آكل اللحم … الأرنب

هكذا خلقه الله، لم يستحدث شيئاً من عنده، ومن فطره الله على شيء ظل عليه، ولا إعتراض على خلق الله.

الأرانب تمتاز بالتحسب واليقظة ورهافة الحس وسرعةالشعور بالخطر، تظل يقظة على مدار الساعة لتحفظ جلدها، وهكذا هو، فالأعداء متربصين من وسط  جبال الأرض ومن خلف أشجار الغابة، من بين غيوم السماء ومن حدود القمر ومن أطراف طرقات السماوات يطلون، من كل هدب وصوب، صيف شتاء، ترى آثارهم وعلامات مخالبهم، والأرانب سارحات أو متمشيات أو يتناولن طعامهن أو حتى نائمات في الجحور، أو وهن يحاولن الراحة تحت ظلال أشجار الغابة.

ما عرفن يوماً راحة، عيونهن اللامعة تجوب السماء والأرض، تبحث في زواريب الغابة وبين طيات غيوم السماء عن خطر مُحدق مختبئ، لئلا يداهمهن الموت المتربص، من حيوانات كاسرة أو طيور جارحة. حتى اكثر الحيوانات خِسّة يجدن فيهن مرتعاً، يغزوهن ولا يتركون لهن متسعاً لراحة أو لحظات طمأنينة، فتجد حتى الثعالب والكلاب والواويات والبوم والغربان تهاجم مع سبق إصرار وترصد للقتل والغزو.

لا يتذكر الأرنب لحظة واحده بأن قبيلته كانت على خلاف مع أحد، أو بأنها غزت يوماً قبيلة أخرى من قبائل الغابة كبرت أوصغرت، قويت أو ضعفت، بل ظلت دائماً تحاول خلق علاقات السلم وحسن الجوار مع الجميع، لكن ذلك، رغم ذلك، لم يجلب لها سوى المزيد من المتاعب والغزو المتكرر.

ربما لهذا السبب بالذات، كان الأرنب الأبيض الذي لا تشوب لونه أي رتوش أو ألوان مغايرة، بياض لا يشبه أبيض الأرانب في شيء، أقرب إلى رايات الإستسلام منه إلى لون الأرانب الثلجي، تكتشفه العين من بين رصاصات الحروب، ربما لذلك كان الأرنب الأبيض أكثر حرصاً على نفسه، وهو يدرك تمام الإدراك أن الخوف مربك والجبن ذل، وهو يُفضل أن يعيش جباناً ذليلاً على أن يفقد جلده، فما فائدة الشجاعة عندما تكون تتلوى في فم ثعلب، أو عندما تنتف لحمك، قطعة قطعة، البوم والغربان؟!.  لذلك كان يواجه منتقديه من الأرانب بمنطقه هذا، ويدلل عليه بعدد الأرانب الكبير الذي أكلت الثعالب حتى هيكلها العظمي، بعد أن لم يتبقَ من لحمها شياً من الطيور الجارحة، ومن نجى من بين مخالبها ونيوبها ومناقيرها المعكوفة، عاش بجروحه ودمه النازف ما قدّر الله له أن يعيش، عاش ليعايش الألم ويتعايش مع العاهات الدائمة المستديمة، حتى أن جزءاً من الأرانب التي حاولت أن تكون شجاعة مازالت تعيش محاصرة في سجون تلك الطيور والحيوانات، التي تنقض عليها كلما جاعت ولم تجد لها طريدة في ذلك اليوم.

لذلك فالحرص واجب، وهو يعيش حرصه ضمن شروطه وقوانينه، وليمارس غيره الشجاعة التي يدّعي، فلن يعرف صعوبة لحظات المطاردة كما يعرفنها الأرانب؟!!! كيف والمطاردة جزءاً من حياتك؟! أن تكون مطارداً أثناء قيامك وقعودك، أكلك وشربك، عملك وراحتك، ليلك ونهارك، لا تستطيع أن تنام مرة ملئ جفونك، أو تتقلب على فرش الحشائش الخضراء المبتلة الندية أمام جحرك، ولا حتى أن تقرض “جزرة” هانئاً تحت ظل شجرة في ساحة الدار.

الأمر الذي لم يوقف خوف الأرنب ولم يردع جبنه، بل فاقمه وصعّده، فظلت تحركاته المتوترة مشوبة بالحذر المبالغ به أكثر من أي أرنب آخر في الغابة كلها، عازياً الأمر إلى لونه الأبيض الفاقع الذي يدل عليه في تحركاته ويشير للجميع عليه بإصبعه في الغابة كلها، وظل يقنع نفسه أنه جرّاء هذا الحرص ظل حياً كل هذا الوقت.

صحيح أنه بقي حياً، لكن بعض الأرانب قالت أن في بعض الحياة موت، تماماً كما في بعض الموت حياة، وأخذوا عليه معاتبين خوفه إلى درجة الهوس، معتبرين خوفه تجاوز درجات الجبن ، ووضَعَه حياً على عتبات الموت، فالموت والحال هذا أرحم بكثير من هكذا حياة.

النفس معقل أسرار الأرنب، ونفسه كانت تضحك من تعليقاتهم وتسخر، خاصة وهو يرى الموت المتربص بالأرانب في كل لحظة، يحصد حياة أحد “المغامرين” من الأرانب في كل يوم. وهو سعيد بالعقل الذي أعطاه له الله، ويستخدمه خير إستخدام، ولن يُبقيه مُعلّقاً على غصون الأشجار أو على رفوف الجحور مثل البعض، لهذا، ولهذا بالذات مازال على قيد الحياة حتى هذه اللحظات، رغم هزء الهازئين ومزايدات المزايدين.

 

ظل الأمر كذلك حتى اليوم الذي وقعت له تلك الحادثة التي غيرت مجرى حياته كلها، ولم لم تتم هذه الحادثة لما تغير من حياته شيئاً.

كان في ذلك اليوم سائراً جائعاً تائهاً في الغابة على غير هدى، بعدما شح الطعام في منطقة الأرانب، وصار لا بد من الجرأة للتقدم على أطراف المراعي، والجرأة ليست ما ميّز الأرنب الأبيض، رغم أن الكثير من الأرانب كانت تتجه إلى أطراف المراعي التي ما زالت خضراء لتبحث عن طعام، وأطراف المراعي كانت أكثر إنكشافاً للثعالب والواويات والكلاب، وتسبح في سمائها البوم والغربان أسراباً، وكثيراً ما شهد الأرنب الأبيض بأم عينيه كيف تنقض هذه الطيور من علو السماء على بعض الأرانب قابضة بمخالبها عليه ممزقة لحمها بمناقيرها الحادة، أو من الحيوانات المفترسة قابضة بأنيابها عليها بعد مطاردات طويلة أو قصيرة، ممزقة عظامها مفتتة لحومها. لكن “الجوع كافر”، ومن تنقصه الجرأة سيقتله الجوع، فصار الموت واقفاً في كل زوايا المراعي وأطراف الغابة، ومن لم يمت بمناقير الجوارح وأنياب الكواسر سيستقبله الموت المتربص منتظراً واثقاً بين أنياب الجوع.

كثرت تنقلات الأرانب على أطراف الغابة، وكثرت حالات القتل اليومي، لكن الغريب في الأمر، أن معظم الأرانب لم يعد يهمها الموت، وصارت تتحداه أكثر يوماً بعد آخر، بل أن بعضها صار يتصدى لغزوات الكواسر متحدياً، وأحياناً مهاجماً أيضاً، رغم اتضاح نتيجة المعركة سلفاً.

أكد بعض حيوانات الغابة أن بعض الأرانب التي سئمت الموت، صارت تسن قواطعها، وتلبس مخالباً لتجبر الكواسر على وقف القتل اليومي، مضاعفة في نفس الوقت من حذرها عند تسللها بحثاً عن طعام، وصارت عيون بعضها ترى في الليل حتى الدامس منه، الأمر الذي فسّره البعض بحسن “البصيرة” التي وهبها الله لهم. ما جعل الأرنب يعتصر شيئاً من عصارة عقله، يسير خلف المتقدمين خلف مغامراتهم وجهل عقولهم، باحثاً عن طعام يومه من خلال دمائهم، متجاوزاً الموت الذي كان يختبئ خلف كل شجرة وكل منعطف، بسيره وحيداً بعيداً خلف طلائع الأرانب الأقرب لمداهمات الموت.

مشى الأرنب وحيداً معتقداً أن وحدته ستبعد عنه الموت، مشى حاضناً حذره محاولاً التخفي في صمت المراعي الذي يقطعه صخب زئير الأسود أحياناً، وكان خوفه يتزايد معلناً عن نفسه بتسارع دقات قلبه التي كانت تتعالى كلما تقدم نحو أطراف الغابة، وكادت تُسمِع الكواسر صوتها قبل أن تراه عيونها. كلما مشى أكثر كلما تعب أكثر، وكلما زاد تعبه تصاعد جوعه إلى حلقه، ثقلت رجلاه وأعياهما التعب وهدّهما طول الطريق. وهو يريد الوصول لمأربه قبل أن يلف الظلام الغابة، فهو ليس من الأرانب التي وهبها الله حسن البصيرة لترى في ظلمات الليل وأكوام العتمة.  فجأة، وقبل دخول الليل ليفرد ظلامه في المكان، إذ بالأرنب يرى في مكان قريب، وبين مجموعة أشجار ضخمة شكلت ما يشبه الدائرة المغلقه، كوم برسيم منثور مثل بساط أو فراش، تتوزع على أطرافه المستديرة مجموعات من جذور الجَزَر  وأوراق القرنبيط وكأنها باقات ورد، وفي المنتصف زجاجات من الخمر المعتق في مواقع مختلفة، وكأن المكان قد هُيئَ لحبيبين أو عاشقين لم يجدا لهما متسعاً إلاّ في الغابة ليعيشا لحظات عشقهما المتوتر .

لم يصدق الأرنب ما يرى، كاد يجزم أنه في حلم وليس علم، أن ما يراه بعينيه لا يعدو عن أضغاث أحلام، هلوسات أرنب هدّه طول السفر ودق الجوع كامل أعضاء جسده. رماه التعب فوق فرش البرسيم الممتد مثل سجادة خضراء، وألقى الجوع بيده نحو أحد الجزرات المغروسة بين ثناياه، الأمر الذي جعله يوقن أن الأمر حقيقة وليس خيالاً، فبدأ يقرض الجزر وينظر للمكان لدراسته، وما أن وقعت عيناه على إحدى زجاجات الخمر المعتق حتى قرر أن يحتسي شيئاً منه، و”يمز” على الجزر الذي بين يديه، فالعمر واحد وما عليه سوى التمتع بنعمة الله هذه التي وضعها بين يديه. وهكذا فعل، شرب من النبيذ بضع رشفات، وقضم من الجزرة بضع قضمات، وما هي إلّا بضع دقائق لم تكتمل لتصبح ساعة واحدة، حتى ثَقُلَ رأسه، وتآمر عليه تعب يومه وجوعه مع الخمر المعتق مُركّز الكحول كثيفه، حتى غاب عن وعيه فوق فراش البرسيم والحشائش.

من لا يعرف الغابات يظنها منطقة يسكنها الموت الظاهر على قشرتها، لكن في الغابة حيوات وحيوات، ما أن تدخلها حتى تشعر بها بكل أحاسيسك، تشمها وتلمسها وتراها بالعين المجردة، حتى وإن كان الظلام سيد المكان في تلك العتمة من الليل. كان في تلك اللحظات ثعلباً شاباً لم تعركه الحياة بعد، مغروراً مزهواً بشبابه، كان ماراً من نفس الطريق الذي سلكه الأرنب، حتى إذا رأى المكان الذي يتوسطه جسد الأرنب النائم فوق فراش البرسيم وبضع زجاجات من النبيذ المعتق، والتي كانت إحداها مفتوحة دون غطاء، مشروب منها ربعها إلّا قليلاً، حتى رمى بجسده فوق سرير العشب، ناسياً حذر الثعالب وذكاءها الفطري، وكونه كان قد جاء من وليمة للتو، لم يكن معنياُ بأمر الأرنب كثيراً، فأخذ يحتسي الخمر حتى أنهى الزجاجة كلها، فهدّه ثقل الكحول وذهبت ببصيرته بضع نجمات متطايرات متهيئات للإنتحار، ودارت به الغابة وتباعدت عن عينيه فوانيس السماء، حاول المغادرة لكن أرجله خانته، فوجد نفسه ملقى فوق فراش البرسيم ثملاً غائباً عن الوعي.

لم يمر طويل وقت على أمر الثعلب، حتى قاد الأسدَ أنفُه إلى مكان الثعلب، أثناء تفقده لمنطقته في تلك الليله، وما أن رأى الثعلب حتى غضب عليه واغتاظ وسخط من معشر الثعالب كلهم، الذين ينتهكون حرمة منطقته وهم يصولون ويجولون بها، الأمر الذي يشجع الحيوانات الأخرى على فعل الأمر نفسه، فزأر زئيراً قوياً طويلاً، بدى كإرتداد صدى رعد قادم من طرف الأرض البعيد المتمدد في حضن السماء، لكن الثعلب لم يسمعه في ثمالته ونومته العميقتين، فما كان من الأسد إلاّ أن أمسك بالثعلب وفسخه فسختين، ورغم أنه لا يحبذ أكل الحيوانات المفترسة، إلا أن شيئاً في رأسه همس في أذنه قائلاً له أن يجرب الأمر، فربما يستحسن ما يأكل ويستطيبه، خاصة أن زجاجات الخمر المعتق التي أمامه تتطلب “المازة”، وجسد الأرنب لا يفي بالغرض ولا يقدم ولا يؤخر من الأمر شيئاً.

بدأ الأسد يحتسي الخمر ويأكل من لحم الثعلب، وظل يمسح مكان القضم بلسانه وكأنه يهدهد على جسد لبؤة، ثم يقطع اللحم من ذات المكان بنيوبه “مُمَزمزاً”، ساكباً فوقه جزءاً من الخمر في فمه، منتظراً أن تنتهي مدة حراسته في هذا المساء، باقياً على نفس السياق وذات المنوال حتى كاد يداهمه فجر الصباح. كان قد إرتوى وشبع، وأمام ثمالته كان الأرنب متمدداً أمامه يتقلب على ضفاف سكرة ليلته الماضية، وقرر الأسد أن يتركه في مكانه، فهو قد شبع على أية حال، ولن يقدم الأرنب ولن يؤخر في أمره شيئاً، فتركه مكانه وغادر متوجهاً إلى عرينه.

في الصباح، إخترقت الشمس الحواجز كلها، ودخلت الغابه مسبوقة بإبتسامة النهار التي فردها مع ضوء يومه على كامل الغابة، وصعدت بشعاعها سيقان الأشجار وتمددت على أغصانها، كعروس محمولة على كفي حبيبها فاردة فوقه شعرها الذهبي المتطاير بين نسمات الهواء، وأرسلت بعضاً من أشعتها على عيني الأرنب لتوقظه، فالنهار الذي ابتدأ نهاره منذ مطلع الفجر كان قد إبتدأ المسير، وعلى الأرنب أن يلحق به ليقوم بما عليه القيام به، فالنهار لن ينتظره ليصحو من غفلته أو سكرته، فهو لم يعتد أن ينتظر أحداً.

أزاح الأرنب عينيه من أمام أشعة الشمس التي إندلقت فيهما أول الأمر، سرعان ما فركهما بقائمتيه الأماميتين، ونهض جالساً على مؤخرته، ويا لعجب ما رأى، دماء تغطي المكان كله، جلد الثعلب ممزقاً منثوراً، عظامٌ مرمية في الأنحاء كلها، بعض زجاجات الخمر المعتق فارغة متناثرة، فقال مدهوشاً من نفسه مزهواً بها:

ـ ياالله…………. ما كنت أعلم أنني إن ثملت أقوم بكل هذا التدمير.

أكل ما إستطاع من جذور الجزر، وكان يتصاعد في داخله غرور واهم كاذب، مبني على فرضية أن الدماء التي ملأت المكان ماهي إلا من صنع يديه وأسنانه القاطعة.

جمّع الأرنب الأبيض بعض زجاجات الخمر في كيس، ربطها ولف الحبل حول جسده وأخذ يسحبها خلفه، رامياً حذره خلف الأشجار.

إنتزع الأرنب الأبيض خوفه وجبنه ورماهما بين قرقعة زجاجات النبيذ، خلع حذر الأرانب ولبس ثوب الشجاعة الزائفة التي جاءته مع جرعات الخمر، وصار يمشي على رجليه الخلفيتين متحدياً كواسر الأرض وجوارح السماء، كأنه يمتلك القوة كلها، ولم يكن يعلم بعد أن وهم إمتلاك القوة أكثر خطراً من الضعف، وأن تعلم ضعفك أساس لتغير واقعك وتصنع قوة حقيقية، على أن تعيش واهماً بقوة زائفة سرعان ما يسقطها الواقع، وتكون أنت أحد ضحاياها.

لم يكن يدرك الأرنب أن قوة الأرانب تكمن في تجمعها، وأن وحدته تجعل عيون الموت أقرب إليه من رموش عينيه، وأن أسنان الأرانب القاطعة حتى لو لم تكن أنياباً حادة يمكن أن تكون هي السلاح الذي يحميها، واعتقد أنه الوحيد الذي يملك مثل تلك الأسنان، وأن بقية الأرانب من دونه لا تستطيع أن تفعل شيئاً ذا وزن في الغابة كلها.

برعم الغرور وأزهر وكبرت ثماره في رأس الأرنب الأبيض، ولم يعد يرى من هو أفضل منه في الأرانب جمعاء، وصار يبحث عمن يشبهه في الغابة، مَنْ هم بقوته، لكن ليس من بين أبناء جنسه، بل من أجناس الثعالب والكلاب والبوم والغربان.

ملك الثعالب الذي كانت عيونه تتربص مشارف الغابة، إلتقت مع عيون حليفه الغراب الذي كان قد ركب موجة هواء باحثاً عن فريسة، فصار يحوم ويحوم ليساعد الثعلب في معرفة المنطقة المقصودة. لكن ما فاجأه أن الأرنب هذا قد رمى حذره كله بعيداً، وأعلن عن نفسه من خلال قرقعة زجاجات الخمر، ورأى الغرور يلبسه من ذيله حتى أبواب أنفه، فأكله الفضول وحاول أن يعرف السر الذي جعل عقل الأرنب يكون بهذا القدر من الغباء.

حام في مساحة السماء، راكباً موجات ريح مقترباً مرة من الغابة ومرة مبتعداً، يحاول الإغارة على الأرنب ثم متراجعاً، والثعلب الذي كان يتقدم نحو ذات المكان دون أن يرى الفريسة بعد، يقترب أكثر دون أن تثير حركاته أدنى صخب.

إنقض الغراب على مكان الأرنب الأبيض فارداً جناحيه، وسرعان ما غير رأيه وحط بالقرب منه، لكن الأرنب الأبيض لم يهرب بعيداً ولم يدخل جحراً، وفي ذات اللحظة كان الثعلب قد وصل لذات المكان.

شجاعة الأرنب الزائفة جعلته ينظر إليهما بغرور أحمق، وما أن رآهما حتى قال:

ـ أهلاً… أهلاً… أهلاً بأكلة اللحوم، “الطيور على أشكالها تقع”، إنني مثلكما من أكلة اللحوم، إنني مفترس في جلد أرنب، إننا أبناء عمومة رغم المظاهر المختلفة…

نظر الثعلب إلى الغراب، وبدهائه سأل الأرنب:

ـ وكيف ذلك أيها الأرنب؟

قال الأرنب جازماً:

ـ هذه القواطع التي ترونها في فمي هي أمضى من مخالبكم ونيوبكم، لقد أدركت بالأمس أنها لم تُخلق لأكل الجزر والقرنبيط فقط ، بل للحوم أيضاً…

نظر نحوهما وأكمل:

ـ لا تستغربا الأمر، بل على جنسيكما كما بقية الكواسر التعامل مع الأمر بهذه الطريقة من الآن فصاعدا…

وقص عليهما كيف إستطاع تمزيق الثعلب ليلة أمس وأكله ولم يتبقَ منه سوى فروته وهيكله العظمي، بعد أن شرب شيئاً من الخمر.

سأل الثعلب قائلاً:

ـ أتقصد أنك بعدما تشرب الخمر تصبح من أكلة اللحوم؟

ـ صحيح… هذا ما أردت قوله.

أدرك الإثنان أن الأرنب يهذي أو ما زال يحلم من تأثير الخمر، وطالباه أن يثبت لهما ذلك.

أخذ الأرنب يسكب في جوفه جرعات متتالية من الخمر، وسرعان ما نام في مكانه.

إتفق الغراب والثعلب على متابعة الأمر حتى نهاياته، وغادر الغراب ليحضر فريسة ليرى ويفهم الأمر أكثر.

لم يمر طويل وقت حتى عاد بفأر، إلتهمه وترك بقايا جلده ودمه في المكان، وغادرا المكان دون أن يبعدا عيونهما عنه.

كما في المرة الماضية، عندما أفاق الأرنب الأبيض من سكرته، ورأى مارأى، أخذ يمسح بقايا الدم الذي تناثر على وبره، وأطلق صيحات فرح مغرور غبي، متأكداً أنه صار من أكلة اللحوم والخضار أيضاً، وصار يرى في نفسه غير ما هي عليه، ولم يجد بأساً من التشبه بالدب الذي يأكل الفاكهة والخضار واللحوم أيضاً.

عاد الغراب والثعلب إلى الأرنب الفرح الواهم، وقال الثعلب ناثراً الإستغراب المزيف بين يدي الأرنب، قال سائلاً:

ـ مَنْ الذي فعل كل هذا؟ لا تقل لي أنك أنت أيها الأرنب…

إندفع غرور الأرنب مع كلماته، وقال:

ـ أم ماذا كنت تعتقد؟ ها أنت ترى بأم عينيك، وربما لو لم ترَ ذلك ما كنت لتصدق…

صار الأمر واضحاً أمام الغراب والثعلب، مدركين إلى أي حدٍ من الجهل وصل له عقل الأرنب الأبيض، وهما خير من يعلمان أن الجهل عدو، وخير ما يفعله الطائر أو الحيوان هو الإبتعاد عنه، وقال الغراب للثعلب بعد ذلك:

ـ إن أخطر أنواع الجهل جهلك بعدوك، والأخطر منه أن تصير جزءاً من هذا العدو بغباء أو إدراك، فالأمر سيان والنتيجة واحدة، وأن يرسم لك الخمر أو الجهل عدم رؤية الألوان وعدم التمييز بينها، فهذا ورب العزة غضب من الله، وهو في نفس الوقت ما نحن بأشد الحاجة إليه…

قال الغراب للأرنب الأبيض:

ـ مثلك نادر في مملكة الحيوانت جميعها، بل في الغابة الممتدة بين البحر وبين النهر، عليك أنت، وأنت وحدك أن تقود كل جموع الأرانب في شرق البلاد وغربها، وما دمت تعتقد أنك من جلدتنا، وأنت كذلك، فنحن سنساعدك في أن تكون قائدهم الأعلى…

ـ ستساعدانني أنا؟ كيف؟

ـ كما ساعدنا العديد من أمثالك من بهائم وحيوانات في طول الغابة وعرضها، وصولاً للصحاري والواحات…

ـ سأكون قائدهم، ومن يتمرد عليّ سأقطعه بأسناني، لكن المعارضين كثيرون، هل سأستطيع القضاء عليهم؟

فقال الثعلب متداركاً الأمر:

ـ في هذه المرحلة إترك أمر المعارضين لنا، فأسنانك الحادة هذه لا تستطيع تقطيع كل مخالف في الرأي أو معارض، فأنت ومن معك مازلتم أقلة، سنساعدكم لتشكيل جيشاً من المساعدين الذين يشبهونك، من المسحجين وهزّازي الرؤوس، كذلك في تدريب جيش تستطيع التغلب به على كل ما هو مختبئ من مصاعب في ثنايا الأيام.

أمروه أن يختار كل مَنْ يثق به من أرانب الغابة، يختارهم بعناية، وأخذوا يسنون لهم قواطعهم لتأكل الأرانب بعضها بعضا، لتتمزق وحدتهم ويتفرق شملهم، وأغرقوا مملكتهم بالخمر والجزر والقرنبيط، مقابل مياه الغابة النقية وخشب أشجارها في أول الأمر.

صارت قبيلة الأرانب قبائل، كل ما كان يظن أو يقول ويبوح بأن الأمر ما هو سوى أوهام خمر قد صعد إلى الرؤوس كان يودع السجون، وكل من كان يشير إلى الثعالب والغربان كأعداء علقوه على أعواد المشانق وجعلوا من لحمه وجبات طعام شهية.

أغلق الأرنب الأبيض ومساعدوه وحلفاؤه المدارس، فكلما زاد العلم إتضحت الرؤى، والأرانب بحاجة لعلم الشيوخ وفتاويهم وليس لعلم الفلسفة والفلك وآلية عمل المنجنيق، وصار التعذيب جزءاً من حياة الأرانب بين بعضها البعض، واتسعت السجون وصارت عصا بيد الأرنب الأبيض، وصار لون رايات الإستسلام الأبيض، وليس الأبيض الثلجي، هو اللون المميز عند قبيلة الأرانب، وحُرّم من الأبيض إلّا لون الزعيم، وكتبت الشعارات أن “الأرانب على لون قائدها”، وأن الألوان الأخرى هي ألوان دخيلة على حياة الأرانب ويمكن أن تشكل خطراً على مجتمع الأرانب وتحالفاته، لذا يجب “قلع السن لتقطع وجعه” كما يؤكد المأثور الشعبي، وكلما زادت حركة الإحتجاج في مجتمع الأرانب كلما إستعان الأرنب الأبيض بأسراب الغربان وجموع الثعالب لتساعد في وقفها، الأمر الذي صار يتطلب دفع ثمن أكثر سخاءاً مقابل هذه المساعدات السخية، فصار الثعلب يدفع ديونه من لحوم الأرانب وجلودها أيضاً، ورغم تكاثر الأرانب وحمل الأرنبات المتكرر وولاداتها، إلا أن الأمر كاد لا يغطي حاجات الغربان والثعالب.

صار الأرنب الأبيض يرسل قواته مع جنود الغربان والثعالب في حملات مشتركة لقمع الأرانب المنتفضة على هذا العبث، الأمر الذي لاقى سخط الأرانب وإستهجانها وإستنكارها، ومع مرور الشهور والسنين اللاحقة ظل الأرنب الأبيض وحلفاؤه الجدد يراهنون على  دخول الأمر دائرة الإعتياد.

إزدادت زجاجات الخمر التي تباع في مجتمع الأرانب، ومن ثم أدخل الغربان والثعالب المخدرات لتبقى سلطة الأرانب وقادتها موهومة غائبة عن الوعي، وصاروا لا ينتظرون حصتهم من الأرنب الأبيض وجماعته ومساعديه، بل صاروا يدخلون بأنفسهم ليأخذوا ما يريدون ومَن يريدون ومن المكان الذي يريدون، ويختاروا مَنْ يأكلون وقدر ما يريدون.

سرعان ما صارت الثعالب والغربان وحلافاؤهما تقوم بتغيير معالم مرعى الأرانب، فقتلوا الأرانب وأخذوا جلودها واحتلوا جحورها وسكنوها، وسهّلوا هروب البقية لتصبح المراعي خالية لهم، وأدخلوا تعديلات وراثية على الأشجار، وغيروا في تاريخ الحجارة وألوانها، وأسكنوا جماعتهم في الكثير من مساحات المرعى، في الأماكن المعشوشبة والأكثر إخضراراً، ولاحقاً على رؤوس الجبال في الأماكن الأكثر كثافة بالأرانب، وأكد الغراب الأكبر والثعلب الكهل أن عليهما خلق تاريخ لهم في المراعي في عقول أتباعهما وفي عقول الأرانب قبل أن يصنعوها على الأرض، فاستخرجوا التاريخ من باطن الأرض، رسموا فوقها صوراً للثعالب والغربان والبوم والكلاب، مدّعين أن هذه الأدلة والرسوم تُثبت عمق جذورهم التاريخية في هذه المراعي، وغيروا مناهج التعليم فيما تبقى من مدارس وجامعات عند مجتمع الأرانب، مصرين على أن الأكاذيب يمكنها أن تصنع تاريخاً، ولو للفترة محددة على الأقل.

وتقلصت مساحة تأثير الأرنب الأبيض داخل مجتمع الأرانب، وسرعان ما وظّفه الغربان والثعالب كمرشد لهم، ولما حاول أن يحتج خجلاً أخبره الثعلب الكهل بشكل حاسم:

ـ خجل؟!!! ممن ومن ماذا؟ إنها وجهات نظر، مجرد وجهات نظر أيها الأرنب، فالبعض يرى أن تضع يدك في يدنا أمراً طبيعياً، والبعض الآخر من متطرفي الأرانب لا يرى ذلك… ثم هل مثلك يخجل من شيء؟ أقصد لماذا الخجل و”نحن قد دفناه سوياً” كما يقول مأثوركم الشعبي؟ ” فمن يخجل من عروسته لا ينجب أطفالاً”. الموضوع بإختصار شديد هو أن تكون مع السلام الذي ندعو إليه في المرعى أو تكون مع المتطرفين من الأرانب التي لا تعرف الواقع ولا تريد التعايش معه…

ولما حاول الأرنب التحاجج بقصد إستدرار المزيد من زجاجات الخمر، قال له الغراب بفجاجة فسرها لاحقاً للثعلب “بأن الضرورة تستوجب فرك إذن العميل قليلاً لتذكيره بماهيته، كي لا يرى نفسه أمامنا كما يراها ويروج لها أمام أرانبه”:

ـ ربما مازلت تعتقد أنك من أكلة اللحوم أيها التافه، إن أسنانك هذه بالكاد تقطع جذراً من الجزر، وإن حاولت التمادي أرحناك منها أيضاً، والأسنان والمخالب في الغابة هي الأساس، فمن يملك نيباً يأكل لحماً ومن يملك قواطعاً يأكل عشباً وفاكهة وخضاراً، لكن من إهتزت أسنانه بفعل الخمر والحهل والتسوس وعمى البصيرة،  سيموت جوعاً ما لم يجد حماة له وداعمين، لذا فالأفضل لك أن تبقى قائداً عند المخمورين الموهومين المهزومين من أت يقتلك الجوع والفقر والنيوب على قارعة الطريق.

سكت قليلاً وتابع هامساً منتشياً:

ـ حتى أن أقرب الناس إليك عليك يتجسسون، إنهم أوغاد أليس كذلك؟ يقدمون لنا كل ما تقول أو تفكر وحتى تهمس به، وينتظرون اليوم الذي نلتهمك به ونختار منهم قائداً سواك، ولديهم الإستعداد لكل الوفاء لنا.

وقال مستدركاً:

ـ لا ليس الوفاء… فالخائن لا وفاء له… لنقل الأستعداد لتنفيذ كل مطالبنا، أعني لديهم كل الإستعداد للخضوع… مثلك وربما أكثر، “فمن أصله كلب لابد أن ينبح” أيها الأرنب، بل يظل ينبح ما قُدّر له أن يعيش، أليس كذلك؟.

وضحكا طويلاً الثعلب والغراب…

فقال الأرنب راجياً:

ـ لن تجدوا من يخدمكم مثلي ووفائي لن تجدوه عند غيري…

فقال الثعلب موضحاً:

ـ قلت لك لتوي لا وفاء ممن يخون أيها الأرنب، مَنْ يخون قبيلته لن يكون أميناً لأحد أو على أحد، وكي أكون واضحاً فأنت أدمنت الخيانة كما أدمنت الخمر، إن جل ما تريده هو مصلحتك، مصلحتك فقط، ونحن مازلنا كما كنا، مادمتَ تابعنا فلن ينقصك الخمر ولا أوراق القرنبيط أبداً…

وأكمل موجهاً حديثه للغراب قائلا:

ـ يصعب على أمثاله الإدراك أن لا حرث دون أن يترك أثراً، وأن لا حصاد دون زرع، وأمثال هؤلاء إعتادوا على أن يعيشوا طفيليات على دماء أبناء جلدتهم، و”بعلاً” إن تطلب الأمر عملاً ومجهوداً، لا كلاْ ولا ماء…

وأكمل موجهاً حديثه للأرنب الأبيض:

ـ لقد استطبتم الراحة في العمل، وكما هان عليكم المرعى هانت عليكم الأرانب، ومن يهن عليه كل ذلك هل ننتظر منه نحن الوفاء؟!!!

فقال الغراب مكملاً من حيث إنتهى الثعلب بشكل هادئ رزين بعد أن نعق مخيفاً بنعيقه الأرنب الأبيض وحاشيته كلها:

ـ إن حاولت الإحتجاج لن ترى من الخمور شيئاً، لنرى كيف ستفعل وترضي من يسحجون لك ويهتفون باسمك… ألم تدرك بعد أنهم أقرب إلينا منك؟ يالك من غبي جاهل.

وأضاف متابعاً، كي لا يعود الأرنب الأبيض لشكاويه ولو مرة واحدة:

ـ أم تعتقد أنهم يُسحجون لك ويهتفون بإسمك دون ثمن؟ دون أن تقدم لهم الخمور ومخالي العلف؟

كان الأرنب الأبيض قد أدرك ما قالاه تماماً، ورغم تزايد التحركات ضده وضد الغربان والثعالب إلا أنه لم يجرؤ يوماً على مغادرة موقعه، لأن يعود أرنباً حذراً نبيهاً لا يخلو من شجاعة أبداً…

ظل ينتظر زجاجات الخمر بعد أن أدمنها ولم يعد بإمكانه التخلي عنها، يعانقها في لياليه وأيامه، ويسكب في أفواه حاشيته جرعات لتظل تسحج له وتهتف بإسمه.

كان يشعر ب”حكةٍ” في كافة أعضاء جسده، قال البعض أنها بسبب الإدمان، وأن الكلاب والثعالب والبوم والغربان دفعاه ليسرع في عملية الإدمان كي يظل مربوطاً بهم وبحاجتهم أكثر، وكانت تتلاشى حكات جسده عندما يكثر من إحتساء الخمر، ولاحقاً بعد أن يأخذ بعض المخدرات، وكلما تحدث الأرنب الأبيض كان يظل يسمع تسحيج الحاشية والتابعين، حتى وهو لا يعرف أو لا يدري ما يقول، وكان يشاركهم بعض الخمر وبعض المازة، ويقطعها عنهم عندما يغضب أو عندما يريد، تماماً كما يتعاملون معه أصدقاءه أكلة اللحوم الجدد.

