لا تؤذي أحفاد العجوز وأولاده، ويقول بعض “المبالغين” أن الماء الذي تُسقى به الأشجار والبساط الأخضر يتعدى كثيراً ما يشرب المخيم القريب ويغتسل، وكان للقصر طريق معبد لعبور سيارات أولاده وزائريه من البوابة الحديدية الضخمة، قيل أن تختفي في مكان ما تحت القصر.

لا أعرف لماذا أظل أثرثر بعيدا عن لب الموضوع، فالأمر ببساطة شديدة، أن ذلك الرجل العجوز الطيب لا يستطيع تجنب قعل الخير، فكان يخرج في كل صباح باكر ليطعم الحمام خارج قصره، باقياً حتى ساعات الظهيرة القاسية، يخرج ببنطال رياضي طويل، وبلوزة أو سترة من اللون نفسه، يفوح منهما رائحة النظافة والنقود، متوجهاً إلى ظل شجرة قريبة من الطريق العام، يجلس على كرسيه الذي يحمله أحد عمال القصر يُجلس عليه العجوز قبل أن يعود.

يبدأ العجوز بتقطيع الخبز ونثره على بعد خطوات من قدميه، وكان الحمام يأتي حائماً تحت سقف السماء، سابحاً على أمواج الهواء، مقترباً من أرض الطريق، ثم سرعان ما يشق الهواء بمنقاره ورأسه الى الأعلى، يعاود “الكر والفر” مرات ومرات قبل أن ينزل بحذر بعيداً عن الرجل في أول الأمر، ليلتقط ما تيسر من غذاء، ثم يأخذ بالإقتراب قليلاً قليلاً، وسرعان ما صار يتخلى عن حذره رويداً رويداً، لمّا رأى  الرجل لا يضمر له أي سوء، صار الحمام يقترب أكثر وأكثر، ويوماً بعد آخر صار يتخلى عن حذره، ثم تحولت رؤيته للرجل العجوز إلى عادة، فصار يتجمع أكثر وأكثر، ويأخذ الفتات المتساقط تحت أقدام العجوز، ومرات ينقر الخبز من بين يدي العجوز نفسها، الذي تتفتح شفتاه مظهرة اسناناً اصطناعية بيضاء مثل زهرة، مطلقة ابتسامة طفولية بريئة، تزيد في طمأنينة أسراب الحمام التي تتكاثر بين يديه يوماً بعد آخر، ممزقة حذرها قاذفة به، إلى الصخر، من أعالى السماء، وتجعل من يرى المشهد مثلي يكن للعجوز كل المودة والحب والإحترام، ويدعو له الله في كل صلاة.

جاء نفس هذا “الرجل الأكتع” كما في كل يوم، خرج من مخيم قريب، حيث يمكنه أن يغتسل وينام أحياناً على حصائر المسجد أو مقاعد الكنيسة المتجاورين، جاء هذا المشرد بملابسه الرثة، بحذائه البالي، بشعره الأسود الأجعد الكثيف، شعر طويل يغطي وجهه كاملاً، حتى لا تستطيع أن ترى منه شيئاً، حتى أثناء التحقيق معه، كان كلما أمره المحقق أن يرفع شعره ليستطيع رؤية وجهه، يرفعه من جانب لتنهال بقية الخصل من جوانب مختلفة لتغطي الجزء الذي تم كشفه، أقول أنه جاء كما في كل يوم، وكنت أنا مثل كل يوم أيضاً، أفترش الأرض في ظلال شجرة وحيدة مقابل الرجل العجوز، أتمتع برؤية الحمام المتطاير بين يدي الرجل ومن حواليه، وهي تنقر خبزها، وهي “تهدل” متغازلة متمايلة متهادية، وهي تسير الهوينى عارضة رويشاتها البيضاء والسوداء والبنية والرمادية والزرقاء، كأنها في عرض أزياء طبيعي فاتن، كل حمامة تعرض أكثر من لونين من الريش الجميل، بعضها تفرد أجنحتها لتساعدها أكثر في الحركة، بعض الذكور تغازل أناثيها، يداعبونهن بمناقيرهم، والأناثي ترنو إليهم وتبتعد ، يتبادلون تنظيف رويشات بعضهم بعضاً، ثم تبتعد الإناث لتقترب من جديد، ذكور أخرى تطعم أناثيها بمناقيرها، ربما لتسرق قبلة تظهر من خلالها حباً، تطير الإناث متدللة إلى مسافة قصيرة قريبة، تعود لتلتقط حبات الحبوب أو كسرات الخبز الصغيرة، قبل أن تعود الى عشوشها في سويعات الظهيرة أو قبل مداهمة الظلام، في أعالي الأشجار، كانت تظل تسير برأسها المرفوع الشامخ، ترى نفسها أكثر بكثير من مجرد سرب حمام، ترى في حمائميتها نسوراً جارحة قوية، لا تدرك أن النسور لا تستجدي غذاءً، ولا تنتظر أحداً أن يلقي لها بقطعة لحم، فما بالك بكسرة خبز، وأن “نسوريتها” تلك من كونها ترفض أن تعتاش على فتات، من قدرتها على أن تستحضر الطعام بقوة مخالبها ومنقارها المعقوف، من صبرها على الجوع، فهي ك”الحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها”.

كنت أراقبها في مجيئها وذهابها، في أكلها، في حركة طيرانها، وهي تجلس بعد أن تشبع في ظلال الشجرة الآمن، متخلية عن كامل حذرها إلا قليلاً، ،وكنت أفكر قائلاً لنفسي، أنه حتى اسراب الحمام لها رونقها وجمالها عندما تشعر بالأمان، عندما تنام مطمئنة بين يدي إنسان عطوف مثل هذا العجوز، ولو لم يكن هذا الرجل طيب القلب أبيضه، لأحس به الحمام وتفاداه، لابتعد عنه وجافاه، لو لم يشعر بحبه له لما وثق به واقترب منه هذا الإقتراب، فالحمام يحس الحب والكره، ومن الصعب خديعة الحمام.

لكن “الأكتع” عكر ابتسامتي وقتل فرحتي  بلحظة واحدة، عندما نظر من بين خصلات شعره الأجعد الكثيف، نظرات كره من عينيه السوداويتن الحاقدتين، ورأيته يتجه مباشرة الى تجمع أسراب الحمام بين يدي الرجل الطيب العجوز، ينحني ويلتقط قطعة خبز جافة، لكن الحمام الذي كان حتى تلك اللحظة يشعر  بالطمأنينة والأمان، تطاير مرعوباً من هذا “الكائن” الذي عكر عليه صفوه، ومزق طمأنينته ورماها في غير اتجاه، تاركاً غذاءه والعجوز وظلال الشجرة وبعض رويشاته تتطاير في المكان، راكباً من الخوف أمواج الهواء، محاولاً التسلق إلى أعالي السطوح والشجر وأعمدة الكهرباء ورؤوس تلال الهواء الساخن، والرجل العجوز الذي فجعه ما رأى لسرب الحمام، كاد يبكي من الألم، وسرعان ما فتح هاتفه الخيلوي معرفاً عن نفسه طالباً قدوم الشرطة، لإعتقال الرجل “الأكتع”، الرجل الذي لا قلب له، وسرق طمأنينة وطعام الحمام وشتت شمله…

 

  •              *              *

قال له الضابط المحقق:

ـ ما هذا الشكل؟ لماذا هذا الشعر الطويل؟ ألكي لا يتعرف عليك الناس؟

فأجاب بصلف ناتج عن ثقة أو وقاحة:

ـ لماذا أتخفى؟ وهل أنا مطلوب ياسيدي؟!!!

فقال الضابط غير متجاهل لسؤاله مجيبا:

ـ لا أستطيع الجزم بذلك، فأنت لا تملك حتى بطاقة لتثبت بها هويتك، لكن كوننا ديمقراطيون ولا نتهم الناس جزافاً، فأستطيع القول أنك لست مطلوباً، لكنك سارق، أنت لصٌ…إعترف لتختصر الوقت عليك وعلينا.

وضحكوا، عندما رد هو:

ـ أنا لست لصاً، أنا مجرد مواطن جاع وتشرد في وطنه مثل الآلاف ياسيدي، لوكنت سارقاً لما قطعوا يدي…

واقترب من أذن الضابط وقال:

ـ في بلادنا يقطعون الأيدي النظيفة يا سيدي، الأيدي العفيفة التي لم تمتد يوماً الى أملاك الغير ولا إلى حقوق الناس….

قطع الضابط ضحكته، نظروا بدلالات لوجوه بعضهم البعض، ثم قال موجهاً كلماته الى زملائه قبل أن يوجه سؤاله الى الرجل “الأكتع”، الذي لم نعرف له إسماً بعد:

ـ هذا رجل مجنون أم ماذا؟ ماذا يقول هذا المعتوه؟ من الذي قطع يدك؟

أشار “الأكتع” بإصبعه إلى الأعلى، فسأل الضابط:

ـ الله؟!!! الله من قطع يدك؟!!!

ـ لا ياسيدي، معاذ الله، الله لا يقطع أيدي رعاياه، بل من نصّبوا أنفسهم مكانه، إنهم أولئك الجالسون فوق، على الأكتاف ياسيدي…

فكر الضابط بأن يواصل أسئلته كي يتعرف على الرجل الذي أمامه، فربما كان أمام حالة خطرة متخفية وراء هذا الشعر الأشعث الكثيف، قال:

ـ وكيف قُطعت يدك؟

أسند “الأكتع” ظهره الكرسي، رفع رأسه عاليةً وكأنما أراد استحضار الزمن أمامه كي لا ينسى شيئاً، وكانت عيناه الشيء الوحيد المتوهج اللامع داخل كتلة رأسه، قال:

ـ في ذلك الزمن سيدي، كان الوطن مختلفاً عما هو عليه هذه الأيام، له طعم آخر وشكل آخر ورونق آخر ومضمون مختلف، كان الناس يتسابقون لخدمته، والموت من أجله شرف لا يناله أيٍ كان، يناله من يستحقه فقط، والجريح يمشي في الشارع مزهواً بجرحه، معتداً به ليراه الناس، كان مهر العروسة علامة جرح أو سنين سجن، لم يكن يسجنك أحد إلّا عدوك، وكان الناس سيدي وكأنهم كتلة واحدة، متعاونيين متضامنيين، قلب كل منهم على الآخر، الفرد في خدمة الكل والكل في خدمة الفرد، إلا القليل منهم الذين ركبوا لاحقاً على الأكتاف، بعد أن تهدمت بمعاول غريبة، من الجذور، تلك الأخلاق وبشكل مدروس مقصود، كان الوطن زينة الناس وشرفها، كان الهم والألم والأمل، كان البيت وكان الحب وكان الجنة، عصارة كل جميل وحلو ولذيذ، رغم مرارة الأشياء كلها التي تحيط به، رغم الثمن الغالي الذي تدفعه من أجل هذا الحب، الذي قد يودي بك لدفع حياتك ثمناً، ورغم ذلك كان الشباب يتسابق ليدافع عنه ويفديه، فارشاً حياته جسراً للآخرين مضحياً بها، لتستمر المسيرة وتنمو شجرة الأخلاق التي قطعوها من جذورها لاحقاً، هل تتخيل يا سيدي، أن إمرأة أو شيخاً أو ولداً كانوا يحتضنون أشجار الزيتون المقتلعة ويبكونها كما يبكون شهيداً؟ يفتحون لها بيوت عزاء، هل تتخيل أن حيازة بندقية صدئة أو مسدس كان يودي بك الى التهلكة وغياهب السجون؟ لا تتعجب سيدي، فبنادقنا الصدئة تلك تختلف عن بنادقكم هذه، بنادقنا تلك لم تعرف يوماً كيف يكون الإطلاق للخلف، لم تعرف الغدر ولا المناورة ولا الخيانة تحت شعار التكتيك أو أي من المسميات، كان لها اتجاه واحد فقط …قلب العدو…

شكراً سيدي لم أعد أدخن، الظروف أجبرتني على تركه، من لا يجد خبز يومه لا يجب أن يدخن أيضاً، حاولت العمل مراراً، لكنني ما لقيت إلا فشلاً، حاولت حمالاً وعتالاً، أن أعمل في مقهى، أن أبيع جرائد لكن دون فائدة، من سيُشغل رجلاً “أكتعاً” مثلي؟ حاولت العمل مع الحكومة ، طالبوني بنقل أخبار المخيم، قلت ها هو المخيم أمامكم، ينخره الجوع والعطش، يعمل به الأطفال تاركين المدارس ليعيلون أسرهم، متحولون إلى جهلة يطاردون رغيفاً، أخبرتهم بجوع أسر الشهداء والجرحى العاطلين مثلي عن العمل، قالوا أنهم يعرفون كل ذلك، وهذا كله لا يعنيهم، وأنهم يريدون أخبار الرجال، رجال الليل على وجه التحديد، وكوني أنام بعد العَشاء مباشرة لم أستطع أن أكون ذو فائدة لهم يا سيدي.

نسيت أن أخبرك أنني لم أتسول يوماً حتى من أجل الخبز، لم أمد يدي الباقية لأحد، أأمد اليد التي حملت تلك البندقية لتتسول؟!!! ومن أجل سيجارة؟!!! ربما لو كان لدي فائض من قروش لدخنت من جديد، لكن لا، لا ياسيدي، لن أدخن من جديد، ربما اشتريت بها خبزاً لأناس مثلي يعج بهم المخيم، كي أكفيهم شر الحاجة والعوز ياسيدي….

تَحَمّلني قليلاً، في تلك الأيام حملت بندقيتي مع بضع رفاق درب، كنا جاهزين للقتال دائماً، نتنقل ببنادقنا من مكان إلى مكان، حيثما هناك حاجة تجدنا، لسنا وحدنا، مثلنا كان “مثايل” سيدي، كنا قد قررنا أن نحرر المسجد والكنيسة المتجاورين في مخيمنا، حيث أنام في هذه الأيام، ونحرر شجيرات الزيتون المحيطة بهما، كان الجند قد إغتصبوها، كانو فد إعتلوا المسجد والكنيسة وحولوهما لمكان لأصطياد الناس وقنصها، وكانوا يدوسون المسجد والكنيسة والأرض وأشجار الزيتون بأحذيتهم، وأنت تعرف سيدي أن بيوت الله والأرض وأشجار الزيتون مقدسة، كما الإنسان تماماً، ولا يجدر بنا تركها تُداس بأحذية الأعداء، مهما كانت قدرتهم وتضخم جبروتهم، فذهبنا واشتبكنا وحررنا المقدسات كلها في المخيم، واستقدموا قواهم وبنادقهم وآلياتهم، وهاجمونا من جديد، وقاتلنا بدورنا حتى لم يبق لدينا ذخيرة نكمل حربنا معهم، وكنا نسمع أصواتاً تأتي من بعيد بعيد، من داخل الحدود وخارجها، وكلها من الراكبين على ظهور الناس وفوق أكتافهم سيدي…

وأشار بإصبع يده الى فوق من جديد، وقال:

ـ وكانوا بنا يصرخون: “العين لا تجابه المخرز”… يكفي ما قمتم به… “بوس الكلب من تمه تتاخذ غرضك منه”… “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”…”يكفيكم مغامرات غير محسوبة”… “ستدمرون كل جدران السلام التي بنيناها”… “انتظروا جيش العرب” “إلتزموا بأوامر الحاكم” وافقوا على “هدنة”لنستطيع مساعدتكم… يكفي أوقفوا إطلاق للنار…

كلما كنّا في قمة انتصارنا، كانت نفس تلك الأصوات تطالبنا بالتوقف والهدنة، وتساءلنا مرّات مع أنفسنا، هدنة ماذا تلك التي يريدون؟ وعلمنا دون عناء كبير، أنهم يريدون دعم الجند الذين كانوا أمامنا يتقهقرون، لماذا لم يطلبوا هدنة ولو مرة واحدة عندما كان رفاقنا بحاجة لها؟ هل هذه مجرد صدف؟ ونحن لم نكن بحاجة الى الهدنة ولا الى كل هذا النعيق سيدي، كنا نأمل أن يمدوننا ب”كمشة رصاص”، بدل هذا العويل، لكن “لا حياة لمن تنادي”، لم يكن أحد ليستمع لمطالبنا ولا احتياجاتنا، ولم نستمع نحن أيضاً لنعاقهم…

كانت معركة صعبة ياسيدي، كانوا أضعافنا عدداً وعدة، فاستشهد رفاقي كلهم، وأصبت أنا سيدي، رصاصة في خاصرتي، ضلت طريقها فخرجت من الجانب الآخر إلى مكان لا أعرفه ، وثلاث رصاصات في يدي، يدي تلك التي إنتزعوها وقطعوها في لحظات ضعفي.

زحفت في المكان لأخرج من المكان الذي كنت فيه محاصراً، زحفت كما لو أنني لم أكن مصاباً، فالحياة جميلة ونحبها حتى عندما نضحي بها، ربما أننا نضحي بها لشدة حبنا لها ياسيدي، زحفت وزحفت وزحفت، ونوافير الدم تتسابق لتعانق جذور الزيتون، كان دمي قد اختلط بدماء رفاقي الشهداء، لدرجة أنني لم أعد قادراً على تمييزه، نفس اللون ونفس الرائحة ونفس الطريق، وظنّي أنه وصل لأساسات الكنيسة والمسجد ليقوي صمودهما، وربما ليشد من أزرهما، ليطمئنهما واعداً بدماء جديدة قادمة… وفجأة… دون مقدمات أو سابق إنذار، فسحب المياه من البئر مهما كان عميقاً يؤدي إلى جفافه، فما بالك بجسد ضعيف مثل جسدي هذا؟!!! سرعان ما أخذ يجف الينبوع في جسدي، ولم يمر طويل وقت حتى غبت عن الوعي، ليس بسبب الألم سيدي، بل ربما بسبب فقداني لكمية كبيرة من الدم، كما قال أحد الأطباء، بعد ذلك وبصراحة سيدي لا أعلم كيف صار الأمر بالضبط.

علمت لاحقاً أنهم أخذوني الى الكنيسة أولاً، أخفوني هناك مستعينين بطبيب شاب ليوقف نزيف دمي، ثم إلى أحد المستشفيات بعد أن هدأ البحث والتفتيش، وكنت أسمع كلاماً كما في أحلام اليقظة سيدي، كان من غامر وساعدني يستجدي الأطباء، وكان بعض الأطباء يهزون أكتافهم، يريدون القول أن “ليس باليد حيلة”، فأحد الحكام أو الجنرالات سيدي، كان قد جاء لعلاج إنتفاخ في خصيتيه، في تلك الليلة وذات اللحظة، ويبدو أن هذا بسبب سوء طالعي، فخصيتا أي حاكم أو جنرال أو مسؤول، كما تعلم، لا تضاهيها أرواح مَنْ هم مثلي من الناس، فما بالك بمجرد يد؟!!! فبين أفخاذ الحكام والرؤساء والملوك والأمراء، تُطبخ وتنضج وتترتب أصعب الأمور، تتفتح وتحل أكثر الأمور تعقيدا، لكن لا تنمو زهرة واحدة!!! ربما بسبب الزيوت والعطور والمنشطات الكيماوية سيدي!! أنا لم أكن أعلم بالضبط كيف تسير الأمور، كيف تأخذ مساراتها، لكن بعد أن فكرت في الأمر أكثر، وكي أكون صادقاً وجاداً أيضاً، تساءلت: ماذا يساوي ذراع رجل فقير “نكرة” مثلي أمام خصيتي أي من الحكام؟ بل ماذا يساوي بضعة رجال من أمثالي أمام خصيتيه؟ أنا رجل واقعي وأعرف حجمي سيدي، وأعلم أنهم لو وضعوا “خصيتي اصغر حاكم” في كفة، وعشرة رجال من أمثالي في الكفة الأخرى، لرجحتا خصيتي الحاكم، “مجنون يتكلم وعاقل يستمع”، ما هذه المقارنة الفاشلة، وغير المتوازنة ياسيدي؟!!!

نعم سيدي، تجمع كل الأطباء في غرفة الحاكم، ومن كان لديه الحظ سيدي، فقط من كان لديه الحظ، استطاع أن يلمس خصيتي الحاكم، أن يتحسسها ويتلمسها، سعيد من استطاع أن يبدي إعجابه بها، ليرضى عنه وعليه الحاكم، فالحكام تحب أن “نُرطل بيضاتها” سيدي، وتفرح كالأطفال عندما نعجب بأي شيء عندها، فما بالك بخصياتها؟، أما بقية الأطباء، الذين لم يكن لديهم ذلك الحظ، فرؤوهما من بعيد فقط، “وكما يقول المأثور الشعبي” اللي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى”، لكن المأثور الشعبي نفسه يؤكد قائلاً “الريحة ولا العدم”، ولا أخفيك كم كان هؤلاء حزانى لعدم قدرتهم للوصول لتدليك خصيتي الحاكم، ولا أستطيع الجزم سيدي، ففي أحلام يقظتي تلك تهيأ لي أن بعضهم كان ساجداً بين خصيتيه، وكأنه أراد عبادتها أو تقديم فروض الطاعة لها…وربما تقديم الأضاحي على أبواب حصونها سيدي.

أحد الأطباء همس للبقية المتحولقة حول “خصيتي” الحاكم، أن هناك حالة طارئة، وأن عليهم تحضير غرفة العمليات، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد سيدي، حيث صرخ به الحاكم قائلاً:

ـ كيف تجرؤ على التفكير بذلك؟ أتريدهم ترك خصيتي لمجرد وجود حالة طارئة؟!!! لقد هزلت، أتساوي بخصيتي حالة طارئة؟ وأكثر من ذلك أتساويهما بحالة طارئة من العامة؟ من الرعاع؟ حتى الله يقول” وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات، أكافر أنت أم مرتد أم زنديق؟أتساوي خصيتي بحياة شخص “نكرة”؟ ألا ترى أنه يشبه الإرهابيين؟ ألا يكفي أن مثل هؤلاء من يعطل الأمن والسلام والإستقرار في المنطقة؟

حاول الطبيب الدفاع عن نفسه قائلاً:

ـ إن يد الرجل ستقطع يامولاي، إن لم نسارع في استخراج الرصاص المتفجر من داخلها…                       فقال له المسؤول جازماً:

ـ للخرى….فلتقطع…

وقطعوها سيدي فداءً لخصيتي الحاكم…

  •           *            *

طرقت الباب مستأذناً للذهاب للمرحاض في آخر الممر الطويل، أبعدتني الطريق فلم أعد أسمع لبقية قصته، وأصدقك القول أنني لم أكن لأصدقه لمّا كان يرفع إصبعه متهماً الحكام، أو ساكني القصور كما قال أكثر من مرة، فها هو الرجل العجوز الذي يفني عمره ويقضي وقته لإسعاد وإطعام بضعة حمامات ضعيفات يبحثن عن فتات خبز، أليس هو من ساكني القصور؟!!! فكيف تريدني تصديق أقواله؟ لكن دعك من هذا وانظر ماذا سمعت عند رجوعي مرتاحاً من المرحاض أعزك الله، إلى حيث كنت أمام باب غرفة التحقيق، فاتحاً بابه مخبراً عن قدومي، متحملاً كلمات الضابط الذي عبر عن إحتجاجه قائلاً ” جيت؟الله لا يجيبك… إرتزي بره”…

و”إرتزيت”كما أمر، لكنني كنت قد رأيت وسمعت، رأيت كيف كانت عيناه تلمعان من تحت شعره الكثيف، حين كان الضابط الكبير ناظراً إليه محاولاً تفسير كل كلماته وحركات جسده، ومن على الكرسي المقابل سمعت ماذا سأله ضابط كبير آخر ، قائلاً:

ـ لماذا أخذوك جريحاً للكنيسة وليس للمسجد؟ أأنت مسلم أم مسيحي؟

سمعته بأذني عندما توتر كما لم يكن من قبل، وهاج وماج وقال للضابط:

ـ وما علاقتك أنت بديانتي؟ هذا الأمر بيني وبين الله ولا دخل لأي كان به، الزموا حدودكم ولا تسألوا مالا يعنيكم…

ولم يقل له حينها “ياسيدي”، فقال الضابط الأول مجدداً حازماً متشككاً:

ـ أجئت لتعمل علينا بطلاً أيها اللص المتشرد؟ لو كنت ذكياً، ومادمت قد قررت السرقة، فما كان عليك إلّا أن “تسرق جملاً”؟ لكن رائحة غبائك تزكم أنوفنا…

وانهال بكفه فوق وجه الرجل “الأكتع”، فتح الباب النادل في تلك اللحظة بالذات، ليدخل بكؤوس الشاي لطاقم التحقيق، فرأيت كيف تلقّف “الأكتع” بيده المتبقية يد الضابط ممسكاً بها مثل ملزمة، وقال:

ـ لو فعلتها ثانية سأكسرها لك، أفهمت؟

وظل قابضاً على يد الضابط وقال دون أن يترك يده:

ـ لم آت لأعمل بطلاً على أحد، مثلي لا يفتعل شيئاً ليس به، لأنني في الأصل بطل فعلاً، ولو كنت لصاً و”سرقت جملاً” كما تقول، لربما كنت في مكانك الآن… سيدي.

كانت كلمة سيدي هذه المرة، أكثر استهزاءً من أي مرة أخرى، ثم أفلت ذراعه، وأكمل الضابط بالعاً الأهانة:

ـ لقد ألقينا القبض عليك متلبساً، كسرة الخبز ما تزال في جيبك أليس كذلك؟

ـ بلا، لكنني لم أسرقها، أنا وجدتها على الأرض، قطعة ناشفة جافة ملقاة في وسط الشارع…

ـ لكنها طعام الحمام، نعم الحمام، رمز السلام والمحبة والتعايش، لكن مثلك من تعود أن يعطي قيمة للرصاص، لا يمكن أن يفهم ماذا يعني ذلك، كما أن الرجل العجوز الطيب القاها للحمام وليس لك أنت، وأنت تجرأت على الحمام فأرعبته وأخذت أكله…

قال الضابط مؤنباً “الأكتع”، الذي دس يده في جيبه وأخرج كسرة الخبز وقال:

ـ أيمكن للحمام أن يأكل مثل قطعة الخبز هذه سيدي؟

كانت القطعة بحجم نصف الكف، الأمر الذي جعل الضابط يكمل التحقيق دون تعليق مهم:

ـ يمكن أو لا يمكن، أنت سرقت الخبزة وأرعبت الحمام، وعقابك السجن….لكن قل لي من أين أنت؟ فأنت لا تملك حتى اثبات شخصية.

ـ من المخيم سيدي…

ـ أي مخيم؟ المخيم الصيفي؟

قال الضابط مستهزئاً، حين رد “الأكتع” مجيباً:

ـ لا يا سيدي، مخيمنا شيء آخر يختلف عمّا في ذهنك، مخيمنا بدأ بالخيمة والطين والبرد والأمطار، ثم تحول الى طوب وصفيح وأمطار وبرد ومجاري وأزقة ضيقة وأشباه طرقات، إلى وكالة للغوث والتدجين ومحاولات تمرير الأمر الواقع، بيوت صغيرة سيدي لكن يسكنها عدد كبير من الناس، كما جاء في مناهجكم الجديدة سيدي” تجمع بشري كبير” بعد أن أسقطم عنه، معهم، جميع ميزاته وأبقيتموه عارياً…سيدي

وأشار بإصبعه الى فوق مرة جديدة… وأكمل:

ـ وما دمت ترى أن السجن مكاني المناسب، إذن فليكن السجن، أتعتقد أن “مَنْ تحت المزراب يخشى من المطر”؟!!! رحمك الله ياطرفة بن العبد:

” وظلم ذوي القربى أشد مضاضة        على المرء من وقع الحسام المهند”

فقال الضابط الأول متفاجئاً بالرجل “الأكتع”، وكأنه لم ينتظر أن يحوي رأسه أكثر من أطياف جهل وغباء:

ـ ماذا قلت؟ أعد…

ـ ليس مهماً سيدي، ليس مهما…

صار الضابط يشعر أن من أمامه ليس رجلاً معتوهاً كما يبدو، فحاول أن يسأل ليتعرف عليه أكثر، قال:

ـ لماذا لم يساعدك من أعطوك البندقية إذن؟

نظر في أعماق عيني الضابط، وقال وكأنه ينتزع سكيناً غرسه الضابط بسؤاله في قلبه:

ـ لأنهم يقتلون الخيول سيدي، يقتلونها بكل أشكالها وأنواعها وحجوما وجنسها، فالحصان إن ترافق مع المهرة يخلقون الزلازل ويفجرون البراكين، لذا يقتلونها وهي ماتزال تسير، وهي جامحة شامخة، يقتلونها وهي ما تزال تعدو، يقتلونها فرادى وجماعات، فالخيول تظل تحن الى أرض المعركة، وإن لم يصحبها أحد تعود وحيدة الى هناك، تظل تصهل وتعدو وتحفر الأرض بحافرها، وإن منعتها تغضب وتصهل وتقطع الحبال وتعدو في البراري والسهول، لذا توجب قتلها، ومطاردة مُهُرها قبل أن تشب وتكبر وتتعلم العدو والصهيل، فهي تذكرهم بواجباتهم التي أغمضوا عنها عيونهم.

وسكت هنيهة وأكمل أسئلة إستنكارية لم ينتظر عليها أي جواب:

ـ أما زلت تسأل لماذا سيدي؟ ألم تسمع ب”الأم التي تقتل أبناءها”؟!!! أُدرك أنهم قد غيروا الزمن وقلبوا المفاهيم، وأنهم قتلوا الخيول الأصيلة وروضوا بعضها محولينها بإرادتها إلى بغال، ونقلونا من زمن الخيول الأصيلة الى زمن البغال والحمير، وفي مثل هذه الأزمان يصير قتل الخيول، وفي وضح النهار، واجب ، فرؤية الخيل تصهل وتعدو تذكرهم بزمن لا يريدون تذكره… لكن أتعتقد أن هذا الزمن سيستمر طويلاً سيدي؟!!!.

