إحذروا الإخوان والسلطان… فشيمتهما الغدر

كنت أراه مراراً جالساً على مقعد صغير على باب بيته، بحطته الفلسطينية القديمة وعقاله الأسود، كأنه تمثال حجري قديم لا يتزحزح، يجالس، في أغلب أوقاته، الطريق، هادئاً صامتاً ثابتاً عابساً راسخاً كصخرة جبلية لا تحركها ريح ولا تهزها عاصفة، ولا تستطيع قوة، مهما عظمت، تحريك شفتيه المطبقتين على حفنات من الكلمات، اللواتي يمكنها تفسير حالته وشرح مأساته. نادراً ما ذهب وجاء إلى أي مكان، يغادر مكانه في أوقات معينة فقط، هي على الأغلب أوقات الطعام في بيته، الذي يقذفه خارجه كل صباح ويُجلسه أمامه، حتى يأتي أحد أفراد أسرته، ليأخذ بيده ويدخله لداخل البيت، وكنت أثناء مروري، من ذات الطريق، إلى بيتي، ولا أجده جالساً، أشعر بعرْي المكان، بفراغ الطريق وموته، كأن شيئاً ناقصاً، وكأن الطريق قد فقط سمته وخصوصيته، وإلى حد كبير فقد الحياة، التي طالما ميّزته عن باقي طرقات المخيم وجعلته حيّاً، إذا إستثنينا لعب أطفاله الكثر كما بقية أزقة المخيم وطرقاته المبعثرة، كما وبتاريخه الذي ما يزال حياً بوجود هذا الرجل ـ التمثال، وأمثاله، في وسطه، فرغم صمت هذا الرجل إلا أنك تستطيع تلمس عبق التاريخ وشموخ الوطن، أصله وفصله من تاريخ مكتوب ومحفوظ وصامت، أو مسكوت عنه ومُغيّب، أو حتى تائه بقصد في زحمة الأحداث ومخططات التزوير والتقسيم ومسح الذاكرة.

كان لا يتحدث مع أحد، ولا يُزعج أحداً بمتطلباتٍ مهما كانت صغيرة، يرد التحية على من يلقي بها عليه بما يشبه الصمت، ثم يعود إلى نفسه وأفكاره وهمومه التي لا يعرفها أحد البتَّة في المخيم كله. تراه أحياناً ساكتاً ساكناً مثل صخرة، وأوقاتاً قليلة يتحدث مع نفسه، لكن أحداً لم يظن يوماً أنه مجنون أو معتوه، وفي أكثر المبالغات في وصفه، كان يقول البعض “أنه رجل على باب الله”، لكن ما تبقى من قُدامى من جيله، ممن عاصروه وعرفوا قصته، كانوا في كثير من الأحيان يذهبون بكراسيهم ويجالسوه، رغم سكوته الدائم، متناقشين متحاورين في شتى الأمور، خاصة حول ما يجري في بلداننا التي ما زالت تأكلها النيران، وتحاول تفتيتها “الجراذين” بمختلف المسميات، يُدلي كل منهم بأسهمه، يختلفون ويتفقون، يتناقشون على مسمعه دون أي ردة فعل منه، لا بالأخذ ولا بالرد، حتى تأتي مواعيد مغادرتهم، يسلمون عليه ثم يغادرون، ويظل هو في مكانه على كرسيه نفسه، ثابتاً، مثل صنم حجري، لا يتحرك.

منذ ما يقرب من ربع قرن والرجل ـ التمثال، على حاله هذا، بعد أن كان عَلَماً من أعلام المخيم، منذ أن قيل له: ” جد لك عملاً آخراً… لم يعد لدينا لك مكان…كما أن ميزانيتنا لا تسمح ببقائك متفرغاً”، منذ ذلك التاريخ وجد نفسه دون أي قيمة ولا كيان، رجلاً لا لزوم له ولا مكان، فهو لم يطلب أن يكون متفرغاً، بل هم من طالبوه بذلك قبل عقدين من ذلك الزمن، عندما كان القابض على مبادئه كالقابض على الجمر، حينما عز الرجال في الزمن الصعب، والتزم ووافق تاركاً عمله لمصلحة العمل الوطني، واعتقل مرات لم يعدقادراً على عدّها، ولم يعترف يوماً على أحد رغم وصوله حد الموت مرات ومرات، وأصيب في ذراعه ورفض الذهاب للمشفى، كيلا يمنحهم فرصة الضغط عليه من خلال جرحه، والله وحده الذي ستر ذراعه من البتر، عندما مزقت الرصاصة عضلاته دون العظم، وبعد استبعاده حاول العمل، لكن شبابه كان قد خدعه وغادر، لا يدري هو متى أو أين، وكيف بهذه السرعة وعلى حين غرة، دون إذن أو إعلان، وعمل وعمل بما تبقى لديه من عضلات، من بقايا قوة ظلت متشبثة في العظام، ولما تعذّر الأمر ارتضى بالقليل، وظل أحد أبرز شخوص المخيم الوطنية، ورجل إصلاحها الأول، وكاد يمر فوق الأمر بهدوء لولا ما تم بعد إعتقاله الأخير.

عام كامل ظل في سجنه الإداري، لم يُقدم له رفاقه محامياً ولم يصله منهم مؤونة ولا غذاء، إلاّ من زوجه التي لم تكن قادرة على إطعام أطفاله، ولولا عمل إبنه البكر أحمد، إبن السابعة عشر عاماً تاركاً صفوف دراسته، لما لقيت العائلة ما يسد رمقها، كما ان “جماعته” “كما سمّاهم دائماً بسبب التحبب وشدة القرب”، لم يتفقدوا عائلته يوماً أثناء سجنه ذاك، ورغم كل ذلك تخطى الأمر وتجاوزه، لكن أن يخرج من السجن ويزوره الناس جميعاً إلّا “جماعته”، فكانت الضربة الأكبر له.

كان ينتظر أن يأتوه، أن يفرحوا به، أن يُهنئوه بسلامة خروجه، أن يخجلوا قليلاً ويعتذروا على تقصيرهم معه، وكان سيسامحهم لو فعلوا وينسى كل الإساءات والتقصير، لكنه لم ينتظر إلّا الهواء، فصار يخرج إلى باب داره حاملاً كرسياً من القش، ويجلس على باب بيته منتظراً، لعل وعسى، وظل يفكر لماذا، فهو لم يُقصر يوماً بعمل ولم يتهرب أو يتقاعس، كما لم يخن أحداً لا في حياته ولا سجنه المتكرر، بل بالعكس، فلطالما أوقف إعتراف الآخرين بصموده، فكان الحائط الذي لم يمروا منه أبداً، وظل يحاول إيجاد سبباً مفقوداً لم يجده إلى يومنا هذا، فصار يشعر بإغتراب لم يعشه أبداً، وقال كلمته تلك لولده الذي ظل يتذكرها رغم سنه المبكر، قال ” أن تكون غريباً بين جماعتك… بين أبناء بلدك… هي الطامة الكبرى، الإغتراب يابني أقسى من السجن والزنازين والتعذيب، بل حتى من الغربة نفسها، أقصى بكثير…” وسكت، ولم يتحدث بعد ذلك أبداً، ابتلع كل الصمت الجاثم في فضاء المخيم كله، وتحولت عيناه الى زوج من الكريات الزجاجية، وماتت البسمة التي كانت تميزه، وسرعان ما صار يتحول لون بشرته إلى لون الموت، وصارت تتراجع حركات جسده، فصار يتحول كل الجسد إلى عصب صخري ثقيل، يكاد لا يربطه رابط باللحم والدم الآدميين، وفي تلك المرحلة بالذات، داهم المخيم والمدينة وكل القرى المجاورة، بركان أقسى بكثير من بركان النكبة، بركان اجتث الأخضر واليابس، فأعاد خلط الأوراق والألوان والأقلام، فصار أخ الأمس عدو اليوم وعدو الأمس رفيق اليوم، ورفعت أغصان الزيتون على دوريات الجيش الذي كانت، بقايا دماء النساء والأطفال، عالقة بها مُتشبثة ترفض النزول، كشاهد على جرائم ترفض الإندثار رغم مرورها في دهاليز الزمن وجريانها مع مزاريب التاريخ، ومع تفجر بركان “أوسلو” المدمر ذاك ومرور الأيام، صارت حالة التمثال تتقدم على حالته الإنسانية، فصارت تتراجع روحه، أو ربما الأصح أن روحه صارت تتغطى بالتراكم الصخري وتفقد حياتها شيئاً فشيئاً، ولم يعرف أحد أبداً، أن ما حدث لأبي حاتم كان بسبب البركان أم بسبب الإغتراب، أم بسبب الإثنتين معاً، أو لأسباب أخرى لا يعرفها أحد.