لم يجرؤ الأرنب الأبيض على مخالفتهم يوماً، وكلما قرر الخروج عن طاعتهم أو أن يمارس القليل من التمرد عليهم، كلما إزدادت “حكة” أعضاء جسده، فكانت يده تبدأ بالحكة في كل مكان حتى يتهتك اللحم وتنزف من الجرح بعض الدماء،  دماء لزجة برائحة كريهة، فتمتد يده لزجاجة خمر ليسكب ما تيسر منها في قاع فمه، أو ليشتم شيئاً من مخدر ما، وإن غابت زجاجة الخمر تمتد يده للأعلى لتسبح حمداً لعطائهم وتمجيداً بهم، مبتعداً عن هموم الأرانب ومراعيها ومصالحها، وقريباً لمعظم ملوك الغابة وأمرائها ورؤسائها من مختلف أنواع الحيوانات “المسالمة”، التي جنحت لل”سلم” مع الثعالب والكلاب والبوم والغربان، وسرعان ما عمّق معها العهود والصكوك والإتفاقات، وازداد إبتعاداً عن الأرانب ومراعيها، وتعمقت الهوة مع معظم أرانب المرعى،  وظل يرسل جيوش الأرانب وشرطتها لقمعهم وإسكاتهم، وأحياناً كثيرة يشارك قوات الثعالب والغربان والكلاب والبوم أنفسها،  لمهاجمة مراعي الأرانب المنتفضة التي لم تتوقف يوماً عن الحراك والإحتجاج.

محمد النجار

الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار

إن قتل القنصل… إعدموه

التقينا على فنجان من القهوة في بلاد بعيدة في الغربة، وصرنا نقلّب صفحات الماضي، كعادتنا في تلك البلدان، ربما من باب التملص أو رفع العتب عن الذات، لاننا لا نستطيع جلدها بشكل دائم، وربما من باب الشعور أن وراءنا ماض نعتز به، وربما نوعاً من الهروب للأمام بأننا كان لنا ماضٍ، وكنا ذات يوم مناضلين وكان لنا شأن…

لا أريد أن أقحم نفسي في الموضوع بهذا الشكل المباشر الفج، فأنا لم أكن مثل صديقي “كامل”، فهو من كان السجن بيته وليس أنا، وهو الذي كان يأكل “العصي” كما يقولون، ومثلي لم يستطع حتى عدّها، لكن لكل منا دوره في هذه الحياة، وأن تفعل شيئاً مهما كان بسيطاً، أفضل بكثير من أن تقيد يديك وتحملق في سقف الغرفة، وكما ترون أنا الذي أخط شيئاً من كلماته لتعرفونها، فهو يعتبر قصصه هذه لا تعني الشيء الكثير، ولكنني أراها تعني ولو القليل، ولهذا سأخطها كما هي، دون زيادات تجميلية، بل من باب أمانة النقل وليس فلسفته، قال لي:

ـ ربما لا تعرف والدي…لك أن تتخيل رجلاً عاش ما يقارب القرن، لكنه لم يُسئ يوماً لأحدٍ في حياته!!!لم يُغضب أحداً!!! كان يقسو علينا إن أسأنا بقدر حنو أب وعطف أم وحنانها ويزيد، ولا يستطيع فهم إنسان لديه قدرة على أن يُغضب أحداً ويكون قادراً على أن يغلق، في ظلمات الليل، عينيه وينام…

وتابع وهو ينظر في اللاشيء، وكأنه يرى والده أمامه:

ـ إنه إنسان بسيط، بسيط طيب إلى درجة السذاجة في عيون البعض، لكنه رجل حكيم في رأيي أنا، ربما لأنه والدي! وربما لأنني أُصنّف نفسي بسيطاً مثله، فأرى في كلماته حِكَمَاً، لذلك بالنسبة لي فالأمر لا يخضع لنقاش أو جدال…

كان الوقت عصراً عندما التقينا، والمقاهي في هذه البلدان مكتظة بالناس، والغيوم في هذا الوقت من السنة تكون منفلتة سارحة في فضاءات السماء مثل قطيع خراف، وصل لتوه من الصحراء الى حقول خضراء معشوشبة دون نهايات، فانطلق في كل الأماكن متبعثراً في أماكن متجمعاً في أخرى، متحركاً في كل الأماكن والإتجاهات على غير هدى، هدّه التعب لكن الجوع اكثر، فصار يقطع بأسنانه العشب مسرعاً متخوفاً من انتهائه قبل أن يسد جوعه، وكن النساء في المقهى يحتسين كاسات النبيذ أو الجعة وقد نزعن حِمْل الملابس الثقيل من فوق أذرعهن العارية أو نصف العارية، معلنات، دون ضجيج، عن درجات حرارة النهار المرتفعة في ذلك النهار الربيعي، الذي يسير، دون توقف، إلى نهايته الأكيدة، يقابلهن حبيباً أو صديقاً أو زوجاً أو رفيق، تعلو قليلاً أو تهبط ثرثراتهم، و”كامل” وأنا، نشرب القهوة على طاولة منزوية بعيدة في أقصى المقهى، وكلماته تنز من حلقه، ليقذف بها لسانه مباشرة في أذنيّ، وعقلي يسجلها بقلم مخبئ في ثناياه دون أن يراه “كامل” الذي ظل يتابع، عندما رآني أنظر إليه بإهتمام دون أن أقاطعه:

ـ كان المرحوم أبي يظل يحدثني عن “بيت عفّا”، قريتنا المنسية في جنوب فلسطين، مؤكد أنك لم تسمع بها، “تُحيط بها العديد من القرى والمدن الفلسطينية، مثل عراق السويدان وعبدس وبربرة وحمامة وجولس والسوافير والجلدية وبيت داراس، وكرتيا  وعشرات من القرى الأخرى، وكانت على مرمى العصا من المجدل والفالوجة، وأصوات الرصاص تُسمع من بعيد، والثوار يتجمعون ليدفعوا العصابات بعيداً عن أراضيهم، تلك العصابات التي أتت من بعيد بمساعدة الإنجليز، فلجأ الثوار لبيع “ذهبات” نسائهم ليشتروا حفنة رصاص أو بندقية عتيقة ما زال بها بقية حياة، فالناس كانوا مُوَحَدين متضامنين، قلوبهم على قلوب بعض”، قال والدي وأكمل:

ـ هل هناك ما يمكن أن يوحدهم أكثر من الدفاع عن قراهم؟!!!

قال “كامل” وتابع، و”أكمل والدي الحديث متأثراً بما سيقول، وكأن تأثير ما سيقوله يداهمه بشكل مسبق”:

ـ حاولوا اقتحام القرية أكثر من مرة، لكن الرجال يابني لا يُفرطون في شرفهم، وهل هناك شرف يطغى على شرف القرية؟ حتى عندما احتلوها من أيدي الثوار، حررها الرجال من جديد، ولما عادوا لإحتلالها بصعوبة كبيرة في المرة الثانية، حررها الرجال مرة أخرى، دفعوا مقابل ذلك دماً وأسرى ذبحتهم عصاباتهم كالخراف، كان يمكن تلخيص الرجل آنذاك بالجرأة، فمن لم يكن مقداماً مواجهاً شجاعاً لم يكن يُعد من بين صفوف الرجال، ولما عادوا واستقدموا المئات من رجال عصاباتهم وسلاحهم الجديد واحتلوها، حررها رجال مصر هذه المرة، رغم السلاح الفاسد الذي ورّدوه لهم، عندما كان المرحوم عبد الناصر يقود غرفة عملياته ويقاتل في المجدل، مُدركاً أن إحتلال فلسطين مقدمة لإحتلال مصر والعالم العربي كله، وأن فلسطين لم تكن أبداً الهدف الوحيد، بل هي العنوان الذي يُغطي الأهداف الحقيقية المُخبأة في أدراج السياسة، لذلك ظل يقاتل ويرفض الأوامر القادمة من خلف جدران القصور…

وكان والدي يتابع:

ـ كان لنا هناك بضعة دونمات يابني، وصيتكم بها، لا تتركونها في أيدي هؤلاء، عملنا أنا وجدك وشقينا لشرائها، سجلنا بعضها باسم أعمامك الذين كانوا صغاراً حينئذٍ، وسجلنا القليل منها باسمي واسم جدك، لم يكن أحد يفرق بين نفسه وبين أخيه أو عائلته…

ثم استدار بوجهه نحوي وكأن كلمات الملكية هذه لم تكن إلا مقدمة ضرورية لما سيقول:

ـ احفظ ما سأقوله لك…

وصار يُسمي لي المناطق التي اشترى منها، جعلني أسجل أسماء الناس الذي اشترى منهم، رغم أن بعضهم صاروا في “دنيا الحق”، وتابع:

ـ عليكم الرجوع إلى هناك، مهما كانت الصعوبة عليكم الرجوع، أعرف أن الطريق صعب وطويل، لكن “لا يحرث الأرض غير عجولها”، مدوا أياديكم واقتلعوهم من أرضنا، من لا أرض له لن يجد مكاناً لتقف عليه قدميه في هذا العالم، تظل وقفته خاوية ضعيفة معرضة لتطيح بها حفنة من رياح، تشبثوا بها واحضنوا أشجار المكان لئلاّ تنتزعكم العواصف، من لديه جذوراً سابحة في طيات التراب ليس من السهل إنتزاعه، وإن انتزعوه برعمت جذوره من جديد، أعرف انهم لم يُبقوا غير بضع شجرات من الجميز والصبار، وأنهم اقتلعوا البيوت وحدائق المنازل والعمران كله ، وأهالوا التراب في بئر الماء الوحيد بعد أن سمموا مياهه كي لا نعود، معتقدين أنهم مسحوا آثارنا، لكن تلك الشجيرات نحن من زرعها وسقاها وكبرها، هي شهادة لنا، فبصمات أيدينا مازالت على كل غصن ووريقة منها، لذلك يابني وصيتكم بيت عفّا…أتفهم بيت عفّا…لأننا سنبنيها من جديد…

فقلت له:

ـ كنت أعتقد أنك ستقول لي “وصيتك فلسطين يا أبي وليس بيت عفّا…”

لم أره يلبسه الغضب إلى هذه الدرجة، قال:

ـ وهل تكتمل فلسطين دون بيت عفّا ياولد؟ ألم أُعَلِّمك أن من يفرط في بيت عفّا يفرط بفلسطين؟ لا تصدق أحداً مهما علا شأنه يُفرط ببيته مدعياً أنه يريد تحرير فلسطين بدلاً عنه، مَنْ لا خير منه لبيته، لبلدته، لقريته، لمدينته، لا خير يرجى منه لفلسطين، ومن لا خير منه لأهله لا خير منه للآخرين، أفهمت الآن؟!!!…

قبلت رأسه كعلامة إعتذار، وقبل إعتذاري بقلبه الواسع بصعوبة، علّه أراد أن لا أنسى هذا الدرس أبداً، وكما ترى فأنا لم أنسه.

وسكت كامل عن الحديث، فقلت كي لا أظل صامتاً مثل أخرس:

ـ وما الذي ذكرك به الآن؟

قال بتأكيد شديد:

ـ لعلني لم أنسه أبداً ، خاصة عندما أكون محتاجاً لحِكَمه، وأكاد أجزم أنه يحضر هو بذاته ليعلمني درسا جديدا في كل مرة…لكني تذكرت الآن أمراً مما استوجب حضوره من جديد.

ـ ما هو؟

سألت وقد راودني الفضول، فقال:

ـ كنت في التحقيق بعدما أنهيت سنوات دراستي، وكان التحقيق جاداً، كونهم، كما استخلصت، كان لديهم أسباباً تستدعي سجني في عرف دولتهم…

وضحك “كامل” ورسم بشاهديه علامة قوسين، وكأنه أراد أن يخبرني بجملة معترضة وسط كلامه وقال:

ـ لعلني يجب أن أخبرك أن أبي يعرف كلمة “القنصل”، وربما لا يعرف معناها بالضبط، كما لا يعرف عمل أو وظيفة القنصل، لكنه يجزم بينه وبين نفسه أنها الوظيفة الأرفع في التاريخ، ومَنْ يصل إليها يكون قد أتم كل شيء، ويكون قد وصل إلى درجة الكمال، يعني “ختم العلم” كما نقول نحن المثقفون هازئين…

واتسعت ابتسامته التي ظلت متشبثة بشفتيه رافضة النزول، وأكمل:

ـ ولما استعصيت عليهم في التحقيق، واقتنعوا أن الصخرة التي بين يديهم لن تنز ماء أبداً، قرروا أن يلجأوا لوسائل ضغط علي، فأحضروا والدي…

كان “كامل” يسحب أنفاساً من سيجارته وينظر إلى السماء، وكأن والده ينظر الينا من علوّه هناك مناشداً ابنه التمسك بالحقيقة فقط، وتابع:

ـ أجلسه ضابط التحقيق مقابله، وبدأ بإقناعه أن يحدثني ويقنعني بالتجاوب معهم، وقال له:

ـ إن لنا عند ولدك دين ياحاج، وجاء الوقت لسداده، فإنْ أبى التسديد حاكمناه وسجناه، وإن سدد تجده في بيتك قبل أن تصل له، هذا إذا لم تأخذه بيدك وأنت مغادر من هنا…

اقترب أبي بكرسيه من الضابط وسأل، بكل ما فيه من غضب، بإستهزاء:

ـ وهل تأكدتم أن ابني هو مَنْ قتل “القنصل”؟

كان استغراب الضابط كبيراً، فسأل أبي يريد أن يعرف أكثر، واعتقد أن هناك صيد ثمين، مادام الحديث يجري عن عملية قتل، فقال:

ـ القنصل؟! عن أي قنصل تتحدث ياحاج؟

فقال أبي مؤكداً:

ـ القنصل… وكم قنصل في هذه البلد؟

ـ آه أفهم، قل أنت لأتذكر، لا بأس مادمت تريد تسديد دينه…قل…

قال ليجعل والدي يتحدث عن عملية “القتل”، ورن على جرس من تحت مكتبه حتى إذا جاء أحد الجنود طلب كأسين من الشاي، وتابع:

ـ قل كل ما تعرف، وليقدرني الله على عمل الخير لإخراج إبنك من محنته…

استغرب الحاج هذه اللغة الناعمة، لكنه لم يفكر بالأمر كثيراً، فهو رجل بسيط كما تعلم، لكن ذهنه ظل مشدودا لما يريد قوله فقط، فقال:

ـ أنا الذي يعرف؟ أنتم تدّعون المعرفة، وأنا أقول لكم إن كان ابني قد قتل “القنصل” إعدموه…

دخل الجندي بكأسي شاي ووضعهما على الطاولة، وقدم الضابط الشاي بنفسه لأبي، فأرجعها والدي من أمامه للخلف كمن يرجع بكفه فاحشة تتقرب منه، وكان قد تذكر كلماتي، برفض التعاطي مع رجال المخابرات لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بأي شيء آخر، فظل متذكراً المبدأ لكنه نسي الأسباب والمبررات، وقال:

ـ عندي السكر… لا أشرب الشاي… ولا غيره

قال جملته الأخيرة كي لا يعود الضابط ليعزمه على مشروب آخر، وقال الضابط الحانق مفتعلاً الهدوء:

ـ كما أخبرتك ياحاج، عليك مساعدتنا بإسترجاع دَينَنا، أرأيت مديوناً طليقاً دون أن يسدد دينه؟

فقال والدي جازماً:

ـ طبعاً رأيت ، ألم تسرقوا “بيت عفّا” ولم ترجعوها بعد؟

ـ “بيت” مَنْ؟… عفّا؟ وما هذه ال”بيت عفّا”؟!!!

فقال والدي معتقداً أن الضابط  يستهزئ به:

ـ أنسيت بيت عفّا الآن؟ “بطلت” تعرفها؟ قريتي في الثمانية واربعين، أم نسيت هذه أيضاً؟!!!

وضرب صدره بكفه ليأكد أنها قريته، ووقف على قدميه وقال:

ـ هيا أرونيه كي أخبره أن لا ينسى “بيت عفّا” التي سرقتموها ولم ترجعوها بعد، وما دام الأمر يتعلق بالديون لنرى مَنْ لديه عند الآخر ديناً!!! وكيف سيتم تسديده…

فاستدعى الضابط الجندي غاضباً، صارخاً أن يوصلوه مباشرة للباب الخارجي، قائلاً:

” ألم تنسوا بعد كل هذه السنين؟”أخرجوا هذا المجنون برّه…بــــــرّه

وأخرجوه، وهو يسأل:

ـ ننسى؟ أننسى ماذا؟ربما تقصد بيت عفّا؟ ماذا تقول أيها المجنون؟

وأخرجوه ختى باب السجن الخارجي، وبقيت جاهلاً بالأمر ولا أعلم عنه شيئاً حتى خروجي من التحقيق…

وظل ينظر كامل في حقول السماء، الى الغيمات المبعثرة على أطرافه كقطيع خراف متفلّت متبعثر، وقلت له لمّا رأيت ضجيج سكوته يسيطر في المكان:

ـ أتذكر خالد؟

ودون أن أنتظر إجابة، أكملت، حيث أن خالد صديق لكل أفراد العائلة:

ـ صديق عائلتكم، أخبرني ذات يوم أنه كلما رأى والدك كان يرى فيه رجل تلك اللوحة، لوحة سليمان منصور، جمل المحامل، الذي يحمل فيها القدس على ظهره…

لم ينظر نحوي لئلا أرى دمعتي عينيه المترقرقتين، فيخجل او يشعر بالحرج، لكنه قال:

ـ لعله كذلك… رحمه الله…

وظل يتابع بعينيه خراف السماء

محمد النجار

إحذروا الإخوان والسلطان… فشيمتهما الغدر

كنت أراه مراراً جالساً على مقعد صغير على باب بيته، بحطته الفلسطينية القديمة وعقاله الأسود، كأنه تمثال حجري قديم لا يتزحزح، يجالس، في أغلب أوقاته، الطريق، هادئاً صامتاً ثابتاً عابساً راسخاً كصخرة جبلية لا تحركها ريح ولا تهزها عاصفة، ولا تستطيع قوة، مهما عظمت، تحريك شفتيه المطبقتين على حفنات من الكلمات، اللواتي يمكنها تفسير حالته وشرح مأساته. نادراً ما ذهب وجاء إلى أي مكان، يغادر مكانه في أوقات معينة فقط، هي على الأغلب أوقات الطعام في بيته، الذي يقذفه خارجه كل صباح ويُجلسه أمامه، حتى يأتي أحد أفراد أسرته، ليأخذ بيده ويدخله لداخل البيت، وكنت أثناء مروري، من ذات الطريق، إلى بيتي، ولا أجده جالساً، أشعر بعرْي المكان، بفراغ الطريق وموته، كأن شيئاً ناقصاً، وكأن الطريق قد فقط سمته وخصوصيته، وإلى حد كبير فقد الحياة، التي طالما ميّزته عن باقي طرقات المخيم وجعلته حيّاً، إذا إستثنينا لعب أطفاله الكثر كما بقية أزقة المخيم وطرقاته المبعثرة، كما وبتاريخه الذي ما يزال حياً بوجود هذا الرجل ـ التمثال، وأمثاله، في وسطه، فرغم صمت هذا الرجل إلا أنك تستطيع تلمس عبق التاريخ وشموخ الوطن، أصله وفصله من تاريخ مكتوب ومحفوظ وصامت، أو مسكوت عنه ومُغيّب، أو حتى تائه بقصد في زحمة الأحداث ومخططات التزوير والتقسيم ومسح الذاكرة.

كان لا يتحدث مع أحد، ولا يُزعج أحداً بمتطلباتٍ مهما كانت صغيرة، يرد التحية على من يلقي بها عليه بما يشبه الصمت، ثم يعود إلى نفسه وأفكاره وهمومه التي لا يعرفها أحد البتَّة في المخيم كله. تراه أحياناً ساكتاً ساكناً مثل صخرة، وأوقاتاً قليلة يتحدث مع نفسه، لكن أحداً لم يظن يوماً أنه مجنون أو معتوه، وفي أكثر المبالغات في وصفه، كان يقول البعض “أنه رجل على باب الله”، لكن ما تبقى من قُدامى من جيله، ممن عاصروه وعرفوا قصته، كانوا في كثير من الأحيان يذهبون بكراسيهم ويجالسوه، رغم سكوته الدائم، متناقشين متحاورين في شتى الأمور، خاصة حول ما يجري في بلداننا التي ما زالت تأكلها النيران، وتحاول تفتيتها “الجراذين” بمختلف المسميات، يُدلي كل منهم بأسهمه، يختلفون ويتفقون، يتناقشون على مسمعه دون أي ردة فعل منه، لا بالأخذ ولا بالرد، حتى تأتي مواعيد مغادرتهم، يسلمون عليه ثم يغادرون، ويظل هو في مكانه على كرسيه نفسه، ثابتاً، مثل صنم حجري، لا يتحرك.

منذ ما يقرب من ربع قرن والرجل ـ التمثال، على حاله هذا، بعد أن كان عَلَماً من أعلام المخيم، منذ أن قيل له: ” جد لك عملاً آخراً… لم يعد لدينا لك مكان…كما أن ميزانيتنا لا تسمح ببقائك متفرغاً”، منذ ذلك التاريخ وجد نفسه دون أي قيمة ولا كيان، رجلاً لا لزوم له ولا مكان، فهو لم يطلب أن يكون متفرغاً، بل هم من طالبوه بذلك قبل عقدين من ذلك الزمن، عندما كان القابض على مبادئه كالقابض على الجمر، حينما عز الرجال في الزمن الصعب، والتزم ووافق تاركاً عمله لمصلحة العمل الوطني، واعتقل مرات لم يعدقادراً على عدّها، ولم يعترف يوماً على أحد رغم وصوله حد الموت مرات ومرات، وأصيب في ذراعه ورفض الذهاب للمشفى، كيلا يمنحهم فرصة الضغط عليه من خلال جرحه، والله وحده الذي ستر ذراعه من البتر، عندما مزقت الرصاصة عضلاته دون العظم، وبعد استبعاده حاول العمل، لكن شبابه كان قد خدعه وغادر، لا يدري هو متى أو أين، وكيف بهذه السرعة وعلى حين غرة، دون إذن أو إعلان، وعمل وعمل بما تبقى لديه من عضلات، من بقايا قوة ظلت متشبثة في العظام، ولما تعذّر الأمر ارتضى بالقليل، وظل أحد أبرز شخوص المخيم الوطنية، ورجل إصلاحها الأول، وكاد يمر فوق الأمر بهدوء لولا ما تم بعد إعتقاله الأخير.

عام كامل ظل في سجنه الإداري، لم يُقدم له رفاقه محامياً ولم يصله منهم مؤونة ولا غذاء، إلاّ من زوجه التي لم تكن قادرة على إطعام أطفاله، ولولا عمل إبنه البكر أحمد، إبن السابعة عشر عاماً تاركاً صفوف دراسته، لما لقيت العائلة ما يسد رمقها، كما ان “جماعته” “كما سمّاهم دائماً بسبب التحبب وشدة القرب”، لم يتفقدوا عائلته يوماً أثناء سجنه ذاك، ورغم كل ذلك تخطى الأمر وتجاوزه، لكن أن يخرج من السجن ويزوره الناس جميعاً إلّا “جماعته”، فكانت الضربة الأكبر له.

كان ينتظر أن يأتوه، أن يفرحوا به، أن يُهنئوه بسلامة خروجه، أن يخجلوا قليلاً ويعتذروا على تقصيرهم معه، وكان سيسامحهم لو فعلوا وينسى كل الإساءات والتقصير، لكنه لم ينتظر إلّا الهواء، فصار يخرج إلى باب داره حاملاً كرسياً من القش، ويجلس على باب بيته منتظراً، لعل وعسى، وظل يفكر لماذا، فهو لم يُقصر يوماً بعمل ولم يتهرب أو يتقاعس، كما لم يخن أحداً لا في حياته ولا سجنه المتكرر، بل بالعكس، فلطالما أوقف إعتراف الآخرين بصموده، فكان الحائط الذي لم يمروا منه أبداً، وظل يحاول إيجاد سبباً مفقوداً لم يجده إلى يومنا هذا، فصار يشعر بإغتراب لم يعشه أبداً، وقال كلمته تلك لولده الذي ظل يتذكرها رغم سنه المبكر، قال ” أن تكون غريباً بين جماعتك… بين أبناء بلدك… هي الطامة الكبرى، الإغتراب يابني أقسى من السجن والزنازين والتعذيب، بل حتى من الغربة نفسها، أقصى بكثير…” وسكت، ولم يتحدث بعد ذلك أبداً، ابتلع كل الصمت الجاثم في فضاء المخيم كله، وتحولت عيناه الى زوج من الكريات الزجاجية، وماتت البسمة التي كانت تميزه، وسرعان ما صار يتحول لون بشرته إلى لون الموت، وصارت تتراجع حركات جسده، فصار يتحول كل الجسد إلى عصب صخري ثقيل، يكاد لا يربطه رابط باللحم والدم الآدميين، وفي تلك المرحلة بالذات، داهم المخيم والمدينة وكل القرى المجاورة، بركان أقسى بكثير من بركان النكبة، بركان اجتث الأخضر واليابس، فأعاد خلط الأوراق والألوان والأقلام، فصار أخ الأمس عدو اليوم وعدو الأمس رفيق اليوم، ورفعت أغصان الزيتون على دوريات الجيش الذي كانت، بقايا دماء النساء والأطفال، عالقة بها مُتشبثة ترفض النزول، كشاهد على جرائم ترفض الإندثار رغم مرورها في دهاليز الزمن وجريانها مع مزاريب التاريخ، ومع تفجر بركان “أوسلو” المدمر ذاك ومرور الأيام، صارت حالة التمثال تتقدم على حالته الإنسانية، فصارت تتراجع روحه، أو ربما الأصح أن روحه صارت تتغطى بالتراكم الصخري وتفقد حياتها شيئاً فشيئاً، ولم يعرف أحد أبداً، أن ما حدث لأبي حاتم كان بسبب البركان أم بسبب الإغتراب، أم بسبب الإثنتين معاً، أو لأسباب أخرى لا يعرفها أحد.

هذه قصة أبو حاتم التي عرفتها في “سجنتي” الإدارية الأخيرة، فسلطتنا لا تستطيع أن تحمي نفسها ناهيك أن تحمي شعبها، وجنود الإحتلال يسرحون ويمرحون ويداهمون ويعتقلون ويُصيبون ويقتلون دون مواجهة أو دفاع ولا حتى رفض أو إعتراض، فداهموا المخيم واعتقلوني وآخرين، وحولوننا للإعتقال الإداري، وهناك التقيت “أبا إبراهيم” الذي حدثني عن “أبي حاتم” ،الذي صارت قصته تتراجع وتتقلص في العقول، وتضمر وتغور بعيداً في النسيان. لذلك وبعد خروجي ذهبت لعنده، جلست مقابله على باب بيته، حاولت محادثته، إغتصاب نظرة، حركة، بسمة، دون نجاح، لكنني، رغم ذلك، بقيت أتردد عليه بين وقت وآخر، ربما من باب الشفقة أو الإحترام أو العرفان لهؤلاء الذين لا يموتون إلّا واقفين، جذورهم مغروسة في قلب الأرض ورؤوسهم عالية في حضن الشمس، وصرت أحدثه عن قصص السجناء ومآسيهم التي خلقت كل هذا العنفوان لديهم، تلك القصص التي ما أن صارت جزءاً من الماضي حتى أصبحت مجالاً لأكثر حالات التندر، مدركاً أنه جزء منها، ممن نحتوا قصصها في فضاء الوطن كله، بعد حفرها عميقاً في خلايا جسده، ثم حدثته عن “أبي إبراهيم”، ونقلت له سلاماته وتحياته، الأمر الذي خلق لدي إنطباعاً بأنه فوجئ لأن هناك مَنْ ما زال يتذكره، وأن تاريخه لم يتم نسيانه، لم يمت بعد، بل ما زال حياً عند جزء من الناس على أقل تقدير، فأكثرت من الحديث عنه، وبالغت في نقل أخباره، لكن دون أن تصدر عنه أي إشارة على أنه يسمعني، بل ظلت عيناه الزجاجيتين زجاجيتان، ولون الموت الأبيض الصخري يغطي وجهه، ولم يلتفت لي أو يُغير من طبيعة جلسته أبداً.

لكنني ولسبب ما واصلت زياراتي ومجالستي له، وصرت أنقل له الأخبار اليومية ورأيي بها، خاصة ما يجري من تدمير لأوطاننا، وللحق لا أعرف حتى الآن لماذا كنت أفعل ذلك، ولطالما كنت أتمنى لو كان والدي مثله، والدي الذي ظل يعتبر نفسه مُحايداً أو حتى غير معني بكل مل يتم في مخيمنا أو خارجه، وأكثر ما فعله في حياته هو الدعاء على “اليهود” والدعاء لأمة المسلمين، كنوع من الهروب من المسؤولية، لكن الله وكأنه لا يريد الإستماع له أو لمن لا “يعقل ويتوكل”.

تردادي المتكرر لاقى استغراب الكثيرين من سكان الشارع، بما في ذلك أبناؤه، لكن أولاده سرعان ما استحسنوا الأمر، وصاروا يأتون لي بكأس شاي أو فنجان من القهوة كلما وقعت قدماي في المكان، وسرعان ما تحول وجودي لعادة أو شئ مألوف فيما تلى ذلك من أيام…

قلت له في مجالساتي المتتالية له، أشياء يعرفها أفضل مما أعرفها، وأشياء ربما لم يسمعها أو يعرفها منذ فترة مرضه أو إغترابه هذا الذي لم يخرج منه، وكان جل هدفي أن أحدثه، أن أرى منه كلمة أو إشارة أو حركة، قلت:    ـ منذ زمن قسّموا القضية، بعد أن رموا بنا خلف العصر ووراء التاريخ، فكان التاريخ العثماني وبال علينا، فبعد محاولات تتريكنا وسلب خيرات بلادنا، سلخوا لهم جزءاً من أرضنا، وأعطوا الباقي “لسايكس وبيكو”،وسرعان ما صار “بلفور” يوزع بلادنا كوطن قومي لللآخرين…

وسكت قليلاً، ثم أضفت:

وها هم أنفسهم، العثمانيون، مع ورثة “سايكس وبيكو” يدمرون بلادنا لتقسيمها واقتسامها، ليجعلوا من أحفاد “بلفور” البلد الأكبر والأقوى والأكثر تماسكاً، وربما الأكبر عدداً كما الأكثر عدة، أتتخيل لو استطاعوا تقسيمنا بين مذاهب وطوائف ماذا كان يمكن أن يحل بنا؟ستكون أكبر دولة أصغر من كيان بني صهيون!!!                             ولم يكن ليتطلع إلي في أي يوم، ورغم كل ما سمعته عنه وعرفته، إلاّ أنني بقيت أنظر له على أنه من الجيل الثائر وليس الجيل المهزوم، وهذا ما يميزه عن والدي الذي ما زال يدعو الله دون نتيجة، دون أن يكل أو يمل، وفي يوم آخر قلت له:

ـ ما زال “الأتراك” لديهم معسكرات “لداعش والنصرة”، يتدربون فيها على فنون قتلنا وتذبيحنا في الشوارع، بقيادة ضباط من “أصحاب الوطن القومي” والأمريكان والأتراك وآل سعود، لذلك عندما احتجزت لهم داعش فريقهم الدبلوماسي في الموصل، أطلقوا سراحهم دون أن يمسوا منهم أحداً “حفظاً للجميل”، تسع وأربعون دبلوماسياً لم يُجرح أو يهان أو يوبخ أو يقتل أحد منهم…. أتتخيل مدى العلاقات…

في كل ترددي ظل موضوع الغزو التركي ومحاولته تقسيم أوطاننا، ما يشغل بالي وما أقوله وأكرره على مسمعه، وصرت كمن يتحدث إلى نفسه دون أن يتلقى جواباً، لكنني أنا الذي ظل والدي يلقبني ب”العجول” على مدار حياتي، كنت طويل البال، وأتحدث مع أبي حاتم وكأنني أتحدث مع إنسان كامل الإنسانية وليس مع رجل تحوّل إلى صنم أو تمثال، رجل تحول اللحم والدم فيه إلى حجارة وصخور، وكنت أجلس بالساعات أحياناً ولا أكف عن الحديث، وقلت في يوم آخر:

ـ “السلطان العثماني الجديد”، يرفض أن يقترب أحد من حدوده، يعتبره مُهَدِدَاً لأمنه القومي، لكنه يتدخل في بلادنا، ويطالب صراحة بإسترجاع ما سلبته دولته العثمانية، يريد حلب والموصل وسنجار وكركوك ودابق وإعزاز، وبكل صفاقة يتدخل بمن يحق له في بلادنا محاربة الإرهاب ومَنْ غير المسموح له بذلك، وبعد أن إنهمكت جيوش سوريا والعراق في حربيهما، صار يرسل الدواعش بطائراته لكركوك ليعيقوا تقدم الجيش العراقي ويبعث بضباطه لتلعفر والموصل ليحاربوا بأنفسهم هناك، وليفتحوا الطريق للدواعش ليهربوا الى الرقة السورية عبر أراضيه، ويفعل كل هذا مُدعياً محاربة الإرهاب.

سكت حينئذٍ قليلاً ثم تابعت شارحاً كي لا أكف عن الكلام، وقلت:

ـ ها هو قد أدخل قواته لجرابلس ودابق، في الشمال السوري، دون أن تُطلق ولو رصاصة واحدة بينه وبين الدواعش، ليس هذا فحسب بل كل ما في الأمر أن الدواعش غيروا أعلامهم بأعلام “الجيش السوري الحر” التابع للأتراك، فصار الأتراك محاربين للإرهاب!!! أتتخيل كيف يمكن أن تستقيم الأمور؟ أن يكون جيشاً سورياً وحراً وهو تابع للأتراك والأمريكان، ويتدرب على يدهم ويد آل سعود وبني صهيون!!! والأمرّ من كل ذلك وأدهى أن هذا “السلطان العثماني الجديد”، يقود دولة علمانية، لكنه يريدنا أن نقتسم إلى طوائف ومذاهب وأديان!!! وهو نفسه، حامل لواء السلطنة والخلافة والإسلام،  أمر أخيراً محاكم بلاده بإسقاط ملاحقتها للصهاينة المجرمين الذين قتلوا أبناء شعبه التركي في سفينة مرمرة!!!!

