عندما يستعيد الثلج لونه

استقبلني عامر، كعادته، في بيته إستقبالاً يفيض ترحاباً، كمن يرى إنساناً عزيزاً عليه بعد زمن من الإنقطاع والإشتياق، كيف لا ونحن الإثنان كنا رفاق درب وسجن وحزب ومسيرة مليئة بالمد والجزر والفرح والحزن، وكلانا حمى الآخر بكل ما فيه من قوة في زمن الزنازين المقاوم، عندما كانت الفكرة شعلة، والقابض على الفكرة قابض على الشعلة، التي حتماً ستصل لنهاياتها الظافرة، عندما كانت الفكرة شعلة وبرنامج عمل ومنارة تضيء الطريق، مبدأ لا مجال للتشكيك في الإيمان به، إنه القول الفصل والمذهب الذي لا يختلف عليه إثنان، عندما لم يكن للعذاب ولا الموت كبير إعتبار أمام الإصرار على نشر تلك المبادئ والأفكار.

وفرقتنا الطريق بعد أن جاء “أوسلو” محملاً على ظهور القيادة مربوطاً بجيدها مثل “رسن”، كما يحب أن يقول، إفترقنا عندما “شرعنت” قيادتنا بدورها الدخول لمؤسسات “السلطة” القيادية، ووجدت الكثير منها أماكن عمل لها بوظائف “مدراء” بفروعها المختلفة:”ا و ب و ج “، مبررة أنها ستعفي الحزب من إلتزاماته المالية نحوها، وارتفع صوته المندد بالخطوة، المحذر من الإنزلاق في نفق “أوسلو” بغض النظر عن التبريرات، متهماً من وافق على تلك الوظائف بأنهم في خطوتهم الأولى لخيانة الأمانة التي وضعها الناس في أعناقهم، وأن الأمر لا يعدو سوى الخطوة الأولى للمهادنة والدخول في القفص، فطعم المال يُغري بالمزيد، وقال:

ـ إن العبيد وحدهم الذين يدخلون القفص بأقدامهم، ومن دخل القفص يكون قد ودع الطيران إلى غير رجعة، ولن يعود قادراً على التحليق نحو السماء حتى إن حمل زوجاً من الأجنحة بحجم أجنحة طائر الفينيق، ثم ما فائدة الأجنحة إن لم تكن قادرة على حمل صاحبها فوق أجنحة الرياح ومطباته وطرقاته المُتعرجة بإتجاه  الشمس؟!!

وتابع بكل مافيه من غضب وقال:

ـ أنتم تجردوننا من أحلامنا، تدفنوها في مزابل التاريخ وخلف الزمن، إنكم تضللوننا وتخدعوننا عن سبق إصرار، فضوء القمر هذا الذي تشيرون نحوه خادع كاذب، ليس سوى إنعكاس لحظي عن الأصيل عند بعض لحظات غيابه، الأصل هو ضوء الشمس الذي تُغيِّبون وتتجاهلون.

ولمّا سأله البعض عن ماهية العمل في مثل هذه الظروف قال:

ـ “إن أبغض الحلال عند الله الطلاق”، لم يعد يربطنا بهم رابط، والمنظمة ثمنها دماء الشهداء وأنات الجرحى والأسرى، لم يرثوها عن آبائهم، إنها حق من لا يخون دماء الشهداء، إن كنتم ترون بأنفسكم أهلاً لذلك استعيدوها، وإلاّ فسيكون أي كلام أو احاديث مجرد كلام، لا يستحق التوقف عنده.

أجاب بعض القادة حينئذٍ مُتجنبين النظر في أعماق عينيه:

ـ الطلاق؟ إنه مجرد عمل، إنها حقوقنا من منظمة التحرير.

فقال وقد تشابك عنده الغضب مع العتب:

ـ ياحيف على الرجال ياحيف، أتستحمرونني وتستهينون بقدراتي العقلية إلى هذه الدرجة؟ عن أي منظمة تتحدثون؟ وهل بعد هذا تبقَّى شيء من منظمة التحرير؟ في أيام العز كانت قيادة المنظمة المهترئة الفاسدة المفسدة، تمنع حصصنا المالية عند كل منعطف، ولو لم تكن كذلك لما ركبت قطار “أوسلو” أصلاً، أتريدونها بعد هذه الردة وهذا الإنحدار أن تعطي للفصائل المعارضة حقوقها؟!!!

سكت قليلاً ثم أضاف:

ـ كي أسهل عليكم الأمر، أنا أوافق على أمر الوظائف ضمن قانونين اثنين، الأول أن يكون الأمر مؤقتاً بشهور عدة ولا تزيد عن سنة، ويتم تداوره بين الرفاق، كل بضعة شهور يُعطى لرفيق غير الذي كان، والثاني، أن يأخذ صاحب المنصب قدر التفرغ الحزبي فقط ويُحوِّل ما يزيد عن ذلك لمالية الحزب.

طبعاً لم يوافق أحد عل إقتراحه، فزاد نقده لهم، لنفس رفاقه الذين طالما حماهم داخل الزنازين وحموه، قال:

ـ إنها الخطوة الأولى لتبتلعوا ألسنتكم، ومن يبتلع لسانه سيلجم فعله لا محالة، ولن تُلعلع رصاصاته سوى في الأعراس.

وتابع حديثه المتلاحق في كل مناسبة:

ـ إنكم لن تجرؤوا على إصطياد عصفور، فما بالكم بجندي أو مستوطن؟!!! بل لن تجرؤوا على تأييد من يفعل ذلك، هذا إن لم تتبرأوا منه أصلاً، هذا هو ثمن الوظائف تلك، وأمام أي موقف ستقارنون بين الفرق في دخلكم وحياتكم الماضية والحاضرة، وستنحازون إلى الراحة والبذخ، وليس لسنوات المطاردة والسجون والمواجهة، إنها سنن الحياة التي إخترتمونها.

وارتفع صوته وعلا، وتراجع حضوره أو قَلَّ بينهم، وغاب أو غُيِّب لا فرق فالنتيجة واحدة، ثم انفصل أو فُصل أو لم يعد أحد يتصل به، سيّان، وقلنا أنه تساقط في الطريق، وبررنا بأن الطريق الطويل متعب وشاق، وليس كل من يسير به يصل لنهايته، وأن هذه سنن النضال والحياة، وأن من الناس من يتحول لذاتي بعد تعبه أو فشله لئلا يعترف بعجزه، والبعض يتحول لجزء من جمهور المتفرجين، وحللنا وتفلسفنا واخترعنا النظريات، وظل هو يُعتقل عند سلطة أوسلو بسبب “طول لسانه”، لكنه بدل أن يصمت تصاعدت إنتقاداته وعلا صوته، وظل يعلو ويعلو، وصرنا نحن رفاقه السابقين الأشد تعرضاً لإنتقاداته، نحن و”حلفاء إسرائيل الجدد” كما سمّاهم، الأمر الذي جعل الرفاق ينتدبونني لأضع له حداً، أو لأخجِّله، لأذكِّره بماضيه الذي يحاول تناسيه ورميه بعيداً خلف جدران الوهم التي تحوم في رأسه، وكأن ذاك الماضي ليس منه ولا هو من صنع يديه، في جزء يسيرٍ منه على الأقل، ولأقول له أن مَنْ لا ماضي له ليس له مستقبل تحت هذه الشمس.

أخذت أستعيد الماضي معه ونحن نحتسي شاينا “الباذخ” الغارق برائحة النعناع حتى حدود “البطر”، وصحني الزيت والزعتر أمامنا، نغمس بهما قطعاً من خبز الطابون ليصل الزيت حتى نهاية عقلة السبابة والوسطى والإبهام، ونسكب خلفه جرعات من الشاي المُحلّى، فطعم الزعتر وزيت الزيتون المجبول بحلاوة الشاي لا يضاهيها شيء في هذا العالم.

فصار يتحدث وكأنه يترنم بمعزوفة موسيقية، وقال وهو يلوك الطعام ويصوغ العبارات، مذكرني بتلك الفترة التي كدت أنساها:

  •           *          *

في تلك الليلة الخريفية الباردة، أمّنت ظهري لصخرة في بطن الجبل، وشددت السماء المرصّع بالنجوم، بعيني، لحافاً، لكنه لم يحمني من برد ليل أواخر الخريف، كانت من بين ثقوب النجوم تتسلل حبيبات الهواء الباردة وتتكاثف جداول من برد ينخر جسدي من كل الأماكن، ولم ينفعني معطفي الهزيل في التصدي لها، فصرت ألتَّف بجلدي منتظراً قدوم شمس الصباح، التي تأخرت كثيراً عن موعدها، كأنها تتآمر مع الليل على جسدي البارد، ولم تأتِ قط.

في تلك الليلة قررت أن لا أعود لحضن الجبل مرة أخرى قبل إختفاء البرد، مع يقيني أنه لن يفعل مادام الفصل القادم يقف متحفزاً بالمرصاد للدخول من كل الأماكن والأبواب والمساحات المشرعة دون رابط، لكن ليس للأمر علاقة بالرغبات، فالقرار كان واضحاً، كما تعلم، لا لبس فيه : ” لا تُسلِّموا أنفسكم للعدو كالخراف”، وفي نفس الرسالة :” الوطن بحاجة لكل الطاقات، لا تهدرونها في الزنازين وخلف القضبان”، فتوجب علي أن أجد البديل.

كنت أنت جديداً على الحزب، ولم تكن علاقتنا بهذا العمق، وكنت أنا قد أمضيت الكثير من الليالي موزعاً نفسي عند بعض الأصدقاء، فارضاً نفسي بشكل لا يخلو من بعض الوقاحة أحياناً، وأحياناً مستغلاً باب الصداقة أو طيبة الآخرين، لكنني في معظم الأحيان لم أمكث أكثر من ليلة أو بضع ليال، لأعود أسعى في مناكبها باحثاً عن مكان للمبيت، وفي مثل هذا الحال ينقضي الوقت في البحث ويغيب الوطن عن جدول الأعمال، فيصبح الأمر “وكأنك يابو زيد ما غزيت”، فما الأهمية لوجودي إن لم أكن قادراً على متابعة المهام؟ لكن حملة الإعتقالات الأخيرة تلك لم تُبق لدي الكثير من الخيارات.

منذ دخول الفصل البارد القادم من وراء البحار سماء البلاد، تغير وجه المدينة بالكامل، كانت الغيوم تأتي متكاثفة متجمعة، وسرعان ما تُبطئ المسير لتهيل ما في أحشائها من مياه، وما أن تصطدم ببرد الهواء حتى تتحول إلى ثلوج قطنية بيضاء، ثمار القطن الذي نضج بفعل حرارة الصيف الذي مضى تراها تتطاير في فضاء هذا الشتاء دون رياح، تتراقص متحررة من الغيم الداكن لتفترش مساحات الحقول، وما أن تجد لها مكاناً على سطح الأرض، حتى تبدأ بالتراكم ثمرة فوق أخرى، وتنمو وتكبر وتتسع مدى، حشائش بيضاء مترامية تغطي السهل كله، مخفية أسطح المنازل و العمارات والطرقات والسيارات المتوقفة على رصيف الشوارع في لحظات، تعتلي أغصان أشجار التين والزيتون، تغطي أشجار السرو واللوز والمشمش، وتظل السماء حبلى بالغيوم، والغيوم حبلى بالثلوج كما كانت قبل الولادة الأخيرة، مستعدة لإنجاب التوائم الثلجية المتعددة، مليئة كما جاءت، كأنما لم تكتفِ بما جادت، ولا تنوي المغادرة بعد، وأنا تحملني وتسير بي قدماي، مُهشِّمة وجه الثلج الأبيض المتراكم، غائصة به إلى ما فوق الرسغ، أسير لاهثاً كأنني في رمال الصحراء، ممتلئة قدماي بالثلج المتحول لمياه ثلجية ما أن تَتلامَس مع حرارة قدماي، ماشياً متنقلاً بين أطراف المدينة مبتعداً عن عيون دوريات الجيش، كي أجد لي لحافاً غير السماء.

كنت مطلوباً منذ مايزيد عن عام كامل، كان “جيش الدفاع” قد داهم مرات عدة كما في هذه المرة أيضاً، منزلي بعشرات الجنود، كأنه في معركة حامية الوطيس، حاصر البيت من كافة جوانبه قبل أن يقتحمه مفجراً بابه متعمداً زرع الرعب والخوف في البيت كله، ووسط صراخ أطفالي المرعوبين من الجند وصوت الإنفجار راح يكسر المقاعد والخزانة الواقفة بصمت بجانب الحائط، يمزق الفراش ويهيل مافي “البراد” من طعام، ومن باب الإحتياط، كان يسكب حليب طفلي الرضيع على الأرض، ليتأكد أن عبوة الحليب لا تُخفي قنابل أو رصاص أو متفجرات، والغريب، قالت زوجتي، أنه يفعل هذا الأمر بالحليب في كل مداهمة، وكأنه يؤكد كرهه للأطفال أو خوفه منهم، وربما يرى فيهم خطراً مستقبلياً يمسح كل ماضي كيانه وكل حاضره الفاشي، وكنت أنا قد أخذت إحتياطي وغبت عن الأنظار قبل ذلك بكثير، لأنهم يعتقلون كل شيء وأي شيء، فهم لا يستطيعون إستيعاب ولا فهم كيف يجرؤ هؤلاء “الأغيار” على التمرد عليهم هم الأسياد؟ ألم يخلق الله العالمين جميعاً لخدمتهم؟ ألم يُسخر البشر جميعاً لخدمة شعب “يهوه” المختار؟

تجمع البرد والثلج والضربات الأمنية المتتالية في أجواء المدينة وسائر الوطن، وسقىت دماء مصطفى العكاوي أرض الزنازين، فارتقى شهيداً إلى السماء، فبكت مدينة القدس حباً وورداً وقمحاً وحياة، فتحولت مدينة رام الله الوادعة الجميلة إلى مدينة غريبة لا يكاد يعرفها المرء، وصارت أسطح عماراتها عيوناً متلصصة على الطرقات بعد أن إغتصب الجنود أسطحها، وخلف عماراتها أشباح وكمائن صيد متنقلة من دوريات الجيش، وأضحت الشوارع البيضاء ملتبسة غامضة، والجنود المشاة إستغلوا فقر الشوارع بالمشاة ليوقفوا ما طاب لهم من أُناس متلذذين بتعذيبهم بدعوى الأمن، ومن مكان مسيري الحذر الموازي لشوارع مركز المدينة، كنت أرى دورية من الجيش، وقد أوقفت عائلة بدعوى التفتيش والتدقيق، فلعل الأب أو الأم أو أحد الطفلتين مطلوبون، فرادى أو جماعة، لقوات الأمن، وبعد أن جاء الرد بالنفي عبر جهاز اللاسلكي، طلبوا من الأب الشاب أن يعانق الأرض الغارقة بالثلج والماء المتجمد ويداه خلف ظهره، مرة على بطنه ومرة على ظهرة ليفتشوا جيوبه الأمامية والخلفية، فهم لا يستطيعون تفتيشه واقفاً، وبين المرتين دقائق تمر وبكاء طفلتين ما بين  الخامسة والثامنة لا ينقطع وجسد ممدد فوق الثلج مرتعش، من البرد أو الخوف ربما، أو الأمرين معاً، وتفكك لحبيبات الثلج لتتحول إلى ماء مثقل بالبرودة والمرض ينغرس سكاكيناً حادة في جسد الأب الراجف، فلم يعد ل” وجعلنا من الماء كل شيء حياً” مكان، وصار الماء عدواً قاتلاً دون جدال، وصار الجسد الممدد فوق الأرض يمتص الماء مجبراً، فيرتج ويرتجف كأوراق شجرة داهمتها رياح عاتية مباغتة ودون رحمة فانهالت متهاوية من علِ، قبل أن يُعيدوا له ولزوجته بطاقتيهما، ويسمحوا للعائلة بالمغادرة، وأنا أقف على حافة الخطر أُراكم الحقد في داخلي ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، أسناني تصطك مع بعضها البعض، والبرد ينخر عظامي ويلتهمها دون رحمة، فيصير السجن رحمة، ويصبح الإعتقال أمنية، والوصول إلى بيت الرفيق المتوجه أنا إليه، في تلك اللحظات بالذات، هدف سامي، والحلم بكوب من الشاي، حتى دون الزيت والزعتر وخبز الطابون، من مواصفات الجنة.

هذا الرفيق الذي كنت متوجهاً لبيته كان أنت، وإتفقنا في إجتماعنا، إنْ كنت مازلت تذكر، على مباغتة دوريات الجيش بقنابلنا البدائية الحارقة، وظلت تتزاحم بين جفون عينيّ دماء الشهيد مصطفى الطاهرة تسيل، وصورة الرجل الذي يرتجف برداً وعذاباً دون ذنب، وأصوات بكاء الطفلتين تسيل في أذني حديداً مصهوراً، وكانت تتراءى لي بصاطيرهم وهي تعبث تكسيراً في خزائن بيتي، وتداخل صوت بكاء الطفلتين الخائف ببكاء أطفالي المرعوب، وكدت أرى أيديهم تسكب حليب أطفالي فوق ركام البيت مستهزئة مستهينة منتشية، فبدى لي أن الزجاجة الحارقة يجب أن تكون قنبلة، وألقيتها فوق دورية الجيش المارة متسللة في ليل المدينة، وألقيت أنت زجاجتك أيضاً، وكنا نرى دورية الجيش تحترق، وبدى لي أن الجنود هم أنفسهم الذين قتلوا الشهيد في الزنازين، وهم الذين إقتحموا بيتي، وهم من عبث بأثاثه، وهم أنفسهم من أبكوا الطفلتين الصغيرتين وعذّبوا أبويهما، وهم الذين قتلوا عمي وأجبروا أبي عندما كان صبياً وبقية القرية الوادعة على مغادرة بيوتهم، وأنهم يتكررون نسخة كربونية لا تجديد فيها سوى في فن القتل والذبح والعنصرية المتأصلة، وكدت أظل أتفرج على النار المشتعلة فيها، وبدى لي أن الدفء صار يتدفق إلى جسدي، ولم تعد أسناني تصطك ببعضها برداً، وأن قدمي قد جفّا واختفى الورم والتضخم من أصابعهما، وبدى لي أن الثلج قد بدأ يستعيد بياضه ولونه، واستعاد حيويته فازداد ضرع الغيوم عطاءً، وكبر حجم ندفه وتكاثف ليشكل لنا باب حماية للإختفاء، وكان لون الثلج أبيضاً، لكن ليس ذلك الأبيض الذي خبرناه منذ مجيء أوسلو، لم يكن أبيضاً مُزيفاً، كان ناصع الوجه نقياً غير متسخ وغير مُشوّه، فعادت مدينة رام الله جميلة كما أعرفها، وعادت لها الحياة، واستعادت الأسواق المغلقة رونقها، والشوارع حركتها، والمساجد والكنائس رحيقها، فارتفع الآذان وقرع الأجراس عزفاً متلألئاً في الأجواء، وتداخلت أصوات الباعة وزعيق الأطفال، وتعالت أصوات العتابا والميجنا والدحية، وارتفعت الدلعونا وحضر “زريف الطول”، ومن مكان قريب هلّت “زفة” لعريس جديد، وتجمعن الصبايا في ليلة حناء لعروس واقفة على أبواب المدينة ماتزال تبتسم، وأمام وقوفي العبثي متفرجاً، كانت يدك تشدني وتهزني بعنف:

ـ هيا بسرعة، أتريدهم أن يقتلوننا؟

وغادرنا المكان وسط بكاء رصاصهم المتفجر خلفنا، تماماً في أعقابنا دون أن يصلنا أو تصيبنا شظاياه، وفي كل مكان واتجاه، واحتوتنا شوارع المدينة التي لم تعد غريبة، وغطت إنسحابنا كاملاً من المكان، وكأنها توجهنا إلى طرق الحقول، وكانت أصوات إعلانهم لمنع التجوال في المدينة المرافقة لأصوات الرصاص لم تهدأ بعد، ونحن نصعد الجبل مبتعدين عن المكان.

في ركن بعيد في ثنايا ذاكرتي وخباياها، استحضرت بعض كلمات أبي قبل أن يغادرنا مبكراً إلى ربه يقول:

ـ “إقضِ على البرد بالحركة، السكون هو الموت بعينه، ورؤية النار، حتى البعيدة منها، تجعلك تشعر بالدفء”.

  •            *            *

أعاد لي عامر بقصته ذكريات وشجون، قلت قاطعاً حبل ذكرياته المتدفقة نبعاً من عمق جبل:

ـ ليس هذا ما أتى بي إليك، إنه شيء آخر، لسانك السليط علينا، لماذا كل هذا الحقد؟ أفقدت كل احترام لهذا التاريخ الذي تستعيده.

انزلقت قطعة الخبز من بين أصابعه إلى صحن الزعتر، كفت أسنانه عن المضغ، سكت طويلاً قبل أن يسكب في فمه ما تبقى من كاسة شايه ليسهل لها طريق الوصول لمعدته وقال:

ـ الحقد؟!!! أنا أحقد عليكم؟وهل هناك من يحقد على نفسه؟ على أمله؟ ولماذا؟ ربما كان الأجدر بك أن تقول الحب وليس الحقد، فأنتم الأمل الأخير إن إستطعتم استئصال أوراكم السرطانية، إن أخرجتم المستفيدين الذين استطابوا الراحة في الزمن الصعب، إن إستطعتم العمل، كما سبق، تحت الأرض، كنا بإحتلال ونعمل سراً، فما بالك عندما صار للإحتلال أعواناً وعيوناً ومنسقين أمنيين؟!!! صار له أذرعاً طويلة تلاحق وتعتقل وتُخبر وترشد وتكمم الأفواه وتقتل؟ أرأيت قيادة وطنية تُحاكم شهيداً وأسيراً؟

سكت قليلاً وكاد يغتصب إبتسامة فخاف أن تبدو حمقاء كاذبة فعدل، وقال:

ـ قال المرحوم والدي:” أُحب من أبكاني وبكى علي وليس من أضحكني وضحك علي”.

قلت ومازلت مصراً على إيصال رسالة الرفاق له:

ـ على الأقل انتقدهم هم، هم الذين فرطوا وليس نحن.

قال:

ـ “الضرب في الميت حرام” كما تعلم، رغم أن لساني لم يستثنهم أبداً، لكن وكما تقول هم فرطوا لكن ما الذي فعلتموه أنتم؟ ماذا فعلتم لوقف هذا التفريط أو إستمراره في الربع قرن الأخير؟ إنكم صرتم “مؤدبين” أكثر مما يجب، لا أعلم أخوفاً عل جرح مشاعرهم أم للحفاظ على مصالح بعض أفراد القيادة؟!!!وفي الحالتين النتيجة واحدة، وأنتم، في مثل هذه الحال، لا تستحقون غير الشفقة.

كنا نتحث بلغتين مختلفتين، وكان قد أخرج من علبة سجائره واحدة وأشعلها، وتابع مفصلاً:

ـ هناك تفريط يومي لدى قيادات “أوسلو” كما تعرف، فلماذا معارضتكم خجولة هزيلة إلى هذه الدرجة؟ ثم ما هي العوامل المشتركة التي ظلت تجمعكم بهم؟ لماذا مازلتم متشبثين بمواقعكم في مؤسسات السلطة القيادية؟ ما سر هذا “الحب العذري” معهم؟ ألم تتعلموا بعد أن الذي يخجل من عروسته لا يُنجب أطفالاً؟ لماذا لا ترفعوا صوتكم عالياً في وجههم؟ لماذا لا ترفعون صوت أفعالكم أعلى في وجه مَنْ يخدمون؟ لماذا لم تؤدبوا ولو مرة واحدة مسؤولاً أمنياً ممن يُنسقون مع آل صهيون؟ من الذين يشون برفاقكم ويعتقلونهم ويعذبون؟ ما الذي جرى لكم؟ ألا تنظرون أين صرتم والى اين وصلتم؟ أرفضتم المشاركة في إنتخابات البلديات كي تتمسكون في مفرزات “أوسلو”؟ لماذا لم تُكملوا ما عاهدتم الناس عليه من تصعيد الموقف وعدم الوقوف عند مجرد رفض المشاركة في إنتخابات بلدية؟ ألا تعتقد أن ذلك هروباً للأمام وتغطية على عجزكم؟!!!

سحب من رأس سيجارته نفساً عميقاً، اقترب مني، وأطلق سهمين من عينيه لتخترقني وقال:

ـ ما فعل هؤلاء القادة المتمسكون بهذه العلاقة أمام إعتقال رفاقهم في سجون السلطة؟ ماذا فعلوا ليحمونهم من أجهزة أمنهم وسجونهم؟ أهذا هو الحزب أو الفصيل الذي كانوا يرتعدون منه ويحسبون له ألف حساب؟ أهذا هو الحزب الذي ظل على الدوام حامياً ومدافعاً عن الوطن والرفاق والناس والقضية؟

عدل من جلسته وتابع سحب الأنفاس من رأس سيجارته وقال:

ـ ترى مَنْ الذي عليه إعادة النظر في مفرداته الوطنية؟!!!

ودون مقدمات، وكأنه يريد الخروج من الموضوع أو الإبتعاد عنه، قال:

ـ لقد قاطعتني دون أن أكمل لك القصة.

وأكمل دون أن يسمع لي رداً:

ـ لقد كان هواء الجبل البارد نقياً، كان عطراً برائحة الميرمية والشيح والزعتر إن كنت مازلت تذكر، وكان يبتلع برده المتجمد كأنما يريد حمايتنا من مرض كامن في أزقة الهواء، يزيله ويخفيه بعيداً في أعماق الأرض، أو ينثره بعيداً فوق مساحات السحاب، وكان لون الجبل أبيضاً ناصعاً كأجنحة ملائكة الجنة، إستعاده الجبل بعد مرور سنوات على ذلك، لون أبيض لا علاقة له بالرايات البيض، تخاله يشبه الرايات الحمر في زمن الحرب، أو بلون حشائش الأرض الربيعية الخضراء الممتدة على طول السهول، وربما بلون الأرض الأسود الممدة على ظهرها بإنتظار الإخصاب، لكنها لا تتخصب من ثلج خصي مزيَّف اللون عاجز، بل من ثلوج ناصعة بيضاء استعادت لونها الأصيل الشامخ، مشرئب العنق مرفوع الجبين ويحتضن الجبل والسهل كله، كأنه يحميهما من رصاصهم المتطاير حقداً وعنفاً وانتقاماً وسفور، وظل يطاردنا ونحن نصعد عالياً عالياً من صخرة إلى أخرى، متسلقين السلاسل الحجرية محاذين أشجار الزيتون الراقصة بنا فرحاً، وحينه فقط أدركت طريقي إلى الدفء…. أأدركته أنت؟

قلت مغلوباً على أمري:

ـ يعني ما في فايدة؟

قال:

ـ بلى، عندما يستعيد الثلج لونه الأبيض، ويصير كالراية الحمراء وحشائش السهل الربيعية الخضراء ولون الأرض الأسود المستعدة للإخصاب.