كان الباب مغلقاً في تلك اللحظات، وسرعان ما فُتح ليأخذ الضابط عناويننا وأسماءنا، للشهادة على سارق أكل الحمام ومرعبه، وفي تلك اللحظة رأيت كيف عجز الضابط عن تقييد يده الوحيدة، فاستعاض عن ذلك بتقييد قدميه، ولشدة خطورته قيدوا يده الوحيدة بالقدمين أيضاً، وقال الضابط وهو يسحبه إلى خارج الغرفة لأحد المجندين:

ـ إياك أن يهرب منك…إنه خطير…                                                                                                                                           *            *            *

عدت الى بيتي ذلك المساء، بقيت أفكر في ذلك الرجل، رث الثياب فقيرها، “أكتع” اليد حاد البصر كصقر بري لن يتروض أبداً، والذي منع عن عيني النوم معظم مساحة الليل كله، وأنا أقلب كلماته داخل حجرات رأسي.

ولأن “الطبع غلب التطبع”، عدت الى طبعي للخروج في صباح اليوم التالي، للإستلقاء تحت تلك الشجرة لأراقب الرجل الصالح وهو يطعم الحمام، وفعلاً خرج من قصره، حاملاً أكل الحمام في كيس بلاستيكي، وأنا أراقبه كيف ينثره لها، والحمام يأتي بأسرابه بين يديي الرجل العجوز وبين أقدامه، ويكون قد عاد الى مغادرة حذره، واثقاً بالرجل البشوش الطيب، آكلاً من بين يدي هذا الرجل العجوز، ومنذ خرج العجوز من قصره، كان أكثر بشاشة وحيوية وابتسام، لم ينتظر ليصل إلى مكانه تحت الشجرة، بل صار يلقي الحبوب منذ خروجه من بوابة قصره العملاقة، في الشارع والطريق وضفتيه، استغربت لما رأيته يطعمها بحبوب لا أعرفها، لكنني “حسدته” على كرمه، كيف يشتري للحمام الحبوب إن نقص الخبز من بيته!!! وكدت أذهب لحد بيته لأهنئه وأقبله.

لم يمر طويل وقت، حتى بدأ الحمام يترنح في الطريق وعلى جانبيه، ثم يقع على أحد جنبيه أو ظهره، وبعض اللواتي حاولن الطيران منها، خدعتاه جناحاه اللذان أصابهما الوهن والخدر، ووقعت على سطح بيت العجوز أو في حديقته الخضراء، فأخذ العجوز يصرخ بالعاملين :”إحذروا أن يتسخ القصر، إذبحوها في الخارج قبل أن تموت، إياكم أن يتشوه وجه الحديقة الأخضر ويتسخ، كي لا أخصم ما تبقى من راتبكم هذا الشهر”، واستل سكينه وأخذ يذبح بدوره الحمام الغائب عن الوعي، يلقيه أرضاً ليخفي التراب دماءه النازفة، ويتمتم مع نفسه ” ما كان يجب أن تطعمهن هذا الكم من المواد المخدرة، نصف الكمية كانت تكفي…كيف استطعت أن تنفق كل هذا المال؟!!!” ثم أحضر أكثر من عامل من قصره، ابتدأوا يجمعون جثث الحمام المذبوح الهامد داخل أكياس بلاستيكية ويدخلونها داخل القصر.

كان الرجل العجوز يأكل الحمام ويأكل عظمه الطري على أسنانه الإصطناعية الماضية، يأكل حتى حد ما فوق التشبع، فالعجوز يحب الحمام ولحمه، يسند ظهره على ظهر كرسيه على طاولة السفرة، يأخذ نفساً عميقاً، ثم ينقضّ على الحمام المحمر الذي أمامه، ويبدأ الأكل وكأنه ابتدأ لتوه، كما وصف لي صديقي العامل داخل القصر عنده، منذ ما يزيد على شهرين بقليل، ثم يأخذ يلعق ما علق فوق أصابعه، مدخلاً أصابعه داخل فمه، أو مخرجاً لسانه ليلعق ما تبقى فوقها من بقايا طعام، وكأنه يستهزئ بعقل الحمام الذي صدق خديعته. دون أن يفقد ابتسامته لحظة واحدة طيلة فترة غدائه.

قام من على طاولته، وقال:

ـ يقول المأثور الشعبي ” تغدى وتمدى، تعشى وتمشى”، لا أريد أن أسمع صوتاً الآن، جاء وقت قيلولتي بعد هذه الوجبة الدسمة… يا أبو محمد… حضِّر الخبز لأطعم، صباح غد، هذا الحمام المسكين الذي لا يجد من يطعمه… “إفعل الخير وارمه البحر” يارجل ، لا تنسَ أبداً هذا الأمر…

واستلقى على كنبته الفارهة بعد أن غسل يديه بالماء دون الصابون، مسحهما بفوطته الصغيرة، ثم صار كعادته يشم رائحة لحم الحمام الطري المتشبثة بيديه، وبقع الدم ما تزال متشبثة بساعديه وفوق قميصه…

عدت إلى بيتي مغموماً ذلك النهار، وقد اتخذت قرارين مهمين، أولهما أن لا أتقدم لوظيفة في قصر العجوز، وأن لا أشهد ضد الرجل “الأكتع” مهما هددوا أو حاولوا إجباري، ولسبب ما تذكرت المرحومة أمي، فقررت أن أزور قبرها وأقرأ الفاتحة على روحها الطاهرة…

محمد النجار

الخل أخو الخردل!!!

كنا، ومنذ الصغر، أنا وعاهد على طرفي نقيض، نختلف في كل الأشياء التي لا يختلف عليها اثنان، كنا هكذا بدءاً من المدرسة الإبتدائية فالإعدادية فالثانوية، وبقينا نتحين الفرص لينقض أحدنا على الآخر ليحرجه أمام الآخرين، حتى كان لكل منا “شلته” التي يمشي ويلهو ويقضي وقته معها بعيداً عن الآخر، لكن وكما تعلم فهذا الأمر لا يستقيم في داخل قرية صغيرة محدودة، فما بالك في “خربة” جُل سكانها فرعين لنفس العائلة، يجتمعا في الأفراح والأتراح، في الأعياد وفي أماسي الأيام الرمضانية في المساجد والبيوت، وفي ديواني فرعي العائلة المتقابلين كندين في “خربتنا” الصغيرة، كما أننا كبرنا مع مرور الأيام والسنوات، ولم تظل الأمور على ماهي عليه من حِدّة، رغم بقاء بعدنا أحدنا عن الآخر، وجفاء كل منا نحو الآخر، خاصة جفائي أنا نحوه.

لطالما، كنت دائماً ما أرى نفسي عليه، وبفرع عائلتي على عائلته، من كافة الأبواب والنواحي، فنحن، منا، أصحاب الأرض الأكبر في “الخربة”، ولنا معظم أشجار الزيتون، وكل أشجار التين إلا ثلاثة، ونصف أشجار الفاكهة، ولدينا بضعة آبار صخرية لتجميع مياه الأمطار وهم لا يملكون سوى بئر واحد، ومنا أساتذة ثلاثة يُدرّسون في مدرسة القرية التي ننتمي إليها، مع عدد من “الخِرَب”المماثلة والمشابهة “لخربتنا”، كما أنني طالب في السنة الثانية لجامعة محلية وهو مجرد فلاح بائس، يعمل وحماره بشكل متساوٍ، يرتاحان سوياً ويأكلان في ذات الوقت، وربما يتجاذبان أطراف الحديث أيضاً!! يصفرّ وجهه ويضمحل بعد أن يتداخل بطنه ويلتصق بظهره إذا ما تأخر المطر أياماً، مثل شجرة تيبست لكنها ما تزال واقفة، لأن الجوع ملتصق وملازم له، ورغم ذلك لم ير نفسه يوماً بحجمه الطبيعي، ظل يضع رأسه برأسي ورأس أمثالي، دون أن يعير الفوارق الطبقية والإجتماعية بيننا أي إعتبار، بل أحياناً كان يكاد يقنعني أنا نفسي بأن هذه ميزة لصالحه وليست لصالحي، وكان أكثر ما يضايقني أن له من فرع عائلتي أنصاراً أكثر مني.

قال لي أحد أصدقائي، عبد العزيز، حين سألته عن سبب حب الناس واحترامهم له:

ـ إنه يقرأ كتباً لا يعلم أحد كيف أو مِنْ أين يحصل عليها، ويجزم الكثيرون أنه يقرأ أكثر منك ومن أساتذة “خربتنا ” كلهم مجتمعين، وكأنه هو من سيُمتحن وليس أنت!!! ويقول الناس أنه لهذا السبب بالذات لديه حججاً مقنعة لأهل خربتنا.

ثم تابع معلقاً:

ـ لم أكن أعرف أن الأجوبة جميعها تسكن وتقيم في بطن الكتب، وأن من يريد استجلابها، ما عليه سوى زيارة سريعة لتلك الكتب، ليصير من الجهابذة…

لم أعلق على أقواله، فعبد العزيز أحياناً لا يفترق كثيراً في حديثه عن المعاتيه، كما أنه أحياناً تخاله من الفلاسفة الذين أدرس عنهم في الجامعة…

نظر إلي عبد العزيز، وكأنه يريد أن يقول لي شيئاً أكثر مما قال، أو أن يُفهمني بكلماته تلك أكثر مما تحتمل، وتابع:

ـ كما أنه من أجرأ أبناء قريتنا وأكثرهم شجاعة، كما تعلم، رغم أنه يقول أحياناً كلمات لا يفهمها الكثيرون، مثل “أنه ورغم أهمية التعليم إلا أنه لا يساوي شيئاً أمام الثقافه، وأن الكثيرين من المثقفين غير المتعلمين تركوا بصمات وتأثيرات في العالم لم يتركها معظم المتعلمين”، و”أنك إن أردت أن يكون لك شأناً، عليك ترك توافه الأمور، خالقاً لنفسك شخصية تليق بك، فأنت أولا وأخيرا لن تأخذ من هذه الدنيا شيئاً، وستُنسى بعد أيام من مواراتك التراب مثل من سبقك، وإن أردت أن تبقي لك ذكرىً طيبة، عليك ترك أفعالاً تخلد ذكراك، يحبها ويتناقلها الناس”.

وتابع معلقاً:

ـ إنه يتحدث مثل رجل ستيني وليس كشاب من جيلنا، ألا تتذكر لقاءنا الأخير؟ كيف كان يتحدث في كل الأمور ويحللها ويعطيك نتائج تحليلاته وكأنه قد أنهى جامعة منذ سنوات؟!!!

وتذكرنا سوياً أحداث الأيام الماضية وحوارنا معه في المسافة الواقعة بين ديواني فرعي العائلة، قبل بضعة أيام من هذه اللحظة، وكأننا على أرض محايدة، حيث كان الحديث عن المصالحة الفتحاويةـ الفتحاوية، بين الرئيس والدحلان، حيث تفرع الحديث لا يعلم أحد لماذا ولا كيف، عندما قال:

ـ إنظروا من يضغط من أجل هذه المصالحة، إنها مصر والأردن والإمارات على وجه التحديد، ومن خلفهم آل سعود، فلو كان الأمر حرصاً على قضيتنا، لفتح نظام مصر المعبر الذي يخنق به، مع المحتل، شعبنا، أو لما قال وزير خارجيتهم أن قصف أطفالنا ونساءنا بقنابل الموت الصهيونية لا يمكن إعتبارها إرهاباً، أو على الأقل لأوقف نظامهم محاولات تشويه الوعي العربي ليس في الإعلام فحسب بل في مناهجهم الدراسية، حيث”صارت إسرائيل دولة صديقة، وليست عدواً، وأن كثرة الحديث عن صلاح الدين وتحرير القدس يعتبر تحريضا على الإرهاب”!!! أتتخيلون إلى أين وصلت بهم الأمور؟!!

ولما سكت قليلاً أضاف محمد، والذي صار مثل ظله في الفترة الأخيرة، وكأنه يُكمل ما قاله عاهد:

ـ وكأن مصر “الولّادة” صارت عاقراً في ظل هذه الأنظمة، ولم تعد تنجب سوى “المخصيين”، انظروا من رأّست للجامعة العربية!!!، أبو الغيط، ربما أكثر شخصاً في حكومات المخلوع مبارك خساسة وذلاً واستسلاما، أبو الغيط هذا، وكما كانت تزعجه المقاومة وانجازاتها، يقلقه الآن تسوية الدولة السورية مع مسلحي “داريا”، لأنه يخاف من التغيرات الديموغرافية!!!، وليس خوفا من انتصارات الجيش السوري التي تشي بانهيارات قادمة لأكلة أكباد البشر وقاطعي رؤوسهم!!! الأمر الذي يُفشل مخططات أسياده، وكأن الناس متوزعون في سكناهم هناك على أسس طائفية!!! لكنه لم يقلق من قمع نظامه للشباب الثوري المصري الذي ابتدأ الثورة المسروقة بعد اسقاط مبارك، ولا لإعتقال الصحفيين ولاا لإعتقال أصحاب الرأي والعقول، ولا لمنع التظاهرات، ولا لبيع الجزر المصرية لآل سعود، وبيع كل مصر للبنك الدولي والصهاينة من عرب وغير عرب، لم يقلقه أي شيء من هذا كله، لكنه قلق لأن المصالحة تمت بعيداً عن أعين أمريكا وأدواتها!!!

وأمام صمت “شلتنا” المطبق، قال علي، ابن عمي أخو أبي، والذي كنت أعتقد أنه من أوفى أوفياء جماعتي، متوافقاً مع ما ذهب إليه عاهد، وكأن صلة القرابة تجمعه به وليس بي أنا:

ـ أما الأردن، الذي أوجد من أجل حماية “إسرائيل” لن يخرج عن سياقه، فدعمه لمسلحي سوريا هي في ذات السياق، ودعمه لجماعات الإخوان المسلمين المتصالحين مع كل أعداء الأمة، والمعادين لقواها الوطنية هي في ذات السياق، وتكميم الأفواه هناك واعتقال المبدعين تخدم الهدف نفسه. والإمارات رهنت نفسها لآل سعود، بضغط أمريكي، في اليمن، وآل سعود الذين دمروا دولنا وحضارتنا، لم يكن تاريخهم كله سوى لخدمة أعداءنا، من لحظة التبرع بفلسطين “للمساكين اليهود”، مروراً بتوظيف النفط لخدمة المصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة، وصولاً لإستباحة أراضي نجد والحجاز وتحويلها الى قواعد عسكرية لأعداء أمتنا، ولو أرادوا دعم القضية لفعلوا ذلك منذ زمن، فالقضية والشعب تنزفان منذ عقود، ولم يقدموا لها بندقية واحدة، بل تآمروا لإسقاط بندقيتها، وها هم بعد أن حاولوا فاشلين، تدمير شعبنا في اليمن،  يتحفوننا بتبريراتهم ، بأن سبب هروب جنودهم في اليمن، وانهيارهم أمام قوى الثورة اليمنية، ليس الخوف والجبن لا قدر الله، ولا كون جيشهم لم يُنشأ إلا لقمع الشعب وليس لحروب خارجية، بل لأن اليمنيين “سحروهم”…

وسكت قليلاً وكأنه يريد أن نفهم كلمته تماماً كما هي، كي ندرك مدى عجز وتخلف هذا النظام الذي يقود تدمير بلادنا باسم الدين، كما يحلو له أن يقول دائماً…وتابع:

ـ نعم كما سمعتم، سحروهم، يعني سخرّوا الجِن ضدهم وعملوا لهم “الأحجبة”، وجعلوا الشمس مسلطة في وجوههم، لذلك فروا هائمين على وجوههم أمام الجيش اليمني واللجان الشعبية، ولذلك تتفاجأ القيادة السعودية، حيث تذهب لتقصف طائراتها المناطق العسكرية ، فإذا بهذه الأهداف تتحول بفعل “السحر” الى أهداف مدنية، وليس أي أهداف، بل مدارس ومستشفيات ومساجد وأسواق ونساء وأطفال….

ضحك الجميع على ما سمع، وقال طارق، الذي كان جالساً على الأرض ويرسم أشياء على التراب بغصن زيتون مكسور، وما زال ينظر الى نفس النقطة التي أمامه:

ـ هؤلاء الكسالى الذين يريدون الحرب بدبابات مكيفة؟!!!

وضحكنا جميعاً، حين أخذ عاهد زمام المبادرة بالحديث، وعاد به الى نقطة البدء، قال:

ـ إن ضغط هؤلاء لمشروع المصالحة بين عباس ودحلان ليس مشروعاً بريئاً، تماماً مثل محافظتهم على الدحلان ودعمه طوال هذه الفترة، ألم يكن “دحلان هذا” جاهزاً في “عريش” مصر أثناء الحرب الأخيرة بجنود وعتاد، ليدخل على أنقاض المقاومة، بعد توقعاتهم بهزيمتها في غزة؟!!! ثم على ماذا هما مختلفان، أقصد عباس والدحلان؟ “فالخل أخو الخردل” كما يقول المأثور الشعبي، فلا خلاف على برنامج ولا على سياسة، ولم يكن الدحلان الجنرال جياب كما لم يكن عباس جيفارا عصره…

استفزني الحديث، واستفزني أكثر موافقة معظم الجالسين على أقواله، فهذا البائس لا يترك مناسبة دون التهجم على الرئيس وباقي القيادة، قلت:

ـ كعادتك، المبالغة في كل شيء والتهجم على قيادات الشعب، تُفلسف الأمور كي تخدم وجهة نظرك، لا يُحركك سوى الحقد، هراء، كل ما تقوله هراء…

نظر نحوي وكأنه يشفق على عقلي، وتابع وكأنه لم يسمع كلمة واحدة مما قلته، وكأنني مجرد صدى صوت وصل  من مكان بعيد دون أن يعني أي أحد، وتابع حديثه قائلاً:

ـ انهم ببساطة شديدة، يريدون خليفة للرئيس الهرِم، يريدون ترئيسنا شخصاً أكثر سمعاً وطاعةً وبصماً لكل ما يريده الأعداء، وأكثر قمعاً للشعب وملاحقة لمناضليه، كما وأكثر تسامحاً مع “أبناء العمومة”، يعني نسخة أكثر تشويهاً ومسخاً وخضوعاً، وشباباً في نفس الوقت من الرئيس الحالي، حتى يضمنوا أن يظل الحذاء فوق رأس شعبنا أطول فترة ممكنة، كون الأعداء يدركون أن أي منهما لن يكون مشروعاً ثورياً أبداً…

قلت بغضب على حديثه، مُخفياً غضبي على تجاهله لي، محاولاً احراجه في نفس الوقت:

ـ إذا كان حتى الرئيس، رأس الهرم، لا يعجبك؟ ما الذي تريدونه من هذا الشعب أكثر؟ ألا يكفي كل ما تعرض له؟ ألا يحق له أن يعيش بسلام؟ ثم انني لا أعرف من أين لك هذه المعلومات وأنت طوال نهارك تسير خلف حمارك لحرث الأرض، أنا … أنا نفسي ابن الجامعة، لم أسمع بمثل هذه التحاليل التي تتفوه بها…

نظر نحوي طويلاً، ونظر الجميع نحونا، وعلى غير توقعي، تابع حديثه مبتسماً متجاهلاً لوجودي ولحديثي ولكياني كله مرة جديدة، وقال:

ـ وسوف نسمع المسحجين والمستفيدين يباركون، ويعتبرون الأمر وكأنه لا يعدو عن كونه لخدمة وحدة الحركة، وسنستمع الى التبريرات من نفس الشخوص الذين اتهموا دحلان بالخيانة يدافعون عنه الآن، لأنه كما الرئيس، “قائداً مغواراً”، فتح عليه الله ب”العقل المستنير”، فأراه “الحق حقاً ورزقه اتباعاً وأراه الباطل باطلاً ورزقه إجتناباً”، وربما حاولوا إقناعنا وبقية الشعب بأنهما “مبشران بالجنة” أيضاً، وسيبررون لنا ،نحن القطيع، كيف فتح الله لهما باب رزقه بالملايين لهما ولأولادهما وعائلاتهما وللمسحجين والمطبلين لهما، ويسّر لهما الدول والمخابرات المختلفة لدعمهما، ولتفتح لهما صناديق مالها لتغرف منه ما تشاء، ما دامت تسبح بحمد أمريكا وبني صهيون وممالك ومشايخ العربان وعلى رأسهم آل سعود، فكما ترون صار مجتمعنا يتدعشن بفعل سياستهم وبفعل ثقافة الدين السياسي، فصار حتى اسم المرأة عورة، وصاروا يفرضون حتى على المرشحات أن يخفين أسماءهن، ولولا نظام “الكوتا” لترشيح المرأة، ربما لما رأينا مرشحة واحدة، وصار “الأخ اللدود” للدحلان، اللواء الرجوب، والذي لم يعرف أحد كيف صار لواءاً، ربما بعد تسليمه قادة الفصائل المقاومة و تعذيبهم و ملاحقتهم! مثله مثل آلاف الموظفين المماثلين، يُسمي مسيحيينا ب”الماري كريسمس”، ربما لأن ثقافة الرجل أجنبية، فبعد سنوات القمع للمناضلين في جهاز أمنه الوقائي، على امتداد سنوات وسنوات، جاء ليتحفنا الآن بخفة ظله وتهكماته المتخلفة، منتقداً تصويتهم لحماس في عام 2006، متجنباً الخوض أنهم بذلك قد تجاوزوا التعصب الديني والمذهبية والطائفية المقيتة، التي تحاول كل الأنظمة التي فتحت لهم خزائن المال زرعها في مجتمعنا، ودون أن يذكر سبب تصويت معظم الشعب لحماس آنذاك كحركة مقاومة أولا، وحين أدرك الناس أن السلطة ما هي الّا جهاز قمع، وصارت جزءاً من مشروع أمريكا ـ اسرائيل في المنطقة، وغدت سلطته سلطة فساد وإفساد وقمع وتجهيل وكذب ورياء وشراء ذمم، كما هي عليه الآن، وهل يمكنه تفسير لماذا ما زال قائداً هو والدحلان وعباس وأمثالهم حتى الآن، ولماذا كل هذا الإصرار على عدم إصلاح المنظمة والإمعان في فسادها وإفسادها، في الوقت الذي يدفع الشعب دمه وسنين عمره في سجونهم وسجون الإحتلال، كضريبة يومية للتخلص من الإحتلال الذي صار من أهم مموليهم؟ أليس من أجل بقائهم في قيادة الشعب والسلطة؟

قال أحمد معلقاً من وسط الجمع:

ـ صار هؤلاء الإنتهازيون كثيرون داخل السلطة، بل يشكلون معظم قيادتها ممن ينطبق عليهم القول:

” وكم رجل يعد بألف رجل                         وكم ألف يمر بلا عداد”…

قال عبد العزيز مؤكداً على نفس الكلمات:

ـ فعلاً… وكم ألفاً يمر بلا عداد…

فقال طارق معلقاً على ثرائهم الفاحش:

ـ من أين لهم كل هذه الأموال؟ لقد كان هؤلاء حفاة عراة قبل السلطة ومناصبها، وقبل أن يصيروا قادة لهذا الشعب، ولا يعرف أحد كيف؟ فهم ليسوا الأفضل وليسوا الأشجع وليسوا الأكثر عطاءً ولا الأكثر ثقافة، بل على عكس ذلك كله…

علق صديقي وابن عمي خالداً، والذي أنبني بعد ذلك لمحاولاتي الطفولية في إهانة عاهد ناظراً نحوي:

ـ لأنهم عكس كل تلك الصفات التي ذكرت صاروا قيادة، وفعلاً لقد كان هؤلاء لا يملكون ثمن رغيف خبز قبل أن يصيروا قادة،  وينطبق عليهم قول الشاعر:

أتذكر إذ لحافك جلد شاة                       وإذ نعلاك من جلد البعير                                                        فسبحان الذي أعطاك ملكاً                    وعلمك الجلوس غلى السرير

قام من جانبي، طبطب على ظهر عاهد كما لم يفعل من قبل، وقال:

ـ هيا لأوصلك في طريقي، نراكم في مساء الغد ياشباب، تصبحون على خير…

أمسك عاهداً من ذراعه وسارا وليل القرية “الخربة”، وبدأ الجمع يتفرق واحداً بعد الآخر مثل مسبحة قُطع خيطها وانهارت حبيباتها، وبقيت وحدي، ونظرت الى السماء، وبدا لى أنها، هي أيضاً، لا تريد البقاء بجانبي، ورأيتها كيف بدأت تغلق عيونها بعد أن انتهى الصخب في “خربتنا”، وأخذت تغفو في حضن القمر، متمددة على سواحل النجوم، متخفية خلف غيوم الصيف السابحة تحتها، غير آبهة بها، تلك الغيوم المتباعدة المتجولة فوق خربتنا، الغارقة في النوم تحت حفيف أغصان أشجار الزيتون…

محمد النجار

“قوة الرئيس في ضعفه”…

جاءني الكهل أبو عمر مُجَدداً، حاملاً بيده، كعادته، لعبة صغيرة لإبنتي، وجريدة لم أعد أذكر إسمها، رماها أمامي على الطاولة وهو يضحك بدموع مدرارة، لم أدرك حينها أبسبب الفرحة الكبيرة أم الحزن اللامتناهي، فأزحت الجريدة جانباً من أمامي، وشكرته على هديته، وأصغيت لما يريد قوله، غير مدرك أن الجزء الأساس فيما يريد قوله ينام متمددا في بطن “جريدته” تلك، ولما رآني أزحتها جانباً، أوقف ينبوع ضحكاته وأبقى على دموعه تتسايق للوصول إلى تجاعيد وجهه، قبل أن يُوزّعها على مساحة وجهه بظاهر يده، وقال وكأنه جاء مُصادفة فقط، وليس خصيصاً ليراني، ويُروّح قليلاً عن نفسه:

ـ ما هي آخر الأخبار يا أستاذ؟

تربطني بهذا الكهل علاقة غريبة نوعاً ما، فلا صلة قرابة بيننا ولا صداقة ربطتني، في سابق الأيام، مع أولاده الذين هم بمثل سني ومن جيلي، ولست من مخيمه القابع على مدخل المدينة لإستقبال كل قادم وزائر إليها، وكل ما في الأمر أننا إلتقينا مرة واحدة، واحدة فقط، في زيارة لأحد السجون، هو لزيارة حفيده الشاب وأنا لزيارة أخي، تجالسنا في مقعدين متجاورين في باص الصليب، دردشنا في أمور شتى، في السياسة، في أمور الناس المعيشية، في ظروف وحاجات الأسرى وهمومهم، وكان أكثر ما شرح صدره حينها، كما أذكر، تلك الإرادة “الهائلة”، كما سمّاها، لبناتنا ونسائنا، اللواتي يُهربن السائل المنوي من رجالهن لينتصرن على مشروعهم القاتل، بمشروعنا الحياتي الإنساني، وهن ، كما قال، يستطعن الإنفصال والزواج والإنجاب، بعيداً عن كل هذه الهموم، دون أن يخشين لائمة أو عتاب، ولما قلت له “أنها االإرادة والتحدي التي طالما إنتصرت على القمع والقهر وكل مشاريع الموت، التي تنتهجها “هذه الدولة” ودول العرب جميعها”، نظر إليّ مستغرباً بعض الشيء وقال: “إنه الإخلاص والأصالة قبل ذلك كله”، ثم التقط جرعة هواء وأضاف: ” إنهما الأصل في كل ذلك، لولاهما لما كان ما ذكرت أبداً”.

وسرعان ما إلتقينا بعدها في المدينة، وكنت قادماً لمكتبي الهندسي، ولا أعرف ما الذي إستحضره في تلك اللحظة بالذات، وما أن رأيته حتى توجهت إليه ودعوته لمكتبي ليشرب شيئاً، فهو من الكهول الذين لا تملّ أبداً من الجلوس معه، ولا يغادرك ولو مرة واحدة دون أن يترك أثراً أو بصمة، كما أنه من القلائل الذين لا يمكنك نسيانهم بسهولة.

وقبل دعوتي شاكراً “لطفي”، وكانت دعوتي تلك جسرا يربط بيننا، وصارت أحاديثنا تُمتّن هذه العلاقة وتقوي الجسر، بعد أن تكررت زياراته لي بشكل متباعد، وفي كل مرة كان يحمل شيئاً ليخبرني به، كما لعبة صغيرة لإبنتي مها، التي أخبرته عنها وعن عمرها في لقائنا الأول… ولم يأت يوماً لمكتبي بيدٍ فارغةٍ أبداً.

قلت وقد مددت يدي بكأس عصيرٍ أمامه:

ـ الأخبار كثيرة يا أبا عمر، ولا أدري كيف يحتملها الناس؟!!!

فقال مؤكداً قولي:

ـ صدقت والله يا أستاذ، كيف يحتملها الناس فعلاً؟!!! إن كل ما فعلوه لم يريدوا منه سوى خلق حفنة من المرتزقة المسحجين للرئيس وحاشيته، وشعب من البُلداء وغير المبالين، الذين لا يعرفون أكثر من “شعار” اللهم نفسي، ونجحوا في الأولى كما ترى، لكنهم فشلوا في الثانية وإن بدا أحياناً أن الناس مُحبطين… أم بماذا يمكن أن تُسمي تصريح الرئيس بأن” مُنفذ عملية تل أبيب إرهابياً ويجب إعدامه”؟!!!، هذا الكلام لم يقله الرئيس عن أي مجرم منهم، ولم يطالب يوماً بإعدام من أحرقوا أطفالنا ولا من قتلوا نساءنا وأولادنا… وتجد المرتزقة والطفيليين يسحجون ويكررون كالببغاوات ما يقول، ويبررون أقاويله ويفسرونها ويشرحونها وكأنهم يفسرون “القرآن الكريم”، معتقدين أن الشعب سيبتلع تفاهاتهم ويظل بالعاً لسانه ومقيداً يديه إلى الأبد.

كعادته، إبتدأ أبو عمر الحديث مباشرة ودون مراوغة، فهو، كما بدا لي، لم يتجنب يوماً قول الحقيقة مهما بدت قاسية ومهما كان ارتدادها عليه سلباً، وإلا كيف يمكنك تفسير أن إنساناً يُعتقل إدارياً في مثل سنه؟!!! وأكمل وكأنه لم ينهِ حديثه بعد:

ـ وها هو نفسه يبعث مندوباً عن منظمة التحرير بجانب مندوب عن “الجيش الحر” وبعض الدول العربية، للمشاركة في “مؤتمر هرتسيليا للمناعة القومية” الصهيوني، يبعث أو يؤيد أو يتغاضى، لا فرق، عضو لجنة تنفيذية للمنظمة، أتتخيل ذلك يا أستاذ؟ منذ متى “المناعة القومية للصهاينة كانت مفيدة لفلسطين والفلسطينيين؟!!!

