مبروك عليكم بيرس…

أن تتمنى شيئاً ليس عيباً ولا حراماً، أن تحلم أيضاً ليس كذلك، لكن اطلب المستطاع واحلم بالممكن، حتى إذا ما تحقق منه شيئا، تستطيع رسم البسمة على شفاهك.

وهنا أنا لا أتحدث عن الأحلام المشروعة والتمنيات المرتبطة في نفس الشخص وبداخله، بل عندما تكون لا علاقة لها بك البتة، بل مرتبطة مباشرة بالآخرين، مثل المسألة التي بين يدينا، وهي موضوع المشاركة في جنازة أحد أكثر قادة الكيان العبري فاشية وعنصرية، وعداء للعرب وللفلسطينيين على وجه التحديد.

فشمعون بيرس يُعتبر أب المشروع النووي الصهيوني برمته، وهذا المشروع ليس لعبة أطفال، بل سلاح تدميري شامل، الغرض منه تدمير المنطقة الفلسطينية والعربية بشيوخها وشبابها وأطفالها ونسائها، إذا ما استطاع ذلك، وليس رش المنطقة بالورود. وهو صاحب مجزرة قانا الأولى في لبنان التي راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى وجلهم من النساء والأطفال. وهو من المؤسسين الذين قاموا بالمجازر ليقتلعوا شعبنا من جذوره، من أراضيه وبيوته،كما أن كل الحكومات التي شارك بها، وكان جزءاً، في معظم الأوقات، من مجلس وزرائها المصغر، يعني صاحب الحق في اتخاذ قرارات الحرب، وغيرها طبعاً، يعني مشاركاً فعالاً في كل حروب دولته العنصرية ضد شعبنا وشعوب المنطقة بكل ما فيها من مجازر وتقتيل. وهو وحكومات “العمل” التي شنت حرب عام 67 ولاحقاً بالتعاون والمشاركة مع الليكود بحكومات مختلفة، الذين فرضوا السياسة الفاشية في أرضنا المحتلة كاملة، حيث صادروا الأراضي في المحتل من العام 48 ولاحقاً67، وبنوا المستوطنات وقتلو الشعب وسجنوا ما يزيد عن مليون مناضل منذ عام 67 فقط، وما زالوا مستمرين، واقتلعوا الاشجار خاصة الزيتون، ونفوا البشر وهجروهم، كما أنه من أعمدة بناء جدار الفصل العنصري، والحبل على الجرار، والأمر لم ينته بعد… ولن نستطيع في هذه العجالة أن نحيط بكل جرائمهم وجرائمه، وفوق ذلك كله دوره الأكثر أساسية في جر منظمة التحرير وقياداتها إلى مشروع التسوية الذي تُوّج بإتفاق أوسلو، المشروع الأخطر على القضية الوطنية برمتها، والذي في مرحلته فقط أصبحت القضية الوطنية تكاد تكون في مهب الريح، لولا المناضلين الذين ما زالوا متمسكين بسلاحهم “العبثي”.

هذا هو جزء من رجل “السلام”، صاحب نوبل للسلام!!! بيرس، وهذا ما يريد تسويقه لنا أنذال السلطة والأنظمة الصهيونية العربية، ف”المناضل” عباس وحاشيته من مناضلين “مجددين في مفهوم النضال”، انتظروا أن يعطف عليهم نتنياهو متكرماً متنازلاً مانحاً لهم “شرف” أن يشاركوا في جنازة الفاشي بيرس الذي دمر شعبهم وقتل أبناءه، وفعل نتنياهو “متنازلاً” وأعطاهم تصاريح بذلك، ولا يعلم إلا الله كم فرحوا بالموافقة على تصاريحهم ،شاكرين حكومة وشعب ودولة إسرائيل الديموقراطية

المثل الشعبي يقول “إذا لم تستح فافعل ما شئت”، وهؤلاء ليس فقط لا يستحون، بل قطعوا ما كان يربطهم بالحياء أصلاً، ووصلوا من الهوان والنذالة مالا يقبله عقل ولا منطق، إبتداء من الرئيس فاقد الشرعية ومنتهي “الصلاحية” إلى آخر من هم معه وعلى شاكلته، كل أولئك الذين يدوسون الدم الفلسطيني بأحذيتهم، مهما كانوا ومن كانوا ومهما علت مناصبهم، أن يخرج علينا المدعو يحيى رباح ليقول أن “ثلثي الشعب الفلسطيني حثالات” وأن يمدح بيرس متجاهلاً جرائمه كما لو كان من بقية أهله، فهو ليس إلا إنحطاطاً ما بعده إنحطاط، فليستحمر نفسه، وليقنعها بما أراد، وليحتفظ بقناعاته المبنية على مصلحته لنفسه، ولا ينطق بها لأحد، لأن الخيانة والإنحطاط ليستا وجهة نظر، والحثالة هو ومن معه وليس ثلثي الشعب الفلسطيني، الذي يحاول ومن معه كسر شوكة ثورته التي تدافع عن أمة عاجزة تركب ظهورها الرجعيات العربية منذ قرن كامل، ويكفي الصراخ الفارغ بأنكم مناضلين، حتى أننا صرنا نشك إن كنتم أصلاً مناضلين، وإن كنتم فلم تعودوا كذلك منذ عشرات السنين، منذ ارتضيتم أن يركبكم الإحتلال وتركبوه ظهورنا، وارتضيتم أن تكونوا جزءا من الإحتلال لقمع شعبنا، وصرتم تلاحقونه وتسجنونه وتقتلونه وتمنعونه من استمرار نضاله باسم الوطن والوطنية لمصلحة ممولينكم من إحتلال ومن معه.

قولوا لنا بربكم، كم مرة قمتم بتعزية شهيد فلسطيني أو حتى عربي؟ كما تفعلون مع موتى وقتلى الصهاينة؟ كم مرة تضامنتم مع جريح أو أسير؟ كم مرة أوقفتم قتل طفل أو حرق عائلة أو قطع شجرة زيتون؟ أخبرونا كم من قضية رفعتم لمحكمة الجنايات الدولية لمصلحة شعبكم وهذا أضعف الإيمان؟ وتستغربون كيف يبكي آل سعود وبرميل الأوساخ، وزير خارجية البحرين، على رجل الحرب والسلام بيرس، وغيرهم الكثيرون؟ طبعاً يبكون، لأنه ودولته قامت بحروبها من أجل “عيونهم” أيضاً، أخبرونا لماذا صارت تتجرأ علينا وعلى قضيتنا كل الحثالات البشرية المهزومة النتنة؟ أليست بسبب سياساتكم المستسلمة الفجة؟ أنتم السبب وأنتم العلة، أنتم من أوصلنا إلى ذلك، إذهبوا الى مزبلة التاريخ متى شئتم لوحدكم، لكن ليس بإسمنا، ونرفض أن تجروا شعبنا معكم، كفاكم استهتاراً بالشعب ومشاعره ومصالحه، كفاكم عبثاً، ومبروك عليكم بيرس وشمعون وبن غوريون ومائير وبيغن، إبكوا على مقابرهم قدر ما استطعتم، ألطموا خدودكم غضباً على فقدانهم، خذوا حتى موقفاً من الله لأنه حرمكم من متعة مجالستهم وشرب الأنخاب معهم، لكن اتركوا الشعب ولاتتحدثوا باسمه، من أنتم لتفعلوا ذلك؟ من أعطاكم هذه الشرعية؟ متى استفتيتم شعبكم بقضية؟ متى أخذتم رأيه بشيء؟ منذ متى لم تقوموا بأي إجراء إنتخابي ديمقراطي في مؤسسات المنظمة؟ من أنتم وبأي حق تشوهون نضال شعب كامل لقرن كامل ويزيد؟ من أعطاكم الحق بذلك؟ خزاكم الله من قيادة فاسدة مفسِدة مستسلمة، يغطيها الروث والعار وتعتقد أنها تستطيع أن تغطي عارها برزمة مال.

أعرف أنني وأمثالي ينفخون في قربة مخرومة، بل قربة ممزقة، لكن هذه الكلمات ليس موجهة لكم ، بل لمن ما زال يسمع من شعبنا ويرى، وهم كثر إن كنتم لا تعلمون، ففي هذا الزمن، زمن الخضوع والإنحطاط، زمن قراركم الفلسطيني المستقل أيها “الديمقراطيون المستقلون”!!! نعلم أن الضرب في الميت حرام، وأنتم أموات وفاحت رائحتكم، لكن جثثكم الهامدة النتنة تنتظر من يواريها التراب، إن كانت ستجد من يواريها التراب.

محمد النجار

إنهم يقتلون الخيول…

أجلستني عناصر الشرطة والمحققون على باب غرفة التحقيق، لأكون قريباً منهم وقتما يحتاجونني للإدلاء بشهادتي، فيبدو أن هذا الرجل “الأكتع” خطير على الأمن العام، خطر ذئب جائع على قطيع غنم، فكما يقول المأثور الشعبي “كل ذي عاهة جبار”، ما بالك وهذا “الجبار” حر طليق يجوب الشورع والطرقات دون رقابة، ومن أمام الباب يمكن سماع نتفاً من التحقيق المتسرب من تحته ومن مساماته الخشبية، ويصير الأمر أوضح عندما يفتحون الباب لأسباب متعددة، دخول أو خروج، قهوة أو شاي، أو لإستحضار أحد الضباط نتيجة لخطورة الوضع والموضوع، أو عندما يتطلب الأمر إستدعاء شاهد ما، حينها ترى وتسمع بكل وضوح، كيف يتدفق نهر الكلمات جملاً بكاملها وفواصل وحروف ونقاط، خارجة من باب الغرفة، متدافعة مع دخان السجائر المكبوت في تلك المساحة الضيقة، ليغطي الرواق الذي نقف على بابه، كما الغرف المجاورة أيضاً . ولست أدري كيف كانت أذناي، حتى والباب مغلق، كالمغناطبس تلتقط الحروف، تجلبها، تُجمّعها، تلملمها من الهواء وتنقيها، كإمرأة موهوبة تلتقط حبات الزوان والحجارة الصغبرة من بين حبيبات الأرز بسرعة فائفة، ثم تصهرها وتُِشكلها كلمات وجمل مترابطة داخل رأسي، رغم أنني رجلاً لا يحب الفضول، بل يمقته، لكن يبدو أن للخوف قوانينه، له إنعكاسات وسلوك وطقوس، الأمر الذي لم أكن أعرفه قبل ذلك أبداً إلا لماماً، في مناسبات متباعدة تكاد لا تُذكر، ما زلت أتذكر تفاصيلها رغم كل محاولاتي الفاشلة لنسيانها، متذكراً في كل لحظة كلمات المرحومة أمي، وهي تقول لي آسفة على الرعب الذي يتلبسني:

ـ يا حسرة يابني، أعلم أن “الرجولة” والشهامة والعزة والإباء لا تُورّث، وعبثاً ذهبت كل محاولاتي والمرحوم والدك أن نحشوها في أوصالك، فهي ليست مثل حبيبات الأرز هذه داخل حبة من “الكوسا”ـ مشيرة إلى ما كانت تحضره من طعام بين يديهاـ من سوء حظك يابني أنها تنمو وتكبر وتبرعم وتثمر في معمعان المعارك، في الزمن الصعب، تتطلب الحكمة والوضوح والتحدي والإقدام، تماماً كما جذور الزيتون التي تخترق الصخور وتُفتتها، في لحظات تمتحنك بها الحياة، لحظات الحسم التي لا مجال فيها لتردد أو تسويف، خوفي يابني من نهر الخوف الذي يندلق في عروقك في اللحظات الصعبة، وينازع دمك على لونه، خوفي أن ينتصر عليه ويغير لونه، أن يحوله الى ماء مُعكّر نجس، ويحولك إلى جبان رعديد، يمقتك بسببه الناس والمجتمع، وحتى زوجتك التي تستقبلك بداخلها ظانة أنك أمين عليها، وتشكل لها السند القوي وحائط الأمان…تماسك يابني تماسك، فبين الخوف والجبن لحظة واحدة أرق من ورقة السيجارة وكم هائل من الدمار، تماسك يابني، إن كل العالم لن يستطيع إصلاح لحظة جبن واحدة إن تفلتت منك وانكسرت، لأن أول خساراتك هي نفسك، وخسارة النفس ليس يوازيها خسارات.

كما أنني لا يمكن أن أنسى توصيات والدي المرحوم منذ صغري، وتنبيهاته لي بأن لا أثق مطلقاً بسلطة أو ملك أو رئيس أو أمير أو عاهرة، لأن كل منهم “عاهر” بطريقته، والعهر واحد لا ينقسم، حتى وإن اختلفت أشكاله وطرائقه، فالعاهرة تبيع جسدها، وهم يبيعون بلادهم ومصالح شعبهم، ولوحدي أضفت اليهم لاحقاً الكتبة والمسحجين والمطبلين من لاعقي الصحون والأحذية، لكنني لم أبح بذلك لأحد.

وعليه وكي أحمي نفسي، فإنني أطلقت العنان لحواسي مجتمعة، لكل قرون الإستشعار عندي، خافية وظاهرة، لتعرف كل ما يدور داخل غرفة التحقيق، فلا أحد ضامن أن لا أتحول من شاهد إلى متهم، ورغم أنني لعنت اليوم بل اللحظة التي أخرجتني من باب منزلي في ذلك الصباح، التي لولاها لما وصلت أمام غرفة التحقيق في قسم الشرطة هذا، بسبب ذلك  “الرجل الأكتع”، إلا أنني لمت نفسي أكثر ولعنتها مراراً على شفقتي عليه، وضعف قلبي على حِنيّته المفرطة، قبل التأكد من أن هذه الشفقة وهذا الحنين لن يكونا في غير مكانهما، لكن ما العمل أمام مثل هذه الطيبة المفرطة والسذاجة القاتلة؟نعم “ليس باليد حيلة” كما يقول المأثور الشعبي…

خرجت من باب منزلي صباحاً كعادتي في الفترة الأخيرة، بسبب دخولي عالم العاطلين عن العمل منذ شهور عدة، لأتفرج على ذلك الرجل الطيب الهرم، الذي يأتي كل يوم ليطعم الحمام البري، فازداد إيماني وثقتي بالله الذي “يرزق الدودة في باطن الأرض”، ولا ينسى من فضله أحدا، ورأيت التفاؤل هذا والإيمان يزيدان التفاؤل داخلي بأن أجد عملاً من جديد، فالدنيا لا تخلو من “أولاد الحلال”، وأنها “إن خلت بلت” كما يقول المأثور الشعبي، وحلمت واعياً أنني ربما وجدت عملي القادم عند هذا الرجل الطيب، مبتعداً عن غابة البطالة الكثيفة هذه، التي تمتد وتكبر وتنتشر مثل النار في الهشيم، حاصدة آلاف الأيدي الباحثة عن رغيف خبز يوما بعد آخر، وعدت أنظر لهذا العجوز المنقذ الذي يأتي للحمام بالخبز و الحبوب من منزله في كل يوم.

لا أستطيع القول من “بيته”، فكلمة “بيت” فيها الكثير من الغبن والإجحاف، ربما الكلمة الأصح هي من “قصره”، وبغض النظر عن المعنى لهذه الكلمة وهذا التوصيف، فالرجل كان يأتي، دعني أقول، من “بيته الكبير”، المؤلف من عدة طبقات، لا أعرف ماذا يحوي أي منها،  لكنني أعرف أن البيت محاط من كل جوانبه ببساط أخضر وشجر مثمر من كل صنف، تلفه الرعاية والشمس والمياه والحنين، وأي تقاعس من قبل العاملين فيه يواجه بالتوبيخ والتعزير والخصم من الراتب الشهري وحتى الفصل من العمل، لدرجة قال البعض أن أحداً من الذين عملوا في هذا “القصر” لم يأخذ يوماً راتباً كاملاً أبداً، وكنت أقول في نفسي “أن الله يعطي اللحمة لمن ليس له أسناناً”، فهؤلاء العاملون الحمقى لا يعرفون ماذا يعني أن يكون لديك عمل، أن تكون ضامناً لرغيف خبزك لليوم التالي، أن لا تسمع بكاء أطفالك متضورين جوعاً وتعنيف زوجتك لأنك لم تجد ملاً، وكأنك قادر على ذلك وترفض أو تتمنع، لذلك هم يتكاسلون ولا يقومون بعملهم كما يجب، وكذّبت صديقي الذي يعمل هناك، عند العجوز الطيب منذ شهرين ويزيد، عندما إدعى أن الرجل العجوز يفتعل القصص ليخصم عليهم أجورهم.

كما يوجد في البيت حمام سباحة في المنطقة الخلفية، ومظلات للحماية من الشمس، كي لا تؤذي أحفاد العجوز وأولاده، ويقول بعض “المبالغين” أن الماء الذي تُسقى به الأشجار والبساط الأخضر يتعدى كثيراً ما يشرب المخيم القريب ويغتسل، وكان للقصر طريق معبد لعبور سيارات أولاده وزائريه من البوابة الحديدية الضخمة، قيل أن تختفي في مكان ما تحت القصر.

لا أعرف لماذا أظل أثرثر بعيدا عن لب الموضوع، فالأمر ببساطة شديدة، أن ذلك الرجل العجوز الطيب لا يستطيع تجنب قعل الخير، فكان يخرج في كل صباح باكر ليطعم الحمام خارج قصره، باقياً حتى ساعات الظهيرة القاسية، يخرج ببنطال رياضي طويل، وبلوزة أو سترة من اللون نفسه، يفوح منهما رائحة النظافة والنقود، متوجهاً إلى ظل شجرة قريبة من الطريق العام، يجلس على كرسيه الذي يحمله أحد عمال القصر يُجلس عليه العجوز قبل أن يعود.

يبدأ العجوز بتقطيع الخبز ونثره على بعد خطوات من قدميه، وكان الحمام يأتي حائماً تحت سقف السماء، سابحاً على أمواج الهواء، مقترباً من أرض الطريق، ثم سرعان ما يشق الهواء بمنقاره ورأسه الى الأعلى، يعاود “الكر والفر” مرات ومرات قبل أن ينزل بحذر بعيداً عن الرجل في أول الأمر، ليلتقط ما تيسر من غذاء، ثم يأخذ بالإقتراب قليلاً قليلاً، وسرعان ما صار يتخلى عن حذره رويداً رويداً، لمّا رأى  الرجل لا يضمر له أي سوء، صار الحمام يقترب أكثر وأكثر، ويوماً بعد آخر صار يتخلى عن حذره، ثم تحولت رؤيته للرجل العجوز إلى عادة، فصار يتجمع أكثر وأكثر، ويأخذ الفتات المتساقط تحت أقدام العجوز، ومرات ينقر الخبز من بين يدي العجوز نفسها، الذي تتفتح شفتاه مظهرة اسناناً اصطناعية بيضاء مثل زهرة، مطلقة ابتسامة طفولية بريئة، تزيد في طمأنينة أسراب الحمام التي تتكاثر بين يديه يوماً بعد آخر، ممزقة حذرها قاذفة به، إلى الصخر، من أعالى السماء، وتجعل من يرى المشهد مثلي يكن للعجوز كل المودة والحب والإحترام، ويدعو له الله في كل صلاة.

جاء نفس هذا “الرجل الأكتع” كما في كل يوم، خرج من مخيم قريب، حيث يمكنه أن يغتسل وينام أحياناً على حصائر المسجد أو مقاعد الكنيسة المتجاورين، جاء هذا المشرد بملابسه الرثة، بحذائه البالي، بشعره الأسود الأجعد الكثيف، شعر طويل يغطي وجهه كاملاً، حتى لا تستطيع أن ترى منه شيئاً، حتى أثناء التحقيق معه، كان كلما أمره المحقق أن يرفع شعره ليستطيع رؤية وجهه، يرفعه من جانب لتنهال بقية الخصل من جوانب مختلفة لتغطي الجزء الذي تم كشفه، أقول أنه جاء كما في كل يوم، وكنت أنا مثل كل يوم أيضاً، أفترش الأرض في ظلال شجرة وحيدة مقابل الرجل العجوز، أتمتع برؤية الحمام المتطاير بين يدي الرجل ومن حواليه، وهي تنقر خبزها، وهي “تهدل” متغازلة متمايلة متهادية، وهي تسير الهوينى عارضة رويشاتها البيضاء والسوداء والبنية والرمادية والزرقاء، كأنها في عرض أزياء طبيعي فاتن، كل حمامة تعرض أكثر من لونين من الريش الجميل، بعضها تفرد أجنحتها لتساعدها أكثر في الحركة، بعض الذكور تغازل أناثيها، يداعبونهن بمناقيرهم، والأناثي ترنو إليهم وتبتعد ، يتبادلون تنظيف رويشات بعضهم بعضاً، ثم تبتعد الإناث لتقترب من جديد، ذكور أخرى تطعم أناثيها بمناقيرها، ربما لتسرق قبلة تظهر من خلالها حباً، تطير الإناث متدللة إلى مسافة قصيرة قريبة، تعود لتلتقط حبات الحبوب أو كسرات الخبز الصغيرة، قبل أن تعود الى عشوشها في سويعات الظهيرة أو قبل مداهمة الظلام، في أعالي الأشجار، كانت تظل تسير برأسها المرفوع الشامخ، ترى نفسها أكثر بكثير من مجرد سرب حمام، ترى في حمائميتها نسوراً جارحة قوية، لا تدرك أن النسور لا تستجدي غذاءً، ولا تنتظر أحداً أن يلقي لها بقطعة لحم، فما بالك بكسرة خبز، وأن “نسوريتها” تلك من كونها ترفض أن تعتاش على فتات، من قدرتها على أن تستحضر الطعام بقوة مخالبها ومنقارها المعقوف، من صبرها على الجوع، فهي ك”الحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها”.

كنت أراقبها في مجيئها وذهابها، في أكلها، في حركة طيرانها، وهي تجلس بعد أن تشبع في ظلال الشجرة الآمن، متخلية عن كامل حذرها إلا قليلاً، ،وكنت أفكر قائلاً لنفسي، أنه حتى اسراب الحمام لها رونقها وجمالها عندما تشعر بالأمان، عندما تنام مطمئنة بين يدي إنسان عطوف مثل هذا العجوز، ولو لم يكن هذا الرجل طيب القلب أبيضه، لأحس به الحمام وتفاداه، لابتعد عنه وجافاه، لو لم يشعر بحبه له لما وثق به واقترب منه هذا الإقتراب، فالحمام يحس الحب والكره، ومن الصعب خديعة الحمام.