ظل الأمر على حاله مع أبي حاتم، وبقيت أشرح له، أو الأصح أنقل له آخر الأخبار والتطورات في سوريا والعراق، وآخر أخبار اليمن السعيد الذي يحاول آل سعود أن يحرقوا سعادته، ودور الإخوان المسلمين المتواطئ مع السلطان العثماني، ودورهم في استجلاب كل حثالات البشر لقتل شعبنا العربي ومحاولة تقسيمه في غير مكان، تماماً كما فعلوا بإرسال أبنائنا لحرب الروس في أفغانستان لمصلحة الأمريكان، في قضية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وها أنت ترى أفغانستان بعد عشرات السنين من حكمهم الإسلامي، كإحدى أوائل الدول الفاشلة في العالم، بعد أن كانت على أبواب الحضارة والتقدم، هؤلاء الإخوان أنفسهم لم يستجلبوا ولو فرداً واحداً لمحاربة الإحتلال منذ سبعين عاماً، وحاربوا كل من حاول محاربته وتحالفوا مع من صادقه…

وقدمت له خلاصة الأمر على لسان موشيه آرنس أحد وزراء حرب كيان إسرائيل، وأحد أكبر باحثيه الإستراتيجيين، والذي أكد أخيراً، “أن كيانه فشل في الرهان على تنظيم القاعدة وداعش، لتحقيق ما عجز عنه جيشهم في ضرب المقاومة عام ألفين وستة”، ولم أكن أنتظر أي رد كعادتي، وقبل أن أقوم، وضعت ركبته في باطن يدي، وقلت:

ـ سآتي بعد يومين لأراك، يوم الجمعة يا أبا حاتم…                                                                           وأنا الذي لم أُناده ولا مرة حتى الآن بلقبه هذا، وجدت سيلاً من الدمع يأخذ له مجرى في أخاديد وجهه، أخاديد كان الزمن وسنوات عمره قد تآمرا عليه وخطوهما مثل سكة حراث في أرض بور، دمع متدفق وكأنه نبع قد تفجر لتوه واندلق، ولم يئن أو يتلوى أو يتألم أبو حاتم هذا، أو على الأقل لم أشعر أنا بذلك، وتفادياً للحرج، قمت وخرجت وتركته في مكانه وكأنه تمثال، بقدرة قادر، ينزف دموعاً لا تتوقف، تسير في أخاديدها مثل جدول…

كان حينها الوقت وقت غروب، تتمايل الشمس فيه متثاقلة نحو المبيت، كطفل يقاوم النوم ولا يستطيع رده، جلست على كنبة في صالون بيتي، وفتحت التلفاز دون أن أسمع ما يقول، وكنت ما زلت أفكر في دمعات ذلك الرجل العجوز المنهارة من إرتفاع عينيه إلى ما تحت ذقنه شبه الحليق، وكأنها تريد الإنتحار ولم تستطع، فظلت معلقة في أطراف ذقنه، تتراخى أيديها، غير قادرة على الثبات ولا على الإنهيار، فلا ذقنه شبه الحليق أمتصها، ولا تراخت يديها لدرجة الإنهيار، لكنه سرعان ما إحتضنها بباطن يده، وكأنه يريد أن يخفي جرماً قد إقترفه.

كانت الظلمة قد بدأت تفرد أجنحتها فوق المنزل والمخيم، وربما فوق المدينة نفسها، عندما تسلل إلى أذني صوت طرق هامس على باب بيتي، طرق متراتب هادئ، كأن الطارق يخاف أن يجرح حديد الباب، لكن لرجل سياسي مثلي، عرفت أن القادم أحد رفاقي الذي أراد أن لا يلفت الإنتباه إليه، وقدرت أن في الأمر شيء جلل، وبهدوء قمت وفتحت باب بيتي، لكن المفاجأة جاءتني حادة قاطعة كنصل سكين واضح لا لبس فيه، لقد كان أبو حاتم واقف على بابي متلفتاً ميمنة وميسرة، كأنه يقوم بعمل سري لا يريد أن يلفت الإنتباه إليه، كما في الخوالي من الأيام، رحبت به وأدخلته وأجلسته مكاني وجلست مقابله، وقبل أن أبدأ بالحديث كعادتي قال هو هذه المرة:

ـ ظننت أن من المفيد أن لا أنتظر ليوم الجمعة كي نلتقي، فبعض القضايا لا تحتمل التأجيل ويوم الجمعة ما زال بعيداً، ومن هم في مثل سني لا ضمانة عندهم ليعيشوا أبعد من يومهم، فما بالك بأيام حتى يجيء يوم الجمعة…

فقلت:

ـ خير يا عمي أبا حاتم…أُأْمرني…

فقال:

ـ عليك الذهاب إلى سوريا…

قلت:

ـ لكنني كما تعلم ممنوع من السفر، لكن لماذا؟

سكت قليلاً وكأنه يفكر في حل لهذا اللغز وقال:

ـ إذن إبعث من تثق به لهناك، إبعثه للقيادة السورية ليقل لهم وعلى لساني أنا أبو حاتم المهدي، الذي كان له ماض مشرف، أن لا يثقوا يوماً لا بالسلطان العثماني ولا بالإخوان المسلمين، فالغدر من شيمهما، بل هو ما يميزهما…

وقام من مكانه متوجهاً إلى الباب، وغادر قائلاً:

ـ اللهم اشهد فإني قد بلّغت… سأذهب حتى تستطيع تدبير أمورك بسرعة…

وغادر، وبقيت وحدي، وفكرت في كلماته، وكنت كلما فكرت في الأمر وبأي إتجاهٍ، وجدتني أصل لنفس خلاصته، فالغدر من شيم هؤلاء الناس، كانت الإنتهازية والتجارة بالدين والكذب والنفاق من ميزاتهم، ونادراً ما تجد مبدئياً واحداً في هذه الأوساط، وفكرت بأن القيادة السورية وبعد تجربتها الطويلة الدامية معهم، لا بد أنها توصلت لنفس خلاصة أبو حاتم المهدي…

إنتظرت يوم الجمعة بفارغ الصبر، وما أن إبتدأت الشمس تشق لنفسها طريقاً فوق الغيوم، بين نجوم السماء المتخفية في متاهات الدروب هروباً من عيني النهار، حتى وجدتني أحتضن كرسياً من القش وأتوجه مباشرة إلى الطريق، حيث أبو حاتم يجلس كالعادة على كرسيه، إقتربت منه حاملاً ابتسامتي فوق شفتي، وما أن جلست حتى نظر نحوي وبيده كوباً من الشاي على غير العادة، هززت له رأسي بالإيجاب وكأنني نفذت نصيحته، رأيت محاولة ابتسامة نصر تحاول الولادة المُيسرة من تحت شاربيه، لم يقل أبو حاتم المهدي شيئاً، ولم ينبس ببنت شفة، لكنه نظر إليّ طويلاً ثم ناولني كوب شايه لأشربه.

محمد النجار

الخراف ترفض أن تكون قطيعاً

1

ـ مـــــــــــــــــــــــاء…مـــــــــــــــــــــــــــــــاء…

سمع الكبش العجوز ثغاء “حفيده”، فتهيأ لإستقباله بعد أن تحسس بيده قطعة سكر ليضعها في فمه أول ما تراه عيناه. لا يعرف بالضبط لماذا يعتقد أن لهذا الحمل مستقبلا باهراً، وأنه نوع مختلف عن صنوف الأغنام من خراف وماعز، التي تملأ المرعى، وهذا الإعتقاد ليس كون هذا الحمل حفيده كما يعتقد الكثيرون، فهو ليس حفيده بالمعنى الحرفي للكلمة، فكل جيل هذا الحمل من حملان وجداء ينادونه “بالكبش الجد”، وهو، حتى هو، لم بعد يعرف من هو حفيده الذي من نسله بالضبط، كما أنه لم يعد يهتم بالأمر أصلاً، فكل “القطيع” يحبه ويحترمه، وهو لم يتعامل مع أحدٍ بتمييز، رغم أنه يعتقد أن هذا الحمل ربما سيجبره على التغيير من سلوكه هذا…

ـ مـــــــــــــــــــــــــــــاء…

رد عليه برغاء الكباش الغليظ قائلاً:

ـ هيا تعال، أدخل… أدخل…

أسند ظهره الحائط، وأجلسه بجانبه…

دائماً ما كان هذا الحمل كثير الأسئلة، حسن الإستماع، وإن تحدث فكلامه يحمل عمقاً يفوق عمره الغض. ورغم ذلك فإنه قليل اللعب مع أترابه، ويفضل على ذلك مجالسة “الكبوش والنعاج والشياه”، ويتجنب مجالسة “التيوس” من معشر الأغنام جميعهم، بمبادرة منه ودون توجيه من أحد …

ولعل أول ما لفت إنتباه “الكبش الجد” إليه، عندما بدأ بطرح الأسئلة عن السر في سكوت معشر الأغنام كلهم عن القوانين الجائرة ب”التضحية بهم”، فمن أراد التقرب الى الله بتضحية ما، يدفعون هم الثمن من دمهم، ويرون بأمهات أعينهم كيف يُذبح جدائهم وحملانهم وكبوشهم وشياههم، ولم يسمع الصغير إعتراضاً أو رفضاً، غير عبارة “أن هذا أمر الله” الذي فرضه على معشر الأغنام جميعاً، وهذا الحَمَل ورغم صغر سنه لا يعتقد ذلك، ويعتقد أن الله الذي خلق الحيوانات خلقها متساوية “كأسنان المشط”، وكالآخرين خلق لهم عقلاً وجب عليهم استخدامه لمصلحة معشر الأغنام جميعاً، وهو عندما استخدم عقله توصل إلى حقيقة مفادها أن الأمر ليس له علاقة بإرادة الله، وظل يتساءل” لماذا منا نحن بالذات دون غيرنا”؟ لماذا لا يتم التضحية بالحيوانات الأخرى بنفس الكم الذي يتم بها فينا؟، ولم تقنعه كل الإجابات التي تلقاها، الأمر الذي جعل “الكبش الجد” يتساءل ليلاً نهاراً نفس سؤال هذا الحمل، لماذا تتم التضحية بنا نحن معشر الأغنام في معظم الأحوال؟ وبعد تفكير لم يترك له من الليالي سوى سويعات قليلة من نوم، توصل إلى إجابة تقول أن السبب وراء ذلك، كون “معشر الأغنام” هم الأكثر ضعفاً وطيبة وانصياعاً بين الحيوانات جميعاً، وهم الأسهل صيداً والأكثر قناعة والأقل تكلفة وإزعاجاً والأوفر تربية، صحيح أنه تتم التضحية ببعض الحيوانات الأخرى، إلا أن الأغنام لها نصيب الأسد من هذا الأمر، نصيب يغطي على التضحية بكل الحيوانات مجتمعة وبنسبة تتجاوزها بمرات ومرات. وظلت أسئلته معلقة في الفضاء دون إجابة، خاصة السؤال الذي يتهم الجمبع بالتواطؤ  والسكوت عن الأمر الذي أصبح قانوناً، رغم معرفة الجميع بأن استمرارية الحياة في هذه الغابات والمراعي الحيوانية المنتشرة تتطلب أولاً وقبل كل شيء، خفة الحركة وسرعة الإختباء والتواري عن أعين الغزاة، كما التسلح بكل أسباب القوة لصد الغزاة والمعتدين من الحيوانات المفترسة، ومقاتلتهم إن توجب الأمر، كي تُصعب الأمر عليهم وتجعل أيام غزوهم مكلفة لهم، فيعيدوا حساباتهم إذا ما عادوا ليفكروا في انتهاك لحمك أوحرمة مرعاك من جديد. لكن السكوت المتواطئ جعلهم مضرب الأمثال أمام ساكني الغابة كلها، فصار من الطبيعي أن يوصف المستسلم بأنه “كالخروف”.

كما أن “الكبش الجد” كان يشعر أن أسئلة هذا الحمل تُستفز عقله على التفكير، وتزيد من حجم وكمية الأسئلة في رأسه، وجعلته يكتشف أنه لو كان قادراً على استخدام عقله بهذه الطريقة وهو في مثل سنه، لكان قادراً على أن يلعب دوراً أكثر أهميه مما لعبه في حياته الماضية.

قبّل الحمل رأس “جده”، وجلس بالقرب من قائمته اليمنى، وقال وهو يمتص قطعة السكر التي وضعها “الكبش الجد”في فمه:

ـ أتعرف ياجدي أنني رغم كل هذ الوضع الذي نحن فيه، إلا أنني فخور كوني من معشر الأغنام…

فقال الجد محاولاً استفزاز عقله”الطفل”:

ـ لماذا؟ فنحن في وضعٍ لا يسرُّ صديق، ألا ترى وتحس كل هذا الضعف والمهانة الذي نعيش فيهما؟

فقال الحمل:

ـ بلا، يجب أن نجد طريقة لندافع بها عن أنفسنا، لكننا لا يجب أن نغير من طبيعتنا أو أخلاقنا…

وسكتا، وظل “الكبش الجد” ينتظر ليكمل الحمل ما يريد قوله، فهو بالعادة بقول أفكاره وكأنه ما زال يفكر بشكل مسموع، وأكمل الحمل:

ـ  يجب أن نظل على صفائنا ونقائنا وطيبتنا… لا يمكنني أن أتخيل كيف سنكون حتى لو امتلكنا القوة كلها وفقدنا قيمنا هذه…

فقال “الكبش الجد” مؤكداً:

ـ نعم يابني، ربما يكون ما تقوله صحيحاً، فنحن ليس في ماضينا ما نخجل منه، ولا يوجد ما ينكس رؤوسنا في كل غابات العالم ومراعيها، و نحن لا نخجل من أصلنا، لكن الفتى

“ليس من قال كان أبي              بل من قال ها أنا ذا”،

لذا يجب أن نعمل من أجل حاضرنا ومستقبلنا مستندين لما نتشرف به من ماضينا وتاريخنا،  كما أننا معشر  الأغنام، بألواننا المختلفة، بثقافاتنا المتعددة، بكل مشاربنا ومواردنا، بأجناسنا وأشكالنا، بكل ما فينا، لا يوجد عندنا ما نخجل منه، فنحن نصحو مع طلائع النهار، ونسعى في طلب رزقنا حتى غروب الشمس، لا نكل ولا نمل ولا نتكاسل، نأكل من مراعينا ولا نعتدي على مراعي الآخرين، لم نعتدِ يوماً على أحد، لم نستخدم سلاحاً ولم نحمل أنيابا ولم نسن مخلبا، حتى حراستنا تركناها للكلاب، هكذا كنا طوال حيواتنا، وهكذا أردنا أن نظل بقيتها أيضاً لولا الذي حصل في أرضنا ومراعينا.

فقال الحمل مقاطعاً على غير عادته:

ـ ربما ضعفنا هو الإشكال بحد ذاته، فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل مواجهة نيوب المفترسين بفرائنا الناعمة…

سكت قليلاً وقال من جديد:

ـ كما أنه ربما وجب إعادة النظر والتفكير في تسليم حراستنا للكلاب، لكن ما الذي حصل ياجدي؟، وكيف وصلنا الى هذا الحال؟

فقال “الكبش الجد” بنوع من التوتر الغاضب:

ـ أتسألني ما الذي حصل وكأنك لا ترى؟

فقال الحمل:

ـ “بلا” إنني أرى جيداً، وهذا سبب سؤالي…

فقال “الكبش الجد” بإستفزازٍ مستفزٍ لعقل الحمل:

ـ إن كانت إجابتك “بلا” فكيف تسألني إذاً؟ ألا ترى كيف أصبحنا؟ أين كنا وأين نحن الآن؟

فقال الحمل ل”جده” بعد أن رأى عدم صبره:

ـ هذا سبب سؤالي أيها الجد، فأنا ما زلت حملاً كما ترى، لا أعرف من التاريخ سوى ما رضعته من صدر أمي، ولم أتعلم القراءة والكتابة بعد لأقرأه وحدي…

صدمت كلمات الحمل” الجد الكبش”، أعادته الى هدوئه الذي كاد يفقده على غير عادته، فهو ورغم كل ما مر به في حياته، كان يظل يحاول أن يُحَكِّم عقله في كل كلماته، قبل أن يتركها لتخرج الى آذان الآخرين من فمه، لكنه كان يشعر أحياناً أنه بحاجة لأن يضرب رأسه بالحائط من شدة الغضب، بدل أن يخرج “لينطح” برأسه وقرونه أكباش المرعى، خاصة عندما كان يرى الوضع الذي وصلت إليه معشر الأغنام من خراف وماعز.

صمت “الكبش الجد” قليلاً، وسرعان ما قال لحفيده الحمل:

ـ معذرة يابني، قلّما أصابتني هذ الحالة، وحتى عندما تصيبني لم أعتد أن “أتفشش” بالآخرين، وكما ترى “أول ما شطح نطح”، والنطحة وجدت طريقها لك يابني…فبدلاً من إخبارك بما أصابنا، تراني أفرغ شحنات غضب حياتي كلها بك…

وسكت قليلاً وتابع بهدوء:

ـ على كل حال يابني، الأمر يبدأ من العقل، هذا الجزء من الرأس الذي نحمله جميعنا، لكن لا يستخدمه سوى القليل منا فقط، وصار الأمر أشبه ب”مزحة” مُرَّة يرددها بعض الخراف والجداء على مسامعنا نحن الشيوخ الهرمة قائلين” المهم الصحة، فالعقل يروح ويجيء”، كون الكثير منا لم يعد يستخدم عقله منذ “الهروب الكبير”، فرغم استهدافنا المستمر وشراسة الهجمة علينا من تحالف الكلاب والذئاب والضباع القدامى، إرتضينا أن تحكمنا “التيوس” والكباش الجاهلة على مدار الزمن.  كما أن ليس كل من استخدم عقله منا أحسن استخدامه، فمنا من استخدمه لصالح الأغنام جميعها، ومنا من استخدمه لصالحه وحده، والبعض سخّر الجمع كله لمصلحته، وفي النهاية نرمي خيبتنا على أننا طيبون… لا يابني، فالطيبة شيء والسذاجة حد الغباء شيء آخر، إنهما مختلفان كما الثرى والثرية…

أخذ  “الكبش الجد” يلف سيجارة من “تِتْن” حاكورته بين أصابع حافره، دوّرها جيداً، بلّل طرف ورقتها بلسانه وألصقها على بطن الورقة المليئة ب”التتن”، أشعلها وأخذ يمتصها من طرفها مالئاً سماء المرعى برائحتها المميزة، وأكمل:

ـ يقول المثل يابني: “العنزة الجربانة تشرب من راس العين”، ونحن رأيناها تشرب من رأس العين، وأغمضنا أعيننا عن جربها، لم نُرد أن نرى أنها جرباء، وأن غرورها لا يخفي جربها، وأن تقتلع عينيك لا يخفي الحقيقة ولا يلغيها، فالحقيقة تظل حقيقة حتى وإن لم يرها أو تعامى عنها البعض، تظل حقيقة شئنا أم أبينا…

ـ كيف ياجدي؟ لم أفهم ما تريد قوله

ـ سألتني كيف؟… كنا على عادة أجدادنا، نترك القيادة ل”تيس” يقودنا، ونقول ” تيس تيس”لا بأس، فهو على أية حال من جلدتنا، يعني”منا فينا”، وطوال عمرنا كررنا الأمر نفسه، يعني “طول عمرك يا زبيبة في طيزك عود”. وهذه المرة أيضاً “وليّنا” علينا “تيسا،ً” ورغم أن “التيوس” جميعاً لم يوصلونا إلّا إلى التهلكة، لكنا وضعنا رؤوسنا في الرمال وافتعلنا أن لا شيء سيئاً يحدث، وأن الأمور على ما يرام، يعني كنا بهائم أو دواباً بكل ما للكلمة من معنى، ولم نكن مدركين أن ليس كل أبناء جلدتنا هم مثلنا نحن البسطاء، وأن منهم من هم ليسوا أقل سوءاً من الحيوانات الكاسرة المتربصة بنا، كنا ننتمي للعشيرة ورابطة الدم أكثر من إنتمائنا للعقل والمنطق والمرعى.      كنا نراهم كيف يقودوننا من “حفرة إلى دُعديرة” كما يُقال، ونظل نمشي خلفهم، وكلما مشينا أكثر كلما ازدادت مشاكلنا وهمومنا، وصعبت لقمة عيشنا، وأمام مرض “الخرس” الذي أصابنا، لم يكتفوا بأن يتولانا “تيساً “في رقبته جرس، بل قادونا وتيسنا بعقل حمار ورأي بغل، والإثنان يأخذون أوامرهم من ذئاب الغابة وكلابها، تخيل حماراً يقود المرعى كله. وسكتنا أيضاً ولم ننبس ببنت شفة، ومنذ ذلك التاريخ أصبحنا “قطيعاً”، نعم “قطيع” بالمعنى الحرفي للكلمة، نردد كالببغاء ما يقوله “تيسنا”، و”ننهق” مثل “حمارنا” القائد لإرضائه، ونهتف بإسمه أحياناً لنرضيه ونرضي “تيسنا”، وكنا نصفق أو “نسحج” كلما رأينا صور هؤلاء القادة “العظام”، وندعوا لهم في صلواتنا ومعابدنا، وكلما علا صوت “المسحجين” أكثر كلما علفونا بالبرسيم أكثر. وهذا الحال ليس في مرعانا وحده، بل في كل المراعي المجاورة أيضاً من خيول وغزلان وظباء وأبقار وإبل، وحتى في مراعي الحمير البعيدة… بإختصار يعني ارتضينا أن نكون “خُرسٌ بكمٌ صمٌ”، أو كما قلت لك سابقاً…بهــــــــــــــــــــــــــــــــــائم ، بالضبط بهائم في قطيع أخرس عاجز .

سعل “الكبش الهرم”، فأسرع بسحبةٍ من سيجارة الهيشي وكأنه يسرع في شرب جرعة دواء، تاركاً الدخان يتسرب مع أنفاسه الهادئة من فمه وفتحتي أنفه، وأكمل متابعاً:

ـ والمأثور الشعبي لم يترك شيئاً إلا وقاله، ونحن أعمى الله بصرنا وبصيرتنا عن رؤيةالأشياء وحقائقها، بل تعامينا نحن عنها، إرتضينا المشي تحت راية “الإستغباء” و”الإستحمار،” و”الله” لا علاقة له بما أصابنا، وليس من الحكمة بشيء تعليق خيباتنا على شماعة “القدر”، فنحن خير من يعلم بالمأثور الموروث عن أجدادنا وحكمتهم، “رافق السبع ولو أكلك ولا ترافق الخسيس ولو حملك”، ونحن لم نرافق الإخسّاء فقط، بل سلمناهم رقابنا، وليّناهم علينا وأعطيناهم زمام القيادة، حتي إذا جاؤونا بعقول الحمير وآراء البغال ودسوها لنا بين حبات الشعير، إبتلعناها حتى دون أن “نلوكها” بأسنانا ونهضمها، ودون أن نلحظ طعم “الإستحمار والبغلنة والإستغباء” فيها، ولولا رأفة الله بنا لأصبحنا أغناماً بعقول حمير، أتتخيل مثل هذا الأمر!!!

كان الكبش منسجماً في الحديث، يتحدث سانداً سيجارته على طرف منفضة، ويلف ثانية على عادته عندما يُسهب في الحديث، وتابع أمام صمت “حفيده” الحمل:

ـ صحيح يابني أن السكوت أحياناً من ذهب، لكن الصحيح أيضاً أن الصمت ذُلٌ، وقلة الكلام في وقته عار، يصير السكوت قبراً منتناً قذراً في غير وقته، ويصبح مجرماً ملعوناً بائساً مجنونا، والكلام  الذي يجزع ويجبن ويخاف وجب صلبه وقتله، تطلق النار على رأسه في ميدان عام، ونحن صمتنا من جديد، و قبلنا حتى بحراسة الكلاب، بدلاً من أن نحرس أنفسنا بأنفسنا، أتتخيل ذلك؟!!! وقبلنا كلام السفهاء منا “أن القطيع بلا كلاب تهاجمه الذئاب”، ونسينا أو تناسينا المأثور الفائل أن “خير الغنم قطيع ومن يبتعد عنه يندثر”، تناسينا أن وحدتنا هي أكثر أمناً لنا، أكثر جدوى من حراسة أيٍ كان والكلاب على وجه التحديد، لا أستطيع أن أتصور أنهم أقنعونا بأن حمايتنا من الذئاب لا تكون إلّا بالكلاب، ونحن نعرف جيداً أن الكلب هو الصورة الأكثر نذالة من الذئب، أو هو الذئب في حالةِ نذالةٍ وخسةٍ وإنحطاط، كونه تنازل عن أصله وخلع جلده وفرط بحريته مقابل حفنة من طعام، والنذل مهما كبر وعلا شأنه يظل نذلاً، لا يؤمن جانبه. وظلوا يرددون فوق رؤوسنا ” بوس الكلب من فمه لتأخذ غرضك منه”، ليجعلوا منا ثلة ساقطة مهزومة من المتملقين العاجزين الذليلين، وليُسيِّدوا الكلاب على معشر الأغنام، فما بالك عندما يتجمع حولك الذئاب المتحالفين مع الكلاب، مضافاً إليهم قبيلة الضباع النتنة؟!!! هذا التجمع العنصري النتن، الذي يرى نفسه  فوق قبائل الغابة جميعها، ويدّعون أنهم الأقوى والأذكى والأصفى دماً وأنقى، وبمرر إمتلاك القوة ينهشون لحمنا،  وكأن نهش لحمنا جزء من حقوقهم؟!!! وإن دافعت عن نفسك حتى لو بحوافرك فقط، تُدينك معظم أنياب الغابة ومخالبها، وتستهجن أفعالك الأنذال من الحمير والبغال وقبيلة “بني بعير” “طال عمرها”، ويوبخونك ويكسرون “سهامك” ويستنكرون أفعالك ويعادونك ويعادون مَنْ يقف معك!!! وكل هذا يابني ناتج عن تفريطنا بوحدتنا، وبسبب صمتنا وسكوتنا المذل، كوننا استجلبنا “الإستحمار” لمراعينا وارتضينا “الإستغباء” لأغنامنا، وعلا ثغاؤنا ورغاؤنا شاكرين كلما كانوا يعلفوننا، أو كلما كانوا يرشّون شيئاً من حليب أبقارهم فوق شعيرنا، ساحبين مراعينا من تحت أقدامنا، ونحن لم نفكر بضرورة إمتلاك القوة.

أشعل سيجارته الجديدة من سابقتها ناسياً أن يطفئ الأولى، حيث ظلت تأكل نفسها بنفسها على طرف المنفضة.قال بعد قليل من الصمت الثقيل الذي غلّف المكان، وبعد أن رأى الحمل ينظر في وجهه مثل الأبله:

ـ مالك تنظر إليَّ مستغرباً هكذا ؟ ألا ترى ما يمتلك ذكورنا من قرون؟ أم أنها للزينة فقط؟ ألا ترى كيف “يتجاحش” ذكورنا متناطحين، أم أن هذه الرؤوس لإغراء الإناث فقط؟ لماذا لم نحاول أن نسن حوافرنا ونُمَضّيها؟لماذا لم نترك لأنيابنا حرية النمو؟ وإن كان ذلك صعباً فلماذا لم نسعَ لإمتلاك السلاح؟ كان يمكننا مبادلته بالغذاء، بصوف أبداننا، بفرائنا، بحليب حملاننا وجدياننا… لكننا لم نفعل، أو كي أكون صادقاً لم يفعل سوى القليل منا ذلك…             من جديد، يتوقف قليلاً عن الحديث، وكأنه متأكد أن أحداً لن يقاطعه، يسحب نفساً عميقاً من سيجارته، ويقول:

ـ قال أجدادنا: ” إجلس حيث يؤخذ بيدك وتُبَرْ وليس حيث يؤخذ برجلك وتُجَرْ”، ونحن إرتضينا الأمر الثاني، أن نُجر من أرجلنا معتقدين أن الراحة تكمن في الركوع، متناسين تماما أنك “إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”.

وبعد فترة سكوت جديدة إعتقد الحمل أن جده “الكبش” لن يضيف شيئاً على ما قاله، قال الحَمَل:

ـ لقد حدثتني أمي ياجدي “الكبش”، أننا كنا في مراعي واسعة ممتدة خضراء، كنا نصول ونجول ونرعى ونلعب، كنا نبذر ونزرع ونحصد ونتبادل السلع ونبيع ونشتري، كنا قوة يحسب الآخرون لها حسابات…

ـ نعم يا بني، هذا قبل أن نمتهن الصمت ويقودنا “التيوس” ونلغي عقولنا ونهمل قروننا، كانت مراعينا كبيرة واسعة شاسعة ممتدة، وكانت متداخلة مع مراعي الجيران كلهم، ورغم وضوح الحدود إلا أننا كنا نرعى في مزارع بعضنا البعض، كنا نتسامر ونتزاور ونتكاثف ونتساعد نحن وحيوانات المنطقة كلها، وكنا نتزاوج ونتصاهر مع أغنام المراعي المجاورة، كما كنا نقوم ب”الفزعات”، تساعد عوائلنا عوائلهم، وهم كذلك، في مواسم الحصاد، وفي “مذراة” القمح والشعير، في الأفراح والأتراح، في الأعراس والليالي الملاح، وكانت أهازيجنا واحدة وأغانبنا واحدة وحياتنا متشابهة وعاداتنا واحدة، وكانت آلامنا واحدة وآمالنا كذلك، نشعر ببعضنا ونتألم بآلام بعضنا وما زلنا، وحتى بعد أن حظروا علينا التحرك من مرعى الى آخر، قيدوا حركتنا بالحواجز والحراسة والأسلاك والألغام، وتحولت مراعينا سجوناً مغلقة بالأسلاك الشائكة والجدران.                                                                                  كما أننا لم نكن مدركين لما يقوم به قادتنا كلهم من حمير وبغال وتيوس، ولا كنا نعلم شيئاً عن لقاءاتهم واجتماعاتهم السرية مع الكلاب والذئاب والضباع، لأنهم كانوا يُسمعوننا ما نريد أن نسمع، ويُروننا ما نريد أن نرى…  ولمّا قدموا لنا بعض “الأعلاف” تعامت قيادتنا عن أفعالهم، فخلدنا إلى الراحة، واستطيبنا الكسل، الكسل في العمل والتفكير، ولم تدرك تلك القيادة أن “رُبَ نعلٍ أشرُ من الحفا”، فلبَّسونا نعلهم مقابل فرائنا وحليبنا ومياهنا ومراعينا، ولنكتشف أن نعلهم ليس من قياس حوافرنا، وأننا إن أردنا لبسه فعلاً، فعلينا أن نُفصِّل حوافرنا على مقاسه وليس العكس ، وهكذا صرنا كمن لم يتمتع بدنياه ولم يكسب آخرته.

كان الكبش العجوز يتذكر كل ذلك ويكاد يذرف عينيه دموعاً على ما كان، لكنه كان يدرك أيضا أن تلك الدموع لن تحل له لغز المسأله، بل ستُرْبِك الحمل الوديع الذي أمامه جالساً محاولاً تشرّب التاريخ، فقال “الكبش الكبير” برغاءٍ حزين:

ـ مـــــــــــــــــــــــــــــــاء، ناولني عكازة يدي يابني…

قفز الحمل قفزات قليلة، وأحضر عكازة جده راداً بثغاءٍ طفولي مرتبك:

ـ مـــــــــــــــــــــــــــاء، تفضل يا جدي….

فقام “الجد الكبش” من مكانه، مستنداً على عكازته ورقبة حفيده الحمل، وقال:

ـ هيا لنتمشى قليلا يابني….

2                                                                     خرجا، تمشيا في المرعى قليلاً باتجاه الجنوب، وسرعان ما أوقفتهم أسلاكاً شائكة مكهربة لاسعة، تمنع أي كان من التقدم خطوة واحدة أخرى، وعندما نظر الحمل خلف الأسلاك الشائكة وجد قطيع ماعز آخر يرعى هناك، وقبل أن يسأل قال له جده:

ـ أولئك أقاربنا يابني، لقد فصلونا عن بعضنا البعض، كانت مراعينا واحدة قبل زرع قبائل الكلاب والذئاب في وسط مراعينا، تحت رقابة الضباع الجدد، إنهم يحاولون تقسيم معشر الأغنام الى قبائل وعشائر متفرقة مشتتة، فإن لم يستطيعوا تمزيقنا واقتطاع مراعينا والتفريق بين قلوبنا، فهم على كل حال يضعفوننا، وفي كلتا الحالتين هم المستفيدون.

كانت الذئاب والكلاب تتقافز على الأسلاك الشائكة في محاولة لقتل الحمل والتهام لحمه، أمام أعين الجميع، وادعاء أنه حاول تخطي الأسلاك الشائكة دون إذن أو تصريح، أو بإدعاء أنه كان يحمل “قروناً” كبيرة مسنونة حادةً، أو رؤوساً مكتملة خطرة، أو حتى يحمل بين أظافره سكيناً أو بلطة أو حتى سيفاً طويلاً، لكن الكبش الجد سحبه من المكان وأخفاه، ويبدوا أن كثرة المصورين والصحافيين المتواجدين صدفة في المكان حرموهم من هذه المتعة. وأكمل “الكبش الجد” قائلاً:

ـ أقاربنا هؤلاء أدركوا الفكرة أكثر منا، فهموا اللعبة، لقد بدأوا بسن قرونهم باكراً، ولم يرتضوا الإستماع الى رأي  التيوس من القادة ولا الحمير، المدعومين من قبيلة “بني بعير”، وإن كان بعضهم ما زال يغازلهم ويتزاور معهم، لكنهم بنوا علاقات مع الخيول أيضاً، تعلموا منهم أسباب القوة، وأخذوا عنهم طريقة صناعة المقاليع، لذلك كما ترى تقف الكلاب والذئاب والضباع على أبوابهم دون أن تجرؤ على الإقتراب منهم، لكنهم يقسموننا إمعاناً في ضعفنا، وكي لا ننقل تجاربهم يعزلوننا عنهم ويعزلونهم عنا، ويوظفون كل حمير وأبغال المراعي وإبلها لمحاربتهم في الخفاء، كما الكلاب والذئاب في العلن.