محمد النجار

 

 

 

الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار

إن قتل القنصل… إعدموه

التقينا على فنجان من القهوة في بلاد بعيدة في الغربة، وصرنا نقلّب صفحات الماضي، كعادتنا في تلك البلدان، ربما من باب التملص أو رفع العتب عن الذات، لاننا لا نستطيع جلدها بشكل دائم، وربما من باب الشعور أن وراءنا ماض نعتز به، وربما نوعاً من الهروب للأمام بأننا كان لنا ماضٍ، وكنا ذات يوم مناضلين وكان لنا شأن…

لا أريد أن أقحم نفسي في الموضوع بهذا الشكل المباشر الفج، فأنا لم أكن مثل صديقي “كامل”، فهو من كان السجن بيته وليس أنا، وهو الذي كان يأكل “العصي” كما يقولون، ومثلي لم يستطع حتى عدّها، لكن لكل منا دوره في هذه الحياة، وأن تفعل شيئاً مهما كان بسيطاً، أفضل بكثير من أن تقيد يديك وتحملق في سقف الغرفة، وكما ترون أنا الذي أخط شيئاً من كلماته لتعرفونها، فهو يعتبر قصصه هذه لا تعني الشيء الكثير، ولكنني أراها تعني ولو القليل، ولهذا سأخطها كما هي، دون زيادات تجميلية، بل من باب أمانة النقل وليس فلسفته، قال لي:

ـ ربما لا تعرف والدي…لك أن تتخيل رجلاً عاش ما يقارب القرن، لكنه لم يُسئ يوماً لأحدٍ في حياته!!!لم يُغضب أحداً!!! كان يقسو علينا إن أسأنا بقدر حنو أب وعطف أم وحنانها ويزيد، ولا يستطيع فهم إنسان لديه قدرة على أن يُغضب أحداً ويكون قادراً على أن يغلق، في ظلمات الليل، عينيه وينام…

وتابع وهو ينظر في اللاشيء، وكأنه يرى والده أمامه:

ـ إنه إنسان بسيط، بسيط طيب إلى درجة السذاجة في عيون البعض، لكنه رجل حكيم في رأيي أنا، ربما لأنه والدي! وربما لأنني أُصنّف نفسي بسيطاً مثله، فأرى في كلماته حِكَمَاً، لذلك بالنسبة لي فالأمر لا يخضع لنقاش أو جدال…

كان الوقت عصراً عندما التقينا، والمقاهي في هذه البلدان مكتظة بالناس، والغيوم في هذا الوقت من السنة تكون منفلتة سارحة في فضاءات السماء مثل قطيع خراف، وصل لتوه من الصحراء الى حقول خضراء معشوشبة دون نهايات، فانطلق في كل الأماكن متبعثراً في أماكن متجمعاً في أخرى، متحركاً في كل الأماكن والإتجاهات على غير هدى، هدّه التعب لكن الجوع اكثر، فصار يقطع بأسنانه العشب مسرعاً متخوفاً من انتهائه قبل أن يسد جوعه، وكن النساء في المقهى يحتسين كاسات النبيذ أو الجعة وقد نزعن حِمْل الملابس الثقيل من فوق أذرعهن العارية أو نصف العارية، معلنات، دون ضجيج، عن درجات حرارة النهار المرتفعة في ذلك النهار الربيعي، الذي يسير، دون توقف، إلى نهايته الأكيدة، يقابلهن حبيباً أو صديقاً أو زوجاً أو رفيق، تعلو قليلاً أو تهبط ثرثراتهم، و”كامل” وأنا، نشرب القهوة على طاولة منزوية بعيدة في أقصى المقهى، وكلماته تنز من حلقه، ليقذف بها لسانه مباشرة في أذنيّ، وعقلي يسجلها بقلم مخبئ في ثناياه دون أن يراه “كامل” الذي ظل يتابع، عندما رآني أنظر إليه بإهتمام دون أن أقاطعه:

ـ كان المرحوم أبي يظل يحدثني عن “بيت عفّا”، قريتنا المنسية في جنوب فلسطين، مؤكد أنك لم تسمع بها، “تُحيط بها العديد من القرى والمدن الفلسطينية، مثل عراق السويدان وعبدس وبربرة وحمامة وجولس والسوافير والجلدية وبيت داراس، وكرتيا  وعشرات من القرى الأخرى، وكانت على مرمى العصا من المجدل والفالوجة، وأصوات الرصاص تُسمع من بعيد، والثوار يتجمعون ليدفعوا العصابات بعيداً عن أراضيهم، تلك العصابات التي أتت من بعيد بمساعدة الإنجليز، فلجأ الثوار لبيع “ذهبات” نسائهم ليشتروا حفنة رصاص أو بندقية عتيقة ما زال بها بقية حياة، فالناس كانوا مُوَحَدين متضامنين، قلوبهم على قلوب بعض”، قال والدي وأكمل:

ـ هل هناك ما يمكن أن يوحدهم أكثر من الدفاع عن قراهم؟!!!

قال “كامل” وتابع، و”أكمل والدي الحديث متأثراً بما سيقول، وكأن تأثير ما سيقوله يداهمه بشكل مسبق”:

ـ حاولوا اقتحام القرية أكثر من مرة، لكن الرجال يابني لا يُفرطون في شرفهم، وهل هناك شرف يطغى على شرف القرية؟ حتى عندما احتلوها من أيدي الثوار، حررها الرجال من جديد، ولما عادوا لإحتلالها بصعوبة كبيرة في المرة الثانية، حررها الرجال مرة أخرى، دفعوا مقابل ذلك دماً وأسرى ذبحتهم عصاباتهم كالخراف، كان يمكن تلخيص الرجل آنذاك بالجرأة، فمن لم يكن مقداماً مواجهاً شجاعاً لم يكن يُعد من بين صفوف الرجال، ولما عادوا واستقدموا المئات من رجال عصاباتهم وسلاحهم الجديد واحتلوها، حررها رجال مصر هذه المرة، رغم السلاح الفاسد الذي ورّدوه لهم، عندما كان المرحوم عبد الناصر يقود غرفة عملياته ويقاتل في المجدل، مُدركاً أن إحتلال فلسطين مقدمة لإحتلال مصر والعالم العربي كله، وأن فلسطين لم تكن أبداً الهدف الوحيد، بل هي العنوان الذي يُغطي الأهداف الحقيقية المُخبأة في أدراج السياسة، لذلك ظل يقاتل ويرفض الأوامر القادمة من خلف جدران القصور…

وكان والدي يتابع:

ـ كان لنا هناك بضعة دونمات يابني، وصيتكم بها، لا تتركونها في أيدي هؤلاء، عملنا أنا وجدك وشقينا لشرائها، سجلنا بعضها باسم أعمامك الذين كانوا صغاراً حينئذٍ، وسجلنا القليل منها باسمي واسم جدك، لم يكن أحد يفرق بين نفسه وبين أخيه أو عائلته…

ثم استدار بوجهه نحوي وكأن كلمات الملكية هذه لم تكن إلا مقدمة ضرورية لما سيقول:

ـ احفظ ما سأقوله لك…

وصار يُسمي لي المناطق التي اشترى منها، جعلني أسجل أسماء الناس الذي اشترى منهم، رغم أن بعضهم صاروا في “دنيا الحق”، وتابع:

ـ عليكم الرجوع إلى هناك، مهما كانت الصعوبة عليكم الرجوع، أعرف أن الطريق صعب وطويل، لكن “لا يحرث الأرض غير عجولها”، مدوا أياديكم واقتلعوهم من أرضنا، من لا أرض له لن يجد مكاناً لتقف عليه قدميه في هذا العالم، تظل وقفته خاوية ضعيفة معرضة لتطيح بها حفنة من رياح، تشبثوا بها واحضنوا أشجار المكان لئلاّ تنتزعكم العواصف، من لديه جذوراً سابحة في طيات التراب ليس من السهل إنتزاعه، وإن انتزعوه برعمت جذوره من جديد، أعرف انهم لم يُبقوا غير بضع شجرات من الجميز والصبار، وأنهم اقتلعوا البيوت وحدائق المنازل والعمران كله ، وأهالوا التراب في بئر الماء الوحيد بعد أن سمموا مياهه كي لا نعود، معتقدين أنهم مسحوا آثارنا، لكن تلك الشجيرات نحن من زرعها وسقاها وكبرها، هي شهادة لنا، فبصمات أيدينا مازالت على كل غصن ووريقة منها، لذلك يابني وصيتكم بيت عفّا…أتفهم بيت عفّا…لأننا سنبنيها من جديد…

فقلت له:

ـ كنت أعتقد أنك ستقول لي “وصيتك فلسطين يا أبي وليس بيت عفّا…”

لم أره يلبسه الغضب إلى هذه الدرجة، قال:

ـ وهل تكتمل فلسطين دون بيت عفّا ياولد؟ ألم أُعَلِّمك أن من يفرط في بيت عفّا يفرط بفلسطين؟ لا تصدق أحداً مهما علا شأنه يُفرط ببيته مدعياً أنه يريد تحرير فلسطين بدلاً عنه، مَنْ لا خير منه لبيته، لبلدته، لقريته، لمدينته، لا خير يرجى منه لفلسطين، ومن لا خير منه لأهله لا خير منه للآخرين، أفهمت الآن؟!!!…

قبلت رأسه كعلامة إعتذار، وقبل إعتذاري بقلبه الواسع بصعوبة، علّه أراد أن لا أنسى هذا الدرس أبداً، وكما ترى فأنا لم أنسه.

وسكت كامل عن الحديث، فقلت كي لا أظل صامتاً مثل أخرس:

ـ وما الذي ذكرك به الآن؟

قال بتأكيد شديد:

ـ لعلني لم أنسه أبداً ، خاصة عندما أكون محتاجاً لحِكَمه، وأكاد أجزم أنه يحضر هو بذاته ليعلمني درسا جديدا في كل مرة…لكني تذكرت الآن أمراً مما استوجب حضوره من جديد.

ـ ما هو؟

سألت وقد راودني الفضول، فقال:

ـ كنت في التحقيق بعدما أنهيت سنوات دراستي، وكان التحقيق جاداً، كونهم، كما استخلصت، كان لديهم أسباباً تستدعي سجني في عرف دولتهم…

وضحك “كامل” ورسم بشاهديه علامة قوسين، وكأنه أراد أن يخبرني بجملة معترضة وسط كلامه وقال:

ـ لعلني يجب أن أخبرك أن أبي يعرف كلمة “القنصل”، وربما لا يعرف معناها بالضبط، كما لا يعرف عمل أو وظيفة القنصل، لكنه يجزم بينه وبين نفسه أنها الوظيفة الأرفع في التاريخ، ومَنْ يصل إليها يكون قد أتم كل شيء، ويكون قد وصل إلى درجة الكمال، يعني “ختم العلم” كما نقول نحن المثقفون هازئين…

واتسعت ابتسامته التي ظلت متشبثة بشفتيه رافضة النزول، وأكمل:

ـ ولما استعصيت عليهم في التحقيق، واقتنعوا أن الصخرة التي بين يديهم لن تنز ماء أبداً، قرروا أن يلجأوا لوسائل ضغط علي، فأحضروا والدي…

كان “كامل” يسحب أنفاساً من سيجارته وينظر إلى السماء، وكأن والده ينظر الينا من علوّه هناك مناشداً ابنه التمسك بالحقيقة فقط، وتابع:

ـ أجلسه ضابط التحقيق مقابله، وبدأ بإقناعه أن يحدثني ويقنعني بالتجاوب معهم، وقال له:

ـ إن لنا عند ولدك دين ياحاج، وجاء الوقت لسداده، فإنْ أبى التسديد حاكمناه وسجناه، وإن سدد تجده في بيتك قبل أن تصل له، هذا إذا لم تأخذه بيدك وأنت مغادر من هنا…

اقترب أبي بكرسيه من الضابط وسأل، بكل ما فيه من غضب، بإستهزاء:

ـ وهل تأكدتم أن ابني هو مَنْ قتل “القنصل”؟

كان استغراب الضابط كبيراً، فسأل أبي يريد أن يعرف أكثر، واعتقد أن هناك صيد ثمين، مادام الحديث يجري عن عملية قتل، فقال:

ـ القنصل؟! عن أي قنصل تتحدث ياحاج؟

فقال أبي مؤكداً:

ـ القنصل… وكم قنصل في هذه البلد؟

ـ آه أفهم، قل أنت لأتذكر، لا بأس مادمت تريد تسديد دينه…قل…

قال ليجعل والدي يتحدث عن عملية “القتل”، ورن على جرس من تحت مكتبه حتى إذا جاء أحد الجنود طلب كأسين من الشاي، وتابع:

ـ قل كل ما تعرف، وليقدرني الله على عمل الخير لإخراج إبنك من محنته…

استغرب الحاج هذه اللغة الناعمة، لكنه لم يفكر بالأمر كثيراً، فهو رجل بسيط كما تعلم، لكن ذهنه ظل مشدودا لما يريد قوله فقط، فقال:

ـ أنا الذي يعرف؟ أنتم تدّعون المعرفة، وأنا أقول لكم إن كان ابني قد قتل “القنصل” إعدموه…

دخل الجندي بكأسي شاي ووضعهما على الطاولة، وقدم الضابط الشاي بنفسه لأبي، فأرجعها والدي من أمامه للخلف كمن يرجع بكفه فاحشة تتقرب منه، وكان قد تذكر كلماتي، برفض التعاطي مع رجال المخابرات لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بأي شيء آخر، فظل متذكراً المبدأ لكنه نسي الأسباب والمبررات، وقال:

ـ عندي السكر… لا أشرب الشاي… ولا غيره

قال جملته الأخيرة كي لا يعود الضابط ليعزمه على مشروب آخر، وقال الضابط الحانق مفتعلاً الهدوء:

ـ كما أخبرتك ياحاج، عليك مساعدتنا بإسترجاع دَينَنا، أرأيت مديوناً طليقاً دون أن يسدد دينه؟

فقال والدي جازماً:

ـ طبعاً رأيت ، ألم تسرقوا “بيت عفّا” ولم ترجعوها بعد؟

ـ “بيت” مَنْ؟… عفّا؟ وما هذه ال”بيت عفّا”؟!!!

فقال والدي معتقداً أن الضابط  يستهزئ به:

ـ أنسيت بيت عفّا الآن؟ “بطلت” تعرفها؟ قريتي في الثمانية واربعين، أم نسيت هذه أيضاً؟!!!

وضرب صدره بكفه ليأكد أنها قريته، ووقف على قدميه وقال:

ـ هيا أرونيه كي أخبره أن لا ينسى “بيت عفّا” التي سرقتموها ولم ترجعوها بعد، وما دام الأمر يتعلق بالديون لنرى مَنْ لديه عند الآخر ديناً!!! وكيف سيتم تسديده…

فاستدعى الضابط الجندي غاضباً، صارخاً أن يوصلوه مباشرة للباب الخارجي، قائلاً:

” ألم تنسوا بعد كل هذه السنين؟”أخرجوا هذا المجنون برّه…بــــــرّه

وأخرجوه، وهو يسأل:

ـ ننسى؟ أننسى ماذا؟ربما تقصد بيت عفّا؟ ماذا تقول أيها المجنون؟

وأخرجوه ختى باب السجن الخارجي، وبقيت جاهلاً بالأمر ولا أعلم عنه شيئاً حتى خروجي من التحقيق…

وظل ينظر كامل في حقول السماء، الى الغيمات المبعثرة على أطرافه كقطيع خراف متفلّت متبعثر، وقلت له لمّا رأيت ضجيج سكوته يسيطر في المكان:

ـ أتذكر خالد؟

ودون أن أنتظر إجابة، أكملت، حيث أن خالد صديق لكل أفراد العائلة:

ـ صديق عائلتكم، أخبرني ذات يوم أنه كلما رأى والدك كان يرى فيه رجل تلك اللوحة، لوحة سليمان منصور، جمل المحامل، الذي يحمل فيها القدس على ظهره…

لم ينظر نحوي لئلا أرى دمعتي عينيه المترقرقتين، فيخجل او يشعر بالحرج، لكنه قال:

ـ لعله كذلك… رحمه الله…

وظل يتابع بعينيه خراف السماء

محمد النجار

ألا تسكن في بتاح تكفا؟

إلتقينا بعد ما يقل قليلاً عن العشرين عاماً، جيل كامل فصل آخر لقاء لنا، أو “عُمْر” كما قال هو، أتتخيل أن تلتقي وشخصاً تعرفه بعد عشرين عاماً؟ أو مع شخصٍ تحبه، بل ربما تحسده، بعد هذا العمر؟ أعرف أن الأمر ليس بمعجزة، لكن أن تكون في نفس المدينة ولا تراه؟ أعتقد أن لا علاقة للأمر بالصدفة فقط، بل بقرار قد إتخذه أحدنا أو كلانا.

إحتضنني وشدني نحوه، كأنه كان يفتقدني طوال هذه الفترة، ولم تسنح له ظروفه بلقائي، وجاملته بالطبع، ولما أخذت حريتي من بين يديه بعدما أطلق سراحي، رأيت كيف مر العمر بهذه السرعة، رأيت كِبَري في وجهه، من خلال التجاعيد التي حفرها الدهر كطريق غير معبد تناثرت حجارته، من خلال الشيب المتسلل إلى ليالي رأسه، فكوني قد اعتدت على رؤية نفسي ولم ألحظ هذه التغيرات، لا يعني البتة أنها غير موجودة، وربما تفاجأ هو أيضاً لما رآها مرسومة بوضوح، على صفحة وجهي، بعد كل هذه السنين.

إلتقينا آنذاك في زنازين المسكوبية في القدس، أدخلوه على زنزانتنا بعد أيام من وجودنا هناك، كان التحقيق قد إنتهى معنا، وكان هو قادم من جولةالتحقيق الأخيرة له، فهذه الزنزانة والزنزانة المقابلة لمن إنتهى التحقيق معه عادة، قبل أن ينزلونا إلى الغرفة، أو يشحنوننا كل إلى سجن…

تعارفنا حينها، كنا طبيبين وثالثنا مهدس في الزنزانة المقابلة، وأدخلوه عندنا نحن وليس في تلك الزنزانة حيث البرش الفارغ، وكان التحقيق قدانتهى معنا منذ أيام، حيث قدمنا إعترافنا وننتظر لائحة إتهامنا، وكان هو عاملاً يعمل في إحدى المستوطنات، يتحدث قليلاً وبروية، يكاد يُشعرنا أنه يلتقط كلماته عندما علم أننا في هذا المستوى العلمي، وكانت مفاجأته التي حاول إخفاءها عندما عرف أننا معترفين، وتفاجأنا نحن أكثر لما علمنا أننا كلنا مجتمعون، لا نساوي رجولته، أو لو أننا جمعنا رجولتنا مجتمعة لرجحت رجولته عليها، وصرنا نبرر لأنفسنا، في دواخلنا، “أن لكل جواد كبوة”، وأن كبوتنا هذه ليست بتلك الكبوة الكبيرة، لأننا لم نعترف إلا على أنفسنا.

بقي معنا أياماً متتالية، نقلوا زميليّ وبقينا نحن الإثنان معاً، وفي الزنازين تتحدث بكل شيء إلّا الممنوعات، والممنوعات هي الشئون الوطنية، فلا كلام في الخصوصيات الحزبية والتنظيمية، فأنت أولاً وأخيراً تجهل كل شيء عن زميلك في الزنزانة، فربما يكون اي شيء، مناضلاً أو نصف مناضل أو عميلاً، وربما إنساناً عادياً رمته الصدفة أو القليل من شجاعة مؤقتة أو ردة فعل، فلم نتحدث بشئء ذا معنى طوالا أيام…

علمت أنها لم تكن تجربته الأولى في الزنازين، بل إنه من روّادها، وكان كما هو الآن، لم يُسجل إعترافاً ولو مرة واحدة، قال لي، ربما، من باب الحيطة والحذر، ” أنا لست بطلاً، أنا ليس عندي ما أعترف به”، وسكت، ولما أخبرته أنني إعترفت على نفسي من شدة التعذيب، أهال في عينيّ جمرات من عتب غاضب صامت، وكدت أسمع صرخته دون كلام “أنصف خيانة تعني؟ أم أن خيانة الذات أقل تكلفة؟” وسألني:

ـ  كم كان قد مضى عليك في التحقيق؟

قلت:

ـ خمس وأربعون يوماً

قال:

ـ لو عضضت لسانك بضعة أيام أخرى لكنت اليوم في بيتك…

قلت:

ـ لم أتحمل التعذيب أكثر، صار التعذيب أقسى من أيامه الأول…

قال:

ـ إنها كالولادة، كلما زاد الطلق كلما إقتربت نهاية الألم

كدت أضحك في سري على كلماته، وأخبره بأنني”أنا الطبيب وليس أنت”، فأوقفني خجلي، ولما ترك نظراته تسرح في ثنايا رأسي، قال مستدركاً:

ـ هناك أشياء تعرفها من الحياة، وهي ليست بحاجة لتوصيف طبيب.

لطالما كنت أمقت “المتفلسفين” أو “المُفتين” دون علم، لكن هذا الرجل كان يقول الأشياء دون تكلف، تسيل الكلمات من فمه كأنها جدول صغير يتمشى بين أشجار الحقول، متناغماً بخريره مع نسمات الغسق، ليعزفان سوية نغمات ناعمات على ضفاف المساء.

ثم أكمل شعراً كلمات للشاعر مظفر النواب مترنماً:

ـ أنا يقتلني نصف الدفء

ونصف الموقف أكثر

لم أعلق، لكنني بقيت أفكر في كلماته، فأنا ،قبل ذلك، لم أفكر بهذ الطريقة أبداً، وربما لو فكرت كذلك لإنعكست النتيجة وانقلبت رأساً على عقب، وبصراحةأكبر، فإن ما فاجأني أن هذه الكلمات بدت وكأنها تخرج عن مثقف، وصرت أتساءل مع نفسي “أيكون هذا الرجل منهم؟ وأنا الطبيب لست سوى رجلاً متعلماً، يعرف صنعته، مثل نجار أو حداد يعرفان دواخل صنعتيهما!!!”وتأكد صحة ما ذهبت إليه مع توالي الأيام التي عشناها سوياً في تلك الزنزانة،  وفي زنازين مدينة رام الله لاحقاً، قبل أن يسلموني بيدي ورقة بالعبرية تتضمن لائحة إتهامي، وينقلونني من الزنازين إلى غرف السجن.

بقينا ما يزيد قليلاً على إسبوعين كاملين، وفي الزنازين للوقت ثمن، فالوقت مارد يتربص، فتكون في حالة من التوتر الدائم، الخوف من إعتراف جديد، من العودة للشبح والقيد والتحقيق، ومن داخل توترك يقودك حدسك، وعليه، بدل العينين، أن يرشدك، يوجّهك، يوازن لك ما بين العقل وبين القلب، ومن داخل هذا التوتر ذاته تتعمق صداقات لا تكاد تتخيلها، وتبدو مستحيلة في الخارج، وبالعادة صداقات ثابتة تتعمق مع كل لحظة تمر، وتصير ، مع توالي الأيام، مغروسةفي القلوب، تتمدد جذوراً تسير مع الشرايين، وجسوراً متتابعة متواصلة بين البشر، أو هكذا تبدّا لي في تلك الأيام.

صاروا يأخذوننا من الزنزانة لتناول وجبات الطعام في غرفة تابعة لمطبخ السجن، وصرنا نلتقي ببقية السجناء الأمنيين القادمين من غرفة الإنتظار، المتراكمين فيها لتوزيعهم على السجون المختلفة، وصرت أرى إحترام الناس له، معرفتهم به، وعلمت أنه وصل لهذه الزنازين بعد جولة واسعة في زنازين مختلفة في أكثر من مدينة، ولما جاءنا كان قد مر عليه مثلما مر علي من مدة زمنية، وكان يتوقع أن لا ينتهي التحقيق بهذه البساطة، لكنهم وعلى غير توقع، أوقفوا التحقيق معه وبعد أيام على ذلك نقلوه من زنازين سجن نابلس المركزي إلى زنازين المسكوبية.