لكن “الأكتع” عكر ابتسامتي وقتل فرحتي  بلحظة واحدة، عندما نظر من بين خصلات شعره الأجعد الكثيف، نظرات كره من عينيه السوداويتن الحاقدتين، ورأيته يتجه مباشرة الى تجمع أسراب الحمام بين يدي الرجل الطيب العجوز، ينحني ويلتقط قطعة خبز جافة، لكن الحمام الذي كان حتى تلك اللحظة يشعر  بالطمأنينة والأمان، تطاير مرعوباً من هذا “الكائن” الذي عكر عليه صفوه، ومزق طمأنينته ورماها في غير اتجاه، تاركاً غذاءه والعجوز وظلال الشجرة وبعض رويشاته تتطاير في المكان، راكباً من الخوف أمواج الهواء، محاولاً التسلق إلى أعالي السطوح والشجر وأعمدة الكهرباء ورؤوس تلال الهواء الساخن، والرجل العجوز الذي فجعه ما رأى لسرب الحمام، كاد يبكي من الألم، وسرعان ما فتح هاتفه الخيلوي معرفاً عن نفسه طالباً قدوم الشرطة، لإعتقال الرجل “الأكتع”، الرجل الذي لا قلب له، وسرق طمأنينة وطعام الحمام وشتت شمله…

 

  •              *              *

قال له الضابط المحقق:

ـ ما هذا الشكل؟ لماذا هذا الشعر الطويل؟ ألكي لا يتعرف عليك الناس؟

فأجاب بصلف ناتج عن ثقة أو وقاحة:

ـ لماذا أتخفى؟ وهل أنا مطلوب ياسيدي؟!!!

فقال الضابط غير متجاهل لسؤاله مجيبا:

ـ لا أستطيع الجزم بذلك، فأنت لا تملك حتى بطاقة لتثبت بها هويتك، لكن كوننا ديمقراطيون ولا نتهم الناس جزافاً، فأستطيع القول أنك لست مطلوباً، لكنك سارق، أنت لصٌ…إعترف لتختصر الوقت عليك وعلينا.

وضحكوا، عندما رد هو:

ـ أنا لست لصاً، أنا مجرد مواطن جاع وتشرد في وطنه مثل الآلاف ياسيدي، لوكنت سارقاً لما قطعوا يدي…

واقترب من أذن الضابط وقال:

ـ في بلادنا يقطعون الأيدي النظيفة يا سيدي، الأيدي العفيفة التي لم تمتد يوماً الى أملاك الغير ولا إلى حقوق الناس….

قطع الضابط ضحكته، نظروا بدلالات لوجوه بعضهم البعض، ثم قال موجهاً كلماته الى زملائه قبل أن يوجه سؤاله الى الرجل “الأكتع”، الذي لم نعرف له إسماً بعد:

ـ هذا رجل مجنون أم ماذا؟ ماذا يقول هذا المعتوه؟ من الذي قطع يدك؟

أشار “الأكتع” بإصبعه إلى الأعلى، فسأل الضابط:

ـ الله؟!!! الله من قطع يدك؟!!!

ـ لا ياسيدي، معاذ الله، الله لا يقطع أيدي رعاياه، بل من نصّبوا أنفسهم مكانه، إنهم أولئك الجالسون فوق، على الأكتاف ياسيدي…

فكر الضابط بأن يواصل أسئلته كي يتعرف على الرجل الذي أمامه، فربما كان أمام حالة خطرة متخفية وراء هذا الشعر الأشعث الكثيف، قال:

ـ وكيف قُطعت يدك؟

أسند “الأكتع” ظهره الكرسي، رفع رأسه عاليةً وكأنما أراد استحضار الزمن أمامه كي لا ينسى شيئاً، وكانت عيناه الشيء الوحيد المتوهج اللامع داخل كتلة رأسه، قال:

ـ في ذلك الزمن سيدي، كان الوطن مختلفاً عما هو عليه هذه الأيام، له طعم آخر وشكل آخر ورونق آخر ومضمون مختلف، كان الناس يتسابقون لخدمته، والموت من أجله شرف لا يناله أيٍ كان، يناله من يستحقه فقط، والجريح يمشي في الشارع مزهواً بجرحه، معتداً به ليراه الناس، كان مهر العروسة علامة جرح أو سنين سجن، لم يكن يسجنك أحد إلّا عدوك، وكان الناس سيدي وكأنهم كتلة واحدة، متعاونيين متضامنيين، قلب كل منهم على الآخر، الفرد في خدمة الكل والكل في خدمة الفرد، إلا القليل منهم الذين ركبوا لاحقاً على الأكتاف، بعد أن تهدمت بمعاول غريبة، من الجذور، تلك الأخلاق وبشكل مدروس مقصود، كان الوطن زينة الناس وشرفها، كان الهم والألم والأمل، كان البيت وكان الحب وكان الجنة، عصارة كل جميل وحلو ولذيذ، رغم مرارة الأشياء كلها التي تحيط به، رغم الثمن الغالي الذي تدفعه من أجل هذا الحب، الذي قد يودي بك لدفع حياتك ثمناً، ورغم ذلك كان الشباب يتسابق ليدافع عنه ويفديه، فارشاً حياته جسراً للآخرين مضحياً بها، لتستمر المسيرة وتنمو شجرة الأخلاق التي قطعوها من جذورها لاحقاً، هل تتخيل يا سيدي، أن إمرأة أو شيخاً أو ولداً كانوا يحتضنون أشجار الزيتون المقتلعة ويبكونها كما يبكون شهيداً؟ يفتحون لها بيوت عزاء، هل تتخيل أن حيازة بندقية صدئة أو مسدس كان يودي بك الى التهلكة وغياهب السجون؟ لا تتعجب سيدي، فبنادقنا الصدئة تلك تختلف عن بنادقكم هذه، بنادقنا تلك لم تعرف يوماً كيف يكون الإطلاق للخلف، لم تعرف الغدر ولا المناورة ولا الخيانة تحت شعار التكتيك أو أي من المسميات، كان لها اتجاه واحد فقط …قلب العدو…

شكراً سيدي لم أعد أدخن، الظروف أجبرتني على تركه، من لا يجد خبز يومه لا يجب أن يدخن أيضاً، حاولت العمل مراراً، لكنني ما لقيت إلا فشلاً، حاولت حمالاً وعتالاً، أن أعمل في مقهى، أن أبيع جرائد لكن دون فائدة، من سيُشغل رجلاً “أكتعاً” مثلي؟ حاولت العمل مع الحكومة ، طالبوني بنقل أخبار المخيم، قلت ها هو المخيم أمامكم، ينخره الجوع والعطش، يعمل به الأطفال تاركين المدارس ليعيلون أسرهم، متحولون إلى جهلة يطاردون رغيفاً، أخبرتهم بجوع أسر الشهداء والجرحى العاطلين مثلي عن العمل، قالوا أنهم يعرفون كل ذلك، وهذا كله لا يعنيهم، وأنهم يريدون أخبار الرجال، رجال الليل على وجه التحديد، وكوني أنام بعد العَشاء مباشرة لم أستطع أن أكون ذو فائدة لهم يا سيدي.

نسيت أن أخبرك أنني لم أتسول يوماً حتى من أجل الخبز، لم أمد يدي الباقية لأحد، أأمد اليد التي حملت تلك البندقية لتتسول؟!!! ومن أجل سيجارة؟!!! ربما لو كان لدي فائض من قروش لدخنت من جديد، لكن لا، لا ياسيدي، لن أدخن من جديد، ربما اشتريت بها خبزاً لأناس مثلي يعج بهم المخيم، كي أكفيهم شر الحاجة والعوز ياسيدي….

تَحَمّلني قليلاً، في تلك الأيام حملت بندقيتي مع بضع رفاق درب، كنا جاهزين للقتال دائماً، نتنقل ببنادقنا من مكان إلى مكان، حيثما هناك حاجة تجدنا، لسنا وحدنا، مثلنا كان “مثايل” سيدي، كنا قد قررنا أن نحرر المسجد والكنيسة المتجاورين في مخيمنا، حيث أنام في هذه الأيام، ونحرر شجيرات الزيتون المحيطة بهما، كان الجند قد إغتصبوها، كانو فد إعتلوا المسجد والكنيسة وحولوهما لمكان لأصطياد الناس وقنصها، وكانوا يدوسون المسجد والكنيسة والأرض وأشجار الزيتون بأحذيتهم، وأنت تعرف سيدي أن بيوت الله والأرض وأشجار الزيتون مقدسة، كما الإنسان تماماً، ولا يجدر بنا تركها تُداس بأحذية الأعداء، مهما كانت قدرتهم وتضخم جبروتهم، فذهبنا واشتبكنا وحررنا المقدسات كلها في المخيم، واستقدموا قواهم وبنادقهم وآلياتهم، وهاجمونا من جديد، وقاتلنا بدورنا حتى لم يبق لدينا ذخيرة نكمل حربنا معهم، وكنا نسمع أصواتاً تأتي من بعيد بعيد، من داخل الحدود وخارجها، وكلها من الراكبين على ظهور الناس وفوق أكتافهم سيدي…

وأشار بإصبع يده الى فوق من جديد، وقال:

ـ وكانوا بنا يصرخون: “العين لا تجابه المخرز”… يكفي ما قمتم به… “بوس الكلب من تمه تتاخذ غرضك منه”… “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”…”يكفيكم مغامرات غير محسوبة”… “ستدمرون كل جدران السلام التي بنيناها”… “انتظروا جيش العرب” “إلتزموا بأوامر الحاكم” وافقوا على “هدنة”لنستطيع مساعدتكم… يكفي أوقفوا إطلاق للنار…

كلما كنّا في قمة انتصارنا، كانت نفس تلك الأصوات تطالبنا بالتوقف والهدنة، وتساءلنا مرّات مع أنفسنا، هدنة ماذا تلك التي يريدون؟ وعلمنا دون عناء كبير، أنهم يريدون دعم الجند الذين كانوا أمامنا يتقهقرون، لماذا لم يطلبوا هدنة ولو مرة واحدة عندما كان رفاقنا بحاجة لها؟ هل هذه مجرد صدف؟ ونحن لم نكن بحاجة الى الهدنة ولا الى كل هذا النعيق سيدي، كنا نأمل أن يمدوننا ب”كمشة رصاص”، بدل هذا العويل، لكن “لا حياة لمن تنادي”، لم يكن أحد ليستمع لمطالبنا ولا احتياجاتنا، ولم نستمع نحن أيضاً لنعاقهم…

كانت معركة صعبة ياسيدي، كانوا أضعافنا عدداً وعدة، فاستشهد رفاقي كلهم، وأصبت أنا سيدي، رصاصة في خاصرتي، ضلت طريقها فخرجت من الجانب الآخر إلى مكان لا أعرفه ، وثلاث رصاصات في يدي، يدي تلك التي إنتزعوها وقطعوها في لحظات ضعفي.

زحفت في المكان لأخرج من المكان الذي كنت فيه محاصراً، زحفت كما لو أنني لم أكن مصاباً، فالحياة جميلة ونحبها حتى عندما نضحي بها، ربما أننا نضحي بها لشدة حبنا لها ياسيدي، زحفت وزحفت وزحفت، ونوافير الدم تتسابق لتعانق جذور الزيتون، كان دمي قد اختلط بدماء رفاقي الشهداء، لدرجة أنني لم أعد قادراً على تمييزه، نفس اللون ونفس الرائحة ونفس الطريق، وظنّي أنه وصل لأساسات الكنيسة والمسجد ليقوي صمودهما، وربما ليشد من أزرهما، ليطمئنهما واعداً بدماء جديدة قادمة… وفجأة… دون مقدمات أو سابق إنذار، فسحب المياه من البئر مهما كان عميقاً يؤدي إلى جفافه، فما بالك بجسد ضعيف مثل جسدي هذا؟!!! سرعان ما أخذ يجف الينبوع في جسدي، ولم يمر طويل وقت حتى غبت عن الوعي، ليس بسبب الألم سيدي، بل ربما بسبب فقداني لكمية كبيرة من الدم، كما قال أحد الأطباء، بعد ذلك وبصراحة سيدي لا أعلم كيف صار الأمر بالضبط.

علمت لاحقاً أنهم أخذوني الى الكنيسة أولاً، أخفوني هناك مستعينين بطبيب شاب ليوقف نزيف دمي، ثم إلى أحد المستشفيات بعد أن هدأ البحث والتفتيش، وكنت أسمع كلاماً كما في أحلام اليقظة سيدي، كان من غامر وساعدني يستجدي الأطباء، وكان بعض الأطباء يهزون أكتافهم، يريدون القول أن “ليس باليد حيلة”، فأحد الحكام أو الجنرالات سيدي، كان قد جاء لعلاج إنتفاخ في خصيتيه، في تلك الليلة وذات اللحظة، ويبدو أن هذا بسبب سوء طالعي، فخصيتا أي حاكم أو جنرال أو مسؤول، كما تعلم، لا تضاهيها أرواح مَنْ هم مثلي من الناس، فما بالك بمجرد يد؟!!! فبين أفخاذ الحكام والرؤساء والملوك والأمراء، تُطبخ وتنضج وتترتب أصعب الأمور، تتفتح وتحل أكثر الأمور تعقيدا، لكن لا تنمو زهرة واحدة!!! ربما بسبب الزيوت والعطور والمنشطات الكيماوية سيدي!! أنا لم أكن أعلم بالضبط كيف تسير الأمور، كيف تأخذ مساراتها، لكن بعد أن فكرت في الأمر أكثر، وكي أكون صادقاً وجاداً أيضاً، تساءلت: ماذا يساوي ذراع رجل فقير “نكرة” مثلي أمام خصيتي أي من الحكام؟ بل ماذا يساوي بضعة رجال من أمثالي أمام خصيتيه؟ أنا رجل واقعي وأعرف حجمي سيدي، وأعلم أنهم لو وضعوا “خصيتي اصغر حاكم” في كفة، وعشرة رجال من أمثالي في الكفة الأخرى، لرجحتا خصيتي الحاكم، “مجنون يتكلم وعاقل يستمع”، ما هذه المقارنة الفاشلة، وغير المتوازنة ياسيدي؟!!!

نعم سيدي، تجمع كل الأطباء في غرفة الحاكم، ومن كان لديه الحظ سيدي، فقط من كان لديه الحظ، استطاع أن يلمس خصيتي الحاكم، أن يتحسسها ويتلمسها، سعيد من استطاع أن يبدي إعجابه بها، ليرضى عنه وعليه الحاكم، فالحكام تحب أن “نُرطل بيضاتها” سيدي، وتفرح كالأطفال عندما نعجب بأي شيء عندها، فما بالك بخصياتها؟، أما بقية الأطباء، الذين لم يكن لديهم ذلك الحظ، فرؤوهما من بعيد فقط، “وكما يقول المأثور الشعبي” اللي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى”، لكن المأثور الشعبي نفسه يؤكد قائلاً “الريحة ولا العدم”، ولا أخفيك كم كان هؤلاء حزانى لعدم قدرتهم للوصول لتدليك خصيتي الحاكم، ولا أستطيع الجزم سيدي، ففي أحلام يقظتي تلك تهيأ لي أن بعضهم كان ساجداً بين خصيتيه، وكأنه أراد عبادتها أو تقديم فروض الطاعة لها…وربما تقديم الأضاحي على أبواب حصونها سيدي.

أحد الأطباء همس للبقية المتحولقة حول “خصيتي” الحاكم، أن هناك حالة طارئة، وأن عليهم تحضير غرفة العمليات، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد سيدي، حيث صرخ به الحاكم قائلاً:

ـ كيف تجرؤ على التفكير بذلك؟ أتريدهم ترك خصيتي لمجرد وجود حالة طارئة؟!!! لقد هزلت، أتساوي بخصيتي حالة طارئة؟ وأكثر من ذلك أتساويهما بحالة طارئة من العامة؟ من الرعاع؟ حتى الله يقول” وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات، أكافر أنت أم مرتد أم زنديق؟أتساوي خصيتي بحياة شخص “نكرة”؟ ألا ترى أنه يشبه الإرهابيين؟ ألا يكفي أن مثل هؤلاء من يعطل الأمن والسلام والإستقرار في المنطقة؟

حاول الطبيب الدفاع عن نفسه قائلاً:

ـ إن يد الرجل ستقطع يامولاي، إن لم نسارع في استخراج الرصاص المتفجر من داخلها…                       فقال له المسؤول جازماً:

ـ للخرى….فلتقطع…

وقطعوها سيدي فداءً لخصيتي الحاكم…

  •           *            *

طرقت الباب مستأذناً للذهاب للمرحاض في آخر الممر الطويل، أبعدتني الطريق فلم أعد أسمع لبقية قصته، وأصدقك القول أنني لم أكن لأصدقه لمّا كان يرفع إصبعه متهماً الحكام، أو ساكني القصور كما قال أكثر من مرة، فها هو الرجل العجوز الذي يفني عمره ويقضي وقته لإسعاد وإطعام بضعة حمامات ضعيفات يبحثن عن فتات خبز، أليس هو من ساكني القصور؟!!! فكيف تريدني تصديق أقواله؟ لكن دعك من هذا وانظر ماذا سمعت عند رجوعي مرتاحاً من المرحاض أعزك الله، إلى حيث كنت أمام باب غرفة التحقيق، فاتحاً بابه مخبراً عن قدومي، متحملاً كلمات الضابط الذي عبر عن إحتجاجه قائلاً ” جيت؟الله لا يجيبك… إرتزي بره”…

و”إرتزيت”كما أمر، لكنني كنت قد رأيت وسمعت، رأيت كيف كانت عيناه تلمعان من تحت شعره الكثيف، حين كان الضابط الكبير ناظراً إليه محاولاً تفسير كل كلماته وحركات جسده، ومن على الكرسي المقابل سمعت ماذا سأله ضابط كبير آخر ، قائلاً:

ـ لماذا أخذوك جريحاً للكنيسة وليس للمسجد؟ أأنت مسلم أم مسيحي؟

سمعته بأذني عندما توتر كما لم يكن من قبل، وهاج وماج وقال للضابط:

ـ وما علاقتك أنت بديانتي؟ هذا الأمر بيني وبين الله ولا دخل لأي كان به، الزموا حدودكم ولا تسألوا مالا يعنيكم…

ولم يقل له حينها “ياسيدي”، فقال الضابط الأول مجدداً حازماً متشككاً:

ـ أجئت لتعمل علينا بطلاً أيها اللص المتشرد؟ لو كنت ذكياً، ومادمت قد قررت السرقة، فما كان عليك إلّا أن “تسرق جملاً”؟ لكن رائحة غبائك تزكم أنوفنا…

وانهال بكفه فوق وجه الرجل “الأكتع”، فتح الباب النادل في تلك اللحظة بالذات، ليدخل بكؤوس الشاي لطاقم التحقيق، فرأيت كيف تلقّف “الأكتع” بيده المتبقية يد الضابط ممسكاً بها مثل ملزمة، وقال:

ـ لو فعلتها ثانية سأكسرها لك، أفهمت؟

وظل قابضاً على يد الضابط وقال دون أن يترك يده:

ـ لم آت لأعمل بطلاً على أحد، مثلي لا يفتعل شيئاً ليس به، لأنني في الأصل بطل فعلاً، ولو كنت لصاً و”سرقت جملاً” كما تقول، لربما كنت في مكانك الآن… سيدي.

كانت كلمة سيدي هذه المرة، أكثر استهزاءً من أي مرة أخرى، ثم أفلت ذراعه، وأكمل الضابط بالعاً الأهانة:

ـ لقد ألقينا القبض عليك متلبساً، كسرة الخبز ما تزال في جيبك أليس كذلك؟

ـ بلا، لكنني لم أسرقها، أنا وجدتها على الأرض، قطعة ناشفة جافة ملقاة في وسط الشارع…

ـ لكنها طعام الحمام، نعم الحمام، رمز السلام والمحبة والتعايش، لكن مثلك من تعود أن يعطي قيمة للرصاص، لا يمكن أن يفهم ماذا يعني ذلك، كما أن الرجل العجوز الطيب القاها للحمام وليس لك أنت، وأنت تجرأت على الحمام فأرعبته وأخذت أكله…

قال الضابط مؤنباً “الأكتع”، الذي دس يده في جيبه وأخرج كسرة الخبز وقال:

ـ أيمكن للحمام أن يأكل مثل قطعة الخبز هذه سيدي؟

كانت القطعة بحجم نصف الكف، الأمر الذي جعل الضابط يكمل التحقيق دون تعليق مهم:

ـ يمكن أو لا يمكن، أنت سرقت الخبزة وأرعبت الحمام، وعقابك السجن….لكن قل لي من أين أنت؟ فأنت لا تملك حتى اثبات شخصية.

ـ من المخيم سيدي…

ـ أي مخيم؟ المخيم الصيفي؟

قال الضابط مستهزئاً، حين رد “الأكتع” مجيباً:

ـ لا يا سيدي، مخيمنا شيء آخر يختلف عمّا في ذهنك، مخيمنا بدأ بالخيمة والطين والبرد والأمطار، ثم تحول الى طوب وصفيح وأمطار وبرد ومجاري وأزقة ضيقة وأشباه طرقات، إلى وكالة للغوث والتدجين ومحاولات تمرير الأمر الواقع، بيوت صغيرة سيدي لكن يسكنها عدد كبير من الناس، كما جاء في مناهجكم الجديدة سيدي” تجمع بشري كبير” بعد أن أسقطم عنه، معهم، جميع ميزاته وأبقيتموه عارياً…سيدي

وأشار بإصبعه الى فوق مرة جديدة… وأكمل:

ـ وما دمت ترى أن السجن مكاني المناسب، إذن فليكن السجن، أتعتقد أن “مَنْ تحت المزراب يخشى من المطر”؟!!! رحمك الله ياطرفة بن العبد:

” وظلم ذوي القربى أشد مضاضة        على المرء من وقع الحسام المهند”

فقال الضابط الأول متفاجئاً بالرجل “الأكتع”، وكأنه لم ينتظر أن يحوي رأسه أكثر من أطياف جهل وغباء:

ـ ماذا قلت؟ أعد…

ـ ليس مهماً سيدي، ليس مهما…

صار الضابط يشعر أن من أمامه ليس رجلاً معتوهاً كما يبدو، فحاول أن يسأل ليتعرف عليه أكثر، قال:

ـ لماذا لم يساعدك من أعطوك البندقية إذن؟

نظر في أعماق عيني الضابط، وقال وكأنه ينتزع سكيناً غرسه الضابط بسؤاله في قلبه:

ـ لأنهم يقتلون الخيول سيدي، يقتلونها بكل أشكالها وأنواعها وحجوما وجنسها، فالحصان إن ترافق مع المهرة يخلقون الزلازل ويفجرون البراكين، لذا يقتلونها وهي ماتزال تسير، وهي جامحة شامخة، يقتلونها وهي ما تزال تعدو، يقتلونها فرادى وجماعات، فالخيول تظل تحن الى أرض المعركة، وإن لم يصحبها أحد تعود وحيدة الى هناك، تظل تصهل وتعدو وتحفر الأرض بحافرها، وإن منعتها تغضب وتصهل وتقطع الحبال وتعدو في البراري والسهول، لذا توجب قتلها، ومطاردة مُهُرها قبل أن تشب وتكبر وتتعلم العدو والصهيل، فهي تذكرهم بواجباتهم التي أغمضوا عنها عيونهم.

وسكت هنيهة وأكمل أسئلة إستنكارية لم ينتظر عليها أي جواب:

ـ أما زلت تسأل لماذا سيدي؟ ألم تسمع ب”الأم التي تقتل أبناءها”؟!!! أُدرك أنهم قد غيروا الزمن وقلبوا المفاهيم، وأنهم قتلوا الخيول الأصيلة وروضوا بعضها محولينها بإرادتها إلى بغال، ونقلونا من زمن الخيول الأصيلة الى زمن البغال والحمير، وفي مثل هذه الأزمان يصير قتل الخيول، وفي وضح النهار، واجب ، فرؤية الخيل تصهل وتعدو تذكرهم بزمن لا يريدون تذكره… لكن أتعتقد أن هذا الزمن سيستمر طويلاً سيدي؟!!!.