استدارا وعادا نحو الشمال، سارا قليلاً حتى تكرر المشهد أمام عيونهم، ثم مع بقية الإتجاهات كان الأمر نفسه، وشاهد الحمل الصغير كيف تفصل بين جنسه الأسلاك الشائكة والكلاب والذئاب،  تحت مراقبة الضباع الجدد من على “برج” مرتفع”، وأمام أعينهم تم قنص “جِدْيٍ” لم يبعد عنهما سوى أمتار بحجة أنه حاول طعن كلب بقرنيه، وكيف ألقوا بقربه قرناً مسنوناً ليثبتوا إدعاءهم قبل أن ينهشوا لحمه ويوزعونه بينهم، حين أدار “ضبع” البرج وجهه مدعياً أنه لم يرَ عملية القنص التي تمت بدم بارد.                                                                              وكان المغدور جدياً مراهقاً غضاً يتقافز لاعباً على الحشائش الطرية في المرعى الذي أضحى مزرعة صغيرة تملؤها الدماء، وسرعان ما تجمع الخراف والكباش والجداء والحملان والشياه والنعاج، وحملوا الجدي على أكتافهم وداروا به المرعى مرات ، وهتفوا بإسمه وأسموه “شهيدا”، ورغم أن الحمل كان قد سمع بهذ الكلمة مرات ومرات ، إلا أنه لم يعرف ماذا تعني بالضبط، لكنه كان يعرف في قرارة نفسه أنها تعني شيئاً عظيماً كبيراً، لا يحصل عليه إلا العظماء، وأنه وإن أصاب أحداً مهما كان صغيرا في مقامه أو حجمه أو صفاته، فإنه سرعان ما يكبر به ويصعد، ويحوله الى مقام آخر له قدسية نادرة، لا تتوافر بأي شيء مهما علا شأنه.

كانوا قد عادوا من بيت العزاء عندما كانت الغربان تملأ السماء، الأمر الذي لفت إنتباه الحمل:                           ـ ما الذي يجري أيها الجد؟ اهذا بسبب الجدي الشهيد؟                                                                     نظر جده إلى السماء وكأنه يراها للمرة الأولى، أو كأنه تفاجأ برؤيتها، وقال:

ـ عادة ما تراها في المصائب، خاصة عندما تكون بهذه الأعداد، قبل المصيبة أو أثناؤها أو بعدها، وكانت قبل أن يمتلك أخوتنا الخيول في الشمال سيوفاً ورماحاً ومقاليعا ومنجنيق، كانت تغير عليهم بشكل يومي، تلقي من مناقيرها الموت بصنوفه المختلفة، وتعود دون رادع ولا حساب من أحد، وعندما رأت الخيول ذلك قررت أن تمتلك ما يردع هذه الطيور وكلابها وذئابها ومن يقف خلفها مشجعاً من الضباع، وهكذا فعلت، فأمضت حوافرها، وسنّت سيوفها ورماحها، وبكل سرية عملت على اقتناء كل ما استطاعت من وسائل القوة، وصارت كلما اعتدى عليها الكلاب وحلفاؤهم، كلما ردت عليهم الصاع صاعين بنيران مقاليعها ومنجنيقها، وعندما شعرت الكلاب وحلفاؤها بلسعة نيران المنجنيق أخذت تتراجع رويدا رويداً، وكلما ازداد تراجعهم كلما أدركت الخيول أنه “لا يفل الحديد غير الحديد”، وأنه لا يمكن مواجهة “الكيلو إلا بكيلو ونصف”، فظلوا يمتلكون المنجنيقات ويزيدون أعدادها ويطورونها، ونقلوا أسرارها لإخوتنا في الجنوب حتى صارت الكلاب والذئاب والضباع تحسب لهما شمالاً وجنوبال ألف حساب. فسأل الحَمَل مُستغرباً:                                                                                                            ـ ألم يتعلم “التيوس والحمير والبغال” وقيادة “بني بعير” من تجربة الشمال والجنوب؟                                    ضحك الكبش الجد حتى كاد أن يقع على ظهره، وقال:                                                                       ـ أتمزح يابني؟! التيوس والحمير والبغال تتعلم؟                                                                                  فقال الحمل سائلاً من جديد:                                                                                                       ـ ولا قبائل بني بعير؟                                                                                                               فقال الكبش الجد بعد أن توقف عن الضحك:                                                                                   ـ وهل اعتقدت أن بين عقولهم فرقاً؟ إن قبيلة “بني بعير” هي من هيأتهم للخنوع، وهي من استدخلت الإستحمار والإستغباء والبغلنة إلى عموم المنطقة، وهذه القبيلة بالذات تملؤها عقول الحمير وآراء البغال، وأهم ما يميزها الغدر والنفاق والذل والهوان، إنهم “أعراب” الحيوانات بكل بساطة واختصار يابني…

سكت “الكبش الجد” قليلاً وكأنه ليأخذ نفساً من الهواء يطرد بأكسجينه ثاني أكسيد الكربون المتراكم على جدران رئتيه من جراء دخان سجائره المتتالي، وتابع كلامه بحسم وثقة:

ـ ما يميز تجربة أهلنا في الشمال والجنوب يابني، أنهم رفضوا الإستماع لآراء الحمير والبغال مهما “زوّقوها” وجمّلوها، كما أنهم فهموا ألاعيب ومؤامرات “بني بعير”، ورفضوا أن يتولى أمرهم تيساً أو بغلاً هجيناً والده حمار، بل ولّوا أمرهم حصاناً عربياً أصيلاً شامخاً، ذو عزة وشهامة وكرامة وإباء.

فقال الحمل الصغير بعد أن استهوته فكرة المقاليع والمنجنيق:

ـ إنها فكرة منطقية ياجدي، لماذا لم نفكر نحن أيضا بذلك؟

فقال “الجد الكبش” شارحاً موضحاً:

ـ لقد فعلنا، وكنا نمتلك شيئاً من القوة يابني، لكن ما ميز قبيلة الخيول عنا أيضاً، أنهم لم يُبدلوا مبادئهم بشيء، ولم تُغرهم “مخالي” القمح ولا حليب النوق المغشوشة، مدركين أن سنابل القمح والشعير تلك ما هي إلا سنابل مفخخة ستتفجر في وجوههم، وأن حليب النوق والأبقار مسموماً وسيقتلهم واطفالهم، أما نحن فسلمنا رقابنا إلى “تيوس” العشيرة، الذين كانوا قد تخلّوا عن المبادئ والمراعي والسلاح، وقدموها للأعداء بعد أن لبسوا لباس الذل والمهانة، فتقسيمت المراعي وتقسيمنا نحن معشر الأغنام وسُلبت كل خيراتنا، ولم نظل “أغناماً موحدين” بل صرنا معيزاً وخرافاً، وصنفونا ألواناً وأجناساً، وقسمونا مؤمنين وملحدين ومؤلفة قلوبهم.

تمشيا أكثر دون كلام، وكان تحت شجرة زيتون بضع خراف وكباش جالسين، تشاركهن الشياه والنعاج، وحواليهم الجداء والحملان تتقافز لاعبة بهدوء، كي لا تثير الآباء والجدود عليهم ، فهذا الجو المعبئ بغيوم  الغضب جراء استشهاد الجدي الشهيد، يعرفون عواقبه جيداً حتى وإن كانوا لا يستطيعون فهمه تماماً بحكم صغر سنهم.

توجها مباشرة إليهم، خاصة بعد أن رأى “الكبش الجد” أحد أصدقائه الكباش يتوسط الجميع متحدثاً، لاعباً بشواربه كعادته التي لم يستطع تركها بعد.                                                                                                                                                           3

ـ السلام عليكم…

قال “الكبش الجد” وقد إزدادت قائمته الأمامية تمسكاً برقبة الحمل الصغير، حين رد عليه صديقه واقفاً على قائمتيه الخلفيتين مُرحّباً:

ـ وعليكما السلام، ياهلا… تفضلا …

فقال الكبش الجد معتذراً عن قدومه المفاجئ:

ـ أنا أعتذر يا “أبا الجديان” عن قدومي بهذه الطريقة، لكنني ما أن رأيتكم حتى فكرت بالتسليم عليكم والإطمئنان  …

فقال “أبو الجديان”، الذي اكتسب لقبه هذا بسبب كثرة أبنائه الجداء على بناته النعاج:

ـ أنت تُشرف في أي وقت.

وأمسكه من أماميته وعكازته وأجلسهما في صدر المكان، وأكمل حديثه بعد أن رحب بهما، وقدم لهما كوبين من الحليب الذي حَلبه لتوه من إحدى الشياه، وأكمل حديثه الذي قطعه وكأنه لا يريد أن يقطع مجراه بهذه الطريقة دون إكماله:

ـ كنت أقول أن هؤلاء القوم يعتبرون أن ما في أيديهم هو لهم، ليس من حق أحد المطالبة به أو بشيء منه، أما ما في أيدي الآخرين فيمكن التفاوض عليه وأن لهم به حصة، كونهم يعتقدون أنهم الأقرب الى الله، بل إن الله اصطفاهم عن الحيوانات جميعاً… وأنه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم من أمم الحيوانات جميعاً، وأن الله لم يخلق الحيوانات الأخرى إلّا لتنفذ رغائبهم وتكون في خدمتهم.

فقال أحد المسنين من الكباش والمدعو بأبي التوائم، كون كل “خلفنه” من التوائم:

ـ لذلك سلبونا مراعينا وقتلوا خرافنا وجداءنا، ورحّلوا وهجّروا عوائلنا، بالنسبة لهم كل دم ما عدا دمهم هو دم مستباح، دم يمكن سكبه على الأرض والتضحية به، فما بالك إذا كان ذلك يخدم مشروعهم ومصالحهم المتشابكة مع مصالح الضباع الجدد؟!!!

وسرعان ما سأل أحد الجداء مستفسراً:

ـ لماذا تُسميهم الجدد ياجدي؟

ـ كونهم غير قبيلة الضباع القديمة، ورغم أنها ورثت سابقتها، إلّا أن أسنانها أكثر حدة ومخالبها أكثر طولاً وعضلاتها أكثر قوه، وهي أكثر شراهة من سابقتها أيضاً.

قال “أبو الجديان” في محاولةٍ للتفسير، حين قالت إحدى النعاج لأمها راجية:

ـ رجاء يا أمي قصي علينا قصة” الحمار والحمّار”.

ورغم أن معظم الكبار يعرفون القصة إلّا أنهم كانوا يحبون سماعها من تلك الشاة على وجه التحديد، والتي تمتاز بقصصها الهادفة، فأسموها الشاة “أم المعاني”، وأمام هز رؤوس معشر الأغنام المتحولقين تحت شجرة الزيتون، وتأكيدهم على مطلب الجدي الصغير، وصوت “أبو الجديان” الباسم الذي جاء مؤكداً:

ـ هات بعضاً من معانيك يا “أم المعاني”:

ابتدأت “أم المعاني” تقص عليهم قصتها الممتلئة بالمعاني، وعيون الحمل الصغير متعلقة بها ومتابعة لكلماتها، أكثر من عيون الجمع كله، قالت:

ـ قال الراوي، أن الله خلق في قديم الزمان الحيوانات بمواصفات تختلف عما هي عليه الآن، وكان قد خلق بجانب معشر الحيوانات معشر البشر، وكان البشر يتحدثون بألسنة عديدة ومختلفة كما هو حال الحيوانات اليوم تماماً، وكان ما يميز الحيوانات على البشر ، أنها كانت تستطيع التنكر بأي هيئة أو شكل على عكس قبائل البشر وعشائرها وألوانها المختلفة، الذين لم تكن لهم مثل هذه الميزة، وكانت الحمير، “سبحان مغير الأحوال”، في خدمة الحيوانات والبشر، ولم تكن لها أي ميزة من ميّزات القيادة كما هي عليه الآن، فكانت تشيل أحمالهم وتجر سككهم لحرث الأرض، وتحملهم من مكان الى آخر، مقابل “مخلاة”من الشعير في آخر النهار، دون تأفف أو إعتراض من أي حمار، وأضاف الراوي أنه وفي يوم عاصف ماطر، كان هناك إنسان من بني البشر، يركب حماره لينقله من بلدة الى أخرى، فالفصل شتاء، والأمطار تغمر الأرض والبيوت والمراعي والحقول، والحمّار الذي فضَّل أن يسير بين الجبال ليختصر المسافة التي يُطيلها الطريق الآخر المعبد والأسهل والأيسر سيراً، وأثناء سيره زاد تكالب الغيوم في السماء، وحشدت قواها وتجمعت، وسرعان ما أطلقت العنان لأمطارها لتطرق الأرض وتدق أغصان الأشجار، وتطرق وجوه الصخور بطرقات قوية متراتبة بحبات متلألئة شفافة، فتتطاير المياه مرتدة الى الأعلى ناثرة ذرات قطراتها في اتجاهات عدة، وفي الوقت الذي كان الحمار يسير متثاقلاً في الطريق الصعب، فإذا برجل كهل مسن يُلوّح بصعوبة بيده، راجياً متوسلاً الرجل الحمّار، بأن يساعده ويحمله معه الى حيث يذهب، حيث الإتجاه واحد، وهو ذاهب في نفس الإتجاه. ولما رأى الحمّار الرجل المبتل حتى العظم بمياه الأمطار، امتلأ قلبه حزناً وشفقة، وأمام عدم إحتجاج الحمار وسكوته، كان قد قرر مساعدة الرجل الكهل المبتل بمياه الأمطار، ولم يكن يعرف الحمّار أن هذا الرجل لم يكن سوى ذئب متخفي في هيئة رجل، وكان ذلك الذئب هو من نفس فصيلة الذئاب التي تنتهك مراعينا ولحومنا وتستغل فراءنا وجلودنا وحليبنا، بمساعدة الكلاب والضباع، وتحت أعين نفس قيادات التيوس وتحالفاتها التي تقودنا الآن.

ـ مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء…

قالت الشاة “أم المعاني” ثاغية كعادتها عندما يبدأ الغضب يسيطر على ملامحها، نتيجة تأثرها بأحداث القصص والحكايات التي تقولها، وبحثت عمّن يشعل لها سيجارتها التي وضعتها بين شفتيها منتظرة إشعالها، وتابعت بعد أن أشعلها لها “الجد الكبش” الذي كان قد جاورها عند جلوسه، وسحبت نفساً عميقة منها، وسكبت في فمها قليلاً من كوب الحليب المركون أمامها، متابعة:

ـ ساعد الحمّار الذئب الذي لبس لباس إنسانٍ ليصعد ظهر الحمار راكباً، ركبه أمامه وسارا…..

كان الوقت يمر صعباً ثقيلاً طويلاً في ذلك الطريق الحجري وتحت أمطار السماء، والحمار الذي ازداد الحمل فوق ظهره، تثاقلت خطواته وتباطأت، لكنه ظل على نفس الطريق يسير. أخذ الذئب المتخفي بزي رجل يتحدث مع الحمّار، يسأله عن بلدته، من أين جاء وماذا يشتغل وأين يذهب، والرجل الحمّار يجيب، وبعد مسافة من المسير قال”الذئب ـ الرجل”:

ـ “حمارك” تعب…

ورد عليه الرجل خجلاً:

ـ نعم لقد تعب، فالطريق صعب وطويل.

ومنعه خجله وأوقفته شفقته من التعليق أكثر على الأمر، خاصة وأن تعب الحمار ازداد عندما حمله فوق ظهر الحمار.

ومن جانب السلسلة الحجرية ثغت نعجة ظلت تصغي بإنتباه شديد:

ـ مــــــــــــــــــــــــــــــــــاء…

وأخذت تهز رأسها ميمنة وميسرة وكأنها تسمع القصة للمرة الأولى لكنها تعرف نتائجها…

وتابعت الشاة “أم المعاني” حكايتها من بين دخان سيجارتها المتدفق من بين أسنانها وفتحتي أنفها:

ـ وعاود “الذئب الرجل” يسأل الرجل عن عائلته وعدد أبنائه وبناته وأمه وأبيه، ومع زيادة تعب الحمار قال:

ـ لقد تعب “الحمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــار”، فهذا الطريق صعب ومبتل….

ثم عاد للحديث من جديد، متحدثاً كذباً عن نفسه مدعياً أنه يعمل مزارعاً في بلدة بعيدة، وأن هذه الأمطار سوف تساعده على أن يكون الموسم القادم من المواسم الناجحة، وسرعان ما قال:

ـ لقد تعب “حمارنــــــــــــــــــــــا” وتباطأت خطواته، مسكين حمارنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا هذا!!!

وأمام سكوت الرجل عن التعليق على ما قاله “الذئب الرجل”، وزيادة تعب الحمار وتثاقل رجليه عن المسير أكثر وأكثر، قال “الذئب الرجل” منتفضاً غاضباً:                                                                                        ـ خلاص، انتهينا، لم يعد الأمر يحتمل أكثر، ولم يعد للخجل مكان، وكما يقول المأثور الشعبي، ” من يخجل من عروسته ما بيجيب أولاد”، هيا إنزل عن “حمــــــــــــــــــــــــــــاري”….

وأطفأت سيجارتها في المنفضة التي ملأتها بقايا سجائر الآخرين، وحيث ابتدأت التعليقات من كل كهول معشر الماعز والخراف وثغاء الجداء والحملان الضاحكة المتساوقة مع الضحكات المتعبة الحزينة للشيوخ من معشر الأغنام، كانت هي قد أنهت قصتها، والغصة في بلعومها، وسرعان ما قالت وكأنها تريد أن تعطي نهاية لقصتها التي ظلت متأثرة بكلماتها كعادتها عندما تقص أي قصة أوحكاية من قصصها وحكاياتها:

ـ تماماً كما أنزلونا نحن عن مراعينا مدعين أنها مراعيهم، كوننا لم نفهم تاريخنا ومأثوراتنا، لم نفهم كيف نُترجم  مقولة”إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة”، وأن “الرأي قبل شجاعة الشجعان”، وأن الرأي دون حماية له يصبح وما تؤاخذونني مثل “الظراط عَ البلاط” لا يترك أثراً، والرأي السديد يأتي من القيادة الحكيمة، والشجاعة تحتاج الى إمتلاك القوة لتعززها وتحميها وتطورها، لهذا لمّا امتلكنا شيئاً من القوة لم نعرف كيف نستخدمها، ولم نضرب بها كما يجب، رغم مأثورنا الشعبي الذي يقول”إذا ضربت فألم فالملامة واحدة”، هذا لأن قيادتنا ظلت مرتهنة للآخرين، راكعة عند حوافرهم منتظرة “صدقاتهم”، متجاهلة أنها كلما اقتربت من “الشعير كلما ابتعدت عن المرعى”.       كما أننا لما ارتضينا نحن قبائل ومعشر الأغنام تسليم لحانا لل”تيوس” كنا أقرب للبهائم منا الى العزة والكرامة، ولهذا بالذات “نُتفت” لحانا ومُرغت تحت حوافر الحمير ، وها هي النتيجة ماثلة أمامنا، مراعينا محتلة ومقسمة، ونصف أغنامنا مهجرة في مراعي الله، ونصفنا المتبقي مُنتزعٌ من بيوته ومُهجّرٌ فيما تبقّى من أرضه ومراعيه، كما أن أنهارنا مسلوبة وتم تحويل مجاريها، وبحيراتنا جففوها، وبحارنا محرمة علينا وأعماقها منهوبة، وسماؤنا تملؤها غربانهم التي ترمي الموت فوقنا وفوق مراعي أهلنا ومحاصيلهم…   وبعد ذلك كله يأتون لنا “بسلام العظماء”، أما كيف ومن أين جاء هذا “السلام” فلا أحد يعرف، كيف يكون “للعظماء” عندما يكون بين “كلب وذئب محميين من الضباع” من جهة وبين “كبش”متعثر تائه، يسير على خطى حمير المنطقة وبغالها؟ وكيف يكون سلاماً عندما لا تعود المراعي والسماء والأنهار والبحار لأصحابها؟ وعندما لا تستطيع العودة طيورها المهاجره؟ فيكثر صائدوها وقاتلوها، وكما يقول المأثور الشعبي “عندما تقع العنز تكثر سكاكينها”، وكيف يكون سلاماً وهم يركبون رؤوس جبالنا ويزرع عائلاتهم ناك، بعدأن إنتزعونا منها بقوة المخالب والأنياب، وعن أي سلام نتحدث عندما نكون محرومين من أن نحفر بئراً يغطي عطشنا ويزيل عرقنا في آخر النهار؟.

حينئذٍ تدخل “أبو الجديان” قائلاً في نفس الإتجاه التي تكلمت به الشاة “أم المعاني” قائلاً:

ـ إنها النتيجة الطبيعيةعندما يكون هدفك جمع الثروة لتتقوى بها على أبناء جلدتك بدلاً من أعدائك، غير مدرك أن “بني بعير”لن تسقيك رشفة حليب واحدة لتقويك ما دامت  تعلم أن مشروعك هو هزيمة الكلاب والذئاب، وطرد الضباع من المراعي والغابة برمتها، كيف سيفعلون ذلك وهم موجودون بوجودهم، مستقوون فيهم وبهم، أي حمار يمكن أن يُصدق ذلك، فما بالك بكبش أوتيس؟ لذلك لم تكن ثروتهم التي وصلت لكباشنا وتيوسنا الحاكمة إلّا لتُذل به “أعزاء القوم” وتعطيه “لأنذال العصر” الذين بنوا القصور والفلل والبيوت الفارهة، وأصبحت رؤوسهم محنية من الذل والبؤس وثقل الأوزار.

فقال “الكبش الجد” مازحاً:

ـ يبدو أنك لن تتوب، إعتاد جسدك على سجون “أهل البيت”!!!

منوهاً إلى كثرة تردد “أبو الجديان” على السجون التي ورثتها قيادة الأغنام الجديدة، وأن كلماته هذه يمكن أن توصله من جديد إلى هناك…

وقال “جِدْيٌ” شاب من الطرف المقابل:

ـ يبدو أنه “خد تعود على اللطم”.

وقال “خروف” بعد أن اعتدل في جلسته، جالس على مؤخرته مستند على أماميتيه:

ـ تذارى الذئاب خلف الكلاب، ف”الخل أخو الخردل”… أو كما يقولون” شهاب الدين أظرط من أخيه”.

ظل الحديث متتابعاً، وظل شباب المرعى وشيوخه يتسامرون، وكان “الحَمَل” الصغير ملتصقاً ب”الكبش الجد”، وأذناه تتحركان نحو الكلمات المتتابعة من أفواه الجميع، وكأنه يريد ابتلاعها وليس سماعها فقط، ولم يمر طويل وقت حتى وصل الخروف الأسود.                                                                                                                                                        4

والخروف الأسود هو من نفس قبائل “بني غنم”، خروف في ريعان الشباب، يميزه لونه وجرأته ورجاحة عقله، كما دماثته وحسن أخلاقه، ومحاولات الإمساك به المتكررة الفاشلة من مغتصبي “المرعى”، لأكله أو لقتله أو للفتك به، كما بسجنه المتكرر من تحالف قيادة “التيوس” الجديدة في المرعى، المتحالفة مع الحمير والبغال في المنطقة، المنضويون جميعاً بمظلة الضباع الجدد، وهو خير من يعلم أن مناطق المرعى يميزها عبق التاريخ الغائر في أعماق الأرض  والجبال والسماوات والبحار، وتميزه بكثرة مرات سجنه واعتقاله من قيادة التيوس هذه،، قبل أن يتمرد ويتخفى عن الأنظار رغم صعوبة ذلك، فهو كما يقول عن نفسه بلونه هذا مثل “الثور الأبرق” ، الذي تلحظه عن بعد مسافات ومسافات، لكنه وبمساعدة معشر الأغنام جميعاً سَهُلَت حركته وازدادت حمايته، حتى أن الكثير من الخراف سبغوا فراءهم لتشبه لون فروته، في محاولات منهم لتغطية فرادته، كي تسهل عملية إخفاء أثره وتصعيب عمليات تعقبه.

ورغم لونه المختلف عن الخراف جميعاً، فقد كان لصوته وكلماته مفعول السحر بين الخراف والماعز، حيث تصيب الجرح كما وصفها أحد أشد الخراف تأثراً في المرج كله، وأن هذا الخروف رغم إختلاف لونه إلا أنه من الأشد تمسكاً بوحدة الأغنام، والأشد حكمة رغم صغر سنه، وهو من أكثر الأغنام إصابة في وصف الواقع ووضع إصبع حافره على الجرح، وهو من الأكثر تفانياً وعطاءً وشجاعة وإلغاءً للذات، ودفاعاً عن مصالح الأغنام جميعاً.

وما أن رآه خراف وجِداء وكبوش الأغنام حتى قاموا ملتفين حوله ، مشكلين له حماية بأجسادهم، ونصبوا عدة خيام متباعدة، فانتقل الى أحدها الجمع وتوزع آخرون على الخيام الأخرى، مموّهين الأمر كي تصعب عملية كشفه، كما توزعت في الحي كله لجان حراسة متخفية نشرت عيونها في الأنحاء كلها، ليراقبوا عملاء سلطة “التيوس” وتحالفاتهم.

قام جميع مَنْ في الخيمة وقبَّلوا الخروف الأسود واطمأنوا على صحته، وقبَّلته الشياه والنعاج واحتضنته الأغنام المتواجدة جميعاً، قبل أن يبدأ بالحديث وكأنه كان متواجداً أثناء الحديث من أوله، فقال:

ـ تعرفون أننا في الماضي القريب وليّنا أمرنا لمجموعة من “الكباش”، تفرد أحدهم بالمال والقرار وحكم الشعب وبجدائنا المقاتلة، وكونه كان قد لبس خوذة القتال وانتعل “بصطاراً” حربياً تمسكنا به، رغم أنه ظل يتخبط بنا ويدخلنا في متاهات لا يعلم بها الا الله، لأنه دلنا على كيفية سن قروننا، وكيفية تصليب عظم جماجمنا لتصبح صالحة لنطح الأعداء، وابتكرنا وتعلّمنا من كل كباش العالم وخرافه كما وخيوله الأصيلة، كيف نربي نيوبنا ونقويها ونكبرها، وكنا نرى الطريق الذي يوصلنا لمراعينا، وكنا نظن أنه كان يراه مثلنا ولم نكن نعلم أنه يريدنا أن نعتقد ذلك فقط، وتفاجأنا بأنه يجمع النقود كي يحكمنا بها، ويشتري كل الساقطين من “بني غنم” من خراف وماعز ويحيط نفسه بهم، وسرعان ما تخلى عن كل مبادئنا وآمالنا، ولم نكن نظن للحظة أنه لم تؤلمه آلامنا، وعند أحد أهم المنعطفات، تركنا نسبح في دمائنا ووقّع مع الضباع والذئاب والكلاب على التخلي عن مراعينا وتقسيمها وتفتيتها، ضارباً عرض الحائط بكل دمائنا التي ملأت الجبال والمراعي والحقول، وكان يراها بعينيه تسيل…

ولو فكرنا في الأمر قليلاً لأدركنا أن”كبشنا” ومهما علا شأنه فهو يظل كبشاً وليس إلهاً، وأن عقل كبشاً واحداً مهما كان لن يساوي بقدرته العقل الجمعي لكمٍ من الكباش، وأن تمركز القوة بأشكالها المختلفة بين أماميتين أيٍ كان، يصيبه بالغرور ومرض العظمة والألوهية الفارغة، وهذا ما أصاب كبشنا، وأحد أسباب ما وصلنا إليه.

سكت قليلاً ليعبئ رئتيه بالهواء، ثم تابع حديثه ملخصاً كل ما قاله الجميع في غيابه وكأنه استمع للحديث كله، أو كأنه يريد للجداء والحملان فهم التاريخ كما هو، دون تغيير أو تلفيق أو أكاذيب:

ـ كما أن الفاسدين الكذابين الطفيليين الذين التفوا حواليه وأسمعوه ما يريد سماعه، والذين أبعدهم العلف  والحياة الراغدة عن هموم الأغنام والمراعي، ما أن مات “الكبش” حتى زادوا من تحالفهم مع الكلاب والذئاب وبمباركة من الضباع الجدد، وعقدوا صفقةً معهم، وتوّجوا علينا “تيسا” هرماً مخصياً، لم يعرف في حياته شكل النطاح، ولا كيف يكسب معركة، ولم يرَ لا شكل الخوذة كما لم يلبس يوماً “بصطارا”، فمنع الجميع من تصليب عظام الجمجمة، وحرّم امتلاك القوة وحلّل اعتناق الضعف والذل والهوان، وأحاط نفسه ب”المسحجين” كما عاش طيلة حياته ” للتسحيج”، وجمّع “القمامات الغنمية” حواليه وأمسك بالعلف والشعير وكل عناصر الإذلال، كما بعناصر القوة جميعاً التي ورثها من سلفه، وبنى لنفسه القصور والقلاع ظاناً أنها يمكن أن تحجبه عن الأغنام فلا تراه، وغطى على فساد أبنائه وحاشيته وشجعها، وظل يركع للنوق والجمال، وسرعان ما نصر الفاسدين على بقية الأغنام ، ومكنهم من سرقة ما تبقى من المراعي وحبوب الغنم، وعمّق حلفه مع الضباع والذئاب والكلاب وقطعان الحمير والبغال، وأصبح وإياهم أولي الأمر علينا بحكم عناصر القوة التي بين يديه، المدعومة بأنياب الضباع والذئاب والكلاب، وظلّ يسير بتوجيهات الحمير والبغال و”قبيلة بني بعير”، بعد أن شرب حتى ارتوى من بول البعير كما يفعلون.

كما وعلينا الإعتراف بأن رأس “التيس” لم يساعده أكثر من رؤوس أسياده الحمير. فسرعان ما أطلق أوامره بالسجن والتعذيب والقتل لكل مخالف، ونشر تكنولوجيا التصوير والتسجيل والتجسس والرقابة على معشر الأغنام لتساعده في تحقيق هدفه، ووزع الفقر وغلاء الأسعار وزاد الضرائب والجهل والبطالة على الفقراء ، وأغرق حاشيته وزمرته بالفساد والإفساد والسرقة والتبعية والفئوية والإستخفاف بحيوات الغنم.   وسرعان ما أخذ جماعته يستوردون “خدّامات البيوت” لنسائهم من مرعى خضراء يسمونها “سريلنكا”، وبدأوا يستوردون الشياه والماعز الأجنبية، من الشقراء والشهباء والحمراء وحتى السمراء من مراعي الذئاب أو الضباع وحتى الكلاب، “لأن من لديه الحناء يحني طيز حمارته” وازدادت سرقاتهم ولا من يسأل أو يحاسب، وازداد ارتباطهم بالمال ومخالي الشعير وحليب الإبل، وكلما إقتربوا من المال أكثر كلما ابتعدوا عن الثورة أكثر وأكثر، وعندما عبدوا المال كفروا بالثورة، ولما رأى بهائم “بنو بعير” “طال عمرهم” الأمر كذلك، أغرقوهم بالمال حد الإختناق، فكما يقول المأثور الشعبي”مَنْ تعرف ديّته أقتله”، وهم عرفوا ديّة “تيسنا” وحاشيته جميعها.

واتبع “تيسنا” وحاشيته حاسة الشم المفسدة، فقادتهم لإتباع آراء وسلوك الحمير والبغال وقبيلة “بني بعير” فأدمنوا مثلهم شرب بول البعير، وصاروا أعداء شعب المراعي جميعه الذي حولوه الى “قطيع”، نعم قطيع فقير جائع، ونشروا الذل والخنوع والمهانة، حتى أن بعض الخراف خلعوا “ليّاتهم” وارتضوا بالأذناب بديلاً، تخيلوا… في بلادنا خراف تبدل ليّاتها بأذناب!!! يا لمهازل القدر.                                                                             ثم صاروا يقومون بكل “الموبيقات” قي السر محاولين إخفائها عن أعين الغنم، وقي الوقت ذاته يفقرونه ويسجنوه ويقتلوه سراً ويتعامون ويتغاضون عن موته، فصارت الأغنام لا تسمع بموبيقاتهم كما اعتادت قتل وسجن أبنائها، فانطبق عليهم المأثور الشعبي القائل:” أمران لا تراهما العين، تعاريص الغني وموت الفقير” .

قام أحد الخراف الذي كان قد صبغ فروته خارجاً ليموه وجود الخروف الأسود، والإيهام بأن من في الخيمة ليس هو الخروف الأسود المطلوب لسلطة التيس وحاشيته، بل خروف آخر غير مطلوب، وتابع الخروف الأسود حديثه:

ـ وعقدت قيادة “التيوس” التحالفات والإتفاقات مع الضباع والذئاب والكلاب، وابتدأت بالتضحية بنا نحن الخراف والماعز، بالذبح أو بالسجن أو حتى القتل في وسط الطريق، وصاروا أحرص من مُوَظِّفيهم على أن لا نمتلك القرون، وصار من يُضبط بحمل قرنيه أو يربيهما أو حتى حيازتهما في بيته أو جيبه، يعاقب ويعذب ويوضع في غياهب السجون، وإن تخفى عن عيونهم أحد طلبوا المساعدة والعون من مُوَظِّفيهم، وفي كل الحالات يُنفذون ما يُؤمَرون به، وهكذا صاروا يعيشون حياة ملوك الإبل والحمير والبغال، وصار رجالهم يلبسون الملابس القصيرة ويضعون النظارات غامقة اللون، فصاروا يمتهنون مهنة الرقابة والتجسس على الأغنام، كما ويذهبون للحجيج والزيارات والسهر في بارات الذئاب والكلاب والضباع ومطاعمهم ومسابحهم ومراعيهم، وأخذوا يعتادون الصيد والقتل وحتى “أكل اللحوم”، ويبدو أنهم استطابوا اللحم فازدادوا تعلقاً به، وانصرفوا على استهلاك لحم قبيلتهم أكثر، فازدادوا لجدائنا وحملاننا صيدا وأكلاً.                                                                                           لذا علينا التمرد والرفض والمواجهة، وأن نرفض تسليم الذات، حتى لو عشنا حيواتنا في مُغر الجبال وتحت سلاسل حجارتها وأشجار زيتونها.