وسرعان ما ابتدأت تتسع فتحة فمه وتظهر عدة أسنان متباعدة في فمه، لتلد ضحكة مصاحبة لبضع دموع من عينيه مجدداً، وقال:

ـ منظمة التحرير؟!!! أما زالت تُدعى كذلك يا أستاذ؟ ألم يُغيروا إسمها بعد؟!!! قال التحرير قال!!!

سكت قليلاً وأطلق ضحكة جديدة وزخة دموع، وأكمل متهكماً:

ـ منظمة التحرير والجيش الحر!!! كلاهما حراً وللتحرير… أرأيت المصادفة يا أستاذ؟!!!

قلت عندما أبعد دموع عينيه وأوقف ضحكته:

ـ لكن الرئيس إحتج على تصريحات حاخاماتهم ودعوتهم “لتسميم” مياه الفلسطينيين…

فقال وكأنه يحتج على كلامي:

ـ وهل المطلوب أن يسكت على ذلك أيضاً؟ السؤال الصحيح ياأستاذ، لماذا لم يقدم شكوى للمؤسسات الدولية لحقوق الإنسان بسبب ذلك وغيره أيضاً، أليس ذلك “أضعف الإيمان”؟ فبالنسبة لهم إن إحتج الرئيس أو لم يحتج، إن قال أو لم يقل، فالأمر سيّان، يعني كما قال المأثور الشعبي” قروا أبناء يعبد والّا لعمرهم قرروا”، الأمر ليس في القول أو الإحتجاج، هل رأيت يوماً طريق عودة مرصوفاً بالكلمات؟ السواعد هي الأساس ياأستاذ، مهما كانت هذه الكلمات منمقة أو ملونة أو جميلة!!!

سكتنا قبل أن يرتشف شيئاً من كأس العصير الذي ظل واقفاً أمامه مثل صنم، وسألني وكأنه يريد أن يفتح باباً لتعليقاته أكثر من محاولات معرفة الخبر:

ـ ماذا جرى في مؤتمرهم ذاك؟

فقلت فاسحاً له المجال ليعلق كما يريد، ربما تقديراً لسني عمره أو لإعجابي بتعليقاته:

ـ “كبيرهم كيسنجر”مذعور على مستقبل إسرائيل، خاصة بعد أن صارت يد “حزب الله” تُناطح مخرزهم وتنتصر عليه أيضاً، ورغم كل جبروتهم لا يستطيعون كسرها…

فقال مباشرة ودون تردد:

ـ ليبقى مذعوراً إذن، وما دام هذا مذعور، عليهم أن يقلقوا فعلاً بشأن مستقبل دولتهم…. وماذا أيضاً ياأستاذ؟

ـ يقول قادتهم أنهم لن يسمحوا للجيش السوري بالإنتصار على الدواعش والقاعدة في سوريا، فهؤلاء لم يفعلوا شيئاً ضد إسرائيل، ولن يستبدلونهم بإيران وحزب الله كما يقولون…

قلت مكملاً ما بدأته، وانتظرت تعليقاته من جديد:

ـ طبعاً يا أستاذ، أم لماذا تعتقد أن أمريكا تحاول إدراج “جبهة النصرة، تنظيم القاعدة في بلاد الشام، ضمن ما تُسميهم التنظيمات المعتدلة؟ ولماذا كل هذا التدفق بالسلاح النوعي والآلاف من المرتزقة والأموال من آل سعود والحدود التركية المفتوحة، في الوفت الذي يُحاولون فيه تجفيف كل منابع حزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية،  المالية والتسليحية ؟ ولماذا التدريب والعلاج من “إسرائيل”وفيها؟ أم أنك تعتقد ان كل ذلك عملاً خيّراً؟ هؤلاء لم يكونوا يوماً جمعيات خيرية، إنهم قساة الأرض ومجرموها، لكن ما داموا يعلنون ذلك على الملأ، هناك سببان ياأستاذ، أولهما كونهم لم يعودوا يحسبون حساباً لشعوبنا، معتقدين أنهم ليسوا أكثر من قطيع غنم أو ماعز، وهذا ما يؤلمني، لكنهم في نفس الوقت يستشعرون خطراً جدياً على مشروعهم التكفيري في المنطقة، الأمر الذي يعني أن في هذه الأمة بقايا رجال، تغرق على أبواب سواعدهم كل هذه الحثالات.

قال واقترب بالجريدة ووضعها أمامي مجدداً:

ـ أرأيت هذا يا أستاذ؟

أخذت الجريدة من يده، وبدأت أقرأ الخبر الذي كان يتصدر الجريدة، وكان يبدو مكتوباً من أحد “المسحجين” الذين شغلهم الشاغل “إستحمار” البشر ، ووضع أنفسهم في مكان المكتشفين أو الفلاسفة. وبإختصار شديد، كان الموضوع يتغنى بالرئيس، ليس من حيث طوله أو عرضه، ولا عن “عبقريته” في التوصل إلى إتفاق “أوسلو”، ولا “شطارته” وجمعه لكل ثروته، ولا عن عمله ليلاً نهاراً ليشكل كل هذه الشركات لأولاده وأحفاده وبكل رأس المال هذا …لا…لا … لا، بل كونه “أخطر رجل دبلوماسي على إسرائيل”!!! أتلاحظ معي؟ الأخطر دون جدال أو منافسة، فعلاقات إسرائيل “السيئة” مع أصدقائها بسبب حنكته!!! وتنازلاتهم للفلسطينيين دون أي مقابل بسبب سياسته!!! وتقهقر وضعها الأمني بسبب هذه السياسة أيضا!!!

شعرت وأنا أقرأ أننا نحن من ندخل مدنهم ونقتل أطفالهم، وأننا نحن من نصادر أراضيهم ونبني مكان زيتونهم “مستوطناتنا”، وأن أمريكا ودول الغرب الإستعمارية تضغط عليهم لإرضائنا، ولوهلة ظننت أن الرئيس أخطر من كل الفصائل المقاومة، وأنه أخطر من الصواريخ والمدافع والرصاص.

ونظرت إلى أبي عمر الذي كان، على ما يبدو، يتدارس تضاريس وجهي، وأخذت أبتسم، وتتسع إبتسامتي لتصبح ضحكة تتعالى، وسرعان ما التقت بضحكة أبو عمر، التي إنطلقت مجدداً مفجرة لحفنة دموع، سرعان ما أزاحها قبل أن تنزلق في الهاوية ما بين نهاية خديه وجسده الضعيف، وأوقف ضحكته فجأة وقال محدثني بحكاية من حكاياته، فقال لكن من نهاية القصة هذه المرة:

ـ كان الرجل يحدث زوجته عن معركته مع خصمه اللدود في الحارة، وعلائم الهزيمة على وجهه وجسده، لكنه لن يعترف لها بهزيمته فقال لها متباهياً متنافخاً:” تعاركنا… فلاحني ولحته… ومن شدة قوتي أصبحت تحته… وانظري لعروق رقبتي من كثر ما خنقته…”!!!

وقام أبو عمر مودعاً، وكان قد أوقف ينبوع ضحكاته لكنه لم يستطع أن يوقف نزيف دمعاته.

محمد النجار

قبل حزيران بقليل

كنا ملتفين حول التلفاز في تلك اللحظة، وكنت قد أنهيت آخر إمتحان لدي قبل أيام ثلاثة من وصول أواخر أيار الى أوائل حزيران، ليسلّمه أمانة متابعة الطريق، مُحمله كيس الأيام على كتفيه ليمضي بها ويسير. قمت متاخراً من النوم كعادتي في أيام العطل المدرسية، شربت الشاي مع أمي وجدتي، فبقية أخوتي لم ينهوا عامهم الدراسي مثلي بعد، وللحق، فإنني بالقدر الذي أحب فيه الجلوس مع أمي، كنت بذات القدر لا أحب الجلوس مع جدتي، لكنني كنت أحاول التغطية على الأمر كي لا تغضب أمي.

أمي امرأة دائمة الحركة، ليست إلا نحلة تتنقل من مكان إلى آخر، تكاد لا تجلس أبداً، وفي معظم الأحيان لا تتناول طعام الإفطار معنا، وبالكاد تشرب الشاي، وبالتالي لا يشغلنها شيء سوى عمل البيت ، فمن غسيل الملابس والأطباق، لكيِّ الملابس لجميع أفراد البيت، لتهيئة الطعام ليكون جاهزاً مع موعد قدوم أبي من العمل، لتنظيف البيت وغسله، كما إنجاز متطلبات البيت ومشترياته… الامر الذي يجعلها لا تهتم ، أو لا تستطيع، متابعة التلفاز وبرامجه، كما تفعل جدتي، ومصيبة جدتي أنها لا تتفرج على أفلام أو مسلسلات أو موسيقى، بل شغلها الشاغل متابعة الأخبار، والأخبار فقط، ومن هنا تبتدئ القصة وتنتهي أيضاً ، فلولا عادتها هذه لما كانت هناك لا بداية ولا نهاية ولا كان هناك قصة أصلاً، وما تم ما تم.

تسكن عائلتنا في عمارة من طابقين إثنين، نقيم نحن في الطابق الثاني من شارع وادي التفاح في مدينة الخليل، فرندة البيت الأمامية تطل على الشارع الرئيس، وحمام البيت الخلفي يطل شباكه على شارعيين فرعيين في المنطقة، وجدتي التي تجلس في صالون البيت لا تفعل أكثر من تقليب صفحات التلفاز من محطة إلى أخرى، على نشرات الأخبار دون كللٍ أو ملل، نفس الأخبار التي ما فتئت سمعتها منذ لحظات.

كان الشارع الرئيس ممتلئاً بالناس على عادته في كل يوم، أناس يحاولون التصدي للمستوطنين الذين يملؤون المدينة، ويسيرون يستفزون الناس بعد أن سرقوا بيوتهم بمساعدة الجيش وأسلحتهم، بعد أن سرقوا الحرم الإبراهيمي وقسّموه، والناس الذين لا يملكون سوى سواعدهم وبضع حجارة من حجارة الجبل، ظلّوا يدافعون عن المدينة والكرامة، رغم الثمن الذي ظلوا يدفعونه بشكل يومي، وكان طلاب المدارس قد أنهوا يومهم وخرجوا للشارع، أطفال من جيلي، أكبر أو أصغر قليلاً، صاروا يقذفون الجيش المتسكع الذي يحمي مستوطنيه، والجيش الذي كان يُطلق قنابل الغاز والرصاص على صدورهم، كان ما يزال يطلق النار دون توقف.

وكوني لا أحب الأخبار ولا سماعها، أمسكت بهاتفي الخلوي وقمت إلى الفرندة وأخذت أُصوّر مشهد الجيش وراشقي الحجارة، كمخرج من الملل، كوني لا أستطيع أن أشاهد فيلما أو مسلسلاً لأن جدتي إحتلت شاشة التلفاز في صالون البيت، وشدني مشهد الجيش عندما ألقى القبض على “هيثم”، و”هيثم” هو أحد أبناء مدرستي الذي يصغرني بقبضة سنين، وجارنا ، في الوقت نفسه، القاطن في بيت مجاور، كان قد عاد لتوه من المدرسة، بعد أن أنهى إمتحاناته اليوم بالذات، متوجهاً إلى بيته، وأخذت أُصوّره متخيلاً كيف ستكون ردة فعله وانقباضات وجهه، عندما يطلقون سراحه وأريه “الفيلم” الذي وثّقت به إعتقاله وضربه، لكن الأمور لا تسير دائماً كما نشتهي أو نحب، فقد أخذ الجنود “هيثم”، أركبوه مقدمة الدورية العسكرية ليحميهم من حجارة الطفال، درع بشري كما يقولون، وتوجوا به إلى الشوارع الخلفية، حيث يمكنهم ضربه وإهانته دون متابعة وملاحقة من عيون الشهود.                                                                                                                      لاحقت فكرتي، وانتقلت من “الفرندة” إلى حمام البيت لأكمل التصوير، ومررت من أمام جدتي التي كانت ما تزال تتفرج على مشهد على الشاشة، وترغي وتزبد وتعلق وتقول، فسحبت كلماتها فضول عينيّ إلى الشاشة أثناء مروري…

  •     *       *

كان يحتل الشاشة تقريراً يظهر فيه الرئيس مرة وبعضاً من حاشيته مرة أخرى، يتحدثون عن السلام وما جلبه من أمن وأمان للبلاد والعباد، و”أننا نحن الفلسطينيون لن نوقف التنسيق الأمني مهما كثر الرافضون له، فنحن أعرف بمصالأح شعبنا من كل المزايدين”.

وعلقت جدّتي من بين بواقي أسنانها:

ـ طبعاً، أنتم الآلهة والشعب مجرد أصنام، وهل للأصنام كلام إذا ما تحدثت الآلهة؟!!! فمنذ قدومكم و”مصالح”       شعبنا محفوظة ومُصانه والحمد لله…

وأكمل المتحدث، ذو الصلعة الواسعة مثل طريق أسفلتي واسع في غابة هزيلة،حديثه:

ـ وسنعمل على ان يكون هناك تطبيعاً شاملاً من الدول العربية والإسلاميه، كما أكد سيادة الرئيس، إذا ما وافقت حكومتهم على “السلام”…

وعلقت جدتي من جديد:

ـ آه طبعاً، هذا “فوق البيعة”… يعني بالعربي “زيادة البياع”… فعلاً “الشحادة عادة”…و”وين ما ضربت الأقرع يسيل دمه، هذا إذا كان عنده دماً”

وأكمل المتحدث ذو الصلعة الواسعة التي تكاد تُغطي مساحة رأسه، متابعاً ومدافعاً عن مقترح الرئيس:

ـ تطبيع يخدمهم ويخدمنا ويخدم السلام، وأننا ،كإثبات حسن نية، نوافق على تبادل أراضٍ معهم…

فعلقت جدتي وكأنها مصرة على الرد على كل ما يقولونه، متوجهة بكلامها إلى شاشة التلفاز:

ـ ما هي قصتكم؟ تكذبون الكذبة وتصدقونها… تتحدث عن مبادلة الأراضي وكأنها أرض أبوك، ولا تخص هذا الشعب المسكين…صدق من قال” لا تاخذ من الأقرع نصيحة، لو ربك بحبو لجعل راسه صحيحة”

وسرعان ما قال شخص آخر، أظهره التقرير، غير الأول، لكن من الحاشية نفسها، يُكمل ما قاله صاحبه، لكن بصورة  تُظهره وكأنه متمايز عنه:

ـ أنا لا أتفق مع هذا الرأي، التنسيق الأمني لا يجب أن يكون هكذا، عليهم أن يطلبوا منا ما يريدون ونحن من يقوم بالتنفيذ، وليس أن يقتحموا هم بأنفسهم مناطق السلطة ليعتقلوا ويحاصروا ويقتلوا…

وضعت جدتي يدها عل خدها وقالت ترد على ما سمعت:

ـ شوفي ياأختي “جاء ليكحلها… عماها”، فعلاً كما قال المثل” لا تشمتي ياخدّوجة، أنا عورة وأنت عوجة”… لماذا “يستحمرنا” هؤلاء إلى هذه الدرجة؟!!! فعلاً”قال له مَن فرعنك يافرعون قال له لم أجد من يوقفني عند حدي”…

ثم أن جدتي بدا وكأنها لم تعد تسمع كل كلامهم، فكلامهم متشابه ومكرر ومعاد، لكنها ظلت تعلق على ما ترى وتسمع أحياناً، خاصة عندما كان الرجل “الأقرع” في حذاء أحدهم، والذي لم يكن من حاشية الرئيس، وكان يلبس عباءة سوداء كليل شتاء هذا العام ، يحيط بكامل طرفها خطاً ذهبياً يعطي العباءة ثمناً وهيبة، وبدا أنه قد جاء لتوه من الصحراء فاغتسل ولبس واحتل موقعه أمام شاشة التلفاز ليدلي بتصريحه، وظل يردد عبارة واحدة ويكررها ويلف حولها، ” نحن نوافق على ما يوافق عليه الأخوة الفلسطينيين، نحن مع السلام الدائم والعادل…. إيــــــــــــــه”، ولما سأله صحفي عن أي فلسطينيين يتحدث؟ ف”أغلب الفلسطينيين يرفضون أوسلو ومجراه”، قال:

ـ نحن نتحدث عن قيادة الفلسطينيين الحقيقية،  ولا نتحدث عن المغامرين والمتطرفين….

وهنا ثارت ثائرة جدتي، فصارت تتحدث وكأن هؤلاء جميعهم أمامها في الواقع وليسوا في التلفاز، وتريد بكلامها أن تضع لهم حداً:

ـ ظلوا هكذا أيها الأنذال، دافعوا عن سلامهم ومذلتنا، ولتعلموا أننا نحن “المغامرون” في هذا الوطن العربي و “متطرفيه”، الحائل الوحيد بينهم وبين غرف نومكم. ها أنتم خلعتم كل ملابسكم، صرتم عراة كما جئتم لهذه الدنيا أمامهم، قدمتم لهم كل ما طلبوا ولم يطلبوا، ماذا أخذتم مقابل ذلك غير العار؟!! عار لفكم كأشخاص ودول وأشباه دول وممالك وحارات، لماذا لم تكونوا بهذه الحصافة والإنسانية في العراق وسوريا وليبيا واليمن؟!!! لماذا لم تكونوا هناك أيضاَ رجالات سلام؟!!! … نعم، نحن المغامرون الطريق الوحيد لمسح ما جلبتموه لأمتنا من عار، إصمتوا على ذبحنا، وشاركوا في تدمير أوطاننا واستحمار شعوبنا، لكنكم لا أنت ولا هم، تستطيعون وقف تقدمنا أو قتل إرادتنا، أو مسح ما إستجلبتموه من  ذبح وذل وعار، وسندفنه معكم في غياهب صحرائكم…

  •      *        *

كنت قد غادرت الصالون ،إلى الحمام، من أمام جدتي، وكل كلماتها تتساقط في أذني كلمة بعد أخرى، ووقفت على المرحاض لأستطيع إكمال تصوير “هيثم”، الذي أخذه الجنود إلى الشوارع الخلفية شبه الفارغة ليكملوا حلقات التمتع بضربه، وفي ذهني كشف تصويره هذا لأقرابي وأصدقائي، لنضحك عليه ومعه، والتلفاز مازالت الأصوات المتحدثة به تصل لأذني مثل نباح كلب، لا يعرف السكوت، وأدخلت “هيثم” في عدسة تصوير هاتفي، وأكملت التصوير، والرئيس من التلفاز يصرخ غاضباً ويقول:

ـ أنا لست ضد الكفاح المسلح فقط، أنا ضد كل أشكال العنف أيضاً…

فردت عليه جدتي بحنق:

ـ لماذا تترأس شعباً يريد ذلك إذن؟ يا أخي “حل عن ظهرنا”، مدة رئاستك “خلصت، فارقنا”…

لقد قيدوا أيدي هيثم خلف ظهره، وشنطة كتبه معلقة فوق كتفيه، وسرعان ما غمّموا عينيه بشريطة متسخة بيضاء، وألقوا به أرضاً، إقترب منهم أحد المستعربين ،الذي كان قبل قليل ملثماً وبين راشقي الحجارة، بعد أن خلع لثامه المُزيف، وصورته بلثامه ودون لثام، همس في أذن الضابط بكلمات لم أستطع فك طلاسمها لبعدها عن أذني ولكونها، ربما، بلغة لا أعرفها، أمر الضابط جنوده، فرفعوا هيثم عن الأرض التي ألقوه فوقها عند وصولهم للشارع الخلفي، وتوجهوا به إلى الدورية العسكرية ليضعوه في داخلها.

كانت حرارة شمس نهاية أيار قد اندلقت في الشوارع وفوق رؤوس الناس، وكنت أرى بنفسي كيف تفجرت أشعة الشمس ينابيع عرق من على رأس “هيثم” مارّة بعروق رقبته الضعيفة إلى كل أنحاء جسده، وما أن وقف به الجنود مقيداً مغمّى العينين على باب الدورية العسكرية، حتى علا صوت الجهاز في يد الضابط، فتقدم في تلك اللحظة المستعرب وقد تناول مسدسه المختبئ خلف ظهره، وقال الرئيس في تلك اللحظة بالذات مُصرحاً، في جهاز التلفاز الذي تسمعه جدتي، وكلامه يتدفق في أذني رصاصات قاسية صلبة:

ـ أنا ضد الإنتفاضة أيضاً… الإنتفاضة دمرتنا…

وانطلقت رصاصة واحدة من مسدس الضابط المستعرب، بعد أن نظر يميناً وشمالاً، ليتأكد من أن الشارع لا يضم الكثير من الشهود،  ولمّا ظن أن أحداً لا يوثق ما يفعله، وضع رأس المسدس في رأس هيثم، وأطلق طلقة واحدة، طلقة واحدة فقط وكلمات الرئيس الصارخة” الإنتفاضة دمرتنا”، إخترقتا جمجمة “هيثم” الذي إعتلى شهيداً لتوه درجات السماء نحو الشمس. وجدّتي ترد صارخة، تخاطبه وكأنه أمامها:

ـ نسيتَ ان تقول أن المفاوضات أحيتنا، وأوسلو نهض بشعبنا، والتنسيق الأمني حرر أسرانا وحمى شبابنا وأطفالنا من القتل…

واحتضن هيثم الأرض بوجهه، ولثم ترابها وكأنه يُقبّل أمه، واختلط دمه مع التراب بشكل غريب، كأنه أراد أن يجبل التراب بدمه مع سابق إصرار، وكان جدول الدم يسيل ويسيل، ولم أكن لأصدق يوماً ان جسد الشهيد يمكن أن يحوي كل هذا القدر من الدماء، وكأن هذه الدماء تتزايد خصيصاً لتروي تراب الأرض، لتصير كما كانت تقول جدتي دوماً متسائلة بإستنكار وإصرار، عندما يعلو ويرتقي أي شهيد، بعد أن تسقي دماؤه الأرض:

ـ ماذا كنتم تعتقدون؟!!! أم” من أين للزيتون كل هذا الزيت؟”…

  •         *          *

كنت قد بقيت مشدوها جراء ما رأيت، لم أكن مصدقاً عيناي، بل إعتقدت للحظة أنني ما رأيت سوى كابوس، وأن عيناي تكذب عليّ كما تكذب عينا تائه عطش في سراب الصحراء، وبقيت أنظر من شباك الحمام وهاتفي الخلوي في يدي، ومددت جسدي للخارج أكثر وكأنني أريد أن أثبت لنفسي كذب بؤبؤي عيني، وفي تلك اللحظة بالذات رأوني، لم يرتبكوا كثيراً، فستدافع عنهم دولتهم وقضاءهم كما في كل مرة، لكنهم قرروا اخذ الهاتف كي لا أستطيع نشر ما رأيت، والتفّوا إلى الشارع الرئيس ليجدوني ويصادروا هاتفي.

نزلت من على المرحاض، وصرخت:

ـ لقد رأوني يا”ستي”، لقد رأوني وسيحضرون لمصادرة الهاتف…

ولم أفكر للحظة في مجيئهم لإعتقالي، لكنني أجبت على الأسئلة التي كانت تتوالى من عيني جدتي دون كلام، وأكملت:

ـ لقد قتلوا “هيثم” ياجدتي… قتلوه

ولم تسأل جدتي عمّن يكون “هيثم”، فللشهداء نفس الصورة والقيمة في صدرها وقلبها، وأنا لم أكن أعلم قبل ذلك أن جدتي، هذه العجوز المعمّرة، يمكن أن تفهم ما أريد قوله وبهذه السرعة، وأكثر من ذلك أنني لم أتصور يوماً أن جدتي “الحادة” مثل سكين، يمكن أن تكون ببرودة الأعصاب هذه، في وقت الشدة، قالت بهدوء ووضوح، وقد مدت يدها لأسقط فيها هاتفي:

ـ إياك أن تعترف بما فعلت… سيعتقلونك ويعذبونك، سيسألونك عنه، وأشارت بيدها لتريني عما تتحدث، هذه فرصتك لتكون رجلاً، لا تُفرّط بهذه الفرصة التي لا تتكرر كثيراً إلّا للرجال، إجلس الآن وتفرج على التلفاز وكأن شيئاً لم يكن….

وخرجت إلى الغرفة الأخرى، عرفت لاحقاً أنها أعطت الهاتف لأمي وأخرجتها من المنزل لتعطيه لبعض الجيران البعيدين عن بيتنا، وسرعان ما داهم الجنود البيت، وقابلتهم جدتي، وسألتهم وكأنها من باب التحدي ليس أكثر:

ـ ما الذي تريدونه؟ “هي وكالة من غير بواب؟”البيوت لها حرمتها…

وأخذت تدافعهم على الباب، تحاول منعهم بكل السبل، وكأنها تريد تحويل الأمر الذي جاؤوا من اجله وتغيير هدفه، لكنهم دفعوها ودخلوا، فعضلاتهم أقوى من عظام شيخوختها، لكنها ما أن دخل آخرهم حتى دفعته بكل ما استطاعت من قوة، فتدعثر بقدميه وأسقط واحداً من الجنود الذين كانوا أمامه، فارتفعت حالة الخوف لتتحول إلى جبن داخلهم، كما قال أبي، وهوت على رأس من أسقطته ب”بابوج” قدمها البلاستيكي، واخذت تضرب به رأسه ووجهه، وفي مثل هذ الحالات” يتصاعد الجبن داخل الخائف ويكبر، فما بالك بالجبان من الأصل؟”، والسلاح كما أكد أبي، “في يد الجبان يجرح”، فما بالك إن كان هذا الجبان عدواً؟”، وعندما صار الخوف يتصاعد من ضربات بابوج جدتي، وارتفع منسوب الجبن المجبول بالحقد والكره، وصل الجبن إلى أقصاه ومنتهاه، أخذ الضابط بندقيته الرشاش من على كتفه، وافرغ في جسد جدتي مخزناً كاملاً من الرصاص، فانفجرت ينابيع الدم القاني من جسد جدتي، وسال مدراراً على بلاط البيت، وبابوجها ما زال يهوي على رأس الجندي المتمدد أمامها …

قال لي أبي ونحن نستقبل العزاء المشترك، محتفلين ونوزع الحلوى لإستشهاد جدتي وإستشهاد “هيثم”، قبل إعتفالي بيوم واحد فقط:

ـ حتى وإن إستشهدت جدتك في البيت، وسالت دماؤها على “المصطبة”، فإن دمها قد روى الأرض، فلدماء الشهداء طريقتها في الوصول للأرض لترويها، أم من أين تعتقد أن للزيتون كل هذا الزيت؟!!!

محمد النجار

لمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذا؟!!!

ظلّت الكثير من الأسئلة تدق رأسي دون هوادة، خاصة بعد بعض الحوارات ،المُصرّة على قلب الحقائق، مع البعض، والذين لا يريدون أن يروا ما يدور في منطقتنا، من حرب كونية على مقدراتنا وتاريخنا وبلادنا وشعوبنا ، إلا حرباً طائفية!!! فلا أمريكا تطمع بنا وبخيرات بلادنا، ولا “آل سعود” هم رأس الأفعى في المنطقة، ولا ما يتم لمصلحة الكيان الصهيوني!!! ولا….إلخ، بل إن إيران”الشيعية”، هي فقط السبب وراء الحروب وإدامتها واستدامتها، ومعها حزب الله طبعاً، ولا يمكن أن تنتهي الحرب إلًا بعد الخلاص من إيران “الشيعية”، تاريخاً وطوائف ومذاهب وحتى جغرافيا إن أمكن!!! الأمر الذي يعني طبعاً إدامة الصراع واستمراره إلى آخر إنسان في الجانبين، وبهذا نكون نحن”السنة” قد نظفنا بيتنا من الداخل ونتفرغ لحرب الكيان الصهيوني!!! كلام خالٍ من أي منطق، فلماذا لا يمكننا أن نضع أيدينا مع إيران، ونتخلص من الكيان الصهيوني أولاً، فهذا لا يصح، ولماذا لا نتخلص من الصهاينة وحدنا ثم نرى أمورنا مع إيران فلا يصح أيضاً، فلا يصح معنا نحن “السنة” إلا إستعداء إيران فقط، وتحويل الصهاينة إلى حلفاء محتملين!!!

هكذا قال محاوري في حوارنا الأخير، فازداد طرق السؤال رأسي، لماذا، وازدادت الأسئلة التي تبدأ به أكثر، فتجاهلت “كيف ومتى وأين وهل ومن وإلى متى”، لأنني لو طرحت كل ما يدور في رأسي من أسئلة لما أنهيت مقالتي هذه أبداً، وعليه سأطرح فقط بعض ما يدور في رأسي من أسئلة تتعلق ب”لماذا”، منوهاً أنني لست من أنصار لا الدول الدينية ولا الأحزاب الدينية، وأنني أرى أن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة تخصه وحده، ولا يحق لأي كان التدخل بها، لا من قريب ولا بعيد، كما أنني لاحظت أن كل أصحاب النظرة الطائفية والمتمسكين بها، معجبين أشد الإعجاب بالنظام “الغربي”، والذي لا يفرق بين أبنائه لأي بسبب، دين أو لون أو جنس أو معتقد، لكنهم “عندنا” يريدون مجتمعاً بلون واحد فقط، هذا إذا ظل هناك لون بعد الصراع الدائر….