كان الباب مغلقاً في تلك اللحظات، وسرعان ما فُتح ليأخذ الضابط عناويننا وأسماءنا، للشهادة على سارق أكل الحمام ومرعبه، وفي تلك اللحظة رأيت كيف عجز الضابط عن تقييد يده الوحيدة، فاستعاض عن ذلك بتقييد قدميه، ولشدة خطورته قيدوا يده الوحيدة بالقدمين أيضاً، وقال الضابط وهو يسحبه إلى خارج الغرفة لأحد المجندين:

ـ إياك أن يهرب منك…إنه خطير…                                                                                                                                           *            *            *

عدت الى بيتي ذلك المساء، بقيت أفكر في ذلك الرجل، رث الثياب فقيرها، “أكتع” اليد حاد البصر كصقر بري لن يتروض أبداً، والذي منع عن عيني النوم معظم مساحة الليل كله، وأنا أقلب كلماته داخل حجرات رأسي.

ولأن “الطبع غلب التطبع”، عدت الى طبعي للخروج في صباح اليوم التالي، للإستلقاء تحت تلك الشجرة لأراقب الرجل الصالح وهو يطعم الحمام، وفعلاً خرج من قصره، حاملاً أكل الحمام في كيس بلاستيكي، وأنا أراقبه كيف ينثره لها، والحمام يأتي بأسرابه بين يديي الرجل العجوز وبين أقدامه، ويكون قد عاد الى مغادرة حذره، واثقاً بالرجل البشوش الطيب، آكلاً من بين يدي هذا الرجل العجوز، ومنذ خرج العجوز من قصره، كان أكثر بشاشة وحيوية وابتسام، لم ينتظر ليصل إلى مكانه تحت الشجرة، بل صار يلقي الحبوب منذ خروجه من بوابة قصره العملاقة، في الشارع والطريق وضفتيه، استغربت لما رأيته يطعمها بحبوب لا أعرفها، لكنني “حسدته” على كرمه، كيف يشتري للحمام الحبوب إن نقص الخبز من بيته!!! وكدت أذهب لحد بيته لأهنئه وأقبله.

لم يمر طويل وقت، حتى بدأ الحمام يترنح في الطريق وعلى جانبيه، ثم يقع على أحد جنبيه أو ظهره، وبعض اللواتي حاولن الطيران منها، خدعتاه جناحاه اللذان أصابهما الوهن والخدر، ووقعت على سطح بيت العجوز أو في حديقته الخضراء، فأخذ العجوز يصرخ بالعاملين :”إحذروا أن يتسخ القصر، إذبحوها في الخارج قبل أن تموت، إياكم أن يتشوه وجه الحديقة الأخضر ويتسخ، كي لا أخصم ما تبقى من راتبكم هذا الشهر”، واستل سكينه وأخذ يذبح بدوره الحمام الغائب عن الوعي، يلقيه أرضاً ليخفي التراب دماءه النازفة، ويتمتم مع نفسه ” ما كان يجب أن تطعمهن هذا الكم من المواد المخدرة، نصف الكمية كانت تكفي…كيف استطعت أن تنفق كل هذا المال؟!!!” ثم أحضر أكثر من عامل من قصره، ابتدأوا يجمعون جثث الحمام المذبوح الهامد داخل أكياس بلاستيكية ويدخلونها داخل القصر.

كان الرجل العجوز يأكل الحمام ويأكل عظمه الطري على أسنانه الإصطناعية الماضية، يأكل حتى حد ما فوق التشبع، فالعجوز يحب الحمام ولحمه، يسند ظهره على ظهر كرسيه على طاولة السفرة، يأخذ نفساً عميقاً، ثم ينقضّ على الحمام المحمر الذي أمامه، ويبدأ الأكل وكأنه ابتدأ لتوه، كما وصف لي صديقي العامل داخل القصر عنده، منذ ما يزيد على شهرين بقليل، ثم يأخذ يلعق ما علق فوق أصابعه، مدخلاً أصابعه داخل فمه، أو مخرجاً لسانه ليلعق ما تبقى فوقها من بقايا طعام، وكأنه يستهزئ بعقل الحمام الذي صدق خديعته. دون أن يفقد ابتسامته لحظة واحدة طيلة فترة غدائه.

قام من على طاولته، وقال:

ـ يقول المأثور الشعبي ” تغدى وتمدى، تعشى وتمشى”، لا أريد أن أسمع صوتاً الآن، جاء وقت قيلولتي بعد هذه الوجبة الدسمة… يا أبو محمد… حضِّر الخبز لأطعم، صباح غد، هذا الحمام المسكين الذي لا يجد من يطعمه… “إفعل الخير وارمه البحر” يارجل ، لا تنسَ أبداً هذا الأمر…

واستلقى على كنبته الفارهة بعد أن غسل يديه بالماء دون الصابون، مسحهما بفوطته الصغيرة، ثم صار كعادته يشم رائحة لحم الحمام الطري المتشبثة بيديه، وبقع الدم ما تزال متشبثة بساعديه وفوق قميصه…

عدت إلى بيتي مغموماً ذلك النهار، وقد اتخذت قرارين مهمين، أولهما أن لا أتقدم لوظيفة في قصر العجوز، وأن لا أشهد ضد الرجل “الأكتع” مهما هددوا أو حاولوا إجباري، ولسبب ما تذكرت المرحومة أمي، فقررت أن أزور قبرها وأقرأ الفاتحة على روحها الطاهرة…

محمد النجار

لقد إخترع العرب الإسطرلاب…

كنا، نحن معشر الشيوخ، عندما نراه قادماً وقد بدأ يبتسم، ندرك أن لديه شيئاً يريد قوله لنا، لتأخذ سهرتنا الريفية طابعاً مختلفاً، طابع تفاؤل الأطفال وآمال الشباب، فالهم كبير واسع يملأ المكان كله، لذا كلما كان يصطاد أحدنا ضحكة يضحك من أعماقه، وتزداد الضحكات من عمق الآلام ورغماً عنها، ونتهيأ لنسمع “اسطوانة” أبي فهمي الدائمة الجاهزة لمثل هذه الحالات:

ـ على ماذا تضحكون؟ أتضحكون على خيبتكم؟!!! ألم تتعلموا بعد “أن الضحك بلا سبب قلة أدب”؟

وتستمر ضحكاتنا دون أن نعير كلماته إنتباهاً يُذكر، “قابرين” جملته بين صدى ضحكاتنا، متخلصين من واجب المجاملة ومن صدق كلماته في آن …

جاء، من بعيد، رافعاً ابتسامته مثل علم، وكلما اقترب منا اتسعت ابتسامته لتتحول إلى ضحكة دون أن يقول كلمة واحدة، وكنا نحن بدورنا نبدأ بالإبتسام، وكلما أعلنت ابتسامته أكثر، عن نفسها، كلما أحدثت ابنتساماتنا ضجيجاً عالياً مسموعاً، متساوقاً أو متآمراً مع مشروع ضحكته الفاجرة.

كان أصغر من جيلنا بعقد واحد أو يزيد قليلاً، لكنه دخل، لا يدري أحد كيف أو متى، تحت جلودنا، وصار واحداً منا في أول الأمر، ثم صرنا نفتقد غيابه لاحقاً، دون أن يؤثر على تجمعنا الليلي أمام دكان أبي صابر، وسرعان ما تحول وجوده إلى ضرورة، إلى لازمة، لا تستقيم جلساتنا دونها، أصبح حضوره كملح الطعام، لا تستقيم جلساتنا دونها، وصار بعضنا يغادر إن لم يره بيننا، وكنّا أحياناً نستعجل حضوره بإرسالنا أحد أولادنا لإستعجاله، قائلاً له:

ـ أبي يريدك في موضوع مهم ياعمي أبو خالد… بسرعة إن تكرمت…

كي لا نترك له مجالاً للتفلت أو التأخير، ثم صرنا نقول له، أننا نفعل ذلك لنخلصه من كلمات زوجته التي تنزل على رأسه مثل السّوت، فيضحك ويقول:

ـ “ضرب الحبيب كأكل الزبيب”… علي شكركم على حرصكم عليّ … ما شاء الله عليكم، “محمليني جميلتكم أيضاً!!!

قال من بعيد هذه المرة، على غير عادته، بعد أن لوّح بيده في السماء، وكأنه زعيم سياسي يلقي خطاباً:

ـ و”قد إخترع العرب الإسطرلاب”… أإخترعه العرب أم لم يخترعوه، ما هم عليه العرب الآن؟… إنهم لم يتعلموا بعد أن “أصل الفتى ما قد فعل”…

وأعاد ضاحكاً كعادته:

ـ قال “إخترعوا الإسطرلاب” قال!!!

قلت دون أن أُغلق فمي أمام ضحكتي المتدفقة من بين أسناني:

ـ نعم، “إنما الفتى من قال ها أنا ذا”، لكن ما الذي استحضر هذا الأمر على بالك اليوم؟ أفي كل يوم لك “نهفة” جديدة؟!!

فقال الشيخ سالم وهو يُمسّد لحيته وبلغته الفصحى كعادة الشيوخ:

ـ قاتلك الله يارجل، كيف تستحضر هذه الأمور؟

قال وقد توقفت ضحكته على باب فمه، وكأنه ثبتها بيده:

ـ والله يا شيخ عندما أنظر لهذا الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، أكاد أنفجر غيظاً، لكن كما تعلمون “ليس باليد حيلة”.

قال الحاج أبو عماد معلقاً كعادته، الأمر الذي جعل أترابه يلقبونه بأبي عماد السياسي، كونه يعلق على كل خبر سياسي يسمعه، وربما لأنه ما زال من جماعة سلطة “أوسلو”، ويستفيد من خيراتها كما يؤكد أبو فهمي بين وقت وآخر:

ـ فعلاً صار الأمر يُفقد المرء عقله، أنظروا آخر خبر، مفتي المملكة السعودية لا يكفر المسيحيين فقط، بل يُكفر الشيعة أيضاً…

فرد أبو صابر صاحب الدكان الذي نجلس أمامه قائلاً:

ـ وما الغريب في الأمر؟!!! هؤلاء يُكفرون كل من خالفهم، ليس فقط في الأمور الكبيرة، بل وفي أبسط الأمور أيضاً، إنهم يدعون لقتل الذي يسهى عن إقامة أحد الصلوات سهواً وليس عمداً…فماذا يمكن أن تنتظر منهم؟!!!

فرد أبو علي قائلاً:

ـ لكنهم يفعلون السبعة وذمتها أينما حلّوا، ألم يطرد المتظاهرون الفرنسيون الملك وابنه والحاشية كلها من فرنسا قبل شهور؟!!!

لكن أبو محمد الذي يشعر الجميع بتوتره عندما يسمع بمملكة آل سعود، والتي يسميها ب”مملكة الذل والعهر”، قال ماداً يده بإستغراب وغضب:

ـ اتركوا المفتي وشأنه، فهو مجرد ببغاء، يردد ما يطلبون منه، وانظروا ل”غلام” ملوكهم وأمرائهم، الغلام الجبير، قائلاً “أن الأسد كالمغناطيس يجلب الإرهابيين”!!! يعني آل سعود مساكين، إنهم مظلومون، لا دخل لهم في دعم أو تمويل، ولا دخل لأمريكا بتسليح، وقصف الطيران الصهيوني للجيش السوري وعلاجه جرحى الإرهابيين ليس إلّا أكاذيب!!! مادام غلام صار سيحدد مصائر الرؤساء فقد هزلت والله يا جماعة… أسمعتم ؟ هزلت…

عاد أبو عماد “السياسي” للإمساك بخيط الحوار قائلاً:

ـ ماذا تريدون أكثر من أن المنهاج المصري الذي يدرسونه للأطفال، صار يعتبر القدس عاصمة إسرائيل!!! حتى أمريكا ومعظم دول الغرب والعالم لا تعترف بذلك!!! أما العرب فالكرم من أخلاقهم، يتبرعون بما لنا للصهاينة…

فقال أبو خالد وقد بدأ يبتسم من جديد:

ـ لا والله يا “سياسي”، هذه عليك وليست لك، من الذي جعل الحكام العرب يتجرؤون على مثل ذلك؟ أليست قيادتك؟ يعني بصراحة “عاقل يتكلم ومجنون يستمع” كما يقول المثل الشعبي، القيادة تنازلت ، لا تؤاخذني، حتى عن “كلاسين” نسائها، وتلوم الأنظمة؟ لوم قيادتك أولاً…

وضحك أبو خالد بحزن، حين رد الحاج أبو عماد “السياسي” قائلاً:

ـ والله هذه السلطة مليئة بالمناضلين، لو دققتم قليلاً في الأمر لما قلتم عنهم ما قلتموه منذ لحظات…

قال أبو صابر متهكماً، أثناء ذهابه لزبون دخل دكانه:

ـ صدقت والله يا “سياسي”، فها هم حازوا على موافقة الصهاينة ليجمعوا منا فواتير الكهرباء، “إتفاقية تاريخية” كما قالوا، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟

سألت أنا كالأبله، دون أن أميز الإستهزاء بين الكلمات:

ـ وما التاريخي في جمع فواتير الكهرباء؟

فقال أبو فهمي مُتندراً هازاً برأسه هزة لا تعرف أمن الغيظ أم من الإستهزاء بالأمر، أم من القرف منها جميعاً:

ـ آه، صناديد رجال هذه السلطة، أجبروا الإحتلال على أن يجمعوا فواتير الكهرباء… سلطة ولا كل السلطات…قاتلكم الله، كيف لو أنكم حررتم شبراً من أرض؟ لما كانت الدنيا كلها تتسع لكم…

فقال أبو خالد موجهاً كلامه لأبي عماد رغم ضحكات الجميع التي غطت عليها ضحكة الشيخ سالم:

ـ أه…ـ مهما كانوا أبطالاً في الماضي، فهذا لا يبرر أفعالهم المشينة الآن، “ياما ناس” كانوا مناضلين وخانوا يا أبا عماد، انت رجل سياسي وتعرف أكثر من أمثالي…

فقال ابو علي مجدداً، مشعلاً سيجارة “هيشي”، نافخاً دخانها بعيداً عن أبي فهمي، متجنباً كلماته: “عميت ضوي يارجل، أنفخ دخان سيجارتك بعيدا عني”، معلقاً على جماعة السلطة وجماعة الإخوان المسلمين معاً:

ـ حتى الإنتخابات المحلية حرمتمونا منها أنتم وهم..

فقال أبو عماد السياسي:

ـ نحن لا دخل لنا في الأمر، إننا إلتزمنا أمر المحكمة فقط…

قال أبو فهمي معلقاً، محاولاً إبعاد وجهه عن دخان سيجارة أبي علي:

ـ ولماذا لم تلتزموا بقرارت المحكمة عندما أمرتكم مرات، بإطلاق سراح زعيم الجبهة الشعبية الذي سلمتموه ل”ليهود”؟!!!

فقال أبو عماد مبتعداً قليلا عن كلمات أبي فهمي، محاولاً تحييدها لتفقد أهميتها ومعناها:

ـ نحن لا مصلحة لنا في تأجيل الإنتخابات، سنفوز سنفوز، ولكن الآخرين هم من ليس لديهم مصلحة…

وأشار برأسه إلى الشيخ سالم متهكماً، حين رد الشيخ سالم بشيء من العنف:

ـ “فشرت”، هذه “نطة فاتتك”، نحن كنا مَنْ سيفوز لذلك ألغيتموها…

فقال أبوفهمي من جديد:

ـ تتحدثان وكأن الناس في جيوبكما، كأن الشعب قطيع من الغنم يتبع الحمار الذي يسير أمامه “لا تؤاخذونني”، من أكد  لكما هذه النتائج الخادعة؟!!!

قال أبو خالد من جديد، وكأنه يريد تقويم الأمور:

ـ حتى لو فزتما فهذا ليس نجاح لكما بالمعنى الحقيقي للفوز، أعطوني “تلفزيوناً” وعدة صحف وعدة ملايين كي لا أقول مئات الملايين كما لديكما، وأردفوني بجهاز قمع لأسجن وأعتقل كل صاحب رأي مخالف، وأوقف تمويلكما متى شئت، وأغلق صوتكما متى أردت، تماماً كما تفعلان مع خصومكما السياسيين، لأرينكم، وأنا مجرد فرد ولست فصيلاً، كيف يكون الفوز، كلاكما، لولا صناديق المال وأجهزة القمع ما كنتما لتحققا الشيء الكثير…لكن…

وسكت قليلاً، وكأنه يريد إعلام الجميع أنه لم ينتهِ من كلامه بعد، وتابع في سياق آخر، مقترباً بفمه من أذن الحاج أبي عماد، مثيراً فضولنا، رغم أنه سأل بصوت مسموع:

ـ مَنْ ستبعث “قيادتنا المناضلة” للتعزية ب”رجل السلام” الإسرائيلي شمعون بيرس هذه المرة؟

وأطلق ضحكة مجلجلة هذه المرة أيضاً، حين أجاب أبو علي:

ـ من سيكون غير “محمد المدني” رجل التواصل مع “المجتمع الإسرائيلي”….

فقال أبو علي في ذات السياق:

ـ طبعاً ، هذا من باب الرسميات، لأن الرئيس يذهب بنفسه إذا ما أعطوه تصريح زيارة، وسيتصل بنفسه ليقوم بالواجب، أما مشروع الرئيس المقبل “الدحلان”، ربما فتح بيت عزاء في مكان إقامته، أما المدني…

فقال أبو خالد من وسط ضحكاته مقاطعاً:

ـ ماذا سيفعل الرجل ياجماعة؟ رجل “اسمه على جسمه”، يعني الشكل والمضمون واحد، إنه “المدني”، لم يقل مرة أنه العسكري لا قدر الله…

اتسعت الضحكات وتعمقت وانتشرت في فضاء القرية وفوق أسطح منازلها، وبعضها تسلل من الشبابيك المفتوحة ومن شقوق الابواب، وكانت ضحكة الشيخ سالم الشامتة أعلى الضحكات، فقال أبو فهمي هازاً برأسه موجهاً كلامه للشيخ سالم:

ـ مبسوط أنت؟ وكأن أحداً “يحك لك على جَرَب”، وكأن جماعتك أفضل بكثير؟

تنحنح الشيخ سالم وعدّل من جلسته قليلاً، عدل من وضع عمامته، ولم يحاول أن يقول شيئاً، فالمتحدث هو أبو فهمي، أكبر الرجال سناً وقدراً، كما أن هذا العجوز العتيق حمل السلاح في أكثر من وقت ليدافع عن الثورة، ومعارفه ليست من بطون الكتب داخل السجن وحسب، بل من “معمعان” الحياة التي لم ترحمه على طول عمرها، وظل رغم ذلك لا يحيد عن الحق أبداً، يقول “للأعور أنه أعور أمام عينه الباقية” و”لا يخشى في الحق لومة لائم”، وقال أبوصابر مكملاً كلام أبي فهمي:

ـ ألم تر ما يتم عندهم في القطاع المحاصر؟ صار الناس أكثر بؤساً وأكثر فقراً رغم مئات الملايين التي تصلهم، صارت الملايين في جيوب القيادات فقط، يكررون خطيئة قيادات منظمة التحرير نفسها…

ووجه حديثه مباشرة للشيخ سالم مكملاً:

ـ إنتخبكم الناس في الماضي عقاباً لقادة المنظمة الفاسدة، لقد رأوا فيكم مشروع حلمهم في التحرير، وسينبذونكم ما دمتم لا تختلفون بشيء عنهم، وعلى خطاهم المفسدة تسيرون.

قال الحاج أبو عماد معقباً وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة:

ـ أصبحت الأنفاق المتصلة بمصر ، لتهريب المخدرات وحبوب الهلوسة، وما دام التاجر يدفع لحماس فهي تحميه بدلاً من إعتقاله، والمعبر الذي يغلقه نظام مصر، لم يعد للحالات الإنسانية من مرضى وطلاب وكبار سن، بل لمن يدفع أكثر، تدفع تخرج، لا تدفع تموت منتظراً دورك الذي لن يأتي أبداً… إنكم أفضل من يحول بؤس الناس وألامهم إلى تجارة رابحة…

كان الجميع يعرف أن كلام “السياسي” صحيح رغم مآربه، وفكر الشيخ سالم الذي سمع الكثير عن حالات الفساد والإفساد الممنهج لدى جماعته، أن كلام السياسي هذا “كلام حق يراد به باطل”، وكي لا تبدأ السهام تلقى في وجهه، فكر بالسكوت كوسيلة ناجحة في الدفاع عن النفس، ف”السكوت من ذهب” في مثل هذه الحالات، لكن الحديث أيضا ببعض آيات من الذكر الحكيم ستلجم كل هؤلاء المتقولين، قال:

ـ “بسم الله الرحمن الرحيم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. صدق الله العظيم.”

لم يعرف أحد سر قول هذه الآية، لكن الرد جاء على غير توقعه، جاء من صديقه أبو أحمد الذي لم يقل شيئاً، كعادته، حتى هذه اللحظة:

ـ ما دام “الله يهدي من يشاء” ما قصة موضوع زندقتكم للناس والفصائل، التي يطرحها بعض مُفتي حماس هناك في غزة؟ لماذا لا تتركوا الأمر لرب العزة وحده؟ لماذا تدخلون “على خطه”وتحاولون إغتصاب عمله وإرادته؟ اتركوا الخلق للخالق، فتقييم الناس وتوصيفها الديني ومحاكمتها ليس شأنكم ياشيخ…

قال أبو محمد الذي ظل بنفس التوتر الذي كان عليه عندما تحدث عن آل سعود، خاصة أنه يعلم أن فتح وحماس يمولهما آل سعود بسخاء، لهذا لا يخرجا أبداً عن أوامرها:

ـ “مَنْ علمني حرفاً صرت له عبداً”، إنهم تربوا على يد وهابيوا آل سعود، الذين يتهمون بالردة ويُكفرون ويزندقون من أرادوا وكلما أرادوا ووقتما شاؤوا…

فقال أبو عماد من جديد:

ـ إنه بعض سلوكهم في قمع معارضيهم بإسم الدين…

فقال أبو صابر:

ـ يُصورون للناس أن من ينتقدهم ينتقد الدين، ويصورون أنفسهم حماة الدين…

فقال أبو فهمي ضارباً بعكازه وجه الأرض القاسي:

ـ يعني مَنْ يعادي أفكارهم هو عدو الله، وعدو الله يجب قتله أو تصفيته أو سجنه، وذلك أضعف الإيمان…

ثم صرخ غاضباً:

ـ مَنْ نصّب هؤلاء للوصاية على الدين؟ من وضعهم مكان الله؟!!!