وتابع  الخروف الأسودبعد لحظات صمت القول:

ـ ثم علّموا أولادهم السباحة والسرقة وصيد الخراف وسجن الماعز، مستفيدين من حماية تحالفاتهم الجديدة وشعير قيادة حلفاء الغابة ومراعيها ، وصاروا يلبسون الأحذية الجلدية المصنوعة من أجساد الغنم ويغرسون أسنانهم  بلحمه، حيث تحولوا تدريجياً الى “كلاب” أو “ذئاب” بملابس الخراف، وصاروا يسهرون الليل ويشربون الخمر وبول البعير وماء الشعير، وصاروا يحاولون إقناعنا بغير ما نعرف في محاولة لتزوير تاريخنا، فقالوا أن “الدولة المستحدثة” هي جارة عزيزة، و”الجار القريب خير من الصديق البعيد”، وهل هناك أكثر قرباً من هذا الجار؟ كما أنها دولة “أفلاطون” الديمقراطية المتسامحة الحكيمة.

ـ كما حاولوا اقناعنا ان ما كنا نعرفه من أن الإمارة والملوكية هي للأسود أو النمور ما هي سوى خطأ شائع، وأنها من نصيب الحمير والبغال و”بني بعير”، وأن خير ما يفعله الخروف أن لا يتدخل فيما لا يعنيه، ويبتعد عن السياسة، وألّا يهتم بغير شؤونه الخاصة، لأن “كل نعجة معلقة من عرقوبها”، لذا لا يهمنك ما يحصل لجارك أو لقريبك أو حتى أخيك، وعليك إلغاء الأمثال الهدامة مثل” أكلت يوم أكل الثور الأبيض”، و”إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”، والتمسك بالأمثال الواقعية البناءة مثل” العين لا تناطح المخرز” و”حط راسك بين الرؤوس وقل يا قطّاع الرؤوس”و”دجاجة حفرت على رأسها عفرت”..

وصاروا وشيوخهم يملؤون معابدنا صراخاً وفتاوى بأن للصابرين الجنة، وأن الفقراء كلما ازدادوا جوعاً وخنوعاً ومذّلة كلما كبرت حصتهم منها، وأن ما نراه من غنى الفاسدبن ليس سوى إرادة الله، وأنهم كلما ازدادوا فسادا وفسقاً وفجوراً كلما إزدادت منزلتهم في النار خضوعاً، وأن خضوع الفقراء ضرورة لدخول الجنة واختبار من الله في ذات الوقت، وهي إن لم تكن بأمرٍ مباشرٍ منه فهي بإرادة كاملة، وأن من يحاول تغيير هذه الإرادة “بفعل أو قول أو تقرير “سيصلى ناراً ذات لهب”، ويصبح عدو الله ورسوله والمؤمنين، وينطبق عليه حكم الزنديق أو المرتد أو الكافر، ولن تقبل صلاته أو صيامه أو حجيجه، مالم يقدم فرض الطاعة لأولي الأمر في ممالك ومراعي الجيران وخاصة مملكة “آل بعير”، لأن الله خلقنا بعضنا فوق بعض طبقات. وأن علينا القبول بتحالفات “تيوسنا” مع ممالك الذئاب والضباع والكلاب، وأن ننفذ سياساتها على قاعدة “نفذ ولا تناقش”، وأن نؤمن بالتفسير الصحيح لدين الله وتعاليمه الصحيحة المستوردة من أفكار “بني بعير”، التي تُميز بين الألوان والأجناس والذكور والإناث، وأن نقاتل لإعلاء كلمة الحق في شتى المراعي والمزارع والغابات، بتوجيهات البعير الكبير و “المملكة الجارة المستحدثة”.

سكت الخروف الأسود قليلاً وابتسم مظهراً أسناناً ناصعة البياض، وسرعان ما علت ضحكاته من خلال رُغاء مجلجل عال، وكأنه يقول للمتحولقين “انظروا كيف يريدون “استغباءنا”، وتابع من بين ضحكاته:

ـ مــــــــــــــاء مــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء، وتؤكد لنا قيادات “بني بعير” المتحالفة مع قيادتنا من “التيوس” أن دين الله يوجب علينا قتال من خالفنا الرأي أو الطول أو العرض أو اللون او الطعم أو الرائحة، او الفكر أو الجنس أو اللبس أو الذوق، وأنه محرم علينا أن نتوقف عن قتالهم شرط أن لا نفنيهم، كي يبقى لدينا مَنْ نقاتله، ويظل لدى حلفاؤنا مَنْ يدعمون ولمن يبيعون السلاح، وأن تظل راية القتال مرفوعة الى يوم الدين. وأن نجعل كل لون أو جنس أو فئة في دولة، وأن نظل رافعين لواء الجهاد، لأن الصلح في غير مكانه حرام، ووقف القتال في غير زمانه حرام، ووقف المجازر في غير مستحقيها حرام ثم حرام ثم حرام، وهذا لا ينطبق على الدولة “المستحدثة الصغيرة “التي وجدت لها بضع مراعي وأراضي في منطقة الخراف والماعز….

حركة مريبة تجري خارج الخيمة، يأتي خروف من الذين صبغوا فراءهم ، يشير البعض للخروف الأسود أن يتبعه، بعد أن لاحظوا أن “خراف التيس” وجواسيسه يحاولون الأمساك بالخروف الأسود، ويكون الخروف الأسود قد استمع لتعليمات “الأغنام الرافضة للخضوع” كما انتشر اسمهم في المرعى جميعه، ويختفي من المكان كله، عندما يداهم “خراف التيس” وجواسيسه المكان ولم يجدوه أو يجدوا أحداً من المطلوبين، فيحاولون احتجاز أحد أقاربه، كي يجبروه على تسليم نفسه.                                                                                                                                                             5                                                                      لكن “الكبش الجد” كان قد وقف في وسط الخيمة، مقابلاً الخروف المسؤول من “خراف التيس”، الذي ما زال يتذكره جيداً، ينظر مباشرة في عينيه، ويقول:

ـ ألا تتذكرني أيها الأهوج الوقح؟

فقال الكبش الضابط محتجاً ومختالاً في الوقت نفسه:

ـ انني كبشاً لا أهوجاً ولا وقحاً، بل مناضلاً يعرفني الجميع.

فقال الكبش الجد ناظراً مباشرة في عينيه :

ـ هذا تقوله لغيري، أتذكر دموعك المذروفة على صدري عندما أحضرك الكلاب والذئاب للتحقيق قبل أن تصبح من خراف التيس، بل قبل أن يقودنا التيس بسنين، ولم تصمد حينها حتى لساعات؟ وأراك الآن تقود وتعتقل فارداً صدرك، وربما تقول في نفسك،”إهتزي ياأرضي ما عليكي قدي”؟  لكن ماذا سأقول لك، قويتَ لمّا تفرقنا نحن الأغنام، وكما يقول المثل “إذا تفرقت الأغنام قادتها الغنمة الجرباء”، ونحن يقودنا “تيس مخصي هرم أجرب هزيل ذليل”، وإلا لما كان يرضى بأن يلتف حوله من هم من أمثالك، لكن ماذا سنفعل “والطيور على أشكالها تقع”؟…

كان الكبش الجد قد أخذ يطيل الوقت حتى يختفي الخروف الأسود، والضابط الذي ارتبك أمام جنوده متذكراً ذلك الموقف، أخذ يصرخ كالمجنون لإنكشاف سره ويقول:

ـ  سأطلق النار عليكما معاً في المرة القادمة، نعم سأطلق النار …

وخرج صارخاً راغياً غاضباً بصوتٍ مجلجلٍ:

ـ مــــــــــــاء مــــــــــــــــــــــــــــــــاء مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء …

كان ذلك اليوم يوماً حافلاً بالنسبة الى الحمل الصغير، خاصة بعدما رأى أن معشر الأغنام بأجناسها وألوانها وأنواعها المختلفة، ورغم كونها ماعزاً وخرافا مختلفة، إلّا أنها تشكل بذلك فُسيفساء جميلة تستحق الحياة، وأن جدائها وخرافها وكباشها ونعاجها قدّمت وما تزال لتحقيق ذاتها واستعادة مراعيها، وظن أنه وضع اصبعه على الجرح من خلال معرفته الأكيده أن أحد أسباب خسارة الأغنام للكثير من المعارك، هو بسبب أنها ارتضت أن تقودها “كباش” غير مؤهلة و”تيوس” مخصية يلتف حولها مجموعة من “المسحجين” الفاسدين المفسدين ولصوص المال العام، وأنها فوق ذلك باعت قرارها لقبائل الحمير والبغال التي تقودها جميعاً قبيلة “بني بعير”، والأمر الثاني أن هذه القيادات غير المؤتمنه، والتي أوصلت معشر الأغنام برمتها الى الهاوية، رغم كل ما قدمته بكل فئاتها وأنواعها وأجناسها من دماء ، وفضلت المساومة والتذلل، وارتضت المهانة والخساسة والتبعية، على أن تستجلب وتستعيد مواطن قوتها، خاصة بعد أن أصبح تطور هذه القوة والتمسك بها، يتعارض مع مصالحهم الطبقية الناشئة المعتمدة على ممالك المنطقة ومراعيها وغاباتها كما شرح له جده الكبش. لكن الأمر الذي جعل الحمل واثقاً من أن هذه المرحلة مهما طالت واستطالت فإنها سوف تمر، وأن معشر الأغنام سينالون ما يستحقون ولو بعد حين، كونه ومنذ ولادته ظل يستمع للمأثور الشعبي” لا يضيع حق وراءه مطالب”، والأغنام ما فتئت تطالب وتلاحق حقها، ولن تتنازل عنه أبداً. وفي الليلة الماضية، بعد كل الأحداث المتلاحقة لليوم الماضي، فقدأخذ “الكبش الجد” الحمل الصغير إلى “مغارة”في بطن الجبل، وهناك كشف له عن “كنزٍ ثمينٍ” كما سمّاه، وقال له بعد أن أزاح كمية من التراب، وفتح باباً خشبياً أمامه على أرض المغارة، وقفز أمامه رغم سنوات عمره الثقيلة، وسارا بضع خطوات داخل مكان صار يتسع مع خطواتهما حتى صار غرفاً متعددة بطول جده الكبش، ثم توقف جده فجأة وتوقف هو خلفه، وأشار “الكبش الجد” للحمل بالجلوس، وأزاح ساتراً من قماش كان يغطي الحائط، وإذا بمكتبة ضخمة بكتب كثيرة متنوعة، كان “الكبش الجد” قد أخفاها عندما بدأت قيادة التيوس تحرق الكتب وتتلفها، وتعتبرها “رجس من عمل الشيطان”، بعد أن استمعت لنصائح “بني بعير” وصارت تحاكم الشعراء والكتاب، وصارت تعتبر حامل القلم كحامل السيف، تراقبه وتحاكمه وتسجنه وتغتاله.

أعطى “الجد الكبش” “للحَمَل” كتاباً يحمل أبجديات اللغة وأحرفها وتاريخها المنقوش، وبدأ يعلمه أول درس في القراءة والكتابة، معللاً ذلك بالقول:

ـ أنظر يابني، عليك أن تعرف أن من ليس له ماضٍ ليس له حاضر ولا مستقبل، وأنا أعرف أنك تفكر بالسيف وامتلاك القوة، كغالبية قومنا من معشر الأغنام، لكن السيف يظل أعمى إن لم تُحسن إمتلاك فنّ صناعة الأحداث، لا إنتظار الحدث والتعامل بردة فعل عليه، وكي تحسن ذلك عليك التعلم من تجاربك وتجارب ممالك الغابات جميعاً، دون الإستهانة بأحد أو التنكر لقيمة ما يصنعونه من تجارب وأحداث مهما بدت لك صغيرة، وكي تفعل ذلك عليك امتلاك ناصية العلم وامتلاك العقل وتطويره، والعقل لا ينمو ويتطور دون قراءة وثقافة ومزيد من القراءة والثقافة،  لأن السيف دون الكتاب يكون سيفاً أعمى، يكون فاقد البصيرة وإن كانت عيونه أكبر من فنجان القهوة، ويكون في حالة متوترة، فاقد الإتجاه مُرْبَكاً وإن بدا غير ذلك، ويكون الأخطر على حامله قبل عدوه، وبدلاً من السير نحو الهدف المحدد تراه يغير اتجاهه فجأة ويوصل صاحبه الى عكس المكان، من كان يعتقد أن “كبشنا القائد” يمكن أن يسلم رقابنا إلى تحالف الكلاب والذئاب والضباع؟ من كان يظن أنه سيستسلم رغم استعدادات كل خرافنا وجدائنا وشياهنا وكباشنا لتقديم حيواتهم في مسيرتنا الطويلة، وكانوا يفعلون؟ من كان بعتقد أن نولي أمرنا وقيادتنا “لتيس” مخصي هرم حوّلنا الى “قطيع” يتسول العلف وبعض حليب الإبل والبقر، من الحمير والبغال ثم ينتظر الذبح؟ فلا ثورة يابني يمكن أن تصل الى منتهاها السعيد دون ثقافة.

سكت قليلا، وقال وكأنه نسي ما كان يود قوله :

ـ هذا المكان بما فيه من كنوز هو في عهدتك بعد موتي، أمانة في رقبتك، تهون حياتك دونه، لكن إياك أن تأتي هنا وحدك مادمت أنا على قيد الحياة، كما إياك والثرثرة والتباهي في أملاك غيرك وبها، وهذه الكنوز ملك الأغنام جميعاً، إن أردت شيئاً في حياتي اطلبه مني، ان أردت كتاباً تخبرني وسأحضره لك، وعليك مرافقتي بين وقت وآخر لتتعرف على تاريخك وكنوز أجدادك. خذ، أخفِ هذا الكتاب داخل فروتك، لنبدأ منذ الغد فن القراءة والتعليم، ولا تنسى أبداً أن هذان متلازمان…

ومد الكبش الجد أماميتيه أمامه، حيث كانت أحدهما تحمل كتاباً والثانية تحمل قرنين مسنونين يمكن أن تجعلا الكلاب والذئاب وحتى الضباع يحسبون لهما كل حساب، وأكمل الكبش الجد قائلاً:

ـ نعم انهما متلازمان، كل منهما يحتاج الآخر، يتعلم منه ويعلمه ويطوره، وإن غاب أحدهما يصبح أخوه في خطر المتاهة أو الضعف أو الزوال…

لم يستطع “الحمل” النوم في الليلة الماضية وهو يفكر في كلام “الكبش الجد”، ومنذ صباح اليوم التالي بدأ يتعلم حروف أبجديته ويدرس تاريخه الذي يحاولون محيه، وسرعان ما أخذ يسن قرونه الصغيرة التي نبتت حديثاً في رأسه، بعيداً عن أعين “خراف التيس” وجواسيسه، وأخذ يُمَضّي أنيابه وأسنانه لتصبح أسناناً قاطعة وأنياباً حادة، وبدأ يطلق العنان لمخالب أماميتيه… ثم بدأ بالبحث عن الخروف الأسود ومجموعته ليضع أماميته مع أمامياتهم ويتجهون سوياً لقطع الأسلاك الشائكة.

محمد النجار

عندما صار الحمار ملكاً

كنا قد تجمعنا في مقهى المدينة، المقهى الذي أخذ اسمه من كونه يشغل مركز المدينة منذ عقود، ورغم تزاحم المقاهي من حوله، إلّا أنه ظل هو الأكثر امتلاءً والأكثر شهرة، وأكثر ما زاده شهرة، كثرة الرواة المترددين عليه في لياليه الساهرة، وكان راوينا هذا، صاحب هذه الحكاية هو الأكثر شهرة، وهذا ليس فقط بسبب آلية سرده لحكاياته العديدة والمتفرقة، بل كونه يختار الحكايات الحقيقية، التي تمت على أرض الواقع، ونقلها لنا التاريخ محمولاً على ظهر السنين. ورغم ذلك، لم يخلُ الأمر من معارضين للراوي، والذين لم تكن معارضتهم لتفسد للقصص والحكايات هدفاً، ولا للود قضية. تجمّعنا وأخذ كلٌ مقعده، فلم يبقَ مقعد فارغ، ولا مكان في ممر بين طاولات إلّا للنادل الذي كان يروح ويجيء بصمت كامل، فلا تسمع رنين كأساً ولا حركة أرجل ولا حتى همسٍ قد يفسد للراوي حكايته. انتظرنا قدوم الراوي الذي لم يتأخر يوماً عن موعده، ومرت دقائق الإنتظار كعادتها بطيئة متهادية منفِّرة، مختالة بكل غرور، ونحن نحتملها بصبرنا المعهود دون أي نقد أو حتى استياء.

وجاء الراوي مع المساء كعادته، ملتفاً بعبائته، رد السلام بطريقته المعهودة وجلس في نفس المكان الذي يعتليه في لياليه جميعها.  وقال الراوي بصوته الجهوري كعادته:

ـ كان ياما كان، في قديم الزمان، ولو لم يكن قد تم فعلاً لما حملته إلينا الأيام، وبالتالي لما وصل إلينا الآن.

لكن معارضيه سرعان ما نفوا أن يكون الأمر قد تم في قديم الزمان، بل إنه  تم في القريب منه، وأكدوا أن الإختلاف في التوقيت لا يعني التشكيك في الحكاية بأي شكل من الأشكال، بل ما يعنيهم صحة التأريخ أيضاً، فهذا منبع حرصهم وهذه جل غايتهم. فاعترض أنصار الراوي على اعتراض المعترضين، وتجادلوا وتحاججوا، وقدم انصار الراوي حجتهم حيث قالوا أن الأمر قد تم في القديم من الزمان، وهو الزمان الوحيد الذي كانت فيه الحيوانات تتحدث. فرد المعارضون قائلين، هذا التأكيدغير دقيق، وأن الكثير من الحيوانات ما تزال تتحدث حتى وقتنا الحاضر أيضاً، وأنك في أحيانٍ كثيرة تكاد تُخدع وتعتقد أن المتحدث إنساناً، خاصة إذا تحدث دون أن تراه، أو إذا كان متخفياً أو متستراً في زي ملاك أو انسان.

ونحن، إذ نعلن عدم انحيازنا لأيٍ من الطرفين، رغم عدم حياديتنا نحو الحكاية وصحتها، الأمر الذي نلتقي به مع الراوي ومعارضيه، وذلك لا علاقة له بإمساك “العصاة”من المنتصف، بل كون الأمر لا علاقة له في جوهر القضية، بل بالتوقيت، وإننا إذ نعلن أن كلا حجج الطرفين صحيحة، رغم القرون العديدة التي تفصل بينهما، فإننا ننشر الحكاية كما هي، دون تدخل أو حذف أو تعديل، ونعتذر للقراء إن كان في الرواية كلمات تخدش الحياء العام أوشفافية الآذان الحساسة، لكننا لا ولن نعتذر إن فُهم من الحكاية أنها تقصد ملكاً أو أميراً بذاته، أو حتى تقصدهم كلهم، كوننا لسنا معنيين بما سيفهمه أو لا يفهمه كل قارئ، كما أننا لسنا في معرض رقابة على عقول البشر. لذا إقتضى التنويه.

  •     *     *      *

وأكمل الراوي:

ـ كان في قديم الزمان حمار، متزوج من”آتان”واحدة، ورغم مرور سنين عدة على زواجه، إلّا أن الله لم يرزقه بأي “جحش” يملؤ عليه حياته، الأمر الذي قلب حياته الى ما يشبه الجحيم، وكاد يقلب الحب الذي يكنه لزوجته الى نوع من التنافر إذا لم نقل الكره، ولكن الله لا يترك عبيده، أو إن شئتم حميره، فسرعان ما حملت “آتانته”، فكاد الحمار أن يحملها على أماميتيه، وان يضيء لها حافريه، وعادت له ابتسامته وفرحته وابتهاجه، وعاد مرحاً ممازحاً، كما عادت علاقته بمعشر الحمير طبيعية كما كانت قبل موضوعة الحمل برمتها.

ورزق الله الحمار جحشاً ذكراً، فرح به الحمار فرحاً جماً، وأخذ ومنذ صغره يعلمه أنواع النهيق، ويتركه بين زعامات الحمير  ليتعلم منها وينهل من تجاربها ومعارفها، لعله عندما يكبر أن يكون له شأنا عظيما. لكن زوجته توقفت عن الحمل من جديد، ورغم كل أنواع الأعشاب التي قدمها لها حكماء الحمير، إلا أنها انقطعت عن الحمل سنوات أخرى، ولم تُجدِ معها كل العلاجات نفعاً، ولما أصابها مع زوجها اليأس، ولم يعد هناك من الأدوية شيئاً لم تأخذه، حملت من جديد، على دون توقع، وولدت جحشاً ذكراً آخراً، وتكرر الحمل والولادة مرات ومرات، فأصبح للحمار سرباً من الأبناء الجحوش، تفصلهم عن أخيهم “البكر” سنوات طوال، لذلك فضل الحمار الأب أن يسمي إبنه البكر بالحمار الكبير، ليميزه عن بقيةأخوته، وأمام هذه التسمية لم تجد “آتانته” بُداً من أن تسمي ذكرها بالحمار الأب.

وكان الحمار الكبير يكبر وتكبر معه همومه، وأخذ يشتد زنده وتتشكل عضلات سواعده، وتكبر معه طموحاته، الأمر الذي أحدث اختلافاتٍ متعددةً على الحمار الكبير، فصار سارح الذهن شارده، دائم الغياب بذهنه رغم حضور جسده، الأمر الذي أربك أبويه وجعلهما في حيرة من أمرهما، الأمر الذي جعل والده باتخاذ قراره بالحديث مع ابنه الحمار الكبير ليعرف ما يدور في ذهنه، وهذا ما تم.

انتهز الحمار الأب فرصة خروج أبنائه الجحوش ليلعبوا و”يتفعفلوا” على رمل رصيف الطريق، وغياب زوجته”الأتانة” عند إحدى جاراتها للثرثرة كعادتها دائماً، فأخذ ولده الحمار الكبير جانباً وقال له:

ـ ما الذي يتفاعل بداخلك يا ولدي؟ ألهذه الدرجة تأخذك “الأتانات” بجمالها وغنجها؟ إنني أرى معظم “أتانات” الجيران، بل العشيرة كلها، وهن “ينهقن”ضاحكات لجلب انتباهك إليهن، وخاصة عندما رأينك بطولك وجمالك وعضلاتك المفتولة، وكأنهن يدعونك إلى تحريك “مشاعر الحمار ” التي تبلدت فيك، أو مشاعر العاطفة، أو حتى مشاعر الجنس، وأنت تقف كحمار بليد لا ترى شيئاً، إن الحمير لديها مشاعر وأحاسيس وإن كانت حميراً، لا أعرف ما الذي يدور في رأسك!!! وسكت الحمار الأب قليلاً قبل أن يكمل حديثه في محاولة لمعرفة ما يدور في ذهن ابنه الحمار الكبير:

ـ أشر لي يا بني أي “أتانة” تريد وسأذهب في هذه اللحظة بالذات لأطلبها لك من ذويها، لا يمكن أن تكون بهذا الشكل، شارد الذهن دائماً… لا تستغرب حديثي هذا، فأنا نفسي كنت شاباً كما أنت الآن، وما يمر بك الآن مر بي من قبل، عندما كنت في “سن” شبابك هذا…

فقال الحمار الكبير حاسماً الأمر، موضحاً لأبيه ما يشغل ذهنه:

ـ يا أبتِ لم تكن “الأتانات” من يشغلن بالي ويغيبن عقلي، لكنه الطموح، إن ولدك لديه طموحاً بالزعامة على العائلة والعشيرة والقبيلة ومعشر الحمير جميعاً، بل وحيوانات الجوار أيضاً، وسأفعل المستحيل من أجل ذلك…

تفاجأ الحمار الأب من كلام حماره الكبير، لكن الفكرة التي لم تخطر على باله يوماً، دللت أن لإبنه من العقل ما يستحق المساعدة وإن كان حماراً، فقال:

ـ للزعامة طريقان يا ولدي، إما أن تقوم بترشيح نفسك في انتخابات وتُنتخب ويتم ترئيسك، أو بحد السيف وتصير ملكاً، دون انتخابات أو ناخبين، في الأولى مؤكد أنك لن تفوز، كون لا أحد يقبل بأن يُزعّم عليه حماراً، ولا حتى الحمير نفسها. فما بالك ببقية الحيوانات الأخرى؟ فحدّث ولا حرج، فلا أحد منها يرغب بترئيس حمار أو تمليكه عليه، بل إن كل الحيوانات ترى نفسها على معشر الحمير، ترى مقامها أعلى ونفسها أرفع شأناً، حتى الأبقار والبغال ترى مقامها فوق مقامنا… يا لمهازل الأقدار!!!

ـ إذن لن يبقى أمامنا سوى حد السيف ياأبي.

قال الحمار الكبير لأبيه بتأكيد، فأجابه الحمار الأب:

ـ السيف!!! نعم السيف، لكننا لا نملك السيف، ولا حتى ثمنه، وكما قال الشاعر:

” لا خيل عندك تهديها ولا مال                    فليسعد النطق إن لم يسعد الحال”

ـ خياراتنا محدودة ياأبي، لذا ما علينا سوى سرقة السيف…

قال الحمار الكبير شارحاً لأبيه، وأكمل:

ـ خاصة أن أحداً لن يقبل بأن يساعد حماراً ليتولى أمور مملكة، ولن يثق به، لذا علينا المحاولة وحدنا، فإن نجحنا كان به، وخير وبركة، وإن فشلنا نعيد الكرة من جديد في محاولة جديدة….

استشاط الملك الأب غضباً، وكاد يملأ الدنيا نهيقاً مدوياً غاضباً، لولا تخوفه من أن يستدعي بنهيقه هذا فضول الجيران وانتباههم، وبالتالي كشف السر الذي ما يزال بينه وبين ابنه الحمار الكبير، وقال:

ـ ماذا تقول أيها الحمار ياابن الحمير؟!!!، وهذه شتيمة وليست توصيفاً، ألم تدرك بعد أن هذا الأمر لا تجربة فيه، الفرصة التي بين يديك هي الأولى والأخيرة، فإما النجاح وإما المقاصل على قارعة الطريق، فتتعفن جثثنا دون أن تجد من يلتهمها، لتكون عبرة لمن يعتبر!!! لذلك عليك باللعبة لكن بشكل صحيح، دراسة الأمر من كافة جوانبه، كيلا يبقى مجال لخطئ مهما كان ضعيفاً… لذا يجب البحث عمن يدعمنا في هذا الطموح، وليس سرقة سيف تذهب بك إلى غياهب السجون، وتكشف ما يدور في ذهنك من مغامرات وأخطار.

فقال الحمار الكبير بشيء من الخضوع، بعد أن أرعبه جواب أبيه لدرجة أنه بال على نفسه أو كاد، متراجعاً عن كلماته التي بدت ناضحة بالغباء، وراغباً بالتراجع عن مثل هذه الأفكار الهدامة المرعبة، التي يمكن أن تقود صاحبها الى نهاية مميتة:

ـ ومن سيقبل بأن يُملك حمارأ ياأبي؟ فأنت نفسك تؤكد أن لا أحدا يرغب بذلك.

فقال الحمار الأب موضحاً:

ـ بالعكس أيها الحمار الكبير، هناك من يرغب بتمليك الحمير كونهم حميراً أولاً وأخيراً، وأنت والحمد لله حمار ابن حمار ابن حمار، يعني حماراً أباً عن جد، كما أنك “أحمر” من إخوتك جميعاً، وظني أنك أحمر “بني حمار” جميعاً أيضاً، لذلك فأنت الأفضل والأصلح للملوكية من أبناء عشائر الحمير وقبائلها جميعاً. كما أن أباك يابني من عائلة حسب ونسب، فظني أن من قدامى أجدادنا كان البغل وكان النغل، وكان الجَمال وكان الكَمال، وكان الحُسن والعقل والبهاء، والدليل جمالك ورجاحة عقلك، أم تظن أن الكثير من الحمير يمكن أن تفكر بما فكرت فيه؟!!! لا يابني، فكلها لا تفكر إلا في “علف المساء”.

تناول الحمار الأب سيجارة وضعها في فتحة أنفه اليمين، أشعلها، وسحب نفساً عميقاً، أخرج دخان رئتيه من فتحة أنفه الشمال، وقال مهدئاً من موجات رُعب ابنه التي كان يراها تتصاعد من مرايا عينيه:

ـ اترك الأمر لي لأفكر به قليلاً، لا تستغرب أنني أفكر وإن كنت حماراً، واذهب أنت و”تفعفل” قليلاً على رصيف الطريق، واحرص على أن لا تؤذي أخوتك الجحوش، “فحمرنتك” أحياناً تخرج عن المألوف وتتعدى المعقول، واضبط لسانك كي لا تذهب وتجرنا معك الى الهاوية.

مر على هذا الأمر بضعة أشهر طوال، والحمار الأب يُقلِّب الموضوع في خلايا رأسه الكبير دون نتيجة، وكأن ما بين أذنيه ليس إلّا “مخلاة تبن” وليس دماغاً بوزن عجل صغير، ولا يدري لماذا تذكر ذلك الحدث الآن؟ لماذا في هذا اليوم بالذات، بعد مرور فصلين كاملين من حصوله، تلك الحادثة التي لن ينساها أبداً، حيث كان أقرب من أي مرة أخرى من فكي مجموعة من الكلاب الضالة، التي عادت الى وحشيتها رافضة كل عروض تدجينها وإغراءاتها التي لايمكن رفضها، معيدة حياتها الى الصيد والسرقة والإحتيال، بعدأن عاشت فيها سنوات طوال، وقال البعض أن هذه الكلاب قد قامت بجنح وجرائم متعددة حينما كانت في البيت الداجن، وخوفاً من المحاكمات والإدانات وما يتبعها من أحكام وسجون، فضلن الهروب والتشرد، واللجوء لحياة التوحش، نعم كاد أن ينتهي به الأمر بين فكي بضعة كلاب ضالة، وهو الذي تمنى إن كان لا بد من أن يكون عشاء وحش، وإن كانت نهايته بين فكي حيوان مفترس، فلتكن على الأقل بين فكي أسد وليس بضعة كلاب ضالة!!!.

  •    *    *    *

وأضاف الراوي :

لقدكان الحمار الأب سارحاً في شؤونه وشئون عائلته، وينتقي حبات شعير متناثرة على رمل الطريق، وبقايا “تبنٍ”  وكأنها وضعت بهدف صيد حيوانٍ غبيٍ يحمل ما بين أذنية “كيس تبن”، لا عقل يجب استعماله، وظل الحمار الأب يتبع أهواء معدته وأمعائه، دون أن يفكر ولو للحظة واحدة إلى أين يأخذه الطريق؟ ومَنْ يمكن أن يفعل ذلك أفضل من حمار بن حمار؟ حتى إذا ما رفع رأسه قليلاً عن تراب الطريق، حتى تفاجأ بمجموعة من الكلاب الضالة، كانت قد اجتمعت على عجل اختطفنه من عشيرة الأبقار، ولم يبقَ منه سوى هيكله العظمي الذي ما زال يتربع عليها زعيم الكلاب الضالة، كلب ذو رأس أبيض وبني اللون فاتحه لباقي الجسم، ولم يكن سوى كلب “البيتبول”، ذلك الكلب الشرس، القاتل، الذي لا يترك غريماً له أو فريسة على قيد الحياة، والذي لا ينام الليل إلّا قليلاّ، وفيه كل صفات الكلب إلّا الوفاء، يطفح بالقوة والشراسة والغدر، ذكي ومراوغ مثل ثعلب، قوي البصر والسمع مثل ذئب، يتمتع بالسطو والسيطرة مثل أسد.

هنا هب المعارضون للراوي مؤكدين أن الحمار الأب لم يذهب الى هناك خلف التبن وحبات الشعير، بل كان ذاهباً الى ذات المكان كما يفعل كل عام، حاملاً فوق ظهره كمية من”رطب البلح” ليخمره ويبقيه بعيداً عن أنوف الحمير وعيونها، كيلا يسرقوا نتاج عمل أماميتيه لفصل الشتاء القادم، وأضاف المعارضون أن ما يقال غير ذلك ليس إلا من باب المبالغة ب “حمرنة” الحمار الأب وتصويره على أنه لا يتبع سوى غرائزه مقابل تجميد عقله، الأمر الذي يبعدنا عن الحقيقة والحياد. وعندها أكد الراوي أن الحمار الأب لم يكن ليفعل ذلك كونه ليس بشارب للخمر أصلاً، أكد معارضوه أنه كان يُخمِّر ويُنقِّي ويبادل الخمر بالأعلاف، وأنه كان يشرب الخمر ب”الحذاء” أيضاً على حد قولهم، لكن بعيداً عن أعين القبيلة.

النتيجة أن الحمار الأب ارتعب وارتعد وتفتتت مفاصله، ما أن رآى زعيم الكلاب الضالة “يُمصمص” مخالبه من فوق الهيكل العظمي، فتساقطت حبات الشعير من بين أسنانه، ولم يستطع التحكم باصطكاك أسنانه، ولا حتى بلعاب فمه المتهافت من بين أسنانه وتحت لسانه كمزراب ماء،  وبال على ذنبه من شدة الخوف، وأخذجسده يرتعش رغم حرارة ذلك النهار من أيام الصيف القائظة.