كان يظل يقول أن جولة التحقيق هذه معه كانت شرسةلكنها سريعة، فهو في معظم جولاته السابقة كانت لا تقل مدة الواحدة منها عن ثلاثة شهور سوى أيام عدة، لكنها المرة الأولى التي إختُزلت ودفعة واحدة إلى النصف، وكان هذا الموضوع يشغل تفكيره أحياناً، لكن بشكل لا يخلو من إستغراب، وكنت أصحو من النوم أحياناً لأجده يكتم ضحكات متفجرة يحاول أن يطفئها جاهداً دون نجاح، قبل أن تنتشر في مساحة الزنزانة المغلقة، فتوقظني شظاياها، وكنت أستيقظ بسبب توتري، كما بسبب غبائي، وأحياناً كنت أفتعل النوم وعيناي تحملقان في سقف الزنزانة المضاءة بضوء أصفر باهت، سيؤدي حتماً للتأثير على البصر في قادم السنوات، وأضرب رأسي بأسئلة تزيد حنقي على نفسي، وتكشف لي غبائي المتأصل: “كيف إستطاعو إقناعي، وأنا الطبيب المتعلم، أن إعترافي سينقذ جلدي؟!!! لو لم أكن ضعيفاً لما صدقتهم، لو لم تكن لدي الرغبة بالإعتراف لما إعترفت”، وكنت أخلُص إلى النتيجة التالية في كل مرة، “أنني كنت أبحث عن مخرج لضعفي، عن مبرر أتكئ عليه، يُشكل لي حاملاً أو حتى “عكازاً” ضعيفاً متهلهلاً يحمل تبريراتي، ولو بصورة مؤقتة بين الناس، أتخطى به عجزي وضعفي وأجد بذلك ما يبرر خيانتي لنفسي، ومرات كنت أتساءل: أليس من السهل على مَنْ يخون نفسه أن يخون الآخرين؟” وأصل إلى النتيجة المؤلمة التي طالما هربت منها، “ربما، لو استمروا بضغطهم وتعذيبهم”، وللحق ومن باب الإنصاف، كان الأمر يربكني ويذهلني، فأحاول كبت تفكيري وأوقفه عن الجريان…وكان هو لا ينتبه ولا يعرف ما يدور برأسي، فلديه، في معظم لياليه على الأغلب، ما يضحكه، وبالتالي ما يبعده عن خلايا رأسي وتلافيفه، ولم أزعجه بدوري بسؤاله عما يُضحكه، يضحكه إلى درجة إنفجار ينابيع الدموع، فتتدفق وتكاد تكشف أسرار قلبه، وصار الأمر من طرفي مساومة مع نفسي، “أتركه أنا مع ضحكاته ليتركني هو مع آلامي وهمومي”.

بقي الأمر كذلك، حتى نقلونا سوياً إلى زنازين مدينة رام الله، وهناك، بقينا في الزنزانة رقم خمسة سوياً، مع ثلاثة من المعتقلين، ولما فرغ مكاناً في السجن نتيجة لحركة التنقلات الدائمة، ودعته قبل نزولي الى السجن، وتفاجأت بعد أيام من أحد “القادمين الجدد”، أن “حسّان” قد خرج إلى بيته…

عشرون عاماً مضت، ولا أدري لماذا كان طيفه يمر من فوق رأسي بين حين وآخر، وأنا في البيت أو أثناء دوامي في عيادتي الخاصة، وأحياناً وأنا أتمشى مع زوجتي في شوارع المدينة الفاجرة.

وها هو ينقض عليّ، يعانقني ويقبلني، كأنه رأى أخاً له، وأنا ،من باب رفع العتب، أضرب بكفي على كتفه، فتلك الأيام ماتت منذ زمن، بالنسبة لي على الأقل، ربما لأنني أريد أن أخفي تلك المرحلة من عمري، أن أقبرها وأهيل فوقها التراب، فما زلت أعتقد أن تلك التجربة لم تشرّفني، وأنها مرآة تريني رغم أنفي، هشاشتي وزيفي، والآن صرت متأكداً أن طيفه ظل يلاحقني ليريني أن أنصاف المواقف لا تليق بالرجال.

أصر على إصطحابي إلى مقهى مجاور، حيث تقابلنا لنشرب الشاي، وسألني عن أحوالي وعملي، إن كنت قد تزوجت وعدد أطفالي، ورأيتني أخبره كما في الأيام الخوالي، ونسيت تحفظي عليه أمام نفسي، وإختبائي خلف ضعفي، وصارت الكلمات تسيل من فمي بتأني، كانت تنز بأحرف متقطعة في أول الأمر، وتحدثنا طويلاً، وطلبنا الشاي مرةأخرى، وسألته بدوري، وعلمت أنه أعتقل أكثر من مرة من سلطة “أوسلو”، ومن ثم أعتقل إدارياً، وأن ذلك تم بتنسيق ما بين السلطتين، وقال أننا الآن في زمن آخر، زمن تحالف “إخوة الأمس مع أعداء كل يوم”، وفي هذا الزمن أنت تُراقَب بأربع عيون وليس بإثنتين فط، وتُسجن في سجنين بتحالف من سجَّانَين، وتُقتل برصاصتين، رصاصة من كان لك أخاً ورصاصة عدوكالدائم، وفي النهاية، الخير في “العربان” وزيتهم، الذين يدفعون بسخاء ليغطوا مصاريف الرصاص والسجون والتدجين والعلف…

كنت أعرف كل يقول، أو بالأصح كنت أراه، لكن كل ما خطر في ذهني في تلك اللحظات، شيء آخر مختلف عن كل ما يقول، بل إنني كنت لا أسمع ما يقول وأنا أحاول صياغة سؤالي بطريقة مناسبة، وألبسه بدلة ورباطة عنق كيلا يكون فجاً ومحرجاً، وكي لا أبدو وكأنني كنت أتجسس عل حركاته في تلك الليالي، قلت:

ـ في تلك المرحلة، كما تعلم، كنت أكاد لا أنام

قال:

ـ كنت أحس بك في الكثير من الأيام

قلت:

ـ كانت ضحكاتك تتفجر ينابيعاً، فتذيب الصمت المتوتر من على جوانب أذني، فأسمعها رغم أنفي…

عاد، رأيت ذلك بأم عيني، عاد إلى تلك المرحلة، وسرعان ما بدأ يضحك من جديد، وقال:

ـ هل أزعجتك ضحكاتي؟ هل أقلقت منامك؟

قلت:

ـ بالعكس، كنت أكبت أنفاسي وأعض على كلماتي، وأبقيت فضولي حبيس أدراج صدري كي لا أسألك لماذا تضحك؟

قال متداركاً:

ـ وتريد أن تعرف الآن سر ذلك؟

وأمام إبتسامته، رأيتني أهز رأسي بالإيجاب، فقال:

ـ في تلك الفترة الزمنية، وقبل إعتقالي بشهور، كنت أعمل مع مقاول عربي في الداخل الفلسطيني، وكان لديه عقداً بترميم بضعة بيوت في مدينة “ملبس” الفلسطينية التي أسموها “بتاح تكفا”، وهناك في شارع فرعي بإسم “يافو” كنت أقوم بتركيب الحوائط الجبسية، وكان صاحب البيت يروح ويجيء بين وقت وآخر، يحضر للمقاول ما يحتاجه من مواد البناء.

شرب شيئاً من كاسة شايه، وابتسامته معلقة كمصباح تحت شاربيه وتابع:

ـ حتى هذه اللحظة فالقصة عادية وطبيعية، وفي الأيام الأولى لوجودي في زنازين المسكوبية، كان أحد أفراد مخابراتهم يتعمد ضربي وإهانتي، كان دوره هو دور “الذئب” معي، فكان لا يترك لحظة إلاّ واستغلها في ضربي، خاصة أمام الآخرين، ليثبت لهم حسن أدائه، كما أن الأمر محمود لديهم مادام المتهم عربي، وكان هذا الرجل هو نفسه صاحب البيت الذي عملت فيه، أتتخيل الصدفة؟! لكنه لم يتذكرني، حتى أنه لم يفكر في ذلك، فهؤلاء من الغرور لدرجة لا يقيمون لنا وزناً، كما أنني في تلك الفترة لم أتعامل معه لا من بعيد ولا قريب، ولما كان يضربني في أحد اليام، وكنت مقيداً أمامه في الكرسي من يدي وقدمي، قفزت فكرة أمام عيني وشكلت سؤالاً صار يتفلت من على لساني، وقررت أن أرمي به في وجهه، وتذكرت والدتي عندما كانت ترمي بقتصتها هذه في وجه أيٍ كان في ظروف مشابهة، عندما كانت تُردد وتقول” قال الله للقرد أريد أن أسخطك، فقال القرد: أأكثر من ذلك يالله، إنني قرد وطيزي حمراء”، وقلت في نفسي “نعم …أكثر من القرد لن يخلق الله”، فحملت كلماتي ورميتها في وجهه وقلت:

سكب ما تبقّى من الشاي في حلقه مباشرة، كأنه يرمي بعيداً بما يُربك إكمال قصته وإتمامها، وتابع قائلاً، قلت للضابط بجدية كاملة:

ـ أتعتقد أنني لا أعرفك؟ أتعتقد أنك بعيد عن أيدينا؟ لقد صار إسمك وعنوانك في الخارج أيها الغبي، وقفت عيناه عن التحرك، وتسمرت يمناه، وبالكاد فتح فمه سائلاً:

ـ ماذا تقول؟ أتحادثني أنا؟

ـ أيوجد أحد غيرك في الغرفة معي؟

قلت مؤكداً وتابعت هامساً:

ـ ألست من بتاح تكفا؟ألا تسكن في شارع “يافو” رقم تسعة؟!!!

عادت يده إلى جنبه، تحول لون وجهه إلى لون الموت، كأنه، دفعة واحدة، فقد كل قطرات الدم منه، أو كأن الدم لم يعد قادراً على الصعود بعد أن إغلقت ابواب الشرايين أمامه، ولسانه الذي كان إلى قبل لحظات يتفنن بلسعي وجَلدي بكل ألوان الشتم، قد شل أو أنتزع من مكانه، وصار ينظر حواليه، وقال بصوت هامس راجف جبان:

ـ أرجوك… لدي زوجةوأطفال، إنني أقوم بعملي فقط…أرجوك

كان يتلفت مذهولاً مرعوباً، يقطر الجبن منه كما يرشح الماء من زجاجة مثقوبة، وقال من جديد:

ـ لن أمسك بعد الآن، وأنت إبق على ما أنت عليه، لا تعترف، وسأعمل على أن ينتهي التحقيق معك بأسرع وقت، ثق بي أرجوك…

ودون أن أنطق بكلمة، أكمل:

ـ إعتبر الموضوع منتهياً…

وصار أثناء شبحي يأتي ليخفف من ضغط القيود على يدي، وكان يُغرق زنزانتي بالسجائر، ولم تمر إلا أيام قليلة ورأيت نفسي بينكم في الزنازين، وكان التحقيق قد انتهى كما رأيت…

وأكمل مستغرباً:

ـ لم أكن أتوقع هشاشة هؤلاء الأوباش، لقد قلت ما قلت من باب الإستفزاز والإرباك، لكن للجبن قوانينه، كما للشجاعة قوانينها، ومهما عظمت القوة في يد الجبان وتضخمت، تكون مثل البالون فقط، فعماد القوة الشجاعة، وعماد الشجاعة الإصرار عل نيل الحق…

وتحدثنا وضحكنا، وعبثاً حاولت أن استضيفه في بيتي، لكن وقع كلماتي كان عليه جميل، وصرت أفكر بكلماته وأجلد نفسي، ” كيف استسلمت أمام مثل هؤلاء الجبناء؟ كيف استطاعوا هزيمتي، ولاحقاً دعوت الله ليساعدني في رد إعتباري لنفسي، وكنت متيقناً أن هذا لن يتم إلا بجولة جديدة من التحقيق.

محمد النجار

إحذروا الإخوان والسلطان… فشيمتهما الغدر

كنت أراه مراراً جالساً على مقعد صغير على باب بيته، بحطته الفلسطينية القديمة وعقاله الأسود، كأنه تمثال حجري قديم لا يتزحزح، يجالس، في أغلب أوقاته، الطريق، هادئاً صامتاً ثابتاً عابساً راسخاً كصخرة جبلية لا تحركها ريح ولا تهزها عاصفة، ولا تستطيع قوة، مهما عظمت، تحريك شفتيه المطبقتين على حفنات من الكلمات، اللواتي يمكنها تفسير حالته وشرح مأساته. نادراً ما ذهب وجاء إلى أي مكان، يغادر مكانه في أوقات معينة فقط، هي على الأغلب أوقات الطعام في بيته، الذي يقذفه خارجه كل صباح ويُجلسه أمامه، حتى يأتي أحد أفراد أسرته، ليأخذ بيده ويدخله لداخل البيت، وكنت أثناء مروري، من ذات الطريق، إلى بيتي، ولا أجده جالساً، أشعر بعرْي المكان، بفراغ الطريق وموته، كأن شيئاً ناقصاً، وكأن الطريق قد فقط سمته وخصوصيته، وإلى حد كبير فقد الحياة، التي طالما ميّزته عن باقي طرقات المخيم وجعلته حيّاً، إذا إستثنينا لعب أطفاله الكثر كما بقية أزقة المخيم وطرقاته المبعثرة، كما وبتاريخه الذي ما يزال حياً بوجود هذا الرجل ـ التمثال، وأمثاله، في وسطه، فرغم صمت هذا الرجل إلا أنك تستطيع تلمس عبق التاريخ وشموخ الوطن، أصله وفصله من تاريخ مكتوب ومحفوظ وصامت، أو مسكوت عنه ومُغيّب، أو حتى تائه بقصد في زحمة الأحداث ومخططات التزوير والتقسيم ومسح الذاكرة.

كان لا يتحدث مع أحد، ولا يُزعج أحداً بمتطلباتٍ مهما كانت صغيرة، يرد التحية على من يلقي بها عليه بما يشبه الصمت، ثم يعود إلى نفسه وأفكاره وهمومه التي لا يعرفها أحد البتَّة في المخيم كله. تراه أحياناً ساكتاً ساكناً مثل صخرة، وأوقاتاً قليلة يتحدث مع نفسه، لكن أحداً لم يظن يوماً أنه مجنون أو معتوه، وفي أكثر المبالغات في وصفه، كان يقول البعض “أنه رجل على باب الله”، لكن ما تبقى من قُدامى من جيله، ممن عاصروه وعرفوا قصته، كانوا في كثير من الأحيان يذهبون بكراسيهم ويجالسوه، رغم سكوته الدائم، متناقشين متحاورين في شتى الأمور، خاصة حول ما يجري في بلداننا التي ما زالت تأكلها النيران، وتحاول تفتيتها “الجراذين” بمختلف المسميات، يُدلي كل منهم بأسهمه، يختلفون ويتفقون، يتناقشون على مسمعه دون أي ردة فعل منه، لا بالأخذ ولا بالرد، حتى تأتي مواعيد مغادرتهم، يسلمون عليه ثم يغادرون، ويظل هو في مكانه على كرسيه نفسه، ثابتاً، مثل صنم حجري، لا يتحرك.

منذ ما يقرب من ربع قرن والرجل ـ التمثال، على حاله هذا، بعد أن كان عَلَماً من أعلام المخيم، منذ أن قيل له: ” جد لك عملاً آخراً… لم يعد لدينا لك مكان…كما أن ميزانيتنا لا تسمح ببقائك متفرغاً”، منذ ذلك التاريخ وجد نفسه دون أي قيمة ولا كيان، رجلاً لا لزوم له ولا مكان، فهو لم يطلب أن يكون متفرغاً، بل هم من طالبوه بذلك قبل عقدين من ذلك الزمن، عندما كان القابض على مبادئه كالقابض على الجمر، حينما عز الرجال في الزمن الصعب، والتزم ووافق تاركاً عمله لمصلحة العمل الوطني، واعتقل مرات لم يعدقادراً على عدّها، ولم يعترف يوماً على أحد رغم وصوله حد الموت مرات ومرات، وأصيب في ذراعه ورفض الذهاب للمشفى، كيلا يمنحهم فرصة الضغط عليه من خلال جرحه، والله وحده الذي ستر ذراعه من البتر، عندما مزقت الرصاصة عضلاته دون العظم، وبعد استبعاده حاول العمل، لكن شبابه كان قد خدعه وغادر، لا يدري هو متى أو أين، وكيف بهذه السرعة وعلى حين غرة، دون إذن أو إعلان، وعمل وعمل بما تبقى لديه من عضلات، من بقايا قوة ظلت متشبثة في العظام، ولما تعذّر الأمر ارتضى بالقليل، وظل أحد أبرز شخوص المخيم الوطنية، ورجل إصلاحها الأول، وكاد يمر فوق الأمر بهدوء لولا ما تم بعد إعتقاله الأخير.

عام كامل ظل في سجنه الإداري، لم يُقدم له رفاقه محامياً ولم يصله منهم مؤونة ولا غذاء، إلاّ من زوجه التي لم تكن قادرة على إطعام أطفاله، ولولا عمل إبنه البكر أحمد، إبن السابعة عشر عاماً تاركاً صفوف دراسته، لما لقيت العائلة ما يسد رمقها، كما ان “جماعته” “كما سمّاهم دائماً بسبب التحبب وشدة القرب”، لم يتفقدوا عائلته يوماً أثناء سجنه ذاك، ورغم كل ذلك تخطى الأمر وتجاوزه، لكن أن يخرج من السجن ويزوره الناس جميعاً إلّا “جماعته”، فكانت الضربة الأكبر له.

كان ينتظر أن يأتوه، أن يفرحوا به، أن يُهنئوه بسلامة خروجه، أن يخجلوا قليلاً ويعتذروا على تقصيرهم معه، وكان سيسامحهم لو فعلوا وينسى كل الإساءات والتقصير، لكنه لم ينتظر إلّا الهواء، فصار يخرج إلى باب داره حاملاً كرسياً من القش، ويجلس على باب بيته منتظراً، لعل وعسى، وظل يفكر لماذا، فهو لم يُقصر يوماً بعمل ولم يتهرب أو يتقاعس، كما لم يخن أحداً لا في حياته ولا سجنه المتكرر، بل بالعكس، فلطالما أوقف إعتراف الآخرين بصموده، فكان الحائط الذي لم يمروا منه أبداً، وظل يحاول إيجاد سبباً مفقوداً لم يجده إلى يومنا هذا، فصار يشعر بإغتراب لم يعشه أبداً، وقال كلمته تلك لولده الذي ظل يتذكرها رغم سنه المبكر، قال ” أن تكون غريباً بين جماعتك… بين أبناء بلدك… هي الطامة الكبرى، الإغتراب يابني أقسى من السجن والزنازين والتعذيب، بل حتى من الغربة نفسها، أقصى بكثير…” وسكت، ولم يتحدث بعد ذلك أبداً، ابتلع كل الصمت الجاثم في فضاء المخيم كله، وتحولت عيناه الى زوج من الكريات الزجاجية، وماتت البسمة التي كانت تميزه، وسرعان ما صار يتحول لون بشرته إلى لون الموت، وصارت تتراجع حركات جسده، فصار يتحول كل الجسد إلى عصب صخري ثقيل، يكاد لا يربطه رابط باللحم والدم الآدميين، وفي تلك المرحلة بالذات، داهم المخيم والمدينة وكل القرى المجاورة، بركان أقسى بكثير من بركان النكبة، بركان اجتث الأخضر واليابس، فأعاد خلط الأوراق والألوان والأقلام، فصار أخ الأمس عدو اليوم وعدو الأمس رفيق اليوم، ورفعت أغصان الزيتون على دوريات الجيش الذي كانت، بقايا دماء النساء والأطفال، عالقة بها مُتشبثة ترفض النزول، كشاهد على جرائم ترفض الإندثار رغم مرورها في دهاليز الزمن وجريانها مع مزاريب التاريخ، ومع تفجر بركان “أوسلو” المدمر ذاك ومرور الأيام، صارت حالة التمثال تتقدم على حالته الإنسانية، فصارت تتراجع روحه، أو ربما الأصح أن روحه صارت تتغطى بالتراكم الصخري وتفقد حياتها شيئاً فشيئاً، ولم يعرف أحد أبداً، أن ما حدث لأبي حاتم كان بسبب البركان أم بسبب الإغتراب، أم بسبب الإثنتين معاً، أو لأسباب أخرى لا يعرفها أحد.

هذه قصة أبو حاتم التي عرفتها في “سجنتي” الإدارية الأخيرة، فسلطتنا لا تستطيع أن تحمي نفسها ناهيك أن تحمي شعبها، وجنود الإحتلال يسرحون ويمرحون ويداهمون ويعتقلون ويُصيبون ويقتلون دون مواجهة أو دفاع ولا حتى رفض أو إعتراض، فداهموا المخيم واعتقلوني وآخرين، وحولوننا للإعتقال الإداري، وهناك التقيت “أبا إبراهيم” الذي حدثني عن “أبي حاتم” ،الذي صارت قصته تتراجع وتتقلص في العقول، وتضمر وتغور بعيداً في النسيان. لذلك وبعد خروجي ذهبت لعنده، جلست مقابله على باب بيته، حاولت محادثته، إغتصاب نظرة، حركة، بسمة، دون نجاح، لكنني، رغم ذلك، بقيت أتردد عليه بين وقت وآخر، ربما من باب الشفقة أو الإحترام أو العرفان لهؤلاء الذين لا يموتون إلّا واقفين، جذورهم مغروسة في قلب الأرض ورؤوسهم عالية في حضن الشمس، وصرت أحدثه عن قصص السجناء ومآسيهم التي خلقت كل هذا العنفوان لديهم، تلك القصص التي ما أن صارت جزءاً من الماضي حتى أصبحت مجالاً لأكثر حالات التندر، مدركاً أنه جزء منها، ممن نحتوا قصصها في فضاء الوطن كله، بعد حفرها عميقاً في خلايا جسده، ثم حدثته عن “أبي إبراهيم”، ونقلت له سلاماته وتحياته، الأمر الذي خلق لدي إنطباعاً بأنه فوجئ لأن هناك مَنْ ما زال يتذكره، وأن تاريخه لم يتم نسيانه، لم يمت بعد، بل ما زال حياً عند جزء من الناس على أقل تقدير، فأكثرت من الحديث عنه، وبالغت في نقل أخباره، لكن دون أن تصدر عنه أي إشارة على أنه يسمعني، بل ظلت عيناه الزجاجيتين زجاجيتان، ولون الموت الأبيض الصخري يغطي وجهه، ولم يلتفت لي أو يُغير من طبيعة جلسته أبداً.

لكنني ولسبب ما واصلت زياراتي ومجالستي له، وصرت أنقل له الأخبار اليومية ورأيي بها، خاصة ما يجري من تدمير لأوطاننا، وللحق لا أعرف حتى الآن لماذا كنت أفعل ذلك، ولطالما كنت أتمنى لو كان والدي مثله، والدي الذي ظل يعتبر نفسه مُحايداً أو حتى غير معني بكل مل يتم في مخيمنا أو خارجه، وأكثر ما فعله في حياته هو الدعاء على “اليهود” والدعاء لأمة المسلمين، كنوع من الهروب من المسؤولية، لكن الله وكأنه لا يريد الإستماع له أو لمن لا “يعقل ويتوكل”.

تردادي المتكرر لاقى استغراب الكثيرين من سكان الشارع، بما في ذلك أبناؤه، لكن أولاده سرعان ما استحسنوا الأمر، وصاروا يأتون لي بكأس شاي أو فنجان من القهوة كلما وقعت قدماي في المكان، وسرعان ما تحول وجودي لعادة أو شئ مألوف فيما تلى ذلك من أيام…

قلت له في مجالساتي المتتالية له، أشياء يعرفها أفضل مما أعرفها، وأشياء ربما لم يسمعها أو يعرفها منذ فترة مرضه أو إغترابه هذا الذي لم يخرج منه، وكان جل هدفي أن أحدثه، أن أرى منه كلمة أو إشارة أو حركة، قلت:    ـ منذ زمن قسّموا القضية، بعد أن رموا بنا خلف العصر ووراء التاريخ، فكان التاريخ العثماني وبال علينا، فبعد محاولات تتريكنا وسلب خيرات بلادنا، سلخوا لهم جزءاً من أرضنا، وأعطوا الباقي “لسايكس وبيكو”،وسرعان ما صار “بلفور” يوزع بلادنا كوطن قومي لللآخرين…

وسكت قليلاً، ثم أضفت:

وها هم أنفسهم، العثمانيون، مع ورثة “سايكس وبيكو” يدمرون بلادنا لتقسيمها واقتسامها، ليجعلوا من أحفاد “بلفور” البلد الأكبر والأقوى والأكثر تماسكاً، وربما الأكبر عدداً كما الأكثر عدة، أتتخيل لو استطاعوا تقسيمنا بين مذاهب وطوائف ماذا كان يمكن أن يحل بنا؟ستكون أكبر دولة أصغر من كيان بني صهيون!!!                             ولم يكن ليتطلع إلي في أي يوم، ورغم كل ما سمعته عنه وعرفته، إلاّ أنني بقيت أنظر له على أنه من الجيل الثائر وليس الجيل المهزوم، وهذا ما يميزه عن والدي الذي ما زال يدعو الله دون نتيجة، دون أن يكل أو يمل، وفي يوم آخر قلت له:

ـ ما زال “الأتراك” لديهم معسكرات “لداعش والنصرة”، يتدربون فيها على فنون قتلنا وتذبيحنا في الشوارع، بقيادة ضباط من “أصحاب الوطن القومي” والأمريكان والأتراك وآل سعود، لذلك عندما احتجزت لهم داعش فريقهم الدبلوماسي في الموصل، أطلقوا سراحهم دون أن يمسوا منهم أحداً “حفظاً للجميل”، تسع وأربعون دبلوماسياً لم يُجرح أو يهان أو يوبخ أو يقتل أحد منهم…. أتتخيل مدى العلاقات…

في كل ترددي ظل موضوع الغزو التركي ومحاولته تقسيم أوطاننا، ما يشغل بالي وما أقوله وأكرره على مسمعه، وصرت كمن يتحدث إلى نفسه دون أن يتلقى جواباً، لكنني أنا الذي ظل والدي يلقبني ب”العجول” على مدار حياتي، كنت طويل البال، وأتحدث مع أبي حاتم وكأنني أتحدث مع إنسان كامل الإنسانية وليس مع رجل تحوّل إلى صنم أو تمثال، رجل تحول اللحم والدم فيه إلى حجارة وصخور، وكنت أجلس بالساعات أحياناً ولا أكف عن الحديث، وقلت في يوم آخر:

ـ “السلطان العثماني الجديد”، يرفض أن يقترب أحد من حدوده، يعتبره مُهَدِدَاً لأمنه القومي، لكنه يتدخل في بلادنا، ويطالب صراحة بإسترجاع ما سلبته دولته العثمانية، يريد حلب والموصل وسنجار وكركوك ودابق وإعزاز، وبكل صفاقة يتدخل بمن يحق له في بلادنا محاربة الإرهاب ومَنْ غير المسموح له بذلك، وبعد أن إنهمكت جيوش سوريا والعراق في حربيهما، صار يرسل الدواعش بطائراته لكركوك ليعيقوا تقدم الجيش العراقي ويبعث بضباطه لتلعفر والموصل ليحاربوا بأنفسهم هناك، وليفتحوا الطريق للدواعش ليهربوا الى الرقة السورية عبر أراضيه، ويفعل كل هذا مُدعياً محاربة الإرهاب.