سكتنا جميعنا أمام أسئلة أبي فهمي، ولم تعد تُسمع سوى ضربات عكازته لوجه الأرض القاسي الجاف، وسرعان ما قال:

ـ قيادة الإخوان المسلمين هؤلاء مثل قيادة شعب فلسطين التي لا تريد النزول عن ظهورنا، ينطبق عليهم المأثور الشعبي “ذنب الكلب لا يمكن أن ينعدل حتى لو وضعته في مائة قالب”، نسخة كربونية عن القيادات ذاتها، لكن بغطاء ديني هذه المرة…. ما أردت قوله أنه، بعد هزيمة حزيران سبعة وستين، “ونظر في وجوهنا ليرى أي منا قد عاصرها واعياً وليس طفلاً، وأكمل”:قال أحد أإمة الإخوان آنذاك، الشيخ محمد متولي شعراوي، أنه صلى لله شكراً لأنه نصر دولة اليهود “المؤمنة” على دولة عبد الناصر الكافرة… أرأيتم؟ أسمعتم أم أعيد؟ تماماً كما يطالب القرضاوي من أمريكا المؤمنة بضربة”للـــه” في سوريا الفاسقة الكافرة، ويستعيذ بالله ممن يفترض بوجوب حرب الصهاينة!!! ولم نسمعهم مرة واحدة في تاريخهم كله، يقولون كلمة واحدة أويقومون بفعل واحد ضد دولة رجعية، مهما فعلت ضد قضايا أمتنا، هؤلاء كانوا دائماً وأبداً معادين لأي ثورة في الوطن العربي، وها هم الآن يريدون إطفاء نقطة ضوئهم الوحيدة، “القساميون”، بأفعالهم المشينة…

أراد الحاج أبو عماد “السياسي” أن يُضيف على كلمات أبي فهمي، لكن أبو فهمي تابع ناظراً في عينيه نظرة فهمها جيداً، فكف عن محاولته، وأشار إلى الشيخ سالم بإصبع يده قائلاً لأبي عماد السياسي:

ـ هم يريدون إقناعنا أنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة، وأنهم ليسوا وكلاء الله فقط، بل أنهم الله ذاته، من خالفهم كفر، ومن عمل بعيداً عن توجيهاتهم سيتبوأ مكانه من نار جهنم، وأنتم تريدون إقناعنا، نحن القطيع، أنكم أنتم، وفقط أنتم أصحاب الحق الحصري في قيادة هذا الشعب والتحدث بإسمه، كونكم الوحيدون الذين تفهمون في السياسة ودهاليزها، وأنكم الوحيدون أصحاب الحق في التكسب من أكياس المال ـ العلف القادمة من آل سعود، لذا لا تتجرآن أنتما معاً على إدانة تدمير أوطاننا الذي يقوده آل سعود، كي لا أتحدث عن تساوقكما معه، وتعتقدان أن الوطن مختصر بكما، بأنكما الوطن والشعب والقضية… أنتما متشابهان حد التطابق، رغم كل الشعارات الفسفورية البراقة، كلاكما يرفض الآخر بطريقته، جُل القضية الوطنية بالنسبة إليكما مدى تطابقها مع مصالحكما الفئوية والشخصية، تتغنيان بها مادامت “بقرة حلوب” تشربان حليبها وتبيعان ما تبقى، حتى وإن كان حلق الشعب جاف وينتظر حتى قطرة الماء فما بالكما بالحليب؟!!! كُفَّا عن هذا العبث، كفاكما إختصاراً لشعب كامل في فصيلين إثنين، فوالله هذا الشعب أكبر منكما ومن كل الفصائل مجتمعة، ولن يكون قطيعاً مهما حاولتما، مهما دعموكما آل سعود وغير آل سعود، مهما كنتما وصرتما وستصيران… إذهبا إلى الجحيم أنتما معاً، فربما توحدتما في الطريق إلى هناك، أو عندما تقابلان “العادل”، والذي ظني، أنه لن يكون غفورا معكما، لأنه غفور رحيم في كل شيء إلّا في دم الشهداء وأنين الجرحى واليتامى والثكالى، الذي أكلتماه مالاً وبعتماه رخيصاً وشربتماه ذلاً حتى الثمالة، وما تزالان…

وقام أبو فهمي يساعده عكازه، مشى بضع خطوات إلى الأمام، توقف لحظات واستدار قائلاً:

ـ كيف كان يمكن أن يكون حالكما لو حررتما أرضاً؟ ربما كنتما ستنصبان لنا المشانق….

وأكمل طريقه دون تعليق من أحد، ظل يمشي ويهز برأسه ساخطاً، وصعد بنظره بعيداً نحو نجمة ظلت منذ سني شبابه الأولى تتألق في السماء، وكنا ننظر إليه كالبلهاء دون أن ننطق بكلمة واحدة.

أغلق أبو صابر دكانه، وتفرقنا إلى بيوتنا، تطرق رؤوسنا مطارق من كلماته، وفي تلك الليلة ظلت عيون القرية، ببيوتها وأشجارها وآبار مياهها الجافة، معلقة في تلك النجمة المتألقة الساهرة في سماء قريتنا، والتي ترفض المغادرة أو المبيت.

محمد النجار

الخل أخو الخردل!!!

كنا، ومنذ الصغر، أنا وعاهد على طرفي نقيض، نختلف في كل الأشياء التي لا يختلف عليها اثنان، كنا هكذا بدءاً من المدرسة الإبتدائية فالإعدادية فالثانوية، وبقينا نتحين الفرص لينقض أحدنا على الآخر ليحرجه أمام الآخرين، حتى كان لكل منا “شلته” التي يمشي ويلهو ويقضي وقته معها بعيداً عن الآخر، لكن وكما تعلم فهذا الأمر لا يستقيم في داخل قرية صغيرة محدودة، فما بالك في “خربة” جُل سكانها فرعين لنفس العائلة، يجتمعا في الأفراح والأتراح، في الأعياد وفي أماسي الأيام الرمضانية في المساجد والبيوت، وفي ديواني فرعي العائلة المتقابلين كندين في “خربتنا” الصغيرة، كما أننا كبرنا مع مرور الأيام والسنوات، ولم تظل الأمور على ماهي عليه من حِدّة، رغم بقاء بعدنا أحدنا عن الآخر، وجفاء كل منا نحو الآخر، خاصة جفائي أنا نحوه.

لطالما، كنت دائماً ما أرى نفسي عليه، وبفرع عائلتي على عائلته، من كافة الأبواب والنواحي، فنحن، منا، أصحاب الأرض الأكبر في “الخربة”، ولنا معظم أشجار الزيتون، وكل أشجار التين إلا ثلاثة، ونصف أشجار الفاكهة، ولدينا بضعة آبار صخرية لتجميع مياه الأمطار وهم لا يملكون سوى بئر واحد، ومنا أساتذة ثلاثة يُدرّسون في مدرسة القرية التي ننتمي إليها، مع عدد من “الخِرَب”المماثلة والمشابهة “لخربتنا”، كما أنني طالب في السنة الثانية لجامعة محلية وهو مجرد فلاح بائس، يعمل وحماره بشكل متساوٍ، يرتاحان سوياً ويأكلان في ذات الوقت، وربما يتجاذبان أطراف الحديث أيضاً!! يصفرّ وجهه ويضمحل بعد أن يتداخل بطنه ويلتصق بظهره إذا ما تأخر المطر أياماً، مثل شجرة تيبست لكنها ما تزال واقفة، لأن الجوع ملتصق وملازم له، ورغم ذلك لم ير نفسه يوماً بحجمه الطبيعي، ظل يضع رأسه برأسي ورأس أمثالي، دون أن يعير الفوارق الطبقية والإجتماعية بيننا أي إعتبار، بل أحياناً كان يكاد يقنعني أنا نفسي بأن هذه ميزة لصالحه وليست لصالحي، وكان أكثر ما يضايقني أن له من فرع عائلتي أنصاراً أكثر مني.

قال لي أحد أصدقائي، عبد العزيز، حين سألته عن سبب حب الناس واحترامهم له:

ـ إنه يقرأ كتباً لا يعلم أحد كيف أو مِنْ أين يحصل عليها، ويجزم الكثيرون أنه يقرأ أكثر منك ومن أساتذة “خربتنا ” كلهم مجتمعين، وكأنه هو من سيُمتحن وليس أنت!!! ويقول الناس أنه لهذا السبب بالذات لديه حججاً مقنعة لأهل خربتنا.

ثم تابع معلقاً:

ـ لم أكن أعرف أن الأجوبة جميعها تسكن وتقيم في بطن الكتب، وأن من يريد استجلابها، ما عليه سوى زيارة سريعة لتلك الكتب، ليصير من الجهابذة…

لم أعلق على أقواله، فعبد العزيز أحياناً لا يفترق كثيراً في حديثه عن المعاتيه، كما أنه أحياناً تخاله من الفلاسفة الذين أدرس عنهم في الجامعة…

نظر إلي عبد العزيز، وكأنه يريد أن يقول لي شيئاً أكثر مما قال، أو أن يُفهمني بكلماته تلك أكثر مما تحتمل، وتابع:

ـ كما أنه من أجرأ أبناء قريتنا وأكثرهم شجاعة، كما تعلم، رغم أنه يقول أحياناً كلمات لا يفهمها الكثيرون، مثل “أنه ورغم أهمية التعليم إلا أنه لا يساوي شيئاً أمام الثقافه، وأن الكثيرين من المثقفين غير المتعلمين تركوا بصمات وتأثيرات في العالم لم يتركها معظم المتعلمين”، و”أنك إن أردت أن يكون لك شأناً، عليك ترك توافه الأمور، خالقاً لنفسك شخصية تليق بك، فأنت أولا وأخيرا لن تأخذ من هذه الدنيا شيئاً، وستُنسى بعد أيام من مواراتك التراب مثل من سبقك، وإن أردت أن تبقي لك ذكرىً طيبة، عليك ترك أفعالاً تخلد ذكراك، يحبها ويتناقلها الناس”.

وتابع معلقاً:

ـ إنه يتحدث مثل رجل ستيني وليس كشاب من جيلنا، ألا تتذكر لقاءنا الأخير؟ كيف كان يتحدث في كل الأمور ويحللها ويعطيك نتائج تحليلاته وكأنه قد أنهى جامعة منذ سنوات؟!!!

وتذكرنا سوياً أحداث الأيام الماضية وحوارنا معه في المسافة الواقعة بين ديواني فرعي العائلة، قبل بضعة أيام من هذه اللحظة، وكأننا على أرض محايدة، حيث كان الحديث عن المصالحة الفتحاويةـ الفتحاوية، بين الرئيس والدحلان، حيث تفرع الحديث لا يعلم أحد لماذا ولا كيف، عندما قال:

ـ إنظروا من يضغط من أجل هذه المصالحة، إنها مصر والأردن والإمارات على وجه التحديد، ومن خلفهم آل سعود، فلو كان الأمر حرصاً على قضيتنا، لفتح نظام مصر المعبر الذي يخنق به، مع المحتل، شعبنا، أو لما قال وزير خارجيتهم أن قصف أطفالنا ونساءنا بقنابل الموت الصهيونية لا يمكن إعتبارها إرهاباً، أو على الأقل لأوقف نظامهم محاولات تشويه الوعي العربي ليس في الإعلام فحسب بل في مناهجهم الدراسية، حيث”صارت إسرائيل دولة صديقة، وليست عدواً، وأن كثرة الحديث عن صلاح الدين وتحرير القدس يعتبر تحريضا على الإرهاب”!!! أتتخيلون إلى أين وصلت بهم الأمور؟!!

ولما سكت قليلاً أضاف محمد، والذي صار مثل ظله في الفترة الأخيرة، وكأنه يُكمل ما قاله عاهد:

ـ وكأن مصر “الولّادة” صارت عاقراً في ظل هذه الأنظمة، ولم تعد تنجب سوى “المخصيين”، انظروا من رأّست للجامعة العربية!!!، أبو الغيط، ربما أكثر شخصاً في حكومات المخلوع مبارك خساسة وذلاً واستسلاما، أبو الغيط هذا، وكما كانت تزعجه المقاومة وانجازاتها، يقلقه الآن تسوية الدولة السورية مع مسلحي “داريا”، لأنه يخاف من التغيرات الديموغرافية!!!، وليس خوفا من انتصارات الجيش السوري التي تشي بانهيارات قادمة لأكلة أكباد البشر وقاطعي رؤوسهم!!! الأمر الذي يُفشل مخططات أسياده، وكأن الناس متوزعون في سكناهم هناك على أسس طائفية!!! لكنه لم يقلق من قمع نظامه للشباب الثوري المصري الذي ابتدأ الثورة المسروقة بعد اسقاط مبارك، ولا لإعتقال الصحفيين ولاا لإعتقال أصحاب الرأي والعقول، ولا لمنع التظاهرات، ولا لبيع الجزر المصرية لآل سعود، وبيع كل مصر للبنك الدولي والصهاينة من عرب وغير عرب، لم يقلقه أي شيء من هذا كله، لكنه قلق لأن المصالحة تمت بعيداً عن أعين أمريكا وأدواتها!!!

وأمام صمت “شلتنا” المطبق، قال علي، ابن عمي أخو أبي، والذي كنت أعتقد أنه من أوفى أوفياء جماعتي، متوافقاً مع ما ذهب إليه عاهد، وكأن صلة القرابة تجمعه به وليس بي أنا:

ـ أما الأردن، الذي أوجد من أجل حماية “إسرائيل” لن يخرج عن سياقه، فدعمه لمسلحي سوريا هي في ذات السياق، ودعمه لجماعات الإخوان المسلمين المتصالحين مع كل أعداء الأمة، والمعادين لقواها الوطنية هي في ذات السياق، وتكميم الأفواه هناك واعتقال المبدعين تخدم الهدف نفسه. والإمارات رهنت نفسها لآل سعود، بضغط أمريكي، في اليمن، وآل سعود الذين دمروا دولنا وحضارتنا، لم يكن تاريخهم كله سوى لخدمة أعداءنا، من لحظة التبرع بفلسطين “للمساكين اليهود”، مروراً بتوظيف النفط لخدمة المصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة، وصولاً لإستباحة أراضي نجد والحجاز وتحويلها الى قواعد عسكرية لأعداء أمتنا، ولو أرادوا دعم القضية لفعلوا ذلك منذ زمن، فالقضية والشعب تنزفان منذ عقود، ولم يقدموا لها بندقية واحدة، بل تآمروا لإسقاط بندقيتها، وها هم بعد أن حاولوا فاشلين، تدمير شعبنا في اليمن،  يتحفوننا بتبريراتهم ، بأن سبب هروب جنودهم في اليمن، وانهيارهم أمام قوى الثورة اليمنية، ليس الخوف والجبن لا قدر الله، ولا كون جيشهم لم يُنشأ إلا لقمع الشعب وليس لحروب خارجية، بل لأن اليمنيين “سحروهم”…

وسكت قليلاً وكأنه يريد أن نفهم كلمته تماماً كما هي، كي ندرك مدى عجز وتخلف هذا النظام الذي يقود تدمير بلادنا باسم الدين، كما يحلو له أن يقول دائماً…وتابع:

ـ نعم كما سمعتم، سحروهم، يعني سخرّوا الجِن ضدهم وعملوا لهم “الأحجبة”، وجعلوا الشمس مسلطة في وجوههم، لذلك فروا هائمين على وجوههم أمام الجيش اليمني واللجان الشعبية، ولذلك تتفاجأ القيادة السعودية، حيث تذهب لتقصف طائراتها المناطق العسكرية ، فإذا بهذه الأهداف تتحول بفعل “السحر” الى أهداف مدنية، وليس أي أهداف، بل مدارس ومستشفيات ومساجد وأسواق ونساء وأطفال….

ضحك الجميع على ما سمع، وقال طارق، الذي كان جالساً على الأرض ويرسم أشياء على التراب بغصن زيتون مكسور، وما زال ينظر الى نفس النقطة التي أمامه:

ـ هؤلاء الكسالى الذين يريدون الحرب بدبابات مكيفة؟!!!

وضحكنا جميعاً، حين أخذ عاهد زمام المبادرة بالحديث، وعاد به الى نقطة البدء، قال:

ـ إن ضغط هؤلاء لمشروع المصالحة بين عباس ودحلان ليس مشروعاً بريئاً، تماماً مثل محافظتهم على الدحلان ودعمه طوال هذه الفترة، ألم يكن “دحلان هذا” جاهزاً في “عريش” مصر أثناء الحرب الأخيرة بجنود وعتاد، ليدخل على أنقاض المقاومة، بعد توقعاتهم بهزيمتها في غزة؟!!! ثم على ماذا هما مختلفان، أقصد عباس والدحلان؟ “فالخل أخو الخردل” كما يقول المأثور الشعبي، فلا خلاف على برنامج ولا على سياسة، ولم يكن الدحلان الجنرال جياب كما لم يكن عباس جيفارا عصره…

استفزني الحديث، واستفزني أكثر موافقة معظم الجالسين على أقواله، فهذا البائس لا يترك مناسبة دون التهجم على الرئيس وباقي القيادة، قلت:

ـ كعادتك، المبالغة في كل شيء والتهجم على قيادات الشعب، تُفلسف الأمور كي تخدم وجهة نظرك، لا يُحركك سوى الحقد، هراء، كل ما تقوله هراء…

نظر نحوي وكأنه يشفق على عقلي، وتابع وكأنه لم يسمع كلمة واحدة مما قلته، وكأنني مجرد صدى صوت وصل  من مكان بعيد دون أن يعني أي أحد، وتابع حديثه قائلاً:

ـ انهم ببساطة شديدة، يريدون خليفة للرئيس الهرِم، يريدون ترئيسنا شخصاً أكثر سمعاً وطاعةً وبصماً لكل ما يريده الأعداء، وأكثر قمعاً للشعب وملاحقة لمناضليه، كما وأكثر تسامحاً مع “أبناء العمومة”، يعني نسخة أكثر تشويهاً ومسخاً وخضوعاً، وشباباً في نفس الوقت من الرئيس الحالي، حتى يضمنوا أن يظل الحذاء فوق رأس شعبنا أطول فترة ممكنة، كون الأعداء يدركون أن أي منهما لن يكون مشروعاً ثورياً أبداً…

قلت بغضب على حديثه، مُخفياً غضبي على تجاهله لي، محاولاً احراجه في نفس الوقت:

ـ إذا كان حتى الرئيس، رأس الهرم، لا يعجبك؟ ما الذي تريدونه من هذا الشعب أكثر؟ ألا يكفي كل ما تعرض له؟ ألا يحق له أن يعيش بسلام؟ ثم انني لا أعرف من أين لك هذه المعلومات وأنت طوال نهارك تسير خلف حمارك لحرث الأرض، أنا … أنا نفسي ابن الجامعة، لم أسمع بمثل هذه التحاليل التي تتفوه بها…

نظر نحوي طويلاً، ونظر الجميع نحونا، وعلى غير توقعي، تابع حديثه مبتسماً متجاهلاً لوجودي ولحديثي ولكياني كله مرة جديدة، وقال:

ـ وسوف نسمع المسحجين والمستفيدين يباركون، ويعتبرون الأمر وكأنه لا يعدو عن كونه لخدمة وحدة الحركة، وسنستمع الى التبريرات من نفس الشخوص الذين اتهموا دحلان بالخيانة يدافعون عنه الآن، لأنه كما الرئيس، “قائداً مغواراً”، فتح عليه الله ب”العقل المستنير”، فأراه “الحق حقاً ورزقه اتباعاً وأراه الباطل باطلاً ورزقه إجتناباً”، وربما حاولوا إقناعنا وبقية الشعب بأنهما “مبشران بالجنة” أيضاً، وسيبررون لنا ،نحن القطيع، كيف فتح الله لهما باب رزقه بالملايين لهما ولأولادهما وعائلاتهما وللمسحجين والمطبلين لهما، ويسّر لهما الدول والمخابرات المختلفة لدعمهما، ولتفتح لهما صناديق مالها لتغرف منه ما تشاء، ما دامت تسبح بحمد أمريكا وبني صهيون وممالك ومشايخ العربان وعلى رأسهم آل سعود، فكما ترون صار مجتمعنا يتدعشن بفعل سياستهم وبفعل ثقافة الدين السياسي، فصار حتى اسم المرأة عورة، وصاروا يفرضون حتى على المرشحات أن يخفين أسماءهن، ولولا نظام “الكوتا” لترشيح المرأة، ربما لما رأينا مرشحة واحدة، وصار “الأخ اللدود” للدحلان، اللواء الرجوب، والذي لم يعرف أحد كيف صار لواءاً، ربما بعد تسليمه قادة الفصائل المقاومة و تعذيبهم و ملاحقتهم! مثله مثل آلاف الموظفين المماثلين، يُسمي مسيحيينا ب”الماري كريسمس”، ربما لأن ثقافة الرجل أجنبية، فبعد سنوات القمع للمناضلين في جهاز أمنه الوقائي، على امتداد سنوات وسنوات، جاء ليتحفنا الآن بخفة ظله وتهكماته المتخلفة، منتقداً تصويتهم لحماس في عام 2006، متجنباً الخوض أنهم بذلك قد تجاوزوا التعصب الديني والمذهبية والطائفية المقيتة، التي تحاول كل الأنظمة التي فتحت لهم خزائن المال زرعها في مجتمعنا، ودون أن يذكر سبب تصويت معظم الشعب لحماس آنذاك كحركة مقاومة أولا، وحين أدرك الناس أن السلطة ما هي الّا جهاز قمع، وصارت جزءاً من مشروع أمريكا ـ اسرائيل في المنطقة، وغدت سلطته سلطة فساد وإفساد وقمع وتجهيل وكذب ورياء وشراء ذمم، كما هي عليه الآن، وهل يمكنه تفسير لماذا ما زال قائداً هو والدحلان وعباس وأمثالهم حتى الآن، ولماذا كل هذا الإصرار على عدم إصلاح المنظمة والإمعان في فسادها وإفسادها، في الوقت الذي يدفع الشعب دمه وسنين عمره في سجونهم وسجون الإحتلال، كضريبة يومية للتخلص من الإحتلال الذي صار من أهم مموليهم؟ أليس من أجل بقائهم في قيادة الشعب والسلطة؟

قال أحمد معلقاً من وسط الجمع:

ـ صار هؤلاء الإنتهازيون كثيرون داخل السلطة، بل يشكلون معظم قيادتها ممن ينطبق عليهم القول:

” وكم رجل يعد بألف رجل                         وكم ألف يمر بلا عداد”…

قال عبد العزيز مؤكداً على نفس الكلمات:

ـ فعلاً… وكم ألفاً يمر بلا عداد…

فقال طارق معلقاً على ثرائهم الفاحش:

ـ من أين لهم كل هذه الأموال؟ لقد كان هؤلاء حفاة عراة قبل السلطة ومناصبها، وقبل أن يصيروا قادة لهذا الشعب، ولا يعرف أحد كيف؟ فهم ليسوا الأفضل وليسوا الأشجع وليسوا الأكثر عطاءً ولا الأكثر ثقافة، بل على عكس ذلك كله…

علق صديقي وابن عمي خالداً، والذي أنبني بعد ذلك لمحاولاتي الطفولية في إهانة عاهد ناظراً نحوي:

ـ لأنهم عكس كل تلك الصفات التي ذكرت صاروا قيادة، وفعلاً لقد كان هؤلاء لا يملكون ثمن رغيف خبز قبل أن يصيروا قادة،  وينطبق عليهم قول الشاعر:

أتذكر إذ لحافك جلد شاة                       وإذ نعلاك من جلد البعير                                                        فسبحان الذي أعطاك ملكاً                    وعلمك الجلوس غلى السرير