ولنبدأ بالأسئلة، التي أرجوا أن لا يجيب عليها أو يقرأها أحداً من المتعصبين، من أي طرف كان، وهي أسئلة برسم التفكير لكل مَنْ يدعي أن الصراع الدائر في منطقتنا ما هو إلا صراع طائفي، وليس صراعاً سياسياً في جوهره، مغلفاً بغلاف طائفي:

  • لماذا إصرار الدول “السنية” على حرف إتجاه البوصلة، من فلسطين وتحريرها، ومن العداء للصهيونية إلى جعل العداء لإيران؟ وهل صحيح أن “طويل العمر” ملك آل سعود، دعم بناء المستوطنات بعشرات ملايين الدولارات؟ ودعم حملة إنتخابات نتنياهو ب80 مليون دولار، كما نؤكد الصحافة العبرية؟

  • إذا كان الصراع طائفياً لماذا إذن لم تقم “الدول السنية”، وعل رأسها دولة “آل سعود”، بمحاربة إيران أيام الشاه؟ أم أن إيران كانت “سنية”آنذاك؟

  • لماذا تم افتعال حروب متتالية مع إيران بعد إنتصار الثورة مباشرة؟ رغم أن الإنجليز “حلفاء” الدول السنية “وأبرز داعميهم حتى اليوم (هم مَن سلم الأهواز لإيران، تماماً كما سلّم الفرنسيون لواء الإسكندرونة لتركيا والإنجليز  لمناطق نجران وعسير وجيزان لآل سعود أنفسهم)، وكذلك سيطرت إيران على الجزر الإماراتية أثناء حكم الشاه، فلماذا لم تحارب الدول “السنية” وعلى رأسها آل سعود الشاه “الشيعي” ولم نسمع من هذه “الدول السنية” ولو كلمة واحدة بهذا الشأن آنذاك؟. بل إن علاقتهم مع الشاه كانت استراتيجية، وهو من ساعدهم على ضرب القوى الثورية التي نشأت في بلادهم!!! ولم نسمع “بسنة أو شيعة”، ولا عن اي دور “تشييعي” لإيران في المنطقة.!!!

  • لماذا اكتشف حكام الدول “السنية”، “شيعية إيران” بعد أن تم رفع العلم الفلسطيني فوق سفارة”إسرائيل” الموروثة من عهد الشاه، وتحويلها لسفارة “فلسطين”؟ وفي نفس الوقت الذي إبتدأت أمريكا بفرض حصارها على إيران؟

  • وما دام الموضوع هو “سنة وشيعة”، فلماذا تقيم هذه الممالك والدول والحكام “السنة”، أرفع العلاقات وأكثرها تطوراً، مع دولة أذربيجان “الشيعية”، صاحبة العلاقات الأكثر تميزاً بالكيان الصهيوني، وخاصة من الناحية الأمنية، التي تضر أول ما تضر بقضية”العرب السنة” في فلسطين؟!!!

  • لماذا، والأمر كذلك، لم تدعم الدول “السنية”وعلى رأسها بلاد “مملكة الخير” وقيادتها، آل سعود، الفصائل “السنية” في فلسطين، بعُشر ما قدمته لما إستجلبته من حثالات بشرية لتدمير أوطاننا في سوريا والعراق وليبيا واليمن و”الحبل على الجرار”؟ وتركت الأمر لإيران”الشيعية” لدعم فلسطين “السنية” وفصائلها؟ وتركت خلايا “حزب الله الشيعي” يدرب ويعلم وينقل السلاح ويُهربه إلى القطاع المحاصر، وتُعتقل بعض خلاياه في الدولة المصرية “السنية”؟ ولم تقدم أي نوع من الدعم للقضية الفلسطينية “السنية”، على مدار 68 سنة من عمر القضية، ولا حتى فتوى واحدة من شيوخ “السنة” العباقرة في بلاد آل سعود، بل أنها أوقفت حتى التبرعات لهذه القضية…

  • لماذا لم تقم الدول “السنية” بمحاربة محتلي المسجد الأقصى المبارك” أولى القبلتين وثالث الحرمين” رغم مرور 49 عاماً على إحتلاله، وشيوخ فتنتها كما القرضاوي “ينبحون” لمحاربة سوريا لنشر الديموقراطية هناك؟!!! ويستعيذ الله متبرئاً ممن يقولون بمحاربة “إسرائيل” بعد الإنتهاء من سوريا، ويشحذ من أمريكا المزيد من التدمير لبلداننا، ” ضربات لسوريا من أجل الله ياأمريكا”، الغريب أن البلاد والمقدسات محتلة من”اليهود الصهاينة” وهم ينادون بالديمقراطية في بلدان يحكمها “مسلمون”!!! والأغرب أنهم يريدون الديمقراطية التي يمنعونها في بلادهم، والإنتخابات التي لم يجرونها يوماً، والدستور وهم لا يملكون دستوراً… مع ملاحظة أن كاتب هذه السطور من أشد مؤيدي حرية الرأي والفكر والتعبير والإختيار، وضد كل أنواع التمييز الديني أو العرقي أو المذهبي والطائفي، أو اللون أو الجنس أو العرق، ومع تشكيل الأحزاب إلّا الدينية منها، والتبادل السلمي للسلطة.

  • بل لماذا تبرعت “مملكة الخير” أطال الله عمر قادتها آل سعود”، بفلسطين، في رسالة موثقة عبر الحلفاء الإنجليز، إلى “المساكين اليهود” أو حتى “إلى غيرهم “كما ورد في الرسالة؟ أعيد “تبرعت” بفلسطين وكأنها من بقايا موروث آبائهم العملاء الفاسدين المتخلفين الجهلة”!!!

  • لماذا لم تستخدم “مملكة الخير”ودول النفط “السنية”علاقاتها بالغرب، أو بالنفط، أو أموال النفط، لدعم قضيتها الأولى قضية فلسطين”السنية”؟

  • لماذا حارب آل سعود “السنة، الثورة الناصرية”السنية”، متحالفاً مع شاه إيران “الشيعي”؟ وراعيتهما أمريكا، أم أنه لم يكن “شيعياً” وإنما نحن الجهلة  المفتقدين للثقافة نعتقد ذلك؟ ولماذا إستدعت الحرب عليه من إسرائيل في حرب 67، معتبرة في رسالتها أن نظام ناصر إذا إستمر دون تدمير حتى سنة 70 فإن نظام “آل سعود” لن يعيش أبداً ليصل لعام 1970، أم أن الصهاينة هم صهاينة “سنة”؟

  • وما دام الأمر طائفي، لماذا إستُجلبت “القاعدة “من العالم إلى ليبيا لتدمير بناها التحتية، وذبح عشرات الآلاف من البشر “السنة”، وتدمير أول شيء النهر العظيم الذي خضّر حتى الصحراء الليبية؟ وأين الشيعة في ليبيا؟ وأين الشيعة من مصر التي يحاولون تدميرها وتقسيمها ؟

  • لماذا ترتضي الدول “السنية”، قائدة الثورة”السنية” في الوطن العربي، ل”تنظيماتها ومناضليها في جبهة النصرة وداعش وأحرار الشام وجيش الإسلام في سوريا” أن يُعالجوا في المستشفيات”الصهيونية” ويزورهم ويلتقيهم “نتنياهو” نفسه، وكل وسائل إعلامهم، ووسائل إعلام الأنظمة “السنية” تغطي على الأمر وتمنع نشره في وسائل إعلامها، وكأنها بذلك تحجب الحقيقة؟ وكيف ترتضي لقيادة الثورة “السنية” في سوريا بالتبرع بهضبة الجولان لإسرائيل مقابل دعمها بإسقاط الأسد؟ كما وكيف ترتضي للثوار”السنة” بالتدرب على أيدي ضباط الصهاينة، وأن يقود عملياتهم في غرفة عمليات “موك” في الأردن ضباطاً “إسرائيليين” بجانب ضباط من طرف آل سعود وأمريكا والأردن؟ والآن يقوم الصهاينة بإنشاء غرفة عمليات مشتركة مع ” المناضليين الجهاديين السنة” من “جبهة النصرةـ تنظيم القاعدة في بلاد الشام ـ لإقامة شريط عازل في الجولان على غرار ما تم في جنوب لبنان؟

  • لماذا لا يُحارب آل سعود، كقيادة للدول “السنية” أمريكا، التي أسقطت القيادة العراقية السنية “صدام حسين” ، بل إستدعت أمريكا وتحالفاتها لإسقاطه بعد أن رفع شعار”نفط العرب للعرب”؟ وفي الوقت الذي رفضت فيه إيران “الشيعية” أن تفتح أراضيها للغزو الأمريكي للعراق ، رغم محاربته لها 8 سنين طوال، فعلت ذلك دول النفط وغير النفط “السنية”، من مصر إلى دولة آل سعود إلى دولة “النعاج” كما سمّاها رئيس وزرائها آنذاك حمد الصغير، إلخ؟  بعد أن حاصروه وقتلوا من شعب العراق ما يزيد عن مليون طفل فقط بسبب حصارهم…

  • لماذا لا تُحرضون “السنة” في لبنان وتدعمونهم بالصواريخ كما فعلت إيران مع حزب الله، لمحاربة إسرائيل، خاصة وأن لديهم قيادة ثورية مثلكم (من الحريري إلى السنيورة إلى فتفت “شرّيب الشاي” مع الجيش الإسرائيلي، إلى ريفي)؟ ولماذا تحالفاتهم فقط مع جعجع وأمثاله، أحد أهم أبطال مجزرة صبرا وشاتيلا، القاتل المحكوم في المحاكم اللبنانية نفسها؟

  • لماذا دعمتم يا آل سعود، ياقادة “السنة”، إثيوبيا، الدولة التي ـ ربماـ من أكثر الدول الإفريقية تعاوناً مع “إسرائيل”، في بناء سد النهضة الذي يحرم الدول “السنية” العربية”مصر والسودان”من المياه، يعطش شعبهما ويصحر أراضيهما، وبتعاون مباشر مع إسرائيل؟

  • لماذا أصبحت إيران دولة نووية رغم حصاراً أمريكياً ودولياً ومنكم أنتم أنفسكم أيها الدول “السنية”، وآل سعود على رأسكم، وصار عندها ما يقرب من الإكتفاء الذاتي إقتصادياً، وأنتم بدلاً من أن تتعلموا منها، وتثبتوا لها أنكم “السنة” لستم بأقل شأنا، فإنكم ما زلتم تعتمدون في إقتصادكم بنسبة أكثر من 90% على النفط، وبدلاً من طلب مساعدتها تحاربونها، وأنتم أيها الكسالى الخائبين، يا آل سعود، ما زلتم تستوردون خضارا ،فقط خضـــــــــــــار، من مختلف دول العالم بأكثر من 30 مليار دولار، أقول مليار وليس مليون، في العام الواحد، وتستوردون المياه بأعلى من أسعار نفط شعبكم المنهوب…وصارت “سلة غذاء الوطن العربي”، السودان، التي تمتلك 30 مليون رأساً من الأبقار، وخمسين مليون رأساً من الماعز ومياه النيل وعشرات الأنهار الأخرى، صارت صحراء وجائعة وجاهلة ومتخلفة وتبيع أبناؤها لآل سعود ليقتلونهم في حرب اليمن، ويمزقها الفساد والبيروقراطية,… رغم “سنيتها” وتطبيقها للشريعة الإسلامية السنية أيضاً.” في هولندا مجرد مليون رأس من الأبقار، وبدون “سِنّة” ولا “شريعة”، صارت من صفوف الدول الأولى في العالم في تصنيع الأجبان والشوكولاتة، وبدون أمية ولا فساد ولا إفساد. أما السودان الذي  إتبع نصائح “سنة” قطر وآل سعود فتقسمت بلاده إلى قسمين، وبدلاً من الإهتمام بمصالح الوطن والمواطن، يقوم بمحاكمة فتاة تلبس بنطالاً أو أخرى تتزوج مسيحياً، لكنها لم تحاسب فاسداً واحداً أو لصاً واحداً.

  • لماذا تتقدم الدول “السنية” دول العالم في الفشل والجهل وتفشي الأمراض والأمية، مصر والصومال وموريتانيا واليمن والسودان والباكستان وأفغانستان.

  • لماذا لم تستثمر الدول الغنية “السنية” أموال خيرات شعبها، في الدول “السنية” المحتاجة لذلك، بدلاً من إبقائها في بلاد الغرب وبنوكها؟ مثل مصر والسودان واليمن، الأمر الذي يُطور هذه الدول ويقضي على البطالة والفقر، ويجعل الدول المستَثمِرة رابحة في نفس الوقت. أم أنهم يدركون أن أمريكا لن تسمح لهم بذلك، وربما تصادر هذه الأموال شاهرة في وجوههم ملف حقوق الإنسان كما هو متوقع!!!

  • لماذا تصر قيادة الدول “السنية” لمحاربة كل من يحارب أمريكا وإسرائيل، ولشيطنته وملاحقته وتوقبف قنواته الإعلامية؟، وكما دفعت أمريكا بإعترافها، ما يفوق على 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله، هكذا تفعل الدول “السنية” بقيادة آل سعود مع فصائل المقاومة العراقية التي طردت الأمريكي خارج العراق في 2011، ومن بينها بعض فصائل الحشد الشعبي في العراق، أو مناهضوا سياسة التدمير التي أنتجها آل سعود في اليمن من “أنصار الله” وغيرها من فصائل إسلامية ويسارية…

  • لماذا يُحارب آل سعود”السنة”، أعداء أمريكا وإسرائيل، ليس في المنطقة فقط بل والعالم أيضاً؟ وتكيل لهم كل التهم وتدفع الأموال من جيب شعبها، لتحصد أمريكا الثمار، وهذه مجرد أمثلة على ذلك:

ـ دفع آل سعود “السنة” مبالغ طائلة بعد فوز الحزب الشيوعي الفرنسي، وكذلك الحزب الشيوعي الإيطالي في إنتخابات بلادهم، للأحزاب الأخرى كي لا يدخلوا في تحالفات معهما كي لا يستطيعا تشكيل حكومات كل في بلدهما، هل كان أولئك شيعة؟ وهل إعتدوا على سيادة بلدان العرب أو المسلمين؟ وبأي حق يتدخل آل سعود في شؤونهم الداخلية؟ ولمصلحة مَنْ؟ أليس لمصلحة أمريكا وبأموال العرب؟!!!

ـ دفع الأموال لشراء البشر والسلاح وبشعارات دينية لمحاربة الإتحاد السوفييتي السابق، لتعود أفغانستان للحظيرة الأمريكية وبأموال عربية، هل كان السوفييت شيعة وأمريكا دولة سنية؟!!! وما شأن آل سعود بذلك؟ ولماذا سكتوا عن تحويل أفغانستان “السنية” إلى دولة فاشلة؟

ـ دعم آل سعود أعداء الثورة الساندينية، بالمال والسلاح، الكونتراس، كي لا يصل أعداء أمريكا للحكم آنذاك، وزهقت نتيجة ذلك عشرات آلاف الأرواح، ودمرت البلاد، بأموال العرب ولمصلحة أمريكا، فهل كانت الثورة الساندينية “شيعية”؟ وبماذا أساءت للسعودية لتقف موقفها ذلك؟

ـ أغرق آل سعود السوق بالنفط وأنزلوا سعره من 120 دولاراً للبرميل إلى أقل من 30 لكي يضربوا الإقتصاد الفنزويلي المعادي للأمريكي وكذلك الروسي المنافس له، وليضربوا الإقتصاد الإيراني أيضاً، فإن كان هناك خسارة بيِّنة لإيران في مليون برميل تصدره في اليوم الواحد كبيرة ومؤثرة، فإن خسارة آل سعود كانت أحد عشر ضعف الخسارة الإيرانية، كونها كانت تبيع أحد عشر ضعف المنتج الإيراني، ومن الرابح من جراء ذلك؟ أمريكا بالتأكيد، وآل سعود”جكر في الطهارة يشخون في لباسهم”.

  • ما دام “الدواعش” وجبهة النصرة، وما شابههم من حثالات بشرية “ثواراً”، لماذا يذبحون الناس ويفجرون أنفسهم في المساجد والأسواق الشعبية، ويصرخون”جئناكم بالذبح” هل هذا الإسلام “السني” الذي يريدون حكمنا به؟ وهل لائحة النساء في زواج النكاح اللواتي يُطلقن ويُزوجن بأوامر “سنية شرعية”ما يقرب من عشرين مرة في اليوم الواحد، ويدفع لها ثمن النكاح، هل هذا من الإنسانية في شيء؟ وهل هو من الديانات لا سيما المذهب السني في شيء؟ وهل يختلف عن بيوت الدعارة في شيء؟ولماذا تركت الدول الغربية القتلة للقدوم إلى سوريا والعراق وسهلت مرورهم؟ ولماذا ساعدتهم أمريكا وقطر وآل سعود؟ وإن كانت تريد أمريكا محاربتهم لماذا تركتهم يتدربون تحت سلطتها وبسلاحها وفي معسكراتها في تركيا وليبيا، ولماذا لم تقدم للجيش العراقي حتى الآن السلاح المطلوب، رغم أنه دفع ثمنه منذ سنوات؟ وماداموا يريدون محاربتهم لماذا جلبوهم إلى ليبيا “السنية”، والتي ليس بها من الشيعة أحد؟ وكيف لم يروا الأسطول البحري الذي يزيد عن 3000 صهريج وينقل النفط المسروق من العراق وسوريا ويتوجه الى تركيا واسرائيل؟ وكيف سمحوا لدويلة الشيخة موزة بشراء 3200 عربة تويتا مجهزة للقتال من اليابان ويدخلونها من تركيا إلى سوريا؟ وكيف لم يرَ الأمريكان مئات الآليات والدبابات ومدافع الهاون والصواريخ التي تتنقل في العراق وسوريا وما بينهما على مساحة آلاف الكيلومترات المربعة؟ في الوقت الذي ترى فيه لو مجرد مناضل فلسطيني واحد في قطاع غزة وتقصفه، لكنها لا تقصفهم؟ وكيف لم تر نقلهم بطائرات تركية وقطرية إلى جنوب اليمن؟ ولماذا قام آل سعود “السنة”وكذلك دولة قطر”السنية” بعزل الجنرال “السني” السوداني”الدابي”، الذي بعثته الجامعة العربية للتحقيق في أحداث سوريا منذ بدايات احداثها، عندما إتهموا النظام بقتل المتظاهرين، وعاد ليقول لرئيس وزراء قطر السابق “حمد الأصغر”، إوقفوا دعمكم وتسليحكم للإرهاب، تتوقف الحرب في سوريا، فكان نتاج تقريره عزله ووقف مهمته.
  • لماذا لم نرَ أو نقرأ أو نسمع رغم كل عمليات التفجير في المساجد والكنائس والأسواق، وتدمير الآثار والتاريخ، والتقتيل والذبح في كامل الفسيفساء العربية، من المناضلين “السنة”، عن أي عملية ضد الكيان الصهيوني، ولو عن طريف الخطأ؟ ولماذا يقتلون من “السنة” أكثر ما يقتلون من المذاهب والطوائف الأخرى، لكل من لا يتطابق وآراءهم؟ وفي المقابل لماذا لم نسمع عن “شيعي”يفجر نفسه في مناطق السنة؟بل أن “الشيعة”في الحشد الشعبي، “والذي يضم في صفوفه عشرات آلاف “السنة”، هم مَنْ يُحرر المناطق “السنية”، لاحظ “السنية” من براثن داعش وأخواتها، ولماذا لم يتوجه الدواعش للمناطق الشيعية في وسط العراق وجنوبه ليحتلوه ماداموا يريدون القضاء على “الرافضة”؟ بل داهموا المناطق “السنية” فقط وذبحوا أهلها ودمروا بنيانها واغتصبوا نساءها؟ ولماذا لم نسمع هذا التقسيم الطائفي عن “سنة وشيعة” بين الأكراد؟

  • لماذا، وهذه ال”لماذا”، كان يجب أن تكون في البداية ربما، لماذا يعتقد هؤلاء “المناضلين السنة”، ومن خلفهم داعميهم وأولهم آل سعود، أن الجنة من حقهم ونصيبهم حصراً ودون غيرهم؟ فلا نصاً يؤكد ذلك، ولا منطق أيضاً، فمذاهب الإسلام من”سنية بمذاهبه الأربعة” الشافعي والحنفي والحنبلى والمالكي” وفرقها من السنية والإباضية والشيعية، يتفرع عنها: أهل الحديث والسلفية والأشاعرة والماتريدية والمرحبة والمعتزلة والجهمية والصوفية والإثنا عشرية والزيدية والأصولية والأخبارية والشيخية والإسماعيلية والنزارية والمستعلبة والعلوية والأذارفة والنجدات والأحمدية والقرآنيين والبهرة  …إلخ والتي تصل الى 73 فرقة، كلها تدّعي أنها تمثل الإسلام “الصحيح”، وكيف  يستطيع هؤلاء التفكير أن لهم ميزة على الطوائف الأخرى وعلى الأديان الأخرى بما فيها الديانات الوضعية، عدا أن ليس لهم فضلاً أو ميزة حتى على ما في طائفتهم نفسها، ألم يحن الوقت ليتدينوا كما يريدون لكن بإبعاد الدين عن السياسة، ألا يكفي ما فعله الدين المسيس في البشرية جمعاء؟ تخيلوا 73 فرقة ومذهب إسلامي، ومثلها أو أقل قليلاً من الديانات الأخرى، والجميع بدون إستثناء يدعي أنه الصحيح، وإلا لغير مذهبه لو كان لديه شك فيه، فلو أراد كل طرف فرض رؤيته على الآخر ماذا يمكن أن يتم في عالمنا العربي؟ تخيلوا إلى أين يمكن أن توصلنا التقسيمات الطائفية والدينية، وربما لو تبعنا العرقية والقومية أيضاً، ستصبح أكبر دولة عربية حسب طائفتها ومذهبها أصغر بكثير من ملعب كرة قدم، دولاً متحاربة متذابحة إلى مالا نهاية، هذا إذا لم نفنِ بالحروب بعضنا بعضا!!!

  • لماذا لا يترك هؤلاء الدين لصاحبه، الله، ولماذا يتدخلون بصنع الله بخلقه؟ ومن أعطاهم الحق بذلك؟ فالدين كما ذكرنا لله والوطن للجميع، فلنترك ما لله لله، ولنتضافر لإعلاء صرح الوطن، ولا نترك أحداً ليتدخل في شؤون الله تحت أي إسم أو ذريعة، فهذه العلاقة بين الإنسان وربه من أشد العلاقات شخصية وخصوصية، ولا يحق لكائن من كان أن يتدخل بها، أما شيوخ الفتنة الذين بحرضون على العنف في أوساط فقراء الشعب وبغض النظر من أي ديانة أو طائفة هم، فنسألهم لماذا لا تبعثون أبناءكم ليفجرون أنفسهم ويصعدون ليحجزوا لكم مكاناً في الجنة؟ وإن كانوا “ملوا زوجاتهم”ويريدون الحوريات، فلماذا لا يذهبون هم أنفسهم ليفجروا أنفسهم ويصعدون الى السماء، بدلاً من تحريض الفقراء ؟ ولماذا لا يعطون الفقراء جزءً من جنانهم الأرضية إن كانوا بهذا الإيمان الذي يدّعون؟ولماذا يبعثون أولادهم وبناتهم إلى بلاد الغرب “الكافرة”، ويبعثون أبناء الفقراء لتفجير أنفسهم في خلق الله وعباده؟ وأكرر من أين لهم التأكد من صحة طائفتهم أو مذهبهم؟ ومن أين يعرفون أن لهم الجنة دون غيرهم؟ بل من قال أصلاً أن لهم الجنة؟، فالله ،حتى الله الرؤوف الرحيم، لا يرحم العملاء والمجرمين…

محمد النجار

كلمتان …ليطمئن البحر

عندما أكون بحضرتها، الحاجة “أم نور”، يفتح عليّ الله ويطلق لساني، ولا أعود الرجل “الأهبل” المتلعثم، ولا الرجل الذي “على باب الله”، كما يسميني معظم الناس، في مخيمنا القريب على شاطئ بحر غزة، وأنا لم أنكر يوماً أنني كما يصفون، بل ربما أُأَكد ذلك لكن بطريقة أخرى، سأشرحها لك لتحكم بنفسك.

فأنا ـ كما تعرفني ـ كنت طوال عمري ولم أزل، إنسان بسيط، كنت أذهب إلى المسجد في كل الأوقات، أصلي وأبدأ بتقبيل أيدي من هم أكبر مني سناً، خاصة أيدي الشيوخ الذي ينضح بهم المسجد في معظم الأوقات، وسرعان ما أجلس للإستماع للدروس الدينية من أي كان، وأعمل بها، لأضمن لنفسي دخول الجنة بعد أن يأخذ الله “وديعته”، لكن خروجي المتكرر الى شاطئ البحر، كان يُحرك عقلي الخامل، ويجعله يفكر فيما ليس مسموح التفكير به، فيوصلني ربما الى المعصية، ثم الى الكفر الذي سيوصلني الى نار جهنم.

هذا ما قلته للحاجة “أم نور”، لكنها قبل أن تسألني عن أي شيء سألتني عمّا أراه أو أحسه عندما أذهب الى شاطئ البحر، ورغم أنني لم أفكر في الأمر قبل سؤالها، إلا أن سؤالها أثار في فضولاً من نوع غريب، وسألت نفسي بدوري، لماذا أتوجه أنا للبحر؟ ولم أعرف الإجابة يوماً عن هذا السؤال، وكل ما أعرفه أنه يوجد شيء داخلي يدفعني دفعاً للذهاب الى هناك، أختار موقعاً بعيداً عن الناس، لا يسمعني أو لا يراني فيه أحد، وسرعان ما أبدأ أشكو للبحر همومي، أرمي بوجهه أسئلتي، وأصرخ به بكل ما في حنجرتي من ضجيج وهِمَّة، دون أن أخشى غضباً منه أو نقمة أو حتى عتاب.

كنت أقف على أبواب شواطئه، وأرى أو أحس كيف تتكسر على قدمي أمواجه الهادرة، وتعود خائبة مهزومة مكلومة عابسة، دون أن تثير في سوى بقايا شفقة بين وقت وآخر، وعندما أصحو على إهانتي له، أنظر الى سعة صدره الذي يمتد بعيداً خلف الأفق، ودون أن أعتذر، كنت أسمع ضحكات أمواجه وقهقهاتها فأعود الى نفسي، ونعود صافيين صديقين، كورقتين بيضتين، دون منغصات ولا أحقاد .

كثرت تردداتي على البحر مع كثرة ما حرَّمه شيوخ مسجدنا، كنت أشكوهم له، كنت أردد على مسامعه كلمات المرحوم أبي، أن “الدين يُسر وليس عسراً”، لكن ما أسمعه منهم هو عكس كلمات أبي، واحترت أصدق من؟ صحيح أن والدي رجل لم يعرف المدارس يوماً، وأن كل ما كتبه في حياته لم يتعدى بصمة إبهامه، لكن كلماته هي الأقرب الى عقلي، لكنهم متعلمون وخطباء ويتكلمون كلمات لا أفهم معاني معظمها، ولديهم أضعاف ما لدى والدي من علوم الدين، وجعلوني أؤمن أن مخالفة كلامهم هو مخالفة أوامر الله وسنة نبيه، والخروج عن أقوالهم هو الخروج عن الدين، والنتيجة جهنم وبئس المصير.

حدثت البحر، فهدأ من صخب أمواجه ليسمعني، وقلت، وكان هذا عندما بدأت كلمات أبي تدق رأسي بعنف، “الدين يسر وليس عسرا” يابني، وكلماتهم تدق رأسي، أن “كل شيء حرام مالم يحلله الشيوخ”، رميت نفسي تحت أقدام أمواجه الهادئه وقلت، وكان هذا قبل سنوات من الآن:                                                           ـ كيف يكون الدين يُسراً وفيه كل هذ المحرمات؟!!! كيف يكون يسراً وهو ينحض بكل هذا الحقد على الآخر؟! وكيف يكون يُسرا وما زالت تسيل من جوانبه الدماء؟!!!

وصرخت في البحر ليسمعني جيداً:

ـ قالوا أيها البحر أن التلفاز حرام، برامجه حرام وأفلامه ومسلسلاته حرام، وكادوا يحرمون حامله وبائعه وفاتحه، لكنهم كانوا من أوائل من اشتروه واقتنوه، عندما كنا نذهب للمقهى الوحيد الذي يضم تلفازاً، بجانب حائطه الداخلي في المخيم، لنتفرج على التلفاز، وكان حلماً بعيداً غير قابل للتحقيق أن تمتلك تلفازاً، كانوا هم يشترونه سراً بسهولة وأريحية،” لأن الله أعطاهم، ولم يُعط غيرهم، بغير حساب”، وبعد كل صراخهم بتحريمه، ها هم الآن وبعد مرور سنوات على ذلك التحريم، صار منهم أصحاب قنوات، ومنهم من يتنقل من قناة إلى أخرى في كل مساء، ومنهم مَنْ تراه في كل لحظة، وكأنه سكن الشاشة ولا يبتعد عنها، ورغم ذلك لم يقل لنا أحد منهم متى حللوا الأمر بعد أن كان محرماً كل هذا التحريم، ولماذا وكيف حللوه، فنحن لم نسمع بآيات نزلت بعد محمد.

لكن البحر لم يُجبني بكلمات، بل راودني إحساس بأنه حملني على بعض موجاته، ورماني الى شاطئه الرملي الحنون، وسرعان ما همس في أذني للذهاب الى منزل الحاجة “أم نور”.

ومشيت تحت أشعة الشمس بملابسي الغريقة بماء البحر  وهواجس رأسي، وكأن أحداً يقودني من يدي الى شارع فلسطين، في المخيم، والذي غيروا إسمه إلى شارع “أبو حذيفة”، ورأيتني أدق عليها الباب، ولما رأتني أقف ببابها أدخلتني، وقالت:

ـ أدخل، أدخل يابني، ماذا جرى لحالك؟ لماذا وجهك بهذا الإصفرار؟

وأمسكتني من ذراعي لتساعدني في الدخول، ولما ابتلت أصابعها بملابسي، أضافت:

ـ وما بك مبتلاً بهذا الشكل وكأن البحر قد قذفك إليّ؟

ودخلت، وجلسنا على كرسيين من القش في “حوش” بيتها الصغير.