هذه قصة أبو حاتم التي عرفتها في “سجنتي” الإدارية الأخيرة، فسلطتنا لا تستطيع أن تحمي نفسها ناهيك أن تحمي شعبها، وجنود الإحتلال يسرحون ويمرحون ويداهمون ويعتقلون ويُصيبون ويقتلون دون مواجهة أو دفاع ولا حتى رفض أو إعتراض، فداهموا المخيم واعتقلوني وآخرين، وحولوننا للإعتقال الإداري، وهناك التقيت “أبا إبراهيم” الذي حدثني عن “أبي حاتم” ،الذي صارت قصته تتراجع وتتقلص في العقول، وتضمر وتغور بعيداً في النسيان. لذلك وبعد خروجي ذهبت لعنده، جلست مقابله على باب بيته، حاولت محادثته، إغتصاب نظرة، حركة، بسمة، دون نجاح، لكنني، رغم ذلك، بقيت أتردد عليه بين وقت وآخر، ربما من باب الشفقة أو الإحترام أو العرفان لهؤلاء الذين لا يموتون إلّا واقفين، جذورهم مغروسة في قلب الأرض ورؤوسهم عالية في حضن الشمس، وصرت أحدثه عن قصص السجناء ومآسيهم التي خلقت كل هذا العنفوان لديهم، تلك القصص التي ما أن صارت جزءاً من الماضي حتى أصبحت مجالاً لأكثر حالات التندر، مدركاً أنه جزء منها، ممن نحتوا قصصها في فضاء الوطن كله، بعد حفرها عميقاً في خلايا جسده، ثم حدثته عن “أبي إبراهيم”، ونقلت له سلاماته وتحياته، الأمر الذي خلق لدي إنطباعاً بأنه فوجئ لأن هناك مَنْ ما زال يتذكره، وأن تاريخه لم يتم نسيانه، لم يمت بعد، بل ما زال حياً عند جزء من الناس على أقل تقدير، فأكثرت من الحديث عنه، وبالغت في نقل أخباره، لكن دون أن تصدر عنه أي إشارة على أنه يسمعني، بل ظلت عيناه الزجاجيتين زجاجيتان، ولون الموت الأبيض الصخري يغطي وجهه، ولم يلتفت لي أو يُغير من طبيعة جلسته أبداً.

لكنني ولسبب ما واصلت زياراتي ومجالستي له، وصرت أنقل له الأخبار اليومية ورأيي بها، خاصة ما يجري من تدمير لأوطاننا، وللحق لا أعرف حتى الآن لماذا كنت أفعل ذلك، ولطالما كنت أتمنى لو كان والدي مثله، والدي الذي ظل يعتبر نفسه مُحايداً أو حتى غير معني بكل مل يتم في مخيمنا أو خارجه، وأكثر ما فعله في حياته هو الدعاء على “اليهود” والدعاء لأمة المسلمين، كنوع من الهروب من المسؤولية، لكن الله وكأنه لا يريد الإستماع له أو لمن لا “يعقل ويتوكل”.

تردادي المتكرر لاقى استغراب الكثيرين من سكان الشارع، بما في ذلك أبناؤه، لكن أولاده سرعان ما استحسنوا الأمر، وصاروا يأتون لي بكأس شاي أو فنجان من القهوة كلما وقعت قدماي في المكان، وسرعان ما تحول وجودي لعادة أو شئ مألوف فيما تلى ذلك من أيام…

قلت له في مجالساتي المتتالية له، أشياء يعرفها أفضل مما أعرفها، وأشياء ربما لم يسمعها أو يعرفها منذ فترة مرضه أو إغترابه هذا الذي لم يخرج منه، وكان جل هدفي أن أحدثه، أن أرى منه كلمة أو إشارة أو حركة، قلت:    ـ منذ زمن قسّموا القضية، بعد أن رموا بنا خلف العصر ووراء التاريخ، فكان التاريخ العثماني وبال علينا، فبعد محاولات تتريكنا وسلب خيرات بلادنا، سلخوا لهم جزءاً من أرضنا، وأعطوا الباقي “لسايكس وبيكو”،وسرعان ما صار “بلفور” يوزع بلادنا كوطن قومي لللآخرين…

وسكت قليلاً، ثم أضفت:

وها هم أنفسهم، العثمانيون، مع ورثة “سايكس وبيكو” يدمرون بلادنا لتقسيمها واقتسامها، ليجعلوا من أحفاد “بلفور” البلد الأكبر والأقوى والأكثر تماسكاً، وربما الأكبر عدداً كما الأكثر عدة، أتتخيل لو استطاعوا تقسيمنا بين مذاهب وطوائف ماذا كان يمكن أن يحل بنا؟ستكون أكبر دولة أصغر من كيان بني صهيون!!!                             ولم يكن ليتطلع إلي في أي يوم، ورغم كل ما سمعته عنه وعرفته، إلاّ أنني بقيت أنظر له على أنه من الجيل الثائر وليس الجيل المهزوم، وهذا ما يميزه عن والدي الذي ما زال يدعو الله دون نتيجة، دون أن يكل أو يمل، وفي يوم آخر قلت له:

ـ ما زال “الأتراك” لديهم معسكرات “لداعش والنصرة”، يتدربون فيها على فنون قتلنا وتذبيحنا في الشوارع، بقيادة ضباط من “أصحاب الوطن القومي” والأمريكان والأتراك وآل سعود، لذلك عندما احتجزت لهم داعش فريقهم الدبلوماسي في الموصل، أطلقوا سراحهم دون أن يمسوا منهم أحداً “حفظاً للجميل”، تسع وأربعون دبلوماسياً لم يُجرح أو يهان أو يوبخ أو يقتل أحد منهم…. أتتخيل مدى العلاقات…

في كل ترددي ظل موضوع الغزو التركي ومحاولته تقسيم أوطاننا، ما يشغل بالي وما أقوله وأكرره على مسمعه، وصرت كمن يتحدث إلى نفسه دون أن يتلقى جواباً، لكنني أنا الذي ظل والدي يلقبني ب”العجول” على مدار حياتي، كنت طويل البال، وأتحدث مع أبي حاتم وكأنني أتحدث مع إنسان كامل الإنسانية وليس مع رجل تحوّل إلى صنم أو تمثال، رجل تحول اللحم والدم فيه إلى حجارة وصخور، وكنت أجلس بالساعات أحياناً ولا أكف عن الحديث، وقلت في يوم آخر:

ـ “السلطان العثماني الجديد”، يرفض أن يقترب أحد من حدوده، يعتبره مُهَدِدَاً لأمنه القومي، لكنه يتدخل في بلادنا، ويطالب صراحة بإسترجاع ما سلبته دولته العثمانية، يريد حلب والموصل وسنجار وكركوك ودابق وإعزاز، وبكل صفاقة يتدخل بمن يحق له في بلادنا محاربة الإرهاب ومَنْ غير المسموح له بذلك، وبعد أن إنهمكت جيوش سوريا والعراق في حربيهما، صار يرسل الدواعش بطائراته لكركوك ليعيقوا تقدم الجيش العراقي ويبعث بضباطه لتلعفر والموصل ليحاربوا بأنفسهم هناك، وليفتحوا الطريق للدواعش ليهربوا الى الرقة السورية عبر أراضيه، ويفعل كل هذا مُدعياً محاربة الإرهاب.