قام من جانبي، طبطب على ظهر عاهد كما لم يفعل من قبل، وقال:

ـ هيا لأوصلك في طريقي، نراكم في مساء الغد ياشباب، تصبحون على خير…

أمسك عاهداً من ذراعه وسارا وليل القرية “الخربة”، وبدأ الجمع يتفرق واحداً بعد الآخر مثل مسبحة قُطع خيطها وانهارت حبيباتها، وبقيت وحدي، ونظرت الى السماء، وبدا لى أنها، هي أيضاً، لا تريد البقاء بجانبي، ورأيتها كيف بدأت تغلق عيونها بعد أن انتهى الصخب في “خربتنا”، وأخذت تغفو في حضن القمر، متمددة على سواحل النجوم، متخفية خلف غيوم الصيف السابحة تحتها، غير آبهة بها، تلك الغيوم المتباعدة المتجولة فوق خربتنا، الغارقة في النوم تحت حفيف أغصان أشجار الزيتون…

محمد النجار

المستشيخون

طوال عمري وأنا أصلي في هذا المسجد، خاصة صلاة الجمعة التي لم أتغيب عنها يوماً إلّا معذوراً، وتقالب على رأسي عشرات الشيوخ، منهم الطيب ومنهم الخبيث، منهم المتدين ومنم مُتصنع التدين، منهم المتفاني الغيور على دينه، ومنهم من يبيع دينه ب”شلن”، فالناس أجناس كما تعلم يا أبا محمد، وكما تعرفني فأنا لم أحاكم يوما شخصاً على معتقداته ولا حتى على أقواله، كوني معتقد أشد الإعتقاد أن لكلٍ نيته ومقصده، وأن الله عليم بالنيات كما أنه عليم بالصدور، وهو الوحيد الذي يحق له محاكمة البشر ومحاسبتها، وليس أي شخص آخر مهما على شأنه وزاد ماله أو علمه، لكن أن يضع إنسان نفسه مكان الله فهذا لعمري شيء لا يمكن السكوت عليه أبداً…

هذا ما قلته لأبي محمد أثناء جلوسنا في المقهى، تتوسطنا “الشيشتين” اللتين يتعالى دخانهما، قبل أن يصطدم في سقف المقهى ويتفتت متبعثراً باحثاً عن مخرج، وأبو محمد الذي يعرفني جيداً قال بلغته الفصيحة التي لم يتركها كما ترك الصلاة في المسجد، هروباً من “تجار الدين” كما أسماهم، واكتفى بالصلاة في بيته، حتى صلاة الجمعة، صار يضع مذياعاً أمامه، يستمع لخطبتها، ويقف خلف المذياع مصلياً. قال:

ـ هاتِ ما عندك يا أبا جابر، قل ما الذي يؤرقك ويدمي قلبك…

قلت من باب الفضفضة لا أكثر، فأنا أعرف أن لا شيء سيغير هذا الواقع الأليم، الذي صار فيه التكالب على لقب “الشيخ”، أكثر ما يميز شارعنا الغزي، كتكالب حفنات من ذباب على كوم قمامة أعزكم الله، فصرت ترى الطبيب والمهندس والمعلم يفضل مناداته بالشيخ الطبيب أو الشيخ المهندس أو الشيخ المعلم، وصرت ترى البلطجي واللص وتاجر المخدرات ورجل السياسة يختبئ خلف هذا اللقب، وكأن التَشَيُّخ أصبح علامة فارقة للتضليل والخداع والنصب ونشر الأكاذيب، وصرت ترى كل من هب ودب يدعونه شيخاً، فصار الصالح والطالح شيخاً، وأخذ عدد الشيوخ يتزايد مثل الفطر بعد المطر، وصارت الفتاوى أكثر من أن تُعد أو أن تُحصى، وجُلّها في توافه الأمور، كما في خدمة “السلطان” والقادة الجدد للبلد المنكوب، تماماً كما في زمن الدولة الأموية وما تبعها طوال ثلاثة عشر قرنا من حكم الخلافة المتتالي، من حكم دنيوي فاسق فاجر منحل باسم الدين، وبعضها لم يتجاوز الدين فقط، بل تجاوز العقل والمنطق والأخلاق وكل شيء، قلت:

ـ تتقاذفني الأفكار يا أبا محمد، وأزداد قناعة يوماً بعد آخر، بأن أفعل مثلك، وأحتجب عن الصلاة، أقصد أن أكتفي بالصلاة في بيتي…

فقال أبو محمد:

ـ  نعم “لا فُض فوك”، صدقت ورب الكعبة، لكن بعد ماذا يا ابن الأوادم؟ بعد أن إنتقدتني على ذلك كل ذاك النقد؟ وبعد أن لمتني ورأيت في قراري قراراً لا معنى له؟ وأنه لن يغير من الأمر شيئاً؟ وقلت أن مواجهة هؤلاء فرض وواجب، وأن الله سيحاسبنا إن تواطأنا معهم أو سكتنا عمّا يقولون أو يفعلون، أو عما يزعمون على الله كذباً؟

قلت لأبي محمد مقاطعاً، بعد أن سحبت من أرجيلتي نفساً عميقاً تطايرت به قطرات الماء متزاحمة متفلتة داخلها، محدثة كركرة موسيقية أليفة، وهي تتسابق إلى الأعلى في محاولات تحرر فاشلة، فعادت لقمقمها ساكنة منتظرة فرصة جديدة للإنعتاق:

ـ إنها أفكار يارجل، مجرد أفكار تتقاذف رأسي، فأنا لن أفعل مثلك وأحتجب خلف حوائط منزلي، ثم إذا إحتجبنا أنا وأنت والآخرون، من سيواجه “تجار الدين” هؤلاء؟

شعر أبو محمد بالسعادة كوني صرت أستخدم كلماته، حتى لو اختلفت معه في الرأي بطريقة مواجهتهم، فقال وقد عادت إليه ابتسامة وجهه، وكان يسحب أنفاساً قصيرة متقطعة من نرجيلته، ويحرك رأسه طرباً على أنغام أغنية، يتردد صداها عالياً في سماء المقهى:

ـ أترك الفلسفة وقل لي ما الذي يؤرقك، هات ما عندك ولا تتعبني يارجل، أنطق بهذه الجوهرة…

فقلت مختصراً الموضوع في جملة قصيرة:

ـ إنه مفتي حماس، يونس أو يوسف الأسطل…

فقال مفتعلاً أنه يحاول التأكد من الإسم مقترباً بأذنه من فمي:

ـ يونس أو يوسف ماذا يا أبا جابر؟

قلت موضحاً الإسم الذي لم يسمعه:

ـ الأسطل …

لم أكن أعلم أنه سأل من باب التهكم وخفة الظل، لكنه كان قد بدأ تهكماته المعهودة مفتعلاً عدم الفهم:

ـ الأسطل؟!!! ومن الذي سطله؟!!!

كانت الإبتسامة المتلاعبة على أبواب شفتيه، تتفلت محاولة أن تتحول إلى ضحكة صاخبة، لكنه كلن يمسكها ويقمع محاولتها تلك، قلت متماشياً مع كلماته، شارحاً ما أود قوله:

ـ إنه إسم مركب على صفة يا أبا محمد، وليس صفة فقط…

قال سائلاً متهكماً من جديد، وكأنه لم يسمع ما أقول:

ـ مالك وما لهذا الأسطل؟ مالك ولمفتي الديار الحمساوية؟ مفتي ديار الإخوان المسلمين فرع فلسطين؟

فقلت موضحاً ما أردت قوله منذ البدء:

ـ لقد أفتى هذا الرجل بأن “من لا ينتخب مرشحي حركة حماس، لهو مرتد زنديق كافر، لا مغفرة له ولا توبة تقبل منه حتى لو صام أو صلى أو حج أو زكّى”…

فقال بذات الصيغة التهكمية، والأبتسامة ما تزال تحاول التحول إلى ضحكة دون نجاح:

ـ ولا حتى لو فك رقبة؟!!!

وأمام إندهاشي أكمل، تماماً كأنه يتكلم بجدية وليس مزاحاً:

ـ ثم يا أبا جابر، يقول الله تعالى في كتابه العزيز “ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج”، لذلك يمكننا القول ليس على الأسطل حرج أيضاً، فالله الذي ابتلاه بهذه العاهة وليس نحن…

سكت قليلاً  وسأل بكل “براءة” متهكمة مفتعلة:

ـ أمتأكد أنت أنه كان بكامل قواه العقلية عندما أفتى؟ ألم يتناول شيئاً من المخدرات قبل ذلك؟ فهو كما أعلم كان من المتحمسين لإستبدال عقوبة المؤبد أو الإعدام على تجار المخدرات في مصر بثمانين جلدة، ذلك الإقتراح الذي تقدم به نواب من الإخوان المسلمين في البرلمان هناك، بحجة تطبيق الشريعة، وهو في حقيقة الأمر لحماية تجار المخدرات والذين هم شركاءهم في “التجارة” لخدمة تطور الإقتصاد من أجل رفاهية الشعب!!!.

واقترب بكرسي القش الذي يجلس عليه وقال:

ـ يقول البعض أن له باعاً وذراعاً في غزتنا هنا، في هذا الأمر أيضاً، لكن على قاعدة أن لا يزيد الربح عن الثلث، و”الثلث كثير”، كما أوصى الرسول الكريم في باب التجارة…

ورفع يديه الى السماء داعياً متهكماً:

ـ لا أراه الله خسارة بتجارة نزيهة!!!

قلت وكان الغضب يأكلني رغم كلماته العميقة بإسلوبه الساخر:

ـ ياأبا محمد، يبدو أنك لا تفهم ما أقول، فهذا الأسطل يريد إقناعنا بأنه قد أخذ وكالة “الله تعالى” الحصرية وتمثيله على الأرض، فهو الناطق الرسمي والوحيد يإسمه، بل لقد وضع نفسه مكان الخالق، فهو الذي يحدد مَنْ الذي تجوز توبته ومَنْ لا تجوز، مَنْ المؤمن ومَنْ الكافر، مَنْ يدخل الجنة ومَنْ يدخل النار، وما على الله سبحانه، بقدرته وعليائه إلّا السمع والطاعة… أتفهم ما أريد قوله؟

فقال أبو محمد بعد أن تراجعت ابتسامته داخل فمه، وما زال يستمع للأغاني القادمة من مذياع قديم مركون على رف في أعلى حائط المقهى ويهز رأسه:

ـ وما الغريب في الأمر ياأبا جابر؟ ما الغريب على الأسطل وأمثاله من شيوخ الفتنة وقادتهم؟ لماذا كل هذا الإستغراب؟ ألم ترَ كيف ينحني مُقبلاً، زعيمه هنية، يد شيخ الفتنة الأكبر، القرضاوي، الذي يُقبّل بدوره حذاء الشيخة موزة وأبنائها مقابل حفنة مال؟ ويستجدي”ضربة للــــــــــه” من المحسنين الأمريكان لسوريا “الملحدة الطاغية”، ضربة تساعدها على الإستقرار وتنشر بها الديمقراطية مثلما نشروهما في العراق وفي ليبيا، وينفي  بشدة أن يكون هناك هدف “للثوار” في محاربة اسرائيل قائلاً مستغرباً:”من قال ذلك؟”و “لصالح مَنْ مثل هذه الدعاية المغرضة؟” إي والله “كفيت ووفيت” أيها الشيخ، وهل بعد هذه الفتاوى حاجة لفتاوى أخرى؟ لا ورب الكعبة، لقد قمت بالواجب وأكثر…

أخذ نفساً جديداً من نرجيلته، وقال:

ـ يقول الشاعر يا أبا جابر: “إذا كان رب البيت للدف ضارباً     فشيمة أهل البيت كلهم الرقص”، إذا كان زعيمهم القرضاوي يفتي ب” لو عاد النبي محمد لوضع يده بيد الناتو”، أتتخيل ذلك؟ الناتو الذي يحتل مقدساتنا وغرس لنا هذا الكيان الذي ما فتئ يقتل أبناءنا، ويدمر أوطاننا، وبفضله تقودنا “مباغي” النفط هذه، إن كان زعيمهم بهذا “الرخص” فماذا تنتظر من التابعين؟!!!

سكت آخذاً كمية من هواء المقهى الملوث، وقال:

ـ بعد هذا العمر يا أبا جابر، حان الوقت لتدرك مرة وإلى الأبد، مَنْ أكل من زاد الذل وشرب وارتوى بمائه، لا يمكن أن يكون عزيزاً أو يعيش كريماً…

تركني أنظر إليه، وأخذ يستثير “كركرة” الماء في النرجيلة، وصرت أنظر لمحاولات تفلّتها لتتحرر وتنعتق، وأغمض عينيه وعاد ليستمع لصوت الموسيقى القادمة من المذياع القديم، وكان زياد رحباني يغرد معلناً:

أنا مش كافر                                                                                                                          هيدا انت الكافر                                                                                                                     وعم بتحطا فيي كونك شيخ الكافرين

وأبو محمد يهز رأسه ميمنة وميسرة، على موجات اللحن الذي غطى مساحة المقهى كله، وسط دخان النراجيل  المتطاير الكثيف…

محمد النجار

الفارس

تصادف وجودي عند صديقي “أبو أسعد”، في ذاك النهار المشؤوم، كنا لم نتقابل منذ فترة طويلة مضت إلّا لماما، وكنت خارجاً لتوي من العزاء بموت والدي، وما أن رآني حتى حذف كلماته في وجهي مثل لوح صبار:

ـ لقد توفي المناضل تيسير قبعة… جاءتني رسالة على هاتفي تؤكد ذلك…

قلت:

ـ أنا لم أسمع الخبر من أيٍ من وسائل الإعلام…

قال:

ـ لم يعلنوا الأمر بعد…

وكان قد بدأ يُجهز صور الشهيد تمهيداً للعزاء، وقال من جديد:

ـ إنه يستحق الوفاء…أستأتي؟

قلت:

ـ نعم… ربما مجيئي من مدينتي البعيدة في يوم العزاء هو جزء من وفاء أيضاً، وفاء له ولهذه المدرسة التي قادها الحكيم وأبوعلي مصطفى، والشهيد أحد أعمدتها.

كل ما أعرفه عن هذا الشهيد، أنه لم يكن سوى “بلدوزر” عمل، لا يهدأ ولا يستكين، وكان يظل في حالة من الحركة الدائمة، في حياته ومكتبه وحتى بيته، الذي كان يعج بالناس عديمي الحيلة، الذين يبحثون عمن يساعدهم ويساندهم في حل مشكلاتهم المتعددة، خاصة بعد أن جاءت السلطة وزادت من همومهم ومشاكلهم على نحو ملحوظ.

ظل الشهيد “فارساً” يمتطي صهوة جواده ويقاتل، لم يترجل يوما أو يرتاح، لم يهن أمام عدو  ظل يتربص به على مدى عمره كاملاً، ولم يحنِ رأسه خوفاً من موت قادم مع العواصف التي ظلت تشتد على مدى عمر الثورة كلها، حتى مسألة موته لم تكن ،برأيي، إلا غدراً، فالموت لم يأته وجهاً لوجه، جاءه متخفياً غدّاراً، طعنه في قلبةأثناء لحظة نوم عميقة مسروقة، بعدأن تكالب عليه تعب الأيام والسنين، وأغرته لحظات نعاس لعوب، فنام، لحظتها فقط انقض الموت حاملاً جُبنه وغدره وسكاكينه، لينهي حياة زاخرة بالعمل والعطاء والتضحية والمرض، حياة ميزتها الأساسية رفض الخنوع ممن كان ومن أيٍ كان.

حتى قبل أن يتوصل حزبه إلى صياغة شعار “الإعتراف خيانة”، وجسّده بدماء أعضاءه وكادراته، في نهاية السبعينات، كان هو قد طبق الأمر قبل ذلك بعقد كامل ويزيد، عندما رفض الإعتراف حتى بإسمه في زنازين الإحتلال، حينما تسلل عائدا إلى الداخل وتم إلقاء القبض عليه، قبل أن يتم نفيه مجدداً خارج الوطن بعد أن أمضى فترة محكوميته، وهذه الحالة، حالة عدم الإعتراف حتى بالإسم لم تتكرر، كما أعرف، إلّا مرة أخرى من قائد وطني كبير ومناضل رائع شرفني لقاءه والتعلم منه في المعتقل الإداري في النقب، والذي لم يعترف حتى بإسمه، وأمضى أطول فترة حكم إداري في تاريخ الحركة الأسيرة كاملة، وكانت تهمته أنه قائد في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إنه المناضل الكبير والمفكر العربي أحمد قطامش. تُرى أهذه مجرد صدفة، أم معدن أصيل صقلته التجربة والمبدئية ونكران الذات لدى الإثنان؟!!!

وبجدارة، تبوأ الشهيد، المناصب في حزبه، وفي مؤسسات منظمة التحرير وفي المؤسسات العالمية. وبعد أن استجلبوا أوسلو قاطعين الخط على الإنتفاضة الأولى كي لا تصل إلى تحقيق حلم الدولة الفلسطينية التي صارت أقرب إلى الواقع، وبعد تشكيل السلطة، رويداً رويدا تحولت الى أداة في يد المحتل، وصار التنسيق الأمني سيفاً مسلطاً على أعناق البلاد والعباد، وفتحت السجون للمناضلين، وصارت السلطة للمنتفعين والمارقين والفاسدين والمفسدين، وكان هو نائب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، وكانوا غير قادرين على إبعاده أو تغييره إلا بعقد جلسة لم يريدونها للمجلس الوطني، وظل يناضل لإعلاء كلمة قضيته الوطنية في أي جبهة أو محفل في الخارج، ويلاحق كل من حاول تقزيم القضية الوطنية الفلسطينية، خاصة في إجتماعات منبثقة عن الجامعة العربية واتحاد البرلمانيين العرب، المختصة بهذا الشأن، وظلت كلماته ومتابعاته سكاكين تلاحق الرجعيين العرب، وتقف لتنازلاتهم بالمرصاد.

أخرج “أبو أسعد” مجموعة من الرسائل ، منها رسالة إحتجاج قوية على حالة الإنقسام، تحت عنوان “كفــــــــــــــــــــــى”، ورسالة للرئيس، منذ عام 2012، إلى عدد من المؤسسات الفلسظينية، تحمل قرارات مبنية على شكاوى أصحاب الجلالة والسمو، والسادة الرؤساء ووزراء خارجيتهم، بحق “المشاغب” الفلسطيني تيسير قبعة، وازدادت الشكاوى منهم للقيادة الفلسطينية، فكيف يمكن أن يتحدث شخص عن دعم القضية، بالمال والسلاح، في هذا الزمن؟ كيف يمكن أن يقف في وجوه “مدمري الأوطان” العربية خاصة آل سعود؟ آل سعود أنفسهم أصحاب الحل والربط والعلف لمن يرغب بأن يكون نذلاً؟ كيف يمكن أن تقاوم النذالة ياتيسير؟ النذالة المخلوطة بالعلف وببول البعير الذي تحتسيه سلطتك، ويشرب منه الإخوان المسلمين الأنخاب مع دويلة قطر ومملكة آل سعود،  وتحلف بحياتهم، بعد أن دعمهم الإخوان بالحثالات البشرية، مقابل المال،  التي دمرت أوطاننا؟

وبشيء من التفصيل، كان الشهيد “حاداً” مع هؤلاء العربان، ومع “أصحاب القرار” الفلسطيني في غزة أو الضفة، وأطلق صرخته المعروفة في وجوههم، “كفــــــــــــــــــــــى”، كفى تقسيماً للشعب والوطن، كفى إختزالاً للشعب في فصيلين، كفى تمزيقاً للوطن لخدمة مشاريع الكيان بأيدٍ عربية، كفى خدمة لمشروع الصهيونية العربية، فالقضية الوطنية أكبر منكما ومن خلفكما كل الرجعيات القابضة على أكياس المال التي تعبدون، كفاكم عبثاً، كفاكم استهتاراً بالوطن والقضية، فقضييتنا لا يمكن التساهل فيها، كما لا يمكن المجاملة على حسابها.

قامت الدنيا ولم تقعد وراء الكواليس، وصار لزاماً أن تدفع ثمن صرختك في وجه قادة الإنقسام، وصرختك في وجه ممثلي انظمة الصهاينة العرب بقيادة آل سعود، فاستدعى آل سعود وجوقة العربان سفراء فلسطين محتجين على هذا “المشاغب” الذي يحاول إفشال مشروعهم، وطرحوا عليهم السؤال الكبير:

ـ كيف يمكن أن يكون ما يزال لديكم، أنتم الفلسطينيون أناسا بكرامة؟!!! كيف يمكن أن تكون لديهم العزة والشموخ والأمل؟!!!كيف يمكن أن يكون هناك من يحاول توحيد الشعب الفلسطيني الذي فعلنا كل ما بإستطاعتنا لنوصله لما هو عليه الآن؟كيف يمكن أن لا يكون اليأس الذي تسرّب إلى كل النفوس، لم يصلهم بعد؟ بعد كل ما قدمناه من “علف” وجهد في سبيل ذلك؟ كيف يمكن أن لا يعيش العرب أذلّاء حقراء بعد كل هذا التدمير والخراب في البشر والحجر والنفوس؟

وصرخوا في أصحاب القرار الوطني الفلسطيني:

ـ ألم نقل لكم أعلفوهم؟

وجاء الرد الفلسطيني “المستقل”:

ـ هؤلاء يرفضون العلف، طال عمرك، لقد حاول معهم ومنذ إنطلاقتهم كل أصحاب الجلالة والسيادة والسمو، وهم “والعياذ بالله” يكفرون بالسلطان وأصحاب الجلالة والسيادة والسمو وأولي الأمر، وبهم ملحدون طال عمرك، شموخ الأنوف لا ينحنون أبداً “لمخلاة” السلطان ولا لسيفه ولا لأوامره، حتى لو كان السلطان من آل سعود، طال عمرك.

فكر حينها صاحب الجلالة، وقال:

ـ جوعوهم إذن، جوعوهم…

فقال القرار الفلسطيني “المستقل”، بعد أن إنحنى أكثر بقليل، كعادته، عند مخاطبة أصحاب السعادة والسيادة والسمو:

ـ لقد فعلنا طال عمرك، مرات ومرات، لكنهم شدوا الأحزمة وأكملوا الطريق بعد أن زادهم الجوع ثورة.

فقال صاحب الجلالة:

ـ إذن لاحقوهم، أفلتوا عليهم كلابكم، هؤلاء خطرٌ عليكم وعلينا، وسنوصي بهم حلفاءنا من “آل موسى” ليستأصلوهم من الحياة.

كرر القرار الوطني لفلسطيني”المستقل” مجدداً:

ـ لقد فاضت بهم السجون لدينا ولدى “آل موسى”، وكما تعلم طال عمرك، هل تنسيقنا الأمني إلا لمثل هؤلاء “المارقون المتطرفون”، الذين يرفضون الخنوع والذل والإنحناء؟!!!

واقترب القرار الفلسطيني “المستقل” من عباءة صاحب الجلالة، قبّل ذيلها المذهب، انحنى أكثر، وأكمل:

ـ هؤلاء، طال عمرك، أصحاب شعار “وراء العدو في كل مكان”، والعدو عندهم كما تعرف هو أنتم وحليفنا الجديد وحليفكم القديم، وهذا “التيسير” الذي نشكون منه جميعاً، هو من كان يقود فرعهم الخارجي في العالم كله، أعني إنه “وديع حداد” بصورة سياسية، ومن يدري إن كان فقط بصورة سياسية؟ فربما كان أحد روافده وروافد بندقيتهم أيضاً!!!