والحاجة “أم نور” لمن لا يعرفها، علم من أعلام مخيمنا، وهي لم تحج يوماً رغم إصرار الجميع على إلصاق لقب “الحاجة” بها، ورغم رغبتها في ذلك، لها موقف من “آل سعود” لا تُساوم عليه أو بشأنه أبدا، أقسمت ألّا تحج إلا بعد سقوط آل سعود، والتي تُحملهم جزءً كبيراً من المسؤولية عما حصل مع أولادها، التي قدمت منهم إثنين من الشهداء، وثلاثة من المعتقلين، أحدهم خمسة مؤبدات وعشرين سنة، خاصة بعد ما رأت ما يقدمونه ولا يزالون لتدمير سوريا والعراق من أسلحةكما تقول، ولم يقدموا ولو بندقية واحدة لثورة فلسطين.

وبقيت، أم نور”، ومنذ إعتقال ابنها الأخير، وحيدة في بيتها الصغير في المخيم، ولطالما ذهبت لأفرغ في قلبها أوجاعي، وأبكي أحياناً، بين يديها اللتين كانتا بدفئ يديّ إله، فكانت تحتضن رأسي وتضعه في حِجْرِها، وتأخذ تُمسّد شعر رأسي حتى أغفو، تماماً كما ظلت تفعل المرحومة أمي حتى وفاتها، وكانت تبقى جالسة في مكانها لا تتحرك، حريصة على ألّا تُغير حركة أنفاسها، أو شكل قعدتها، أو حتى حركة يديها كي لا تقلق منامي أو تتسبب في إيذائه وصحوته، قبل أن تتم دائرة ارتياح جسدي المنهك.

وحتى قبل إعتقال آخر إثنين من أبنائها ، كانت تتردد على زيارتي في سجن النقب، عندما اعتقلوني إدارياً “دون أن أعرف لذلك سبباً”، كوني يتيم الوالدين ودون زوجة أو أخوة أو أطفال، “فأختي الوحيدة كانت قد غادرت خلف النهر بعد زواجها، وظلت هناك مع زوجها وأطفالها، لا تمتلك حق العودة معهم، ولا حتى مثل أي غريب أتى وسكن بيوتنا”. وكنت أنا “المقطوع من شجرة” أشكو لها، هناك أيضاً، تماماً كما للبحر، همومي.

هناك في السجن، حتى هناك، شكوت لها حالي، شكوت زملائي المساجين الذين ضحكوا مني كما لم يضحكوا من قبل، حيث أحضر أهالي زميلنا “حنّا ” في زيارته الأخيرة، مجموعة من الأغراض، بعد أن أعلمهم الصليب الأحمر أن إبنهم قد تم تحويله من التحقيق الى الإعتقال الإداري، فأحضروا له الملابس الداخلية وبضع بناطيل وقمصان ثلاثة، كما أحضروا له حذاءً مفتوحاً من الخلف، وداخله بعض الفرو يُسمونه “مانطفلي”، وهو ببساطة حذاء بيتي “بابوج” شتوي، لكن مثلي من أين له أن يعلم ذلك؟ أقصد أنني لم أسمع يوماً هذا الإسم في مخيمنا كله، وعندما بدأ يفرد على برشه كيس ملابسه، سأله أحدهم:

ـ أه يا حنّا، ماذا أحضر لك الأهل؟

ورد هو بكل بساطة:

ـ ملابس داخلية، بنطالين، ثلاثة قمصان، و…. مانطفلي

ولا اخفيك أنني لم أظن أن الإسم الأخير إلا نوع من أنواع الحلويات، فصحت من آخر الخيمة قائلاً:

ـ لا تنسى أن تطعمنا منه، إياك أن تأكله وحدك…

وارتفعت الضحكات دفعة واحدة في الخيمة من كل الذين كانوا يعرفون معنى الكلمة، ومن كان لا يعرف إلتزم الصمت أو سأل من باب أنه “لم يسمع” وليس “لم يفهم”، وصار بعضهم يناديني، على مدار أسابيع حيث كدت أن أفقد إسمي، ب”طعمينا منه”. حتى الحاجة “أم نور” لم تفهم معنى الكلمة، لما حدثتها، دون شرح، ثم اتسعت ضحكتها وكادت أن تكبر وتتحول إلى ضحكة مجلجلة، لولا حرصها من جرح مشاعري عندما عرفت معنى الكلمة تلك.

مياه البحر لم تجف عن جسدي بعد، وأمام سؤالها الوحيد المتكرر، قبل أن تأتي بإبريق الشاي، ماذا بك؟ قلت:

ـ أنت تعرفينني ياحاجة “أم نور”، إنني رجل مؤمن والحمدلله، لكني ومنذ فترة أكاد أختنق، تطاردني كلمات المرحوم والدي الأمي بأن “الدين يُسر وليس عسراً”، وكلمات الشيوخ في المسجد حيث أصلي، تمد أخطبوط أيديها ملتفة حول عنقي، وتهزه بقوة صارخة داخل دهاليز جمجمتي:

ـ التدخين مكروه ويصل درجة التحريم، ومن دخّن جاء يوم القيامة ورائحة التبغ تفيض مدرارة من جلده، فيبدأ أهل الجنة بالسعال، وما يناله سوى الخزي والعار.  أدخل الحمّام بقدمك اليمين، وكأن القدم الشمال ليست من صنع الله ولا خلقه، وكدت مع كثرة تردادهم للأمر أن أقطعها وأرميها حتى لا أُخطئ وأدخل بها قبل اليمين. لا تبتلع ريقك في شهر رمضان فتفطر ويتحول صيامك، والعياذ بالله، إلى جوع كلاب، لا تقرأ في المرحاض فحروف الكلمات من كلمات القرآن، أطلق العنان للحيتك وقص شاربيك، إلبس كما لبس السلف الصالح، وليكن طول ثوبك ماتحت الركبة وفوق الرسغ، وكأن الدين زياً والإيمان يحدده عدد شعرات اللحى!!!

ثم دعاء عذاب القبر،  وجب حفظه عن ظهر قلب، وكأن الله وحشاً يتربص بنا، فما ان نتوارى داخل التراب حتى ينقضّ علينا معذباً حارقاً. وأخذوا يخترعون لنا دعاء ما قبل كل صلاة ودعاء لكل ما بعدها، دعاء ما قبل الأكل ودعاء ما بعده. وماذا سأقول لك عن المرأة الناقصة عقل ودين، وعن المرأة الحاسرة الفاجرة وعن المرأة المتبرجة وعاصية زوجها أو أبيها أو أخيها أو حتى إبنها، وعن العورة في جسد المرأة، فوجهها عورة ويداها عورة وقدماها عورة وصوتها عورة وكامل جسدها عورة، وينتقلون للحديث عن ضرورة النقاب وشروطه، كون نظرة المرأة بعينيها الإثنتين حرام وبعين واحدة حرام بل الحلال نظرتها بنصف عينها الشمال!!!، وإلّا لن تخرج من نار جهنم أبداً، كيف يمكن ذلك فأنا لا أستطيع ، بسبب قصور عقلي، أن أتخيل الأمر، ثم يتبجحون بإحترام “مفهومهم الديني هذا” لإنسانية المرأة!!! والغريب، وأكاد أجزم، أنهم وهم يتحدثون عن المرأة يسيل لعابهم وتُضاء وجوههم، وتراهم وهم يسرحون بخيالهم ويُحلِّقون، ويعلم الله بماذا يفكرون. أيمكن أن يكون ديننا بهذه السطحية والشكلانية التي يقولون؟!!!

كما أن أحد الشيوخ نبّهنا وحذّرنا من التبول في الجحور، لأنها مساكن الجن!!! وكأننا نبحث عن الجحور ليلاً ونهاراً لنبول بها، أو كأننا لا نعرف التبول إن لم نجد الجحور!!!، أو كأن الدنيا ضاقت بالجن فلم يجدوا مسكناً غير الجحور!!!، وفوق هذا كل كيف ستكون هناك جحور في منطقة ساحلية رملية ضيقة؟!!! لا أعرف كيف إشتغل عقلي وطرح كل هذه التساؤلات، لكن سؤالي الكبير هو، لماذا يسكن الجن الجحور ماداموا قادرين على سكن أجمل الشقق السكنية أو الفلل دون أن نراهم أو نحس بهم؟!!! كما أنه صار في كل بيت مرحاض لنبول به، ولم يعد الناس كما كانوا بالأمس، فلماذا يعيش شيوخنا في الماضي وهم أبناء اليوم؟!!!

الآن صاروا يُركزون على طاعة أولي الأمر وعدم الخروج عليه، وعندما سألت الشيخ لماذا يؤيدون الخروج على ولي الأمر في سوريا، أخرجني من الدرس الديني صارخاً، واصفني بالزنديق. وأنت تعرفينني منذ زمن، وتعرفين مدى بساطتي وسذاجة عقلي، حتى انني عندما أجد قطعة خبز في الطريق أنحني وأرفعها وأقبلها ثلاثاُ وأضعها فوق جبيني ثم أضعها في حذاء حائط كي لا تدوسها أقدام المارة، وأنا كما تعلمين لم أكن زنديقاً يوماً، رغم أنني لا أعرف معنى الكلمة، لكني أشم رائحة التهمة والشتيمة فيها، كما أنني سألت سؤالي من باب المعرفة وليس شيئاً آخر، فأنا دائما وبعد كل صلاة أدعو للملوك والأمراء والرؤساء بالنصر وطول العمر… فقالت بإبتسامة كاملة:

ـ هل شمل الدعاء “آل سعود”؟

فقلت:

ـ لم أحدد أو أسمي أحداً، لكني أظن أن الدعاء يشملهم أيضاً.

قالت:

ـ لقد كفرت، وعليك التكفير عن ذنبك هذا بإطعام مسكين أو صوم ثلاث.                                                    قلت:

ـ إطعام مسكين؟!!! ومن أين لي أن أطعم مسكيناً؟ وهل هناك من هو مسكيناً أكثر مني؟ أما الصوم ثلاثاً فالأمر علي سهلاً، فأنا مثل الكثيرين آكل وجبة واحدة في اليوم، سأحولها إلى العشاء وينتهي الأمر.

ضحكت الحاجة “أم نور”، إقتربت مني، قالت:

ـ لقد مزحت فقط يابني، فالدين تماماً كما وصفه أبوك، يسر وليس عسرا، وهو شأن خاص تماماً، خصوصيته أكبر من أن تتصورها، هي علاقة بينك وبين ربك فقط، دون وسيط أو وكيل، دون “سمسرة” من أحد حتى لو كان شيخاً، ولا يحق لأحد، أي كان، التدخل به مهما أدّعى وزعم، وهؤلاء الذين تتحدث عنهم ليسوا سوى مجرد منتفعين من الدين ومتاجرين به، لماذا لم تسأله كيف يعيش وأسرته بهذا الرغد وهو لا يُفارق المسجد؟ لماذا لا يشتغل ومن أين له المال؟ ولماذا المال لهم دون غيرهم؟ وما هو مصدره؟ ولماذا امتهن الدين مهنة؟ وهل هناك مهنة إسمها “الشيخ”؟

ـ يقولون أن للفقراء الجنة.

قلت حين ناولتني كاسة الشاي في يدي، فقالت:

ـ لماذا لا يدخلون صفوف الفقراء ما دام الأمر كذلك؟ نعم ربما للفقراء الجنة، لكن على الفقراء خلق جنتهم على الأرض أيضاً، تلك الجنة، في السماء، يحددها الله، أما هذه، وأشارت بيدها فوق رأسي، فيحددها عمل الفقراء ومن معهم، وما دام اعطانا الله الحق في الحياة، فعلينا أن نجعل من حياتنا حياة عز وكرامة وحياة بشر، وليس غابة، يعني أن “نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا”، ومن لم يعمل ويقبل أن يظل هامشياً، ربما سيحاسبه الله أو يؤنبه ويوبخه، فالله يحب أن يرى آثار كرامته ونعمته على عبيده، وهذه تكون بالعمل الصادق الدؤوب، وليس بالجلوس وإعطاء الدروس، بإسم الله وكأنهم ورثتة على الأرض.

سكتت قليلاً، ارتشفت ما تبقى في كاسة شايها، وأكملت:

ـ وما أدرى مثل هؤلاء بالفقر والفقراء؟ربما يعتقدون أن الفقر علامة فارقة تظهر، مع الجوع، فوق الجسد، فتكشف أمره، الأمر كما تعرف يابني ليس كذلك، إنه علامات حرمان الزمن فوق الجسد، صلابة السواعد وتشقق الأقدام، ضعف الدم والهزال واصفرار الوجه وازرقاق الشفاه، إنه الفشل الكلوي وموت بريق العينين، إنه، ببساطة، الموت في جسد ما زال يمشي على الأرض رغم أنفه، أو بإرادة هائلة تهد الجبال…. وفي معظم حالاته هو مكمن التمرد والثورات…

ظلت كلماتها، كحبات مطر ثقيلة قاسية، تتساقط في أذني، والحاجة “أم نور” تتابع إلقاء كلماتها بنفس السياق، هادئة، كمجرى المياه في جدول هادئ:

ـ تجار الدين هؤلاء يابني تماماً مثل تجار السياسة، يبيعونك وهماً أو وعدأ كاذباً، أو شيئاً ليس لهم، لم يصنعوه أو يشاركوا في صنعه، الجنة، كما تجار السياسة لدينا، يبيعونك شعارات سياسية، لوطن تخلوا عنه، وما زالوا يقبضون ثمن هذا التخلي، وأمثالنا يدفعون ثمن تخليهم هذا أيضاً، وكلاهما يبيعوننا الأكاذيب ويفرضون علينا “بالقانون” تكميم الأفواه، وصرنا نحن، وليسوا هم، الخارجون على القانون.

سكتت الحاجة “أم نور”، قليلاً، قامت الى الشباك الفاصل بين حوش بيتها وغرفة النوم الوحيدة، تناولت سيجارة وكبريتاً كانتا على حافة الشباك العاري من أي زجاج، أشعلت السيجارة ونفخت ما أدخلته بفمها من دخان أزرق في سماء الحوش، ودائما ما كنت أتساءل، كرجل لم يجرب التدخين يوماً، مادام المدخنون ينفثون الدخان خارج صدورهم فلماذا يدخلونه هناك من الأساس أصلاً؟ ولم أتوصل الى أي نتيجة أو جواب، وأكملت حديثها وكأنها واثقة بأن أحداً لن يقاطعها:

ـ وكما ترى بفضل آل سعود وفضل تجارنا، وبعد أن كنا حركة تحرر وطني عربية، وتقود ثورتنا حركات التحرر في العالم، انقسمنا على أنفسنا، و تنازلوا عن دماء شهدائنا وآهات ثكلانا، وصرنا شيعة وسنة، شافعيين وزيديين، مسلمين ومسيحيين، عرب وأكراد، وثالثة الأثافي صرنا طلاب سلم وتنازل وتسامح مع قتلة أبنائنا، ألا يثير الأمر الإشمئزاز فيك أيضاً؟ صار أبطال المقاومة في جنوب لبنان إرهابييين، ومغتصبوا البلاد والعباد طلاب سلم!!! هزلت ورب الكعبة يابني….

فقلت كمن سكت دهراً ونطق كفراً، من غير ما أقصد إثارتها:

ـ لقد أصبحوا، رغم ذلك، في قمة قوتهم، خاصة بعد أن تخلى عنا “آل سعود”، وظلت أمريكا في ظهورهم، هل نستطيع نحن مواجهتهم …؟

ـ أسكت! لا تكمل حرفاً أكثر مما قلت…

وسحبت نفساً من سيجارتها إلى أعماق صدرها تبعته بسعلات عدة كادت أن تُخرج رئتيها خارج جسدها، وأكملت متابعة كلماتها التي سالت كرصاص منصهر في أذني ولم تخرج منذ ذلك الحين أبداً:

ـ ومنذ متى كان آل سعود مع ثورتنا؟ كل الموضوع أنهم كانوا يتآمرون في الخفاء وصاروا يتآمرون في العلن، وأمريكا كانت وما زالت في ظهرهم، وستظل كذلك حتى تصبح كلفتهم أعلى من أن يتحملها الأمريكان، أما هم فأقوياء فعلاً، خاصة بعد أن وظفوا تجار الدين و”قطيعهم الجاهل” لتدمير الأوطان بمال آل سعود وسلاح الغرب  لصالح أمريكا ودولتها اللقيطة، لكن ألم تتعلم بعد أن “ربك عندما يريد الإسراع في قتل نملة يخلق لها جناحين”؟!!!   وسكتت وكأنها تريد التأكد من رسوخ كلماتها في رأسي، وأكملت:

ـ ما دامت البوصلة في اتجاهها الصحيح، فلسطين، لن نضل أبداً …

وتذكرت كلمات المرحوم والدي الأمي، الذي لم يكتب غير البصمة بإبهامه، والذي لم يكن سوى نسخة ذكرية عن الحاجة “أم نور”، وتخيلته يعيد كلماتها تماماً كما سمعتها الآن، وظلت مسكوبة في أذني كرصاص مصهور، وهو يشير بسبابته إلى إتجاه البوصلة.

لا أدري ياعزيزي، كلما جلست مع هذه المرأة أو أمثالها من مخيمنا، كلما رأيت نفسي “رجلاً يفهم وليس على باب الله”، وكلما رأيت البحر مختلفاً عمّا يعتقده الناس، يتسع صدره لأمثالي، يستمع لهمومهم وشجونهم بصبر وأناة وحنان، ولا يكشف لهم سراً… سأتركك الآن وأذهب لأرتمي من جديد في أحضانه، وأخبره بما قالته الحاجة “أم نور”،  ليطمئن …..

محمد النجار

أصابع الببو ياخيار

ما زالت تدق تلافيف رأسي بقوة، كلمات أمي وزوجتي حتى هذه اللحظات، وهذا الهجوم علي وكأنني لا أعني لهما شيئاً، وما يربكني أكثر اتحادهما ضدي في الفترة الأخيرة، فما أن أفتح فمي متحدثاً أو معلقاً في أمور السياسة وشؤونها حتى تنقضّان على عقلي، مشككتان في أهليته، رغم أنهما تعرفان جيداً أنني أنهيت دراستي الجامعية، رغم أنني أبيع بعض إنتاجهما من خضار حديقة بيتنا الريفي، على عربة في سوق المدينة، كوني لم أجد مكاناً أعمل به في شهادتي هذه، حتى أصبحت الشهادة تُستخدم كسلاح ضدي في بعض الأحيان، فتقول أمي مثلاً ” أحمد الله” أنهم لم يقبلوك حتى معلماً في مدارس أطفالنا، كي لا تسمم عقولهم بأفكارك هذه، فمثل أفكارك لا تنقصهم أبداً”.

ـ “أصابع الببو يا خيار”

ناديت لترويج ما لدي من خيار على عربتي، علّني أبيعها قبل العصر لأستطيع العودة في باص القرية مبكراً هذا النهار، وكلامهما ما زال يدق رأسي كمهدةٍ حديدية ضخمة، ينهال بها عامل قوي فوق سكة حديدية برتابة صلبة لا تنتهي، حتى وأنا أوزن للزبائن طلباتهم لم ينقطع هذا الطرق ولا هذا الرنين، لدرجة أن أرجع لي أحدهم مشكوراً بعض النقود التي أعطيتها له قائلاً لي منبهاً:

ـ إصحَ يا رجل لقد أعطيتني “كيس الخيار”، وأرجعت لي كل المبلغ كبقية لورقة “المية”، حدّ الله ما بيننا وبين الحرام.

كنا ننتظر خبراً عن ذكرى “منتصف أيار”، لنعرف أين سنتفاعل والآخرون بهذه الذكرى، فمنذ سنوات وزوجتي وأمي تشاركان في معظم المناسبات الوطنية ما أمكنهما ذلك، خاصة ذكرى النكبة منها على وجه التحديد، الذي تظل أمي تسأل عنها منذ مغادرتها حتى قدومها في العام الذي سوف يأتي.

وما أخذ يُزعجني في السنوات القليلة الماضية، أكثر من أي شيء، هذا الحلف الذي تشكل ضدي بين أمي وزوجتي، كما أنني لم أسمع بمثل هذا الحلف بين “الحماة وكنتها” إلّا في بيتي، وعلى من؟ على الإبن، أو الزوج، يعني علي أنا، أنا بالذات، ويتكرر الأمر كثيراً لأنني لا أعرف أن أغلق فمي عندما يقتضي الأمر ذلك، لأجد الهجوم أول ما أجده من أمي، التي تبدأ بالقول عند تعليقي الأول على حدث ما:

ـ  لو إنخرست لكان أفضل من أن تبول من فمك، ألم تتعلم بعد أن “السكوت لأمثالك من ذهب”؟

وكنت أقول من باب تكملة الحكمة الشعبية:

ـ نعم و”الكلام من فضة”.

لكنها قالت معلقة:

ـ “بل من تنك صدئ”، لو كان من فضة أو حتى من نحاس لما علقت.

وتكمل زوجتي معلقة في ثنائية عجيبة:

ـ “إذا بُليتم فاستتروا”.

بدأ الأمر كله منذ بضع ليال، عندما رأيت “المناضل الكبير”، كبير المفاوضين الفلسطينيين، وأمين سر منظمة التحرير، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والله وحده يعلم كم من المواقع والمراكز يحتلها أيضاً، وهذا دليل ذكاء وقدرة وعطاء، ولعله شرف كبير لأي كان أن يحتل هذه المواقع، أقول أنني مجرد أن رأيته إنتابني شعور فُجائي بضرورة القيام لتوي والصلاة “ركعتين وربما ثلاثاً” لله عز وجل، على مِنته ونعمته علينا بمثل هذه القيادات، وقلت عندما رأيته بوجهه ” المِسْمَرّ” من أشعة الشمس كوجهي :

ـ وجه المسكين محروق من الفِلاحة…

نظرت أمي الى زوجتي، وأزاحت وجهها كي لا تراني، وعلقت زوجتي:

ـ مثله لا يعرفون فلاحتنا نحن، يعرفون الفلاحة في الشعب، قل ربما من شواطئ بحر تل الربيع…

كنت أنظر إليها وأفكر بصوت مسموع، وكلمات تفكيري تندلق في آذانهما ككتل من رصاص مغلي ذائب لا أعرف له سبباً، قلت عندما رأيته يمرر يديه أو إحداها فوق رأسه، ويضغط معتصراً أفكاره:

ـ كم هو عميق التفكير!، فعلاً كما يقولون أن الرأس كثيف الشعر أو  الرأس الصلعاء من علائم الذكاء، أنظرن إليه بربكن كيف يحاول إعتصار الكلمات من رأسه، حتي ليبدو لمن لا يعرفه، أنه “يستخسر” الكلمات فينا نحن الشعب،  الذين لا نستطيع فهم الأمور على حقيقتها، كوننا لا نفهم كل شيء.

وأنهيت عبارتي لا أعرف لماذا بالقول:

ـ وأكثر ما يعجيني بهذه القيادة شيئين إثنين، وأشرت بإصبعي موضحاً وأكملت، الوعي بالقضية الوطنية، ونظافة اليد…

ويا ليتني لم أقل ما قلت، فسرعان ما قالت أمي بكلمات مستهزئة قاسية:

ـ صدقت، إن كل ما نراه من فلل وعمارات وسيارات وعقارات من معاشهم الشهري فقط…

وصرخت كأن نكبة جديدة اغرقت رأسها من كلملتي:

ـ متى ستتعلم أيها الدابة أن تستخدم رأسك؟ والله أحياناً أفكر أن خلفة أمثالك ما هي إلا إمتحان من رب العالمين وإختبار لصبرنا.

فقلت محتجاً:

ـ أرجوكِ يا أمي أخفضي صوتك، نحن في الليل و”الصوت يُجيب”، ولا أريد أن يسمعنا الجيران.

التقطت زوجتي الكلمات مانعة مماحكتي لأمي من الإستمرار، وقالت بدورها مستهزئة، منادية أمي كما كانت تناديها دوماً منذ بداية زواجنا:

ـ نعم يا “أمي”، كل ما ذكرت من معاشهم فقط…

وكدت للحظات أظن أنها واقفة في صفي، لكن كلماتها لطمتني كحذاء على رأسي، الذي ظلت تدور به الأفكار قبل أن تتشتت وتتفرق، مثل سحابات متقطعة في يوم صيفي عابر، وتابعت:

ـ هذه القيادة يا “أمي” لم تساوم على وطن، ولم تتنازل عن شبر منه، ولم تحوّل ما تبقى منه لتجارة رابحة لها، فلم تُبدل أراضٍ من مناطق c بمناطق من  b ولا من b بمناطق من a، بصفقات مشبوهة مع الإحتلال، لتجني من خلفها الملايين، ولم تقيم الشركات لها ولأولادها لنهب المال العام، ولم تسرق أموال الشعب، وتفاجئنا كل يوم بمحاسبة الفاسدين والمُفسِدين ولصوص المال العام، وبإعتقال العملاء والخونة وسجنهم وإفشال مخططاتهم، وهي لم تعتقل مناضلاً ولم تستهدف مواطناً، لم تختطف طالباً ولم تقمع رأياً ولم توقف عملية فدائية، كما أنها و”الحمد لله” لم تلحس حذاء أمير أو ملك أو رئيس، ولم تبع موقف لأحد، ولديها القرار الفلسطيني المستقل مستقل فعلاً وقولاً، وهي يا “أمي”قيادة جماعية، قراراتها بالإجماع ومؤسساتها تعمل بفعالية، وتنفيذ مهام مؤسساتها لم تنقطع يوماً، الأمر الذي أبقى البنادق موجهة للإحتلال وليس لصدر الشعب. وفوق ذلك كله، ومهما بحثت، فلن تجدي لهم أرصدة في البنوك الغربية ولا العربية ولا المحلية، لا بالملايين ولا حتى بمليون واحد، دليل على نظافة اليد كما أكد زوجي الحبيب!!!

سكتت قليلاً وتابعت وكأنها تحفظ قصيدة عن ظهر قلب:

ـ و”الحمد لله” أن زميلاً لهذا، “وأشارت بيدها الى القائد المناضل المفاوض على التلفاز”، المناضل العبقري الكبير عزام الأحدب أو الأحمق، فأنا لا أحفظ أسماءهم، كان قد أوضح لنا مُفسراً أيضاً، “أن إضراب المعلمين من أجل نيل حقوقهم، يمس بالأمن القومي الفلسطيني!!! “أرأيتِ يا “أمي” ؟ يخبرنا بما لم نكن نعلم، يخبرنا أن هناك أمن قومي فلسطيني، وأنا مثل الكثيرين كنت جاهلة بالأمر!!! كنت جاهلة أن هناك أمن قومي فلسطيني والبلد كله مستباح؟ أمن قومي والصهاينة يطاردون شبابنا ويقتلونهم كل يوم بدم بارد، أمن قومي وجنود الإحتلال يفتشون في غرف نوم هذه القيادة وفي سراويل نسائها؟!!! إضراب المعلمين هو ما يؤثر على الأمن القومي وليس التنسيق الأمني مثلاً، أرأيت؟ فلولا عبقريته في فن إدارة التفسير وطريقته ما كان لنا ، نحن الجهلاء،  أن نفهم الأمر على حقيقته، وكان التبس الأمر علينا وتهنا وأضعنا البوصلة مصدقين المعلمين لا سمح الله ولا قدر.      هؤلاء لا يرون فينا إلّا مجرد قطيع، يتحرك كما يريدون، يسمع ما يقولون، يفهم كما يشتهون ويصدق ما يكذبون.

في تلك اللحظة بالذات، كان المناضل المفاوض الكبير، يقول مفسراً التنسيق الأمني وماذا يعني، موضحاً لمن يريد أن يفهم، ودون أن يترك مجالاً لشك أو تحريف أو تدوير:

ـ التنسيق الأمني يعني أنه عندما يقتل “اسرائيلياً” زوجته، ويتخفى بين الناس في الضفة أو القطاع، ننسق معهم لإرجاعه.

فقلت فوراً في زهوٍ منتصر، موجهاً الكلام لأمي مهملاً زوجتي:

ـ أرأيتِ يا أمي؟

فقالت أمي مباشرة ودون تلعثم:

ـ ومنذ متى يحتمي الصهاينة بيننا يا غبي؟ وهل مثل هذا الأمر إن حصل يحتاج لتنسيق أمني؟ ألهذا يصر الرئيس على أن التنسيق الأمني مقدساً؟ وتصر أمريكا و”إسرائيل” على إستمراره؟ إلى متى سيبقى عقلك مُعطلاً يا ولد؟

ورغم أنني لم أقتنع بكلمة من كلماتهن، إلّا أنني فضلت أن لا أعلق على كل ما يقوله المناضل المفاوض الكبير، كي لا أستمع لمزيد من التوبيخ والإستهزاء منهما، لذلك لم أعلق بأكثر من ابتسامة غامضة عندما فسر لنا كلمات الرئيس، وفي أي إطار كانت، عندما قال أنه يبعث الأمن الفلسطيني ليفتش حقائب طلبة المدارس بحثاً عن سكاكين، لكن زوجتي التي تزداد تطرفاً يوماً بعد آخر مدعومة من تشجيع أمي قالت:

ـ ومنذ متى يحمل أطفالنا السكاكين؟ أيريد رئيسك أن يحولنا إلى قطاع طرق لمجرد أن يُرضي أسياده الإسرائيليين؟!!! بدل أن يدافع عن “السكين” كوسيلة لرد الظلم ومقاومة المحتل، قي ظل غياب وسائل أخرى.

فقالت أمي جملة من جملها القصيرة الحادة:

ـ طبعاً، فالسلاح أرسلوه ليدمروا سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولم يبق شيء يرسلونه لفلسطين، يا حيف على هذه الأمة يا حيف.