سكت حينئذٍ قليلاً ثم تابعت شارحاً كي لا أكف عن الكلام، وقلت:

ـ ها هو قد أدخل قواته لجرابلس ودابق، في الشمال السوري، دون أن تُطلق ولو رصاصة واحدة بينه وبين الدواعش، ليس هذا فحسب بل كل ما في الأمر أن الدواعش غيروا أعلامهم بأعلام “الجيش السوري الحر” التابع للأتراك، فصار الأتراك محاربين للإرهاب!!! أتتخيل كيف يمكن أن تستقيم الأمور؟ أن يكون جيشاً سورياً وحراً وهو تابع للأتراك والأمريكان، ويتدرب على يدهم ويد آل سعود وبني صهيون!!! والأمرّ من كل ذلك وأدهى أن هذا “السلطان العثماني الجديد”، يقود دولة علمانية، لكنه يريدنا أن نقتسم إلى طوائف ومذاهب وأديان!!! وهو نفسه، حامل لواء السلطنة والخلافة والإسلام،  أمر أخيراً محاكم بلاده بإسقاط ملاحقتها للصهاينة المجرمين الذين قتلوا أبناء شعبه التركي في سفينة مرمرة!!!!

ظل الأمر على حاله مع أبي حاتم، وبقيت أشرح له، أو الأصح أنقل له آخر الأخبار والتطورات في سوريا والعراق، وآخر أخبار اليمن السعيد الذي يحاول آل سعود أن يحرقوا سعادته، ودور الإخوان المسلمين المتواطئ مع السلطان العثماني، ودورهم في استجلاب كل حثالات البشر لقتل شعبنا العربي ومحاولة تقسيمه في غير مكان، تماماً كما فعلوا بإرسال أبنائنا لحرب الروس في أفغانستان لمصلحة الأمريكان، في قضية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وها أنت ترى أفغانستان بعد عشرات السنين من حكمهم الإسلامي، كإحدى أوائل الدول الفاشلة في العالم، بعد أن كانت على أبواب الحضارة والتقدم، هؤلاء الإخوان أنفسهم لم يستجلبوا ولو فرداً واحداً لمحاربة الإحتلال منذ سبعين عاماً، وحاربوا كل من حاول محاربته وتحالفوا مع من صادقه…

وقدمت له خلاصة الأمر على لسان موشيه آرنس أحد وزراء حرب كيان إسرائيل، وأحد أكبر باحثيه الإستراتيجيين، والذي أكد أخيراً، “أن كيانه فشل في الرهان على تنظيم القاعدة وداعش، لتحقيق ما عجز عنه جيشهم في ضرب المقاومة عام ألفين وستة”، ولم أكن أنتظر أي رد كعادتي، وقبل أن أقوم، وضعت ركبته في باطن يدي، وقلت:

ـ سآتي بعد يومين لأراك، يوم الجمعة يا أبا حاتم…                                                                           وأنا الذي لم أُناده ولا مرة حتى الآن بلقبه هذا، وجدت سيلاً من الدمع يأخذ له مجرى في أخاديد وجهه، أخاديد كان الزمن وسنوات عمره قد تآمرا عليه وخطوهما مثل سكة حراث في أرض بور، دمع متدفق وكأنه نبع قد تفجر لتوه واندلق، ولم يئن أو يتلوى أو يتألم أبو حاتم هذا، أو على الأقل لم أشعر أنا بذلك، وتفادياً للحرج، قمت وخرجت وتركته في مكانه وكأنه تمثال، بقدرة قادر، ينزف دموعاً لا تتوقف، تسير في أخاديدها مثل جدول…

كان حينها الوقت وقت غروب، تتمايل الشمس فيه متثاقلة نحو المبيت، كطفل يقاوم النوم ولا يستطيع رده، جلست على كنبة في صالون بيتي، وفتحت التلفاز دون أن أسمع ما يقول، وكنت ما زلت أفكر في دمعات ذلك الرجل العجوز المنهارة من إرتفاع عينيه إلى ما تحت ذقنه شبه الحليق، وكأنها تريد الإنتحار ولم تستطع، فظلت معلقة في أطراف ذقنه، تتراخى أيديها، غير قادرة على الثبات ولا على الإنهيار، فلا ذقنه شبه الحليق أمتصها، ولا تراخت يديها لدرجة الإنهيار، لكنه سرعان ما إحتضنها بباطن يده، وكأنه يريد أن يخفي جرماً قد إقترفه.

كانت الظلمة قد بدأت تفرد أجنحتها فوق المنزل والمخيم، وربما فوق المدينة نفسها، عندما تسلل إلى أذني صوت طرق هامس على باب بيتي، طرق متراتب هادئ، كأن الطارق يخاف أن يجرح حديد الباب، لكن لرجل سياسي مثلي، عرفت أن القادم أحد رفاقي الذي أراد أن لا يلفت الإنتباه إليه، وقدرت أن في الأمر شيء جلل، وبهدوء قمت وفتحت باب بيتي، لكن المفاجأة جاءتني حادة قاطعة كنصل سكين واضح لا لبس فيه، لقد كان أبو حاتم واقف على بابي متلفتاً ميمنة وميسرة، كأنه يقوم بعمل سري لا يريد أن يلفت الإنتباه إليه، كما في الخوالي من الأيام، رحبت به وأدخلته وأجلسته مكاني وجلست مقابله، وقبل أن أبدأ بالحديث كعادتي قال هو هذه المرة:

ـ ظننت أن من المفيد أن لا أنتظر ليوم الجمعة كي نلتقي، فبعض القضايا لا تحتمل التأجيل ويوم الجمعة ما زال بعيداً، ومن هم في مثل سني لا ضمانة عندهم ليعيشوا أبعد من يومهم، فما بالك بأيام حتى يجيء يوم الجمعة…

فقلت:

ـ خير يا عمي أبا حاتم…أُأْمرني…

فقال:

ـ عليك الذهاب إلى سوريا…

قلت:

ـ لكنني كما تعلم ممنوع من السفر، لكن لماذا؟

سكت قليلاً وكأنه يفكر في حل لهذا اللغز وقال:

ـ إذن إبعث من تثق به لهناك، إبعثه للقيادة السورية ليقل لهم وعلى لساني أنا أبو حاتم المهدي، الذي كان له ماض مشرف، أن لا يثقوا يوماً لا بالسلطان العثماني ولا بالإخوان المسلمين، فالغدر من شيمهما، بل هو ما يميزهما…

وقام من مكانه متوجهاً إلى الباب، وغادر قائلاً:

ـ اللهم اشهد فإني قد بلّغت… سأذهب حتى تستطيع تدبير أمورك بسرعة…

وغادر، وبقيت وحدي، وفكرت في كلماته، وكنت كلما فكرت في الأمر وبأي إتجاهٍ، وجدتني أصل لنفس خلاصته، فالغدر من شيم هؤلاء الناس، كانت الإنتهازية والتجارة بالدين والكذب والنفاق من ميزاتهم، ونادراً ما تجد مبدئياً واحداً في هذه الأوساط، وفكرت بأن القيادة السورية وبعد تجربتها الطويلة الدامية معهم، لا بد أنها توصلت لنفس خلاصة أبو حاتم المهدي…

إنتظرت يوم الجمعة بفارغ الصبر، وما أن إبتدأت الشمس تشق لنفسها طريقاً فوق الغيوم، بين نجوم السماء المتخفية في متاهات الدروب هروباً من عيني النهار، حتى وجدتني أحتضن كرسياً من القش وأتوجه مباشرة إلى الطريق، حيث أبو حاتم يجلس كالعادة على كرسيه، إقتربت منه حاملاً ابتسامتي فوق شفتي، وما أن جلست حتى نظر نحوي وبيده كوباً من الشاي على غير العادة، هززت له رأسي بالإيجاب وكأنني نفذت نصيحته، رأيت محاولة ابتسامة نصر تحاول الولادة المُيسرة من تحت شاربيه، لم يقل أبو حاتم المهدي شيئاً، ولم ينبس ببنت شفة، لكنه نظر إليّ طويلاً ثم ناولني كوب شايه لأشربه.

محمد النجار

“ديموقراطية” السيد الرئيس

كنا عائدَين من جنازة الشهيد أيمن، متجهيَن لبيتينا المتجاورين في طرف القرية الشرقي، قبل أن نعود، في المساء، للمشاركة بأخذ العزاء، ففي قريتنا، الجميع يتبنى الشهداء، فالشهيد إبن القرية جميعها، من رجال ونساء وأشجار وجبال ووديان، يتزاحم الجميع فيها لأخذ العزاء، محاولين مجاورة أهله وذويه، متنازعين في دعوتهم، لطعام الغداء أو العشاء. كنا نترحم على روح الشهيد، نتذكر مواصفاته الشجاعة، مقداميته وشجاعته، رغم أننا لم نكن نعرف الكثير عنه، فالجيل غبر الجيل، فهو في أول سني شبابه، ونحن فارقنا شبابنا بالأمس القريب أو البعيد، يعتمد الأمر كيف ينظر كل منا على يوم أمس.

كنت أتفادى الرجوع معه، فهو لا يحب المشي في طريق “مستقيم”، فبدلاً من السير فوق الطريق الأسفلتي المتمدد مثل أفعى أكملت لتوها إبتلاع دابة دفعة واحدة، ومازالت تتقلص وتتمدد عضلات جسدها، فهو يسحبك بجانبه من طرق جبلية، بين الحجارة و”النتش” والزعتر البري وشجيرات الميرمية، متعربشاً السلاسل الحجرية مثل قط بري، كما لو كان في مقتبل العمر وليس في خواتيمه، متوقفاً بين أغصان الزيتون وكأنه يراها للمرة الأولى، مُزيلاً بأنامله الخشنة ما جف من وُريقات أو أغصان رفيعة، كانت ما تزال متعلقة بأطراف أمها، مستمعاً لتغاريد “حسون” جميل تنساب في الأذن نحو الدم مباشرة، لتجعلك في حالة جاهزة للدبكة والعتابا والميجنا والرقصات الشعبية، متسلقاً من جديد السلاسل الحجرية مُتقافزاً فوقها، كطائر الدوري، بقفزات قصيرة واثقة، يبتسم من تحت شاربيه، ويقول:

ـ ما الشباب إلّا شباب القلب…

ولم تكن كلماته تلك مجرد شعار فارغ، مثلما يطلقها من كلمات “شيخ عجوز” على مشارف الموت، خصاه الزمن أو العمر أو عدم تمسكه بمواقف الرجال، وصار يُطلق شعارات فارغة كاذبة، فارشاً أرضاً لزواج مُقبل مع فتاة بعمر إبنته أو أقل قليلاً، بل كان يمارس شعاره هذا على أرض الواقع، في كافة نواحي الحياة، وفي هذا الزمن، من النادر أن ترى من يمارس شعاراته في الواقع وأرضه، لتكون محراثاً يترك آثاره في الرؤوس والقلوب، من يلتزم بكلماته ويمارسها عملياً في الحياة، بنفسه وعلى نفسه أولاً وقبل كل شيء. وكان هو، أبو أحمد الصادق، صادقاً مثل إسمه، وفياً وشهماً، تراه في كل يوم، يمارس “شباب قلبه”، فيلاحق جفاف الأشجار فوق الصخور، في بطون الجبال، يزرع شتلات الزيتون في مساحات الأرض الجرداء، “يُقنب” و”يرقع” ويفلح ويقلع ويزرع الحياة، فيُلبس الأرض رداءً يتزايد إخضراراً يوماً بعد آخر، وفي هذا الزمن، الوفاء والرجولة والصدق أصبحت عند المخصيين تهمة، فكان أن تنصل منها الكثيرون، لكن ليس أبو أحمد الصادق، الذي لم يتنازل قيد أنملة عن هذه الصفات التي تؤدي إلى التهلكة في زمن الردة هذا، وكثيراً ما كنت تراه يُجالس الأرض يتحدث معها، يداعب الأشجار، ينصت إليها ويهدهدها، حتى تخاله مجنوناً أو فقد عقله، أرأيت كثيراً من الناس يتحدث للأرض والأشجار ويفهمها وتفهمه؟!!!وكان يظل يؤكد أن الأرض والإنسان كلاً واحدا متكاملاً، لا تستطيع فصلهما أو التعامل معهما كإثنين منفصلين، وإن فعلت فأنت جاهل بهموم الأرض، بأخلاقها وطبعها وطبيعتها، وعليك التعلم لمعرفة صفاتها ومواصفاتها وإلا فإنك لا تستحق ركوبها ولا التظلل تحت ظلال أشجارها.

ظل أبو أحمد الصادق يزرع ويفلح ويسقي ويُعشّب الأرض، ولم تمر ولو سنة واحدة دون أن يزرع شتلات الخضار او الفاكهة الموسمية، التي أكل منها كل من رغب من سكان القرية، وكما كان يتعامل مع الأرض في الحقل يتعامل مع الإنسان، ومع أترابه من فلاحي الحقول، كلمته لم تكن يوماً تقبل القسمة على أكثر من واحد، كلمة واحدة لا تُجامل أو تتغير في قول الحق أو تأييده والوقوف معه وبجانبه، مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك، كلمات لا تخلو من السخرية اللاذعة التي تبدو أنها تُقزم الحدث، لكنها تلاحقك وتظل تدور في شعاب رأسك وطرقاته، فتُدوره وتُشغّله وتحرك خلاياه، لتكتشف أنها مارد من كلمات قاسية، يجبرك أن تصير فاعلاً حتى لو كنت كتلة من صخر، الأمر الذي خلق له مشاكل غير قليلة مع الكثيرين في مراحل حياته المتلاحقة، لكنها، في ذات الوقت، رسخت وثبتت في أعماق البشر جميعاً مصداقية رجل لا تُنازع، ممن عارضوه أو أيدوه، وصار إسمه “الصادق” يطلق عليه كصفة دالة عليه دون غيره.

الطريق من بين أشجار الزيتون، طريق جبلي أكل منا ثلاثة أضعاف الزمن الذي يأكله الطريق الإسفلتي السهل، لكنه الزمن الذي نملكه كلنا في القرية، ولا يُنازعنا أحد فيه وعليه، زمن يتساقط عن أجسادنا كحبات العرق، لكنه يأخذ غير مجراه مع أبو أحمد الصادق، فيتحول إلى زمن مُحبب للنفس سرعان ما ينفذ دون أن تدري، ودون أن تحس به، كان يُزيل بعض أوراق جافة عن أحد الغصون، يزيلها واحدة واحدة بكلتا يديه، خوفاً من أن يجرح الغصن أو يُعرّي أطرافه ويزيد آلامه، فترى أبو أحمد الصادق يتألم بآلامه، وكأنه تقطع أحد أصابعه،قلت:

ـ أرأيت يا أبا أحمد، كيف توصل العلماء إلى إمكانية الإنجاب دون إمرأة؟!!!

لا أدري ما الذي ذكرني بالأمر، لكنني ربما قلته من باب فتح موضوع للحوار، فقال أبو أحمد ساخراً في أول الأمر:

ـ أتقصد علماء المسلمين؟ بارك الله فيهم من علماء…

ضحكت بدوري بصوت يكاد يكون مرتفعاً، وقلت:

ـ نعم، بارك الله بهم، لكن ليكفونا شرهم فقط!!!

فقال بدوره:

ـ لا تخف عليهم، سيجدون له فتوى في البخاري، وربما أتحفونا بفتاوى ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، أو سيجدون لنا شيئاً لدى القرضاوي أو العريفي أو أي من “علماء” مملكة آل سعود “طال عمرهم”، وذلك أضعف الإيمان…

وسكتنا، وتقدمنا ببطء، وظل هو يبحث بعينيه الضيقتين عن ما يزعج الأشجار، بتأني وروية ودقة، ثم قلت:

ـ ألم تلاحظ أن المحتل يمنع رفع الآذان في مآذن قدسنا، ولا تسمع منهم أيما إعتراض؟

فقال مؤكداً ذاهباً أبعد مما ذهبت إليه:

ـ لا إعتراض منهم ولا من حكامهم أيضاً، فأنت ترى بأم عينك “أمير المؤمنين” العثماني، لم يعترض، بل كافأ بني صهيون، فزاد، مثل حكامنا، من علاقاته الإستراتيجية مع الكيان!!! منظمة اليونسكو تقر وتجزم بإسلامية القدس وأن لا مكان لليهود فيها، وهو يؤكد لصحف بني صهيون أنها مدينة لكل الأديان، يهدي مدننا كما يشاء دون إعتراض أو همسة عتاب لا من “سلطتنا” ولا من “علماء سُنتنا”، قادة تيار الدين السياسي من “إخوان مسلمين” وغيرهم….

قلت مازحاً:

ـ لا تبالغ يا أبا أحمد، أعط كل ذي حق حقه يارجل، ها هي السلطة تكتشف أن “إسرائيل” تتحدى المجتمع الدولي برفضها المبادرة الفرنسية!!!

عاد أبو أحمد الصادق لسخريته وقال:

ـ يا عزة الله!!! أتقول الصدق؟ أإكتشفوا الأمر بهذه السرعة؟ إكتشفوه بعد مرور سبعين عاماً فقط ،إكتشفوا أنها تتحدى المجتمع الدولي ولا تقيم له وزناً؟ لقد طمأنتني بأنهم بالكثير بعد ثلاثة أو أربعة قرون سيكتشفون أن مفاوضاتهم معهم ليست أكثر من “ولا تؤاخذني” “ظراط عَ البلاط”، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه…

وعقب وكأنه مع نفسه:

ـ وكأن في المبادرة الفرنسيةشيئاً يفيد شعبنا!!!

وسرعان ما إلتقط أبو أحمد بضعة صرارات من حول ساق شتلة زيتون ما زال طرياً، لم يقو عوده بعد ليواجه قسوة الطبيعة، وضعها ركيزة تحت حجارة سلسلة حجرية قريبة، وسألني كأنه يرجمني بحجر:

ـ ما رأيك بديقراطية السيد الرئيس؟

لم يبتسم أي منا رغم كوميدية المشهد، لأنه لم يكن سوى “كوميديا سوداء” كما يقول المثقفون، قلت:

ـ ديمقراطية التحكم بالقرار السياسي وصندوق المال!!! ألم ترَ قوة “مخالي” التِبْن والعلف في مؤتمر السيد الرئيس؟!!! أهؤلاء من كانوا حتى الأمس القريب يحملون البندقية؟!!! لقد إنتقاهم سيادته”على المفرزة”، انتقاهم واحداً واحداً مثل “بعرة الجمل المنتقاة” كما يقول قدماؤنا، مَنْ صعب على الرئيس إبعاده تكفل المحتل بذلك، إعتقالاً أو مَنعاً من الوصول… أرأيت كيف يُسحّجون ويهتفون؟ بمجرد أن يُخرج الرئيس…يُسحجون!!!

قاطعني وسأل مُستغرباً مُستهجناً ساخراً:

ـ ماذا قلت؟ كلما يُخرج الرئيس؟!!!

ـ نعم، كلما يُخرج بضع كلمات من فمه، يزداد التصفيق والتسحيج… وغلّابة!!!

قلت قبل أن يأخذ يقود من جديد دفة الحوار، فقال:

ـ شكراً أنك أوضحت ماذا أخرج الرئيس من فمه، لأنني كدت أفهمك بشكل خاطئ، لكنني أظن أنهم ما زالوا يحملون البندقية، لكنهم غيروا أهدافها فقط، غيروا إتجاهها، صارت، كبنادق الآخرين من مشيخات وممالك ورئاسات، تُطلق للخلف، تغير نوعها من “بندقية عز وفخر” الى بندقية ّذل وإذلال وهوان”، ألم تتساءل يوماً كيف لبندقية سلمها لك المحتل أن يكون إتجاه رصاصاتها؟!!! و”غلّابة” التي يقصدون صحيحة، لكن غلاّبة على مَنْ؟  هذا هو السؤال؟

ثم تابع حديثه، وما زال ينظر إلى الأشجار وكأنه يراها للمرة الأولى، أو لا يراها أبداً:

ـ ألم تر “ديمقراطيته” عندما ابتدأ مؤتمره بتثبيت نفسه رئيساً؟ رئيساً دون سؤال أو محاسبة أو تقييم لما أوصلنا إليه، دون حتى مجرد نقد، رئيس دون برنامج عمل أو حتى خطوط عريضة، فقط بأن المفاوضات خيار استراتيجي، يعني أبقانا عُراة أمامهم أكثر مما كنا، أتتخيل أن يكون مثل هذا الرجل عاملاً مشتركاً للجميع؟ يعني هو “وجه البُكسة” كما يُقال، أتتخيل كيف يفخر بكونه هو مَنْ وقع “أوسلو”؟وكأنه جاء لنا بتحرير الأرض؟ أتستطيع أن تتخيل إلى أي حضيض وإنحطاط وصلنا؟ وتراه يقف بكل صلافة و”عنجهية” متحدياً أن يكون تنازل عن الثوابت الفلسطينية!!! فتقسيم المحتل من لما أُحتِل منذ العام سبع وستين ين غزة وضفة، ودوره وحصته بذلك، من الثوابت الفلسطينية، وتقزيم الوطن إلى 18% والحبل على الجرّار من الثوابت الفلسطينية، كما ورفضه شخصياً حق العودة، ووثيقة عبد ربه ـ بيلين التي تمت بإشرافه من الثوابت الفلسطينية، والمفاوضات العبثية المفتوحة على احتمالات التفريط والتنازل عن كل شيء من الثوابت الوطنية، وتجهيز جيش الحراسة الفلسطيني، على مدار الساعة، لدولة بني صهيون من الثوابت الفلسطينية، والوقوف على أبواب الحرب الأهلية الفلسطينية من الثوابت الفلسطينية، وتقسيم مدن الضفة وقراها ومخيماتها إلى “غيتوات” هو من لب الثوابت الفلسطينية، وتراخيه وهوانه أمام بناء المستوطنات من الثوابت الفلسطينية، وربط إقتصادنا الوطني بإقتصاد الإحتلال من الثوابت الفلسطينية، فتح السجون والتنسيق الأمني مع الإحتلال لقتل واعتقال ما تبقى من رجال هو من الثوابت الفلسطينية… والنجاح الأبرز في مؤتمر السيد الرئيس، أنه عمل لعزل أي قائد رفضه المحتل وأبقى له من أراد، من باب “المجاملة” وليس الخضوع كما يتوهم الكثيرون …

داعب غصن شجرة براحة يده، كأنه يمررها على رأس طفل ليُهدئ بعض آلامه، وأكمل دون أن يلتفت إليّ:

ـ  ديمقراطية الرجل تشمل كل ما سبق، كما تشمل كل ما فعله من أجل “إنهاء” ظاهرة الإفساد والمفسدين داخل سلطته وقيادته!! كما “التخلص” من كل العملاء الذين أورثهم لنا الإحتلال، و”الإصلاح” اليومي والمتتالي داخل أجهزة منظمة التحرير ومؤسساتها،  و”الإلتزام” الصارم بمقررات المجلس المركزي الفلسطيني بحذافيرها، الأمر الذي أكد جماعية القيادة وعدم فرديتها والتزامها بالهم الوطني الجمعي، وليس بالمصالح الفردية الأنانية، كما ولم يترك شهيداً إلا وزار أهله وواساهم، ولا أسيراً إلا وعمل على تحريره، ولم يترك مؤسسة دولية إلا وطرق بابها ليحاكم جزاري الإحتلال، ولم يشارك بجنازات قادة الإحتلال ولم يرسل من يواسيهم، ولم يقمع تظاهرة ولم يعتدي على صاحب رأي أو فكرة، ولم يورث مالاً لأبنائه وأحفاده سوى ما زاد من معاشه الشهري، ولم يُحول السلطة ومرابحها إلى مؤسسة خاصة له ثم له ثم له ثم لحاشيته، وبالتالي لم يكن الشعب هو الخاسر الأبرز والوحيد في هذه السلطة، وطبق على نفسه أولاً ثم على الحاشية الكريمة ثانياً قانون “من أين لك هذا؟”، الأمر الذي جعل “قضاة” “المحكمة الدستورية” رعاهم الله، يكلفونه بكل ثقة بأن يُقيل أي عضو في المجلس التشريعي إن خالف أمره أو إحتج على سياساته!!! يعني لا يهم أن الشعب الذي إختار ذلك العضو، فسلطة الرئيس فوق الشعب وسلطته، وهل يصح أن يكون للشعب سلطة بوجود الرئيس؟!!!وبالتالي من حق الشعب أن ينتخب مَنْ يريد، لكن من حق الرئيس أن يُقيل من يريد أيضاً، أرأيت الديمقراطية التي يتمتع بها؟ أسمعته، ولو مرة واحدة، يقول أن الشعب لا يحق له الإنتخاب أو التظاهر أو لا يحق له حرية التعبير لا سمح الله ولا قدّر؟ بالطبع لا، لكن الشعب يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الرئيس، فمن حق الرئيس أيضاً أن يعتقل المتظاهر وأن يسجن المناضل أو حتى يقتله، ومن حقه قمع الأصوات “الشواذ”التي لا تروقه….