صرخ صاحب الجلالة غاضباً:

ـ هذا يعني أنه ما زال لديكم رجال بكرامة وعزة نفس وإباء وشموخ!!!

قال القرار الفلسطيني المستقل:

ـ للأسف نعم يا صاحب الجلالة، لكننا نعدكم….

قاطعه صاحب الجلالة قائلاً:

ـ هذا يعني أن حربنا لم تنتهِ بعد، وأننا وحلفاؤنا لسنا في مأمن، إنكم تعرفون ما يجب عليكم فعله…

وغادر يقطر قطرات غضب ونتانة قائلاً:

ـ أمعقول أنه لم يزل هناك بشر لا يفضلون سماع المطرب “موشي إلياهو”؟ ولا يفتشون حقائب طلاب المدارس عن سكاكين؟ أمعقول هذا بعد كل هذا العلف؟!!!

ومد يده في حزام نقوده، أخذ حفنة من علف، وضعها في مخلاة القرار الفلسطيني “المستقل”، جزء في غزة وآخر في رام الله، ليزداد استقلال القرارين استقلالاً، فيزداد انتفاخ رصيد البعض، وتتعمق الهوة بينهما وتزداد اتساعاً، فزاد رأس القرار “المستقل” في الجانبين إنحناءً، وعضّا على لسانهما خوف أن تصدر كلمة تُغضب صاحب الجلالة، لا سمح الله، فيوقف البرسيم والعلف، وقال البعض أنه قد تغير صوتهما ولم بعودا يتكلمان مثل البشر أبداً.

وعملاً بمشورة صاحب الجلالة ،أطال الله في عمره، وتوجيهاته، جاء قرار الإخوان المسلمين في غزة، بتغيير اسم مدرسة الشهيد غسان كنفاني، أبرز الكتاب الفلسطينيين والعرب، الذي “كتب بدمه لفلسطين”، ومن   أبرز الشهداء ، بإسم مدرسة أبو حُذيفة!!! كي يمحو الأصل والجذر والذاكرة والتاريخ، وترافق ذلك برسالة “عبد ربه منصور هادي” الفلسطيني، الرئيس منتهي الولاية ومنتهي “الصلاحية”،قرار رئيس السلطة نفسه، عباس بشحمه وعظمه، بتوقيف راتبك الذي تأكل منه وتعيش، وأنت لست مثله ومثل أولاده وأحفاده، ولا حتى مثل حاشيته من لاعقي الأحذية المسحجين، لم “يفتح” عليك الله بالملايين لتستغني عن معاشك، أن يُقطع عنك المعاش؟ “ومن مهازل المرحلة أن عميل المخابرات الصهيوني الذي أتى بالأثاث الذي كان مزروعاً في مكتب الرئيس عرفات في تونس، وأدى لمعرفة أسرار المنظمة وقتل الكثير من قيادتها، ما زال معاشه غير مقطوع حتى هذه  اللحظة؟!!!”

وأكمل الرئيس المنتهية “صلاحيته”أوامره، بسحب أرقام سيارتك، وبوقف علاجك وإغلاق مكتبك، “مكتبك الذي ذهبت ودُسته مع أمر الرئيس بحذاء قدمك لتفتحه، فهكذا أوامر لا تستحق إلا حذاء لتُداس به، وحتى حذاءك يشرفها”، تخيل رئيس إنتهت مدة رئاسته وانتهت مدة “صلاحيته” يتحكم في حيوات مناضلي شعبنا؟!!! فهو لا يستطيع أن يتخيل بعد، أن هناك من لم ينحنِ لأسياده من أعراب جهلة ودول مانحة، وأن هناك يداً وعيناً يمكنها أن تجابه المخرز، وأن سياسة التذليل والتجويع والتسحيج والحمرنة، لم تعمم كما أرادوها، وأنه ما زال هناك بشراً ترفض العلف وترفض أن تكون قطيعاً.

هذه الجوقة التي ظلت، كلما وصل العلف تُسحج، وكلما تأخر وصول العلف، تُسحج مذكرة بنفسها وبخنوعها وركوعها، وكلما تناقصت كميته في “مخاليهم”، سحجوا وازدادوا إنحناءٍ، كي لا يفهم تسحيجهم خطأ من أولي الأمر، هاتفين بأنهم دون شرف أو كرامة أو ضمير، وأنهم أزلام السلطان وأذناب أصحاب الجلالة والسمو، وأنهم يستحقون مخلاة العلف بكل جدارة، مذكرين أنهم منذ ما قبل أوسلو كانوا أصحاب السبق في لقاءات الصهاينة، أيام كان ذلك في باب “التكتيك” وليس “الإستراتيجيا” كما هو عليه الأمر الآن.

قالوا أنك خالفت أوامر الرئيس، ولم يفهم هؤلاء كيف أنك لم “تُدجن” على مدى ربع قرن من استدخال الهزائم والتطبيع والنذالة؟ وكيف ترفض العلف منهم ومن أولي الأمر، وكيف أنك ما زلت لا ترى في الرئيس”الحاكم بأمر الله” إلا مشروع تصفوي فاشل، رغم أنهم يؤمنون بأنه “وحي يوحى”، وكلما رش العلف عليهم أو ملأ “مخاليهم” بالبرسيم، كلما تيقنوا من “نبوءته”، ومن الوحي الذي مازال عليه ينزل، هل معقول أن يكون في هذه الدنيا من يرفض “النعمة”؟ ورفضت نعمتهم، وبقيت تطالب بإصلاح المنظمة وبقيادة جماعية وتتحدث عن الثورة وعن حتمية الإنتصار، وتحدثهم عن دماء الشهداء والجرحى والأسرى وأنّات اليتامى والأرامل، أمعقول هذا؟ أمعقول التحدث بمثل هذه “الأحاجي والطلاسم”؟ أمعقول التمسك “بالأساطير” في زمن الردة والعهر والتدمير؟!!! أمعقول أيها الفارس أن تظل فارساً بعد أن ترجل معظم الفرسان؟ بعد أن باعوا أحصنتهم في سوق النخاسة المملوك لآل سعود، وسلموا سيوفهم؟

صدقني أيها الشهيد الوفي، إنهم فرحين بوفاتك، ويتمنون لو أن الأمر تم قبل ذلك بسنوات، من حاول مسح اسم غسان كنفاني كان يريد قتلك، ومن يشرفه أن يكون من “حريم السلطان أو غلمانه” كان يتمنى قتلك، ومن يعتقل المناضلين تحت أي حجة أو مُسمى كان يتمنى قتلك، ومن أنغرس في الفتنة ليدمر أوطاننا ويهجر مخيماتنا أراد قتلك، ومن أوقف مرتبك كان يقصد قتلك، ومن أعطى أمراً بوقف علاجك كان يقصد قتلك، ومن أغلق مكتبك كان يقصد إغتيالك في منتصف النهار حياً، لأنه يعرف أن الموت عندك أفضل ألف مرة من أن تقف متفرجاً، رغم كل ما سيقولونه في التعزية من المديح والتغني بالوحدة الوطنية، فوحدتهم الوطنية تعني الفساد والإفساد والتحكم بصندوق المال للتدجين وامتلاك القرار، وكي يسلبوا بندقية آخر الفرسان، ليسلموها للمحتل.

لقد عشت فارساً يا أبا فارس، ومت فارساً، لم تنحنِ يوماً لا لعاصفة ولا لهبة ريح، فهنيئاً لك كل ما قدمت من عطاء، وهنيئاً لشعبك بك، شعبك الذي سجلك في سجل الخالدين، ورمى الحثالات أحياء في مزابل التاريخ.

محمد النجار

غُلام السلطان

جلست معهم على نفس الطاولة، فكلنا، ودون استثناء، من الجيل نفسه، جيل الكهول كما تحبون، أنتم الشباب، أن تسموننا، فكما ترى، أصبحوا يحشرون الأعراس في صالة! بين أربعة جدران! ولم تعد كما كانت، طليقة حرة، تسبح في سمائها الأهازيج الشعبية من عتابا ودلعونا وميجنا، من مناداة وإستجلاب “لظريف الطول”، ولم تعد تسبح في الفضاء، لتملأ الحقول والجبال والكون كله فرحاً وقمحاً ووروداً،  واليوم كما ترى، ف”مهاهاة” النسوة تتكسر أصداؤها على حوائط الصالة، وتنهار منزلقة كحبات الندى من على أوراق الأشجار.

من الطبيعي أن أجلس مع جيلي، لنتسامر ونتحدث ونلتقي ونختلف، في وسط تلك الآلات المزعجة الصاخبة التي يسمونها بالموسيقى، موسيقى تغيب عنها الشبابة؟!!! يا لمهازل هذا الزمان!!! لكن ما العمل ولكل جيل زمانه وميوله وأفكاره وطريقة حياته؟

جلست مع أبو مصطفى، مع أبو أحمد وأبو حاتم، وخامسنا الشيخ أبو العبد، والذي رغم عدم رغبتي في مجالسته في معظم الأوقات، إلا أنني لا أظهر له شعوري هذا إلّا إذا أجبرت على ذلك، من باب الحرص على عدم جرح شعوره، أو إحراجه أمام الناس، فمعرفتي به على مدي أجيال، ما زالت تبعدني عنه وعن منْ يُمثل، فانا لا أحب تجار الدين، ولا من يضعون مصالحهم فوق كل إعتبار، ولديهم دائماً وأبداً “الغاية تبرر الوسيلة”.

كما أنني لا أهتم للأمر لولا حالة الإستعلاء التي يمارسها، أحياناً، دون وجه حق، أقصد التي قوائمها من عجين، وبالتالي يمكن أن أسميها بحالة “إستقواء مؤقت”، لأن الكذب والخداع والتملق واللعب على الحبال لن يستمر للأبد أبداً، ولهم في قيادة المنظمة ولاحقاً السلطة دليلاً عما أقول، صحيح أنهم كسبوا المال، لكنهم خسّرونا القضية كما تعلم، ومن العار أن نقع في مستنقع المال المُذلّ ذاته.

كان يمسح على لحيته البيضاء عند قدومي، يهدهدها ويدغدغها ويكاد يناجيها، كعادته، وكعادتي عندما ألتقيه، ورغم خلافنا الكبير، اُمازحه وأستفزه لأخلق جواً جميلاً بشوشاً لقعدتنا، فما بالك في جو العرس المبهج رغم موسيقاه الصاخبة الخالية من الشبابة؟!!! وأحياناً كان هو يفعل الأمر نفسه، لكن ليس بنفس النجاح التي تلاقيه كلماتي، الأمر الذي يزيد من إستفزازه وغضبه.

قلت له ما أن إحتضنني المقعد:

ـ والله لحية!!! بيضاء مثل الصفحة البيضاء، آه لو كان قلبك أبيضاً مثلها…

وضحكت لتأكيد مزاحي، حين أسند ظهره المقعد جيداً، كأنه يريد التأكد من حماية ظهره، وقال:

ـ كيفما كان فهو أكثر من قلبك بياضاً…

شعرت بنبرة الغضب بين كلماته، ورأيت الحقد يتدحرج معها، فاقتربت منه وسألت بصوت خفيض لكن مسموع من كل الجالسين:                                                                                                                       ـ أمتأكد أنت مما تقول؟

لم أكن أعلم أن سؤالي هذا سيستثيره أكثر من شتم أبيه، وسيربكه ويغضبه، وأنه سيفتح باباً للنقاش ليس العرس مكانه المثالي، قال وكان مدركاً بأن أي إجابة سيعطيها لن تقنع الجالسين، وأن تقاسيم وجهه ستخونه وتكشف أمره، لكنه رغم ذلك قال:

ـ نحن قلوبنا بيضاء دائماً والحمد لله، والله سبحانه أكرمنا في دنيانا وسيجعل مأوانا الجنة في الآخرة إنشاء الله…

عرفت أنه يستقوي علي بجماعته من خلال كلمة “نحن” التي قالها بوضوح، وشعرت أنه أخذ الحديث وسحبه إلى مكان آخر، غير الطريق الذي كان يسير فيه، عن سبق إصرار، وأنا كما تعرفني رجل مستقل عن الأحزاب جميعاً، رغم أن هذا ليس مفخرة، ورغم وجهة نظري التي تلتقي أحياناً أو تتعارض مع بعضها، فقلت:

ـ أن تكون لكم او لغيركم “الجنة” فهذا أمر لا يعلمه إلا الله، رغم شكي بأنكم ستصلونها يوماً، إلا إذا كان سبحانه قد وكلكم مكانه على الأرض كما تحاولون إفهام القطيع!!! أما هذه “الفلل” والعقارات والسيارات الفارهة، فهي من مملكة الخير، مملكة آل سعود وحارة الشيخة موزة أطال الله عمرهما، ولا أدري فربما من السلطان العثماني الجديد أيضاً، كما لدولة “الفرس الرافضية” الدور الأساس لمدكم بالمال والسلاح، نعم ذات الدولة التي تُحرِّضون عليها في المساجد وفي تعميماتكم الداخلية، وتمتدحونها، أحياناً، في العلن، في لعبتكم المنافقة الممجوجة، وليس من عند الله، فأنتم بئر بلا قعر، لا يملؤه شيئاً أبداً، وهذه على ما أظن ليست فخراً بقدر كونها نفاقاً، وهي، على كل حال، مغموسة بدماء الشهداء وأنات الجرحى وبكاء اليتامى والأرامل، كونها لم تُعطَ لكم، بغض النظر عن نوايا المتبرعين، لسواد عيونكم، بل بسبب مخططات وبرامج كل دافع إيجاباً أم سلباً.

وكان أبو حاتم قد دس عبارته بين كلماتي قائلاً:

ـ إنهم كالمقبرة لا جازاهم الله خيراً، لا يردون قادم، وفوق ذلك يشكون ويبكون…

ـ أصدقك القول أنني لم أرد أن أقول كل ذلك ولا حتى شيئاً منه، كما لم أتوقع أن لا يكون إحتجاجه إلا على السلطان العثماني، ولم أعتقد أن يكون بهذه الدرجة من الغضب، قال:

ـ لا تتحدث على دولة الإسلام!!! يُغضبكم “القائد”لأنه “الفارس الأخير” الذي يدافع عن بلاد الإسلام والمسلمين، لذلك حاولوا أمثالكم الإنقلاب عليه…

لم أتوقع جوابه هذا رغم معرفتي بوجهة نظره ونظرهم عن “السلطان”، فوجدتني أقول:

ـ لم أكن أعرف أن الدولة التركية، الدولة الأهم لحلف الناتو، وصاحبة العلاقة الأكثر تميزاً مع الكيان، والتي بها البغاء والخمور وكل الرذائل، متداولة على الملأ وبترخيص من الدولة، هي دولة إسلامكم المثالية!!! وأنه يحارب سوريا لأنها دولة الكفر والفساد والفسق والفجور، ويقيم العلاقات و يُنجز المعاهدات والتطبيع مع دولة الكيان لأنها دولة ديمقراطية، لم تحتل أرضاً ولم تقمع أو تهجر شعباً ولم تسجن أحد ولم تهدم مسجداًاًَََ!!! وأن خدمته لحلف “الناتو” هي لخدمة الإسلام وليس لخدمة المشروع الصهيو ـ أمريكي في المنطقة، لكن ماذا سأقول وأنتم لستم بأحسن منه، أما زلتم تراهنون على بلير أم كففتم بعد انكشاف أمركم؟!!!

فقال متحدثاً بإتجاه واحد، وكأنه لا يهمنه شيئاً سوى “السلطان”، الأمر الذي أثار في تساؤلات كثيرة عن زياراته المتكررة لهناك، لكن الأمر ليس شخصياً بالنسبة لي كما تعلم، قال:

ـ هذا القائد جاء عن طريق الإنتخابات الديمقراطية كما تعلم ويعلم الجميع، ومن يتجرأ على هزيمته فهناك صناديق الإقتراع وليس الإنقلابات…

فقلت وقد ذُهلت لما للأمر من أهمية عندهم:

ـ أنا بطبعي ضد الإنقلابات العسكرية كيفما كانت وأينما كانت، وبغض النظر إن كان الإنقلاب حقيقي أم مُفبرك، فهذا لا يعطي الحق لسلطانك أن يعتقل الآلاف ويفصل من العمل عشرات الآلاف ويمنع الملايين من السفر، كيف استطاع محاكمة هؤلاء في ساعات؟ ولمصلحة من يسحل القضاة والمحامين وأساتذة الجامعات من المعارضين في الشوارع؟ لكن إذا كان قد قمع التظاهرات وسجن الصحافيين والمخالفين، ودمر عشرات القرى للأكراد والعرب بدون إنقلاب، فماذا سيكون عليه الأمر مع وجود إنقلاب؟!!!

قال وقد أخذ يتصاعد الغضب داخل صدره، خاصة بعد أن تدخل أبو أحمد وأبو مصطفى وأبو حاتم في الحديث في غير صالحه:

ـ أتريد أن يرمي هؤلاء الإنقلابيون بالورود؟

قال حينها أبو مصطفى:

ـ ياشيخ أبا العبد، الأمر ليس كذلك، فكل ما هو مطلوب تقديم المتورطين للعدالة بعد أن يأخذ التحقيق مجراه…

وتابع أبو أحمد:

ـ إذا كان العسكر هم من قام بالإنقلاب، فما علاقة المعلمين والقضاة والمحامين وعاملي المؤسسات الخدمية في الدولة بالأمر؟ أقصد لماذا طالهم الأعتقال والفصل والمنع من السفر؟

فقال أبو حاتم والذي كان مجرد وجوده استفزازاً للشيخ أبو العبد:

ـ صحيح أن الإنقلاب مرفوض ياشيخ، لكن أن تُعمل دولة موازية تحكمها شركة سرية، لا يعرف أحد كيف أخذت ترخيصها ولا من أين، وتعمل تحت إمرة “السلطان”، وتأخذ تفتك بالشر دون رادع فهل ههذا مسموح في دولتك الإسلامية؟!!!

فقال الشيخ أبو العبد عندما وجد نفسه وحيداً في الدفاع عن “السلطان”:

ـ هراء… كل ما تقولونه هراء، جُل ما تبغون أن تُشوهوا سمعة “السلطان” والدولة الإسلامية التي يقود…

فقال أبو حاتم من جديد:

ـ لنأخذ الأمر بطريقة أخرى ونسأل: لماذا باعكم السلطان في سوق النخاسة الإسرائيلي وتخلى عن رفع الحصار عن غزة؟ لماذا لم يدعمكم بالسلاح والمال كما دعمتكم دولة “الفرس” التي ما زلتم تحرضون عليها قواعدكم؟ ولماذا لم تقدم لكم المكان الآمن والخبرة والصواريخ كما قدمتها لكم دولة سوريا التي تحاربون؟ أم تعتقدون أن الغزيين لا ينقصهم إلّا “شوكولاتة” السلطان وألعابه لينتصروا على دبابات “إسرائيل”؟!!!

أخذ أبو أمصطفى الكلام من فم أبي حاتم، وأضاف وكأنه يتابع ما قاله:

ـ يأخي يا شيخ أبو العبد، والله “هلكتمونا” وأنتم تقولون دولة إسلامية، وأصدقك القول أنني لم أعد أتعجب أبداً، أن أسلافكم، وعلى إ‘متداد ألف وثلاثمائة عام كاملة، لم يقدموا لنا من العدالة شيئاً يُذكر، فلو رفعتم سني الخلافة المختلف عليها أصلاً، لما بقي في ثلاثة عشر قرناً دولة إسلامية عادلة نفتخر بها سوى عامين ونصف العام عهد عمر بن عبد العزيز، وتسع شهور فقط في عهد الخليفة المهتدي، أهذا ما تريدون تطبيقه علينا؟ يا أخي “لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”.

ـ خسئتم… ألف مرة خسئتم، فوالله دولة الإسلام هي من خرّجت للعالم في العلوم كافة، علم الطب والفلك والفيزياء والفلسفة، أبو بكر الرازي وابن الهيثم والكندي وابن سينا وابن رشد والجاحظ، نسيتم ذلك أم تتناسون؟ لا والله أظنكم تتناسون!!!

وأسند ظهره المقعد من جديد، حين بدأت الضحكات تتعالى من البقية المحيطة به، وقال أبو حاتم مجدداً:

ـ ألم تُزندقهم “دولتك الإسلاميه وتكفرهم وتتهمهم بالإلحاد؟ ألم يكفروا الرازي ويحجروا على كتبه وفلسفته لعشرات السنين، وكذلك الحال مع ابن الهيثم؟ ألم يسخر الجاحظ من النقليين أمثالكم بما فيهم من نقلوا الحديث؟ ألم يدعو لسلطة العقل؟ ألم تُصادر مكتبة الكندي ويُجلد أمام الناس بأمر من الخليفة نفسه؟ ألم يُكفر ابن سينا ويُسمى ب”إمام الملحدين”؟ ألم يحرقوا كتب ابن رشد، ولولا إعادة ترجمتها عن اللاتينية لما عرفنا عنها شيئاً؟ أم أنكم كعادتكم دائماً، تشوهون الحقائق أو تقلبونها، ماهو جيد فهو لكم وما هو فاسد لا علاقة لكم به!!! إن عمود الإسلام هو العدل، أرنا أين ومتى تم تطبيقه على إمتداد من إدّعوا أنهم أقاموا دولة إسلامية…

تدخلت وقلت، وقد رأيت الذهاب بعيداً عن الموضوع قد يخلط الأمور، في محاولة للعودة لما بدأناه:

ـ أنت تتحدث عن الديمقراطية التي طالما اعتبرتموها بدعة، وأنها ليست من الإسلام في شيء، ألم يقل زعيمكم جميعاً حسن البنّا “يجب أن تكون القيادة من رجال الدين، ومن المتمرسين على القيادة مثل رؤساء العشائر!!! ولا تُعتبر الإنتخابات مقبولة إذا لم تأت بهم”!!! يعني الديمقراطية تكون فقط إذا انتخبتم من نريد!!! تفصيلاً على المقاس، ثم هل زعماء العشائر منصوص عليهم في كتاب الله؟

فقال أبو أحمد قاطعاً حبل أفكاري:

ـ أتركونا من الماضي كله، إن ما يزعجني تصريحات بعض قادة الإخوان في غزة، أنهم مع السلطان حتى لو سالت دماء شعبنا على سواحل تركيا، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة عندما تم التطبيع بين الكيان ودولة “السلطان”…

فقال أبو مصطفى وقد بدأت ابتسامة متهكمة ترتسم تحت شاربه الكثيف:

ـ مشعل يقول أن الشعب الفلسطيني الخاسر الأكبر لو نجح الإنقلاب!!!

ومسح شاربيه بإصبعين من يده، وتابع:

ـ الخاسر هو الشعب وليس حركة الإخوان المسلمين!!! أسمعتم؟ لأننا وقتها قد نخسر نتائج التطبيع مع الكيان.