حاول الحمار الأب التراجع الى الخلف، رفع حافره الخلفي ليضعه بخفة في الوراء، فاصطدمت أذناه بصوت جرس كنذير شؤم، صوت انذار نتائجه وخيمة، نظر الحمار نحو المكان الذي جاء منه الصوت المُحذِّر، فإذا ببصره يقع على أفعىً ذات قرنين عظميين، برأس ضخم مخيف بالنسبة إلى طول جسدها، حراشف على كامل جسدها، رافعةرأسها مقتربة من أعلى فخذه، تُنتج فحيحاً مع كل حركة مع حركاتها، كانت قصيرة الطول، تسير على الرمال بشكل جانبي وتحمل جرسها في مؤخرة ذيلها. وما أن رأها الحمار الأب وقد رفعت رأسها، حتى أيقن أنه ما أن يضع حافره على الأرض أو حتى قبل ذلك، ستكون أنياب الأفعى السامة تفرغ سمها داخل فخذه، فوقف الحمارحاملا فخذه، معلقه في الهواء،  وبدأت عيناه تلقي دموعه على صفحات وجهه، واستمر معلقاً فخذه في الهواء حتى تركته الأفعى وانسحبت، وما أن غادرت مكانها حتى رأى الحمار الأب زعيم الكلاب الضالة  وقد بدأ بالتحرك نحوه، لكن عمر الحمار الأب لم يكن قد انتهى بعد، وما هي الّا لحظات حتى توقفت الأفعى المرقطة ذات القرنين والجرس، أعلنت أنها تحميه بهزة من ذيلها ،حيث أطلقت رنات تعرفنها زعيمات الأفاعي السامة، كما حلفاؤها من الكلاب الضالة وآخرين لم يعرفهم الحمار الأب بعد، أشارت الأفعى لزعيم الكلاب الضالة بإشارة للتراجع عن مهاجمة الحمار، وسرعان ما توقفت وأشارت بحركة من ذيلها للحمار الأب ليتبعها.

عرّفته الأفعى القصيرة المرقطة ذات القرنين والجرس المعلق في نهاية ذنبها، بأنها ملكة ملكات الأفاعي السامة، وسألته عمّا أتى به الى هذه المنطقة البعيدة عن قبيلة الحمير وعشائرهم، والحمار الأب الذي كان ما يزال تحت رعب الصدمة، لم يستطع الإجابة، وأكملت الأفعى الملكة قائلة:

ـ هيا …

وأخذته الى سطل ماء ليشرب ويهدئ من روعه، وظلت تحدثه، رغم أنه لم يتوقف عن البول على نفسه. وعادت إلى القول من جديد:

ـ أنت محظوظ لأن الكلاب الضالة وزعيمها أكلوا حد التخمة، وأنت محظوظ أيضاً كونك وجدتني وأنا بحالة جيدة ونفسٍ طيبة هادئة، وكما يقال أنه” ربما ضارة نافعة “وأنه ” لا صداقة إلّا من بعد عداوة”، فيبدو أن ربك يريد لنا صداقة صادقة وغير مسبوقة، يعلم الله أنك دخلت قلبي، وهذا رغم حصوله إلا أنه شيء نادر.

وأشارت بيدها نحو مكان يحتضن شجرة نخيل، تقابلها على بعد أمتار ثقوب في رمال متيبسة بسبب الهواء والماء وعوامل الطبيعة، وقالت:

ـ إن أردت أي مساعدة يمكنك القدوم الي هنا، قف تحت الشجرة ونادى على الأفعى الملكة بنهيق خفيف، ستجدني بجانبك في لحظات…هيا لأوصلك الى ديارك، بين قبيلة الحمير وعشائرها قبل أن تجوع الكلاب من جديد.

وأخذته مطبطبة على قخذه بجرس ذيلها، وسارا يتبعهم من بعيد زعيم الكلاب الضالة وبضع كلاب أُخر، وظلت تثرثر معه طيلة الطريق، تستفسر عن الحيوانات التي تجاور قبائل الحمير، عن الأعشاب التي تنمو في أرضه، عن الماء وكمياتها في أرضهم، والحمار الأب يقدم لها كل ما تطلب من معلومات، حتى وصلا الى مدخل أراضي قبيلة الحمير وعشائرهم، شدت على حافره وقالت مؤكدة:

ـ لا تتردد في المجيء إلي إن كنت بحاجةالى أيما شيء، فما أستطيع فعله لك سأفعله، وما لا أستطيع فلدي من المعارف والحلفاء الكثيرين لمساعدتي، فأنا لا أعدم وسيلة من أجل ذلك… نعم لدي الكثير من الحلفاء لكن الأصدقاء قليل أيها الحمار الموقر، أفهمت الآن لماذا أنا مصرة على صداقتك وأفخر بها؟!!! هيا إلى بيتك قبل أن يداهمنا المساء، وينثر ليله المعتم فوق بيوتنا…

ما أن غادر الحمار الأب “الملكة الأفعى” حتى جاء زعيم الكلاب الضالة اليها غاضباً معاتباً، معبراً عن غضبه وعتابه من خلال نباح طويل حاد متقطع في أول الأمر، منتهياً بوصلة كاملة مستمرة من النباح الطويل المستمر، وسألها:

ـ ما الذي فعلتيه أيها الأفعى الملكة؟ أكان حراماً أم عيباً أن نحتفظ بهذه الكمية المهولة من اللحم؟ صدقيني إنه لذيذ وإن كان لحم حماراً، أم كنت تعتقدين أننا س”نَزْوَر” إن نحن أكلنا من لحم ذاك الحمار؟ خذي رأينا على الأقل في مثل هذه القرارات الهامة.

والأفعى الملكة التي افتعلت أنها لم تسمع شيئاً من زعيم الكلاب، سألته على غير توقع:

ـ ما الذي جعلك تتعقبني؟ ألهذه الدرجة فقدان الثقة؟

ـ لا، أبداً، أقصد… ليس صحيحاً…

ارتبك زعيم الكلاب كثيراً أمام سؤال الأفعى الملكة، وظل يتعثر بالحروف حتى اهتدى إلى جملة يقولها، فقال:

ـ أتيت كي لا يباغتك الحمار و”يرفسك”، يعني لحمايتك…

ابتسمت الأفعى مظهرة أنيابها، وقالت:

ـ وهل تعتقد أنني بحاجة لحمايتك أيها الزعيم؟ أتعتقد أن هذه الأنياب وهذا الجسد رغم قصره، والمليء بالسم القاتل بحاجة إلى حمايتك؟ خاصة من حمار؟

افتعل زعيم الكلاب بدوره عدم سماعه لأسئلة الملكة الأفعى، وسأل نابحاً بود، قافزاً عن الجو الحاد الذي ساد:

ـ ما الذي يدور برأسك أيتها الملكة؟ أموت وأعرف كيف تفكرين!!!

ونبح الكلب ضاحكا وكأن شيئاً لم يكن، حين أصدرت الأفعى الملكة فحيحاً ضاحكاً مترافقاً مع رنات سعيدة من جرس ذيلها، قالت كلمات لم تخل من جدية تامة:

ـ أبعدالله عنك الموت وكل سوء أيها الزعيم، وربما أنت محق في ضرورة آخذ رأيكم، وكما تعلم فأنا لست ملكة مُتَفرِّدة، وقراراتي في مجملها جماعية أيضاً، لكن هناك قرارات علينا اتخاذها بسرعة، لا وقت لأخذ آراء فيها، أعني تكون المبادرة فيها هي الأهم، وهي سيدة الموقف،  كون الزمن لا يتوقف لينتظر استشارات واجتماعات.

توقفت في منتصف الطريق وقالت:

ـ صدقني أيها الحليف الزعيم، أنني لم أفكر بالأمر إلّا في تلك اللحظة، ولم أرغب أن أفقد أهمية اللحظة، وخاصة أن الجوع لم يصبنا أو يداهمنا بعد، وأنت وجماعتك كنتم قد انتهيتم لتوكم من أكل عجل كامل.

احتضنت رقبة زعيم الكلاب الضالة، معلقة جرس ذيلها على جانب رقبته، وقالت:

ـ تعال أيها الحليف العزيز لنلتقي مع بقية زعيمات الأفاعي، كما مع ملك الضباع لأخبركم بما فكرت به، وبما دار في ذهني، فأنا أفعى لا أنظر بين قدمي فقط، وربما لذلك لم يخلق لي الله قدمين، إنني أرسم للبعيد، للبعيد البعيد أيها الكلب، أفهمت؟ هيا بنا …

  •    *    *      *

كان الحمار الأب يروح ويجيء على طول الطريق، يفكر بما عليه فعله ليوصل ابنه البكر الحمار الكبير ملكاً على عشائر الحمير وقبائلها، وعلى بعض قبائل الحيوانات الأخرى، حتى أن زوجته علقت له “مخلاة التبن” في رأسه عندما رفض قاطعاً دخول زريبتهم، وأخبرها أنه لن يلتقي هذه الليلة معها ومع الحمار الكبير وبقية جحوش البيت، كما أنه لن يلتفّ معهم حول مائدة العشاء. ظل يروح ويجيء كهائم على وجهه، متسائلاً كيف ومن أين يمكنه الحصول على السيف، مدركاً أنه بحاجة الى من يساعده في ذلك، وبدون مساعدة لن يحصل على أكثر من ملئ حافره هواء. وقال في نفسه” عليك أن تأتي على ظهور المخالب والنيوب لحيوان مفترس أو حتى مجموعة حيوانات، هذا هو الطريق الوحيد، فخير أن تكون حماراً ملكاً من أن تكون حماراً من العامة، وليس صحيحاً أن الحمار يظل حماراً حتى ولو كان ملكاً”.

فجأة… ودون سابق انذار ، وجدت الحمار يزيح “المخلاة” الفارغة من رأسه، ويبدأ بالرقص والقفز في الهواء، وينهق بكل ما في صدره من هواء ضاحكاً، قائلاً كما قال العالم نيوتن ذات يوم:

ـ وجدتها وجدتها…

وكان الحمار الأب ما يزال ينهق فرحاً، غير آبهٍ في الوقت الذي كان قد زحف نحو ساعات منتصف الليل وغادرها قبل ساعة أو يزيد، وظل يتقافز وكأنه فقد عقلة، وكان قد أخذ قراره بالذهاب الى “الملكة الأفعى” وطلب مساعدتها، الأمر الذي يتطلب منه البحث عن هدية مناسبة، وبدأ يفكر في ماهية هذه الهدية التي تليق بملكة ملكات الأفاعي المُتَوَّجة، ولا يعرف لماذا لم يتجاوب عقله في أكثر من التفكير بطعام لهذه الأفعى كهدية، وكان قد قرر أن يسرق زوج أرانب لتتمتع بأكله، لكنه وفجأة أيضاً، تذكر أقوال حصانٍ كان يتسلى بأكل بعض الأعشاب بالقرب من أراض قبيلة الحمير قائلاً له:

ـ لماذا لا تريد أن تخرج من “حماريتك”؟ “تَنجّر” أيها الحمار؟ لماذا هذا الإصرار على أن تبقى حماراً؟!!! من يسمعك يعتقد أن تكون حماراً ميزة، أو مدعاة للفخر!!!

إلتقى الحمارُ الحصانَ حينها صدفة، كان في مثل سِنّه، يتحدث بلغته رغم اختلاف مناطقهما، كان الحمار الأب غاضبا، أو بالأصح القول أن بقايا الغضب لم تتبخر من رأسه بعد، بسبب ابنه “الجحش الصغير، نعم بسبب الجحش الذي كان يحب أن يسميه”الجحش آخر العنقود”.        كان هذا الجحش الصغير وعلى غير عادةإخوته جميعاً، يحب أن يحفر الأرض ويُخرج من طياتها السطحية قوالبه الرملية، وما أن يسحب فالباً حتى ينهال التراب من الأعلى إلى المكان المحفور المنخغض، وفي أحد المرات انهال التراب دون توقف، وظل ينهال وكأنه في فراغ، تاركاً في الأعلى مكاناً أخذ يتكشف فيه عن بفايا أبنية متهدمة قديمة، فخاف الجحش الصغير وفرّ راجعاً، لكنه فبل الفرار كان قد استوقفه وسط الإنهيارات الرملية تمثالاً صغيراً قديماً، لا تجد في هذا الزمن له مثيلاً.

حمل الجحش الصغير تمثاله وتوجه به إلى البيت، وكان قد أعجبه التمثال فلم يكف عن اللعب به، ومازال يلعب حتى دخل الحمار الأب باب المنزل، فوجد ابنه يلعب بالتمثال الصغير، فاستشاط غضباً، وأخذ جسده بالإرتعاش وكأن أفعى قد أفرغت به سموم جسدها، وكاد أن يتشنج، وصرخ بعلو صوته منهقاً:

ـ صنم يا إبن الحمار، صنم؟ ألم تجد لك شيئاً يُغضب الله أكثر من ذلك؟

واندفع نحو جحشه الصغير ليخلصه إياه ويكسره، فليس من المعقول أن يُبقي صنماً يتحدى الله في بيته، لن يقبل أن يترك ما يُشرك بالله وينازعه عبادته في داخل منزله. واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، واستغفر ربه، ونوى أن يوزع “مخلاتي تبن ومخلاة شعير” على فقراء الحمير تكفيراً عمّا اقترفه ابنه. لكن الجحش الصغير أخفى التمثال الصغير خلف ظهره وأخذ ينهق باكياً، ورجا ابوه “الحمار الأب” أن يتركه ليلعب به قليلاً، ثم وبعد أن يملّ من اللعب به فليكسره كما يريد. فقال له الحمار الأب سائلاً بشكل استنكاري:

ـ بصنم؟ أتريد أن تلعب بصنم ياابن الحمير؟

والجحش الصغير، “آخر العنقود”، الذي كان لا يفهم تماماً إن كان أبوه يشتمه موبخاً أم مجرد ينسبه إلى عائلة الحمير، قال:

ـ ماذا يعني “صنم” يا أبي؟

وأمام هذا السؤال المغرق في الجهل، أدرك الحمار الأب أن ابنه آخر العنقود ما زال صغيراً، وأن لا ذنب عليه كونه ما زال صغيراً ولايفهم ما يدور حوله، فقرر ترك “الصنم” بين يديه، ليلعب به متسلياً، خاصة بعد أن رأى دموع عينيه تسيل فوق وجهه الأسمر الطويل مثل جدول، على أن يأخذه ويكسره لاحقاً دون أن يراه ابنه.

وخرج الحمار الأب تاركاً الجحش الصغير في حضن أمه ووسط أخوته الجحوش، وما أن تمشّى قليلاً حتى التقى الحصان في مكان قريب، ولما رآه الحمار يتخبط في غضبه متعثراً  بخطواته الحزينة، سأله عن حاله وأحواله، ليخفف عنه غضبه ويزيل عنه أحزانه، فحدثه  الحمار الأب بكل ما به من حزن، عن أسباب حزنه، وعمّا رآه بأم عينه وفي بيته ومع ابنه “آخر العنقود”، وبدأ يُقسم أغلظ الأيمان بأنه لن يُبقي هذا “الصنم” في بيته مهما كلفه ذلك.

كان استغراب الحصان شديداً لما سمع الحمار الأب يقول “ما أنزل الله به من سلطان” على حد قوله، وسرعان ما قال للحمار:

ـ على حد علمي أنك أمضيت معظم أوقاتك بين أقربائي الخيول، وأن منهم من حاول أن يعلمكم القراءة والكتابة، وبنوا لكم المدارس، وعلموكم الزراعة واستخراج المياه من باطن الأرض، وعلموكم بناء البيوت بدل الخيام،  وزراعة المراعي بدل مطاردتها واللحاق بالغيوم لتزرعوا تحتها خيامكم لتشربوا ماءاً، وتنتظرون العشب ليتم دورة حياته ويخرج الى ما فوق الأرض معلناً عن نفسه….لكن يبدوا وكما قال المأثور الشعبي”علّم في المتبلّم يُصبح ناسياً”، فما بالك إن كنت تعلم حماراً “بعيد عنك”!!!

وسكت الحصان قليلاً كي يفهم الحمار الأب تماماً ما أراد قوله، ثم أكمل ما ابتدأ به:

ـ تربيت بيننا وما زلت حماراً، وما زلت أذكر أباك جيداً، عندما كنت ما أزال مُهراُ وأنت جحشاً، كان يأتي بك ويربطك بيننا علّك تصير حصاناً مثلنا، أو تتعلم منا عادات الخيول، لكن صدق المأثور الشعبي الذي قال” الحمار حمار ولو بين الخيول ربى”.

أُسْتُفِزَّ الحمار الأب كثيراً من أقوال الحصان، وتفاربت أذنيه الطويلة متصادمة، وكاد يهجم على لسان الحصان ويظل يعضه حتى يقطعه، عله يكف عن الكلام، وعن هذه “الكبرياء”التي لا قيمة لها ولا وزن، وقال:

ـ لماذا كل هذه المحاضرة أيها الحصان، فأنت أولاً وأخيراً دابة مثلي، وأنت ونحن من خلق الله، ولا خير لأحدنا عن الآخر إلّا بالتقوى، ولم أفعل إلّا أن أشكو لك همِّي كصديق قريب، وتجمعنُا صلة قرابة بعيدة …

فقال الحصان دون أن يُعقّب على كلام الحمار الأب:

ـ وها أنت ما تزال تسأل بماذا أغضبتني!!! أغضبطتني بحديثك عن”الصنم”، تتحدث وكأنك وجدت ابنك والعائلة يركعون ويسجدون أمام “الصنم” كما تسميه، إنك لا تريد أن تفهم أن مرحلة الأصنام كانت مرحلة في التاريخ مرت وانتهت، ولا أن تفهم أن ليس كل تحفة فنية صنماً، هذه البلاد التي تراها على امتداد العين احتضنت شعوبا وأمماً وديانات، ما أنتج حضارات عريقة وثقافات، وما تسميه “صنماً” هو من نتاج تلك الحضارات.

سكت هُنيهة من جديد وقال:

ـ أعني أن ما تسميه “صنماً” فربما كان تحفة فنية لا تقدّر بثمن، لأنه يحمل شذى الماضي وعبق التاريخ، أفهمت الآن؟ لا يُقدر بثمن!!!

لا يدري الحمار لماذا تنهال عليه الذكريات كتراب جففته شمس الصيف الصحراوية و يتساقط في بئر عميق، وقال في نفسه:

ـ سيكون هذا “الصنم” هديتي إلى الملكة الأفعى، ما دام بهذه القيمة المرتفعة، وثمن الهدية يدلل على قيمة الحمار الذي يُقدمها، وعسى أن تكون قيمته كما يصف ذلك الحصان “الخرف”.

وذهب الحمار الأب إلى البيت، وأخذ “التمثال” التاريخي الملقى بين أقدام الجحوش وحوافرها، وكان قد جمّع كومة من أوراق أشجار النخيل، وأخذ يلف بها التمثال حتى غطاه كاملاً، وغرس في وجه الأوراق بضع حبّات بلح حمراوات، وتهيأ للمسير إلى بيت الأفعى في اليوم التالي.

  •   *   *   *

حمل الحمار الأب هديته على ظهره، وانسل مع قدوم الفجر متوجهاً إلى مقر الأفعى الملكة، ظل رأسه يفكر طوال الطريق كله، رغم ما يسببه له التفكير من تعب وإجهاد، ورغم خروجه عن عادة الحمير، فميزة الحمير التي خرج عنها الحمار الأب، هي إبقاء العقل في حالة ارتياحٍ دائمٍ، بعيداً عن تعب الأيام ومشاكلها، لكن عادة معشر الحمير لم تُلزمه أو تمنعه من التفكير على طول الطريق. داهمته الشمس فقضت على بقايا البرد المختبئة بين ثنايا جلدة، وبدأت تنشر حرارتها على كامل الطريق، والحمار الأب ما يزال يسير، حتى وصل  الى شجرة النخيل التي يقصدها، وكما أوصته الأفعى الملكة، أخذ ينهق نهاقاً خفيفاً منادياً على الأفعى الملكة ، والتي جاءت تزحف مسرعة وكأن أحداً أزعجها وقلل من راحتها، وقالت معاتبة:

ـ ألم أوصيك أن تنهق بلطف أيها الحمار؟ لقد أيقظت كل الأفاعي وأخفت صغارها…

فقال الحمار الأب في محاولة للدفاع عن نفسه:

ـ وهذا ما فعلته بالضبط أيها الملكة الأفعى، هذا أخفت صوت استطعت أن أخرجه من حنجرتي.

وكادت أن تقول الأفعى بصوت مرتفع،” كنت حماراً وبقيت حماراً، فعلاً إن أنكر الأصوات لصوت الحمير” لولا أن قررت أن الوقت ليس مناسباً في هذه اللحظة بالذات، بل إنها أخذت ترحب به وأخذته معها إلى ديوان الأفاعي لتحتفل بقدومه.

قرعت الأفعى الملكة جرس ذيلها منادية، فأقبلن قائدات الأفاعي واحدة بعد الأخرى، فحضرت أول ما حضرت الأفعى “الكوبرا” فاردة رأسها وكأنها تحمل تاجها الملكي فوق رأسها، فاردة طولها والذي بحجم عدة أفاعٍ من حجم الملكة الأفعى، مختالة مغرورة به، وبين أنيابها سموم قل مثيلها في كافة الأنحاء. تبعتها الأفعى النفاثة برأسها العريض المغطى بالحراشف، نافثة الهواء الذي ملأت به جوفها في الهواء بشدة، جاءت برفقة الأفعى الرملية، ذات الرأس المدبب والعنق النحيل، وبجسدها المنشاري الضعيف القصير، والذي يحوي كمية هائلة من السموم، جاءت فرحة وكأنها تتزلق فوق الرمال، ومن مكان أكثر بعداً جاء الأفعى الأسود الخبيث، بجسده النحيل وذيله الإبري، بعيونه الصغيرة كعيني لص محترف، كما حضرت أفعى الحنش بجسدها المتطاول المغطى بالحراشف، والأفعى النمر بشكله وألوانه النمرية، بمرونة جسدها وأنيابها القوية. جئن الأفاعي فرحات مزغردات بعد الأمر الذي تلقينه من الأفعى الملكة، وابتدأن بالطبل والرقص والغناء، مرحبات بقدوم الحمار الأب، مقدمين له الفاكهة والخضار، كما قدمن له خمور البلح مع “مازة” من الشعير، وأحضروا له “تحلبة” :”مخلاة من التبن”. ولم يفوت الملكة الأفعى من أن تقدم للحمار خلوة مع “آتان” جميلة، وأمرت بتصوير الحمار الأب في كل حركاته بما في ذلك داخل خلوته نفسها، متذرعة بأنها لا تعرف ما يخبئه الزمن لمملكتها، رغم أنها تتعامل مع حمار.

استمرت الإحتفالات حتى منتصف النهار، حتى أمرت الملكة الأفعى بالإنتقال الى غرفة خاصة أسمتها بغرفة الخيارات الكبيرة، وحضر معها الإجتماع مع الحمار قادة الأفاعي، خاصة قواها الضاربة الممتلئة بالسموم ممثلة بالأفعى الكوبرا والأسود الخبيث.

ابتدأت “الأفعى الملكة المجلجلة” اجتماعها بإحضار هدية الحمار الأب وفتحها أمام الجميع، وما أن رأتها حتى عُقد لسانها من التاريخ المتجمع بهذه الكثافة في هذا التمثال، والذي يكاد ينطق متحدثاً عن الأمم والحضارات المتداخلة التي جبلته، لكنها أرادت أن تُبقي الحمار مكسورا مهزوماً أمامها، فسألت بين الجد والمزاح:

ـ ما هذا؟!!!

ـ إنه… أقصد… ابني… الصنم …

قال الحمار كلمات لم يفهمها أحد، لكن الأفعى الملكة أدركت أنه لا يعلم ماهية هذه الهدية، وكادت تصرخ من شدة الغباء والجهل في الكتلة “الحماربة” الموجودة أمامها قائلة في سرّها:

ـ”حتى إنه لا يعلم ماذا حمل من تاريخ فوق ظهره هذا الحمار”.

وأدركت أنها أمام مرحلة مهمة من حياة مملكتها كلها، حين جاءها صوت الحمار معتذراً:

ـ أعرف أن هديتي المتواضعة هذه، ليست بمستوى مقامكم الرفيع، إن هذا “الصنم”….

ـ لا عليك… ما يهمنا هو أنت أيها الحمار، وهديتك تكتسب أهميتها كونها من حمار مثلك أيها الصديق الوفي، يكفي أنها مغلفة بشكل يُدلل على ذوق رفيع وإحساسٍ عال. لذلك…

وأشارت بيدها إلى الخادم ليضعها في صدر الغرفة، وأكملت:

ـ ضعها بالضبط هناك فهي رغم كل شيء من صديق عزيز مخلص ومهم… إنها من صديق حمار.

والحمار الذي وجد نفسه مقصراً، مقارنة باستقبال الأفاعي له، وبإحتفالاتهن به ومعه، وظن كل الظنون السيئة بالحصان الذي “إستحمره” بهذا الشكل واستغباه، مما سبب له كل هذا الإحراج، لكن صوت الأفعى أعاده إلى الواقع من جديد، قالت:

ـ إنتهينا من الإحتفال بك أيها الحمار الصديق، قل لنا بماذا نستطيع خدمتك!!! كي نُعيدك لديارك دون أن يلحظك أحد، تفضل…

عدّل الحمار من جلسته، أزاح مؤخرته معدلاً ظهره على ظهر الكنبة، لتساعده في مزيد من الراحة، وبدأ يقول:

ـ تعلمن “يا طويلات العمر” أن لكل منا طموح، ولدى ولدي “الحمار الكبير” طموح مشروع، طموح بأن يصير ملكاً على عشائر الحمير وقبائلها، فهو أول حمار يفكر بهذا الأمر وبهذه الشمولية، كما أنه ربما الحمار الوحيد الذي يعرف أن الأمر ليس ممكناً بغير السيف، ونعنقد أنكم يمكن أن تساعدونا بامتلاكه، ونحن وإن كنا لانملك الآن الكثير، لكنا نعدكم بأن تأخذوا كل ما تريدون إن أنتن ساعدتننا، وكما يقول المأثور الشعبي”خذوهم فقراء يغنيكم الله”، وأملنا بكم وبالله كبير، وأملنا بأن لا تُخيبن آمالنا، فخذننا و”بعون الله” لن تندمن أبداً.

فقالت “الأفعى الملكة” مؤكدة على كلام الحمار الأب، بين الهمز و بين الغمز، متلفتة إلى بقايا الأفاعي اللواتي كن يشعرن بالإهانة كونهن مجبرات ليجلسن ويستمعن إلى حمار، لكن للضرورة أحكام:

ـ أشاركك الرأي أن التفكير بطلب المسعادة هذا، ومن مملكتنا على وجه الدقة لا يمكن أن يصدر إلّا عن حمار ابن حمار يا طويل العمر، من حمارٍ أصيل، ونحن وبحمد الله و بجانب تقديرنا لك ولإبنك، فإننا نعدك بأن نكون عند حسن ظنكما…سندرس الأمر بمنتهى السرعة ونستشير حلفاءنا في الأمر، وسنرى ما يحب عمله وكيف سنعمله وسنبلغكم بالتفاصيل… أكمل كأس خمرك، وتوكل على الله وعد الى عشيرتك، قبل أن يلحظ تأخرك أحداً، واحرص شديد الحرص على أن لا تتفوه ولو بكلمة واحدة عن اجتماعنا هذا، وعليك تحضير حمير القبيلة للتدريب، وعليك أن تبدأ بحذوهم جميعاً، فأنتم معشر الحمير لستم أقل شأناً من الخيول، كما أن رفسات أرجلكم يجب أن تكون قاتلة

  •   *   *   *

عاد الحمار الأب إلى موطنه، بدأ بحذو الحمير بالحذوات التي قدمتها له الملكة الأفعى وعاد بها محملة على ظهرة، كان يقوم بالأمر بسرية كاملة، قائلاً:” أنه وجد الحذوات ملقاة على قارعة الطريق، في قطعة أرض صحراوية لا ينبت فيها عشب أو بقول، وأنه لن يأخذ ثمناً لشيء وهبه الله لمعشر الحمير”، الأمر الذي حسّن صورته في عيون القبيلة، وبدأ يخلق من عائلته قيادة لها، وخلق نوعاً من الثقة بين عشيرته وقيادتها المتشكلة حديثاً ، وكي لا يظل يُنادى باسم الحمار الأب وابنه بالحمار الكبير، قرر بأن يتحول اسم العائلة كلها بإسم “آل حمار”.

وخلال حذوه للحمير من قبيلته، قرر الحمار الأب أن يبدأ بتهيئة الأجواء لبدء حربه على بقية العشائر الأخرى من عشائر الحمير وقبائلها، كما أنه بدأ باختيار “مشروع الجنود” في ذهنه، ليبدأ تدريباتهم في الوقت المناسب، وكما أوصته الملكة الأفعى، ابتدأ كل”آل حمار”  بالتحريض على القبائل الأخرى، وخاصة قبائل الحمار الوحشي، وبنشر الأكاذب حولهم، واتهامهم بالإرتداد عن الدين وبالعودة إلى عبادة الأصنام، وفي مرات كثيرة بالإلحاد، وضرورة الوقوف في وجوههم كي لا يتعمم الفساد، ويسود الكفر والإلحاد والزندقة في المجتمع “الحميري” الكبير، ولاحقاً تم اتهام حمير القبائل الأخرى الذكور بالتحرش “بأتانات” “آل حمار”، ومرات بسبي نسائهم وخطف جحوشهم، فاتهم بعضهم بعضاً، وتخاصموا وتعاتبوا وتقاتلوا، الأمر الذي عمّق الهوّة بين عشائر الحمير وقبائلهم، وعمق الحاجة إلى قيادة شابة قادرة على الدفاع والحوض عن العشيرة بقيادة ” آل حمار”، وازداد حرق المحاصيل بين القبائل، وازداد تلويث المياه وتسميمها، وابتدأت الحروب بينها ما أدى لإضعافها من بعضها البعض، وبدأت عمليات الكره تزداد وتتعمق عمليات الثأر، وأخذ “آل حمار” يوزعون الشعير والبرسيم والتبن لعائلات الجنود المقترحين، كما أوصت الملكة الأفعى كلما أرسلت كمية من تلك الخيرات قائلة:”إطعم الفم تستحي العين”، فازداد إلتفاف العشيرة حول “آل حمار” أكثر، وأضحت هي القبادة الفعلية لعشيرتهم بدون جدال.

وبعد أن نضجت الأمور كما أرادت الأفعى الملكة “الداهية” كما سماها زعيم الكلاب، أخذت الأفعى الملكة جمعاً من الكلاب الضالة، الذين ابتدأوا بتدريب قبيلة “بني حمار”، تدريبهم على السيوف بشكل خاص، وكان التدريب يستمر من ساعات الفجر الأولى، ويستمر حتى ما بعد العشاء.  مع عمليات التدريب، أعطت “الأفعى الملكة” الأمر بحفر الخنادق وبناء القواعد في ثنايا ما تبقى من مساحة الليل الدامس. لكن الأمر الذي رفضت الأفعى حتى نقاشه مع “آل حمار”، هو موضوع السلاح “الإستراتيجي” كما أسمتها، والتي تشمل الرماح  والمنجنيق، كونها ستظل في أيدي قطيع الكلاب والأفاعي و بعض قبائل الضباع، “التي وعدتها “ملكة الأفاعي” بوطن لها مكان مملكة الخيول والتي لا تبعد كثيراً عن عشيرة “آل حمار”، متذرعة بأنها لا يمكن أن تتصور ماذا يمكن أن يحصل إن وقع هذا السلاح في أيدي غير موثوقة وخارجة عن السيطرة.

بدأت الحرب بقصف مكثف بالمنجنيق، وكانت العشائر مسالمة نائمة، ولم تتصور أن جهنم ستنزل عليها وعلى عائلاتها من السماء، وسرعان ما ابتدأت الرماح تخترق أجسادهم، وأمام هروبهم من الجحيم الذي لم يروا مثله حتى في أحلامهم، تابعتهم سيوف “آل حمار” من خلفهم ومن أمامهم، والتي قتلت كل شيء يتحرك. وأمام التقهقر الذي أصاب القبائل المستهدفة من “آل حمار”، فقد تايعت “ملكة الأفاعي” والكلاب الضالة بقصف معاقل عشائر الإبل والخيول والخراف والأبقار، وبعد أن جردوا قبائل الخيول من أسلحتها و”حذواتها” وقال البعض حتى من أسنانها، وأفلتوا عليها قطعان الكلاب الضالة وقطعان الضباع المتسلحة بكل أنواع السلاح حتى ما كان محرماً منه، وأخذوا يقتلون كل من رأوه سواء كان مجنداً أم مدنياً، فقتلوا الخيول شيباً وشباناً، وقتلوا الأمهار والأفراس، وبقروا بطون الحوامل منها، وكرروا الموت في الطرق والحقول ودور العبادة، وِطردوا معظم من لم تصلهم سيوفهم ورماحهم ومنجنيقهم، وزرعوا هناك قاعدة للضباع، متفقين معهم على حماية “آل حمار” وحماية مصالح الأفاعي والكلاب في المنطقة جميعها، مقابل أخذ حصتهم من عائدات المرابح جميعها.

بسط “آل حمار” سلطتهم الكاملة على منطقتهم والمناطق المجاورة، من عشائر الحمار الوحشي والإبل والأبقار  والخراف، و بحماية من قاعدة الضباع التي زودتها مملكة الأفاعي بكل أنواع الأسلحة وبكل أشكال الضباغ وأنواعها وألوانها المجلوبة من كل بقاع العالم، ووقّعت مملكة الأفاعي مع مملكة “آل حمار” على تقديم الحماية لهم وإعطائهم الحق باستخراج المياه والمعادن من رمال المملكة، مقابل حمايتها، وكذلك مقابل تقديم الخبراء والمستشارين، على أن تأخذ مملكة”آل حمار” بعضاً من نتائج حصاد ما يتم استخراجه.                              كما أقرت المملكة وملكة الأفاعي، أن تشتري مملكة “آل حمار” شعيرها وتبنها من مملكة الأفاعي أو ممن تشير بهم اليه. وكون الحرب قد حطت أوزارها عمليا من وجهة نظر “آل حمار”، وبدأوا بالتوجه الى الإهتمام بشئونٍ أخرى، إلّا أن الملكة الأفعى غلّطت هذا الفهم، وقالت إن ما مضى هو أبسط الأمور، وأن القادم أعظم، وإن لم يتم التحضير للفترة القادمة، فقد تشهد المملكة إنقلابا ربما يعيد الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه، الأمر الذي جعل الحمار الأب  وابنه الحمار الكبير، ترتعد فرائضهما، ويكادا يبولا على أذنابهما من جديد، لولا أن تدخلت الملكة الأفعى لتطمينهما، قائلة لهما:

ـ هيا لنتهيء لتمليك الحمار الكبير ونحتفل به مع أبناء” آل حمار” كلهم، ولنضع مهمات المرحلة القادمة، كي يظل الملك وعائلته والمملكة كلها في أمن وأمان.