قطعت عليه حبل أفكاره المتسلسل، وقفت في وسط الطريق، أمسكته من ذراعه، قلت:

ـ كفى أرجوك، كفى هداك الله، أتعتقدني بليد إلى درجة أستطيع أن أسمع كل ذلك وأبقى صامتاً؟!!! كفى يارجل، فوالله ورغم معرفتي بكل ما تقول وأكثر، إلا أنني لا أستطيع أن أسمع المزيد… لقدجعل منا هو وأمثاله قطيعاً من الأغنام، ويعاملنا بنفس طريقة القطيع، ألم ترهم كيف يتصرفون، كلما أكل القطيع شيئاً من التبن والعلف كلما تساقط في الحوض غيرها من الفتات، وهؤلاء، كلما ارتفع حجم التسحيج وتعالت أصوات الهتاف الباصمة، كلما فتح لهم الرئيس المعلف لتنزل حبات الشعير، ألم ترهم شاخصي العيون فاغري الأفواه مشرئبي الأعناق، تُبح حناجرهم تُسحج أكفهم منتظرين أن تُعلق مخالي الشعير في رقابهم؟ وكلما ارتفع الهتاف وعلا التسحيج كلما اقتربت من أعناقهم المخالي أكثر؟والطامة الكبرى أنهم ما زالوا يتغنون بالوطنية والشموخ الوطني، وهم لا يخرجون عن أهداف المحتل قيد أنملة… …كفى يا أبا أحمد الصادق…كل مرة أقسم أن لا آتي معك من هذا الطريق، وأن لا أرافقك، كيلا تذكرني بمخازينا وعهر قادتنا، لكنني سرعان ما أنقض وعدي لنفسي وأفعل العكس، وكأن تسلق هذه الطرق الوعرة تَسْهُل بمرافقتك، وكأن حفيف أوراق أشجار الزيتون تدق في رأسي مثل قرع الأجراس، فتجدني أتبعك مثل حمل صغير يتبع أمه، كفى يارجل،  لنكف عن الكلام ولنذهب لأخذ العزاء بالشهيد، فيبدو أن ما في هذا الوطن من شهداء، ما به من أنين جرحى، ونهر الأسرى الذي مازال يتدفق كنبع الماء الطاهر من أعلى الجبل، هي الشيء الوحيد الصادق الذي ظل يحمي هذا الوطن…

محمد النجار

النصفين

لطالما كنت أعرف ان مجموع النصفين يساوي واحد صحيح، لكن حالتي وحالة النصف الآخر خطأت هذه النظرية وقلبت الأمر بأكمله رأساً على عقب، بل مزقتها ورمتها في وسط الرياح، لتحملها بدورها بعيداً وتنثرها في فضاء السماء، لنبقى كلانا مجرد نصفين غير مكتملين، مهما تجمعنا ونحن على حالنا هذا، فإننا لن نستطيع أن نساوي واحد صحيح، رغم مرور كل هذا الزمان.

يؤكد البعض أنه، رغم أنفي ورغم نفيي، لم يكن يوماً سوى نصفي الآخر، وسيظل كذلك أبد الدهر، وأنني وإن كنت أكبره بالكثير من السنوات، وأكرهه كما يكرهني، كل هذا الكره، فهذا لن يغير من الأمر شيئاً.

أعني عندما كنت في عز شبابي، مزهواً بنفسي، فخوراً بقدرة عضلاتي، لم يكن هو قد ولد بعد، حيث كنت حينها لا أتجول إلّا وبندقيتي فوق كتفي، قدماي تدق صدر الأرض، ورأسي يجول متباهياً فخوراً في مساحات السماء، مُتحزماً بحزام العز والشرف والكرامة كما كنت أظن، اُجابه الوحوش وحدي، وأعيش على ملح الأرض وثمار أشجارها، أدافع عن الجميع بكلتا يديّ، يمينها ويسارها، في الوقت الذي تركني فيه كل الأهل والأقارب وحيداً عارياً مطارداً، أعارك الحر والبرد والوحوش الكاسرة في ذات الوقت، قبل أن أعرف، أنهم كانوا جزءاً ممن يطاردونني سراً، في لاحق السنين.

منذ عقود طويلة، كانت قبائل العمائم الدينية مَنْ تبنى النصف الآخر، أبوه وأمه وأقاربه الحقيقيون، وهم أنفسهم مَنْ كانوا يقدمون له كل ما لذ وطاب، ليبقى كما هو، مسالماً متردداً، لابساً لباس الدين وعباءته الفضفاضة داعياً إليه، محرضاً الناس مبعدهم عن هموم الدنيا، مؤكداً أن للفقراء والمنبوذين والمضطهدين الجنة، وما عليهم سوى الصلاة والصوم والخضوع والسمع والطاعة والعبادة والدعاء، مذكراً بالآية القائلة “وما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون”، ولم يخلقهم لأي سبب آخر، في ذات الوقت الذي ظلّ والأقارب يتهمونني بالتطرف والمغامرة وجر الناس إلى التهلكة تارة، وبالمجون والجنون والكفر والإلحاد تارة أخرى، خاصة وأن جسدي يضم زوجاً من الأيدي، اليد اليسرى بجانب اليمنى، وليس اليد اليمنى فقط.

كان نصفي ذاك يسوق المبررات، ويقود خطب الجوامع للتحريض عليّ، مُحاولاً إبعاد الناس عني لأظل وحيداً ضعيفاً، أو لأتحول لمهزوم مشرد بائس مثله، مُتجاوباً لقوانين الخضوع الأبدي، حيث “العين لا تُجابه المخرز”، و”الإنحناء أمام العواصف” و”السمع والطاعة” لولي الأمر، كيلا أتميّز عنه، حيث كان يسمع ويرى كيف كان جسده يتهالك ويضعف وينهار، وجسدي يزداد قوة وجمالاً وإعجاباً من كل أولئك الفقراء، الذي يحرضهم في كل صلاة، وظل، رغم ذلك، يسوق الآيات والأحاديث لتبرير عجزه أو جبنه أو حتى هجومه غير المبرر عليّ، على ذراعيّ تحديداً، ويسارها بشكل خاص، متهمها بالزندقة والكفر والإلحاد، صارخاً بأعلى صوته، “كفاك جنوناً، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”، وكنت أسمع صراخه لكنني كنت أظل أسير إلى الأمام، ومن يسير للأمام لا يسمع الأصوات الناشزة، وإن سمعها لا يعيرها انتباهاً، فحركته تفرض عليه الإنتباه لقوانين الطبيعة، كي لا تنهشه الوحوش وصخور الجبال والأشواك، فللجبال قوانينها، وللسهول مفرداتها، ودون أن تتقن لغة الأرض لا تستطيع أن تكسب عطفها، ولا أن تُطوعها وتركب ظهرها، فالأرض فرس أصيلة جامحة شامخة، ترمي الخائف الراجف المتردد، ولا ترتضي غير الفرسان لتعتلي ظهور منصاتها، لتحملها إلى بر الأمان في أعالي رؤوس جبالها الشاهقة، خاصة إن كان جل همه المسير والتقدم وصعود الجبال .

نعم، في ذلك الوقت، كنت ما أزال في ريعان شبابي، كنت أرى الدنيا كلها محصورة في فوهة بندقيتي، وكنت رغم زحف السنون على كتفي أزداد شاباً، وكلما تزايدت سنوات عمري كلما نمت عضلات جسدي وكبرت وقويت، وصرت عصياً على الكسر أكثر، لا أعرف الآن السر في ذلك، لكن المؤكد أن بندقيتي تلك، حتى عندما كانت بندقية عجوزاً صدئة مهترئة، كانت تظل تحافظ على شباب جسدي، وتسقيه الشهامة والرجولة والعنفوان، وتشعرني أنني نجمة سابحة في مساحات السماء، ورغم مطارداتهم ، طوال الوقت، لي، الغرباء والأقارب، إلّا أنهم كانوا يخافونني ويرتعبون من سماع صوتي، الذي تشابه مع صهيل الخيول الجامحة، لمجرد أنهم يعرفون أن البندقية كانت ما تزال في قبضة يديّ، وحينها لم أكن أعرف أسرار البنادق، ولم يخطر ببالي لحظة واحدة أن البنادق نوعان، بندقية الفخر والعز وبندقية الذل والهوان، كوني لم أحمل بيدي يوماً بندقية الذل الهوان، ولأن شيئاً كان يهمس في أذني منبهاً لنوعية بنادق الأقارب التي لا تعرف سوى الإطلاق للوراء، مقارناً بين الإثنتين، لكنني كنت لا آبه كثيراً للأمر، وكأن الأمر لا يعنيني البتة.

لقد كنت شغوفاً بصعود الجبال، كنت لا أكاد أنظر إلى أي إتجاه آخر إلاّ من باب الحيطة والحذر، ألاحق الوحوش الكاسرة التي غزت جبالنا على حين غرة، لمّا كنا في غفلة من أمرنا، وحوش لا يعلم إلا الله كيف جاءت ولا حتى من أين، بألوان وأشكال ومخالب ونيوب متنوعة ومختلفة، كانت رغم إختلاف مشاربها مُجمعة على هدف واحد، على إقتلاعنا من جبالنا وأراضينا لتتسيد عليها، لتحتل كهوفنا ومُغُرُنا الغارقة في التاريخ وبطون الجبال، وتأكل خيراتنا وثمار أرضنا بعد أن تطردنا بعيداً في غياهب الصحراء، لتصير تسرح وتمرح وتصول وتجول أنّا شاءت وكيفما أرادت.

في كثير من الأزمان، كنت أسمع أصوات تأتي من الصحراء، ترشقني بالزيت وترميني بالمال، تسمعني أجمل الأشعار، تتغزل بقوامي ورشاقتي وفروسيتي، وتغدق علي أجود أنواع الطعام، وكان الأمر يُشعرني بالنشوة، ويخفف عني ثقل الوحدة التي طالما شعرت بها، ولم أكن أعلم أنها كانت تبعث لي، في الليل، عواصف الرمل وأسراب الجراد .

في البدء كانوا يضعون المال في طريقي، وكنت أراهم أو يُرونني أنفسهم، لم أعد أذكر بالضبط، وكنت آخذه لأستخدمه فيما خصني من ضروريات، وكنت حينها قليل المتطلبات، بضع حبات من الزيتون ورغيف من خبز الطابون، صحن زيت زيتون وزعتر، خاصة من ذاك الزعتر البري التي تظل جذوره متمسكة في بطن صخور الجبال، أو حتى إبريق شاي بالميرمية أو النعناع البلدي مع رغيف من ذات الخبز يجعلني مثل الحصان، وللحق، لم تخلُ وجبة لي آنذاك من زيت الزيتون، وكانت دائماً زجاجته تحت حزامي، وإن كنت أذكر جيداً، فهذا كان ملاصقاً لي كبندقيتي، حتى إن فقدت الخبز جرعت جرعة منه فتكفيني، فهذا كان من طبيعة الأشياء بالنسبة لي آنذاك، أهناك فارس لم يتجرع زيت الزيتون؟!!! أهناك بندقية صالحة لم ترتوي أعضاؤها بزيت الزيتون؟!!! حتى أنني كنت أمسح يداي وعضلات جسدي به إن توافرت كميته أكثر، وكنت قاسي الملامح والعضلات كأنني شَبَه البندقية، كأننا توأمان، أو كأنني جزء منها، تسهل حركتي بعده وتتضاعف سرعة حركة يداي، وكأن الأرض تصير أكثر ليونة وسلاسة وتعاطفاً ومحبة، عندما تشم فيّ رائحة البندقية وزيت الزيتون، حتى أشواك الصبار تصير أكثر ليونة ولا تعود عدائية…

نعم، كنت أقول أنهم كانوا يضعون المال في طريقي، ثم زادوا كمية المال حتى أخذ يتراكم بين يدي، فلم أعد قادراً على حمل المال والبندقية في ذات الوقت، فيداي لا تتسع لكليهما معاً، فصرت أسند بندقيتي بجانبي، أتركها تحت أشعة الشمس الحارقة، وأحياناً تحت المطر لأستطيع حمل المال ونقله وتخزينه، فأوراق المال لا تتحمل البرد والقيظ كالبندقية، وحمايتها تتطلب التضحية بالوقت والبندقية في بعض الأحيان، وعلى أثر ذلك صرت أفكر بهمومي الذاتية، وبعد سنوات عدة، ومع تزايد كمية المال بين يدي،  صرت أتجاهل الوحوش التي تمددت أكثر في مساحات الجبال وأفكر في نفسي أكثر، ثم صرت أفكر في العروس التي سأتزوج وفي أولادي وشيخوختي، فثقلتت البندقية على كتفي، وصرت أضعها جانباً وأحلم بالبيت والعروس وحديقة المنزل، وصرت أنسى أو أتناسى وأتكاسل عن رعايتها وسقايتها بزيت الزيتون، وكففت أنا نفسي عن أكل خبز الطابون المُغمس بزيت الزيتون، وكففت عن شرب الشاي الغارق بالميرمية، وصرت أفضل “النسكافية” على “العدنية”، والأجبان المستوردة على حبات الزيتون وزيته والزعتر، واستطعمت “الفيليب مورس” على “تتن” الحاكورة وسيجارة “الهيشي”، وصرت أفضل النوم بجانب المال لحراسته على تركه وإكمال المسير، أو على حمله وصعود الجبال، خاصة أن كَنْز المال لا يتناسب أبداً مع صعود الجبال.

سرعان ما صرت وبندقيتي ننام أكثر وأكثر، وصرت ألحظ أن البندقية التي ترافق المال تأخذ مواصفات أخرى وتبدأ بالتغير، وأول ما يغزوها مرض عمى البصيرة، فالبندقية بعينين كبيرتين ساهرتين على مر الزمن، وإن كانتا متخفيتين تصعب رؤيتهما، وهذا النوع من الأمراض لا يعمي عينيها بل يضعفهما رويداً رويداً ويخلط فيهما الألوان، فلا تعودا قادرتين على التمييز بين العدو والصديق، وعندئذٍ تنحرف بوصلتها إلى غير الإتجاه، قبل أن تصير تميل إلى الراحة والكسل، ويؤثر عليها وفيها عوامل الطقس ومؤثرات الراحة على طول الزمن، كأنها تتأقلم مع واقع جديد، فيلين حديدها، يتجوف، ومع الأيام تتقلص عضلاتها وتضمر، وتصير أشبه بعودٍ من تبن. وكما “الفرس من خيالها”، ف”البندقية من قائدها”، “من موجهها”، تماماً مثلنا نحن البشر، القارئ  والأميّ، كلما كانت تعرف طريقها، وعلى ظهرها من يقودها ومَنْ يوجهها، فارس يعانق رأسه وجه السماء، حينها تعرف كيف وأين ومتى تفرغ ما في صدرها من غضب، أما إن كانت عمياء البصر والبصيرة فيمكنها أن ترتد إلى صاحبها وتقتله. لذلك وبعد سنوات تقلصت عضلاتنا، وصار صعود الجبال مشقة أحياناً وترف حيناً آخر، وصارت بندقيتي تفضل النوم على اليقظة، تستمرئ الراحة، وكلما نامت بندقيتي أكثر كانوا يزيدون رمياتهم بالأموال لي، فصاروا يتفننون بقذفي بها، مرة كالسهام ومرات في صناديق مقفلة أو حتى أكياس مغلقة، ومع كل حزمة مال كان مرض العمى يزداد ويتعمق في عيني بندقيتي، وصارت غير قادرة على الفعل والتأثير، ثم أضحت عبئاً ثقيلاً على جسدي، فخبأتها وأخذت أجمع المال، لأنني في قرارة نفسي كنت مدركاً أن السر يكمن في البندقية، لكنني لم أكن أعلم أن حديد البندقية يمكن أن يصدأ ويتلف إذا لم تستخدمها، وعندما يأكلها الصدأ لا تعود ذات فائدة، وتصبح كالعصا التي أكلها السوس من الداخل، فجوّفها وأضعفها وجعلها غير ذي فائدة.

صار المال من حولي تلالاً، يكاد يحجب الهواء عني، وأشعر أحياناً أنه يكاد يخنقني ويقتلني، ولم أفكر لحظة أن كثرة المال في بعض الأحيان تقتل أصحابها، فأقوم راكضاً نحو زجاجة زيت الزيتون لأشم رحيق زيتها، وكنت أشعر أول الأمر أنها تجلب الهواء والحياة لي، لكنها كفت لاحقاً عن فعل ذلك، وكأنها تريد أن تقول لي أنها دون البندقية لا فائدة كبيرة ترجى منها، وأنها والبندقية متلازمتان، فقذفت بها بعيداً، فانسكب زيتها على التراب والصخور وسار كأنه جدول، حتى وصل البندقية المخبأة في بطن الأرض ونام في حضنها، وكأنهما ينتظران مَنْ يسقي البندقية ويمسح عنها صدأ الأيام. وصرت أنا أخرج رأسي بين وقت وآخر من بين فتحات المال، لأقتنص كمية من الهواء كلما شعرت بضيق نفس، واستعضت عن استنشاق زيت الزيتون بزجاجات عطور غربية، وصارت رائحة الزيت تصدع رأسي، فابتعدت عنه وعن البندقية وتمسكت بالمال وروائح العطور.

مع تزايد كميات المال تحولت أحلامي في بيت، لأحلام في قصور، وصرت أستخدم بدوري المال  للضغط على الآخرين ليسمعوا كلامي ويحذوا حذوي، وأشتري به أهل بيتي وبعض الجيران، وصرت أسمع المديح والغزل والأشعار فيّ وفي ذكائي وقوتي كما لم أسمعها من قبل أبداً، ولم أعد آنذاك وحيداً كما كنت سابقاً، أو هكذا تهيأ لي، ولم يعد صعود الجبال يستهويني، ولم أعد أجهد نفسي في التفكير في الوحوش كثيراً، رغم تمددها في المراعي كافة، واستيلائها على المُغُر والكهوف والسهول والجبال، بل وتمددها في السماء كله، وبدأت أدرك حينها تلك القوة الهائلة الغريبة الكامنة بين طيات المال وأوراقه، ولم أكن أشك لحظة واحدة بأنه يمكن أن يكون غدّاراً قاتلاً، ولا أن لمعته ليست إلا لمعة فسفورية سريعة خدّاعة، وأنه يمكن أن يقتل صاحبه، كما كان يظل يتراءى لي في بعض الليالي القاسية.

ظلت تلك الأصوات الصحراوية تتقرب مني وتطعمني وتسقيني، لأنها لم تكن تعرف أين خبأت بندقيتي، وربما لأنهم يهابونني ما دمت أملك ذلك النوع من البنادق، أو لأنها لم تتحول بعد لنوع بنادقهم، لذا بالغوا وزادوا في إطعامي خاصة في الليل، وأنا الذي كنت “أتعشى وأتمشى” عملاً بوصية الأجداد، صرت أتعشى وأزيد السهر سهراً، وأنام حتى ساعات الظهر، فازدادت الشحوم حول جسدي، وثقلت حركتي، فأخذ يهجرني شبابي، وصرت مثل كافة العوام، كلما أكبر أكثر كلما أشيخ أكثر.

صارت هجمات الوحوش تتزايد دون أن أتمكن من صدّها كما كنت في الخوالي من الأيام، حيث ركبني الخمول من تراكم الأموال، وتضخمت وتكرشت، وصرت أتجنب مواجهة الوحوش، ثم صرت أهابها، وانتهى بي الأمر على عدم مواجهتها، وصرت أفرض ما أريد على من هم تحت عباءتي بالمال وليس بالمنطق وحسن القول والإقناع، ولمّا يخالفني أعضاء جسدي أحرمهم من المال والطعام، وأحرض عليهم أبناء الصحراء، الذين تجرؤوا لمّا رأوني أقف في صفهم، على كلتا يديّ، خاصة يدي اليسار، وكأنهم يريدون خنقها أو إنتزاعها من جسدي، تحت سمعي وبصري، ولم أفكر حينها بأنها جزء مني، وأن إقتلاعها سيضعف جسدي، وربما كان إثر ذلك نزيفاً قتلني، وعلى أثر ذلك، تكرّر نهش الوحوش لها بدعم من أعراب الصحراء، تفردوا بها وهاجموها بقسوة، شتتوا جسدها وعضلاتها بين السجن والقتل والمطاردة، لأنها ظلت تعاديهم وتعادي كل أموال الصحراء، ففترت قوة بعض عضلاتها، وتجاوبت بعض أصابعها لمرض حب المال المُعدي، فغزى المرض بعض أصابعها، ورغم معرفتها بالداء والدواء، إلاّ أنها لم تعالج المرض من بدايته، وربما لم تستطع ذلك، ولم تقدم العلاج اللازم لتنقذ عضلاتها، فصارت تتقلص وتتمزق وتتقزم حتى أضحت قليلة التأثير والحيلة والحركة، رغم محاولات الكثير من أصابع يدها، إعادة الحياة لعضلاتها.

تكدس المال من حولي وبين يدي، وصرت أحارب بقوة المال وليس بقوة السلاح، وتحولت حربي التي كانت ضد الوحوش إلى حرب مع أجزاء جسدي، من بقايا عضلات وأطراف متورمة متمزقة ضعيفة، واكتشفت لاحقاً أنني أحارب نفسي، أحارب جسدي ويديّ، وصار رأسي مسكوناً بما يعيدونه علي صباح مساء، بأن أقابل “الضيوف” وأستمع إليهم، وأن “الوحوش” التي تتراءى داخل رأسي ما هي إلا هواجس وكوابيس داخل رأسي فقط، وأن “الوحوش” ليست سوى أناس متحضرة، وليسوا سوى “ضيوفاً” قدموا لبلادنا، وما علينا سوى استضافتهم وإكرامهم وحسن معاملتهم، وذكّروني بحاتم الطائي، كرمه ودماثته وحسن أخلاقه، وما علي سوى التشبه به، وصدقتهم لأنني أردت تصديقهم، وكنت أستمتع وهم ملتفون حولي ويصرخون بي في وقت واحد، بيت شعر جرير قائلين:

ألستم خير من ركب المطايا             وأندى العالمين بطون راحِ

وللحظة خلت نفسي مروان بن عبد الملك الذي قيلت فيه القصيدة، لكن متابعتهم للحديث أعادتني إلى حيث كنت، وكان حديثهم يتتابع جملاً متلاحقة في أذني:

ـ “إن “الضيوف” الذين أسميتهم وحوشاً، وما بهم من الصفات الشرسة، ما هي إلّا من عند الله، حباها بها لتدافع عن نفسها أمام الطبيعة القاسية والضواري القاتلة، وأن عليك أن تفهم مرة وإلى الأبد “أن لا إعتراض على الله، لا في خلقه ولا في أمره ولا في إرادته”، “لأن لله في خلقه شؤون”، وأن عليك الإيمان بذلك دون تردد أو تفكير ولا حتى سؤال، وما عليك سوى الإهتمام بعقلك وجسدك وتطويعهما وضبطهما، فالعقل أو الجسد المتمرد، مثل الطفل العاق، “بيجيب لأهله الشتيمة والمسبة”، ويجب إعادة تربيته، بالسّوت على وجه التحديد، لأن “العصا لمن عصا”، وإن خالفك عقلك إقمعه ليعود إلى جادة الصواب، وإن خالفك أحد أطرافك إبتره واقتلعه وارمي به للكلاب، لتأخذ بقية الأطراف عبرة ودروساً، وإن لم تفعل وتروضهما، ربما يأتيانك بما لا تُحمد عقباه، حيث يرميان بك إلى التهلكة، وتعود ” يارب كما خلقتني” دون مال ودون أقارب”…

ونزولاً عند رغبة أقاربي، وكي أكون صادقاً، أمام مفعول مالهم الذي “هذّبني وشذّبني وعقّلني” وجعلني إنساناً آخراً، لدرجة أنني لم أعد أعرف نفسي، رأيتني أقابل “الضيوف”، أحاورهم وأساهرهم وأتحدث معهم، ووجدتهم نِعْمَ “الضيوف والجيران والأصدقاء”، ثم دعوتهم لمائدتي، وقبلت دعواتهم لمائدتهم، ليصير بيننا “عيش وملح”، وتعاهدنا عهد الله أن لا نخون بعضنا بعضاً، وأشهدنا الله والجيران والأقارب على ذلك، وأكدت أن الخائن منّا سيخونه الله ورسله وملائكته وكتبه، وتواعدنا وأكدنا “أن وعد الحر عليه دين” يجب الوفاء به، وتزاوجت بنسائهم دون عقود، لتعميق أواصر الصداقة وترسيخها، عملاً بالمأثور الشعبي القائل “كن نسيباً خيراً من أن تكون قريباً”.

تسارُع الأمور هذا بهذه الطريقة فجر ثورة في جسدي، فانتفضت يداي يمينها ويسارها، لكني أسْكَّتُ يميني “برش” المال والمزيد من المال، وفردت لها المشارب والمعالف، ونثرت لها البرسيم والشعير فوق رؤوسها ، وقمت بتعليق “المخالي” على الطرقات لمن يريد من عضلاتها وأصابعها أن يصير “خروفاً”، وكان عجبي كبيراً لما رأيت كيف علا التسحيج والهتاف، وغطت مأمأة “الخراف” على كافة الأصوات الأخرى التي عارضتني، وارتفعت البنادق لتدافع عني وعن طريقي الجديد، لكنها بنادق من نوع مختلف، وليست مثل بندقيتي القديمة تلك، كما أنني أجهضت “يساري “بتجفيف المال عنها، وبالمزيد من التجفيف، إلا عن بعض الأصابع المنتفخة، فأسكتهم الجوع، وأعمت التخمة الأصابع المتضخمة، وفرضت إرادتي وإرادة الأقارب و”الضيوف” على جسدي وأطرافي وعضلاتي، التي رويداً رويداً “ويا للعجب”صارت مترهلة راعشة، رغم كل المال الذي يغمرني.

قبل تلك المرحلة بالضبط وُلد النصف الآخر، بالضبط عندما كنت ما أزال شباباً، ومرور الزمن يزيدني عنفواناً وقوة، وبندقيتي تلك في قبضة يداي، وزجاجة زيت الزيتون في حزام رصاصاتي، أي قبل أن ألتقي “الضيوف” وأعقد معهم الصفقات من تحت الطاولة ومن فوقها، أعني قبل أن أتحول إلى رجل أعمال ناجح بلباس مُرقّط، بل في المرحلة التي كنت ما أزال أرى فيها “الضيوف” وحوشاً غريبة، وعدواً يجب كسر أنيابه وتحطيم مخالبه، لأجبره على العودة من المكان الذي جاء منه، في مرحلة “الخداع البصري” تلك، التي شوهت رؤيتي وقلبت الحقائق في رأسي، وأرتني الأمور على عكس حقائقها، في مرحلة مفاهيمي المشوهة التي لم أفرق فيها بين “الضيف” وبين الوحش، قبل أن يصير قراري من رأسي وأمتلك “قراري المُستقل” الذي أمتلكه الآن، وبشهادة الأقارب من أعراب الصحراء!!!.