سكت حينئذٍ قليلاً ثم تابعت شارحاً كي لا أكف عن الكلام، وقلت:

ـ ها هو قد أدخل قواته لجرابلس ودابق، في الشمال السوري، دون أن تُطلق ولو رصاصة واحدة بينه وبين الدواعش، ليس هذا فحسب بل كل ما في الأمر أن الدواعش غيروا أعلامهم بأعلام “الجيش السوري الحر” التابع للأتراك، فصار الأتراك محاربين للإرهاب!!! أتتخيل كيف يمكن أن تستقيم الأمور؟ أن يكون جيشاً سورياً وحراً وهو تابع للأتراك والأمريكان، ويتدرب على يدهم ويد آل سعود وبني صهيون!!! والأمرّ من كل ذلك وأدهى أن هذا “السلطان العثماني الجديد”، يقود دولة علمانية، لكنه يريدنا أن نقتسم إلى طوائف ومذاهب وأديان!!! وهو نفسه، حامل لواء السلطنة والخلافة والإسلام،  أمر أخيراً محاكم بلاده بإسقاط ملاحقتها للصهاينة المجرمين الذين قتلوا أبناء شعبه التركي في سفينة مرمرة!!!!

ظل الأمر على حاله مع أبي حاتم، وبقيت أشرح له، أو الأصح أنقل له آخر الأخبار والتطورات في سوريا والعراق، وآخر أخبار اليمن السعيد الذي يحاول آل سعود أن يحرقوا سعادته، ودور الإخوان المسلمين المتواطئ مع السلطان العثماني، ودورهم في استجلاب كل حثالات البشر لقتل شعبنا العربي ومحاولة تقسيمه في غير مكان، تماماً كما فعلوا بإرسال أبنائنا لحرب الروس في أفغانستان لمصلحة الأمريكان، في قضية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وها أنت ترى أفغانستان بعد عشرات السنين من حكمهم الإسلامي، كإحدى أوائل الدول الفاشلة في العالم، بعد أن كانت على أبواب الحضارة والتقدم، هؤلاء الإخوان أنفسهم لم يستجلبوا ولو فرداً واحداً لمحاربة الإحتلال منذ سبعين عاماً، وحاربوا كل من حاول محاربته وتحالفوا مع من صادقه…

وقدمت له خلاصة الأمر على لسان موشيه آرنس أحد وزراء حرب كيان إسرائيل، وأحد أكبر باحثيه الإستراتيجيين، والذي أكد أخيراً، “أن كيانه فشل في الرهان على تنظيم القاعدة وداعش، لتحقيق ما عجز عنه جيشهم في ضرب المقاومة عام ألفين وستة”، ولم أكن أنتظر أي رد كعادتي، وقبل أن أقوم، وضعت ركبته في باطن يدي، وقلت:

ـ سآتي بعد يومين لأراك، يوم الجمعة يا أبا حاتم…                                                                           وأنا الذي لم أُناده ولا مرة حتى الآن بلقبه هذا، وجدت سيلاً من الدمع يأخذ له مجرى في أخاديد وجهه، أخاديد كان الزمن وسنوات عمره قد تآمرا عليه وخطوهما مثل سكة حراث في أرض بور، دمع متدفق وكأنه نبع قد تفجر لتوه واندلق، ولم يئن أو يتلوى أو يتألم أبو حاتم هذا، أو على الأقل لم أشعر أنا بذلك، وتفادياً للحرج، قمت وخرجت وتركته في مكانه وكأنه تمثال، بقدرة قادر، ينزف دموعاً لا تتوقف، تسير في أخاديدها مثل جدول…

كان حينها الوقت وقت غروب، تتمايل الشمس فيه متثاقلة نحو المبيت، كطفل يقاوم النوم ولا يستطيع رده، جلست على كنبة في صالون بيتي، وفتحت التلفاز دون أن أسمع ما يقول، وكنت ما زلت أفكر في دمعات ذلك الرجل العجوز المنهارة من إرتفاع عينيه إلى ما تحت ذقنه شبه الحليق، وكأنها تريد الإنتحار ولم تستطع، فظلت معلقة في أطراف ذقنه، تتراخى أيديها، غير قادرة على الثبات ولا على الإنهيار، فلا ذقنه شبه الحليق أمتصها، ولا تراخت يديها لدرجة الإنهيار، لكنه سرعان ما إحتضنها بباطن يده، وكأنه يريد أن يخفي جرماً قد إقترفه.

كانت الظلمة قد بدأت تفرد أجنحتها فوق المنزل والمخيم، وربما فوق المدينة نفسها، عندما تسلل إلى أذني صوت طرق هامس على باب بيتي، طرق متراتب هادئ، كأن الطارق يخاف أن يجرح حديد الباب، لكن لرجل سياسي مثلي، عرفت أن القادم أحد رفاقي الذي أراد أن لا يلفت الإنتباه إليه، وقدرت أن في الأمر شيء جلل، وبهدوء قمت وفتحت باب بيتي، لكن المفاجأة جاءتني حادة قاطعة كنصل سكين واضح لا لبس فيه، لقد كان أبو حاتم واقف على بابي متلفتاً ميمنة وميسرة، كأنه يقوم بعمل سري لا يريد أن يلفت الإنتباه إليه، كما في الخوالي من الأيام، رحبت به وأدخلته وأجلسته مكاني وجلست مقابله، وقبل أن أبدأ بالحديث كعادتي قال هو هذه المرة:

ـ ظننت أن من المفيد أن لا أنتظر ليوم الجمعة كي نلتقي، فبعض القضايا لا تحتمل التأجيل ويوم الجمعة ما زال بعيداً، ومن هم في مثل سني لا ضمانة عندهم ليعيشوا أبعد من يومهم، فما بالك بأيام حتى يجيء يوم الجمعة…

فقلت:

ـ خير يا عمي أبا حاتم…أُأْمرني…

فقال:

ـ عليك الذهاب إلى سوريا…

قلت:

ـ لكنني كما تعلم ممنوع من السفر، لكن لماذا؟

سكت قليلاً وكأنه يفكر في حل لهذا اللغز وقال:

ـ إذن إبعث من تثق به لهناك، إبعثه للقيادة السورية ليقل لهم وعلى لساني أنا أبو حاتم المهدي، الذي كان له ماض مشرف، أن لا يثقوا يوماً لا بالسلطان العثماني ولا بالإخوان المسلمين، فالغدر من شيمهما، بل هو ما يميزهما…

وقام من مكانه متوجهاً إلى الباب، وغادر قائلاً:

ـ اللهم اشهد فإني قد بلّغت… سأذهب حتى تستطيع تدبير أمورك بسرعة…

وغادر، وبقيت وحدي، وفكرت في كلماته، وكنت كلما فكرت في الأمر وبأي إتجاهٍ، وجدتني أصل لنفس خلاصته، فالغدر من شيم هؤلاء الناس، كانت الإنتهازية والتجارة بالدين والكذب والنفاق من ميزاتهم، ونادراً ما تجد مبدئياً واحداً في هذه الأوساط، وفكرت بأن القيادة السورية وبعد تجربتها الطويلة الدامية معهم، لا بد أنها توصلت لنفس خلاصة أبو حاتم المهدي…

إنتظرت يوم الجمعة بفارغ الصبر، وما أن إبتدأت الشمس تشق لنفسها طريقاً فوق الغيوم، بين نجوم السماء المتخفية في متاهات الدروب هروباً من عيني النهار، حتى وجدتني أحتضن كرسياً من القش وأتوجه مباشرة إلى الطريق، حيث أبو حاتم يجلس كالعادة على كرسيه، إقتربت منه حاملاً ابتسامتي فوق شفتي، وما أن جلست حتى نظر نحوي وبيده كوباً من الشاي على غير العادة، هززت له رأسي بالإيجاب وكأنني نفذت نصيحته، رأيت محاولة ابتسامة نصر تحاول الولادة المُيسرة من تحت شاربيه، لم يقل أبو حاتم المهدي شيئاً، ولم ينبس ببنت شفة، لكنه نظر إليّ طويلاً ثم ناولني كوب شايه لأشربه.