وأطلق ضحكة فاجرة كادت تستجلب عيون المحتفلين، وأكملت أنا:

ـ وأكمل مشعل”يتهموننا أننا “حريم السلطان”، يشرفنا أن نكون “حريم السلطان، إذا كان السلطان هو أردوغان”…

وانتهى النقاش وسط دهشة الشيخ أبو العبد، المنطلقة من بؤبؤي عينيه اللتين اتسعتا فجأة أكبر من أن يستطيع حجبهما، وابتدأت التعليقات، وتعليقاتنا، نحن الكهول، فاجرة فاحشة في أحيان كثيرة، بل معظم الأحيان، وصارت التعليقات مصحوبة بالضحكات وبغلاف دخاني كثيف من سجائر الهيشي:

ـ والله يبدو أن السيد مشعل ياأبا العبد يعرف كيف تكون “حريم السلطان”.

ـ وربما يعرف تماماً ما يبسط “السلطان” وإلّا لما تمنى أن يكون من حريمه!!!

ـ آه والله ياعمي، إسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

ـ لنسأل مشعل أبا ياشيخ، إن كان السلطان يفضل الغلمان!!!

ـ غلام غلام لكن سعره فيه…

ـ ربما نسمع غداً أن “السلطان” أمر “أعط هذا الغلام ألف درهم ومائة ناقة”، مشيراً بإصبعه إلى السيد مشعل، لفضله في متعة السلطان…

ـ  فهمنا لماذا الألف درهم، لكن لماذا المائة ناقة ياأخ العرب؟

ـ ليجلب للسلطان على سناماتها غلماناً جدداً من الفصيلة ذاتها، يعني قافلة متوجهة للباب العالي …

واستمرت التعليقات منهمرة كجدول ماء من سطح جبل، ولم يلحظ مغادرة الشيخ أبو العبد الطاولة سوى أبو حاتم الذي ناداه بأعلى صوته قائلاً:

ـ إلى أين يا أبا العبد؟ القافلة لم تصل بعد، لماذا كل هذه العجالة؟!!!…

فما كان من أبي العبد إلا أن عاد فوراً إلى مكانه، وأخذ يبتسم أمام ضحكاتنا، وقال:

ـ كفى لعنكم الله، كفى قاتلكم الله…

واتسعت ابتسامة فمه واقترب من وسط الطاولة ليسمع الجميع سؤاله، وقال:

ـ بربكم هل صحيح ما نقلتموه على لسان السيد مشعل؟

هز بعضنا رأسه بالإيجاب، لكن أحداً لم يقل شيئاً، خاصة بعد ان هدأ كل شيء فجأة، وأخذت تنسكب في آذاننا صوت شبابة يأتي متماوجاً في سماء الصالة، وقام بعض الشبان والصبايا بكوفياتهم وهندياتهم وأثوابهن الشعبية يدبكون، ويدقون صدر الأرض بأقدامهم الواثقة، على أنغام الدلعونا….. حينها أدركت أن أعراس الصالات أيضاً، لم تكن بذاك السوء الذي تصورته.

محمد النجار

كلب الشيخ شيخ

أصابتني القشعريرة، فجأة على حين غرة، وانتفض جسدي، تهالكت مفاصلي وارتخت، ولم تعد تحملاني ساقاي، وسرعان ما أصابتني الحمى، وتساقط شعر رأسي كما أوراق الأشجار في فصل الخريف، مباشرة بعد تصريح وزير الخارجية القطري، أطال الله عمره، حين قرر سعادته بأن بلاده لن تظل ساكتة، ولن تقف مكتوفة الأيدي، أمام مجازر “الأسد” ضد الشعب السوري، و”أنها ستشارك بالحرب إن تطلب الأمر ذلك”، يا ويلتي… يا ويلتي!!! تُشارك بالحرب!!! إن على الدنيا السلام… وأضاف أن بلاده لن تفكر في الأمر مرّتين، أمام الدماء الجارية من الشعب السوري الشقيق، الذي فتحت له بلاد السيد الوزير ذراعيها مستقبلة، بدلاً من أن يتوجه إلى بلاد الغرب “الكافرة” لا قدر الله ولا سمح، فكيف يمكن أن يهاجر شعب سوريا لبلاد الغرب البعيدة، ومشيخة العز والنخوة والشجاعة والكرم موجودة وعلى مرمى العصا؟ فقيادة مشيخة سيادته، تيمناً بكرم حاتم الطائي الذي ذبح فرسه لضيفه، ذبحت وما زالت أبناءها لتقدم لحمهم وتكرم الغرباء القادمين من أمريكا تحديداً، عن بعد آلاف الأميال، فما بالك بالأقرباء أبناء الجلدة الواحدة والقومية والعروبة والدين والمستقبل المزدهر الواحد، وهي لها في الكرم الحاتمي صولات وجولات، فكما قدمت ما يزيد عن ستين في المائة من تكلفة فاتورة الحرب الأمريكية من القاعدة المتواجدة على أرضها في الحرب على العراق “المجرم”، الذي أراد نفط العرب للعرب، لم تبخل أيضاً في تقاسم فاتورة الحرب على سوريا “المجرمة” التي دعمت متطرفي الأمة في فلسطين ولبنان، ورفضت التسوية والتطبيع مع الحلفاء في إسرائيل، فدفعت المشيخة فاتورة الحرب عليها مناصفة مع الأخوة من آل سعود.

وفوراً، كعادتي في اللحظات الحرجة، تجدني أتقرب الى الله أيُّما تقرب، ففور سماعي الخبر، توجهت إلى المسجد، وتوضأت وصليت وكبّرت واستغفرت، ودعوت الله أن يعود الوزير عن رأيه، فالحرب مكروهة مهما كانت بسيطة ومن دول ثانوية، فما بالك عندما تقودها دولة عظمى مثل “مشيخة الشيخة موزة”!!! فمثل هذه الحرب إن حصلت لن تنطفئ قريباً أبداً، وستنقلب إلى جهنم، وربما كان وقودها “الناس والحجارة”، خاصة إذا بدأت جيوش المشيخة الجرّارة تتقدم زاحفة من أرض المشيخة نفسها، وليس من شركة “بلاك ووتر” وبنغلادش والسودان والشيشان، وكل المسلمين والمؤمنين وحتى من أهل الكتاب، من كل بلاد الله الواسعة، التي يمكن دفع ثمن جيوشها، كما يدّعي المدّعون !.

كما أنني مدرك ومتأكد من نية السيد الوزير الصافية، وأن سيادته لا يريد سوى نقل الخير والبركة لسوريا، كما نهر التقدم والحضارة ونشر الديمقراطية التي تتمتع بها بلاده التي، يوماً، لم تسجن شاعراً أو كاتباً أو صاحب رأي أو مقالة، مهما كان هذا الرأي، وهي، ولله الحمد، لم تكن يوماً “نصف شعبها” مُهمّشاً ودون جنسية باسم “البدون”، وترفض إعطاءه جنسية أو عنوان أو جواز سفر،  ولا كانت أسرتها الحاكمة مستأثرة بسلطة أو ثروة، كما  يقول المغرضون الحاقدون الجهلة، وجل ما تريده لسوريا والسوريين، مجرد طرد القواعد الأجنبية من طول البلاد وعرضها، كي تصبح البلد محررة متحررة مثل بلاده، كذا وتطوير وتصنيع سوريا وتأميم مصانعها ليصير الإقتصاد ملك الدولة والشعب، تماماً مثل دولة سيادته، وتوجيه القطاع الزراعي كي لا تصير الأرض عاقرا جافة، وهذا كله كي لا تظل سوريا دولة مستهلِكة متستوردة حتى الخضار والفاكهة وزجاجات المياه، تيمناً ببلاده أيضاً، التي أسسها الأمير الفذ حمد المسمى زورا وبهتاناً بحمد “الصغير”، الذي لم ينقلب على أبيه “الأمير الوالد” ولم يبقه منفياً خارج البلاد لسنوات طوال، لكن الحرب حرب في كل الأحوال، والجُهَّال مثلي ليسوا لا يفهمون فقط في الحرب بل وفي السلم أيضاً، نعم إنني لا أفهم كما يفهم السيد الوزير وحكام المشيخة من أمراء مناضلين، والتي يسميها بعض الجهلة بالحارة، لذلك التزمتُ الصمت بعد أن ركبني الخوف، وأدمنت المسجد مصلياً داعياً قائماً بعض الليل وطول النهار، واستمر حالي هكذا حتى هزل جسدي وجفت دموع عيني، وتقلصت أوتار صوتي بعد أن جفت وقست وكأنها كومة قش كانت ملقاة في لهيب رمل الصحراء، وصرت لا استطيع الصلاة إلا جالساً ثم نائماً، والخوف، مثل أسد، يتربص بي ويصرعني كلما حاولت النهوض، فصرت أرى، بأم عيني، كيف تتقلص أيامي أمام ناظري، ويتفلت عمري كحفنة ماء من بين أصابعي، وأنا عاجز لا أستطيع أن أفعل شيئاً.

واستمر الخوف مسلطاً سيفه على عنقي، والرجفة تهز أطرافي كما تهتز أغصان شجرة هاجمتها الرياح من كل اتجاه، رغم محاولات أصدقائي إقناعي أن الوزير لم يقصد ما قاله، أو أنه كان يمزح، وأن الوزير إن قرر “غزو” سوريا والعراق أيضاً، أو حتى إيران فإن هذه الدول لن تأخذ “غلوة” واحدة أمام جبروت أم المشايخ، مشيخة “الشيخة موزة” العظمى، وأمام إرادة أمرائها، مهما تهاونت وتواضعت وتساهلت هذه المشيخة المرموقة، والحرب، والحال هذه، لن تكون سوى حرباً خاطفة سريعة، تماماً كلمح البصر، النصر محقق فيها لأصحاب السمو، كما الهزيمة محسومة أيضاً للجيش السوري “الفئوي العلوي”.وقيادته المستهترة.

لم أقتنع بتطمينات أصحابي، وبقيت، في المسجد، أدعو الله خلف شيخي،  وأردد استغفاري بإبتهال متوتر راجف بعد كل صلاة، كوني رأيت نهاية العالم في تصريح الوزير، ووجدتني أعيد دعوات الشيخ كاملة في سري وعلانيتي، حتى إذا تعبت، وعاودتني لحظات الرعب وتلعثمت بكلماتي قبل أن يخرسني جبني أو يكاد، اكتفيت بترداد كلمة “آمين… آمين …آمين يا رب العالمين”، وبذرف الدموع على ما ستؤول الأمور إليه من جبروت “مشيخة المشايخ” وأمراؤها ووزراؤها الأشاوس الصناديد.

طالت الأيام، وأنا لم أعتد الأمر بعد، وأمام غيابي الطويل عن زيارة والديّ، نتيجة تدهور وضعي الصحي، توجهت زوجتي لتشكو إليهم حالي، فجاءت أمي وأبي لمنزلي الزوجي غاضبين، وما أن رأتني أمي، حتى سألتني عما أصابني، لأنها لم تكن لتصدق ما أخبرتها به زوجتي، وقالت أن “إبني ليس مجنوناً ليصاب بكل ذلك”، ولما قابلتني، وذكرت لها مخاوفي من إمكانية هجوم المشيخة لتغيير ميزان القوى في سوريا، بعد فشل مائة دولة في تغييره وحسمه بمن فيها أمريكا ومعظم دول الغرب، ولم يبقَ أمام المشيخة إلّا أن تتدخل بنفسها، قاطعتني وقالت:

ـ “ما ظل في الخم إلّا ممعوط الذنب”

وعلق أبي من وراء ظهرها:

ـ “الفص الحامي من الحمار الضعيف”

لم أعلق على كلامهما المستهزء الجاهل ، لكنني شرحت لهما رأيي وأخبرتهما بتخوفي كوننا دولة مجاورة لسوريا وحرائق حربها ستصلنا، ونحن لا نملك شيئاً لصدها، و”اللي مش بيدك بكيدك” كما يقول مأثورنا الشعبي، وسوف نتأثر بهذه الحرب الجهنمية القادمة شئنا ذلك أم أبينا، فسألت أمي بإستنكار شديد وإستغراب:

ـ أتتكلم بجدية أم تمزح ياولد؟

ولما لم تر غير الجد في كلماتي وبين طيات حروفي، قالت:

ـ آه… عال… هكذا أفخر بولدي!!!

ونظرت إلى السماء، وخاطبت الله قائلة:

ـ ما الذي فعلته ياالله لترزقني بمثل هذا؟ “كان بلا هالرزقة” يارب، أستغفر الله العظيم…

سكتت قليلاً، وأبقت نظراتها معلقة في السماء، وأكملت تخاطب الخالق، منزلة عيونها نحو زوجتي وتابعت:

ـ إن كنت أنا قد أخطأت بحقك وعاقبتني به، فما ذنب هذ المسكينة التي بلوتها به يارب؟

ثم عادت واستغفرت ربها وعادت متوجهة بالحديث إلي:

ـ صدقني يا بُني، كم حاولت أن اُغيرك، لكني أعترف لك أنني فشلت، كنت أعرف طوال الوقت أنك حمار بامتياز، وحاولت نقلك خطوة للأمام، أن تصبح بغلاً مثلاً، لكني فشلت، نعم، فشلت أن أنقلك تلك الخطوة، لكني وللحق لم أتوقع يوما ولم آمل أن تصير حصاناً، لأن الأمل له أسبابه وعلله ومبرراته، تكمن “خميرته” به، وأنت لم تكن بك “خميرة” هذا الأمل أبداً، لكن مادمت تصر على أن تبقى حماراً فلن ينجح أحد في تغييرك…. فاطمئن ونم قرير العين يا ولدي، واحمد الله على ما أنت عليه، الله، الذي لا يحمد على مكروه سواه…

سكتت أمي هُنيهة، لكنها سرعان ما سألتني:

ـ وهل ستغزو سوريا لوحدها أم مع “إخوتها الإسرائيليين”؟

لم أفهم ماذا قصدت ب”إخوتها الإسرائيليين”، لكنني قلت مُتهكماً:

ـ مثل هذه المشيخة هي “أم المشايخ”، ولا تحتاج لا إلى “إسرائيل” ولا إلى أمريكا…

قالت، بعد أن تنهدت طويلاً، وكأنها تخشى نفاذ كومة الهواء التي تحيط بأنفها:

ـ طبعاً يابني، فمثل مشايخنا لن تجد أبداً، فهي ومثيلاتها،  لا يحتاجون لأحد ليأمرهم أو يدعمهم ليبدأوا غزواتهم، فالدول المستقله مثلهم لا يسمحون لأحد بالتدخل في شئونهم ولو بنصيحة، لكنني أتساءل إن كانت جحافل النعاج قد بدأت بالوصول أم تاهت في الطريق؟

تساءلت بغضب وقلت:

ـ نعاج؟ عن أي نعاج تتحدثين؟ جيوش جرارة لدى هؤلاء الزعماء وليس نعاجا…

فقالت مبتسمة مذكرة بكلمات رئيس الوزراء السابق:

ـ لست أنا من قال ذلك، إنه “حمد الأصغر”، ألم يقل أنهم دولة صغيرة “وأنهم نعاج”؟ عندما كان الحديث عن الحرب مع “إسرائيل” كانوا نعاحاً، ولما تحالفوا مع اسرائيل ضد سوريا صاروا أسوداً؟ هؤلاء لا يستطيعون أن يكونوا أسوداً مهما فعلوا يابني، النذل نذل ياولدي حتى لو ملك المال أو القوة أو حتى الإثنتين معاً، لكن سؤالي كيف يمكن للنعجة الحرب؟ تظل النعجة نعجة مهما كبرت أو تضخمت، ويظل مصيرها الذبح.

وتابعت بعد أن سكتت للحظات:

ـ حتى أنه خاف أن يقول أنهم “كباش”، لأن الكباش “تنطح أحياناً”، ومع حليفهم غير مسموح لهم لا “النطاح” ولا البطاح…

قلت غير مقتنع ولا مصدق لكلمات أمي، فهي تبالغ كثيراً لتثبت وجهة نظرها، وهل أكثر دلالة في وصفها لي بأنني ما زلت حماراً، وأنني لم أخطُ تلك الخطوة التي توصلني لدرجة البغل؟ فقلت:

ـ لو لم يكونوا دولة ذات شأن، هل كان يمكن لأمريكا واسرائيل التحالف معها؟

قالت بشكل حاسم حازم:

ـ ليسوا حلفاءهم يابني، إنهم كلابهم…

غضبت وقاطعتها قاءلاً:

ـ إنهم حلفاؤهم وليسوا كلابهم…

فالت بهدوئها الذي لم أرث شيئاً منه:

ـ بل كلابهم…

ـ بل حلفاؤهم…

ـ بل كلابهم…

فقلت بعد أن أخذ مني الغضب ما أخذه:

ـ حتى لو كانوا كلابهم، ف”كلب الشيخ شيخ”….

نظرت مباشرة في قاع عيني، صعدت بعينيها الى حدود السماء، تمتمت بكلمات لم أفهمها، وأثناء مغادرتها، ربتت على كتف زوجتي، وقالت:

ـ أعانك الله يابنيتي… أعانك الله…

وخرجت ممسكة بذراع أبي مستندة عليه…

محمد النجار

ب”التركي” الفصيح…

إستحضر الرئيس التركي أردوغان السيد خالد مشعل لأنقرة، أبلغه بما أتمّه من صفقة مع الكيان الصهيوني، نصحه، كما ذكرت بعض وسائل الإعلام، باللقاء مع رئيس الموساد، ورغم تأكيد البعض بوقوع الإتصال، إلا أن هذا بعيدا عن موضوعنا، فأردوغان الذي لم تنقطع علاقاته يوماً واحداً مع الكيان العبري، ولا مع اللوبي اليهودي في بلاد العم سام، وكان التاجر “الشاطر” والرابح الأكبر لبيع نفط سوريا والعراق للكيان العبري، بشركات أولاده وصهره، وقبض الثمن على كل “رأس” من الإرهابيين الذين ادخلهم لتدمير سوريا والعراق، كما وثمن كل قطعة سلاح أو آلية أدخلها لهما، وتطور في عهده التبادل التجاري مع “إسرائيل”إلى حوالي ثلاث أضعاف ما كان عليه قبل وصوله للسلطة، رغم كل الضجة والضجيج والمزايدات على القضية الفلسطينية، “ورغم أن تدمير سوريا والعراق بالتأكيد ليس في صالح القضية الفلسطينية”، التي طالما تغنى بها أردوغان نفسه.

والإخوان المسلمون ،كعادتهم، لم يحتجوا ولو بكلمة واحدة على محاولات أردوغان، على مدى عمر الأزمة السورية، اقتطاع الشمال السوري ليلحقه بتركيا، ولا لمطالباته الوقحة بالموصل ليصير جزءا من تركيا، وبالمقابل لم يتذكروا يوماً إغتصاب تركيا للواء الإسكندرون السوري، الذي ضموه لتركيا بالإتفاق مع بريطانيا، عند تقاسم “الغنائم” المحتلة سابقاً من الدولة العثمانية… لكن كل هذا بعيد عن موضوعنا.

وما أن عرف جماعة الإخوان المسلمين بأمر الصفقة، حتى قبل أن يعرفوا تفاصيل ملحقاتها السرية، ورغم أن “بطلهم” أردوغان تنازل عن قَسَمِه ووعوده بما يخص رفع الحصار عن قطاع غزة، إلّا أنهم انبروا للدفاع عن “إمامهم” ب”الباع والذراع”، لدرجة شبهه البعض منهم بالرسول الذي قام بصلح الحديبية، وأن صفقته تخدم الإسلام والمسلمين، وتخدم القضية الفلسطينية حتى وإن بدى غير ذلك، ومن جديد وكعادتهم، يوظفون الدين لخدمة تبرير أفعالهم المشينة، بدلاً من سياسة النقد والنقد الذاتي التي يمارسها معظم الأحزاب السياسية بغض النظر عن توجهاتها وعقائدها، لكنهم وكونهم ينظرون لأنفسهم كوكلاء “حصريون” لله على الأرض، لا يحق لأحد منازعتهم عليها، وربما لا يحق للخالق نفسه إلغاء هذه الوكالة! فإن إعترافهم بالأخطاء ينزلهم في نظر معظم “القطيع” الذي يصدقهم، من المنزلة “الربوبية” إلى المنزلة “الطينية” التي يتشكل البشر منها، فيظهروا على حقيقتهم، التي ليس لها علاقة لا بالآلهة، ولا بالبشر في أحيان كثيرة. لكن كل هذا بعيد عن موضوعنا أيضاً.

لم تتوقف نرجسية أردوغان يوماً حتى وهو في قمة ذُله، وبدلاً من أن يفسر أويبرر سبب خضوعه وخنوعه للكيان الصهيوني الغاصب،  فأخذ يخاطب، متوعداً، الذين أشرفوا على سفينة مرمرة، صارخاً “مَنْ الذي سمح لكم لتفعلوا ذلك؟ هل أخذتم الإذن لتقوموا بذلك؟”، يعني جعل الضحايا من المناضلين هم المذنبون، حتى لوكانوا أتراكاً ومنهم الشهداء والجرحى !!! ولم نلحظ أيضاً أي تعليق على هذا الأمر من كل جماعة الإخوان المسلمين، وكأن شيئا لم يحصل ولم يُقال، وقبل ذلك، قام أردوغان “صاغراً”، بالإعتذار عن إسقاطه الطائرة الروسية، ووعد بأشياء كثيرة “خصمه” الروسي، رغم كل جعجعته ورفضه الإعتذار طوال الفترة الماضية، وأيضاً لم نسمع لو مجرد نقد أو عتاب من كل زعامات الإخوان المسلمين في كل الأقطار التي يتواجدون فيها، لكن هذا أيضاً بعيد عن جوهر موضوعنا.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ماذا لو جاء “أو سيجيء” في الإنتخابات حزباً آخر بقيادة أخرى غير قيادة الإخوان في تركيا، وقام “أو سيقوم”بما قام به أردوغان، يعني، إعتذر للروس باسم تركيا عن اسقاط طائرتهم وقتل طيارهم، وعقد الصفقة المخزية مع الكيان الصهيوني، وتنازل عن رفع الحصار عن غزة، ورفض تنفيذ سياسة أمريكا وحلف الناتو في المنطقة، من سياسة تقسيم سوريا والعراق، ألا يصبح في نظرهم وإعلامهم وتنظيراتهم أنه دكتاتوراً وفاسداً، ما دام ليس من “قبيلة” الإخوان، وسيتذكرون فجأة لواء الإسكندرون المحتل من تركيا؟!!! تماماً كما يفعلون مع إيران بعد سقوط الشاه الذي كانوا يلعقون قدميه صبحة وأصيلا، وربما لم تكن إيران “شيعية”في عهده؟!!! لكن هذا بعيد عن موضوعنا أيضاً.