في ذلك الوقت وُلِد ذلك النصف بعد معاناة ومشقة وآلام طويلة، وكدت أجزم مراراً أن ولادته كانت قيصرية بامتياز، وأنها تتم ليكون بديلاً عني، ومنذ ولادته، لم يكن ليوافق على شيء أقوله أو أفعله أو أقوم به، رغم أنني لم أكن قد وصلت لقراراتي الهامة تلك باعتار الوحوش “ضيوفاً”، وبدى لي أنه وُلد ليزاحمني ويصل قبلي الى المكان الذي وصلت إليه، ومددت له يدي الإثنتان، يمينها ويسارها، فرفضهما بإصرار غريب، ولم يشأ أن نتعاون يوماً في أي شيء، واختط طريقاً مختلفاً لنفسه، وظل يشوه صورتي في كل المناسبات، ويتهمني بالفساد والإفساد وشراء الذمم، ويزندقني ويكفرني ويكيل لي من الإتهامات أبغضها وأكثرها بؤساً، ويكرهني ويحقد عليّ وكأنني “قاتل لأبيه” كما يُقال، وبدى أن كل ما كان يريده إلى جانب ذلك هو منافستي ومقارعتي وتشويه صورتي المشرقة، وكي أكون منصفاً، فبعض ما قاله لم يجانب الصواب، لكن، ورغم ذلك، كان بالإمكان أن نسير سوياً، فالطريق يتسع لإثنينا معاً، وجبال الله واسعة وتتسع لنا جميعاً.

وسرعان ما أضاف هدفاً آخراً إلى جدول أعماله، وهو الإبداع في تحويل رجال الدين إلى تجار دين، واستخدمهم في تنفيذ أهدافه ومآربه، وابتدأ في إسترجاع مجتمعنا الذكوري وعودته إلى نفسه، بعد أن أُهينت كرامته وأُذل، وطأطأ رجاله رؤوسهم ومُسحت الأرض بكرامتهم، وذلك بعد أن تمادت المرأة فيه وعليه، وصارت تسرح وتمرح وتذهب وتجيء دون إذن أو رقيب، وصارت ” والعياذ بالله تتشبه بالرجال”، وتَزايد خروجها للعمل والتمشي والتسكع والتمايع والتدلل في وسط الطريق، وتُماشي الرجال من غير “المحرمين”، وتجالسهم مجالسهم في المقاهي والمطاعم والبيوت وفي أماكن العمل، فجعل من المرأة أعلى سلمة أهدافه، خاصة بعد أن أصبحت النساء تتظاهر وترمي الحجارة وتتنظم وتستشهد وتعتقل، وذراعي اليسار شاهد على ذلك، وأعلن أن إنكفاء النساء في بيوتها ضرورة، لنرجع لديننا الحنيف، و لتعود الطبيعة الى نفسها والأرض إلى مجراها، ومن هنا كانت البداية لسيادة ثقافة العمامات اللواتي تدعي إستملاك الدين وتدعوا لعبادة الفرج وتكفير الآخر، فصار أخوة الوطن “صليبيين”، وطوائفه كافرة ومذاهبه فاجرة، واستملكوا الجنة وسجلوها حصرياً باسم طائفتهم، فنصبهم النصف الآخر وسيطاً  “نزيهاً” بين البشر وبين الله، فصاروا يُصورون الله بأنه لا يقبل صلاة أو توبة أو عبادة أو تواصل دون المرور بهم أو من غير وساطتهم وحتى موافقتهم، فاستملكوا بذلك مفاتيح الجنة، التي صارت لا تفتح أبوابها لأحد دون موافقتهم أو صك غفران منهم.

وصار يحشو في العقول مواصفاته للمرأة الصالحة، وصار شيوخه ومُفتييه، في المساجد، يحددون كيفيتها، فقالوا أن وجه المرأة عورة ويداها عورة وعيناها عورة وصوتها عورة وكل ما فيها عورة، وعليها أن تُغطي عوراتها جميعاً عن الرجال وعن النساء في المجتمع برمته، فلا تُظهر منها شيئاً، وكل ما يظهر سيحرقه الله في نار جهنم! وطوّروا الأمر ليطالبونها بإخفاء عوراتها عن الأقارب من عم وخال، ثم عن أب وإبن، إلّا عن الزوج وحده، وكأن الشيطان من خلق جسد المرأة وليس الله، وكأن الله لو كان رائداً لعورنتها بهذه الطريقة وهذا الشكل ما كان قادراً على تغطية جسدها بطريقتة هو، أو أن ينزل نصوصاً صريحة واضحة بهذا الشأن، فحددوا لله كيفية المرأة التي يريدون، فصارت المرأة رجس ونجاسة، وتحولت إلى بئرٍ لا ينبض من الجنس، فأفتوا بالزواج من القاصرات، وبعضهن في سن الطفولة المبكرة، وحشروا الشرف بين فخذي المرأة، وجعلوا منها متعةً للرجل فقط، وأفتى البعض بأن الرجل يمكنه رمايتها كالنفايات إن كبرت أو مرضت لأنها لم تعد متعة له، وسرعان ما نقلوا المتعة للسماء أيضاً، فصارت الحوريات جزءً من متعة الرجل، فصار “أجرة” الشهيد سبعين حورية، ليمارس معهن الجنس في جنات الله، وكل ممارسة جنسية تمتد لسبعين سنة، ثم تستدعيه حورية ثانية لسبعين سنة أخرى وهكذا حتى ينهي السبعين ثم ينتقل بعدها لسبعين وصيفة للحوريات السبعين، فحولوا جنة الله إلى وكر بغاء، فألغوا بفتاويهم المرأة من المجتمع، وحوّلوها من إنسانٍ إلى مجرد شيْ. بعد تشييئهم للمرأة وضعوا للشهداء أجرة، وكأن الشهداء يتحركون بغرائزهم الجنسية وليس بشرفهم وعزة أنفسهم وإيمانهم بعدالة ما يدافعون عنه، فصوروا أن جُل ما يبغيه الشهيد مقابلة الحواري الحسان في الجنة، وكأنه يستشهد من أجل ذلك، وفقط من أجل ذلك، محاولين تغيير مفهومنا ومعرفتنا المتراكمة عن الشهداء، بأنهم في الأصل ذووا شهامة وكرامة وعزة  وإباء، كبارٌ لا يرضون الضيم ولا الذل ولا الهوان، ما دفعهم للثورة على كل  مَنْ يُمثّل الظلم وعلى كل مَنْ يطغى ويتجبر، حاملين رايات العدالة والحرية والمساواة، فكرّمهم الله بالشهادة ليزيدنهم عزة وكرامة ورفعة وإباء، وليرفع من منزلتهم في الجنة كما رفع من قدرهم في الأرض، رجالاً كانوا أو نساء، ومن أي طائفة كانوا أو ملّة أو دين.

ابتدأ النصف الآخر بتطبيق مشروعه، مبتدئاً بملاحقة النساء “الحاسرات السافرات”، متهمهن بالفسق والكفر والزندقة والمجون، وصار يدعو لتأديبهن بالأحاديث والفتاوى والبيض الفاسد، وبعصا الوالد والأخ وحتى الإبن، ليَتُبن ويتهذبن ويتأدبن ويَعُدن إلى ناصية الصواب، إلى طاعة الله وتنفيذ أوامره كما حددها ورسم خطوطها شيوخهم ومفتييهم، وبدأ يفرضها على أرض الواقع، فسرعان ما أخذ يفرض “الحجاب والنقاب” شيئاً فشيئاً، وجعل من كل محجبة أو منقبة قديسة ومن كل حاسرة عاهر، ولم يقل أن المتحجبة أو المتنقبة يسهل عليهما خلع حجابهما إن أرادتا ذلك، أو أن الحجاب والنقاب يمكنهما أن يحجبا الكثير من الموبيقات وأن يكونا ستراً لهن، الأمر الذي كاد أن يؤدي لحرب بيني وبينه، خاصة بعد أن تصدى له يساري ليوقفه عند حده، لكن حرص يساري على وحدتنا و”ستر الله” وحدهما أنقذانا من الحرب،  وهدّآ الأمور وأوقفاها، لكن ذلك النصف ظل كذلك وتمادى ولم يتوقف، وازداد ملاحقة للنساء بعد أن يبس عوده واشتد، حتى أعاد نصف المجتمع كله إلى حظيرة البيت، ورغم ذلك صرنا نسمع عن حالات التحرش الجنسي تتزايد وتتسع، بعد أن كان هذا الأمر نادر الوجود، وما زلنا وبعد كل هذه السنين، نستمع إلى سرحان خيالاتهم الجنسية في بيوت الله، وكأن القرآن خلا إلّا من سورة يوسف، وانتهت المواضيع والهموم إلّا من موضوع المرأة.

نعم، وكي أكون صادقاً، ما أن مرت بضع سنوات على ولادته، أعني وهو ما زال طفلاً، بدأ يهاجم الوحوش بدوره، كان يهاجمها بقسوة وقوة وعنفوان، بعد أن كانت يداي اليسرى واليمنى تتفردا بذلك، قبل أن أقمع معظم عضلات جسدي، وبعد فشلي في وقف بعض عضلات يساري اللواتي تفلتن وتمردن علي وعلى أصابعها المنتفخة نفسها، فما كان مني إلّا أن أطلب العون على أطرافي من “ضيوفي”، الذين سرعان ما لبّوا النداء، وأودعوهم السجن والملاحقة كي لا تتعكر صورتي، فليس جميع الناس تجلّت لهم الصورة واتضحت كما تجلت واتضحت لي، واستمر هو، ذلك النصف في هجوماته المتكررة على الوحوش متمرداً عليّ وعلى الأقارب مُتفلتاً من بين أصابع الجميع، وأخذ يزيد من هجوماته أكثر وأكثر، فصارت موجعة ومميزة وأكثر إيلاماً، وكنت ما زلت أحاول لملمة يمناي حولي وحول مشروع طريقي، مشروع “مصالحتي الشجاعة مع “الضيوف”، في ظل رفض قاطع لكل عضلات من يسراي، التي ظلت تهاجم الوحوش بجرأتها المعهودة، لكن ذلك النصف تفوق عليها وعلى الجميع.

كنت ما أزال في ذلك الوقت أتحاور مع “الضيوف” على التفاصيل، بعد أن كنا قد اتفقنا على المشهد العام، وما أن وضعت يدي في أيديهم، حتى أخذ يعارضني من جديد ويواجه خطواتي، فتنصَّلَت مني يسراي، ونبذتني أمعائي، وصار ذلك النصف مع بقاياي يتصدون للوحوش في الليل والنهار وكل الأوقات لإفشال خطواتي مع “ضيوفي”، فصرت أضعُف ويزداد قوة، وصارت تتقلص عضلات جسدي، فاستخدمت المال “عكاكيزاً” تساعدني في تجاوز ما بدأت من طريق، واستخدمت الكثيرين من القراء والكتاب أحذية للدخول في المستنقع بعد أن أغرقتهم أعلافاً وتبناً وشعيراً، وفجأة ودون سابق إنذار، صارت علائم الشيخوخة تتمدد فوق وجهي، حيث غزته التجاعيد دفعة واحدة، وضعف بصري وتشوهت رؤياي، وصرت أرى الأشياء مكبرة كما في أحلامي، لكن الطبيب أكد لي أن علاجي الوحيد هو بالتعكز على تلك البندقية دون المال، لكن تعودي على المال منعني من العودة للبندقية، ثم احتلت أذناي حساسية غريبة، فصارت لا تسمع إلّا أصوات المديح وأصوات الصحراء المغموسة بالمال، الأمر الذي زاد الهوة مع أعضاء جسدي، وصرت أشيخ وأشيخ، وكانوا يزدادون شباباً وشموخاً، وساندتهم يدي اليسرى وبعض عضلات يميني، فظل يشمخ ويكبر ويكر ويفر، وأنا أهرم وأشيخ وأتقزم، الأمر الذي جعلني أزيد إلتصاقاً ب”الضيوف”، وأربط مصيري بمصيرهم، ومستقبلي بمستقلهم إلى غير رجعة، وأحارب معهم بعض أعضاء جسدي من إخوة الأمس ورفاقه، وصار السلاح الذي في يدي ليس إلّا بإتجاه واحد، نفس نوعية سلاح “الذل والهوان” كما يسميه البعض، وإتجاه رصاصاته هو صدور الرجال وليس الوحوش، نعم صدور من يحاول سلب ما تبقى من قوتي ومن مالي، ومن يطالبني بتغيير اتجاه بوصلتي وتحالفاتي الجديدة، وماداموا يصفون سلاحي بهذا الشكل، وصفت، بدوري، سلاحهم بالسلاح “العبثي”، واستمرت القطيعة بيننا إلى الآن.

صار أعراب الصحراء يمتدحون خطواتي، ويشجعون توجهاتي، وفي أحيان كثيرة يوجهونني خوفاً من أن أخطئ أو أتعثر أثناء حركتي، يدفعونني دفعاً للتقدم في طريقي الجديد، والأهم وكي لا أحن إلى ماضيّ الذي صار يبتعد نحو الشمس، تاركني وحدي مع ظلمات الليل وبرودته العفنة، وربما خوفاً من أن أشفق على أعضاء جسدي، خاصة يساري وبقايا يميني، اللذين كانا حتى وقت قريب جزءً لا يتجزأ من جسدي، قبل أن أقلعهما وأرميهما بعيداً متبرئاً منهما مرة وإلى الأبد، أغدقوا علي المال حتى لم يبق أمامي مجال لتردد أو لتراخي، وصاروا هم يداي وقدماي ورأسي وعقلي وأهلي وناسي، وبعد أن وقع “الفاس في الراس” كما يقول المأثور الشعبي، أخذوا يقلصون رش الأموال ويقلصون عدد المعالف ومخالي الشعير، وصاروا يأمرونني بعد أن كانوا يترجونني ويتمنون علي ويطلبون ودي، ولما أدركت أنهم كانوا سبباً من أسباب توريطي، وعماء بصيرتي، كان قد “دخل السبت…” كما يقول المأثور الشعي، وصرت لا أرى طريقاً غير هذا الطريق، ولا درباً غير هذا الدرب، وكلما تعودت على الراحة أكثر كرهت أكثر تسلق الصخور وصعود الجبال، فأخذت أستجمع قواي وأشحذ عقلي، لأجد المبررات المؤكدة على صحة خياري، وللإستمرار في ذات النهج ونفس الطريق….

وبعد كل هذه السنين اللواتي بقينا فيها نصفين مفترقين، صار ذلك النصف يفعل الأمر نفسه الذي أوصلني لما أنا فيه الآن، يسير رويداً رويداً في ذات الطريق، وكأنه لم يفهم بعد أن الذي يسير على رمال متحركة سيغرق بها لا محالة، وأن الذي يدخل المستنقع ستأكله الحشرات حتى قبل أن يغرق في المياه الآسن العفن، وأنا أراه كيف يتغنى بالبندقية ويتعلق بالمال، تماماً كما فعلت أنا عند دخولي النفق، بل وأكثر من ذلك، فبمجرد سماعه لنداء الصحراء، يترك العشب والكلأ والماء، وتشرئب أذناه للصوت الممزوج بالعلف والمال، ناسياً مثلي أن المال هو الطريق الأكيد نحو المصيدة، وأن التغني بالبندقية لا يعني أبداً حملها وصيانتها واستعمالها، وأن الثمن الذي سيدفعه مَنْ يتخلّى عن ماضيه، لن يكون أقل من ضرب مستقبله بيديه، يعني كمن يطعن نفسه بنفسه، أو كمن يُسلّم سلاحه ليقتله عدوه به.

وفكرت، إنْ كان ذلك النصف يسير بذات الإتجاه المجرب الذي سرت فيه، لماذا ما يزال يرفض وضع يده في يدي؟! فها هو يستجيب لنداء الصحراء، يجمع المال ويشرب بول البعير، ويحشر شرف الرجال في فروج النساء، ثم ذهب بعيداً بعيدا، فزرع القنابل في بيوت بعض الأهل الذين إحتضنوه وآوه من الحر والبرد والوحوش الضارية، حين رفضته أعراب الصحراء وتبرأت منه ذكور النوق، زرعها باسم الله وباسم الدين في أمعائنا وأمعاء أهلنا، فقتل أهلنا ودمر “يرموكنا”، ليرضى عنه أعراب الصحراء ويزيدون له مخالي العلف، فتفجرت أمعاء الجميع ، وضاع “جمع شملنا” الذي كنا نحافظ عليه ونكدسه للحظات عودة قادمة، ولم يكتف بذلك، فسرعان ما بايع سلطاناً عثمانباً من غير دمنا ولا جلدتنا، ويُشكل جزءاً، بل اليد الطولى، لكل أنواع الوحوش التي تعادينا معاً وتشكل الداعم الأكبر لكافة وحوش المنطقة، وحَكَمَنا أهله مئات السنين، قتّلونا وجهلّونا وسلبوا خيرات بلادنا، استخدموا دماء رجالنا وقوداً لغزو الآخرين، دمّروا حضارتنا وأبادوا ثقافتنا وقتّلوا الأقليات وهجروها ، ودمروا مدننا ومدنهم، ولم يبنوا لنا مدرسة أو مصنعاً أو جامعة، وسلبونا أطفالنا ليصيروا جيشهم المقبل، وسبوا نساءنا وانتهكوا حرماتنا، وبعد كل ذلك سلّمونا بأيديهم لوحوش وضواري جاءت من البعيد، وما زال سلطانهم الجديد يضع يده بأيدي هذه الوحوش، على حد وصفهم، يتغزل بها ويشرب الأنخاب معها، يتاجر معها ويزودها ب”زيت”نا المنهوب، ويدمر بلادنا ومدننا، دون أن  يعترض النصف الآخر أو يحتج أو يعاتب أو يجف له جفن، على إفتراسهم المتتالي لأعضاء أجساد أطفالنا ونسائنا، ولا على دمنا المسكوب الذي ما زال ينزف، بل ويطلب من الله أن يجعله أحد “حريم” السلطان، وهو ذاته، نفس سلطانه العثماني، ما زال يحاول سلب سهولنا وجبالنا وبحرنا وسمائنا بعد أن ضم أجداده “إسكندروننا”، مُدخلاً إليها عشرات الآلاف من المرتزقة من الحثالات البشرية من غير دمنا باسم الدين والديمقراطية، الديمقراطية التي يعتبرها في بلاده “بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”، لذلك إعتقل المعارضة وأغلق الأفواه وأغلق المنابر الصحفية وإعتقل الجنود والضباط ورمج العمال ولم يُبق أحداً يعتب على “ديمقراطيته”، متعاوناً مع مَنْ ما زال يسميهم النصف الآخر نفسه، الوحوش، ولمصلحتهم، دون شجب أو إعتراض، من النصف الآخر، أو حتى عتاب، رامياً، ذلك النصف، صخرة في البئر الذي شرب منه، مُديراً، ظهره بذلك، للذي أطعمه وأسقاه ودربه وسلحه، مغازلاً بذلك ملوك الرمال، مُحتسين سوياً، بول البعير والإبل كافة، حتى الثمالة .

مازال ذلك النصف مثلي، تماماً كما كنت، يعتبر المال الذي تغدقه عليه الصحراء مالاً نظيفاً خالياً من الأثمان، ورغم تحذيرات الكثيرين له، أنه ليس إلا مجبولاً بالدم والذل والعار، إلّا أنه مازال يُصرّ، مثلي، مُعتقداً أنه بذلك يُغيِّر من الحقائق، مازال يظن أنه إن فقأ عينيه ستتغير الحقيقة، ويعتبر هذا التذاكي لا يعرفه أحد غيره، متناسياً أنني كنت أتذاكى بنفس طريقته وربما أفضل، وأنني كنت أملك من وسائل القوة أكثر منه، لكنني وصلت إلى المكان الذي أراده لي أعراب الصحراء، وأنه إن ظل كذلك، سيصل إلى ذات المكان وسيجدني بانتظاره…

ما أردت قوله، مادام ذاك النصف، لا يريد أن يضع يمينه في يميني، ولا يريد أن يمحو الصورة القاتمة في رأسه، التي تريه الحق باطلاً، ومادام يرى في “الضيوف” وحوشاً، ومادام لم يتنازل عن سلاحه “العبثي” ويصر على عدم تحويله إلى نوع سلاحي، وما دام يطالبني بإصلاح ذاتي وإعادة القوة لذراعيَ وعضلات جسدي، كي يُفك الوثاق الذي عقدته مع “ضيوفي”، كي أصير عرضة لسهام أعراب الصحراء، فأخسر ماضي وحاضري، وأغامر في أيام مستقبلي، فأصير كمن لم يحصل على “عنب الشام ولا بلح اليمن”، فإننا سنظل نصفين متباعدين، نسير في خطين متوازيين لا نلتقي أبداً، ولن نشكل يوماً، واحداً صحيحاً أبداً، لكنني في الوقت ذاته أُطمئنه وأنصحه، بأنني كنت مثله، تذاكيت وتكتكت وكذبت، وفتحت يداي لأعلاف الصحراء ومالها، ومن يفتح ذراعيه لأموال الصحراء سيصل حتماً إلى حيث وصلت لا محالة، طال الزمن أو قصر، وكما يُقال أن “أول الرقص حنجلة”، يبدأ بالسكوت عن قول الحق، ثم بالتغاضي وافتعال عدم المعرفة، وكلما زادت كمية المال والأعلاف سيؤيد الباطل وينصره على الحق، ثم سيعلن ولاءه للباطل ويبرره باسم الوطن تارة وباسم الدين تارة أخرى، ومرات باسمهما معاً، وسيبدأ بتنفيذ سياسات أصحاب المال، و سيركن سلاحه أول الأمر جانباً، ثم لن يستطيع أن يحمل السلاح والمال معاً، وسيختار المال ويترك السلاح، وسيحاول إقناع نفسه بأنه سيشتري سلاحاً أكثر جودة في مرحلة لاحقة، وإن حَمَلَه سيستخدمه في خدمة أصحاب المال والعلف، وهكذا يكون قد بدأ يغير اتجاه رصاصاته، فيتغير لاحقاً إتجاه البوصلة، ويتغير، حينئذٍ، نوع السلاح من سلاح “الفخر والعز” إلى سلاح “الذل والهوان” كما يحلو للبعض تسميته، وستجف عضلات يديه وجسده، وسيصبح يؤمر وينفذ، ولن يستطيع بعدها أن يقول كلمة “لا” “إلّا في تشهده    لولا التشهد كانت لاؤه نعم”، كما قال الشاعر الفرزدق يوماً، وستصير “هزة رأسه” بالإيجاب من علاماته الفارقة، وسيصل إلى حيث أنا… نعم إلى مكاني هذا بالذات، هنا حيث أقف الآن… وعندها، عندها فقط، سيدرك أنه قد نسي مثلي، أن الأعلاف، حتى لو كانت من أجود أنواع الشعير، فإنها تظل طعاماً للبهائم…

محمد النجار

إن لم تستحِ فافعل ما شئت

أكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أن روايته حقيقية، لا تشوبها شائبة، وأن المتشكك أو الملتبس عليه البحث في كتب التاريخ، القديم منه والحديث، متنوراً متبصراً ليعرف ويتأكد من ذلك بنفسه، وأكد أن من الصحيح القول أن النار تخلف رماداً إن لم تسقها بالمزيد من العمل والحطب والبنادق والأفكار، لذلك لا تستغربوا أن يكون الرماد أحياناً ميتاً خالٍ حتى من بعض الشرارات، حيث الأمل مفقود، والنار محاصرة معزولة محبوسة، لذلك فالإبن اللص لا يشبه أبيه الأمين بشيء حتى لو كان من نفس دمه، بل يكاد يُخرج أباه من قبره، محتجاً غاضباً صارخاً به، أن يتوقف عن النذالة والحقارة والعبث، لذا فشتّان بين الأب والإبن، في كثير من الأحيان كما شتان بين الثرى والثرية.

وأضاف الراوي أن الأمر ينطبق على معظم رموز سلطة بني كنعان، منذ نشأتها وحتى تتهاوى على رؤوسهم، من أعلى الهرم، رأسهم ورئيسهم، و”خليفتهم”حتى وإن لم يصم أو يصلي، ولا حتى يقوم الليل إلا لتفقد تكاثر المال في الحسابات والبنوك، مروراً بحاشيته التي باعت وطنيتها وضميرها واستعاضت عنهما النفاق والكذب والتبعية، التي تساعدها في تكديس المال ودفن الكرامة والمروءة والأخلاق.