محمد النجار

كلب الشيخ شيخ

أصابتني القشعريرة، فجأة على حين غرة، وانتفض جسدي، تهالكت مفاصلي وارتخت، ولم تعد تحملاني ساقاي، وسرعان ما أصابتني الحمى، وتساقط شعر رأسي كما أوراق الأشجار في فصل الخريف، مباشرة بعد تصريح وزير الخارجية القطري، أطال الله عمره، حين قرر سعادته بأن بلاده لن تظل ساكتة، ولن تقف مكتوفة الأيدي، أمام مجازر “الأسد” ضد الشعب السوري، و”أنها ستشارك بالحرب إن تطلب الأمر ذلك”، يا ويلتي… يا ويلتي!!! تُشارك بالحرب!!! إن على الدنيا السلام… وأضاف أن بلاده لن تفكر في الأمر مرّتين، أمام الدماء الجارية من الشعب السوري الشقيق، الذي فتحت له بلاد السيد الوزير ذراعيها مستقبلة، بدلاً من أن يتوجه إلى بلاد الغرب “الكافرة” لا قدر الله ولا سمح، فكيف يمكن أن يهاجر شعب سوريا لبلاد الغرب البعيدة، ومشيخة العز والنخوة والشجاعة والكرم موجودة وعلى مرمى العصا؟ فقيادة مشيخة سيادته، تيمناً بكرم حاتم الطائي الذي ذبح فرسه لضيفه، ذبحت وما زالت أبناءها لتقدم لحمهم وتكرم الغرباء القادمين من أمريكا تحديداً، عن بعد آلاف الأميال، فما بالك بالأقرباء أبناء الجلدة الواحدة والقومية والعروبة والدين والمستقبل المزدهر الواحد، وهي لها في الكرم الحاتمي صولات وجولات، فكما قدمت ما يزيد عن ستين في المائة من تكلفة فاتورة الحرب الأمريكية من القاعدة المتواجدة على أرضها في الحرب على العراق “المجرم”، الذي أراد نفط العرب للعرب، لم تبخل أيضاً في تقاسم فاتورة الحرب على سوريا “المجرمة” التي دعمت متطرفي الأمة في فلسطين ولبنان، ورفضت التسوية والتطبيع مع الحلفاء في إسرائيل، فدفعت المشيخة فاتورة الحرب عليها مناصفة مع الأخوة من آل سعود.

وفوراً، كعادتي في اللحظات الحرجة، تجدني أتقرب الى الله أيُّما تقرب، ففور سماعي الخبر، توجهت إلى المسجد، وتوضأت وصليت وكبّرت واستغفرت، ودعوت الله أن يعود الوزير عن رأيه، فالحرب مكروهة مهما كانت بسيطة ومن دول ثانوية، فما بالك عندما تقودها دولة عظمى مثل “مشيخة الشيخة موزة”!!! فمثل هذه الحرب إن حصلت لن تنطفئ قريباً أبداً، وستنقلب إلى جهنم، وربما كان وقودها “الناس والحجارة”، خاصة إذا بدأت جيوش المشيخة الجرّارة تتقدم زاحفة من أرض المشيخة نفسها، وليس من شركة “بلاك ووتر” وبنغلادش والسودان والشيشان، وكل المسلمين والمؤمنين وحتى من أهل الكتاب، من كل بلاد الله الواسعة، التي يمكن دفع ثمن جيوشها، كما يدّعي المدّعون !.

كما أنني مدرك ومتأكد من نية السيد الوزير الصافية، وأن سيادته لا يريد سوى نقل الخير والبركة لسوريا، كما نهر التقدم والحضارة ونشر الديمقراطية التي تتمتع بها بلاده التي، يوماً، لم تسجن شاعراً أو كاتباً أو صاحب رأي أو مقالة، مهما كان هذا الرأي، وهي، ولله الحمد، لم تكن يوماً “نصف شعبها” مُهمّشاً ودون جنسية باسم “البدون”، وترفض إعطاءه جنسية أو عنوان أو جواز سفر،  ولا كانت أسرتها الحاكمة مستأثرة بسلطة أو ثروة، كما  يقول المغرضون الحاقدون الجهلة، وجل ما تريده لسوريا والسوريين، مجرد طرد القواعد الأجنبية من طول البلاد وعرضها، كي تصبح البلد محررة متحررة مثل بلاده، كذا وتطوير وتصنيع سوريا وتأميم مصانعها ليصير الإقتصاد ملك الدولة والشعب، تماماً مثل دولة سيادته، وتوجيه القطاع الزراعي كي لا تصير الأرض عاقرا جافة، وهذا كله كي لا تظل سوريا دولة مستهلِكة متستوردة حتى الخضار والفاكهة وزجاجات المياه، تيمناً ببلاده أيضاً، التي أسسها الأمير الفذ حمد المسمى زورا وبهتاناً بحمد “الصغير”، الذي لم ينقلب على أبيه “الأمير الوالد” ولم يبقه منفياً خارج البلاد لسنوات طوال، لكن الحرب حرب في كل الأحوال، والجُهَّال مثلي ليسوا لا يفهمون فقط في الحرب بل وفي السلم أيضاً، نعم إنني لا أفهم كما يفهم السيد الوزير وحكام المشيخة من أمراء مناضلين، والتي يسميها بعض الجهلة بالحارة، لذلك التزمتُ الصمت بعد أن ركبني الخوف، وأدمنت المسجد مصلياً داعياً قائماً بعض الليل وطول النهار، واستمر حالي هكذا حتى هزل جسدي وجفت دموع عيني، وتقلصت أوتار صوتي بعد أن جفت وقست وكأنها كومة قش كانت ملقاة في لهيب رمل الصحراء، وصرت لا استطيع الصلاة إلا جالساً ثم نائماً، والخوف، مثل أسد، يتربص بي ويصرعني كلما حاولت النهوض، فصرت أرى، بأم عيني، كيف تتقلص أيامي أمام ناظري، ويتفلت عمري كحفنة ماء من بين أصابعي، وأنا عاجز لا أستطيع أن أفعل شيئاً.

واستمر الخوف مسلطاً سيفه على عنقي، والرجفة تهز أطرافي كما تهتز أغصان شجرة هاجمتها الرياح من كل اتجاه، رغم محاولات أصدقائي إقناعي أن الوزير لم يقصد ما قاله، أو أنه كان يمزح، وأن الوزير إن قرر “غزو” سوريا والعراق أيضاً، أو حتى إيران فإن هذه الدول لن تأخذ “غلوة” واحدة أمام جبروت أم المشايخ، مشيخة “الشيخة موزة” العظمى، وأمام إرادة أمرائها، مهما تهاونت وتواضعت وتساهلت هذه المشيخة المرموقة، والحرب، والحال هذه، لن تكون سوى حرباً خاطفة سريعة، تماماً كلمح البصر، النصر محقق فيها لأصحاب السمو، كما الهزيمة محسومة أيضاً للجيش السوري “الفئوي العلوي”.وقيادته المستهترة.