صدرت، قبل أيام من توقيع الصفقة الأردوغانية ـ الصهيونية، تصريحات متتالية، لأكثر من مسؤول من قيادة  الإخوان المسلمين، فرع فلسطين”حماس”، سواء داخل غزة أو خارجها، بالإطراء على طهران، واصفينها بأنها الداعم الحقيقي للمقاومة، تسليحياً ومالياً، نفس الشخوص الذين طالما امتدحوا قطر وآل سعود والسودان و…إلخ، متجاهلين دور إيران حضورها الدائم بشكل متعمد، منكرين ومستكثرين تصريحات “مناضلي القسام”، حينها، الذين لطالما أعطو إيران حقها في هذا المجال، وتساءلت مثل الكثيرين، مع نفسي، لماذا تأكيد المؤكد هذا، لماذا الآن وفي هذا الوقت بالذات؟ ورأيتني أحيل أسباب ذلك لعدة أسباب منها:

  • أن هؤلاء أرادوا الضغط بطريقة فاشلة على قادة الكيان، بأنه إن لم يتنازل بشيء ما لأردوغان، فإنهم سيتجهون إلى إيران، يعني إحفظي يا”إسرائيل” ماء الوجه لقائد العثمانية الجديدة أردوغان، كي نبقى تحت إبطه، وإلا فإنكِ تجبريننا للتوجه إلى عدوك اللدود إيران.

*أمر آخر ربما يكون وراء ذلك، هو أن قيادة الحركة تعرف جيداً أن إيران ، وبعد موقفهم، من سوريا واليمن وتحريضاتهم المذهبية والطائفية في فلسطين، ربما جعل إيران تدعم القوى الأكثر جذرية في الساحة الفلسطينية، على حساب دعمهم، الذي لم ينقطع أبداً ولكنه، ربما، تراجع قليلاً، الأمر الذي قد يطيح بزعامتهم من القطاع، فكما تقول بعض المصادر، أن إيران دعمتهم بثلاثمائة مليون دولار في ثلاث سنين فقط، يعني لو إمتلكها أي حزب أو تنظيم آخر سيجعل لديه جيشاً جراراً، وسيفرض قوته على الأرض دون كثير من الجهد.

  • الأمر الآخر الذي يجعلهم يتنافسون في هذا المديح، أنه وبعد الرفض المتزايد لبقاء خالد مشعل في منصبه على رأس المكتب السياسي لحماس، وتتزايد المطالبة في تغييره في مؤتمرهم القادم، فإن الكثيرين يريدون الوصول لهذا المنصب، وكون “القساميون” لهم وزنهم وكلمتهم، فمن يريد تبوء هذا المنصب عليه أن يقدم أوراق إعتماده لهم أولاً وقبل أي شيء آخر، وهؤلاء الذين رفعوا إسم حماس عالياً، ولولاهم لظلت الحركة لا تعدو عن فرع للإخوان المسلمين في أي بلد آخر، لا بل هؤلاء القساميون هم النقطة المضيئة الوحيدة في تاريخ حركة الإخوان المسلمين في العالم كله، وعلى المتبارزين في سباق رئاسة الحركة، تقديم ما يُرضي هؤلاء، مرحلياً على الأقل، لأنهم “الإخوان” كصاحبهم وقائدهم أردوغان، سيفعلون ما يريدون ويتغيرون ويتبدلون ما أن تنتهي الإنتخابات… لكن هذا بعيد عن موضوعنا أيضاً.

إذن ما هو الموضوع، ما دام كل ما سبق بعيداً عنه؟ الأمر بإختصار شديد، أن قيادة الإخوان تعرف أردوغان جيداً، فهو منهم وإليهم، مثلهم تماماً، حرباء تُغير لون جلدها كلما غيرت مكانها، يعني “إذا الريح مالت مال حيث تميل”، كما قال الشاعر الإمام الشافعي، وهم يتناسون الشطر الأول من البيت ” لا خير في ود إمرء متلونٍ”، لأنهم كلهم متلونون بكل ألوان الطيف، وكلهم لو كانوا مكانه لفعلوا الأمر نفسه، فهم لا ذمة ولا ضمير ولا موقف واحد ثابت من شيء، لا موقف مبدئي إلا إذا خدم مصالحهم، والوطن لا يعدو أرضاً من أرض الله لا أكثر ولا أقل، أهميتها في كونها بقرة حلوب لمصالحهم ومشاريعهم، وكله بالطبع بشعارات الدين والقرآن والسنة، ففي اليمن كانوا مع علي عبدالله صالح حتى قامت الثورة، فتحولوا لهادي حتى سقط، وكانوا كلما توصلوا لإتفاق مع أنصار الله وباقي قوى اليمن، ولوح لهم آل سعود بالريال تراجعوا عما وقعوا عليه. وها هم يؤيدون عدوان آل سعود على شعبهم وتاريخ اليمن وحضارته. وفي مصر عقدوا صفقة مع السادات لضرب قوى اليسار، ثم تحالفوا مع مبارك ورفضوا المشاركة في الثورة حتى قبل سقوطه بأيام، ثم عقدوا صفقة الحكم مع العسكر، الذين عادوا لينقلبوا عليهم بمساندة شعبية “قرفت” منهم ومن أفعالهم في مدة لم تتجاوز عام واحد فقط، رغم كل الشعارات الدينية لشعب مؤمن بفطرته و70% منه أمياً وتحت خط الفقر المدقع، فما بالك لو كانت نسبة الجهل تقارب الصفر كما كانت في عهد المرحوم عبد الناصر؟!!! كذلك الحال، شكل لنا خالد مشعل عصابة”أكناف بيت المقدس” في مخيم اليرموك، واستحضر لنا جبهة النصرة التي استحضرت بالمال الدواعش، ليقتلع شعبنا من أكبر تجمع فلسطيني، رمز “حق العودة” ويدمروه على رأس قاطنيه، ليعيدوا تهجير من نجا من سكانه في بلاد العالم باسم الدين، والمخيم الذي ناهز ال180 ألفاً، لم يعد به ثمانية آلاف، بعد ما قدمت لهم، على وجه التحديد، سوريا من دعم غير محدود…. والأمثلة على ذلك كثيرة منذ نشأتهم بقرار من “بريطانيا العظمى”حتى هذه الساعة، فهم لم يكونوا يوماً إلّا في صف الثورة المضادة، لم يكونوا يوماً واحداً في صفوف شعبهم أم معه، وكل ذلك مبررا بالدين والشريعة وبإسمهما. لذا نقولها بالصوت العالي، وب”التركي” الفصيح، ما دام “هيدا العربي ما بفيد”كما قال الفنان الكبير زياد رحباني، أنكم ورغم كل نفاقكم، واستخدامكم الإنتهازي للدين، وبعد تدميركم لأوطاننا ولأوطان غيرنا أيضاً، وبعد تهجيركم مسيحيي شعبنا العربي، ومسلميه خاصة “السنة” منهم ،والذين تدّعون الإنتساب إليهم، وقتلهم في البيوت والطرقات والصحاري، وبعد سبي نسائنا من غير ديانة، واغتصاب “السنيات منهن” بمسمى جهاد نكاحكم، حتى للأب مع إبنته ياقذارات الأرض، ووليتم علينا العثمانية الجديدة دون استشارة من الشعب أو حتى استمتزاجه، رغم أن العثمانية القديمة هي مَنْ أوصتنا إلى أذيال الأمة بعد أن كنا في طليعتها، واُخرجوا من بلادنا تاركين شعبنا أسوأ من الزمن الذي دخلوا به واحتلوه، يعني أسوأ مما كنا عليه قبل أربعمائة عام!!!، هذا بعد أن نهبوا ثروات بلادنا وخيراته، وأخذوا رجالنا وقوداً لحروبهم مع شعوب العالم، وأخذوا أطفالنا كجنود للمستقبل، ودمروا حضارتنا وأقاموا المجازر ضد شعبنا وشعوب الكثير من العالم، وغادرونا بعد أن سلموا بلادنا للإستعمار الجديد، وبعد أربعة قرون لم يبنوا فيها جامعة ولم يقيموا مشفى، ولم يعبدوا طريقاً ولم يحفروا بئراً. وها أنتم ما زلتم تنتجون كل الحثالات البشرية من أكلة لحوم البشر وقلوب الناس، وقاتلي أبناءنا الأسرى ومنكلين بهم، تماماً كما فعل الصهاينة في فلسطين، ووزعتم دماءنا في كل بقاع الأرض، من أفغانستان إلى باريس إلى اليمن والصومال، لكننا لم نسمع عن صولات وجولات لكم مع الصهاينة في فلسطين منذ قرن كامل.

وأخيراً، وليس آخراً، لماذا لم نرَ الإحتفالات بيوم القدس، نعم القدس التي تقع في فلسطين وتحوي المسجد الأقصى إن كنتم ما زلتم تتذكرون، إلا في الدول “الشيعية” ومن ال”الشيعة” عرباً وفرساً، كما في تونس المعادية لمشروعكم الإخواني، وفي سوريا والعراق واليمن الذي تدمرون، ولم نرَ ولو مظاهرة واحدة في بلدانكم “السنية” الداعمة للقتل في بلادنا، من دويلات الخليج أو مملكة آل سعود، أو تركيا قائدة “التدمير” في بلادنا “الكافرة”؟ !!! أم أن القدس والأقصى يتبعون “الشيعة” وليس “السنة”؟!!! كي لا نقول لماذا لم تدعموا الشعب بالمال والسلاح بربع ما دعمتم الحثالات البشرية التي تُقتل بشعبنا وتدمر أوطاننا؟ وكما تدعمون القتلة في سوريا والعراق وتونس والجزائر ومصر واليمن و….و…و….

نقولها بكل وضوح، أن نهايتكم السياسية تلوح في الأفق، فالشعوب لن تسامحكم عما فعلتموه وما زلتم بأموال النفط المنهوبة من قِبل آل سعود، قسمتم بلادنا إلى “سنة وشيعة وعلويين ودروز و…و… من الملل والمذاهب والطوائف، وإلى أديان من “مسيحيين ومسلمين” وقوميات”عرب وأكراد”، وقتلتم الجميع بما فيه من تدعون أنكم إليهم تنتمون، فالقطيع بعد أن بدأت تتضح له الرؤيا لن يظل، على الأقل، كله قطيعاً، فمرحلتكم في أفول ومستقبل شعبنا تبنيه الدماء التي هدرتموها على مدى السنوات الماضية، وبالسواعد التي ما تزال تدافع عن الوطن العربي في وجه حثالاتكم البشرية … إنكم نسيتم  أو لا تعلمون، كونكم لا تقرأون ولا تعرفون تاريخ شعبنا العربي، أن طائر الفنيق ،كلما إحترق، يقوم من تحت الرماد، وطائرنا بدأ يتململ ويحرك أجنحته لينطلق محلقاً في السماء من جديد.

محمد النجار

“قوة الرئيس في ضعفه”…

جاءني الكهل أبو عمر مُجَدداً، حاملاً بيده، كعادته، لعبة صغيرة لإبنتي، وجريدة لم أعد أذكر إسمها، رماها أمامي على الطاولة وهو يضحك بدموع مدرارة، لم أدرك حينها أبسبب الفرحة الكبيرة أم الحزن اللامتناهي، فأزحت الجريدة جانباً من أمامي، وشكرته على هديته، وأصغيت لما يريد قوله، غير مدرك أن الجزء الأساس فيما يريد قوله ينام متمددا في بطن “جريدته” تلك، ولما رآني أزحتها جانباً، أوقف ينبوع ضحكاته وأبقى على دموعه تتسايق للوصول إلى تجاعيد وجهه، قبل أن يُوزّعها على مساحة وجهه بظاهر يده، وقال وكأنه جاء مُصادفة فقط، وليس خصيصاً ليراني، ويُروّح قليلاً عن نفسه:

ـ ما هي آخر الأخبار يا أستاذ؟

تربطني بهذا الكهل علاقة غريبة نوعاً ما، فلا صلة قرابة بيننا ولا صداقة ربطتني، في سابق الأيام، مع أولاده الذين هم بمثل سني ومن جيلي، ولست من مخيمه القابع على مدخل المدينة لإستقبال كل قادم وزائر إليها، وكل ما في الأمر أننا إلتقينا مرة واحدة، واحدة فقط، في زيارة لأحد السجون، هو لزيارة حفيده الشاب وأنا لزيارة أخي، تجالسنا في مقعدين متجاورين في باص الصليب، دردشنا في أمور شتى، في السياسة، في أمور الناس المعيشية، في ظروف وحاجات الأسرى وهمومهم، وكان أكثر ما شرح صدره حينها، كما أذكر، تلك الإرادة “الهائلة”، كما سمّاها، لبناتنا ونسائنا، اللواتي يُهربن السائل المنوي من رجالهن لينتصرن على مشروعهم القاتل، بمشروعنا الحياتي الإنساني، وهن ، كما قال، يستطعن الإنفصال والزواج والإنجاب، بعيداً عن كل هذه الهموم، دون أن يخشين لائمة أو عتاب، ولما قلت له “أنها االإرادة والتحدي التي طالما إنتصرت على القمع والقهر وكل مشاريع الموت، التي تنتهجها “هذه الدولة” ودول العرب جميعها”، نظر إليّ مستغرباً بعض الشيء وقال: “إنه الإخلاص والأصالة قبل ذلك كله”، ثم التقط جرعة هواء وأضاف: ” إنهما الأصل في كل ذلك، لولاهما لما كان ما ذكرت أبداً”.

وسرعان ما إلتقينا بعدها في المدينة، وكنت قادماً لمكتبي الهندسي، ولا أعرف ما الذي إستحضره في تلك اللحظة بالذات، وما أن رأيته حتى توجهت إليه ودعوته لمكتبي ليشرب شيئاً، فهو من الكهول الذين لا تملّ أبداً من الجلوس معه، ولا يغادرك ولو مرة واحدة دون أن يترك أثراً أو بصمة، كما أنه من القلائل الذين لا يمكنك نسيانهم بسهولة.

وقبل دعوتي شاكراً “لطفي”، وكانت دعوتي تلك جسرا يربط بيننا، وصارت أحاديثنا تُمتّن هذه العلاقة وتقوي الجسر، بعد أن تكررت زياراته لي بشكل متباعد، وفي كل مرة كان يحمل شيئاً ليخبرني به، كما لعبة صغيرة لإبنتي مها، التي أخبرته عنها وعن عمرها في لقائنا الأول… ولم يأت يوماً لمكتبي بيدٍ فارغةٍ أبداً.

قلت وقد مددت يدي بكأس عصيرٍ أمامه:

ـ الأخبار كثيرة يا أبا عمر، ولا أدري كيف يحتملها الناس؟!!!

فقال مؤكداً قولي:

ـ صدقت والله يا أستاذ، كيف يحتملها الناس فعلاً؟!!! إن كل ما فعلوه لم يريدوا منه سوى خلق حفنة من المرتزقة المسحجين للرئيس وحاشيته، وشعب من البُلداء وغير المبالين، الذين لا يعرفون أكثر من “شعار” اللهم نفسي، ونجحوا في الأولى كما ترى، لكنهم فشلوا في الثانية وإن بدا أحياناً أن الناس مُحبطين… أم بماذا يمكن أن تُسمي تصريح الرئيس بأن” مُنفذ عملية تل أبيب إرهابياً ويجب إعدامه”؟!!!، هذا الكلام لم يقله الرئيس عن أي مجرم منهم، ولم يطالب يوماً بإعدام من أحرقوا أطفالنا ولا من قتلوا نساءنا وأولادنا… وتجد المرتزقة والطفيليين يسحجون ويكررون كالببغاوات ما يقول، ويبررون أقاويله ويفسرونها ويشرحونها وكأنهم يفسرون “القرآن الكريم”، معتقدين أن الشعب سيبتلع تفاهاتهم ويظل بالعاً لسانه ومقيداً يديه إلى الأبد.

كعادته، إبتدأ أبو عمر الحديث مباشرة ودون مراوغة، فهو، كما بدا لي، لم يتجنب يوماً قول الحقيقة مهما بدت قاسية ومهما كان ارتدادها عليه سلباً، وإلا كيف يمكنك تفسير أن إنساناً يُعتقل إدارياً في مثل سنه؟!!! وأكمل وكأنه لم ينهِ حديثه بعد:

ـ وها هو نفسه يبعث مندوباً عن منظمة التحرير بجانب مندوب عن “الجيش الحر” وبعض الدول العربية، للمشاركة في “مؤتمر هرتسيليا للمناعة القومية” الصهيوني، يبعث أو يؤيد أو يتغاضى، لا فرق، عضو لجنة تنفيذية للمنظمة، أتتخيل ذلك يا أستاذ؟ منذ متى “المناعة القومية للصهاينة كانت مفيدة لفلسطين والفلسطينيين؟!!!

وسرعان ما ابتدأت تتسع فتحة فمه وتظهر عدة أسنان متباعدة في فمه، لتلد ضحكة مصاحبة لبضع دموع من عينيه مجدداً، وقال:

ـ منظمة التحرير؟!!! أما زالت تُدعى كذلك يا أستاذ؟ ألم يُغيروا إسمها بعد؟!!! قال التحرير قال!!!

سكت قليلاً وأطلق ضحكة جديدة وزخة دموع، وأكمل متهكماً:

ـ منظمة التحرير والجيش الحر!!! كلاهما حراً وللتحرير… أرأيت المصادفة يا أستاذ؟!!!

قلت عندما أبعد دموع عينيه وأوقف ضحكته:

ـ لكن الرئيس إحتج على تصريحات حاخاماتهم ودعوتهم “لتسميم” مياه الفلسطينيين…

فقال وكأنه يحتج على كلامي:

ـ وهل المطلوب أن يسكت على ذلك أيضاً؟ السؤال الصحيح ياأستاذ، لماذا لم يقدم شكوى للمؤسسات الدولية لحقوق الإنسان بسبب ذلك وغيره أيضاً، أليس ذلك “أضعف الإيمان”؟ فبالنسبة لهم إن إحتج الرئيس أو لم يحتج، إن قال أو لم يقل، فالأمر سيّان، يعني كما قال المأثور الشعبي” قروا أبناء يعبد والّا لعمرهم قرروا”، الأمر ليس في القول أو الإحتجاج، هل رأيت يوماً طريق عودة مرصوفاً بالكلمات؟ السواعد هي الأساس ياأستاذ، مهما كانت هذه الكلمات منمقة أو ملونة أو جميلة!!!

سكتنا قبل أن يرتشف شيئاً من كأس العصير الذي ظل واقفاً أمامه مثل صنم، وسألني وكأنه يريد أن يفتح باباً لتعليقاته أكثر من محاولات معرفة الخبر:

ـ ماذا جرى في مؤتمرهم ذاك؟

فقلت فاسحاً له المجال ليعلق كما يريد، ربما تقديراً لسني عمره أو لإعجابي بتعليقاته:

ـ “كبيرهم كيسنجر”مذعور على مستقبل إسرائيل، خاصة بعد أن صارت يد “حزب الله” تُناطح مخرزهم وتنتصر عليه أيضاً، ورغم كل جبروتهم لا يستطيعون كسرها…

فقال مباشرة ودون تردد:

ـ ليبقى مذعوراً إذن، وما دام هذا مذعور، عليهم أن يقلقوا فعلاً بشأن مستقبل دولتهم…. وماذا أيضاً ياأستاذ؟

ـ يقول قادتهم أنهم لن يسمحوا للجيش السوري بالإنتصار على الدواعش والقاعدة في سوريا، فهؤلاء لم يفعلوا شيئاً ضد إسرائيل، ولن يستبدلونهم بإيران وحزب الله كما يقولون…

قلت مكملاً ما بدأته، وانتظرت تعليقاته من جديد:

ـ طبعاً يا أستاذ، أم لماذا تعتقد أن أمريكا تحاول إدراج “جبهة النصرة، تنظيم القاعدة في بلاد الشام، ضمن ما تُسميهم التنظيمات المعتدلة؟ ولماذا كل هذا التدفق بالسلاح النوعي والآلاف من المرتزقة والأموال من آل سعود والحدود التركية المفتوحة، في الوفت الذي يُحاولون فيه تجفيف كل منابع حزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية،  المالية والتسليحية ؟ ولماذا التدريب والعلاج من “إسرائيل”وفيها؟ أم أنك تعتقد ان كل ذلك عملاً خيّراً؟ هؤلاء لم يكونوا يوماً جمعيات خيرية، إنهم قساة الأرض ومجرموها، لكن ما داموا يعلنون ذلك على الملأ، هناك سببان ياأستاذ، أولهما كونهم لم يعودوا يحسبون حساباً لشعوبنا، معتقدين أنهم ليسوا أكثر من قطيع غنم أو ماعز، وهذا ما يؤلمني، لكنهم في نفس الوقت يستشعرون خطراً جدياً على مشروعهم التكفيري في المنطقة، الأمر الذي يعني أن في هذه الأمة بقايا رجال، تغرق على أبواب سواعدهم كل هذه الحثالات.

قال واقترب بالجريدة ووضعها أمامي مجدداً:

ـ أرأيت هذا يا أستاذ؟

أخذت الجريدة من يده، وبدأت أقرأ الخبر الذي كان يتصدر الجريدة، وكان يبدو مكتوباً من أحد “المسحجين” الذين شغلهم الشاغل “إستحمار” البشر ، ووضع أنفسهم في مكان المكتشفين أو الفلاسفة. وبإختصار شديد، كان الموضوع يتغنى بالرئيس، ليس من حيث طوله أو عرضه، ولا عن “عبقريته” في التوصل إلى إتفاق “أوسلو”، ولا “شطارته” وجمعه لكل ثروته، ولا عن عمله ليلاً نهاراً ليشكل كل هذه الشركات لأولاده وأحفاده وبكل رأس المال هذا …لا…لا … لا، بل كونه “أخطر رجل دبلوماسي على إسرائيل”!!! أتلاحظ معي؟ الأخطر دون جدال أو منافسة، فعلاقات إسرائيل “السيئة” مع أصدقائها بسبب حنكته!!! وتنازلاتهم للفلسطينيين دون أي مقابل بسبب سياسته!!! وتقهقر وضعها الأمني بسبب هذه السياسة أيضا!!!

شعرت وأنا أقرأ أننا نحن من ندخل مدنهم ونقتل أطفالهم، وأننا نحن من نصادر أراضيهم ونبني مكان زيتونهم “مستوطناتنا”، وأن أمريكا ودول الغرب الإستعمارية تضغط عليهم لإرضائنا، ولوهلة ظننت أن الرئيس أخطر من كل الفصائل المقاومة، وأنه أخطر من الصواريخ والمدافع والرصاص.

ونظرت إلى أبي عمر الذي كان، على ما يبدو، يتدارس تضاريس وجهي، وأخذت أبتسم، وتتسع إبتسامتي لتصبح ضحكة تتعالى، وسرعان ما التقت بضحكة أبو عمر، التي إنطلقت مجدداً مفجرة لحفنة دموع، سرعان ما أزاحها قبل أن تنزلق في الهاوية ما بين نهاية خديه وجسده الضعيف، وأوقف ضحكته فجأة وقال محدثني بحكاية من حكاياته، فقال لكن من نهاية القصة هذه المرة:

ـ كان الرجل يحدث زوجته عن معركته مع خصمه اللدود في الحارة، وعلائم الهزيمة على وجهه وجسده، لكنه لن يعترف لها بهزيمته فقال لها متباهياً متنافخاً:” تعاركنا… فلاحني ولحته… ومن شدة قوتي أصبحت تحته… وانظري لعروق رقبتي من كثر ما خنقته…”!!!

وقام أبو عمر مودعاً، وكان قد أوقف ينبوع ضحكاته لكنه لم يستطع أن يوقف نزيف دمعاته.

محمد النجار