لا أعرف ما الدي أصاب أمي بالضبط، فكل يوم تزداد إنتقاداً وحِدّة على قيادات فلسطين والعرب، لكنني يوم عزاء الشهيد أمجد الذي إغتالوه واقفاً على باب داره برصاصة قناص، قبل شهر من الآن، استمعت لحديث الدكتور خالد، الذي فسر الأمر قائلاً :

ـ أن أمهاتنا وآباءنا بعد أن مر الزمن وهم ينتظرون العودة مُصدقين وعود الأنظمة، سرعان ما تهاوى شبابهم واندثر وهم يأملون خيراً في القيادة الفلسطينية بعدهم، ورأوا أنفسهم يتدثرون في أحضان شيخوخة بائسة، غير قادرة لحملهم لأي شاطئ آمن في بلادهم، التي يرونها بعيونهم المجردة، ولا يبتعدون عنها سوى بضعة كيلومترات، وبعد ما رأوا من تهاون القيادات وتفريطها بالقضية، أخذوا يزدادون ميلاً للمواقف الجذرية الحاسمة، في محاولة للإستفادة من تجربتهم المرة مع المحتل، وفي نفس الوقت لتقريب حظهم في الرجوع والعودة، فهم أكثر من يدرك أن عودتهم مرهونة بصلابة أولادهم، فصاروا يزدادون صلابة خاصة وأنه لم يبق من العمر بقية، وحلمهم بالعودة يدق بعنف تلافيف أدمغتهم…

ورغم أنني لا أتفق مع هذا التفسير الذي يحاول المس بقيادتنا، إلا أن بعضه، خاصة ما يخص أمي على وجه الدقة، صحيحاً، لكن زوجتي وكرهها أو حقدها أو على أقل تقدير عدم إحترامها لهذه القيادة، شيء لم أفهمه ولن أفهمه أبداً.

وسرعان ما أخذ “المناضل المفاوض”، يُدافع عن الرئيس المصري، معيداً كلماته بأن “فلسطين في سلم أولوياته”، فثارت أمي قائلة:

ـ طبعاً، فهو منكم وإليكم، وإلّا لما أغرق أنفاق غزة بمياه البحر، ومنع الطعام عن الغزيين والذي يشترونه بأموالهم، ويغلق المعبر الوحيد أمام الجرحى والمرضى والطلاب والأقارب، حتى لا أقول السلاح الذي كان يجب تقديمه بكل الطرق للغزيين، ليدافعوا به عن الأمة العربية وأولها مصر قبل فلسطين…

فقالت زوجتي بإبتسامة حزينة:

ـ مادامت مصر لم تكن يوماً أولوية لديه هل ستكون فلسطين كذلك؟ من يُهدي الجزر المصرية لآل سعود، ويبقي على أبواب مصر مفتوحة للنهب الأمريكي الإسرائيلي، ويعتقل عشرات الآلاف من شباب الثورة الذين أوصلوه لسدة الحكم، وزاد الجهل جهلاً وعمّق الأمية ورفع نسبتها، ورفع الأسعار وزاد نسبة الدين العام، ورفع الدعم عن المواد الرئيسية، ولم يبنِ مصنعاً أو يدافع عن ماء نيله ضد المشروع الإثيوبي الإسرائيلي، وكمم الأفواه ومنع التظاهر، أتريد من مثل هؤلاء أن يدافعوا عن فلسطين؟!!!

فقالت أمي معلقة من جديد، وكأنهما يعزفان لحناً واحداً ألّفتاه سوياً:

ـ يا طالب الدبس من طيز النمس!!!

فقلت بغباء لكن بحسم واضح:

ـ الرئيس إن قال فهو لا يكذب

فقالت زوجتي بطريقة حاسمة لا تقبل التأويل:

ـ لا يوجد رئيس لا يكذب

فقلت سائلاً بسذاجة طفل، لا أعرف كيف أو لماذا:

ـ والملوك أيضاً؟!!

فردت أمي هذه المرة قائلة:

ـ الملوك والأمراء أبداً لا يَصْدُقون…

ظل “المناضل المفاوض” يلوك كلماته وسط تعليقات أمي وزوجتي، وكلما كان ينطق بشيء لا يعجبهن كن يعلقن عليه بتكامل غريب، وكان حديثه وكأنه مفصل ليستطعن التعليق عليه، خاصة عندما بدأ بالدفاع عن آل سعود كما تسميهم زوجتي، “بأنهم لم ولن يتآمروا على قضية فلسطين”، ودون أن أنبس ببنت شفة قالت زوجتي معلقة:

ـ هؤلاء إما جهلة لم يقرأوا التاريخ يوماً، وإما أعمتهم أموال آل سعود ويكذبون بالمجان، ألم يقرأ  هذا كيف تبرع ملوك آل سعود بفلسطين “للمساكين اليهود” كما وصفوهم؟ ألم يقرأوا كيف تآمروا وتحالفوا مع شاه إيران “حيث إيران لم تكن شيعية في ذلك الوقت!” على عبد الناصر وثورته ومشروعه العروبي؟ وكذلك على نظام الجمهورية في اليمن؟ ألم يستدعوا ويطلبوا برسائل واضحة تدمير الدولة المصرية وهزيمة ناصر بهجوم اسرائيلي وإلاّ فالمخاطر كبيرة على نظام العائلة بأكمله، قبل شهور من حرب الخامس من حزيران 1967؟ وإن كان هذا من الماضي فماذا عن لقاءات مخابرات البلدين الدائم؟ وماذا عن لقاءات الأمراء مع “موسادهم” والتنسيق المشترك؟ وهل فعلاً لم يسمع عن لقاءات الأمراء مع الصهاينةفي الأردن؟ وزيارات بعض وزراء آل سعود للقدس المحتلة نفسها؟ أم كل ذلك لجس نبض المحتل ليعرف آل سعود كيف يحاربونه؟!!!

وضحكت بألم قلّما رأيته عل صفحة وجهها وتابعت بجديتها نفسها:

ـ هؤلاء يعلمون أن مستقبل عائلتهم معلق في أيدي “أمريكا وربيبتها اسرائيل”، والأخيرة هي الأقرب الآن بعد  ما يجري من تدمير للأوطان، لذلك كل هذا التحالف الذي أصبح علنياً الآن ولا يريدنا أن نراه صاحبك القائد.

فقالت أمي رادة على كل أسئلة زوجتي دفعة واحدة:

ـ إنه ثمن المال المدفوع يا بنيتي، والمال إن دخل ثورة أفسدها، أغنى قادتها وأذل شعبها وأضاع قضيته، لهذا بالضبط يابنيتي، نحن على ما نحن عليه من وهن وتبعية وخنوع، وحزب الله على ما هو عليه من عزة وعنفوان وصلابة، رغم أننا سبقناه بعدة عقود بحمل السلاح، لكننا أضعنا إتجاه البوصلة، أو غيرنا إتجاهها بثمن بخس.

كنت أحاول الإبتسام على كلام زوجتي قبل أن تبدأ والدتي حديثها، لكن كلماتها الجافة مزقت محاولات ابتسامتي الفاشلة ورمتها بعيداً خلف جدران الغرفة، كل ذلك و”القائد المناضل المفاوض”، ما زال يتحدث شارحاً تأييده للمبادرة الفرنسية التي لا يعرف نقاطها كما قال، كون القيادة ملّت من التفاوض مع “اسرائيل”، التي لا تفاوض بل تُملي شروطاً كما أكد، وهنا قالتا الإثنتان دفعة واحدة وبنفس الكلمات:

ـ إذن لماذا ما زلتم تتمسكون بالتفاوض كطريق وحيد أيها الأنذال؟

وأكملت زوجتي، وكأنها لا تريد أن تترك شيئاً من الحديث يفوتها التعليق عليه:

ـ إنهم يوافقون على مبادرة لا يعرفون مضمونها كما يدعون، ورغم رفض أغلبية الفصائل الوطنية والإسلامية، إلّا أنهم يعطون لأنفسهم الحق في الموافقة والمشاركة!!! من هم ليفعلوا ذلك؟ من أعطاهم الحق بتمثيل الأرض والعباد؟

فقلت صارخاً بزوجتي بعد أن “بلغ السيل الزبى”، ولم أعد احتمل كل هذا القدح والذم الذي تسيله فوق رؤوس القيادة:                                                                                                                               ـ كفى… لماذا لا تغلقين فمك هذا الذي لم يكف عن الحديث الهدّام؟!!!

وما فاجأني رد أمي التي علا صوتها صوتي قائلة:

ـ لأننا نتحدث عن وطن وعن قضية… نتحدث عن شيء ليس من حق أي كان التفريط به أو التسامح فيه… أفهمت أم علي إفهامك بطريقة أخرى…

كانت ربما المرة الأولى التي تخاطبني بها والدتي بهذه القسوة منذ فترة مراهقتي، وربما طفولتي أيضاً، وما كان مني أن انسحبت بهدوء غاضب لف جسدي كله، اتجهت لغرفة نومي، ودفنت رأسي في ظلام فراشي، وحيداً، طردت أحلامي واستسلمت للنعاس.

استيقظت مع الفجر، حملت صناديق “الخيار”إلى مؤخرة الباص المتوجه للمدينة، وأخذت عربتي ذو العجلات الثلاث، من مكانها الذي أؤمنها كل يوم فيه، أفرغت صناديق الخيار فوقها، ثم أخذت أرتبه حتى جعلته هرماً جميلاً يشد الإنتباه، مع شروق شمس الصباح كنت أنادي عل بضاعتي، “خيــــــــــــــــــــــــــــار… أصابع الببو ياخيـــــــــــــــــــار، أصابع الببو ياخيــــــــــــــــــــار”، وهجم الناس يشترون كما لم يفعلوا يوماً من قبل، فعرفت حينها أن أمي رغم غضبها مني ومن غبائي أحياناً كما تقول، إلّا أنها رضيت علي وعني، ولم تبخل علي بدعواتها بعد صلوات الفجر التي لم تهملها يوماً.

ومع الضحى، امتلأت المدينة بالبشر حتى فاضت بهم، وبدأت تتشكل جماعات بشرية تهتف بحياة فلسطين، وبدأت “الإحتفالات” بيوم النكبة، وكنت أجر عربتي وأنادي ترويجاً لبضاعتي، وفجأة ودون سابق إنذار، داهمت الشرطة الفلسطينية المتجمهرين وعربتي فقلبتها، وانهار بقايا “هرم الخيار” الذي كنت حريصاً على بقائه ليجلب مزيداً من الزبائن، ووقع الميزان بأوزانه وكفتيه، وداست أقدامهم الخيار والميزان وطيق العربة الخشبي، ووقعت أنا بين يدي العربة، ودون تأخير حاولت إعادة عربتي، لكن أيادٍ قوية إنتزعتني، فصرخت”إنها عربتي، أنا بائع الخيار”، وهوت على رأسي هراوة لم أستطع تحديد ضاربها، وتهاويت حتى وقعت على وجهي مثل لوح خشبي، وللحظات لم أعد أرى، وأحسست فقط بلزوجة دافئة تتدفق من الجرح على وجهي ورقبتي، وبقايا كلمات آتية من مكان بعيد تصرخ بي” بائع خيار ياابن الكلب”، وأطل والدي ببارودته، شاباً قوياً لم يعرف الشيخوخة أبداً، تماماً كما صُورته التي أخفتها أمي ولم تُظهرها إلّا بعد استشهاده، والدي الذي استشهد بعد ولادتي بشهور عدة، ورفضت أمي الزواج بعده قائلة، “أنها لن تبدل ذكرياتها مع الشهيد بأي كان أو بأي شيء كان”، لهذا بقيت وحيدها، وكان شيء يصرخ في داخلي” أنا ابن الشهيد ولست ابن كلباً”، أنا ابن الشهيد بائع الخيار، وكان صوت يأتي من بعيد بعيد وكأنه من أعلى طبقات السلطة، من فوق، هناك من العمارة التي يعتليها رأس السلطة، يكرر “شهيد… بائع خيار… ابن كلب”، وعلى مجموعات من البشر بعيدة عن مدى سمعي، كانت تتفجر قنابل الغاز السام من جنود الإحتلال وكأنهم يساعدون شرطة السلطة للسيطرة على الأمور.

وصحوت وأنا في زنزانة في السجن، يقف على بابها شرطي ببارودة طويلة، قال زميلي الذي يبدوا عارفاً بأنواع السلاح، أن هذا النوع من البنادق لا يُطلق إلّا للخلف، ولمّا قرأ الغرابة فوق وجهي أضاف ” إن الخيل من خيّالها”، وكان هناك على أبواب المدينة ضابط عسكري يحمل على كتفه نجمة داوود، يخاطب ضابطاً فلسطينياً، ينسق معه أمنياً، تماماً كما شرح وفسّر “القائد المناضل المفاوض”، يطالبه أن يبحث له عن “يهودي قتل زوجته واختبأ بين أهل المدينة”، وكانت الهراوات ما تزال تدق عظام “المنكوبين” منذ ما يقرب من سبعة عقود في الخارج، والزنازين تمتلئ بالأجساد المنهكة، وكلمات أمي وزوجتي تتعالى وترتفع في أذني صارخة” إننا نتحدث عن وطن وعن قضية…ليس من حق أحد التفريط به… التفريط به…التفريط بــــــــــــــــــــــــــــــــــه”.

محمد النجار

خفافيش الليل تخشى ضوء النهار

تقابلنا بعد مرور ما يزيد عن حفنتين كاملتين من السنين، بل لقد عرفني من مشيتي وأوقفني، مشيتي العوجاء التي لطالما أضحكته وأنا أدور في “فورة” سجن رام الله في دائرة مثل أبقار الساقية، قبل أن ينقلونا سوياً الى سجن النقب الصحراوي مُحوليننا الى الإعتقال الإداري بعد إنتهاء تحقيقاتهم معنا دون نتيجة، حيث “الفورة” أوسع وأكثر شمساً وأعلى حرارة، لكن كل ذلك لم يغير طريقة مشيتي العوجاء كما ظل يسميها، والتي كان طول قامتي يجعلها كبيت تهالك وتآكل جانب من أساسه فمال جانباً وأصبح آيلاً للسقوط.

أوقفني فتوقفت ناظراً في صفحة الوجه المفرود أمامي، لكنني لم أعرفه، فابتسم الرجل كاشفاً عن سنٍ واحدٍ فقط تبقى في منتصف فكه العلوي، قاسماً فمه الى قسمين متساويين، فزاد الأمر تعقيداً على عقلي، فأطلق ضحكته المعهودة الصاخبة وسأل سؤالاً معاتباً:

ـ ألم تعرفني ياصديقي؟                                                                                                     وكلمة “صديقي” هذه هي ميزته الأولى قبل ضحكته الصاخبة، فهو لم يكن يستعمل الكلمات “التنظيمية” للتخاطب كما كنا نفعل نحن، فلم ينادي أحداً ب”الأخ” أو “الرفيق” يوماً، بل بكلمة “صديقي”، حتى لو لم يرَ المُخاطَب إلّا في تلك اللحظة، فكان يخاطبه بنفس الخطاب كما أصدقاءه الحقيقيين أو زملاء السجن العاديين.

وأمام ذهولي المؤقت، حاول أن يوقظ فيّ ذكريات غطتها السنون، فوضع إصبعه على سنه الوحيد الذي ما زال واقفاً وأفلت ضحكته الصاخبة من جديد وقال:

ـ آه… قبل سنوات لم يكن وحده، أما الآن فأصبح وحيداً مثلي، تخيل أنني وكي أحافظ على صديقي الوحيد الذي تبقى، فإنني أقوم كل صباح وأغسله بالفرشاة والمعجون حتى “أهلكه”، ويكاد يأخذ بالصراخ ويقول”اتركني من أجل الله”، أتتخيل كيف أدور حوله بالفرشاة و”أفعكه” و”أُحممه” و”أشطفه”، في محاولة ليظل يسليني فيما تبقى لي من عمر.

عانقته فوراً بعد أن سمعت ضحكته الصاخبة الثانية، وقلت صادقاً حتى وإن لم أكن صادقاً تمام الصدق:

ـ طبعاً عرفتك يا صديقي، وكيف لي أن لا أعرفك، وهل يخفى القمر يا أبا خالد؟

وخالدٌ هو الإبن الذي لم يرَه، حيث كانت زوجته حاملاً به في الشهر الخامس في الإنتفاضة الأولى، عندما تلقت قنبلة غاز في صدرها، في مسيرة نسائية على باب الكلية الأهلية في مدينة رام الله، فأوقعتها، وأخذ الغاز ينتشر بكثافة في المكان، ودخل دفعة واحدة في فمها وأنفها، فلم تعد قادرة على التنفس عِوضاً عن النهوض، وكلما اقتربت منها امرأة لسحبها من المكان كان الرصاص يطلق نحوها، وحتى عندما حضرت سيارة الأسعاف، أوقفوها ومنعوها من التقدم الى المكان، وسرعان ما اعتقلوا الطبيب المناوب فيها لإحتجاجه على الأمر وحولوه الى الإعتقال الإداري، وظلت هي في مكانها تحاول جاهدة انتزاع حزمة هواء نقي خالٍ من السموم ،للطفل على الأقل، دون فائدة، متناسية آلام حروق صدرها، حتى صعدت روحها الى السماء مع طفلهما الجنين، وربما تمتم هو في صدره”جاءت من القرية ليكرمها الله بالإستشهاد في المدينة”، ووفاء منه وحباً، لم يتزوج أبداً، حتى أن أمه قبل موتها لم تلح عليه كثيرا، وقدّرت واحترمت موقفه، وقالت في سرها “إن إبنها من صنف بعض الرجال الذين حتى لو لم يُخلِّف فهو لن يموت”، وظل هو يزور قبرهما وقبر أمه المجاور، ما دام خارج السجن.

شكرني على كلماتي “الطيبة” كما وصفها، واحتضنْتُ عضده، ودون مقدمات أقسمت بأن يأتي للغداء عندي، ولا أدري لماذا اجتاحتني ” موجة الكرم الحاتمي” هذه، والتي لم أكن أعلم أنها متأصلة في عقلي الباطني، بل في مرات عديدة كانت زوجتي تصدمني بكلماتها وهي تقول لي معاتبة عندما لا أقوم بدعوة الناس الذين ألتقيهم:      ـ لماذا وقفت مثل الأبله؟لماذا لم تدعهم على وجبة غداء؟

وعندما كنت أنظر اليها منبهاً بكلماتٍ من عيني، بأن ثلاجتنا خاوية من كل أصناف اللحوم كانت تكمل وتقول:

ـ الجود من الموجود…. على فنجانٍ من القهوة على الأقل…

قال محاولاً التفلت من قبضة يدي:

ـ بارك الله فيك، لا أستطيع، وهل أنا أريد تجربة كرمك؟

لكني أقسمت على غير عادتي من جديد.

كان يكبرني بجيل كامل ونصف الجيل، يعني أنه ربما يقف على أبواب السبعين، لكن جسده الرفيع ما زال رفيعاً، وما زال منتصبا مثل جذع زيتونة صلب ليس من عادته الإنحناء، وكان في كل فترة السجن من أكثر الناس قراءة، وعادة ما كان وقته مقسوماً إلى أشياء ثلاث يفعلها في سجن النقب على وجه التحديد ، القراءة والمشاركة في البرنامج الثقافي و ساعة من المشي يوميا في ساعات ما قبل الغروب، وكنت أحب الإستماع لشروحاته وغناها، وأحاول أن أقرأ ما يقرأه علّني أصبح فاهماً ومثقفاً مثله، وعندما رآني أستعير ذات الكتب التي يقرأها، سألني:

ـ هل قرأت كتاب كذا وكذا؟

ولما أجبت بالنفي قال :

ـ أنصحك بقراءتها أولاً كي تستطيع فهم هذا الكتاب بطريقة أفضل.

وأمام إصراري على دعوته قال:

ـ جيد، نشرب القهوة… ولا شيئاً آخراً…

ومشينا نحو منزلي القديم على طرف المدينة البعيد، غرفة وصالة صغيرة ومترين مربعين حولتهما لمطبخ، ومرحاض، سألني:

ـ ماذا تفعل هذه الأيام؟

فقلت:

ـ كما تعلم مع هذا الحصار وهذه الحواجز، وكوني معتقل سابق يمكنهم توقيفي واعتقالي على أي حاجز، لم يعد بإمكاني متابعة عملي كعامل مياوم خارج المدينة، على الأقل كي لا أُذَكَّرهم بنفسي، وكي أظل أقتنص وأصيد الرغيف بين فترة وأخرى ما دمت خارج السجن…

قال:

ـ نعم ياصديقي، الأوضاع صعبة وعليك الحفاظ على نفسك وعائلتك… لأن هذا نضال أيضاً، وكيف هي  إبنتي؟!!      سأل عن زوجتي التي كان يطلق عليها لقب”ابنتي” في أحيانٍ كثيرة، واكتفى بهزة رأس وكلمتين مني ،”ماشي الحال”

كان حديثه سرعان ما يجد طريقه الى العقل والقلب، وأذكر عندما قال زعيم إحدى فصائل الإسلام السياسي، الذي لقبوه ب”أميرالمؤمنين” ، الذي ظل يتغنى “بأن الله ميزنا على غيرنا عندما أكرمنا ب”الإسلام”، قال له أبو خالد:

ـ كما أكرمنا الله بديننا أكرم الآخرين بدينهم أيضاً، وهنا لا ميزة لأحد على الآخر، فكلنا وُلدْنا بديننا ولم نختره، أم تعتقد أنه أكرمنا بديننا وأذل غيرنا بدينه؟!!!

ثم حذّر الرجل بالتروي والتنبه فيما يقول، كي لا يكون الأمر موضوع فتنة داخل السجن، خاصة وأن الإحتلال يتربص ليجد ما يفرق به المناضلين. ومع تعنت “أمير المؤمنين” سأله أبو خالد مجدداً:

ـ يا صديقي، بأي حق تريد فرض معتقداتك على الآخرين؟ من أعطاك هذا الحق؟

فقال الشيخ:

ـ إن من واجبي أن أقيم “شرع الله”.

فقال أبوخالد:

ـ وهل أعطاك الله أمراً بذلك؟ كل معتقِد يعتقد أن دينه أو مذهبه هو الأصح وهو “شرع الله”، وكلهم مؤمن بذلك، لكن لا أحد من كل الديانات أو المذاهب والطوائف يستطيع ان يجزم بذلك، وإن كان كل واحد سيطبق ما يسميه ب”شرع الله” ويقيم حدوده وقوانين دينه على الآخر، فسندخل في مجازر وحروب لن تنتهي.

فقال الشيخ بثقة وتأكيد:

ـ بلى، إننا نستدل على ذلك بقول الله وبالمنطق.

فرد أبو خالد قائلاً:

ـ كلٌ يعتقد أن الله أمره بتطبيق ما ورد في كتبه المقدسة، ويؤمن أن منطقه هو المنطق الأسلم والأصح يا صديقي الشيخ.

وبالمناسبة سأل أبو خالدُ “الشيخ”:

ـ منذ متى أنت معتقل؟

ـ ثلاثة شهور.

ـ وبكم أنت محكوم؟

ـ ست شهور إدارية

ـ وهل هذه أول مرة تُعتقل فيها؟

ـ إنها الثالثة

فقال أبو خالد مشيراً بإصبعه نحو شخص كان يتمشى في ساحة “الفورة”:

ـ أترى ذلك الشخص ذو البنطال الأسود والقميص الأزرق؟

ـ نعم.

ـ قبل عشرين عاماً من الآن، أمضى هذا الرجل عدة سنوات في السجن،  وبعد فترة من خروجه تمت مطاردته وجرت محاولات لإلقاء القبض عليه، فاختفى واختفت أخباره معه، ليكتشف الجميع أنه بقي يناضل متخفيّاً عشر سنين كاملة قبل أن يتم إعتقاله مجدداً، أتتخيل الأمر؟ عشر سنوات لم يستطيع الإحتلال بأجهزته ومخابراته القبض عليه، وبعد اعتقاله حاكموه بالسجن الفعلي لخمس سنوات، وبعد أن أمضاها حولوه مباشرة للإعتقال الإداري، وها هم يمددون له للمرة الرابعة على التوالي  و”الحبل على الجرّار”، ست شهور في كل مرة.              وسكت قليلاً وأكمل:                                                                                                              ـ إن هذا الرجل مسيحي الديانة، ومثله الكثيرون إن كان الأمر يعنيك إلى هذا الحد،  فمن تعتقد أنه يمتاز عن الآخر برأيك ياصديقي، أنت أم هو؟ أم تعتقد أن الله سيدخلك الجنة كونك مسلم ويدخله النار كونه مسيحي دون النظر في أعمال كل منكما؟!!!

ولما لم يجد الشيخ ما يجيب به اتهم أبي خالد بأنه علماني الهوى، فقال أبو خالد حينها:

ـ وهل العلمانية تهمة؟ أنا لا أراها كذلك، وهي لو علم المتدينون الأفضل بالنسبة لهم، فهي تمكن كل متدين مهما كانت ديانته ومهما كان حجم تمثيلها ونسبتها في المجتمع، بأن تمارس طقوسها وعباداتها وشعائرها دون حق الإعتراض أو الرفض أو التهديد أو حتى حق الممانعة من أحد، لكن المذهبيين أو الطائفيين أو المتعصبين من أصحاب الديانات المختلفة، يرون في مذاهبهم حصراً أنها الصالحة والصحيحة دون غيرها، أما الديانات أو المذاهب والطوائف الأخرى، فيرونها خارجة عن قوانين الله وشرعه، وبالتالي وجب إيقافها ومعتقديها عن “غيهم” و”فسقهم” وعن “ردتهم”إن شئت، ليعودوا لرشدهم  وبحد السيف إن تطلب الأمر ذلك، يعني تحت شعارات دينية زائفة تعتقد أنها تملك الحقيقة دون غيرها، وتُدخل مجتمعاتنا في أتون حروب لن تنتهي، فكما قلت لك ياصديقي لا أحد يستطيع التأكد بأن دينه أو طائفته هي الصحيح المطلق .

ومن يومها عمم “أمير المؤمنين” : مقاطعة أبي خالد، وحرّم الحوار معه.                                                    وذكّرته بالأمر الآن ونحن نسير نحو بيتي، فقال:

ـ إن ما تراه أمامك الآن من تدمير للأوطان ما هو سوى نتيجة لمثل أفكار ما أسموه ب”أمير المؤمنين” ذاك وأمثاله، أعني أن “الغرب” وجد ضالته بهؤلاء، فدعمهم وسلّحههم وموّلهم من جيوبنا ليدمر بهم أوطاننا ويقسمها.، يعني يخوض حروباً بدمنا وأموالنا ويدمر حضاراتنا وتاريخنا ليحقق مصالحه، أرأيت المأساة؟!.

وتابعنا مشينا نحو بيتي، وأكمل وكأنه يكمل موضوعاً لم يكتمل بعد، فقال مستبقاً ما أراد قوله بضحكة مجلجلة صاخبة:

ـ يريدون إقناعنا بأن ما يدور في منطقتنا بأنه “ثورة شعب”، مستخفين بعقولنا وكأننا قطيع ماشية وليس بشر، تخيل “ثورة” تقودها أمريكا وبريطانيا العظمى وفرنسا الإستعمارية وتدرب قواتها “إسرائيل” كما وتعالج جرحاها، وتمولها “حارة الشيخة موزة” وعائلة آل سعود، فهل هذه ثورة؟ ويخوضون الحرب علينا تحت شعارات الديمقراطية!!! أي ديمقراطية هذه التي تدعمها أكثر الدول فساداً ولصوصية وفاشية وعنصرية ومعاداة للديمقراطية؟!!! وأي ديمقراطية هذه التي تُدمر الأوطان وتحاول تقسيمها وتستجلب دول “الناتو” لغزوها؟!!! ببساطة ياصديقي، لا يمكن لثوار أن يأتوا محمولين على ظهور دبابات الأعداء، لا يمكن لثوار أن يتنازلوا عن جزء من أوطانهم للأعداء مقابل دعمهم في تدمير بلدهم، بحجة فساد النظام كما فعل “أبطال الثورة السورية”، متنازلين عن الجولان المحتل لإسرائيل مقابل دعمهم، ولا يمكن لثورة ولا لثوار معاداة كافة قوى التحرر وبناء التحالفات مع القوى الرجعية في المنطقة.

ـ يا صديقي، إن كان صحيح أن العنف ضرورة للثورة في معظم الأحيان، فمن الصحيح أيضاً أن ليس كل عنف ثورة، وأكثر صحة أن لا الإستعمار ولا الرجعية يمكنهما أن يقودا ثورة، عوضاً عن أنهم يُقاتلون وربما يُقتلون من أجل أن ننعم نحن بالديمقراطية، ألا يكفينا “ديمقراطيتي” العراق وليبيا كي نفهم الأمور؟!!!.

سكت قليلاً وقال من جديد:

ـ كثيراً ما تذكرت في الفترة الأخيرة الماضية، كلمات المناضل كاسترو الذي قال” إذا ما إمتدحت أمريكا والغرب سياستنا علينا إعادة النظر بهذه السياسة”، أرأيت آلية تفكير الثوار الحقيقيون ياصديقي!! ونحن يقودنا ويوجهنا ويهدر دمنا ويدمر أوطاننا الأمريكان وحلفاؤهم وتابعيهم في المنطقة، وندّعي أن ما لدينا ثورة!!!

كنا قد وصلنا البيت، ورحبت به زوجتي، بل وقبلته من خديه، فما أكثر ما رأته سواء في زيارتي في زنازين سجن رام الله، حيث كانت محاكمات التمديد تجمعني والكثيرين بما فيهم هو، وكذلك في بعض زيارات سجن النقب، أثناء زيارة أمه العجوز قبل أن يُغيبها الموت.

وتقابلنا على فنجان قهوة، وأكمل هو وكأنه تذكر شيئاً لم يقله:

ـ تخيل!!! آل سعود يريدون الديمقراطية في سوريا والعراق وليبيا!!! والكثيرون يصدقون ذلك!!! لا أحداً من أولئك يدرك أن فاقد الشيء لا يعطيه!!! وأن من يقطع الرؤوس التي تعبر عن رأيها في بلده يعطينا دروساً دامية في الديمقراطية!!! يالله ياصديقي، آل سعود!!! هزلت ورب العزة، رحمك الله يا ناصر السعيد.