  •   *   *   *

وابتدأت الإحتفالات بتنصيب “الحمار الكبير” ملكاً على كامل أراضي المملكة ورمالها، وحضرن الأفاعي والكلاب الضالة والضباع، ودعون أصدقاءهن وحلفاءهن لمشاركتهن الفرحة، وسُكبت الخمور وشربوا الأنخاب، وذبحوا العجول والأبقار والخراف المسبية، وأحضروا الراقصات وأشعلوا النيران، ورقص “بنو حمار” كلهم، وهنأ الجحوش أخيهم الملك وتمنى الكثيرون منهم لو أنهم كانوا مكانه في هذا العرس الملكي المهيب، وغرس “آل حمار” سيوفهم في بطون من أسروه من قبائل الحمار الوحشي، وحرقوا بعضهم أحياءً إنتقاماً وكرهاً، وأكلت الحمير اللحم علّها تصبح حيوانات كاسرة، وبدأوا بنبش مقابر العشائر المعارضة ليتعلموا أن لا معارضة لنظام “آل حمار”، وليكونوا درساً لمن تُسوّل له نفسه بالتفكير للتصدي لهم أو لأي حمار من قبيلتهم.      وانطلقت في السماء فحيح الأفاعي ونباح الكلاب وزمجرة الضباع ونهيق الحمير، معلنة عن فرحتها، واستمرت الأعراس أياما طوالا، فُرضت ضريبتها على العامة من قبائل الحمير كلها، وجيء بالقبائل لمبايعة الملك وتهنئته، وسجلوا أسماء القادمين ليستطيعوا تحديد المتخلفين ليسهل الإنتقام منهم لاحقاً، وهذا ما تم فعلاّ، ولم تُقبل أعذار المرضى أو العُجَّز ولا حتى مصابي الحروب الذين حاربوا مع “آل حمار” ومن أجلهم!!!.

ظلت قبيلة “آل حمار” تتغنّى بالعرس الملكي والذي تحول مع مرور الزمن الى عرس وطني، والذي وصلت أصداءه إلى كافة ممالك الحيوانات، ورويداً رويداً بدأوا ينسجون القصص عن الحمار الملك والحكايات، وأخذت تُنشر الصور للملك”الشجاع” وهو يحتضن سيفه، أو وهو يطعن الحمار الوحشي، وأخرى وهو “يرفس” حصاناً بحوافره ويرديه قتيلاً. وأخذوا يقولون الحكايات عن سرعة الملك الحمار التي تتفوق على سرعة الخيل مرّات ومرات، وجماله الطبيعي الذي يتفوق على جمال الغزال، ورسم البعض للحمار الملك النيوب الأحدّ من نيوب الليوث، وبعيون كحيلة كعيون أبقار الوحش، وزادت القصص عن ملك “آل حمار” وتزايدت، حتى أضحى الملك الحمار الحدث الأبرز الوحيد الذي لا تنتهي قصصه ولا تنتهي حكاياته.

قال ملك”آل حمار” “للأفعى الملكة”، في شكرٍ واضح وفي محاولةٍ لإظهار العرفان بما فعلته مملكتها له ولعائلته:

ـ ” من نظر إليَّ بعينٍ أنظر إليه بالإثنتين” “طال عمرك” “أطلبي تُعطين”!!!

فقالت الملكة الأفعى بوضح ما بعده وضوح:

ـ نحن أعطينا حتى الآن أيها الحمار الملك، ولم ننتهِ من العطاء بعد، فكما تعلم لن يستطيع حمار مهما علا شأنه، حتى لو كان ملكاً، أن يحافظ على هذا المُلك دوننا، لذلك حان الوقت لأن نأخذ لا أن نُعطى، أليس كذلك أيها الحمار!!!

وختمت حديثها بسؤال جرده من ملوكيته، فهم منه الحمار أن حياته ومماته وفقره وغناه هو في أيدي مملكة الأفاعي وحلفائها، وأنها قصدت إفهامه أن ما يحاول تصويره لقبائل الحمير وعشائرها، لا يمر عليهم خاصةً وأنها ومملكتها من صنعتاه، فقال في محاولة للإعتذار والخضوع:

ـ معكِ حق “طال عمرك”، وهذا ما قصدته… أنت تأخذين ولا تطلبين أو تُعطين، فالبلد تحت أمرك، والحمير وملكها تحت تصرفك…

طبطبت الأفعى الملكة على ظهر الحمار الملك بطرف ذيلها، مشجعة على الخضوع أكثر، وضغطت على طهره، فأخذ يركع رويداً رويداً، حتى لامس رأسه حذاء الأفعى، اقتربت بحذاءها قليلاً إلى فمه، فاحتضنه الحمار الملك بحافريه وانهال تقبيلاٌ به، وابتدأت دموع الخضوع والمهانة تنهال على صفحات وجهه الطويل، فقالت له الأفعى وهي ما تزال تضغط على رأسه ليزداد للحذاء تقبيلاً:

ـ لا عليك لا عليك، إننا حلفاء وأصدقاء أيضاً، وسنظل كذلك ما دمت ترغب بصداقتنا وتتمسك بنا حليفاً، فمن ناحيتنا نحن مخلصون لهذه الصداقة، رغم أنّ الكثيرين يعبون الأمر علينا قائلين”أنكم لا تستطيعون تعليم حماراً، فالحمير تُركب ظهورها فقط وتُقاد”، ونحن لم نركب ظهوركم أيها الحمار، لذا فالأمر يعتمد عليك فقط، على مدى تفهمك لمصالحنا المشتركة، فلا تهدم ما بنيناه سوياً…

ـ معاذ الله، فأنا لست سوى أحد أملاككم، وما عليكم سوى الأمر وما علي سوى الطاعة.   قال الحمار الملك كلماته هذه، في الوقت الذي أخذت فيه الملكة الأفعى ترفع رأسه وشفتيه عن نعل حذاءها، وأخذت تطبطب من جديد على ظهره وتقول:                                      ـ أستغفر الله العظيم … أستغفر الله العظيم… هيا ياصاحب الجلالة، أيها الحمار المبجل لنضع برنامج السنوات القادمة….

وابتدأت الملكة الأفعى تقرأ توصياتها لتسهل للحمار الملك حكم البلاد، لكنها طالما ما أعادت على مسامع ملك “آل حمار” ما كان يكرههه، وهو تكرار مناداته بالحمار لتذكره بنفسه:

ـ إبدأوا ياصاحب السعادة، أيها الحمار المبجل، بتأليه الملك، فلتُعلق صورك في كافة الشوارع والساحات، في البيوت ودور العبادة، ولتفرض الضرائب على أي حمار لا يعلق صورك في بيته، فأنت ملك البلاد وإن كنت حماراً، كلامك مسموع وطاعتك واجبة. ورمت أمامه صورة حمارٍ يقف على خلفيتيه مثل حصان جامح، رأسه في الأعلى وفي يده سيف ومن خلفه منجنيق، ومكتوب في أسفل الصورة:

“مليكنا زين الحمير      زين الحمير مليكنا”

ـوعليكم باستمرار الحروب مع قبائل الحيوانات الأخرى، لتظل لكم خاضعة وتحسب لكم ألف حساب وحساب، وبين قبائل الحيوانات وعشائرها مع بعضها البعض، وسلحوا كل الأطراف لتظل ضعيفة وتظلوا الأقوياء، واربطوا الجميع بأموالكم ليظلوا بحاجتكم وتحت سطوتكم وسيطرتكم، وكي لا يخرجون عن طوعكم وأوامركم، واسبوا الجميع واقتلعوا مزروعاتهم وأشجارهم وسمموا مياههم، واستنكروا وتبرأوا من ذلك كله وكأن ليس لكم فيه يداً.

نظرت من جديد في الورقة التي بين يديها وتابعت شارحة، كون الحمار لن يساعده عقله على حفظ ما تقوله:

ـ وعليكم أيها الحمار والملك العزيز، أن تُطلقوا اللحى والسوالف وتحلقوا الشوارب، فللحمار الشَعور هيبة ورجولة، وعليكم بتعدد الآتانات، واترك الشعب يغرق بالتزاوج ويبتعد عن السياسة، وإياك بأن تعطي الأتانة حرية الحركة أو العمل أو التعليم أو التعبير، كون ذلك رجس من عمل الشيطان، واتركهن سجينات بيوت أزواجهن وأباءهن، فذلك يُحَيِّد عنك “شرور” نصف مجتمع الحمير، ويظل النصف الآخر الذي ستحكمه بحد السيف والمقاصل، فكما تعلم أيها الحمار الملك” العصا لمن عصا”، ولكنك تحتاج التجهيل بجانب السيف يا طويل العمر.

ـ التجهيل؟!!! كم كنت أود أن يتعلم الحمير أيتها الملكة العظيمة، لكن وما دمت لا تريدين…!!!

قال ملك “آل حمار” في لهجة أقرب إلى الرجاء والتمني، وسرعان ما تفاجأ من إجابة الملكة الأفعى التي قالت:

ـ ومن قال أننا لن تعلمهم؟، علّمهم طاغة الله وطاعة الملك، وأن طاعة الملك وإن كان حماراً لهي من طاعة الله، وأن أي خروج عن أقوال الملك أو أفعاله أو أوامره ما هي إلّا خروج عن طاعة الله، عاقبتها السف في الدنيا وجهنم وبئس المصير في الآخرة، علمهم فلسفة التجهيل أيها الحمار…..الملك…                                                                                 ولما نظرت الملكة الأفعى في عيني الحمار الملك، وجدتها جاحظة منطفئة شبه ميتة، فأدركت أن ملك “آل حمار” لم يفهم الكثير مما قالته، فقالت:

ـ أقصد أنك بحاجة بجانب السيف إلى العمامة، فالسيف للقتل ونشر الخوف والتخويف، والعمامة لفن التجهيل، لتحارب القبائل الأخرى باسم الله وباسم الملك، أي للربط بينك وبين الخالق، من معك فقد آمن ومن خالفك فقد كفر، من مات وهو يحارب باسمك ومن أجلك فقد مات شهيداً له جنات تجري من تحتها الأنهار، وله أنهار الخمور كما الجواري الحسان والغلمان، ومن مات وهو ليس كما أنت عليه فله جهنم وبئس المصير خالداً فيها إلى أبد الآبدين. وعليهم أن يشرحوا ويؤكدوا لكل معشر الحمير أينما حلوا أو ارتحلوا أو تواجدوا على احراق الكتب الجاحدة الكافرة، والكتب الكاذبة واللوحات التاريخية وهدم الأوثان وتحطيم الأصنام وتدمير المقابر وقطع الأشجار ذات العمر الطويل لأن ذلك يعارض أوامر الله ويخالف شرائعه، وتدمير كل ما لا يمكن نقله من بقايا البيوت المحملة بالتاريخ والمعابد الأثرية، ونقل ما يمكن حمله من “الأصنام” الأخرى التي يمكن حملها ونقلها، لحليفتنا الجديدة في المنطقة، “مملكة الضباع”، كي تساعدهم في بناء تاريخ لهم وتشكيل حضارة خاصة بهم، فليس من المعقول أن نتركهم وشأنهم ودون مساعدة منا بعد مساعداتهم لكم ولنا!!!

وسكتت الملكة الأفعى وكأنها تريد أخذ جرعة هواء لم يسغفها الوقت لأخذها في الوقت المناسب، وعادت لتنظر الى الحمار الملك والذي ما يزال غير قادر على فهم كل ما يدور حوله، ثم أكملت علّ بعض الوصايا تعلق في رأس هذا الحمار، أو تثير فيه فضول استعمال عقله:

ـ ولا ننسى ايها الحمار المبجل، أن على العمامة أن تُفلسف آلية لغزو الأفكار، وأن تعلم أن الفكرة كالسهم إن أصابت قتلت، أو كالمنجنيق اينما سقطت حرقت، لذا عليك أن تجعل ما يقوله الملك قانوناً يجب تطبيقه والإلتزام به، كما عليك أبها الحمار الملك أن لا تسمح بزراعة الأزهار لأنها تدعو للتفاؤل، ولا بزراعة الأشجار لأنها تبعدك عن ذكر الله، وأن لا تسمح بتجمع أكثر من حمارين اثنين، لأن التجمعات تدعو للفتنة، وعليكم شراء محطات وصحف ومذياعات  لنشر أفكار أصحاب العمامة في كل مكان، وأوعز أيها الحمار الملك لبعض “بني حمار” أن تُقيم ذات الشيء للطبل والرقص والعنف وشرح دين الملوك، ونشر صور الملك وأحاديثه وكتبه ، وورعه وتقواه وإيمانه وصلاته وصيامه وقعوده وقيامه، وعفّته ورقته وخشوعه وقناعته، وهل أهم من الملك ليتحدث عنه العامة وإن كان حماراً أيها الملك المبجل،  وعليك أن ….

وسكتت الملكة الأفعى على غير توقع، سكتت بعد أن أبقت عينيها معلقة في عيني الحمار، ملك “آل حمار” كلهم، اللتين ظلتا عينين مفتوحتين على أقصاهما، عينان ضبابيتان ميتتان ليس بهما حياة.  رمت الأوراق التي من يدها على الطاولة أمام الحمار، قائلة في نفسها”فعلاً ليستا سوى عيني حمار”، وسرعان ما أمرته بتشكيل لجنة من أذكى حمير “بني حمار” ويأمرهم بتنفيذ ما في الأوراق بحذافيره تحت إشراف الأفعى “الأسود الخبيث”، وأمرته بتشكيل لجنة عسكرية من أكثر ضباط الحمير طاعة، وبإشراف الأفعى “الكوبرا”، التي قامت أول ما قامت بتجميع أفضل الضباط الذين تمرسوا في حروب”آل حمار” الطويلة، وخرجت بهم للتدريب كما أعلنت، وهناك سرعان ما أمرت حلفاءها الكلاب الضالة والضباع لتنقض عليهم وتمزقهم ولم تُبق منهم غير هياكلهم العظمية. وعادت إلى الحمار الملك لتُعْلِمه أن حيوانات مفترسة ضخمة، لم تر لها مثيلاً من قبل، انقضت عليهم أثناء التدريب وقتلت الضباط جميعاً، فرد الحمار ملك”آل حمار” فائلاً ودون تردد:

ـ فداك الضباط جميعاً طال عمرك، فدال كل الضباط….

وظلت الأفعى “الكوبرا” تقود جيوش المملكة وتدربهم  بمباركة ملك الحمبر جميعاً.              وأخذت تمر السنون واحدة بعد أخرى، وصارت الأفاعي والكلاب الضالة والضباع، تحفر جحوراً في مملكة “آل حمار”، وتبني البنايات وتزرع فيها أكواماً من الأسلحة، وبدأت تستخرج الماء من باطن الأرض، ويُقسم البعض أن مياهاً ذات لون أسود كانت تخرج من نفس تلك الأرض، وأخذت الأفاعي تأخذها وتبدلها بالشعير والتبن، وتبادلها بالمياه المستخرجة من الأرض ذاتها، وأنها كانت تستبدل وعاءً من الماء العادي مفابل اثنين من الماء الأسود، وأخذت مملكة الأفاعي تحمل الماء الأسود في سفن وسيارات شحن كبيره، ومددوا له الأنابيب الضخمة لتصلهم تلك المياه دون عناء، ومتأخراً بدأوا يعطون جزءً من ناتج بيع تلك المياه “للملك الحمار” و”لآل حمار”. ويؤكد الرواة أن الأمر ما يزالا معمولاً به حتى وقتنا هذا والله أعلم.

وأكمل الراوي حكايته قائلاً:

وقيل أن الملك الحمار، كان قد احتج يوماً على النسبة الهزيلة”كما وصفها” التي تعطيها له مملكة الأفاعي، مقابل الماء الأسود المنقول لديارها، إلى أحد أفراد العائلة الحمير من “آل حمار”، يعني من عائلة الملك الحمار نفسها، والذي نقل تفاصيل الحديث وأضاف عليه للملكة الأفعى، ما جعل ملكة الأفاعي تُعطي أوامرها للأفعى الكوبرا أن تضع له من سمها كمية قاتلة بين حبات الشعير التي يتحلى بها الملك الحمار كل مساء، قائلة:

ـ أقتلوا هذا الحمار وهاتوا حماراً آخراً لنعينه ملكاً، يبدوا أنه قد بدأ يستخدم عقله، وهذا يخالف إرادة الله هه هه هه هه

وضحكت الأملكة الأفعى كما لم تضحك من قبل.

وقامت بنفسها بأخذ العزاء من عامة الشعب، وذرفت الدموع، وشقت ملابسها، وبقيت بنفسها طيلة أيام الحداد بجانب آل حمار في مصيبتهم، ومشت في جنازة الحمار حتى واراه التراب، كما ظلت حتى بويع الحمار الجديد ملكاً، والذي لم يكن أحداً آخراً سوى أخو الحمار القتيل، الحمار الأكبر بين الأخوة الجحوش جميعا.

وفي الأثناء كبر بقية أخوة الملك الجحوش وصاروا حميراً كاملين مُكملين، وجاء الحمار الأب إلى “الأفعى الملكة” أثناء قيلولتها، سلم وجلس بالقرب من ذيلها، فنهضت بعد أن سمعت بحركات جسده الثقيلة، وسألت بعد أن رحبت به:

ـ أهلاً وسهلاً بالحمار ابن الحمار، ما الذي جاء بك بعد كل هذه السنين؟ والله اشتقت لك…    ـ إشتاقت لك العافية أيتها “الملكة الأفعى” المبجلة، ووضع يده على حزام وسطها وأكمل، “يدي في حزامك” أيها الملكة…

فقالت الملكة الأفعى التي تعلّمت عادات مملكة الحمير وأهلها منذ زمن:

ـ “وَصَلْتَ ياطويل العمر” ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك؟

ـ أنا “طمعان” في جودك وكرمك… فكما تعلمين الجحوش كبرت، وتطمع في أن تُملكينها بعض الممالك، ولن ننسى فضلك هذا بإذن الله… وأنت تعرفيننا جيداً، وتعرفين حمارنا المرحوم جيداً…

قال الحمار الأب راجيا، حين قالت له الأفعى الملكة:

ـ يقولون أن “الطمع في الدين”، لكن يبدو أن عند معشر الحمير “الطمع في الحكم”، وأنت كما تعلم “غالي وطلبك رخيص”، سأولي أولادك الحمير على بعض الإمارات القريبة، فأنا كما أعرفك أعرف نفسي أيضاً…فكما تعلم “لعلنا لن نجد أفضل من الحمار ملكاً”

  •   *   *   *

وهنا ثارت ثائرة المعارضين للراوي قائلين، أن الأفعى الملكة لم تقل ” لعلنا لن نجد أفضل من الحمار ملكاً”، بل قالت ” يظل الحمار حماراً حتى لو صار ملكاً”.

واختلفوا ولم يتفقوا وتجادلوا وتحاججوا، وشكلوا لجنة مشتركة للتدقيق في الأمر ومتابعته، وانفضضنا من حولهم وحول الراوي مُشتتين، حائرين، من نصدق ومن نُكذّب؟ أقوْل الراوي ب “لن تجد الأفعى أفضل من الحمار ملكاً” أم قول معارضيه بقولها ” الحمار حمار حتى لو صار ملكاً”….

محمد النجار

أمي رأت أمك

ـ سيدي، الأمر ليس كذلك، لماذا تصدقوه وتكذّبونني؟ ألسنا متساوين أمام القانون؟ ولماذا أنا في هذه الزنزانة وهو حر طليق ينتقل من قناة تلفزيونية إلى أخرى مثل الإعلانات التلفزينية، أو مثل المسلسلات الهابطة؟ بالطبع لا، لم أقصد إهانته ولا إهانة أحد بكلامي هذا، أقصد… إنك تعرف تماماً ماذا أقصد… ماذا؟ إذا لم يكن هو السبب فمن إذن؟ فأنا منذ تشريفكم إلى “البلد””بَطّلت” السياسة والحديث بها، خلعتها ورميتها بعيداً، طلّقتها ياسيدي، والدليل أنكم لم تعتقلوني قبل الآن ولا مرة واحدة، صحيح أنكم استدعيتموني لكنكم لم … ماذا؟ بلد ديمقراطي؟ نعم …أراه وأحسه على جلدي كما ترى، والله لا أتحدى ولا “أتخوّت” ولا زفت… قل لي ماذا تريد مني!!!

يشعل سيجارة، ينفخ دخانها في سماء غرفة التحقيق ويقول:

ـ  طبعاً كنت معتقلاً قبل دخول سلطتكم، ومَنْ لم يُعتقل؟ فملفي بين يديك كما أرى، نفس اللون وأكاد أجزم أنها صورة عن نفس الأوراق… وما زالت الكلمات العبرية تتصدر معظم صفحاته، وأنا لم أُهدده ولم أهدد أحداً، ثم أنك قلت أنه ليس المقصود، وأنا لا يوجد لدي قصصاً لأحكيها لا لك ولا لغيرك…

يستمع الى المحقق، وما زال يدخن ثم يقول:

ـ ربما، أعتقد أن هناك بعض التغيير، حينها كانت هذه الزنزانة بالذات أكثر نظافة، كنا نغسلها بأيدينا أكثر من مرة في الأسبوع، لكنكم ومنذ أسبوع كامل بالكاد تعطونا مياه للشرب، كما أننا كنا ندخن على حساب الصليب الأحمر والآن أدخن من سجائري، لكن وللحق فالشبح نفسه والضرب نفسه، كل شيء يبدو متشابه من” إحكي القصة حتى … لا أعرف بعد فالأمر لم ينتهِ بعد لأعرف”… وعلى كل حال قصتي الوحيدة هي التالية:

ـ كثيرة كانت الإنتقادات في الفترة الماضية لحركة حماس، بسبب المفاوضات التي تجريها سراً مع الكيان الصهيوني، ماذا؟ لا، أقصد الكيان الصهيوني وليس “إسرائيل”، فأنا مهما جرى لن أعترف بدولة أُقيمت على أرضي وأرض شعبي أسموها “إسرائيل”…  وإن كان أمر المفاوضات صحيحاً، فإنتقادها صحيح أيضاً، الأمر الذي كان سبباً في حوار أخذ أحياناً طابع الحدية مع ذلك السيد، والذي كان كثير النقد لما يجري حسب، و هو من رجالاتكم ومن رجالات الحزب الحاكم أيضاً، وأنا لم أدعوه، لقد لبى دعوة زميلي الذي يشرب الشاي معي ويدخن النرجيلة في مقهى المدينة، جالسنا ليري الناس أنه ما زال رجلاً شعبياً يجالس البسطاء حتى بعد أن كَبُر شأنه. وكي تكون الأمور واضحة، سأقول لك بعض المعلومات عن محاوري هذا، فهو مثلاً كان من أحد أقطاب اليسار الفلسطيني، يعرف عن الماركسية أكثر مما يعرف عن التاريخ العربي الإسلامي، يحفظ فقرات منها ويستشهد بها أكثر من استشهاده بالمأثورات الشعبية، بل أكثر من إستشهاد شيخ بآيات من القرآن والأحاديث، وفجأة أخذ يقلل من إستشهاداته تلك، واستبدلها بإستشهادات بأقوال “الأخ القائد”، فأخذت تظهر صوره ولقاءاته على التلفاز بشكل مفاجيء، ليتبين لي وللجيران الآخرين أن إحدى بنات “قادة الصف الأول”معجبة به أشد الإعجاب، بل إنها أحبته من النظرة الأولى، وكون الحب يصنع المعجزات، فبدأت المعجزة الأولى بتردده على بيتهم معزوماً من أمها، و”كرّت” المسبحة بمعجزات متتالية، والأم كانت قد ورثت عن زوجها المتوفى بضع عشرات من ملايين الدولارات، ف”المغرفة في يد القيادة،” ومن بيده المغرفة لا يجوع”، وما زالت تعمل في القيادة ومعها، ومشهورة بهز الرأس بالإيجاب دائماً، ولا تعرف كلمة “لا” الى لسانها طريق، وقال عارفوها أن بيت الشعر القائل:

ما قال قط لا إلّا في تشهده …… لولا التشهد لكانت لاؤه نعم

ينطبق عليها أشد الطباق، لذلك مازال لها حظوة لدى كل القادة الأكثر تنفذ.

وسرعان ما تزوج عريسنا، وبدلاً من أن تنتهي القصة هنا وعند هذا الحد، فقد كانت البداية من هنا بالذات “لعريسنا الكبير”،  فأُقيمت الأفراح والليالي المِلاح، واستمرت الإحتفالات أياماً بلياليها كما لا بد تعلم إن لم تكن معزوماً، و”للحق” وكي أكون مُنصفاً، لم تدم الأفراح لدينا في المدينة سوى ثلاث ليالٍ، وذلك بسبب أوضاع الضفة، حيث الشهداء والأسرى،كما قال مؤكداً لبعض عارفيه، ومن ثم انتقلت الأفراح لمدينة عمان في الأردن لتكمل أسبوعها ، وبعدها غادر العريسان إلى باريس لتقضية شهر العسل هناك، وبعد عودته إزداد حضوره على الشاشات وبطون الصحف ونشرات المذياع، حتى غدا كما تعرف ويعرف الجميع، من الوجوه الأولى التي يصعب تجاوزها. قال لي حينها مفسراً موضحاً:

ـ إن ما يقومون به من مفاوضات سرية، ما هي إلّا لفصل القطاع عن الضفة، وليُثبِتوا هدنة يستمروا بعدها في الحكم هناك، وهذه والله خيانة عظمى!!!

فقلت:

ـ هل فعلأ يقومون بذلك أم مجرد دعاية؟ ف”الجماعة” ما زالوا متمسكين بالبندقية كما نرى، والحرب الأخيرة لم يمر عليها سوى عام واحد

ـ دعاية؟!!! إننا نعرف ذلك جيداً، فمصادرنا موثوقة… وكل ما تراه ما هو إلّا لذر الرماد في العيون…

ـ مصادركم؟!!! وحرب تدمر القطاع لذر الرماد في العيون؟

سألت مستهجناً مستغربا حين قال:

ـ نعم مصادرنا…

وضحك مكملاً:

ـ محاوريهم أنفسهم أخبرونا بذلك

قلت سائلاً من جديد:

ـ لكنكم قلتم أنكم أوقفتم المفاوضات معهم احتجاجاً على الإستيطان، ألم توقفوها؟

قال :

ـ بلا، لكن يوجد خطوط مفتوحة هنا وهناك كما تعلم

قلت:

ـ لا والله لا أعلم، وكل ما أعلمه أنكم قلتم أنكم أوقفتم كل الخطوط عندما أوقفتم التنسيق الأمني، أكان ذلك كذبة أم مزحة ثقيلة سمجة؟ وما دام الأمر كذلك لماذا تزايدون عليهم إذن؟!!! إنكم تعملون كما يقول المأثور الشعبي”قال له أمي رأت أمك في الكرخانة، فقال له جيد، أمي تعمل هناك ولكن ماذا كانت تفعل أمك؟” وأنتم ماذا كنتم تفعلون مع الصهاينة الذين أخبروكم بالأمر؟!!!

فهب فيّ صارخاً عندما لم يستطع إجابتي، واتهمني أنني أشتم السلطة والقيادة، فأجبته بدوري أنني لا أشتم أحداً، وإن كان مايقوله صحيحاً فهم يستحقون الشتيمة، وتطور الأمر لا أعرف كيف، ولكني أضفت:

ـ “مَنْ بيته من زجاج لا يحذف الناس بالحجارة”، فأنتم أول من إبتدأ المفاوضات، قمتم بها متجاوزين منظمة التحرير وقيادة الفصائل والمنظمات الجماهيرية والإتحادات الشعبية والشعب كله، وجئتم حاملين لنا “إتفاق أوسلو” وشعار غزة وأريحا أولاً، وبغض نظر منكم وتواطئ وموافقة، ملؤوا السجون بالمعتقلين قبل تسليمكم للمدن كي لا تواجهكم أي معارضة، ووقفوا لنا على أبواب المدن بدورياتهم وجنودهم، وفاوضتم من جديد، فأخذوا المدن التي أعطوكموها حتى بعد أن كنتم مثل الطفل المؤدب، وقمتم بكل ما طلبوه منكم، إعتقلتم وسلمتم أسلحتكم وأسلحة المطاردين، وأغمضتم أعينكم عن تضاعف عدد الشهداء والجرحى والمعتقلين، وعن مصادرة الأراضي والمستوطنات والطرق الإلتفافية، واختصرتم القدس بالمسجد الأقصى ووافقتم على عدم دخول مواطنيكم القدس أو ألأراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين على إعتبار أنها أراٍ ض إسرائيلية لدولة جارة صديقة، وبصمتم على أراضي ”  bو c” لتكون تحت السطرة العسكرية، واستنكرتم العمل المسلح وتنازلتم عن حق العودة وكأن فلسطين مُلكُ عائلاتكم أو ورثتموها عن السيد الوالد، وها أنتم أعجز من أن تحترموا قراراً اتخذتموه بأنفسكم، وفي المحصلة فإنهم إن كانوا يفعلون ما فعلتم، فهم أيضاً مدانون مثلكم، وشعبنا لن ينسى من يفرط بحقوقه، وإن كان لأحد الحق في الإعتراض والحديث فهو ليس أنتم، فهم إن فتحوا سجوناً فأنتم سبقتموهم في ذلك، وإن إعتقلوا فأنتم السابقون وهم اللاحقون،  ويظلوا هم متميزين عنكم بأنهم ما زالوا قابضين على البندقية، ربما ليس إلى فترة طويلة إن ظلوا وراء إمارة قطر والعثمانيون الجدد، أوحتى خلف مشورة آل سعود، وفي كل الأحوال أنتم وهم مدانون وتستحقون الشفقة…

إشتد غضبه، وبدأت أرى شرراً يتصاعد من بؤبؤي عينيه، وأخذ يرعد ويزبد، فقررت أن استمر بعنادي وأقول رأيي لهذا “الطفيلي” مهما كان الأمر، فتابعت:

ـ إن كل ما تريدونه أن تحكموا غزة أيضاً، أن لا تتركوا بندقية تؤلم الإحتلال وتؤذيه، لتصبح غزة كسيحة مثل الضفة الفلسطينية، وإلا لماذا لا تقوموا بإصلاح المنظمة وتوحيدها على أساس كفاحي؟ على مشروع وطني يقاوم الإحتلال ويؤلمه، لماذا لا تريدون إصلاح مؤسسات المنظمة التي تعفنت وعفى عليها الزمن؟ أم أنكم لم تعودوا قادرين على الحياة في أجواء صحية وهواء نقي؟ إن كنتم تريدون التحرير فطريقه ليست مفروشة بالورود، وإن كان الأمر صعباً ولا تستطيعون القيام به، اتركوا الأمر لمن يستطيع…

أشعل الضابط  سيجارة هذه المرة،وظل المعتقَل يتابع موجهاً كلامه للمحقق الذي أمامه :

ـ وهل يجب أن أكون أخرساً؟ ومنذ متى عدم العمل في السياسة تعني أن لا يكون لدى المرء رأياً؟ لكن دعني أسألك أنت، فربما تستطيع أن تشفي غليلي بإجابة شافية:

ـ هل فعلاً ما زلتم تفاوضون وتنسقون أمنياً من تحت الطاولة؟

وأمام ابتسامة الضابط ونظرات عينيه، وقبل أن يجيبه، رد الضابط المحقق على هاتفه الخيلوي الذي كان في درج مكتبه، وهو ليس الهاتف الذي فوقه وقال:

ـ شالوم… ماشلم خا.. كين…أني….*

وخرج من مكتبه ليكمل الحديث…

  • لغة عبرية تعني: مرحباً… كيف أنت… نعم… أنا…                                                                                                                                                                                                                         محمد النجار

أعترف الآن

قال محامي الدفاع:

ـ المتهم يرفض سيدي القاضي وحضرات المستشارين أن يدافع أحد عنه، ويصر على أن المحكمة مسرحية هزلية قرارها معروف مسبقاً وحكمها جاهز، وكون محكمتكم الموقرة قد وكلتني بالدفاع عنه، فإنني سأبقى رغم أنفه، لأنه رغم كبر سنه إلّا أنه لا يعرف صالحه، يعتقد أن الأمور “ستفرق” عند سعادتكم إن قبل أو رفض، لكن وكون بعضاً من دولكم التي تمثلون هي واحات للديمقراطية في العالم وفي الشرق الأوسط، فإنها ترفض أن لا يكون للمتهم محامياً، حتى وإن كان ما يقوله صحيحاً، وعليه فإن تدخلي سيكون فقط في حالات الضرورة القانونية، والآن سأترك المتهم ليدلي بدلوه، وشكراً.

كان القاضي الأساس طويل القامة نحيف الجسد حليق اللحية والشنب، يلبس بدلة سوداء أنيقة وقبعةً مثل قبعات رعاة البقر التي كانت تُلازمهم عند مطارة الهنود الحمر، والقاضي الثاني بمثل مواصفاته، لكنه دون قبعة ومتوشحا ببدلة بيضاء تحمل على امتداد الكتفين كما القدمين صورة نهرين كتب على الأول في الأعلى “النيل” وعلى الأسفل “الفرات” ، والقاضي الثالث كان يلبس عباءة مُذهبة، على رأسه يلتف عقال فوق حطة ناصعة البياض، وفي قدمه “صندلاً” أسوداً يُبرز أصابع قدميه التي كانت تتماحك وتتحرك كمجموعة من الديدان على وجبة غداء. فالمتهم خطير وتتطلب تهمه مجموعة قضاة وليس قاضياً واحداً، وسيكون الحكم بالتالي متوافق عليه بين الجميع، على قاعدة ثبتها القاضي ذو العباءة المذهبة، والقائمة على الآية الكريمة” وأمرهم شورى بينهم”.

المتهم واقفاً داخلاً في لب الموضوع  الذي إعتقلوه في منتصف الليل من أجله:

ـ أقر وأعترف، أنا المُوقع إسمي أدناه، وأنا بكامل قواي العقلية، بأنني لم أكن يوماً على وفاق مع أنظمة الحكم،  والعربية منها على وجه التحديد، فكل الآهات والمآسي والشرور منها أو بسببها أو بمشاركتها، ورغم إدراكي التام ـ حسب ظني ـ بين الوطني والرجعي منها، إلّا أنني طالما صببت جام غضبي على الأنظمة الوطنية منها.