لم أقتنع بتطمينات أصحابي، وبقيت، في المسجد، أدعو الله خلف شيخي،  وأردد استغفاري بإبتهال متوتر راجف بعد كل صلاة، كوني رأيت نهاية العالم في تصريح الوزير، ووجدتني أعيد دعوات الشيخ كاملة في سري وعلانيتي، حتى إذا تعبت، وعاودتني لحظات الرعب وتلعثمت بكلماتي قبل أن يخرسني جبني أو يكاد، اكتفيت بترداد كلمة “آمين… آمين …آمين يا رب العالمين”، وبذرف الدموع على ما ستؤول الأمور إليه من جبروت “مشيخة المشايخ” وأمراؤها ووزراؤها الأشاوس الصناديد.

طالت الأيام، وأنا لم أعتد الأمر بعد، وأمام غيابي الطويل عن زيارة والديّ، نتيجة تدهور وضعي الصحي، توجهت زوجتي لتشكو إليهم حالي، فجاءت أمي وأبي لمنزلي الزوجي غاضبين، وما أن رأتني أمي، حتى سألتني عما أصابني، لأنها لم تكن لتصدق ما أخبرتها به زوجتي، وقالت أن “إبني ليس مجنوناً ليصاب بكل ذلك”، ولما قابلتني، وذكرت لها مخاوفي من إمكانية هجوم المشيخة لتغيير ميزان القوى في سوريا، بعد فشل مائة دولة في تغييره وحسمه بمن فيها أمريكا ومعظم دول الغرب، ولم يبقَ أمام المشيخة إلّا أن تتدخل بنفسها، قاطعتني وقالت:

ـ “ما ظل في الخم إلّا ممعوط الذنب”

وعلق أبي من وراء ظهرها:

ـ “الفص الحامي من الحمار الضعيف”

لم أعلق على كلامهما المستهزء الجاهل ، لكنني شرحت لهما رأيي وأخبرتهما بتخوفي كوننا دولة مجاورة لسوريا وحرائق حربها ستصلنا، ونحن لا نملك شيئاً لصدها، و”اللي مش بيدك بكيدك” كما يقول مأثورنا الشعبي، وسوف نتأثر بهذه الحرب الجهنمية القادمة شئنا ذلك أم أبينا، فسألت أمي بإستنكار شديد وإستغراب:

ـ أتتكلم بجدية أم تمزح ياولد؟

ولما لم تر غير الجد في كلماتي وبين طيات حروفي، قالت:

ـ آه… عال… هكذا أفخر بولدي!!!

ونظرت إلى السماء، وخاطبت الله قائلة:

ـ ما الذي فعلته ياالله لترزقني بمثل هذا؟ “كان بلا هالرزقة” يارب، أستغفر الله العظيم…

سكتت قليلاً، وأبقت نظراتها معلقة في السماء، وأكملت تخاطب الخالق، منزلة عيونها نحو زوجتي وتابعت:

ـ إن كنت أنا قد أخطأت بحقك وعاقبتني به، فما ذنب هذ المسكينة التي بلوتها به يارب؟

ثم عادت واستغفرت ربها وعادت متوجهة بالحديث إلي:

ـ صدقني يا بُني، كم حاولت أن اُغيرك، لكني أعترف لك أنني فشلت، كنت أعرف طوال الوقت أنك حمار بامتياز، وحاولت نقلك خطوة للأمام، أن تصبح بغلاً مثلاً، لكني فشلت، نعم، فشلت أن أنقلك تلك الخطوة، لكني وللحق لم أتوقع يوما ولم آمل أن تصير حصاناً، لأن الأمل له أسبابه وعلله ومبرراته، تكمن “خميرته” به، وأنت لم تكن بك “خميرة” هذا الأمل أبداً، لكن مادمت تصر على أن تبقى حماراً فلن ينجح أحد في تغييرك…. فاطمئن ونم قرير العين يا ولدي، واحمد الله على ما أنت عليه، الله، الذي لا يحمد على مكروه سواه…

سكتت أمي هُنيهة، لكنها سرعان ما سألتني:

ـ وهل ستغزو سوريا لوحدها أم مع “إخوتها الإسرائيليين”؟

لم أفهم ماذا قصدت ب”إخوتها الإسرائيليين”، لكنني قلت مُتهكماً:

ـ مثل هذه المشيخة هي “أم المشايخ”، ولا تحتاج لا إلى “إسرائيل” ولا إلى أمريكا…

قالت، بعد أن تنهدت طويلاً، وكأنها تخشى نفاذ كومة الهواء التي تحيط بأنفها:

ـ طبعاً يابني، فمثل مشايخنا لن تجد أبداً، فهي ومثيلاتها،  لا يحتاجون لأحد ليأمرهم أو يدعمهم ليبدأوا غزواتهم، فالدول المستقله مثلهم لا يسمحون لأحد بالتدخل في شئونهم ولو بنصيحة، لكنني أتساءل إن كانت جحافل النعاج قد بدأت بالوصول أم تاهت في الطريق؟

تساءلت بغضب وقلت:

ـ نعاج؟ عن أي نعاج تتحدثين؟ جيوش جرارة لدى هؤلاء الزعماء وليس نعاجا…

فقالت مبتسمة مذكرة بكلمات رئيس الوزراء السابق:

ـ لست أنا من قال ذلك، إنه “حمد الأصغر”، ألم يقل أنهم دولة صغيرة “وأنهم نعاج”؟ عندما كان الحديث عن الحرب مع “إسرائيل” كانوا نعاحاً، ولما تحالفوا مع اسرائيل ضد سوريا صاروا أسوداً؟ هؤلاء لا يستطيعون أن يكونوا أسوداً مهما فعلوا يابني، النذل نذل ياولدي حتى لو ملك المال أو القوة أو حتى الإثنتين معاً، لكن سؤالي كيف يمكن للنعجة الحرب؟ تظل النعجة نعجة مهما كبرت أو تضخمت، ويظل مصيرها الذبح.

وتابعت بعد أن سكتت للحظات:

ـ حتى أنه خاف أن يقول أنهم “كباش”، لأن الكباش “تنطح أحياناً”، ومع حليفهم غير مسموح لهم لا “النطاح” ولا البطاح…

قلت غير مقتنع ولا مصدق لكلمات أمي، فهي تبالغ كثيراً لتثبت وجهة نظرها، وهل أكثر دلالة في وصفها لي بأنني ما زلت حماراً، وأنني لم أخطُ تلك الخطوة التي توصلني لدرجة البغل؟ فقلت:

ـ لو لم يكونوا دولة ذات شأن، هل كان يمكن لأمريكا واسرائيل التحالف معها؟

قالت بشكل حاسم حازم:

ـ ليسوا حلفاءهم يابني، إنهم كلابهم…

غضبت وقاطعتها قاءلاً:

ـ إنهم حلفاؤهم وليسوا كلابهم…

فالت بهدوئها الذي لم أرث شيئاً منه:

ـ بل كلابهم…

ـ بل حلفاؤهم…

ـ بل كلابهم…

فقلت بعد أن أخذ مني الغضب ما أخذه:

ـ حتى لو كانوا كلابهم، ف”كلب الشيخ شيخ”….

نظرت مباشرة في قاع عيني، صعدت بعينيها الى حدود السماء، تمتمت بكلمات لم أفهمها، وأثناء مغادرتها، ربتت على كتف زوجتي، وقالت:

ـ أعانك الله يابنيتي… أعانك الله…

وخرجت ممسكة بذراع أبي مستندة عليه…

محمد النجار

لمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذا؟!!!