وأكمل وكأنه يريد تعريفي بناصر السعيد:

ـ ذلك المناضل الحجازي الذي اختطفته جماعة من”قيادتنا الفلسطينية” في بيروت، وسلمته لآل سعود ليلقونه من طائرة عمودية في صحراء الربع الخالي، أيمكن تخيل مثل هؤلاء المتوحشون الذين بشرونا بنشر ديقراطيتهم هذه في سوريا والعراق واليمن وليبيا؟ . لقد قال ذلك المناضل:”لن تنتصر قضية فلسطين ما دام آل سعود في سدة الحكم”، وها نحن نرى تحالفهم مع الصهاينة لمحاربة ما تبقى من قوى الثورة والممانعة بإسم الإسلام “السني”مرة والعروبة مرة أخرى، وكأن العروبة مقتصرة على السنة فقط في الإسلام، فكما حاربوا عروبة المرحوم “عبد الناصر” بإسم الإسلام “السني والشيعي” بتحالفهم مع إيران الشاه، يحاربون قوى الثورة العربية باسم السنة والعروبة الآن.   طبعاً إنهم “ثوار” آل سعود.!.!.!

وضحك بصخب أكثر هذه المرة، وقال عائدا الى صلب الموضوع،

ـ أتساءل أحياناً، هل الله فعلاً هو من خلق آل سعود ،أم أنهم نبتاً شيطانياً فاسداً ظهر فجأة وفي غفلة من الزمن؟!!! أستغفر الله العظيم، ولا أخفيك أنني أستصعب تصديق ذلك، إلا إذا كان الأمر إبتلاءً من الله واختباراً لصبرنا وقدرتنا على التحمل. لأن نسبة الذل والهوان والفساد والجهل والضلال والعفن والوقاحة والغرور في طينتهم عالية جداً، لكنني أعود وأقول أن هذه الصفات ما هي إلا صفات مكتسبة لا علاقة للإله بها، ولا يستطيع اكتسابها إلا كل نذل خسيس.

فقلت من باب المجاملة والمشاركة في الحديث:

ـ أنظر ماذا يفعلون في “حلب”، يقصفون ويدمرون وينهبون خيرات المدينة، ويصرخون “حلب تحترق”، وهم من يحرق ويدمر ويُزوِّر الوقائع، وتصرخ معظم كل الدول “العاهرة” في هذا العالم “أنقذوا حلب”!!!…

فقال:

ـ طبعاً ياصديقي، بعد أن فشلوا في تحييد تنظيم القاعدة في بلاد الشام المعروف بإسم “جبهة النصرة”، وجعله تنظيماً “معارضاً معتدلاً” لجأوا لخطوة زعيمهم الأمريكي للخطة “ب”، حيث دعموا هؤلاء التكفيريون بآلاف المقاتلين الجدد وبالعدة والعتاد من بلاد “العثمانيين الجدد”، وبضخ الأموال من حثالات آل سعود، ليكسروا شوكة جيشنا العربي السوري، “ودق على صدره عندما ذكر كلمة جيشنا وأكمل”، لكني أعتقد أن الأمور في نهاياتها، وأن قوى الظلام هذه ستحترق مع شروق شمس الصباح، فهذه الخفافيش لا تستطيع الحياة إلا في بين تلال العتمة ومنحنيات الظلام.

أحضرت زوجتي صحنين من الزعتر والزيت، وصحن جبنة بيضاء، وأربع بيضات مسلوقة مقطعة مبهرة تزينها كمية من زيت الزيتون، وصحناً من دبس الخروب الذي صنعته بيديها، وبضعة أرغفة من خبز الطابون، وقالت :

ـ هيا على ما قُسم…

وأمام محاولات رفضه الخجول قالت زوجتي:

ـ وهل هناك من يخجل من أبنائه؟!!!

ودون أي كلام تقدم وقسم الرغيف من طرفه، محاولاً منع بضع دمعات كانت تتفلت للإنسياب على وجهه.

قلت مغيراً الموضوع:

ـ أنا آسف، لم أعرفك للوهلة الأولي، تهيأ لي أنك قد تغيرت .

فقال بطريقة حاسمة:

ـ بالتأكيد، كلنا نتغير، يفعل الزمن فعله فينا بصمت وهدوء، وننخدع نحن بشبابنا أو بأموالنا أو بقوتنا، ولا ندري كيف يتقدم العمر بنا ولا كيف تدخل الشيخوخة أجسادنا، وللشيخوخة مظاهرها ورائحتها، فما أن تضع قدمها في حياتنا حتى تأخذ أيامنا تركض وتتسارع نحو نهاياتها، لنجد الموت مختبئاً لنا في أي زاوية ومكان، هكذا هو الأمر ببساطة يا صديقي…

وضحك أيضاً بعد هذه الكلمات بصخبه نفسه، متجاوزاً الحالة التي تركتها كلمات زوجتي على ملامح وجهه.

أنهى طعامه قبلنا ، كعادته في السجن، كان يغادر جلسة الطعام قبل الجميع، وكثيراً ما كنت أشعر أنه يريد توفير الطعام ليشبع الآخرين قدر الإمكان، ولما حاولت الإحتجاج قال:

ـ إنك تعرفني جيداً، هكذا كنت وما زلت.

ساعدت زوجتي في رفع الصحون وعدت لأشرب الشاي معه، وقلت:

ـ تبيت الليلة عندنا، وتغادر في الغد…

فقال:

ـ بارك الله فيك، لكني لا أستطيع.

قلت:                                                                                                                                  ـ كيف لا تستطيع؟

وكدت أكمل “فأنت بعد وفاة أمك أصبحت وحيداً”، و “وأصبحت مقطوعاً من شجرة”، ولشدة غبائي لم أفكر لحظة بأن هذا الرجل ربما تزوج وأنجب أيضاً في كل تلك السنوات التي إنقضت ولم أره بها.

قال :                                                                                                                                  ـ صدقني يا صديقي، فأنا فعلاً لا أستطيع…

فقلت مصراً على بقائه:

ـ هل تزوجت في لاحق السنين؟

فضحك بصخب وقال:

ـ أبعد كل هذا العمر؟!!! لا يا صديقي لا.

واقترب من أذني وقال:

ـ أتذكر صديقنا صلاح؟

وأمام سكوتي الأبله قال موضحاً:

ـ الذي أرجعوه من الإداري الى التحقيق؟

وبقيت ساكتاً غير مجيب فقال:

ـ الذي كان مصاباً في ساقه يا رجل…

وعندها هتفت متذكراً:

ـ آه … صلاح، ماهي أخباره؟ ماذا به؟

فقال ودون أن يضحك هذه المرة:

ـ بعد أن أخرجوا الرصاصة من ساقه، ابتدأت الساق تضعف وتتقلص وكأنها تسير نحو الإضمحلال، يبدو أن العصب تمزق وبعضه قد جف، ولم يعد بالإمكان فعل شيء…                                                                          فقلت من باب الشفقة والألم:                                                                                                   ـ مسكين ياصلاح…                                                                                                                   قال:                                                                                                                                 ـ لا أستطيع تركه لوحده، فهو في استضافتي، ونعيش سوياً من “حاكورة” المنزل…

ورأيت التبدلات التي تعصف بوجهه، وأكمل وبركان قلبه يكاد يتفجر، وقال:

ـ لا أريد التعليق على ترك فصائلنا لمثل هذا الشاب هكذا دون علاج، لكن أن تتركه دون مساعدة مالية يستطيع أن يعيل نفسه برغيف خبز؟ إنها والله لا تُفهم ولا تُصدق… والأكثر إيلاماً أنه يمكن أن يُعتقل من بيته وتكون نهايته الأكيدة…

سكت قليلاً وقال من جديد:

ـ وسمعت أن “مثله مثايل”، والموضوع ليس متعلقاً بسلطة أوسلو وحدها، فهؤلاء لا خير فيهم ولا أمل منهم، بل بفصائل تاريخها ظل تاريخاً مشرفاً، ما الذي يحصل يا صديقي؟ أإلى هذه الدرجة وصلت بنا اللامبالاة ؟ألهذا الحد فقدنا إنسانيتنا؟ أم أن أمراض “أوسلو” توغلت فينا وأخضعتنا لذاتية قاتلة مفرطة؟!!!

فقلت في محاولة للدفاع فاشلة، ولا أعرف السبب وراء ذلك، فأنا لم أقدم مثله للقضية الوطنية، ولست بأحرص منه عليها:

ـ ربما نسوا أمره!!

فقال ساخراً دون أن يضحك ضحكته الساخرة، صدق الشاعر حينما قال:

“إن كنت تدري فتلك مصيبة                            وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم”

وأكمل بجدية صادقة لم أرها عند أحد من قبل:

ـ أقصد كيف يمكنهم نسيان ذلك، إن من نسي جرحك وألمك اليوم سينسى دمك لا محالة غداً، فمثل هذا النسيان ليس من شيم الثوار ، ومن ينسى دماء ثوّاره كيف يمكن إإتمانه على القضية ياصديقي.

وقف على رجليه وأكمل دون أن يطلق ضحكته الصاخبة وقال:

ـ لم يبق على موعد الباص المتوجه لقريتنا كثيراً، وأعتقد أنه الباص الأخير، إذهب وأحضر إبنتي لأودعها، فربما كان الوداع الأخير، فلا أحد يستطيع أن يعلم متى ترميبه الشيخوخة في أحضان الموت.

محمد النجار

آل سعود يضمنون الدنيا والآخرة

نادى المنادي أهم عقول أمراء وسلاطين آل سعود للإجتماع بأمر ملكي واضح لا لبس فيه، فتوافد الجميع للإجتماع رغم معرفتهم المسبقة بأن جلالته لا يسمح له مرضه لا بإصدار الأوامر ولا النواهي، وهو “طال عمره” رغم حضوره على مقعده المتحرك من مساعديه في القصر، إلا أنه لن يبقى طويلاً في هذا الإجتماع، فلا صحته تسمح بذلك، ولا عقله الذي إخترقه مرض الزهايمر بقادر على إبقائه لأكثر من بضع عشرات من الدقائق في حالة ثابتة واحدة. حضر الجميع عدا الأمير عبد المحسن بن الوليد بن عبد العزيز المسجون في لبنان بعد إلقاء القبض عليه مُتلبساً بتهريب طُنين من المخدرات من كوكايين وحبوب مخدرة في طائرته الخاصة، ولم تفلح حتى الآن القوى اللبنانية التابعة لآل سعود بإطلاق سراحه، ولا محاولات بعض الأمراء أن تنجح بذلك.

وعادة ما يتم جمع هذه العقول التي تشكل زبدة الفلاسفة والمفكرين والمبدعين وأصحاب الرؤى والبصر والبصيرة لأمر جلل، فالعقل وإن كان يورّث ويولد مع الأبناء “الذكور” في عائلة “آل سعود العامرة”، إلا أن النبوغة ليست كذلك، فهي كنز يجده الأمير أمامه بهداية من الله، أو من خلال “مصباح علاء الدين” قد يتعثر به الأمير في رمال الصحراء، أو بنزول ليلة القدر والضوء الإلهي القادم من السماء في ليلة ظلماء تفتح العقل وتجعله من نوابغ الدهر.

وهكذا كان هؤلاء النوابغ في “مملكة الخير” من آل سعود، حيث اصطفاهم الله وأفهمهم وعبقرهم وأفلحهم في الدنيا وسيجعل الجنة مأواهم بعد عمر طويل أفنوه في خدمة الوطن والمواطن، وفي أعمال الخير التي تكاد لا تنتهي، ودعوتهم هذه ما كانت لتكون إلا لأمر كبير جلل، فمثلهم لا يُضاع له وقت ولا يُتجنب له رأي، ولا تُهمل له نصيحة، صغيراً كان أم كبيراً، أو “مقمطاً في السرير”، فهؤلاء مَنْ وصفهم تعالى بقوله”وأما بنعمة ربك فحدث”، وهؤلاء النادرون في الزمن الغادر الذي عز فيه الرجال ورجاحة العقل والعمل الخيِّر، والذين يعملون بصمت في الزمن الصعب، متفانين مضحين ساهرين الليالي لخدمة أمة محمد أجمعين.

أما من جاء من ضمن الحضور فكان السيد عادل الجبير، الذي لا تربطه صلة بأمراء آل سعود، ولا دمه من دماء الأمراء والملوك ولا رجاحة عقله رغم اجتهاده بعبقرية وذكاء ودهاء المتجمعين، لكنه ظل “متشبهاً” بهم وبكل أسياده من العائلة الحاكمة بجداره، والمالكة دون إعتراض، للأرض والنخيل والبشر والرمل والبعران.

وما أن تجمع “الرَبْعُ” طالت أعمارهم، حتى قام الأمير ولي العهد صارخا بالجبير:

ـ من الذي أتى بك الى هنا؟

وأمام الإرتباك الذي أحدثه وقع السؤال غير المتوقع على رأس قائد الدبلوماسية لآل سعود، أكمل الأمير:

ـ لم أكن أعلم أنك وريث معنا في مُلكنا ومملكتنا!، أو أنك من الأمراء وأنا لا أدري، ويعلم الله أنك كنت من عباقرة العائلة وعقولها النيرة ولم يُخبرني أحد بذلك… قم يا وجه الشؤم واخرج وانتظرنا في الخارج، هذا ما تبقى… أن يشاركنا “المخنثين” و”الغلمان” أملاكنا وأموالنا وجلساتنا… هزلت ورب الكعبة…عدُمت ورافع السماوات وباسط الأرض…

قام الجبير راكضاً الى الخارج من لسع صوط كلمات ولي العهد، لما لاحقه الصوت نفسه قبل أن يقفل الباب خلفه:

ـ إبقَ واقفا على الباب، حتى إذا تعب صاحب الجلالة، أو تهيأ له أنه عاد طفلاً صغيراً كعادته، ويريد أن يلعب في الخارج، أن تهتم به وتتابعه  كي لا يضيع في فضاء الصحراء أو تبتلعه رمالها…

كان الجميع يدرك أن “الكلام لك ياكنّة وافهمي يا جارة”، وأن الأمر برمته موجه للأمير ولي ولي العهد محمد بن سلمان، لكن أحداً لم يعلق على ما تم، فالأمر لا يعني أحد غير وليا العهد، وسرعان ما ابتدأ الجمع في أحاديث متفرقة بدأها الأمير محمد بن سلمان، في زهو بدى وكأنه يرد على الأمير ولي العهد ولسان حاله يقول “لن تبقى لفترة طويلة ولياً للعهد”، فقال:

ـ لقد جئت أنا بالجبير ليقدم لكم تقريره، ويضعكم في صورة ما جري ويجري في مملكة الخير ومعها، رغم أن جدول إجتماعنا يحوي نقطة واحدة لا غير، وهي تحضير مملكة الخير لمرحلة ما بعد النفط، إلّا أنني رأيت أن من المناسب أن يكون جميع الأمراء داخل بيت آل سعود العامر في صورة ما يحدث.

سكت قليلاً ثم قال بخبث موصوف:

ـ صحيح أنني لم أحصل على جائزة “جوقة الشرف” الفرنسية، كما أنني لم أطلبها أيضاً كما فعل الكثيرون.

ونظر مُبتسماً نحو ولي العهد مباشرة وأكمل:

ـ لكني رأيت من واجبي اضطلاع الأخوة وأبناء العمومة الأمراء، خاصة وهم يُشكلون عُصارة عقل آل سعود، عما يدور في كواليس السياسة، لكن إن كان الأمير ولي العهد طال عمره لا يريد ذلك أو يُزعجه الأمر فلا بأس… فنحن أولاً وأخيراً في خدمة مليكنا طال عمره وولي عهده أيضا…

امتعض الأمير محمد بن نايف، وأدرك أنه خسر نقطة لصالح غريمه على مكان الملك القادم، لكنه لم يرُدْ ، كونه لا يريد أن يتطور الأمر الى “الكباش ” المباشر مع ولي ولي العهد، ويبدو الخلاف على السطح من جديد، ويريد أن يجعل الخلاف خارج العائلة وليس بين أبنائها، خاصة وأن موعد النزال لم يحن بعد، فقال مهدئاً “اللعب” مع الأمير محمد بن سلمان:

ـ لم أعرف عن الأمر طال عمرك، لهذا لما رأيته يدخل بيننا نحن الأمراء متهادياً برأس مرفوع مثل “الهدهد”لم أحتمل ذلك وحصل ما حصل…

فرد الأمير محمد بن سلطان مجاملاً بالطريقة ذاتها وقال:

ـ  لا عليك طال عمرك، ففي نهاية الأمر فالجبير وغيره ليسوا سوى “خدماً” أو في أحسن الأحوال “موظفين” لدى العائلة العامرة، متى شئتَ عليك فقط أن تُشير بإصبعك، وإن استكثرت ذلك فبفردة من فردتي نعليك لينتهي أمرهم تماماً…

فهزت الكثير من الأجساد رؤوسها، وتطايرت الكلمات من اتجاهات عدة نحو أذني كل من وليي العهد:

ـ إي بالله، بفردة صندلك طال عمرك.

ـ سلم الله لسانك.

ـ صدقت ورب الكعبة.

ـ آل سعود ما يرفع أحد رأسه أمامهم.

هدأت النفوس قليلاً في الظاهر، رغم حالة الغليان الداخلية بين الرجلين، وما يمثل كل منهما داخل العائلة، وجاء سؤال الأمير محمد بن سلطان مجدداً:

ـ ماذا قلت “طال عمرك”؟ أنحضره أم نبقيه في الخارج؟

فقال الأمير محمد بن نايف:

ـ نحضره “طال عمرك” ليقدم تقريره وينصرف…

فرفع الأمير ولي ولي العهد يده للحارس ليحضر الجبير من أمام باب الصالة، وهكذا فعل…

دخل الجبير هذه المرة وقد بدى أكثر تواضعا عن دخوله في المرة الأولى، وقد تأكد الآن كما في كل مرة أنه لولا الأمريكان ما كان ليصل يوما لا وزيراً ولا حتى غفيراً، فمثل هؤلاء “الأعراب” لا يؤتمن لهم جانب، وأنهم “أشد كفراً ونفاقاً” كما وصفهم سبحانه، وأضاف ” وضعة وخبث ولؤم ونذالة وحقارة وتخلف”، واستغرب مع نفسه لماذا لم يكمل سبحانه وصفهم لأن ما وصفهم به أقل القليل، فهم قوم لا مصداقية لديهم ولا صدق ولا صديق،  وينطبق عليهم المأثور الشعبي القائل”إخدمني وأنا سيدك”، لكنه بالطبع لم يفصح عن مكنونات صدره، وتعامل مع الأمر وكأن شيئاً لم يتم.

فتح “ملفاً” كان في يده، أخرج بضع ورقات وأخذ ينظر إلى رؤوس أقلام ويشرح ناظراً في وجوه الأمراء المجتمعين، قال:

ـ كما تعرفون طال عمركم، بعد أن “احتل” الجيش السوري مدينة تدمر وبلدة القريتين، بدا التدهور في قوات الأخوة المجاهدين بما في ذلك جبهة النصرة وداعش، وقبلهما جيش الإسلام بعد أن قتلوا قائده “المناضل الكبير” زهران علوش، الأمر الذي جعل الأخوة الأمريكان يقررون “مسايرة الروس قليلاً، ويعاودون التأكيد على أهمية الحل السلمي في سوريا ومحاربة “داعش” في العراق، لكنهم في حقيقة الأمر في العراق مثلاً، ورغم رفعهم لشعار تحرير الموصل منذ شهور، إلّا أنهم لم يقوموا ولا حتى بغارة جوية واحدة هناك، وهذا التأكيد ليس منهم فقط بل من الأخوة المجاهدين هناك أيضاً، بل وعملوا بكل طاقتهم على إبعاد “ميليشيات” الحشد الشعبي عن الهجوم في الفلوجة والبصرة في محاولة لتقزيم دوره إن لم يكن بالإمكان إنهائه.

أما في سوريا فوقف إطلاق النار الذي وافقوا عليه، هو لوقف الإنهيار الذي تم في جماعات الأخوة المجاهدين، كما لمدهم بالمال والسلاح والرجال لإسنادهم ومساعدتهم ورفع معنوياتهم المنهارة، وقد لعب الأخوة الأتراك دوراً مميزاً في ذلك كعادتهم ، فحولوا كل السلاح الذي بعثوه الأخوة الأمريكان والإسرائيليين والمدفوع ثمنه من “مملكة الخير” للإخوة المجاهدين، على كل الجبهات في سوريا، كما سهلوا مرور الإخوة المجاهدين من جبهة النصرة والتي تدربت في معسكرات الأخوة الإسرائيليين على أيدي ضباط الجيش الإسرائيلي، لتساهم في محاربة نظام الأسد القمعي.

ـ هؤلاء المجاهدين الذين كُشف أمر تدريبهم وتم تصويرهم في معسكرات التدريب؟

سأل صوت من الصالة الملكية لم يُميزه الجبير، لكنه أجاب:

ـ نعم ، صدقت طال عمرك، وتم سجن الصحفي الذي كشف الأمر.

ثم عاود النظر في الأوراق التي بين يديه وقال من جديد:

ـ نعم، لقد أكد لي الأخوة الأمريكان أنهم سيستمرون بحرب الإستنزاف في سوريا والعراق لسنوات وسنوات، وسيعملون على تدمير الجيش السوري وتغيير الدستور بآخر يحفظ حقوق الطوائف وتمثيلها في البرلمان، تماماً كما فعلوا في العراق، لتتحول سوريا أيضاً لدولة ديمقراطية كما العراق وليبيا طال عمركم.

عدّل الجبير من وضع عباءته، وعاد لينظر في الأوراق التي بين يديه، وتابع من جديد:

ـ كذلك الأمر في اليمن، فنحن وكما يعرف سيادة الأمير ولي ولي العهد “طال عمره”، ما زلنا نقصف الميليشيات الحوثية وجيش المخلوع “صالح” بكل قوة وعنفوان لتحقيق عاصفة الأمل، ونقدم الدعم المالي والتسليحي للإخوة المجاهدين في حضرموت وعدن”من القاعدة والدولة الإسلامية في العراق وسوريا “الذين نقلنا جزءاً منهم من العراق وسوريا بالطائرات التركية والقطرية، وكذلك لحزب الإصلاح الإخواني الذي قدم لنا كل مساعدة لضرب المليشيات الحوثية وحلفائها هناك، وهنا يجدر التنويه لوصول الدفعات الثلاث الأولى من ضباطنا، ضباط “مملكة آل سعود العامرة” الذين شاركوا في دورات عسكرية تدريبية في “إسرائيل”، والذين سيلتحقوا بجبهات القتال في اليمن ضد عملاء إيران وحزب الله.

وأكمل الجبير تقريره شارحاً:

ـ لكن في الفترة الأخيرة بدأت بعض ما يُسمى بمنظمات حقوق الإنسان والصحف منتقده ما تفعل “مملكة الخير” عن فترة عام كامل من عاصفة الحزم وعاصفة الأمل، واصفاته بإرهاب الدولة وبإستخدام أسلحة محرمة دولياً، ومطالبةالأخوة الإنجليز والأمريكان بوقف تصدير السلاح لمملكة الخير، مما جعلنا وبنصيحة الأخوة الأمريكان أن نجنح للسلم قليلاً معهم، مع الإستمرار في نفس الوقت بقصفهم ليستسلموا لمملكة الخير ويعود اليمن  عزيزا كما كان.

أخرج أوراقاً أخرى من ملف آخر، وبدا ينظر بها ويقلب بعض الصفحات، وأكمل:

ـ أما ما يخص الملف المصري،  فأهم ما يمكن الحديث فيه هو أن الرئيس هناك يريد “رد الوديعة” لمملكة الخير على أن يكون “الدفع” من تحت الطاولة، وأعتقد رغم “فهلوة” الرجل إلا أنه أحياناً يحافظ على وعوده التي قطعها مع بعض دول الخارج، فكما وعد أمريكا وإسرائيل بخنق “المخربين” في قطاع غزة وصدق، فها هو يصدق بما وعد به بحق الجزيرتين.

وما أن إنتهى الجبير من تقديم تقريره، حتى أشار له ولي ولي العهد للخروج بإشارة من إصبعه، وما كاد يخرج حتى لحق به جلالة الملك سلمان قائلاً:

ـ أريد حبة بوظة ياوالدي.

وتبعه للخارج حيث كان يقف.

تناول الأمير ولي ولي العهد الحديث، وأخذ يشرح ويبين بعض الأمور التي لم يقلها الجبير، فقال:

ـ إن الأخوة المجاهدين في سيناء، والذين يقاتلون الجيش المصري، ما زالوا تحت السيطرة، فكما تعرفون أن مصر إن لم تظل تابعة لنا وللإخوة الأمريكان، فلن نستطيع السيطرة عليها، كما أننا لن نستطيع السيطرة عليها إن كان جيشها قوياً، لذلك فإن الأخوة المجاهدين ضرورة لأمننا، وهم كما تلاحظون لم يعتدوا على أي جندي أمريكي من الموجودين في قوات الطوارئ في سيناء رغم أنهم بإمكانهم ذلك، تماماً كما لم يعتدوا على “إسرائيلي” واحد على الحدود مع سوريا.

فقال الأمير الوليد بن طلال:

ـ صدقت “طال عمرك” ، لقد قالها المرحوم الملك عبد العزيز في وصيته، قال”لكل جسد رأس وقلب، ورأس الأمة مصر وقلبها سوريا، فاضربوا الرأس وأطعنوا القلب كي لا تصل يد مصر لسوريا ولا يد سوريا للعراق”، كما أذكركم بوصيته عن اليمن حيث قال”سعادتكم يآل سعود تكون عندما يكون اليمن فقيراً وممزقاً وتابعاً، فأفقروه لكي تبقوا أغنياء سعداء”.

سكت قليلاً وقبل أن يتحدث أحد غيره قال:

ـ آه، وقبل أن أنسى، عندما زرتُ “إسرائيل”، يا سلام ياسلام على ما رأيت، والله ما رأته عينيَّ هناك لم ترياه إلا في أكبر المدن في بلاد الأمريكان العامره، ياسلام على الأمن ، ياماشاء الله على الأمان، على الإستقرار، على الجمال، على الخضرة والماء والوجه الحسن، والحريم ياطوال العمر، إي والله الحريم اللواتي تراهن هناك لا تستطيع تفريقهن عن حوريات الجنة.

ولما رأى أن كل الأفواه أصبحت مفتوحة والآذان مشرئبة، والعيون محملقة والوجوه باهتة، قال سائلاً الأمير ولي ولي العهد:

ـ ما الذي جرى بينكما طال عمرك، في لقائك مع رئيس وزراء “إسرائيل” في العقبة؟

فقال الأمير:

ـ كما تعلم طال عمرك، فإن أهدافنا مشتركة ومصالحنا واحدة، فاتفقنا على استمرار دعم المعارضة في سوريا والسنة والأكراد في العراق، من خلال دعم “المجاهدين” في كلا البلدين، وعلى الأستمرار بحرب الإستنزاف هناك لإضعاف الجيشين والدولتين خاصة السورية، لأن العراقية قد وصلت الى الحضيض، ووعدتُ أن نستمر نحن بالتسليح والتموين وهم بالتدريب والتدخل كلما كان ذلك متاحاً، وفي اليمن اتفقنا أن تستمر مشاركتهم في القصف الجوي للأعداء وبالدورات العسكرية لضباطنا هناك، على أن يظل الأمر محاطاً بالسرية حتى يحين وقت البوح به. كذلك اتفقنا على تطوير “سيناء” لإخراج سكان غزة الى هناك بعد الأتفاق مع الرئيس المصري، والأمر ليس صعباً مع الرئيس، وأظنه سيكون أسهل من موضوع الجزيرتين.

سكت الأمير قليلاً وقلب بعض الصفحات أمامه ثم أكمل:

ـ كما قمنا بعقد إتفاقية عسكرية واقتصادية بيننا، وشرحنا له ما تم في المؤتمر الإسلامي، وأكدنا له أننا أزلنا عملياً دولة “اسرائيل” كعدو وثبتنا إيران بدلاً عنها، كما أننا سنتابع “شيطنة” حزب الله وفضح وكشف ارهابيته في كل المحافل والمؤسسات والإعلام العربي والغربي، وقلت له أننا “وراك وراك ياحزب الله، ووراك وراك يا حسن نصر الله” وأكدت استمرارنا نحن بحربنا السياسية والإعلامية، وعلى “اسرائيل” الحرب العسكرية واستخدام عصاتها الغليظة لكسر رأسه.

فجأة، من طرف الصالة البعيد صوت الأمير الصغير “مفلح”، والذي غادره ربيع عمره العشرين قبل شهر من الآن ولا يريد العودة مجددا له، قال:

ـ ألم تتحدثا في موضوعة الجزر طال عمرك؟

فرد الأمير باسماً:

ـ عملياً نحن نفذنا مع مصر ما اتفقنا عليه مع “اسرائيل” في موضوعة الجزر، ولاحقاً سنبدأ بإذن الله بمد خط النفط والغاز عبر ميناء حيفا، وبذلك نضرب الإقتصاد الروسي عبر الغاز البديل الى أوروبا، ونقوي إقتصاد الحليف الإسرائيلي، كذلك ُنفقد مضيق “هرمز” بعض ميزاته، الأمرالذي يُؤثر سلباً على دولة الفرس “الرافضية”، ولاحقاً بديلاً عن قناة السويس، الأمر الذي يفقد مصر ورقة من أهم أوراقها الإستراتيجية ويضعفها، الأمر الذي يجعلنا قد أوفينا بوصية المغفور له الملك عبدالعزيز، بأن نضرب رأس الأمة مصر، وذلك كله مخطط له متفق عليه مع الأخوة في إسرائيل.

وما كاد الأمير ولي ولي العهد أن ينهي عبارته حتى قال أحد الأمراء المدعو “عُقله” سائلاً:

ـ يقولون ياطويل العمر أن الرئيس أوباما يريد أن يشتري الجزر لصالح إسرائيل، فهل هذا صحيح؟

وقبل أن يجيب الأمير قال الأمير سويلم:

ـ ليس بين الخيرين حساب.

فرد الأمير متعب:

ـ اسرائيل منا فينا والذي عندنا عندهم.

وكاد يقول “والذي عندهم عندنا” لكنه عدل عن الأمر كونه يعرف أن ما لديهم  لديهم وحدهم. وقبل أن يُجهد تفكيره ويُتعبه، قال الأمير ولي ولي العهد بشكل واضح جلي:

ـ لا والله ما أنتم بأكرم من الملك سلمان وأبنائه، والكرم الملكي يقتضي أن نَهِب الجزيرتين هديه للرئيس واسرائيل إذا طلب شرائهما، “هدية لله ورسوله ليس وراءها رد جزاء”.