“يبتسم القاضي ذو العباءة الذهبية” ويكمل المتهم:

ـ ربما أكثر من الأنظمة الرجعية، كوني كنت قد “غسلت” يديّ من الأنظمة الرجعية منذ زمن، فهي لم تعد تصلح كما يقول المأثور الشعبي “لا في العير ولا في النفير ولا في عثرات الزمان”.

يتجهّم نفس القاضي ويكمل المتهم:

ـ كما أننا ـ كشعوب ـ لا يمكننا إتباعها، فهي لم  تكن ولن تكون مثالاً إيجابياً لأحد، و”ملاحقة البوم يدلك ع َ الخراب”، كما يؤكد المأثور الشعبي أيضا، كما أنك لن تجد ما هو أكثر منها سوءً أو أشد تبعية أو تخلفاً أو قمعية أوبلاهة أو حتى إنحطاطاً، فتخيلوا أن يكون مثالنا دولة آل سعود مثلاً!!!، لذا كنت أعتقد دوماً بأن “الضرب في الميت حرام” أو كما قال الشاعر :

قد أسمعت لو ناديت حياً                                       ولكن لا حياة لمن تنادي

يتجهم أكثر ينتفض “كرشه” المنتفخ، يقوم عن مقعده محتجاً، تتحرك ليتاه كليتي خاروفين أثناء عدوهما نحو كومة برسيم، يصرخ محتجاً، يحاول القاضيين الآخرين تهدئته، ويطالبه أحدهما هامساً” اتركه ليتحدث، فكما تعلم فنهايته بين أيدينا…، والمتهم يكمل ولا يعيره أي انتباه.

ـ أما الوطنية والممانعة منها، فطالما “رغبت”أو/و تمنيت، أن تتحول وتتطور من دول ممانعة إلى دول مواجهة، ومع عدم نيل هذه الأمنية على مدار عشرات السنين، وعدم تحقق رغبتي إزددت غضباً على هذه الأنظمة أيضاً. كذلك الحال فقد زادت هذه الدول في غلوائها، فغابت الديمقراطية أو كادت بشكل شبه دائم، وأصبحت حرية التعبير حلماً صعب المنال، وأصبح التجمع في غير محطات الباص والمقاهي جريمة يعاقب عليها القانون، وتشكيل الأحزاب رجس من عمل الشيطان، والمنسحب من الحزب الحاكم كالمرتد عن الإسلام، ومفهوم التداول السلمي للسلطة كفر بالذات الإلهية لا يناهزه جرم ويدفع بمرتكبيه إلى “النار الدنيا” وتوصية من شيوخ السلطة إلى جهنم وبئس المصير، وأصبح الفساد جزءً لا يتجزء من أمن الدولة، وكلما زاد” اسشراسا” في الحياة كلما أصبحت الدولة أكثر أمناً، لذلك فزادت نسبة الإفساد وتعمقت كي تجني الدولة مزيداً من الأمن!!!، الأمر الذي طالما زادني حزناً، وفي معظم الأحيان أصابني بالغثيان.

يبتسم نفس القاضي من جديد، زائحاً وكأنه بيده، غضبه وحنقه الذي كان على وجهه قبل لحظات، والمتهم الذي كان يتحدث مازال يتحدث ويكمل:

ـ هذا في الدولة الوطنية فما بالك بالرجعية التي لا تملك دستوراً أيها ال”متبسم”…. والأمر الواضح لديّ أن الأمن يتأتى من الديقراطية، وأنه كلما ازدادت الديمقراطية وتعمقت في المجتمع كلما أصبح أمن الدولة جزءً من أمن المواطن، ويكون المواطن بالتالي جزءً من “سلطة” أمنية كامنة للشعب والدولة بغض النظر عن النظام الحاكم في هذه المرحلة أو تلك، ولا يكون الأمر من إختصاص أمن النظام ” المخابرات”، الذي يفسر ويُفصّل المفهوم الأمني كما يحلو له وكما يريد، وبالتالي تكون الدولة دولة قانون وليست دولة الحاكم أو الرئيس. وكنت أمام حالة أي إعتقال لأي شخص، ذنبه الوحيد أنه معارض أو لديه وجهة نظر مختلفة عن النظام، وربما كان أكثر طهراً وشرفاً ووطنية وإستعدادً للتضحية من نصف النظام الحاكم، كان الأسى يزداد عندي إلى درجة الإشمئزاز.

كان نفس القاضي ينظر بعيون ميتة، وكأنه يستمع إلى طلاسم أو لغة لا يعرفها ولا يفهم منها شيئاً، والأخران يستمعان دون إهتمام كونهما يعرفان تماماً ماذا تعني دولة القانون في “بلادهما”، لكنهما كانا مستاءين كون هذه المعرفة أخذت تنتقل إلى هذه البلاد، الأمر الذي يتطلب قتل الجنين قبل أن يولد. وظل المتهم مكملاً:

ـ واعتقدت دوماً أن هذه الدول ستظل تراوح مكانها في أحسن الأحوال، وأن برجوازيتها الوطنية ستتحول تدريجياً ـ كلها أو جزء منها ـ الى رجعية، قائدة البلاد والعباد إلى موقعها الطبقي الجديد، وأنها لن تتطور أبداً إلى حالة المواجهة بدلاً من الممانعة والمراوحة، خاصة بعد أن طالت حالة السكون، واستطالت مرحلة اللاحرب، وأخذ جزء من هذه الدول يتراجع عن إنجازاته، وتم غزو بعض دُوَلَه مثل العراق من قِبلِكُم، وتسييد آل سعود المشهد، حتى أضحت دول الممانعة محصورة في الدولة السورية ـ والدولة الجزائرية البعيدة عن خطوط التماس ـ هنا في المشرق، ورغم نظرتي التي لم تتغير للدولة السورية، ومعرفتي المسبقة بأنها مَنْ احتضن المقاومة الفلسطينية وقياداتها على مدار عشرات السنين، وقدمت للها الدعم والإسناد، ومعسكرات التدريب والسلاح، ورغم كونها الدولة الوحيدة التي تعاملت مع اللاجئين الفلسطينيين فيها كما تتعامل مع مواطنيها السوريين، دون أي فرق أو تمييز في كافة نواحي الحياة، ورغم إحتضانها للكثير من المفكرين والمثقفين العرب الذين ضاقت بهم حكومات بلدانهم، ولم يجدوا غيرها مستقراً آمناً لهم، في السنوات العجاف تلك، ورغم أنها كانت المعبر الوحيد الموثوق للمقاومة اللبنانية، لوصول إمداداتها وأسلحتها ومعرفتها بجانب الإيرانية، وأن لها دوراَ أساسياً في انتصارات المقاومة في لبنان وغزة، ورغم معرفتي بأنها رفض التنازل عن متر واحد من أرضها المحتلة، عندما تهاوت الأنظمة وازداد تساقطها كحبات فاكهة متعفنة فوق شجرة مريضة، وأنها حاولت ربط القضايا العربية والفلسطينية على وجه التحديد مع بعضها البعض، قبل أن تبرر القيادة الفلسطينية إستسلامها ب”القرار الفلسطيني المستقل”، متجاوبة مع توجيهات وريالات آل سعود…

ـ لا تشتم أولياء الأمر…

ـ ـ دعنا نستمع كيف يفكر هؤلاء… اتركه يتحدث…

ـ إلّا أنني بقيت أنظر إلى هذا النظام بعين الريبة والشك، حتى بدأت الحرب الكونية الإمبريالية على سوريا، دولةً وشعباً وقيادة، فألح علي السؤال الذي تساءلته حين بدأتم بغزو ليبيا وأسقطم نظامها رغم كل ملاحظاتي عليه، وتساءلت من جديد، لماذا سوريا؟!!! فهل دويلة قطر بحمديها الصغير والأصغر، وطائراتها “الإنسانية” المحمَّلة بالأسلحة للمعارضة، وبقواعدها العسكرية الأمريكية هي دولة أكثر تطور وديمقراطية من سوريا؟ وهل دولة آل سعود وحكامها المتخلفون الجهلة هي دولة أكثر ديمقراطية من سوريا؟

ـ قلت لك لا تشتم أولي الأمر…

فقال المتهم راداً:

ـ أتعتقدني سأتخلى عن دولة مثل سوريا لأتبع نظام آل سعود ؟ صدق الشاعر خداش بن زهير حين قال:

ولا أكون كمن ألقى رِحالته

على الحمار وخلّى صهوة الفرسِ

ـ خسئت أن أفعل ذلك… سأقول ما أريد واحكموا كما تريدون…

ـ أرجوا أن لا تقاطعوا موكلي سيدي الرئيس، وأكمل المتهم:

ـ وتساءلت ماذا يفعل الصهاينة في مصر وتونس بعد هذا “الربيع العربي”؟ وما سر هذا الرضى الأمريكي عن هذا “الربيع”؟ واستحضر ذهني مباشرة مقولة القائد الثوري الكبير فيدل كاسترو ” إذا امتدح العدو الأمريكي سياستنا، علينا إعادة النظر في هذه السياسة”، فما بالك بإمتداح الأمريكي والصهيوني والعثماني والرجعي العربي؟!!! لا بل دعمهم لهذه المعارضات ودعمهم لها بالسلاح أيضاً، ووقفت طويلاً أمام “ثورية “آل سعود والحمدين في حارة قطر، وتساءلت، لماذا يقدم هؤلاء كل هذا الدعم بالمال والسلاح لهذه المعارضة ولم يقدموا رصاصة واحدة لتحرير فلسطين، ولماذا تُحارب سوريا بالمرتزقة؟ ما علاقة الأفغاني والقوقازي والشيشاني بسوريا، وإبن مملكة الشر لماذا لا يحارب لتحريرها من آل سعود بدلاً من القدوم لسوريا؟ وفكرت،لماذا نسبة المرتزقة تفوق أضعافاً نسبة السوريين؟ فعندما يكون اللص في بيتك تحاول طرده ولا تذهب لتطرد آخر من بيت الجيران، وأدركت أكثر أن ما في “بيت الجيران” ربما ليس لصاً،وربما نصف لص، وأن من تدعمه مملكة الشر وأسيادها ليس لصاً يسرق قطعة خبز، بل هو قاتل محترف.  فأدركت ما يلي:

  • أن كل ملاحظاتي وانتقاداتي للنظام في مكانها وصحيحة، لكنها لا تغير موقعه، فربما لو كان أكثر ديمقراطية وأقل فسادا، لما إستطاعوا الدخول من ذات المدخل على الأقل لتدمير الدولة السورية، فكون سوريا مطلوبة لحلف الدمار الرأسمالي الصهيوني الرجعي لن يلغي أنهم سيجدون مداخل لهذا التدمير المبرمج والممنهج، لكنه ـ ربما ـ كان أقل كلفة مما هو عليه الآن، وربما كانت إمكانية الإنتصار على حثالات الأرض ” داعش والنصرة” وأخواتهما، وعلى مملكة الشر “مملكة آل سعود” وحليفاتها من دويلات في الخليج العربي، وكذا على العثمانيين الجدد أيسر .

  • أن مطالب الشعب والكثير من مطالب المعارضة الوطنية هي مطالب محقة تماماً وعلى النظام حلها،ويجب عليه بالحوار حلها، وتم إستغلال هذه المطالب المحقة لتدمير الشعب ودولته.

*أن على الشعب السوري، بنظامه وقيادته ودولته، أن يحول دولته من دولة ممانعة إلى دولة مواجهة، الأمر الذي يتطلب تحويل الدولة إلى ديمقراطية ثورية، تضع على رأس أجندتها الهدف الإستراتيجي بإزالة الكيان الصهيوني كأمر ضروري لوحدة الدولة السورية قبل تقسيمها إلى أربع دول، كخطوة أولى على وحدة العالم العربي، فخيار المواجهة مهما عظمت تضحياته، هو الأكيد والأقل كلفة من خيار المراوحة في المكان، وأن سوريا لو كانت قد خاضت حرباً شعبية ضروساَ مع الكيان الصهيوني والإمبريالية واستمرت سنوات وسنوات لما كانت لتخسر هذا العدد من الشهداء والجرحى والأيتام والثكالى، ولا هذا الكم من المهجرين، ولا كل هذا التدمير في بناها التحتية، ولكانت بجانب المقاومتين الفلسطينية واللبنانية قد حرر ت الجولان وجنوب لبنان وثلثي فلسطين.

يتململ القاضي الثاني ذو البدلة البيضاء والنهرين الأزرقين، ويتمتم للقاضي الأول بشيء في أذنه… ويستمر المتهم:

  • لقد تأكدت الآن أكثر، بأنك إن كنت ممانعاً، أو في حالة صراع مؤجل، فهذا لا يعني للأعداء أنك لست عدواً، وأن عليك أن تخرج من جلدك حتى تتقي ـ مؤقتاًـ شرهم، وأنك إن لم تستسلم تماماً فأنت ما تزال عدواً، “فالعربي الجيد هو العربي الميت”.

  • لقد بدأت متأكدا أنكم أنتم جميعكم أعداء هذه الأمة وكل الأمم، وأن مواجهة أحدكم دون الآخر يبقى ناقصاً، لن يؤدي للنتيجة ذاتها من التحرر، وأن هذه المواجهة واجبة وضرورية للإنعتاق من التبعية، وأن الرصاصة تصيب الهارب والفار ومولي الأدبار، وتجبن أمام الأنداد الثوريين.

  • لقد اتضح الآن أن ما قاله المناضل الحجازي، الشهيد ناصر السعيد، هو عين الصواب، عندما وجه حديثه لبعض قادة المقاومة الفلسطينية قائلاً” لا تحلموا بتحرير شبر من فلسطين ما دام آل سعود يحكمون شبه الجزيرة العربية”، واتضح أيضاً صواب ما ذهب إليه الشاعر الكبير ، المناضل مظفر النواب من عشرات السنين حين قال:

أعلن أن الحجيج سلاح بمكة

كافر من يحج بدون سلاح

وظني أن سوريا ستخرج من محنتها، وأن خروجها منتصرة سيكون البداية لأشياء كثيرة وكبيرة، أقلها تعميق وتثبيت محور المقاومة، فبعد إقتلاع حثالات الأرض، لن يدوم كثيراً إقتلاع سادتهم من المنطقة.

ينتفض القاضي الثاني، يرتج النهران المرسومان بعناية على طرفي بدلته، ويبدأ بالمقاطعة والصراخ، يظل القاضي الأول ذو القبعة الشبيهة بقبعة رعاة البقر يحاول تهدئته. والمتهم يكمل رغم الصراخ:

إنتصار سوريا سيكون بداية عهد نهضة عربية جديد، بل بداية عهد نهضة للمنطقة بأسرها أيها السادة…

ـ أخرسوه…

ـ إقطعوا لسان هذا الملحد…

ـ لا! نحن واحة الديمقراطية هنا، لا نقوم بهذه الهمجية، الإعدام غير موجود في قاموسنا…. دسوا له السم في الطعام

ـ اشنقوا هذا اللئيم…

ـ لا، أفضل أن نطلق سراحه ويموت بحادث سير…

ـ بل برصاصة عندما يخرج في أول مظاهرة…

ـ بل رجماً بالحجارة… إنه زنديق مرتد…

ـ بل برصاصة قناص..

ـ بل ذبحاً بالسكين على يد المعارضة المعتدلة… ظني أنه شيعي رافضي

هرج ومرج في صالة المحكمة بين القضاة الثلاثة، يجلس المتهم، ويمد قدميه فوق المقعد الذي أمامه، وسط أحاديثهم وانفعالاتهم…..

محمد النجار

الحمار الضعيف

نعم، إنه كما أخبرتك من قبل، رجل قديم قديم، أقدم من مخيمنا هذا كله دون جدال، من أبنيته التي قامت على أنقاض الخبام التي أقنعونا أنها مؤقتة، وما كذبوا إلّا في جزئية” ضمانتهم” لعودتنا كما ترى، أقدم حتى من جدي رحمه الله، وأزعم جارماً أنه أكثر منه حنكة وحكمه، وربما أوسع منه صدراً، ورجل حليم صبور كما أيوب، نادرأً ما رأيت غضبه، وما سمعت علو صوته إلّا عندما يستأنف المقطع الثاني من ضحكته، فتخرج من بين أوتاره الصوتية شهقة كصياح الديك في فجر يوم صائف، منذرة محذرة من بقية ضحكته في مقطعها الثاني الذي عادة ما يكون صاخبأ، ولكنه كي أصدقك القول يحصل في فترات متباعدة، وأصبحت نادرة في الآونة الأخيرة.

شيء واحد كان يزعجه ويثير أعصابه، هو الإساءة إلى المقاومة، كأن هذا الأمر يُخرجه عن طوره ويغضبه ويوتره، وكنت عندما أستمع الى نشرة الأخبار أحياناً من الإذاعة الإسرائيلية، ويسمعهم يصفون رجال المقاومة ب”المخربين” يقف من على كرسيه الذي أجلسته عليه أمام بقالتي الضغيرة، ويصرخ في بصوت عال:

ـ أَخْرِس هذا الرجل قبل أن أكسر مذياعك بعكازي هذا…

وأقوم أنا مسرعاً وأغلق المذياع، فيعود إلى مقعده مستعيداً هدوئه ويقول:

ـ إنك لو ضربته ب”صرمتك “لكان أهون عليه من أن تُخرسه بهذا الشكل وبهذه الطريقة!!!                                   يقول وكأن المذيع جالس قبالتي وأسكته، ثم يسكت قليلاً ويسألني معاتباً:

ـ ألا يوجد إلّا إذاعة إسرائيل لتُسمعني إياها؟!!

ويكمل وكأنه يخاطب نفسه:

ـ لقد أصبح “الخل أخو الخردل”… كلهم صاروا إسرائيل…

كان يُحْسِِن الحديث، لا يُمكنك الملل من حديثه، وكان بين كل جملة وأخرى يذكر مأثوراً شعبياً، يذكره كما هو ، لا يُلَطِف من كلماته ولا يُجملها، فتخرج حقيقية قاسية مباشرة وأحياناً مرعبة، لكنها تكون عين الصواب.                       كان جُل حديثه عن يافا، تحديداً يافا القديمة، أبنيتها، بيوتها، أزقتها وشوارعها، ميناءها وسكة حديدها، يتحدث عنها وكأنه يتغزّل بصبية فردت جسدها الممشوق الجميل للتو أمام عينيه، لاتستطيع أن تدرك أنه يتحدث عن مدينة، تعتقد أنه يتحدث عن حورية خرجت لتوها من البحر لتعانقه وتُقبله، أو لتعطيه عهداً ووعداً ثم تعود، وكان يسافر إليها قبل أن يمنعه المحتل من ذلك، يجلس على عتبات درجات بيته المسروق، يتمدد على رمل شواطئها، يسير في أزقتها، ويعود إلى منفاه، وبعد أن هدّه المرض والتعب والزمن وثقل السنين وقوانين المحتل على أثر الإنتفاضات المتتالية، لم يعد بإمكانه الذهاب، لكنه ظل يتحدث عنها ولم ينقطع ابداً، وكأنها “جِنيّ” ركبه ولم يتركه أبداً، كما أكد إمام مسجدنا في اكثر من مناسبة.

لا أعرف لماذا أثرثر لك بكل هذا، فأنت تعرفه مثلي رغم كونك من المدينة المجاورة، وها أنت تراه قادماً ليجلس على كرسيه ويتحدث عن يافا مثل كل يوم. لا، لا تستعجلني فلدي الوقت الكافي لأحدثك بما أريد، فرغم قربه لكنه سيقف مرات عدة ومع أشخاص عدة ليتعرف بهذا الجيل الجديد، أبناء من ومن أين قدم آباؤهم، ويبدأ يحدثهم عن عائلاتهم وبلدانهم أشياءً لا يعرفونها، وكما ترى يتحولق حوله الأطفال ويستمعون إلى حكاياته.

ما أردت قوله لك، أنه كان جالساً قبالتي بالأمس، مكانك أنت بالضبط، يسند ظهره الحائط، ويلقي على الأشياء والمارة سهام عينيه مثل كل يوم، فهو نادراً ما غيّر من عاداته، وكنا نستمع لنشرة الأخبار، وكما تعلم فالعالم “مقلوب” نتيجة التوقيع على الملف النووي الإيراني، وأعاد المذياع مقابلة مع وزير خارجية آل سعود الجديد، ويتحدث الرجل بثقة عن دولته ودورها وتأثيرها، فرأيته يلف رأسه نحو المذياع ويعلق تعليقه الأول، فقال:

ـ آه…”إنه يظرط من طيز واسعة”، والمصيبة أنه ربما مصدق لما يقوله.

لم أعلق، ولم أعقب بشيء، وبقيت أستمع للمذياع الذي أكمل ترجمة المقابلة:

ـ “وإذا لم تلتفت إيران لمصلحة شعبها فسوف تتصدى لهم المملكة…”

فضحك هذه المرة أكثر، وشهق مرتين على غير عادته، وبعد شهقته الأولى قال:

ـ  ” الفص الحامي من الحمار الضعيف”.

وبعد شهقته الثانية قال:

ـ ألم يدرك هؤلاء بعد “أن الكلب الذي يعوي لا يعض”؟ فعلاً “إن لم تستحي فافعل ما شئت”، أسمعت ؟ إنه يتحدث عن مصلحة الشعوب وكأن حكامه يقدمون شيئاً لشعبهم غير الفتات!!! ياسيدي إن كان الأمر يزعجكم إلى هذا الحد ، إفعلوا مثله أو حتى أحسن منه، إنكم “لا ترحمون ولا تريدون لرحمة الله أن تنزل”؟!!!

وسكت وأوقف ضحكته وكأنه بقرار، وتابع وكأنه يريد تفسير أقواله:

ـ أنظر يابني، “الجاهل عدو نفسه”، هذا القول لا ينطبق على الأفراد فقط بل على الدول والحكومات أيضاً، وهؤلاء جهلة كما ترى، وجهلهم زاد من غرورهم، فاعتقدوا أنهم بأموال النفط قادرون على فعل ما يريدون، خاصة إذا كانت أمريكا حاميتهم، وكما تعلم ف”حاميها حراميها”، ومشكلة كبيرة عندما تعتقد أن رغباتك هي حقائق، وتعاند نفسك وتماحك الوقائع، يعني”جكر في الطهارة يشخون في ملابسهم”، كما يفعلون في اليمن مثلاً، يريدون أن نوافقهم بأنهم حققوا إنتصارات، وهم يعلمون أنها كاذبة، كما أنهم لن بستطيعوا، فأولئك الحفاة، رجال ولا كل الرجال، رجال عصيون على الكسر، كرامتهم فوق كل اعتبار، وسيمرغون أنف أولئك المترفون في تراب اليمن.

وتذكرت ما تناقلته بعض وسائل الإعلام بأن جيش آل سعود يطالب بدبابات “مكيفة”، لكني لم أقل شيئاً وبقيت أستمع، وأكمل هو:

ـ صحيح أنهم يمتلكون السلاح، سلاح النفط وتشويه الدين وسلاح الطائرات والقنابل، و”السلاح في يد الخرى يجرح”، لكن نفس السلاح الذي “يجرحون” به الآخرين هو ذات السلاح الذي سيقتلهم .                                                                                                                                                                                                   وصمت أكثر من عادته، وما لبث للعودة إلى الموضوع الذي بدأ به الحديث:                                                          ـ الإيرانيون حققوا ما حققوا بسواعد شعبهم، بعقول علمائهم، وصبروا على الحصار والمقاطعة وعلى مصادرة أموالهم ولم يتنازلوا عن مبادئهم، فحققوا ما يريدون، يحق لهم الفخر ورفع الرأس عالياً.

وسكت قليلاً ثم أضاف:

ـ ألا ترى أن المعترضين على الإتفاق آل سعود والإحتلال، اليس الأمر مبعثاً للتساؤلات؟

كان يتحدث بإسهاب نادراً ما عهدته، وأكمل وكأن الإنجاز لفلسطين أيضاً، فقلت له:

ـ انه انجاز كبير لشعب إيران، لكنك تتحدث وكأنه إنجاز لفلسطين أيضا.

ـ نعم، ليباركهم الله ويبارك لهم بهذا النصر الكبير…

وسكت قليلاً وقال:

ـ وسترى أنه إنجاز لفلسطين أيضاً…

لم ينظر نحوي عندما قال جملته الأخيرة، كان سارحاً وكأنه في مكان بعيد ويرى أشياء لا أراها، وعلى غير عادته غادرني حتى قبل أن تغادر الشمس إلى مكان مبيتها، ودون أن ينهي حديثه الذي بدأه عن آل سعود كما سمّاهم دائماً، وتعليقاته عما سمعناه سوياً. انظر ها هو قد وصل حاملاً ابتسامة فوق شفتيه، الأمر الذي يوحي بأن لديه قصة ما….قابله الإثنان بعد أن جلس في نفس مكانه، قال وكأنه يتابع حديث قطعه لتوه:

ـ نسيت أن أقول لك تعليقاً على كلام ذلك الشاب الغر من آل سعود

ـ إنه ليس منهم، إنه وزير خارجيتهم الجديد

قلت موضحاً، قبل أن يعلق قائلاً:

ـ آه… خادم جديد لهم… لا بأس ف”كلب الشيخ شيخ”

وتابع:

ـ يريدون التصدي لإيران؟!! إن “إسرائيل”أولى وأحق بالتصدي لها، لكن فشروا أن ينالوا مثل هذا الشرف في الدنيا، ولا شرف الشهادة في اليوم الآخر، فلفلسطين رجالها فلسطينيون وعرب وحتى غير عرب، ورجالها في أول الصفوف. اتركهم في غِيّهم وضلالهم وتكبرهم وجهلهم، فوالله لو أراد الأيرانيون أن يبصقوا في وجوههم لأغرقونهم، لو ضربوا محطات الكهرباء عندهم لذابوا داخل أبنيتهم الزجاجية مثل الحلزون عندما يقع في كومة ملح.

قلت بصوت عال:

ـ الله يرحمك يا عبد الحمن منيف، صاحب ملحمة مدن الملح…

فقال:

ـ تعيش

ولم يسأل حتى عمن ترحّمت وكأنه يعرفه مثلما أعرفه أنا أيضاً، وأكمل:

ـ هؤلاء يريدون التصدي لإيران؟!!! قال القدماء أن أسداً صاحب بطشٍ وبأسٍ وكثير الصيد، فكّر أن يُركِّب لأقدامه “حذوة” حديدية خوفاً من أن تتآكل من كثرة الصيد، وعندما كان الحداد يأخذ المقاس ليصنع الحذوة، جاء الفأر مُزاحماً الأسد رافعاً رجله.

وضحك، وتعالت ضحكته بصخب في مرحلتها الثانية بعد التحذير الذي أعلنته شهقته، التي تشبه صياح الديك في فجر يوم صائف كثير النجوم، جاء مُتفلتاً مزاحماً مستعجلاً، للقاء الصباح على أبواب النهار في وقت أبكر، وقال:

ـ فعلاً “شر البلية ما يُضحك”…

وقام مغادرنا على غير عادته قائلاً” :

لو كل كلب عوى ألقمته حجراً… لأصبح الذرّ مثقالاً بدينار

ولم يعد إلّا بعد ظهيرة اليوم التالي، ليقابلني على الكرسي معطياً ظهره الحائط، مستنداً على عكاز يده، زارعاً بصره في ظلال الطريق….

محمد النجار

كان صديقي قبل أن أصير مديراً

أكاد أجزم أننا كنا أصدقاء، وفي مرحلة لاحقة أصبحنا رفاق درب سياسي، وقبل هذا وذاك فقد تربينا سوياً ويعرف أحدنا الآخر كما يعرف نفسه، ولم يغضب أحدنا من الآخر أبداً، وضحكنا كما لم نضحك من قبل عندما اكتشفنا في بداية سنوات الشباب أن كلانا كان مُعجب بنفس الفتاة في سنوات المراهقة الأولى، دون أن ينبس أي منا ولو بكلمة واحدة عن هذا الأمر، رغم أننا بحنا بأسرارنا الغرامية أحدنا للآخر عن فتيات أخريات، ربما لأننا كنا نحس دون كلام مشاعر بعضنا نحو تلك الجميلة ذات الضفائر الطويلة الشهباء، والعيون الملونة التي لا تستطيع أن تحزر ألوانها مهما حاولت وتمعنت بهما، لذلك كان معظم أترابنا منقسمين ما بين تحديد لونيهما اللتين لم يحصل إجماع عليهما رغم الإجماع على جمالهما الساحر الذي يخلب العقول والقلوب. وكي لا تذهبون بتفكيركم بعيداً عن الموضوع، فقصة الفتاة إنتهت منذ سنوات، رغم أنها كانت تبتسم لنا الإثنان بنفس الدرجة، وربما للآخرين أيضاً، وكوني  كنت أكثر منه جرأة فقد دعوتها إلى مقهى في المدينة، شربنا القهوة وتحدثنا طويلاً ، ونسقنا لمظاهرات بين مدارسنا الثانوية، قدناها سوية وهو إلى جانبي دون أن أتفوه بكلمة واحدة عن لقاءاتي معها التي تتالت لفترة غير قصيرة، قبل أن تنتهي عندما سافرت إلى الدراسة وانقطعت أخبارها بعد أن قطعت الجسر المؤدي إلى الأردن، الأمر الذي جعل مدينة رام الله بالنسبة لي مدينة خاوية، فارغة، غريبة، كأنني لم أعش بها ولا أعرفها. لكن هذا ذهب وانتهى منذ سنوات، ولا علاقة له بما أريد التحدث به.                                                                                                   غادر هو أيضا لاحقا للدراسة، ودرست أنا في جامعة محلية، وتخرج كلانا وعاد هو والتقينا وفرحنا بلقائنا، وعدنا كما كنا وعادت مدينة رام الله كما نعرفها، مدينة شابة، جميلة، راقصة، تعلو ثغرها ابتسامة دائمة، خاصة بعد أن بدأت الإنتفاضة وتعمقت في الناس والشجر والجدران وغيمات السماء، وكنا نحن كما المدينة في كامل فرحنا رغم مرات الإعتقال وسنين المطاردة.                                                                                                                       وجاءت السلطة محمولة على أكتاف إتفاق أوسلو، وعرضوا علينا العمل كمدراء، وقبلت أنا ورفض هو، ومنذ ذلك الوقت بدأت أشعر بفتوره نحوي، ورغم محاولاتي المتكررة لإبقاء الأمور على ماهي عليه إلّا أنني دائماً ما لاحظت الجفاء المتستر بغشاء أدب مجبولٍ بالأسف والحسرة على الخوالي من الأيام، وعلى شيء عزيز قد فقده. ورغم أنه ينفي الأمر ويقول أنه رغم توقعه لنهايتي منذ تلك اللحظة، إلّا أنه ترك الأمر حتى غدا واضحا كشمس حزيران. وفي لقاء معه أقسمت له أغلظ الأيمان أنني لم أتغير قط، لكني قرأت تكذيبي في عينيه، وفي أحسن الأحوال تشكيكه في كلامي، وطالبته أن ينظر في عيني اللتان كادتا أن تغرورفا بالدموع ندماً وأسفاً على إحتمالية فقداني لصديق صدوق مثله، إلّا أنه في تلك اللحظة بالذات وقف على قدميه، راميني بنظرة استهزاء نادراً ما عهدتها في عينيه، وتركني في مكاني دون كلام وذهب، ولم يعد بعدها أبداً، ناسياً صحيفة الصباح التي جلبها معه على الطاولة التي كانت بيننا، وتذكرت حينها لكن بعد فوات الأوان لمّا كنا ما نزال في المرحلة الثانوية، عندما كنت أطالبه كما الآن تماماً أن ينظر الى عيني ليعرف مدى قدرتي على التحكم بدموعي، أنثرها عندما أريد وأحجبها عندما أريد، وضربت بيدي على الطاولة التي كانت بيننا، وأرجعت عيني على الطاولة آسفاً على نسياني للأمر برمته، فوقع نظري على آخر مقال لي، كان قد فتح الصحيفة عليه ربما ليريني إلى أي درجة من “الإنحطاط” وصلت، بحسب تعبيراتهم، غير مدركٍ أن التغير والتطور سمة إنسانية، وأن ما طرأ عليّ يندرج في نفس السياق، أو على الأقل كون المرحلة نفسها قد  تغيرت، وأنه كما لهذا التغير أسبابه وظروفه، فله نتائجه أيضاً، وهذه النتائج بحاجة إلى رجال من نمط مختلف.  وكنت سأشرح له الأمر، وأوضح له أن لمركز المدير ثمن عليّ دفعه كيلا أفقده، وربما لو بقي لأعترفت له وذرفت دموعاً حقيقية على كتفيه، شارحاً له أن الوقوع من علو هو أمر مؤلم، وقد لا يحتمله مثلي، وأنني لست مثله، فإن وقع هو لن يؤثر عليه الأمر شيئاً لأنه ما يزال على الأرض يسير، ، فهو من رفض أن يكون بهذا العلو والإرتفاع، وما ذنبي أنا بقراره؟!!، كما أنني سأكون في لجنة مفاوضات قادمة، ومن يدري فربما صرت وزيراً، فأنا “أحب صعود الجبال”، وأُفقي ليس له حدود، وهذا كله مفيد لهم أيضاً، ألم أكن واحداً منهم؟!!! وهذا له ثمن، وليقل لي ماذا علي أن أفعل غير ما فعلت، شرط أن لا أبقى بوضعه. فعلاً لا أدري ماذا سأفعل، فاختياري وحسمي للأمور ربما جاء متأخراً، حتى الأصدقاء الجدد الذين صرت واحداً منهم ما زالوا ينظرون إليَّ نظرة شك وريبة تمنعني من الإنصهار بينهم، وأصدقاء الأمس يعتبرونني بعت نفسي بثمن بخس، فماذا علي أن أفعل؟!!! فليس ممكناً أن أكون بنفس قدر إحترامه وبنفس دخل المدير، وبالتالي”فلم  أبقَ حمامة ولا صرت غرابا”،  كما أنني لا أريد أن أعود حمامة من جديد. آه… كم أتمنى أن يغفر لي وبقية رفاق الأمس فالله نفسه غفور رحيم، فما أقسى نظرات عيونهم!!! إنها سياط تلسع جسدي، لكني سأعتاد عليها بعد فترة …بالتأكيد.                                                                                                                                                                                                                          محمد النجار