ظلّت الكثير من الأسئلة تدق رأسي دون هوادة، خاصة بعد بعض الحوارات ،المُصرّة على قلب الحقائق، مع البعض، والذين لا يريدون أن يروا ما يدور في منطقتنا، من حرب كونية على مقدراتنا وتاريخنا وبلادنا وشعوبنا ، إلا حرباً طائفية!!! فلا أمريكا تطمع بنا وبخيرات بلادنا، ولا “آل سعود” هم رأس الأفعى في المنطقة، ولا ما يتم لمصلحة الكيان الصهيوني!!! ولا….إلخ، بل إن إيران”الشيعية”، هي فقط السبب وراء الحروب وإدامتها واستدامتها، ومعها حزب الله طبعاً، ولا يمكن أن تنتهي الحرب إلًا بعد الخلاص من إيران “الشيعية”، تاريخاً وطوائف ومذاهب وحتى جغرافيا إن أمكن!!! الأمر الذي يعني طبعاً إدامة الصراع واستمراره إلى آخر إنسان في الجانبين، وبهذا نكون نحن”السنة” قد نظفنا بيتنا من الداخل ونتفرغ لحرب الكيان الصهيوني!!! كلام خالٍ من أي منطق، فلماذا لا يمكننا أن نضع أيدينا مع إيران، ونتخلص من الكيان الصهيوني أولاً، فهذا لا يصح، ولماذا لا نتخلص من الصهاينة وحدنا ثم نرى أمورنا مع إيران فلا يصح أيضاً، فلا يصح معنا نحن “السنة” إلا إستعداء إيران فقط، وتحويل الصهاينة إلى حلفاء محتملين!!!

هكذا قال محاوري في حوارنا الأخير، فازداد طرق السؤال رأسي، لماذا، وازدادت الأسئلة التي تبدأ به أكثر، فتجاهلت “كيف ومتى وأين وهل ومن وإلى متى”، لأنني لو طرحت كل ما يدور في رأسي من أسئلة لما أنهيت مقالتي هذه أبداً، وعليه سأطرح فقط بعض ما يدور في رأسي من أسئلة تتعلق ب”لماذا”، منوهاً أنني لست من أنصار لا الدول الدينية ولا الأحزاب الدينية، وأنني أرى أن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة تخصه وحده، ولا يحق لأي كان التدخل بها، لا من قريب ولا بعيد، كما أنني لاحظت أن كل أصحاب النظرة الطائفية والمتمسكين بها، معجبين أشد الإعجاب بالنظام “الغربي”، والذي لا يفرق بين أبنائه لأي بسبب، دين أو لون أو جنس أو معتقد، لكنهم “عندنا” يريدون مجتمعاً بلون واحد فقط، هذا إذا ظل هناك لون بعد الصراع الدائر….

ولنبدأ بالأسئلة، التي أرجوا أن لا يجيب عليها أو يقرأها أحداً من المتعصبين، من أي طرف كان، وهي أسئلة برسم التفكير لكل مَنْ يدعي أن الصراع الدائر في منطقتنا ما هو إلا صراع طائفي، وليس صراعاً سياسياً في جوهره، مغلفاً بغلاف طائفي:

  • لماذا إصرار الدول “السنية” على حرف إتجاه البوصلة، من فلسطين وتحريرها، ومن العداء للصهيونية إلى جعل العداء لإيران؟ وهل صحيح أن “طويل العمر” ملك آل سعود، دعم بناء المستوطنات بعشرات ملايين الدولارات؟ ودعم حملة إنتخابات نتنياهو ب80 مليون دولار، كما نؤكد الصحافة العبرية؟

  • إذا كان الصراع طائفياً لماذا إذن لم تقم “الدول السنية”، وعل رأسها دولة “آل سعود”، بمحاربة إيران أيام الشاه؟ أم أن إيران كانت “سنية”آنذاك؟

  • لماذا تم افتعال حروب متتالية مع إيران بعد إنتصار الثورة مباشرة؟ رغم أن الإنجليز “حلفاء” الدول السنية “وأبرز داعميهم حتى اليوم (هم مَن سلم الأهواز لإيران، تماماً كما سلّم الفرنسيون لواء الإسكندرونة لتركيا والإنجليز  لمناطق نجران وعسير وجيزان لآل سعود أنفسهم)، وكذلك سيطرت إيران على الجزر الإماراتية أثناء حكم الشاه، فلماذا لم تحارب الدول “السنية” وعلى رأسها آل سعود الشاه “الشيعي” ولم نسمع من هذه “الدول السنية” ولو كلمة واحدة بهذا الشأن آنذاك؟. بل إن علاقتهم مع الشاه كانت استراتيجية، وهو من ساعدهم على ضرب القوى الثورية التي نشأت في بلادهم!!! ولم نسمع “بسنة أو شيعة”، ولا عن اي دور “تشييعي” لإيران في المنطقة.!!!

  • لماذا اكتشف حكام الدول “السنية”، “شيعية إيران” بعد أن تم رفع العلم الفلسطيني فوق سفارة”إسرائيل” الموروثة من عهد الشاه، وتحويلها لسفارة “فلسطين”؟ وفي نفس الوقت الذي إبتدأت أمريكا بفرض حصارها على إيران؟

  • وما دام الموضوع هو “سنة وشيعة”، فلماذا تقيم هذه الممالك والدول والحكام “السنة”، أرفع العلاقات وأكثرها تطوراً، مع دولة أذربيجان “الشيعية”، صاحبة العلاقات الأكثر تميزاً بالكيان الصهيوني، وخاصة من الناحية الأمنية، التي تضر أول ما تضر بقضية”العرب السنة” في فلسطين؟!!!

  • لماذا، والأمر كذلك، لم تدعم الدول “السنية”وعلى رأسها بلاد “مملكة الخير” وقيادتها، آل سعود، الفصائل “السنية” في فلسطين، بعُشر ما قدمته لما إستجلبته من حثالات بشرية لتدمير أوطاننا في سوريا والعراق وليبيا واليمن و”الحبل على الجرار”؟ وتركت الأمر لإيران”الشيعية” لدعم فلسطين “السنية” وفصائلها؟ وتركت خلايا “حزب الله الشيعي” يدرب ويعلم وينقل السلاح ويُهربه إلى القطاع المحاصر، وتُعتقل بعض خلاياه في الدولة المصرية “السنية”؟ ولم تقدم أي نوع من الدعم للقضية الفلسطينية “السنية”، على مدار 68 سنة من عمر القضية، ولا حتى فتوى واحدة من شيوخ “السنة” العباقرة في بلاد آل سعود، بل أنها أوقفت حتى التبرعات لهذه القضية…

  • لماذا لم تقم الدول “السنية” بمحاربة محتلي المسجد الأقصى المبارك” أولى القبلتين وثالث الحرمين” رغم مرور 49 عاماً على إحتلاله، وشيوخ فتنتها كما القرضاوي “ينبحون” لمحاربة سوريا لنشر الديموقراطية هناك؟!!! ويستعيذ الله متبرئاً ممن يقولون بمحاربة “إسرائيل” بعد الإنتهاء من سوريا، ويشحذ من أمريكا المزيد من التدمير لبلداننا، ” ضربات لسوريا من أجل الله ياأمريكا”، الغريب أن البلاد والمقدسات محتلة من”اليهود الصهاينة” وهم ينادون بالديمقراطية في بلدان يحكمها “مسلمون”!!! والأغرب أنهم يريدون الديمقراطية التي يمنعونها في بلادهم، والإنتخابات التي لم يجرونها يوماً، والدستور وهم لا يملكون دستوراً… مع ملاحظة أن كاتب هذه السطور من أشد مؤيدي حرية الرأي والفكر والتعبير والإختيار، وضد كل أنواع التمييز الديني أو العرقي أو المذهبي والطائفي، أو اللون أو الجنس أو العرق، ومع تشكيل الأحزاب إلّا الدينية منها، والتبادل السلمي للسلطة.