وأضاف الراوي، معطياً مثالاً على ذلك:

أن هناك من الأسماء ما يتناقض مع أفعال صاحبه، فحين تقول “الطيب”، يمكن أن يعني الخبيث، وأن “الطيب” في “الطيب عبد الرحيم”، هو اسم وليس صفة، وخلافاً لأبيه، فمن أبرز صفات صاحبه، الكذب والنفاق واللعب على الحبال من أجل حفنة مال، ومثال ذلك أن الرجل كان من أكثر الناس إلتصاقاً برئيسه السابق ياسر عرفات، وكان يدافع عنه ب”الباع والذراع”، وخاصة أمام خصمه اللدود المدعوم أمريكياً، والمقبول من الصهاينة العرب كما الصهاينة الأصليين، السيد عباس، وتخال “الطيب” أحياناً قائداً وطنياً صلباً ، يرفض وصول عباس للسلطة على حساب عرفات، أو حتى أخذ جزء من صلاحياته، ويعتبره مؤامرة على الوطن والقضية، وخطوة على طريق تصفيتها، لكن ما أن توفى الله عرفات وجاء خليفة سلطة أوسلو الجديد، حتى صار “الطيب” من أهم أعمدة “الخليفة” الجديد، ويعلم الله أنه لو جاء أي رئيس آخر بما في ذلك “الدحلان” الذي يعاديه اليوم هذا “الطيب”، لانقلب على نفسه وصار من أقرب المقربين له، مقابل الإحتفاظ بمركزه المالي والإقتصادي، وقوته وتأثيره السياسي ، ويقول البعض أن الله وحده يعلم كيف تتم الإنقلابات داخل كيانات هؤلاء البشر، فيصبحون اليوم نقضاء الأمس، ويدافعون اليوم عمّا حاربوه بالأمس. لكن ومن باب نقل الأمانة كما هي يؤكد الراوي، أن الرجل كان رجل ثقة عند رئيسه الأول وولي نعمته الذي علمه وجعله سفيراً ووزره وأعطاه المناصب والمراكز العليا على طول الطريق، وما يؤكد الأمر تسلم الرجل مسؤولية رئاسة اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد ومحاربته، منذ أواسط التسعينات، وحقق الرجل ما تعجز عنه مؤسسات بأكملها وعدتها وعديدها، الأمر الذي “نظّف” البيت الكنعاني برمته من الفساد والفاسدين، ومن “عواهر” السياسة، ومن الطفيليات البشرية والمنافقين، ولم يبق به لا إنتهازيين، ولا متملقين، ولا طفيليين، لذا وصلنا لما وصلنا إليه الآن، بعد مرور عشرين عاماً كاملة على تشكيل تلك اللجنة، وهذا غيض من فيض من إنجازات الرجل، كي لا نتحدث عن إنجازاته في لجنة الحوار مع المعارضة الفلسطينية، أو في داخل الخارجية الفلسطينية وسفاراتها التي لن تجد فيها ولو سفارة واحدة ولا سفير واحد تنخر بهما مخابرات العالم وسفلته، ولن تجد منهم فاسداً واحداً، أو سفيراً غير مؤهل أو لصاً أو عابثاً أو سكيراً أو حتى تاجراً، تماماً كما أعضاء المجلس الوطني الذي هو أحد أعضاءه، والذي يرفع يده به أوتوماتيكياً ويهز برأسه كلما سمع صوت ولي نعمته، وكذلك لا يمكن نسيان دوره، في تعميق الديمقراطية في مؤسسات السلطة وداخل حركة فتح نفسها، وداخل مؤسسة الرئاسة في السلطة، والأهم حفاظه ومن معه من قيادة “رعاها الله” حفاظاً مستميتاً على القرار الوطني المستقل لبني كنعان، لدرجة أصبح كل من هب ودب، بما في ذلك الإمارات “بلا صغرة” تحاول فرض رئيساً علينا!!!…

ويضيف الراوي، أن ما ذكّره بهذا الأمر الآن وفي هذا الوقت بالذات، ما قاله وصرح به هذا الرجل من أكاذيب وقلب للحقائق، عندما صرّح باسم الرئاسة وبإسم الرئيس شخصياً، أنه يدين بشدة قصف أنصار الله والجيش اليمني لمكة المكرمة، رغم أن كل العالم أقر بأن القصف كان لمطار عسكري في جدة “غير المكرمة” وليس ل”مكة المكرمة”، وهو ومن حوله يعلمون ذلك، ثم و”ما دمتم تقولون أنكم حياديون، فلماذا لم تستنكروا ولو مرة واحدة وبنفس الطريقة والقياس، وحتى لو من باب رفع العتب، أو التساوي في الإدانات، المجازر ضد المدنيين التي يقوم بها آل سعود، لهذا الشعب الذي قدم للقضية الغالي والنفيس، وكان دوماً في مقدمة الشعوب الداعمة لها وبالدم؟ وإن كان لديكم حرج في موضوع اليمن، فلماذا لم تحتجوا على إعتقال “خالد العمير” الذي حكمت عليه محاكم آل سعود بثماني سنوات من السجن الفعلي لا لشيء إلّا لأنه استنكر حرب بني صهيون وقصفهم لقطاع غزة؟ ألا يستحق الرجل منكم ولو كلمة تضامن واحدة معه ؟وإن كنتم لا تهتمون بالبشر بل بالأماكن المقدسة، فلماذا لم تستنكرون ما قصفه آل سعود من مساجد داخل اليمن؟ ولماذا لم تستنكروا تدمير الكعبة من آل سعود على رأس الثائر جهيمان العتيبي وجماعته؟ أو لماذا لم تستنكروا يوماً تدمير المقابر والمساجد التاريخية، ولا حتى قبور الصحابة أنفسهم على يد الوهابيين في مملكة العهر والظلام؟ وما دمتم بهذا الوضوح وهذه الصلابة مع آل سعود، لمبدئيتكم طبعاً وليس خوفاً وطمعاً، فلماذا لا نرى منكم خطوة عملية واحدة على قتل الصهاينة لأبنائنا؟ أم لأنهم أبناؤنا وليسوا أبناءكم؟ فأبناؤكم يتسوحون ويتعلمون ويتاجرون في بلاد العم سام!!! ولماذا لم ترفعوا صوتكم مرة واحدة وتتقدمون حتى لو بشكوى ضد الإحتلال عل ما فعله بأقصانا وصخرتنا وكنائسنا ومقابرنا إلى محكمة الجنايات الدولية حتى لو من باب إغلاق أفواهنا؟”

ويضيف الراوي قائلاً، فعلاً “إن لم تستحِ فافعل ما شئت”، فإن المذكور ومن حوله من قيادة مهترئة متصدعة، لم يعودوا يستحون، لذلك سرعان ما رفضوا مبادرة السيد رمضان عبدالله شلح، لرأب الصدع في ساحة “بني كنعان”، وأن الأمر كان متوقعاً ولا توجد به مفاجآت، كونهم يأتمرون بأوامر “الفرنجة” و”بني صهيون” و”الأعراب الأشد كفراً ونفاقاً” من آل سعود وأشباههم، ولم يكن يوماً أمرهم من رأسهم أو بيدهم، كما أنهم لن يقبلوا أن يتخلوا عن السلطة أو أن يتقاسموها مع أي أحد آخر، فمن هو، من وجهةنظرهم، ذلك الأحمق الذي يترك من يده “بقرة” حلوب أو “دجاجة” تبيض ذهباً، ويتقاسم حليبها أو ذهبها مع الآخرين؟ وبجانب الخسارة الإقتصادية هذه، سيقل عدد المسحجين والأنتهازيين والطفيليات من حولهم، الأمر الذي يمكن أن يؤدي لفقدانهم القرار الوطني “المستقل” لبني كنعان جميعاً، وينعكس سلباً على قضيتهم كلها!!!

كما أن الموافقة على برنامج الرجل يعني، إعادة تثوير المنظمة، ورفع رايات بنادقها، وهم، وبعد أن تكرشوا وتعودوا رفاهية العيش وبذخه، لا يستطيعون ترك حياة الفنادق الفاخرة “v i p” والتعود على حياة الخنادق، ويعلم الله أنهم كم يودون فعل ذلك لو استطاعوا، لكنهم لا يستطيعون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لذلك فهم يفضلون البقاء كما هم، “كعاهرات الليل”، يقتاتون على فتات بني صهيون من عرب وغير عرب، على أن يغامروا مغامرات تفقدهم حتى هذا الفتات…

لذلك، يؤكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أنهم، وبمناسبة الذكرى التاسعة والتسعين لوعد بلفور، أناس واقعيون، غير مغامرين، مدركون أن لكل شيء في هذا الوجود ثمنه، وأنهم منذ اللحظة التي خُيِّروا فيها بين “السلة والذلة” إختاروا بكل صدق واقتناع، الذلة ثم الذلة ثم الذلة، كثمن لا طريق غيره لتحقيق الذات، وأن الناس ستعتاد على ما يبثونه بينهم من سموم في الصحافة والإعلام، وسيرتدعون من خلال الملاحقات البوليسية والقتل والسجون، تماماً كما اعتادوا على قرار 242 و على ال”لعم” الشهيرة، وعلى التنازل عن الميثاق الوطني، والتنازل في الأمم المتحدة عن أن “اسرائيل” دولة عنصرية، من كل “التكتيكات” التي قاموا بها، وأن “آل عباس” وسلطته وأبناؤه وحاشيته، تدرك أن التكتيك يجب أن يخدم الإستراتيجية، وأنهم يجزمون أن تكتيكاتهم تخدم الإستراتيجية، لكن إستراتيجية بني صهيون، والتي صارت استراتيجيتهم جزء لا يتجزأ منها، وتخدم مشاريعهم وأهدافهم المشتركة، كما أن هذه التكتيكات تدر عليهم الملايين، وبالنسبة إليهم، فإن الكرامة مهما علت وكبرت ووسعت واتسعت فإنها لا تستطيع أن تملأ جيباً واحداً بالدراهم، عِوضاً عن الملايين، حتى أن بعضهم يسخر قائلاً أن الكرامة لا تجلب إلا الفقر، بل هي والفقر متلازمتان…ومهما قيل، فإن الخنادق لا تجلب غير الكرامة، والكرامة وعزة النفس لا تستقيمان دون تضحية، وللتضحية أخطار وطريق طويل متعب خطر ممل، وفي أحسن أحواله لا يجلب المال، لذلك سنوا القوانين “الديمقراطية”، وسمحوا للمواطنين بالتظاهر لتأييد الرئاسة، وبمشاهدة سيادته خطيباً مفوهاً على شاشات التلفاز، وبقراءة الصحف التي تخضع للرقابة، وحرّموا استخدام السكاكين في المطابخ والشوارع والأسواق، ولما استخدم بنو كنعان أسنانهم في تقشير البرتقال لأكله، اقتلعوا أنيابهم حفاظاً على الأمن العام، وسمحوا للشعب بأسره، ولكل من أراد منه أن يتحول إلى “أنعام”، ومن رفض حاولوا إقناعه بالحسنى أو بالسوط ، أن “يضع رأسه بين الرؤوس ويقول يا قطاع الرؤوس”، وصاروا ينشرون السلام بدل الكره الذي كان سائداً في البلاد لصهيون وبنيه، وظلوا يقنعون الناس “أن يسامحوا بحقوقهم لأن “المسامح كريم”، وأن جزاءهم في الآخرة “خير وأبقى”، وقرروا أن يصمدوا بوجه بني صهيون حاملين الرايات البيضاء بكل عز وشموخ، وأن يظلوا يطالبون “بالمرحاض” الذي حشروهم به دون سيادة، بعد أن أخرجوهم من غرف البيت وساحاته الخضراء.           لذلك كان كلما ضربهم المحتل بحذائه على خدهم الأيمن أداروا له الأيسر، ولما ضربهم على الخدين معاً، وب”الشلاليط” أيضاً على أماكن أخرى، تتحسسوا أماكن الألم وتعايشوا معه في بادئ الأمر، ولما تكرر الأمر وتكاثر ترداده تعودوا عليه، ولم يعودوا يحسون به، واختفت آلامه لاحقاً، وابتدأت تداعياته، فأخذوا يثبتون حسن نواياهم، فقاموا وما يزالون بخطف “المخربين” وسجنهم وقتل بعضهم، واعتقال “المشاغبين”، وملاحقة الأقلام “الجارحة” لتكسيرها، وإغلاق الأفواه وكتم الأنفاس، من باب الإلتزام بالمواثيق الموقعة مع بني صهيون، وتابعوا باقتحام المخيمات والقرى والمدن التي ما تزال تفرخ المتظاهرين، لتخريب كل ما تم انجازه حتى اللحظة من أمن وسلام وتطبيع ومحبة، وصاروا يؤمنون بالله وآل سعود وبني صهيون، ويؤمنون بأن البقاء للأقوى كما أكد القائد نتنياهو، لغيرهم وليس لهم، وأما هم فقوتهم تكمن في شدة بطشهم للمشاغبين المارقين المغامرين من بني كنعان، وبشدة ضعفهم أمام بني صهيون، وأما نتنياهو وإن ضربهم بالنعال، فإن نعاله يملؤها “سلام الشجعان” وتُغلفها الأعلاف، وسكوتهم عما يفعله آل سعود وغيرهم، رغم معرفتهم “أن السكوت عن الحق شيطان أخرس”، لكنه أخرس غني وأفضل من متحدث فقير. وكما يضربهم نتنياهو بحذائه هم يضربون الشعب بالأحذية والرصاص، ليثبتوا له وللقاصي والداني جديتهم في محاربة رافضي الخضوع لهم والخنوع لأسيادهم من بني صهيون عرباً وعجم.     ويؤكد الراوي بأنه لا يستطيع فتح ملفاتهم مجتمعين، بل فرادى وبالتقسيط، لأن رائحة ملفاتهم وسيرتهم تزكم الأنوف وتعمي العيون، وأن كمية العفن والفساد والسقوط واللصوصية، يستحيل وجودها بهذا الكم في بقعة جغرافية صغيرة “كمرحاض” أرض كنعان حيث يقطنون، بعد أن تنازلوا عن المنزل وحديقة البيت، الأمر الذي ربما يؤدي لعكس ما يريده من وراء هذه الكلمات، لذا سيكتفي بهذا القدر فقط في هذا اليوم… والله من وراء القصد.

محمد النجار

الأستاذ خميس

عاد إلينا الأستاذ خميس بعد أيام على إعتقاله من أجهزة الأمن الفلسطينية، التي تعودت على “إستضافته” بين فترة وأخرى، “إستضافة” إجبارية غير مرحب بها من جانبه، ومن جانبهم ضرورية لتذكيره بعدم تجاوز حدوده، لكنه لم يتعلم بعد أن يكون “رقيباً ذاتياً” على كلماته ونفسه وتصرفاته كما فعل الكثيرون، كما أنهم لم يأتوا لبيته هذه المرة، بل حملوه من الشارع، من وسط المتظاهرين المحتجين على عزاء السلطة ورئيسها وزباينته في جنازة “المجرم” بيريس…

كنا نحن طلاب الصف الثاني عشر، نحبه لدماثته وحسن خلقه، حتى مَنْ عارضه في السياسة، أحبه مثل البقية، فهو يقول ما لديه بكل شفافية ووضوح، بغض النظر عمن يتواجد أمامه، بل إنه، وبالضبط، عندما يتواجد خصمه في الأفكار والمواقف، يقول ما يريد بوضوح ليس بعده وضوح.

ظل الأستاذ خميس يخاطب طلابه ب”أولادي”، رغم أنه لم يتجاوز الأربعين بكثير، ويتحدث كرجل في الستين، بهدوء وروية لا تخلو من الحِكَم، كما ظلت كلماته دوماً تنحض بالأمل في قالب من الفكاهة، وكنا عندما يبدأ بذلك نفهمه مباشرة، ونسايره عارفين أن الحصة هذه ستذهب أدراج الرياح، وأننا لن نتعلم شيئاً جديداً من قواعد اللغة أو نصوصها العربية، وستتحول “حصتنا” إلى عرض لوجهات نظر سياسية لا تخلو من مناكفات أحياناً.

قال الأستاذ خميس بمجرد أن دخل الفصل، ممسكاً ب”طبشورة” بين أصابعه، في نفس اللحظة التي كتب بها:

ـ أعرب الجملة التالية: أفتى “الهباش” كذباً…

ونحن الذين نعرف أن ليس المقصود الدرس بل الخبر نفسه، سأل أحدنا الأستاذ خميس:

ـ وبماذا أفتى الهباش يا أستاذ؟

فقال:

ـ لا أعرف بالضبط أأفتى الرجل أم أفسى، على رأي الشاعر أحمد فؤاد نجم، لكنه أفتى بتخوين معظم الشعب وفصائله وقياداته الرافضة لنهج أوسلو، وبتعبير أدق، لكل من خالف رئيسه بأي شيء، أفتى بتخوينه وبشره بجهنم وبئس المصير، والمصيبة أنه يصرخ ويؤشر بإصبعه مهدداً، ويستحمرنا ويستخف بعقولنا، وكأننا لا نعلم أن معاش آخر الشهر هو من يتكلم بلسانه… أرأيتم عبثاً أكثر من ذلك؟ بماذا يختلف هذا عن الدواعش وأخواتهم؟ أليسوا جميعاً يستغلون الدين ويشوهونه لخدمة مآربهم ومصالحهم؟                                                               لم يكن أي منا ليدافع عن “الهباش” أو عن فتاويه، فكلنا يعلم أن الرخيص رخيصاً مهما قال أو “زايد” أو انفعل، كما أكد صادقاً الأستاذ خميس، وقال عامر الذي كثيراً ما “لحّن” للأستاذ خميس ليستمر في “غنائه”، مكملاً ومساعداً كي تذهب حصة القواعد العربي للجحيم:

ـ يبدو أن غيابك يا استاذ قد حجب عنك آخر ما فعل…

فقال الأستاذ خميس:

ـ هات ما عندك يابني… أتحفني بجواهره… إضربني بأخباره لا سُد فوك…

وكانت ضحكاتنا مسموعة دون تعليق من الأستاذ خميس، وأكمل عامر:

ـ لقد التقى مجموعة من “الحاخامات” الصهاينة، ثم مع رئيس الكيان العبري… من أجل “السلام” كما تعلم يا أستاذ…                                                                                                                               فقال الأستاذ مُستهزئاً:

ـ آه… طبعاً كما أعرف… وكما تعرفون أنتم أيضاً، وكيف لي أن لا أعرف أن كل شيء من أجل “السلام”؟

وسكت قليلاً وكأنه يأخذ موقعاً خلف بندقية في معركة تدور بضراوة على الأرض:

ـ لكن الشيء الذي لا أعرفه، كيف يمكن أن يكون المرء بهذ النذالة؟ كيف يرتضي ذلك؟ إنني حتى لا أستطيع أن أتخيل ذلك، فحتى عدوك يحتقرك عندما تكون عميلاً، ألم يقرأ هؤلاء أو يسمعوا عن معاملة الكيان لعملاءه في فلسطين أو جنوب لبنان؟!!! ألا يكفيهم كيف يتعامل هؤلاء الأعداء مع رئيسهم نفسه، الذي يرقص عارياً أمامهم كالبهلوان في السيرك؟ كيف يكون شعورهم عندما يتحدثون مع الصهاينة والدماء تملأ الشوارع والأزقة؟ ورصاص “سلامهم” يفجر جماجم النساء؟ وهراواتهم تحطم عظام الأطفال؟ كيف يستطيعون التحدث عراة غير قادرين على إخفاء عوراتهم؟

وسكت هنيهة من جديد وتساءل الأستاذ خميس قائلاً:

ـ كيف يستطيع هؤلاء أن يقبلوا أن يساقون كالبهائم أمام المال؟!!! ألم يتعلموا بعد أن البدلات ورباطات العنق، مهما كانت ثمينة، لا تستطيع حجب نهر الذل المتدفق من وجوههم البائسة؟

كنا قد توقفنا عن الكلام تقريباً أمام سياط أسئلته، ولما توقف قال زميلنا سمير مخاطباً الفصل كله:

ـ ألا تتذكرون كلمات الرئيس عباس الشهيرة، وهو يقول، “لو خرجت مظاهرة من عشرة أشخاص ضدي سأستقيل، سأستقيل حتى قبل أن تخرج، لأن هذا يعني أن نهجي ضد نهج الشعب، وأنا لا أقبل أن أعمل ضد نهج شعبي”…

وهنا صفق الأستاذ خميس بيديه، صفق دون أن يبتسم، وقال:

ـ أظن أن الرئيس قد صدق، فهو قد حدد عدد المتظاهرين بعشرة، أما الذين خرجوا ضده في كل مرة فأكثر من عشرة، حتى في الإحتجاج الأخير، لذلك أوعز بقمعهم، كما أنه لم يستقل…

فقال سمير من جديد:

ـ يقولون يا أستاذ أن مظاهرة من “فتح” تصدت لمظاهرة المحتجين، وأن السلطة لا شأن لها بذلك…

فقال الأستاذ خميس، وكأنه خرج عن سياق الموضوع:

ـ أترى يابني عندما يحارب الجيش السوري الإرهابيين كيف تكون شراسة المعارك؟

ولم ينتظر جواباً وتابع:

ـ لكن عندما دخل “الأتراك” بذريعة محاربتهم لم تُطلق رصاصة واحدة، بل يؤكد الكثيرون أن “الدواعش” خلعوا لباس داعش وارتدوا ثياب “الجيش الحر”، وهكذا هؤلاء، يقومون بالأمر نفسه، خلعت شرطتهم لباس الشرطة ولبست ملابس “فتح”، وهذا لا يعني أن ليس بينهم “فتح”، فبالمال يمكن شراء الكثيرين من فتح ومن خارجها أيضاً، وبغض النظر عن لباسهم يابني، إن كان لباس شرطة أو لباس مدني، نعم، بغض النظر عن نوع لباسهم، هناك حقيقة واحدة ساطعة، أنهم عراة لبسوا أو لم يلبسوا، إنهم عراة مخصيين يستثيرون النقمة حيناً والشفقة أحيانا أخرى…

انقضوا على المتظاهرين المحتجين، كما جاءت الشرطة بملابس مدنية أيضاً، وضربوا وقمعوا وفتكوا، لقد كانت أدوات السلطة القمعية أكثر من عدد المتظاهرين، فهربن الصبايا وهرب الشباب، ورغم كوني غير مشارك في المظاهرة إلا أنني تبعت شرطتهم التي كانت بملابس مدنية، لما رأيتهم يتبعون الشباب والصبايا في الشوارع الفرعية، ربما بدافع الفضول، لأعرف الى أي درجة من الحضيض وصلوا، فالخيانة تبدأ بخطوة بسيطة أول الأمر، لكنها تضحي بئراً عميقاً ليس له قرار، فرأيتهم بأم عيني كبف يضربون الجميع، وأثارني التحرش بالفتيات، هؤلاء الفتيات اللواتي في معظمهن بنات شهداء وجرحى وأسرى، يتحرشون بهن ليذلونهن، تماماً كما فعل الأخوان مع الفتيات اللواتي تظاهروا ضدهم في أكثر من بلد عربي، واعتبرونهن خرجن كي يُتحرش بهن!!! ربما يعتقدون أنهم بذلك يثبتون رجولتهم المفقودة. تصوروا، رجال مدججين بالأسلحة والهراوات، يضربون مجموعة صبية وفتيات ويتحرشون بهن، تماماً مثل رجل مخصي يضرب زوجته ليثبت لها رجولته المفقودة، لكن الخلل ليس بهم وحدهم، الخلل الأكبر بمن وراء المظاهرة من قيادات أيضاً، لو كان هؤلاء رجالاً لما تجرأت على مؤيديهم السلطة وأدواتها، إنني أتذكر قبل سنوات خلت، كيف كانت قيادات السلطة نفسها، تقبل الأيادي معتذرة عن أي تجاوز مهما كان بسيطاً كي لا يُرد لهم الصاع صاعان، أما وقد غدت الكثير من هذه القيادات تتساوق مع السلطة”خوفاً أو طمعاً أو الإثنين معاً”، فسنرى أكثر بكثير مما نراه الآن…قلت لهم:

ـ هذه “إسرائيل” في دواخلكم، انفضوها خارجاً إن كان لديكم شيئاً من مروءة أو بقايا رجولة، كي لا أقول اطردوها عن أبواب غرف نومكم، من يراكم يحسبكم تضربون أعداء الوطن، وأن الكرامة والعزة تسيل مثل ينبوع من جنباتكم، وأنتم لا كرامة ولا مروءة ولا عزة ولا شهامة، تقمعوننا هنا، ولدى الأعداء تحاولون إظهار “حضارتكم”، من خلال حضور جنائز فاشييهم وفي لقاءاتكم معهم، لا تتعبوا أنفسكم، فإذلالكم تم ويتم على أياديهم، فهم يعرفون بؤسكم، وبدلاتكم هذه يمزقونها متى أرادوا، ويأخذونها منكم متى أرادوا… هل تجرؤون حضور جنازة أي شهيد؟ هل تستطيعون رفض أي أمر لهم؟ هلّا تمنعتم عن ضرب الأسرى والمحامين والمحررين والمناضلين؟

اعتقلوني مع آخرين، وأثناء التحقيق أرادوا إقناعي بأنهم سلطة وطنية، فقلت لهم:

ـ “أقنعوا أنفسكم أولاً ثم تعالوا لإقناع الغير”، فأي وطنية في سلطة تقمع شعبها وتأسر مناضليه وتتتآمر على تصفية مقاتليه؟ لو ما زال هناك قوى جذرية في ساحتنا الفلسطينية، لما تركتكم تفعلون ما تفعلون ضد الشعب وبإسمه في آن، ولكانت أدركت أن هذه المرحلة تتطلب العودة للعمل تحت الأرض، العودة للعمل السري وكأنها في عهد الإحتلال نفسه، بل أكثر من ذلك، فهذه القوى وهذا الشعب أمام إحتلالين، إحتلال الصهاينة ويده الضاربة الثانية، سلطة أوسلو

قال لي أحدهم:

ـ نحن طليعة حركة التحرر العربية…

قلت:

ـ معاذ الله، فعلى حركة التحرر الوطني “السلام” في مثل هذه الحال، أنتم لم تستطيعوا أن تدينوا مجزرة بحجم مجزرة الكرادة في العراق أو الصالة الكبرى في اليمن، كي لا تُغضبوا آل سعود، والعراق واليمن هما من أكبر “الخزّانات البشرية” لقضيتنا الوطنية، فهل من يخاف على حفنة مال يمكن أن يكون قائداً أو مؤتمناً لحركة تحرر وطني عربية؟ أنتم لم تعودوا جزءً من حركة التحرر الوطني لا العربية ولا الفلسطينية، منذ اليوم الذي وضعتم أيديكم بيد الصهاينة…

وأكملت:

ـ من يرمي البندقية الوطنية من يده ويستبدلها ببندقية من الإحتلال، لن يكون جزءً من حركة التحرر الوطني العربية أبداً

قال الضابط:

ـ أنتم لا تدركون المخاطر التي تمر بها قضيتنا، إنهم يتآمرون على الرئيس، يريدون المجيء ب”الدحلان” بديلاً عنه…

قلت له، ودق الجرس معلناً إنتهاء الزمن المحدد للحصة، لكن أي منا لم يغادر مقعده، وأكمل الأستاذ خميس لما رآنا في أماكننا:

ـ ألم تدركوا بعد أن القضية تختلف عن الرئيس؟ ثم أنهم هم أنفسهم الذين تآمروا مع الرئيس الحالي على سلفه، يتآمرون مع “الدحلان” عليه الآن…

وانتهى الحوار، فكلانا يتحدث بلغة مختلفة، لغة لا يفهمها الآخر، وأقول لكم الآن، فأنتم المستقبل في كل الأحوال: ـ المُخَطِط نفسه والسياسة نفسها والأدوات الرخيصة نفسها، حتى لو تغيرت الوجوه والأسماء، فالتابع، مهما علا شأنه وبدا لك علو هامته، يظل ذليلاً، ومن الذليل لا تُرجى عزة نفس أو كرامة…

قال زميلنا عزمي والذي لم يكن مقتنعاً بكل ما يقال عن الرئيس:

ـ يبدو لي أن هناك مبالغة في كل هذا الحديث عن الرئيس، مبالغة كبيرة، فالرئيس أكثر من يعرف معنى الحرية والديمقراطية وتأذى منهما…

فقال عامر:

ـ كما اليهود، بقولون أنهم أكثر مَنْ عانى من المجازر الهتلرية، انظر ماذا يفعلون بنا الآن؟

قال سمير وقدبدأنا نتهيأ للمغادرة، كون حصة القواعد العربية كانت آخر الحصص لهذا النهار:

ـ آخر أخبار الرئيس تقول، إن ديمقراطية الرئيس ووطنيته تطالبان بملاحقة الناشطين الفلسطينيين على “الفيس بوك”، والرئيس يستعين بالإسرائيليين من أجل ذلك…

ـ إنه رجل ديمقراطي فعلاً…

ابتسم البعض منا، وخرجنا والأستاذ خميس في وسطنا، وكنت أسمع من بعيد نتفاً من أحاديثه وهو يقول:

ـ نعم حددوا لي محكمة لتطاولي على المقامات العليا…

محمد النجار

آخر أيام الرئيس…

استلمت على بريدي الإلكتروني هذه الرسالة، لأخذ رأيي الأدبي والسياسي فيها، رغم أن الكاتب لم يُذيِّل رسالته سوى بحرفين بدلاً من الإسم، ويعطيني الحق بنشرها إذا رأيتها تناسب النشر… وجاء في هذه الرسالة: ” عزيزي السيد محمد النجار المحترم، أرسل إليك هذه المسرحية، لعلها تكون مناسبة للنشر، رغم معرفتي المسبقة أنك لم تكتب يوماً مسرحية، ولا أعلمك ناقداً أدبياً، وأن ما تكتب يزخر بالأخطاء الإملائية والقواعدية، لكني رأيت نفسي أرسلها لك، لا تسألني لماذا، لأنك لن تحظى بالإجابة الشافية، كوني أصلاً لا أعرفها، لذا لندخل إلى صلب الموضوع:

بصراحة لا أعرف إن كانت هذه مسرحية فعلاً، أو قصةقصيرة، أو حتى أحلام يقظة، أو هلوسات يائس، ربما عليك أن تحدد ذلك بعد قراءتها… من جانبي أعتبرها مسرحية والباقي لا يهم…

قبل البدء، يجدر الإشارة ألى أن هذه المسرحية هي عمل متخيل فقط، لا يوجد إلا في عقل كاتبه، وليس له أي علاقة بالواقع، لا من قريب ولا بعيد، حيث وكما أعتقد، لا يمكن أن يوجد لها هناك سنداً أو مُسوغاً حقيقيا، لا في الوقائع ولا الأماكن ولا الأحداث ولا الشخوص، حيث، بالعقل وبالمنطق، لا يمكن أن تجد أنذالاً وحقراءاً وأذلّاء، ولا فاقدين للرجولة والوطنية والحياء داخل أي شعب، ولا قيادة بهذا “الخصاء”، بالشكل الوارد أدناه في المسرحية، فما بالك على رأس شعب كشعب فلسطين أو داعميه من شعوب عربية، وعليه، فإن أي تشابه في الأسماء والأماكن أو الأحداث أو الشخوص، ما هو إلّا بمحض الصدفة، الصدفة فقط، وليس مقصود بأي حال من الأحوال، وبالتالي فإن الكاتب أو الناشر أو حتى القارئ، لا يتحملون أي مسؤولية قانونية أو أخلاقية أو مادية، لذا وجب التوضيح…

“مسرحية من فصل واحد

آخر أيام الرئيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــس

تُفتح الستارة، ليظهر حقل واسع ممتد، بؤر وكتل رملية متفرقة، متقاربة ومتباعدة، بها ما يشبه آبار البترول، قطعان من الإبل والخراف والماعز وجموع من الخيول، محاطة بطائرات حربية ودبابات وأسلحة ثقيلة، وفي وسط هذه الكتلة توجد منطقة تتركز فيها آلات الحرب، وفيها كتلتين بشريتين مفصولين عن بعضهما البعض، وقطعان من الخراف والماعز والخيول، وفوق كل كتلة منهما يتربع بضعة أشخاص، بعضهم بعمامات فوق الرؤوس وبعضهم ببدلات ورباطات عنق، يأكلون المناسف، وقد “شمروا أياديهم إلى ما فوق الكوع”، ويبدوا أنهم يفضلون اللحم على الأرز، ويأسفون على حبيبات الأرز المتساقطة فوق رؤوس العوام، وكان الناس المركوبين عاجزين عن الحركة على ما يبدو أو خائفين، كي لا يزعجون الراكبين، وفي أحيان كثيرة إذا تحرك شخص ما، يتم لكمه ممن يركبه، وأحياناً يتم وضعه دخل سجن بدون إضاءة ولا طعام ولا ماء، الهدف منه إضعاف الأيادي وإخراس الألسنة، يتم إطفاء الأضواء عن المسرح كله، إلا الجزء الأمامي منه، حيث ينتهي أولئك لابسوا البدلات ورباطات العنق من الأكل، لكنهم لا ينزلون عن أكتاف الناس، ولا عن ظهر القطيع، يتم تكبير المشهد أكثر وأكثر، فتصبح وجوه الأكَّالين واضحة وتختفي صور المركوبين، فيظهر تكتل من شخوص بأسماء مختلفة، لا نستطيع أن نكتب أسماءهم حسب الظهور على خشبة المسرح، لأن ظهورهم يكون دفعة واحدة، فتظهر الشخوص المتخيلة بالأسماء التالية:  الرئيس محمود عباس، كبير المفاوضين صائب عريقات، يحيى رباح، عزام الأحمد، الهباش، جبريل الرجوب، محمد الدحلان، الرئيس عبدالفتاح السيسي بجانب قدمه أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، يطل من شباك في بناية مجاورة،  والملك سلمان أمام قصر خلف الجميع، ونتنياهو وآخرون أقرب ما يكون من عباس ومن معه، في مراقبة للمشهد كله…

يقول الرئيس محمود عباس، بعد أن غسل يديه، وبدأ يمسحهما بمنشفة:

ـ الحمد لله… الفاتحة على روح المرحوم بيريس…

يقرأ المجتمعون الفاتحة، ويضيف عباس:

ـ لا تلقوا بقايا الطعام في سلة المهملات، حرام، أعطوه للكلاب، أغسلوا الأطباق وضعوه أمامها، كما لا تنسونهم من العظم… وزّع “السادة” يا عزام…

يقول صائب عريقات، حينما بدأ عزام بتوزيع القهوة السادة:

ـ حاضر يا سيادة الرئيس، هكذا نفعل دائماً بالفتات والعظام…

الرئيس:                                                                                                                               ـ هكذا تقول في كل مرة، لأكتشف أنك تعطيهم العظام بعد أن “تمصمصها” كاملة وتجردها من الدسم، إترك شيئاً لغيرك يا صائب…”الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته”

يقول صائب مفتعلاً الغضب، وكأنه ضحية أو مظلوم:

ـ حاضر سيدي الرئيس، لكن الأمور ليست كما وصلتك

الهباش متألماً:

ـ ما يقوله سيادة الرئيس صحيحاً، حتى أن بعض الكلاب لم تر العظام منذ شهور، لكنها صابرة من أجل عيون الرئيس… “اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، اللهم زد من حسناته وأقلل من سيئاته، اللهم اجمعنا معه في جناتك…”

يقول الرجوب موضحاً للرئيس ومعقباً على دعوات الهباش:

ـ ربما لولا خدمتنا لصاحب الجلالة الملك سليمان طال عمره، لأصبحنا نحن أيضاً مثل بقية الكلاب الضالة… ، وأنت يا هباش “قل بعد عمر طويل يا أخي… لا يجوز…”

يظهر الإمتعاض على الرئيس، ويأتي صوت الدحلان من مكان بعيد:

ـ نعم صحيح، والرئيس السيسي لم يُقصِّر أيضاً…

يرد يحيى رباح ليشعر الرئيس أنه الأقرب اليه حتى من صائب نفسه:

ـ لا تزيدوا هم الرئيس أكثر، فالرئيس لا يستطيع إطعام كل الكلاب، الضالة وغير الضالة، “يادوب يقوم بنا”، مهامه تتعدى مجرد رعاية بعض الكلاب…

يسكته الرئيس بحركة من يده ويسأل:

ـ ما هي آخر المستجدات يا صائب؟

صائب:

ـ كل شيء كما تريد ياسيادة الرئيس، لكن الأمر لا يخلو من منغصات هنا وهناك، فمثلاً لم يشعر أحد بإهانتك عندما رفض كيري وضع يده في يدك، لكن البعض إلتقط الصورة، وأنزلها على وسائل التواصل الإجتماعي…

الرئيس:

ـ أوقفوا وسائل التواصل الإجتماعي إذن…

عزام الأحمد “مُتأتئاً مُتفتفاً”:

ـ لا نستطيع سيدي الرئيس، لكن من الأفضل أن نقول لمعترضي “فتح” أنك ذهبت لجنازة المرحوم بيريس باسم السلطة وليس بإسم “فتح”، ونقول للبقية بأنك ذهبت باسم “فتح” وليس السلطة… كما كنا نُعمل سابقاً، ونحمل كل شيء على ظهر “المرحومة”منظمة التحرير … قبل أن ندفنها…هه هه هه

الرئيس مبتعداً بوجهه عن الأحمد، كي يبتعد عن بصاقه الخارج مع كلماته:

ـ كم مرة قلت لك أن لا تتحدث في وجي؟ أدر وجهك على الجانب الآخر ياأخي، ماذا بك؟ أمعتقد فعلاً أنك فيلسوف؟ تُعيد هذه الجملة في كل مرة وكأنك إكتشفت الماء، غير وبدل ياأخي، وابتعد بفمك عن وجهي، أنا أسأل لماذا لا نستطيع وقف وسائل التواصل الإجتماعي؟

يقطع الهباش غضب الرئيس ثم يقول:

ـ إنه يتحدث بإرتياح سيدي الرئيس، فكل مناقصات السلطة بين يديه، ماذا يهمه؟

يجيب جبريل مبتسماً على سؤال الرئيس، متخطياً كلمات الهباش:

ـ لأن الأمر بيد إسرائيل، ونحن كما تعلم سلطة بالإسم، يعني أشبه بروابط القرى، يعني كما تعلم سيدي الرئيس، أنك ورغم كونك رئيساً، إلّا أنك وكما يقول المأثور الشعبي “زي الدجاج ـ بلا مؤاخذة ـ لا تستطيع التحكم حتى ببيضاتك”…

الرئيس غاضباً:

ـ “الملافظ سعد يا جبريل، حسِّن ملافظك”..

صوت الدحلان من نفس المكان:

ـ إنه يقصد إهانتك يا سيادة الرئيس…

الرجوب:

ـ أنت تخرس ولا تتدخل بيني وبين الرئيس

الرئيس للمكان الذي أتى منه صوت الدحلان:

ـ كل الناس تحكي أما أنت فاسكت، كلنا نعرف تبعيتك لمن، فاسرائيل من وراءك وأمريكا من جانبك والسيسي وسلمان مغطيين كل حركاتك…

يتنحنح السيسي والملك سلمان كل من مكانهما، فيعتذر الرئيس قائلاً:

ـ والله “بكسر الهاء” أنني لم أقصد إغضابكما، فأنا كما تعلمان بدونكما “لا أساوي ملات أذني نخالة”، فأنا أعرف قدري طال عمركما، و”رحم الله إمرء عرف قدر نفسه”.

صوت الدحلان غاضباً، وكأنه صار بينهم، ويبدو غير راغب بتمرير شيء للرئيس:

ـ وما الفرق بيننا يا سيادة الرئيس؟  كما يقول المثل” لا تعايرني ولا أعايرك، الهم طايلني وطايلك”، فنحن الإثنان محاطان بأمريكا وإسرائيل وبقية من ذكرت، وأنت تقدمت بتصريح وانتظرت ليسمحوا لك بحضور جنازة المرحوم بيريس، لكنهم دعوني ورفضت كي لا أحرجك، كما أنني أكثر منك جرأة، ولدي إستعداد على التوقيع مباشرة على ما يريدون، أما أنت فتريد التأجيل قليلاً…

صوت الملك سلمان ومن خلفه السيسي:

ـ اتركوا الدحلان ويكفي تجاوزات، “الزلمة زلمتنا وزلمة حبايبنا”، واللي ما عملته أنت سيعمله هو”، اتركوه أم نوقف العلف؟

يقول الهباش هامساً في أذن الرئيس:

ـ المسامح كريم يا سيادة الرئيس، والصلح خير… وأنت تعرف محبتي لك وإخلاصي، فقد وضعتك في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شبهته بك، لكن كيف بربك هذه الفتوى، والله لم تخطر على بال إنس ولا جان، “لو كان النبي محمد موجود لذهب لجنازة بيريس”كيف ياسيادة الرئيس؟ ألا أستحق علاوة مالية على هذه الفتوى؟…

فقال صائب للهباش متخوفاً غيوراً:

ـ ولو كان الدحلان أو أيٍ كان لفعلت الأمر نفسه، فأنت دائماً مع الواقف، ولا تعتقدن أن تملقك يمر على الرئيس، ثم أنك بفتواك هذه مجدت بيريس وليس الرئيس.

فقال الهباش مدافعاً عن نفسه:

الله وحده يعلم ما في القلوب، و”نيال مظلوم وعند الله بريء”، الله يسامحك يا صائب، رغم أنك لم تكن يوماً “صائباً” في شيء

صائب غاضباً من كلمات المفتي:

ـ يسامحني أنا؟ أنا أقوم بكل أوامر الرئيس ومن هم خلف الرئيس أيضاً، أما أنت فتُحمِّل الرئيس “جميلة”على مجرد فتوى واحدة أخذت ثمنها منذ سنين!!! لو كنت مكانك لفتوت كل يوم فتوى لصالح الرئيس، أقلة ما “تهبش” من الرئيس ياهبّاش؟ يا رجل خاف ربك، فأنت تقبض بالدولار!!!

الهباش:

ـ من يسمعك يظنك تعمل متطوعاً!!! أنا لا آخذ أربعين ألف دولاراً في الشهر الواحد مثلك…

صائب:

ـ الله أكبر الله أكبر من عينك الحاسدة، عين الحسود فيها عود، من شر حاسد إذا حسد، وهل هذا المبلغ يكفي؟يعلم الله أنه لا يكفي حتى منتصف الشهر، إسألوا اولاد الرئيس، والله لولا ما أتقاضاه من “مصاريف البروتوكولات” وتجارة الأراضي من تبديل بين b و c مع “الأخوة اليهود”، لما استطعت أن آكل الخبز ، كما أنني أقبل بحكم أبناء الرئيس، إن كان يكفيهم أربعين ألفاً مصاريف شهرية، فإنني سأضع حذاءً في فمي وأخرس…

فهم الرئيس رسالة “صائب”، قال له هامساً:

ـ إخرس الآن ولا تفضحنا أكثر، سأردفك بعشرة آلاف أخرى من هذا الشهر، لكن اسكت الآن..

صائب عريقات مبسوطاً لكنه أكثر طمعاً:

ـ لا تكفي ياسيادة الرئيس، إجعلها عشرين…

يبدأ الرئيس بالغضب، وينظر لصائب الذي “إختصر” وكف عن الحديث بالأمر، يقول الرئيس:

ـ آه يا صائب، أخبرني عن ردات الفعل على مشاركتي جنازة المرحوم…

يجيب صائب:

ـ على الصعيد الدولي جيدة يا سيادة الرئيس، أما على الصعيد العربي فممتازة…

يقترب من أذن الرئيس ويقول:

ـ وصلتك مكافأة على ذلك “مخلاة علف” من تاج رؤوسنا ملوك وأمراء “آل سعود” و”سطل” عظم من مملكات ومشيخات أخرى…

ومن بعيد بانت نيوب الملك سلمان ضاحكاً، وقال الرئيس السيسي غاضباً لأبي الغيط:

ـ ألم نكن نحن أبدى بالعلف والعظم؟!!!

يقول الرئيس سائلاً:

ـ وكيف هي الأمور على الصعيد المحلي؟

صائب مجيباً مبتعداً عن الموضوع:

ـ لا جديد سيادة الرئيس… كما هي دائماً…

الرئيس:

ـ فسّر يا صائب، فصّل…

صائب شارحاً:

ـ قوى اليسار جميعها تشجذب وتستنكر…

الرئيس:

ـ أوقفوا مخصصاتهم المالية فوراً، وأدخلوا قياداتهم التي لا تريد السكوت السجن…

صائب مكملاً:

ـ حاضر سيدي الرئيس، وكل فصائل الإسلام السياسي أيضاً، بإختصار سيدي الرئيس، كل فصائل العمل الوطني تستنكر…

الرئيس مكابراً:

ـ لا يهمني شيئاً ما دامت “فتح” خلفي…

صائب:

ـ حتى فتح ليست كما في الماضي سيدي الرئيس، معظمهم صار لا يريدك… نحن فقط وبعض الآخرين الذين ما زلنا مؤمنين بك وبقيادتك، نحن فقط المخلصون، نحن ســ…

الرئيس مقاطعاً:

ـ أعلفوهم…

صائب:

ـ معظمهم لا يُعلفون سيدي الرئيس، كما أنه لا يوجد علف لكل هذه “الأمة”، فكما يقول المأثور الشعبي:”قالوا عند الغولة عرس، قالوا يدوب يكفيها ويكفي أولادها” ، يعني إذا علفناهم لن يتبقى علف لا لك ولا لنا سيدي الرئيس…

الرئيس متعثراً بصوته مستعملاً يده لتوضيح كلمته:

ـ إذن فالبنادق والهراوات… ما فائدة البنادق إن كنا لا نستعملها، خاصة بنادقنا المصممة خصيصاً للإطلاق للخلف؟

يتدخل الرجوب شارحاً مقاطعا :

ـ هذا هو الصحيح، كيف تكون رئيساً مهيوباً، إن كنت ستسمح للرعاع أن يعترضوا على قراراتك؟!!! أظن أنهم متحالفون مع جماعة “الماري كريسمس” سيدي الرئيس…

الرئيس لصائب، متجاوزاً كلمات الرجوب:

أكمل يا صائب…

يحيى رباح مقاطعاً:

ـ ألم أقل لك سيدي الرئيس “أن ثلثي الشعب الفلسطيني حثالات”؟

صائب مكملاً وغير معلقاً على تصريح يحيى رباح:

ـ هناك بعض الضباط الذين أعلنوا معارضتهم على الملأ سيدي الرئيس…

الرئيس:

ـ إفصلوهم من وظائفهم…

صائب:

ـ فعلنا سيدي الرئيس، وهناك قادة طلابيين أيضا…

الرئيس:

ـ استبدلوهم، فعلاً كلهم حثالات….

صائب:

ـ إستبدلناهم سيدي، لكن خرجت بعض المخيمات أيضاً….

الرئيس:

ـ أخرجوا “السحيجة” مقابلهم إلى الشوارع، ألم تعلموا بعد أن “السحيجة” نصف السلطة؟…

يهمس عزام الأحمد، متلعثماً ومتفتفتاً من بين كلماته مجدداً، للرئيس:

ـ هؤلاء يسحجون لمن “يعلف” أكثر، ومنذ فترة ليست بقصيرة، لم يُقدم لهم  سوى القليل من “العلف” سيدي الرئيس…

الرئيس مبتعداً بوجهه عن فم الأحمد، قائلاً:

ـ الله لا يشبعكم، أكلتم “أعلاف” السحيجة أيضاً؟!!! لا تُوفرون شيئاً، تأكلون الأخضر واليابس؟!!!

يبدأ كرسي الرئيس بالتحرك من تحته، وكأن الناس تريد إسقاطه من على أكتافهم، عندما تبدأ الأصوات تصل إلى أذنيه من الأسفل، حيث لا تُسلط عليهم الأضواء، ولا يعلم الرئيس من أين تتساقط الكلمات في أذنيه:

ـ جردوا جالب العار هذا من فلسطينيته، ضموه لجوقة الصف الطويل الذاهب بقدميه الى مزبلة التاريخ، لكل من فقدوا عروبتهم وصاروا جزءا من سيف الإحتلال…

ـ لقد باع وزمرته الوطن ودمروا القضية، وسلموا رقابنا للإحتلال، ربما لأنهم يعرفونه جيداً لم يقترب منه أحد رغم إغتيالهم لمعظم قادة المنظمة، رغم وجوده في نفس المنطقة في تونس…

قبر “السيد المسيح” يتحرك ويصرخ ألماً، اطردوا “يهوذا الأسخريوطي” الجديد، الذي يريد تسليم رأس “مسيحنا”، من جديد، لأعداء الإنسانية.

ـ أبعدوا هذا “الرجس” عن ظهر الشعب الصابر، أبعدوا هذه “النتانة” عن هذه الأرض الطاهرة.

ـ أبعدوا هذه “العاهرة” التي تريد الرقص طرباً، حاملة رأس يوحنا المعمدان…

يظهر الغضب الحاقد على وجه نتنياهو، والأصوات ما تزال تتعالى منطلقة نحو السماء، فيرى الجمهور نتنياهو، مرة بجانب السيسي الذي يشدد في إغلاق “معبراً” بين يديه، ومرة بجانب الملك سلمان الغاضب، وهو يلوح ب”مخلاة علف” في الهواء، وسط الأصوات القادمة في غير مكان من أوساط العتمة:

ـ هؤلاء لم يكونوا يوماً عرباً، من دمر وطناً ليس بعربي، ومن يحاصر شعباً ليس بعربي، ومن يتعاون مع محتله ضد شعبه ليس بعربي…أكنسوهم الى المزابل…

فقاعات ضوء كأنما نبع ماء ضعيف، يبدأ بالظهور من أوساط الناس المركوبة” منذ سنين، تبدأ الإحتجاجات، الهتافات في غير منطقة وشارع ومدينة ومخيم، في كثير من الأرياف التي أغتصبت أرضها وأشجارها من بيريس ومن تربوا على يديه، وعباس الذي بدأ يشعر أن كرسيه قد بدأ يهتز، وأنه ربما يسقط من على ظهور الناس لتحت أقدامهم، قال مستعيناً بالمرحوم بيريس:

ـ رحمك الله يا بيريس، لا يبقى غير وجه الله والعمل الصالح، ومن أكثر منك أصلاً عمل صالحاً وساعدنا؟!!!

ثم عاد للحديث معاتباً:

ـ ألم تقولوا أنكم “إستحمرتم” الشعب؟ ما هذه الأصوات التي أسمعها إذن؟

الهباش:

ـ هناك من ما زال يرفض “الإستحمار” سيدي الرئيس، لكن لا يهمنك شيء، سأجد لك فتوى جديدة “تُدجنهم” من جديد…

يصرخ الملك سلمان من بعيد:

ـ إهتزاز “كرسيك” يعني إهتزاز عروشنا أيضاً… القطيع يجب أن يظل قطيعاً، ألم أقل لك عليك بثقافة “بول البعير”؟

عليك الآن بالعصا، “العصا لمن عصا”…

الرئيس مقرراً:

ـ إقمعوا رجالهم واغتصبوا نساءهم ليعرفوا ان السلطة خط أحمر، وليعلم القاصي والداني أن الخروج عن “القطيع” يؤدي الى الذبح…

يهتز كرسي الملك سلمان قليلاً وكرسي السيسي أيضاً، وتستنفر قوى الأمن في بلادهما، يقول السيسي لأبي الغيط:

ـ  وهل وضعتك على رأس الجامعة العربية بغير فائدة؟إعمل “حاجة”

يستدعي أبو الغيط الجامعة العربية التي تتداعى بنفس اللحظة لدورة على مستوى القمة، لتنقذ القضية الفلسطينية من “مغامرات” شعبها غير المحسوبة، شعبها الذي يرفض “التدجين”، ويرفض أن يظل “قطيعاً”…

يستدعي عباس حليفه “جيش الدفاع الإسرائيلي”، من خلال لجان التنسيق الأمنية، ويأمر جيشه بتجهيز البنادق، نفس البنادق التي لا تُطلق إلاّ للخلف، فتلك الأصوات خطيرة وتهدد الأمن العام، وتجعل السلطة في مهب “ريح التطرف”.

ومن بعيد، يكون راكبي أكتاف البشر، من أصحاب “العمائم”، ولابسي اللباس الأفغاني هذه المرة، يلحسون أصابعهم من بقايا اللحم العالقة بها، ينظرون الى الرئيس ويضحكون، ويرسلون فروض الطاعة للملك سلمان وبعض جاراته من مشايخ وإمارات، ويتجاذبون أطراف الحديث، عن الطريقة الأمثل ليظل “القطيع قطيعا” في مناطقهم المحاصرة…

تمت

م .ن

”   عزيزي السيد م . ن المحترم:

قرأت ما أسميته أنت مسرحية من فصل واحد، والتي كما تقول أنت لا علاقة لها بالواقع، وأنها من نسج خيالك، وإليك تعليقي:

  • إن مقطوعتك هذه لا علاقه لها لا بالأدب ولا بالشعر ولا  بالزجل ولا بالنظم ولا بالنثر ولا بأي نوع من أنواع الفنون.

  • إنها كالخمر “ملعون كاتبها وناشرها وساردها”، وتودي بصاحبها وقارئها إلى طريق لا يعلم غير الله أين يمكن أن ترمي به، وأنا رجل، طوال حياتي، أمشي بجانب الحائط طالباً السترة من الله وجده.

*وأنا الذي لا أعرفك، وابتليتني بهذه الأمانه لأقرأها وأعلق عليها وأنشرها، حاصداً شرها دون خيرها، حيث لا توجد لها غنائم أو فوائد، لا أريد حتى أن أعرفك ولا أن أقرأك ولا أريدك أن تراسلني بعد الآن، وأنا بريء منك ومن كتاباتك إلى يوم الدين، و”حدّ الله” ما بيني وبينك.

  • وكوني لا أعرف كيف أعيد إليك رسالتك بعد أن أغلقت حسابك الإلكتروني، وعملاً برد الأمانة إلى أصحابها، أنشر لك رسالتك، كما هي دون تعليق ولا حتى إبداء رأي، والساتر هو الله…

محمد النجار