في هذه اللحظة بالذات دُق باب الصالة الكبيرة في القصر الملكي، وفُتح الباب ومن بين ظرفتيه دخل رأس الجبير يتنازعه الخوف وقلة الحيلة، وقال بعد أن إعتذر:

ـ يا أصحاب السعادة والسمو، جلالته لا يريد أن يظل في القصر، وبعد أن تقافز من على الطاولة على أرض القصر وكاد يكسر يده، فهو مصر على الخروج واللعب في الرمل، ولا أدري…

أشار الأمير محمد بن سلمان لأحد الأمراء بالخروج ومعالجة الموضوع، وعاد الجمع الى متابعة أمورالمملكة.

لاحظ الأمير محمد بن نايف ولي العهد، أن الوقت يمر سريعا وأن هذه العقول المجتمعة من خيرة عقول آل سعود، لم تناقش الموضوع الأساس الذي حضروا من أجله، فقال داخلاً مباشرة في صلب الموضوع:

ـ كما تعلمون طال عمركم أن النفط الى نهاية، وعلينا التفكير في مستقبل المملكة ومستقبلنا، وإلا تخاصمنا وتقاتلنا وربما لا قدر الله عدنا الى الزمن الغابر حيث”لحافنا جلد شاة ونعلينا من جلد البعير” كما قال الشاعر، لذا وقبل أن تقع الواقعة فعلينا أن نستعد و نعد…

فقال الأمير عُقلة:

ـ علينا بناء المزيد من محطات التلفاز الخاصة، ونفرض الإشتراكات الإجبارية على الناس…

لكن الأمير الوليد بن طلال هب وكأن أفعى قد قرصته وقال:

ـ هذا المجال مجالي ولا يحق لأحد اقتحامه علي…

لكن ولي العهد قال:

ـ ياجماعة الخير، إن إختلفنا فربما لم نجد أناساً تشترك ولا أموالا لما تقولون، علينا أن نظل موحدين… ورأيي أن نتهيأ للزراعة، فأراضينا والحمد لله واسعة وشمسنا ساطعة، وربما نجد مياهاً جوفية كما وجد القذافي في الصحراء الليبية…

فرد الأمير سالم مستغرباً:

ـ زراعة؟ ومثل القذافي؟ خاف ربك! طال عمرك، أتريدنا أن نعمل وبالزراعة بعد؟ ومثالك القذافي؟ هذا عدا أننا لو فعلنا ما فعل القذافي فلن يرضى عنا أكثر حلفائنا تعصباً ودعماً، لأننا لن نكون بحاجة لإستيراد منتجاتهم، أنت تريد أن نعادي حلفاءنا؟ ألم ترَ أن أول ما دمرته أمريكا في ليبيا هو ما أسماه القذافي ب”النهر العظيم”؟ أي المياه المستخرجة من باطن الصحراء، هذا عدا أن بلادنا صحراوية ياسعادة الأمير…

فرد عليه الأمير محمد قائلاً:

ـ لقد قال لي الملك الأردني أن “الشيوعيين” عندهم، لما كانوا مسجونين في سجن الجفر الصحراوي، جعلوا هؤلاء الكفرة من الصحراء جنة، فزرعوا الخضار ومن ثم الفاكهة ونجحوا في ذلك.، كما أننا سنزرع ما ليس له وجود في بلاد الحلفاء فقط، لنتجاوز غضبهم..

فقال الأمير سويلم:

ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أنتشبه بالشيوعيين؟ ماذا بك اليوم؟مرة تريدنا مثل القذافي ومرة مثل الشيوعيين طال عمرك… أستغفر الله العظيم

سكت الأمير ولي العهد عندما قال الأمير محمد بن سلطان:

ـ أنا أرى أن نعبئ الشمس في زجاجات ونبيعها للغرب والشمس كما تعلمون ليس أكثر منها شيئاً في بلادنا.

فقال الأمير مفلح معقباً مقترحاً في ذات الوقت:

ـ الشمس موجودة في كل الأرض طال عمرك، ولن يشتريها أحد، لكن علينا أن نجعل الشيوخ تبحث في كتب التاريخ فربما وجدوا قولاً للرسول عليه السلام يفرض فيه الحجيج ثلاثاً ورباعاً وخماساً، وبالتالي يتضاعف الدخل لمملكة الخير خمس أضعاف عمّا هي عليه الآن، نتيجة تضاعف موسم الحاج.

فقال الأمير ولي العهد:

ـ من سيصدقنا إن وجدنا مثل هذا الحديث، كما أننا لا نريد دخلاً موسميا، نريد دخلاً مثل النفط دون أن ينقطع ولا ينضب….

كان في زاوية الغرفة أحد أهم عقول آل سعود الإقتصادية، كان يستمع طوال الوقت، لا يقول شيئاً، لدرجة أن بقية الأمراء كادوا ينسون وجوده، تنحنح الأمير مريود كعادته عندما يريد الحديث، فانتبه الجمع إليه وساد الهدوء في صالة القصر الكبيرة، وقال الأمير مريود:

ـ أذكروا اللـــــــــــــــــــــــه….

فرد الجمع:

ـ لـــــــــــــــا إله إلّا الله

فقال الأمير مريود مجدداً:

ـ وصلّوا على محمد

فرد الجمع:

ـ صلى الل عليه وسلم

فقال الأمير مريود:

ـ وزيدوا للنبي صلاة

فرد الجمع:

ـ ألف صلاة على محمد

فقال الأمير مريود:

ـ لقد حبانا الله بأرض خيرها لا ينتهي، فترابها من ذهب، وأمرائها من عزة وشعبها مطواع، نحن والحمد لله لدينا مورد من الخير لا ينضب، وهو قائم وموجود لكنه غي مُسْتَغَل، فالله سبحانه وتعالى خص هذه العائلة وأكرمها بعقول نيرة وأمراء خير وتربة معطاء، “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”، لكننا انتبهنا للنفط ولم ننتبه لغيره…

أطل رأس الجبير من جديد بعد أن طرق الباب، وقال:

ـ صاحب الجلالة يريد أن يركب الحمار ويذهب لسقايته من العين، إنه يعتقد نفسه طفلاً…

وكرر الأمير محمد بن سلمان الإشارة لنفس الأمير الذي خرج ليعالج الأمر ويعود، ورغم ذلك ظلت الأعين معلقة بفم الأمير مريود وما يريد قوله، فهذا الأمير يؤكد معظم الأمراء أن لديه من العقل ما يفوق آل سعود مجتمعين، وأنك لتجد “الجواهر” بين كلماته دون عناء، ونسب البعض آرائه وصحة اجتهاداته لعلاقته بعرّافة القصر “أم عوين” التي تفيض عليه بالمعرفة والبصر والبصيرة التي يأتي بها لها الجن، وأن آراءه وأفكاره قوية مسنودة “لا تخر منها الماء”.

وسكت الأمير مريود وكأنه لم يقل شيئاً، فخاطبه الأمير سويلم قائلاً:

ـ وما هو هذا المورد الذي لا ينضب يا سعادة الأمير طال عمرك؟

فقال الأمير مريود برأس مرفوع:

ـ إنه بول الإبل… نعم بول الإبل…

وأمام اندهاش الجمع الذي غاب الأمر عن أذهانهم فجأة ودون سابق إنذار، رغم أنهم شربوا منه ولا يزالون حتى الثمالة، ويعرفون أكثر من أي كان أهميته وفائدته والفيتامينات القابعة في طياته، وأعتقد الكثيرون أن ما غيّب الموضوع عن أذهانهم ليس إلّا الجن الذي يساعد الأمير مريود مدفوعاً من عرافة القصر أم عوين، وأكمل الأمير مريود:

ـ لكن الأمر لن يكون بسيطاً كما تعتقدون، فالموضوع بحاجة للبدء به مبكراً، ليترافق مع دخل النفط، فعلينا أن نبدأ ببناء المشافي الضخمة المتخصصة بالأمراض كافة التي يُشفيها بول البعير، من الروماتيزم ومرض القلب والأمعاء والسرطان والسيلان والزهري وأمراض الكلى والإيدز ومرض العيون والأنف والحنجرة، وبناء المصحات وبرك السباحة المليئة ببول البعير وليس بالماء، ليتسبح الناس فيها تاركين أجسادهم لتتشربه لتحقيق أكبر قدر من الإستفادة، كما وعلينا بناء المصانع التي تنتج “المايوهات” الإسلامية للمسلمين، أو الجلاليب القصيرة لما فوق رسغ القدمين لهم، والسماح بالإختلاط والسباحة العارية للكفار من الكتابيين والملل والديانات الأرضية، لنستجلب أكبر عدد منهم الى مملكة الخير، وكما تعرفون ف”إن الله غفوررحيم”، كما بناء مصانع الزجاجات الفارغة لتعبئته وتصديره الى كل أصقاع الأرض وبلاد العالم ، وبناء مصانع الأوراق اللاصقة التي ستلصق على الزجاجات وعليها “صورة البعير بائلاً” وعلى رأسه “تاج ملكي” ومكتوب عليها بعشر لغات عالمية” انتاج طبيعي مائة بالمائةـ BIO” كما ونبني الإذاعات ومحطات التلفاز والملصقات والصور والنشرات، ونخصص في كل سفارة من سفاراتنا مركزاً للإستشارات الطبية والدعاية والإعلام لتوزع النشرات على الناس في بلدان العالم المختلفة، وتدعيم النظام المعرفي الصحي بينهم، لتطوير نظام العلاج العالمي والتداوي الأممي ببول الإبل، ومن يتقاعس منهم فيجلد ألف جلدة، وإن أخطأ فحد السيف “وما ربك بظلّام للعبيد”.

كما لا تنسون أن الأمر يتطلب العمل وبصمت كي لا يتم كشف خططنا الإستراتيجية، وتتلقفه بعض الدول الحاقدة الجاحدة الحاسدة فتبدأ بتنفيذه قبلنا، وخاصة دويلة “الشيخة موزة” وولدها حمد الصغير، لذلك يجب شراء الإبل والنياق منها على وجه التحديد، لتبدأ بالتكاثر والتناسل بهدوء واستمرار ودون ضجة، واخفائها في مناطق متفرقة في الصحراء للتمويه وكي لا تظهر كثافة أعدادها وينكشف سرنا، وما علينا عقر ناقة مثل قوم صالح ولا ذبح إلا ما كبر منها وأصبح عالة وغير منتج،  إلا إذا طالبت نفس أحد الأمراء لحم البعير، فيصبح الذبح حلالاً زلالاً، رغم أنه يُفضل استيراد اللحمة للأمراء طازجة من الخارج، كي يظل مشروعنا مستمر في النمو …. وتخيلوا طال عمركم، نحن نسقي البعير ماءً من فمه والبعير “حشا السامعين” يبول من … تعرفون من أين، والمصانع تعبئ والريالات تهفهف مثل المطر، يعني نحن نسقي وهو يبول، نسقي ويبول وخير الله بالقناطير فوق رؤوس آل سعود كلهم من بوله…إي والله بالقناطير فوق رؤوسنا…

وسكت الأمير مريود ليأخذ نفساً من الهواء ويشرب جرعة من بول البعير مستعيناً بها بعد الله ليكمل حديثه، لكن الأمراء اعتقدوا أنه أنهى حديثه، فضجت الصالة الملكية بالتصفيق، الذي على أثر سماعه دخل الملك سلمان الصالة راكباً حماره الذي أحضروه له نزولاً عند طلبه الملكي، حائلين دون ذهابه لعين الماء التي لم تعد موجودة منذ عشرات السنين، وكانت يداه تصفقان بعزم وقوة لا تتناسبان مع سني عمره، وهو فاغر الفم ضاحكاً مطالباً بأن يحضروا له بعض الحلوى الشاميه التي تعودعلى أكلها منذ الصغر، وبدأ الأمراء بالتعليق كل من موقعه على أفكار الأمير مريود. فقال ولي ولي العهد:

ـ كيف لم تخطر هذه الفكرة النيرة على بالي؟.

ولم يعلق الأمير ولي العهد رغم إعجابه بالفكرة لكنه كان من أكثر المصفقين، وقال الأمير سويلم:

ـ هذه هي العقول طال عمرك، إنها من عند الله فقط

وقال الأمير سالم:

ـ أفكارك طال عمرك والله “ما كنا لنهتدي إليها لولا أن هدانا الله”.

وكانت نظرات الإعجاب تقطر ابتسامات من بين شفتي الأمير مقرن فقال:

ـ سلم الله لسانك ونور بصيرتك على هذه الأفكار.

وقال الأمير مفلح معجباً:

ـ والله لن يتوصل لهذه الأفكار إلا جني أو إنسي مرفوع عنه الحجاب، أو ولي من أولياء الله.

أشار لهم الإمير مريود ليهدأوا وليكمل لهم جملته الأخيرة، فسكت “الربع” وقال الأمير بعد أن تنحنح كعادته:

ـ ولا تنسوا أننا بذلك نضمن أمور دنيانا ونكسب آخرتنا لأننا عملنا بسنة محمد صلوات الله عليه وطبقناها في بلاد الله، فيغنينا الله في الدنيا ويجزينا في يوم الآخرة حيث” لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم”…

بدأت تنهال التبريكات والتهاني، وأمطر الأمراء الأمير مريود بالكلمات التي عبرت عما غمر صدورهم من فرح وبهجة

ـ صدقت، دعني أقبل “خشمك الزين”

ـ إي والله صدقت، نقبل خشمك وقفا البعران أيضاً

ـ صدقت ورب الكعبة، والله كلامك وبول البعير يوزن بالذهب

ـ سلم الله لسانك

ـ جعلنا الله من أهل الدنيا والآخرة…

ـ آمين                                                                                                                                 ـ آمين يارب العالمين…

وتعانقوا وباركوا لبعضهم البعض الأفكار النيرة وإرادة الله في كشف طريق النور والبر والتقوى أمامهم، وتمايلوا راقصين على أهازيج “الدحيِّة”، ورفع الملك سيفه الخشبي فوق ظهر حماره، وأنهوا الإجتماع الملكي متفقين على الإستراتيجية الجديدة لآل سعود لمرحلة ما بعد النفط، وقرأوا الفاتحة على ذلك.

محمد النجار

أم عمر تريد نصيحة الرئيس…

كانت تتردد بشكل يومي تلك المرأة الثمانينية على مقر المقاطعة حيث أعمل حارساً، تمر بخطوات متثاقلة حاملة كل سنوات عمرها الثقيلة فوق كتفيها، مستعينة بحديد السلالم عندما تصعد الدرجات، وتقف لتلتقط أنفاسها بين درجة وأخرى، تأتي مع شمس الصباح وتغادر مع النهار عند مغادرته، تجلس على مقعد خشبي بانتظار ان يسمحوا لها بمقابلة الرئيس، لكنهم كانوا يمنعونها من ذلك، بل لا يعيرونها انتباه ولا يعطون مطلبها اهتمام، فالرئيس ليس لديه وقتاً لأي كان من أمثالها، ولا “لكل منْ  هب ودب” كما قال أحدهم، لو كانت صحافية من البيت العبري لفردوا لها الأرض رملاً واستقبلها الرئيس خارج مكتبه وأجلسها بنفسه على مقعدها، فالرئيس يكرس كل وقته الآن في خدمة القضية الوطنية وليس لديه وقتاً ليضيعه مع مثل هذه المرأة الهرمة، فجل وقت الرئيس يبذله مع “أبطال التنسيق الأمني”، كي لا يفلت من بين أيديهم “لا سمح الله ولا قدّر” لا من يُحرِّض وينشر”الكراهية” مع الجيران الجدد، ولا خلية”تخريبية”، ولا قطعة سلاح “عبثية”، من جهة، ومع الصحافة بشكل عام والعبري منها على وجه التحديد،  كونه وعد نفسه بأنه سَيُحْدِث التغيير في المجتمع “الإسرائيلي” كي يضغط على حكومته من أجل السلام، غير عابئ بكل استطلاعات الرأي التي تؤكد نقيض ذلك!!.

وأم عمر التي لا تعرف هذا الأمر، ظلت تتردد ومنذ ما يزيد على أسبوع وما تزال للقاء السيد الرئيس. وكانت حاشية الرئيس ووزرائه في بداية الأمر لا تعيرها انتباه يُذكر، لكن أم عمر التي كانت تجلس صامتة في بداية الأمر، أخذت مع طول قعدتها ومرور الوقت الثقيل تزداد سؤالا عن موعد قدوم الرئيس، وبعد أيام أخذت تقول شيئا من مكنونات صدرها، الأمر الذي جعل بعض “أبطال التنسيق الأمني” يستشعرون “الخطر الكبير” الذي تحويه هذه المرأة العجوز في صدرها وكلامها، مما “اضطرهم لأخذها الى أحد المكاتب للتحقيق معها فربما تكون مدسوسة لتعكر صفو الرئيس أو لتجلب له الغضب و لأيامه التعاسة.

قال لها المحقق العقيد أبو هاني، أحد “أبطال التنسيق الأمني”، والذي كان بعض أصدقائه يتهكمون عليه مازحين قائلين، “أن عليه أن يأخذ معاشه من حكومة “إسرائيل” مباشرة وليس من السلطة، لعظمة ما يقدمه لها من خدمات”، والذي كان مثاله الأعلى المحقق “شلومو”، الذي على يديه تمت أعلى نسبة من الإعترافات في العامين الأخيرين، بهدوء وبخبث كعادته:

ـ أهلاً وسهلاً ياأمي، لماذا تريدين مقابلة الرئيس؟

فقالت الحاجة أم عمر:

ـ لا أخفيك يابني أنني في الفترة الأخيرة أسمع الكثير من الرئيس أو على لسانه، وأنني أكاد لا أصدق ما أسمع، فقررت أن أقابله كي أسأله وأقدم له نصيحة أيضاً….

فقال العقيد أبو هاني :

ـ لنبدأ من” ماذا سمعت منه أو على لسانه وبماذا تريدين سؤاله” ومن الذي أسمعك أو حثك وجعلك تقررين مقابلته؟

لم يعجب الحاجة أم عمر سؤال المقدم أبو هاني، لذلك تجاهلت مالا يعجبها في السؤال، وأجابت بنفس الهدوء، لكن بكلمات متعبة لاهثة:

ـ سمعت الكثير يابني، الكثير، لدرجة أنني أحياناً كنت أفكر وأقول أنه ليس من المعقول أن الرئيس “يبول من فمه”، وكنت أُكَذِّب أذني، لكن “الشمس لا يمكن إخفاؤها بغربال”.

ابتلع العقيد أبو هاني ريقه، لكنه فضل أن يظل على هدوئه ليعرف ما تريد هذه المرأة بالضبط، ومَنْ الذي وراءها، وسأل مجدداً:

ـ كيف ياأمي؟ كيف؟

فقالت العجوز مستغربة:

ـ وتسألني كيف؟ ألم تسمعه يستجدي الصحفية قائلاً أنه يريد لقاء زعيمهم في أي مكان وزمان، ويقول”جربوني أسبوعاً وإن لم أنجح أعيدوا الأمر على ما هو عليه،  أإلى هذه الدرجة وصلت المهانة؟ يجربوه في ماذا؟ إن كان يقتل ويعتقل ويعذب أم لا؟ وهل هناك شيء آخر يريدونه منه؟ ألم يدرك الرئيس بعد أن “من ليس لديه خميرة لا يخمر له عجينن”؟ وهو كما ترى لا خميرة ولا عجين، مأثورنا الشعبي يقول يابني” المنايا ولا الدنايا”، وهو رجل هرم مثلي ويعرف ذلك جيدا، وإن كان لا يعرف ليستقيل ويترك الأمر لمن يعرف، ألم يقل ذات يوم أنه لو خرج ضده شخصين اثنين في مظاهرة سيستقيل؟ لماذا لا يستقيل إذن وضده كل هذه “الأمة”؟ لا أحد يريده نتيجة أفعاله تلك سوى المستفيدين من وجوده، أم يعتقد أن “المسحجين” يمثلون شعبنا؟ الإنسان يابني يرتبط من لسانه وليس من “حافره”، ليعش “ديكاً يوما واحداً أفضل من أن يظل فرخة العمر كله”، وهو ماذا تبقى له من الأيام بعد هذا العمر الطويل؟ ليطالب بحقوق شعبه كاملة غير منقوصة إن أراد أن يظل رئيساً، و”أكثر من القرد لن يسخط الله”.

سكتت الحاجة قليلاً ثم أكملت من جديد:

ـ أنا أعرف أنهم لن يعطوه شيئاً، كما أنهم لن يعطوه شيئاً من القليل الذي يطلبه، لكن “لا يضيع حق وراءه مُطالب” يابني، وما عليه كرئيس إلا تثبيت مطالب شعبه وترسيخها، وقصتنا قصة تحلها الأجيال وليس جيلاً واحداً، فليترك الأجيال تقوم بمهامها.

أخذت الدماء تغلي في عروق بطل “التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني، لكن تجربته علمته أن يظل مستمعاً حتى النهاية ليعرف كل شيء عمَّن أمامه، فقال:

ـ لكن هذه المظاهرات يقوم بها فصيل واحد ياحاجة، وليس كل الشعب الفلسطيني…

فقالت الحاجة أم عمر:

ـ “أول الرقص حجلان” يا بني، ثم هل سينتظر الرئيس ليقوم ضده كل الشعب الفلسطيني؟ إنه يعرف أن معظم الشعب لا يؤيد سياسته، فالشعب يعرف أن “عدو جدك ما بودك، ولو عبدته مثل ربك”، وأن عدوا سلب الأرض وانتهك العرض، ويقتل كل يوم ويعتدي ويعذب ويقمع ويسجن لا يمكن التعايش معه، وهذا الفصيل الذي تتحدث عنه لم يقم لا بإنقسام ولا بحرب داخلية ولم ينجر لفتنة، وقدم من الشهداء من القيادة حتى الأعضاء، وظل شريكا بالعمل الوطني منذ عشرات السنين ومن الأوائل، والسجون مليئة بأعضائه، وأنا لدي اثنين من أبنائي في السجون منهم …

أدرك أبوهاني من أين لهذه المرأة تلك الأفكار “الهدامة الحاقدة”، فقال:

ـ لكنهم أحرقوا صوره ياحاجة، أليس من المعيب فعل ذلك؟

فردت الحاجة أم عمر وقد رأت نفسها في معركة مع هذا الذي يجلس أمامها:

ـ ألم يحرق هو قلوبهم وقلوبنا بتصرفاته وأقواله؟!!! وإن كان هؤلاء قد حرقوا صوره فعلى أبناء تنظيمه أن يرموه بعيداً ويزيحونه من القيادة كما أكد ابني الثالث القابع في السجن منذ سنوات، والذي هو من أبناء التنظيم الذي يدعي الرئيس أنه ينتمي اليه، ثم كيف يمنع عنهم مستحقاتهم المالية؟ من هو وبأي حق يفعل ذلك؟ هذه الأموال يابني هي أموال الشعب وليس ملكاً شخصياً لهذا الزعيم أم ذاك، وكما قال أحد أبنائي أن تلك المستحقات ربما تكون اقل من مصروف أحد أبناء الرئيس الأسبوعية، فهل يُعقل ذلك؟ هذا الأمر يعني إما أن “تبصموا”على ما أفعل أو أن تموتوا جوعاً…. وهؤلاء يعرفون أن “الشعير للبعير”، لذلك ظلوا طوال حياتهم رافضين أن يكونوا قطيعاً، رغم أن القليلين منهم ارتضى هذه المهانة، وسكت ليصله “الشعير” في آخر الشهر…

كان “بطل التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني يعرف أن ما تقوله الحاجة صحيحاً، ومهمته الحد من مثل هؤلاء المتطرفون الذين ما زالوا يحرضون على الرئيس وعلى قطار التسوية الذي ما يزال يسير، وها هو يعرف أن أبناء تلك المرأة في السجون ما زالوا يحرضون، وهي معلومة جيدة يمكن البناء عليها، فأكمل مع الحاجة محاولاً كشف المزيد، قال:

ـ يظل الرئيس ياحاجة رئيساً، ونحن لا نعرف كل أمور السياسة، لكنه رغم كل ذلك يحب وطنه مثلك تماماً…

فقالت الحاجة أم عمر وهي تنظر مباشرة في عيني بطل التنسيق الأمني:

ـ من يحب بلده عليه التقدم بالقرابين، شهداء أم جرحى أم أسرى، وأنا لم أرَ الرئيس قدم أحداً من أبنائه أو أحفاده، بل إن الشعب يُقدم وهو يكنز لهم الأموال، وها هو  وبعض أزلامه يبعثون أولادهم وأحفادهم ليشاركوا في مخيمات “اسرائيلية” تطبيعية!!!، وجاءهم الرد من الصهاينة أنفسهم، “أنكم لو قدمتم رؤوس قادة المقاومة على طبق من فضة، ودخل الرئيس حزب السلطة “الإسرائيلي”، فلن يغير هذا الأمر من توجهات الإسرائيليين”، “إن العدو ما بيصير حبيب ولا فرخ الحية بنحط في العب” يابني، الأمر مبتوت ومعروف، على الرئيس أن يترك الناس لتتصدى لعنصريتهم، أن يفضح ممارساتهم، أن يسلط الضوء على ممارسات جيشهم وقادتهم، من تقتيل وسجن وتعذيب بحق أطفالنا ونسائنا وشبابنا، ليعرف العالم كله أن “هذا لجيش الذي لا يقهر “هو في حقيقة الأمر الجيش الأكثر جبناً، والجيش الذي ليس لديه ذرة أخلاق، هذا إذا كان الرئيس لا يريد أن يظل حاملاً معولهم ويهدم في مقاومتنا وحقوقنا وتاريخنا…

سكتت الحاجة أم عمر قليلاً، وقالت موجهة كلامها من جديد الى أحد أهم أبطال التنسيق الأمني العقيد أبو هاني، دون أن تعرف ذلك:

ـ أتعرف ما يدهشني؟ أن الرئيس لا يعرف أن هؤلاء الصهاينة كلما ازدادوا تطرفاً وعنصرية وفاشية، كلما كان يوم نهايتهم يقترب، إنهم يعتقدون أنهم بذلك يدافعون عن نهايتهم القادمة لا محالة…

سكتت من جديد دون مقاطعة وأكملت:

ـ إذا كان الرئيس فعلاً حريصاً على الشعب والقضية لماذا لم نرَ ولا مرة واحدةً تحقيقاً مع عميل أم حبس مرتبط أو محاسبة فاسد؟ بدلا من اعتقال المقاومين ومطاردتهم وتعذيبهم كما لدى الإحتلال؟!!! أنظر يابني، “كلمة بت ولا عشرة لت”، الأمر أصبح في غاية الوضوح، والذي “لا يفهم بالوما الحكي معه خسارة”، التركيبة كلها فاسدة ومفسدة ومخترقة كما لم تكن يوماً، وهذا هو المطلوب من الغرب كله وعلى رأسه الدول …. ما اسمها؟ التي تعطي الرئيس “المصاري”، لقد قالوا لي أبنائي ذلك ونسيت…

فقال العقيد أبو هاني موضحاً:

ـ المانحة، الدول المانحة.

ـ المانحة نعم، يسلم لسانك، هذه الدول التي لا تقدم “الشعير للقطيع” مجاناً، المطلوب فاسدين ومفسدَين ومفسِدين وعملاء ومشاريع عملاء فقط، فهؤلاء فقط هم المستعدون للتنازل عن الأرض والشعب والوطن والتاريخ، هؤلاء فقط من يستطيعون التنازل عن مستقبل هذا الشعب مقابل حفنة من المال، لهذا لا مكان للمقاومين والشرفاء والأحرار في قيادة سلطة أوسلو…

إزداد ضغط “بطل التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني، ولم يعد قادراً على تحمل المزيد، والحاجة أم عمر التي أخذت المزيد من الهواء، ما يكفي لقول بقية كلماتها، قالت:

ـ وعلى كل حال، ورغم ذلك كله فقد جئت لأقل كل ذلك للرئيس مباشرة، وأقدم له نصيحة عله يُنقذ شعبه ونفسه من كل ماجرى، رغم أن “الضرب في الميت حرام”.

ـ وما هي هذه النصيحة؟

سأل العقيد ابو هاني ولم يعد قادراً على مجاملة هذه “العجوز” حتى لو كان من أجل معلومات توقع أن يسمعها، حين أكملت الحاجة أم عمر قائلة:

ـ جئت لأطالبه بأن يكون رجلاً مرة واحدة، وأذكره أن الذئب عندما قبل التدجين أصبح كلباً…

كنت في نوبة الحراسة آنئذٍ عندما سمعت صريخ “بطل التنسيق الأمني” أبو هاني من وسط مكتبه، منادياً عليَّ قائلاً:

ـ خذوا هذه “العجوز الشمطاء” خارجاً، ولا أريد أن أراها مرة ثانية بعد الآن…”خلِّيها تحل عن قفانا”

وأخذتها وأنزلتها الدرجات معتذراً عن كلماته بعيني، لكنها ظلت مصرة على مقابلة الرئيس، تأتي يومياً الى المقاطعة رغم منعها من الدخول، فعملت من صُخيرة مقعداً لها مقابلي بجانب البوابة، تجلس عليها منذ شروق الشمس حتى مغيبها، عدا بضعة أيام في الشهر حيث تذهب لزيارة أبنائها الثلاثة في سجون الإحتلال المختلفة، وتأخذ تحدثني عن أمور شتى خاصة بما قالته “لبطل التنسيق الأمني” العقيد ابو هاني، قبل أن تعرف مني أنه أحد “أبطال التنسيق الأمني”، تحدثني منذ لحظة دخولها واستدراجها بالحديث، حتى أقسم لها بأن يعمل على أن يتحول أبناؤها المحرضين، بعد انقضاء فترة محكوميتهم للسجن الإداري، طالباً ذلك رسمياً من الصهاينة.

كنت أنظر لهذه المرأة الثمانينية وأزداد استغراباً لشدة هذا الأمل والإصرار والعنفوان التي يتمتع به مثل هؤلاء البشر.

محمد النجار