  • بل لماذا تبرعت “مملكة الخير” أطال الله عمر قادتها آل سعود”، بفلسطين، في رسالة موثقة عبر الحلفاء الإنجليز، إلى “المساكين اليهود” أو حتى “إلى غيرهم “كما ورد في الرسالة؟ أعيد “تبرعت” بفلسطين وكأنها من بقايا موروث آبائهم العملاء الفاسدين المتخلفين الجهلة”!!!

  • لماذا لم تستخدم “مملكة الخير”ودول النفط “السنية”علاقاتها بالغرب، أو بالنفط، أو أموال النفط، لدعم قضيتها الأولى قضية فلسطين”السنية”؟

  • لماذا حارب آل سعود “السنة، الثورة الناصرية”السنية”، متحالفاً مع شاه إيران “الشيعي”؟ وراعيتهما أمريكا، أم أنه لم يكن “شيعياً” وإنما نحن الجهلة  المفتقدين للثقافة نعتقد ذلك؟ ولماذا إستدعت الحرب عليه من إسرائيل في حرب 67، معتبرة في رسالتها أن نظام ناصر إذا إستمر دون تدمير حتى سنة 70 فإن نظام “آل سعود” لن يعيش أبداً ليصل لعام 1970، أم أن الصهاينة هم صهاينة “سنة”؟

  • وما دام الأمر طائفي، لماذا إستُجلبت “القاعدة “من العالم إلى ليبيا لتدمير بناها التحتية، وذبح عشرات الآلاف من البشر “السنة”، وتدمير أول شيء النهر العظيم الذي خضّر حتى الصحراء الليبية؟ وأين الشيعة في ليبيا؟ وأين الشيعة من مصر التي يحاولون تدميرها وتقسيمها ؟

  • لماذا ترتضي الدول “السنية”، قائدة الثورة”السنية” في الوطن العربي، ل”تنظيماتها ومناضليها في جبهة النصرة وداعش وأحرار الشام وجيش الإسلام في سوريا” أن يُعالجوا في المستشفيات”الصهيونية” ويزورهم ويلتقيهم “نتنياهو” نفسه، وكل وسائل إعلامهم، ووسائل إعلام الأنظمة “السنية” تغطي على الأمر وتمنع نشره في وسائل إعلامها، وكأنها بذلك تحجب الحقيقة؟ وكيف ترتضي لقيادة الثورة “السنية” في سوريا بالتبرع بهضبة الجولان لإسرائيل مقابل دعمها بإسقاط الأسد؟ كما وكيف ترتضي للثوار”السنة” بالتدرب على أيدي ضباط الصهاينة، وأن يقود عملياتهم في غرفة عمليات “موك” في الأردن ضباطاً “إسرائيليين” بجانب ضباط من طرف آل سعود وأمريكا والأردن؟ والآن يقوم الصهاينة بإنشاء غرفة عمليات مشتركة مع ” المناضليين الجهاديين السنة” من “جبهة النصرةـ تنظيم القاعدة في بلاد الشام ـ لإقامة شريط عازل في الجولان على غرار ما تم في جنوب لبنان؟

  • لماذا لا يُحارب آل سعود، كقيادة للدول “السنية” أمريكا، التي أسقطت القيادة العراقية السنية “صدام حسين” ، بل إستدعت أمريكا وتحالفاتها لإسقاطه بعد أن رفع شعار”نفط العرب للعرب”؟ وفي الوقت الذي رفضت فيه إيران “الشيعية” أن تفتح أراضيها للغزو الأمريكي للعراق ، رغم محاربته لها 8 سنين طوال، فعلت ذلك دول النفط وغير النفط “السنية”، من مصر إلى دولة آل سعود إلى دولة “النعاج” كما سمّاها رئيس وزرائها آنذاك حمد الصغير، إلخ؟  بعد أن حاصروه وقتلوا من شعب العراق ما يزيد عن مليون طفل فقط بسبب حصارهم…

  • لماذا لا تُحرضون “السنة” في لبنان وتدعمونهم بالصواريخ كما فعلت إيران مع حزب الله، لمحاربة إسرائيل، خاصة وأن لديهم قيادة ثورية مثلكم (من الحريري إلى السنيورة إلى فتفت “شرّيب الشاي” مع الجيش الإسرائيلي، إلى ريفي)؟ ولماذا تحالفاتهم فقط مع جعجع وأمثاله، أحد أهم أبطال مجزرة صبرا وشاتيلا، القاتل المحكوم في المحاكم اللبنانية نفسها؟

  • لماذا دعمتم يا آل سعود، ياقادة “السنة”، إثيوبيا، الدولة التي ـ ربماـ من أكثر الدول الإفريقية تعاوناً مع “إسرائيل”، في بناء سد النهضة الذي يحرم الدول “السنية” العربية”مصر والسودان”من المياه، يعطش شعبهما ويصحر أراضيهما، وبتعاون مباشر مع إسرائيل؟

  • لماذا أصبحت إيران دولة نووية رغم حصاراً أمريكياً ودولياً ومنكم أنتم أنفسكم أيها الدول “السنية”، وآل سعود على رأسكم، وصار عندها ما يقرب من الإكتفاء الذاتي إقتصادياً، وأنتم بدلاً من أن تتعلموا منها، وتثبتوا لها أنكم “السنة” لستم بأقل شأنا، فإنكم ما زلتم تعتمدون في إقتصادكم بنسبة أكثر من 90% على النفط، وبدلاً من طلب مساعدتها تحاربونها، وأنتم أيها الكسالى الخائبين، يا آل سعود، ما زلتم تستوردون خضارا ،فقط خضـــــــــــــار، من مختلف دول العالم بأكثر من 30 مليار دولار، أقول مليار وليس مليون، في العام الواحد، وتستوردون المياه بأعلى من أسعار نفط شعبكم المنهوب…وصارت “سلة غذاء الوطن العربي”، السودان، التي تمتلك 30 مليون رأساً من الأبقار، وخمسين مليون رأساً من الماعز ومياه النيل وعشرات الأنهار الأخرى، صارت صحراء وجائعة وجاهلة ومتخلفة وتبيع أبناؤها لآل سعود ليقتلونهم في حرب اليمن، ويمزقها الفساد والبيروقراطية,… رغم “سنيتها” وتطبيقها للشريعة الإسلامية السنية أيضاً.” في هولندا مجرد مليون رأس من الأبقار، وبدون “سِنّة” ولا “شريعة”، صارت من صفوف الدول الأولى في العالم في تصنيع الأجبان والشوكولاتة، وبدون أمية ولا فساد ولا إفساد. أما السودان الذي  إتبع نصائح “سنة” قطر وآل سعود فتقسمت بلاده إلى قسمين، وبدلاً من الإهتمام بمصالح الوطن والمواطن، يقوم بمحاكمة فتاة تلبس بنطالاً أو أخرى تتزوج مسيحياً، لكنها لم تحاسب فاسداً واحداً أو لصاً واحداً.

  • لماذا تتقدم الدول “السنية” دول العالم في الفشل والجهل وتفشي الأمراض والأمية، مصر والصومال وموريتانيا واليمن والسودان والباكستان وأفغانستان.

  • لماذا لم تستثمر الدول الغنية “السنية” أموال خيرات شعبها، في الدول “السنية” المحتاجة لذلك، بدلاً من إبقائها في بلاد الغرب وبنوكها؟ مثل مصر والسودان واليمن، الأمر الذي يُطور هذه الدول ويقضي على البطالة والفقر، ويجعل الدول المستَثمِرة رابحة في نفس الوقت. أم أنهم يدركون أن أمريكا لن تسمح لهم بذلك، وربما تصادر هذه الأموال شاهرة في وجوههم ملف حقوق الإنسان كما هو متوقع!!!

  • لماذا تصر قيادة الدول “السنية” لمحاربة كل من يحارب أمريكا وإسرائيل، ولشيطنته وملاحقته وتوقبف قنواته الإعلامية؟، وكما دفعت أمريكا بإعترافها، ما يفوق على 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله، هكذا تفعل الدول “السنية” بقيادة آل سعود مع فصائل المقاومة العراقية التي طردت الأمريكي خارج العراق في 2011، ومن بينها بعض فصائل الحشد الشعبي في العراق، أو مناهضوا سياسة التدمير التي أنتجها آل سعود في اليمن من “أنصار الله” وغيرها من فصائل إسلامية ويسارية…

  • لماذا يُحارب آل سعود”السنة”، أعداء أمريكا وإسرائيل، ليس في المنطقة فقط بل والعالم أيضاً؟ وتكيل لهم كل التهم وتدفع الأموال من جيب شعبها، لتحصد أمريكا الثمار، وهذه مجرد أمثلة على ذلك:

ـ دفع آل سعود “السنة” مبالغ طائلة بعد فوز الحزب الشيوعي الفرنسي، وكذلك الحزب الشيوعي الإيطالي في إنتخابات بلادهم، للأحزاب الأخرى كي لا يدخلوا في تحالفات معهما كي لا يستطيعا تشكيل حكومات كل في بلدهما، هل كان أولئك شيعة؟ وهل إعتدوا على سيادة بلدان العرب أو المسلمين؟ وبأي حق يتدخل آل سعود في شؤونهم الداخلية؟ ولمصلحة مَنْ؟ أليس لمصلحة أمريكا وبأموال العرب؟!!!

ـ دفع الأموال لشراء البشر والسلاح وبشعارات دينية لمحاربة الإتحاد السوفييتي السابق، لتعود أفغانستان للحظيرة الأمريكية وبأموال عربية، هل كان السوفييت شيعة وأمريكا دولة سنية؟!!! وما شأن آل سعود بذلك؟ ولماذا سكتوا عن تحويل أفغانستان “السنية” إلى دولة فاشلة؟

ـ دعم آل سعود أعداء الثورة الساندينية، بالمال والسلاح، الكونتراس، كي لا يصل أعداء أمريكا للحكم آنذاك، وزهقت نتيجة ذلك عشرات آلاف الأرواح، ودمرت البلاد، بأموال العرب ولمصلحة أمريكا، فهل كانت الثورة الساندينية “شيعية”؟ وبماذا أساءت للسعودية لتقف موقفها ذلك؟

ـ أغرق آل سعود السوق بالنفط وأنزلوا سعره من 120 دولاراً للبرميل إلى أقل من 30 لكي يضربوا الإقتصاد الفنزويلي المعادي للأمريكي وكذلك الروسي المنافس له، وليضربوا الإقتصاد الإيراني أيضاً، فإن كان هناك خسارة بيِّنة لإيران في مليون برميل تصدره في اليوم الواحد كبيرة ومؤثرة، فإن خسارة آل سعود كانت أحد عشر ضعف الخسارة الإيرانية، كونها كانت تبيع أحد عشر ضعف المنتج الإيراني، ومن الرابح من جراء ذلك؟ أمريكا بالتأكيد، وآل سعود”جكر في الطهارة يشخون في لباسهم”.

  • ما دام “الدواعش” وجبهة النصرة، وما شابههم من حثالات بشرية “ثواراً”، لماذا يذبحون الناس ويفجرون أنفسهم في المساجد والأسواق الشعبية، ويصرخون”جئناكم بالذبح” هل هذا الإسلام “السني” الذي يريدون حكمنا به؟ وهل لائحة النساء في زواج النكاح اللواتي يُطلقن ويُزوجن بأوامر “سنية شرعية”ما يقرب من عشرين مرة في اليوم الواحد، ويدفع لها ثمن النكاح، هل هذا من الإنسانية في شيء؟ وهل هو من الديانات لا سيما المذهب السني في شيء؟ وهل يختلف عن بيوت الدعارة في شيء؟ولماذا تركت الدول الغربية القتلة للقدوم إلى سوريا والعراق وسهلت مرورهم؟ ولماذا ساعدتهم أمريكا وقطر وآل سعود؟ وإن كانت تريد أمريكا محاربتهم لماذا تركتهم يتدربون تحت سلطتها وبسلاحها وفي معسكراتها في تركيا وليبيا، ولماذا لم تقدم للجيش العراقي حتى الآن السلاح المطلوب، رغم أنه دفع ثمنه منذ سنوات؟ وماداموا يريدون محاربتهم لماذا جلبوهم إلى ليبيا “السنية”، والتي ليس بها من الشيعة أحد؟ وكيف لم يروا الأسطول البحري الذي يزيد عن 3000 صهريج وينقل النفط المسروق من العراق وسوريا ويتوجه الى تركيا واسرائيل؟ وكيف سمحوا لدويلة الشيخة موزة بشراء 3200 عربة تويتا مجهزة للقتال من اليابان ويدخلونها من تركيا إلى سوريا؟ وكيف لم يرَ الأمريكان مئات الآليات والدبابات ومدافع الهاون والصواريخ التي تتنقل في العراق وسوريا وما بينهما على مساحة آلاف الكيلومترات المربعة؟ في الوقت الذي ترى فيه لو مجرد مناضل فلسطيني واحد في قطاع غزة وتقصفه، لكنها لا تقصفهم؟ وكيف لم تر نقلهم بطائرات تركية وقطرية إلى جنوب اليمن؟ ولماذا قام آل سعود “السنة”وكذلك دولة قطر”السنية” بعزل الجنرال “السني” السوداني”الدابي”، الذي بعثته الجامعة العربية للتحقيق في أحداث سوريا منذ بدايات احداثها، عندما إتهموا النظام بقتل المتظاهرين، وعاد ليقول لرئيس وزراء قطر السابق “حمد الأصغر”، إوقفوا دعمكم وتسليحكم للإرهاب، تتوقف الحرب في سوريا، فكان نتاج تقريره عزله ووقف مهمته.
  • لماذا لم نرَ أو نقرأ أو نسمع رغم كل عمليات التفجير في المساجد والكنائس والأسواق، وتدمير الآثار والتاريخ، والتقتيل والذبح في كامل الفسيفساء العربية، من المناضلين “السنة”، عن أي عملية ضد الكيان الصهيوني، ولو عن طريف الخطأ؟ ولماذا يقتلون من “السنة” أكثر ما يقتلون من المذاهب والطوائف الأخرى، لكل من لا يتطابق وآراءهم؟ وفي المقابل لماذا لم نسمع عن “شيعي”يفجر نفسه في مناطق السنة؟بل أن “الشيعة”في الحشد الشعبي، “والذي يضم في صفوفه عشرات آلاف “السنة”، هم مَنْ يُحرر المناطق “السنية”، لاحظ “السنية” من براثن داعش وأخواتها، ولماذا لم يتوجه الدواعش للمناطق الشيعية في وسط العراق وجنوبه ليحتلوه ماداموا يريدون القضاء على “الرافضة”؟ بل داهموا المناطق “السنية” فقط وذبحوا أهلها ودمروا بنيانها واغتصبوا نساءها؟ ولماذا لم نسمع هذا التقسيم الطائفي عن “سنة وشيعة” بين الأكراد؟

  • لماذا، وهذه ال”لماذا”، كان يجب أن تكون في البداية ربما، لماذا يعتقد هؤلاء “المناضلين السنة”، ومن خلفهم داعميهم وأولهم آل سعود، أن الجنة من حقهم ونصيبهم حصراً ودون غيرهم؟ فلا نصاً يؤكد ذلك، ولا منطق أيضاً، فمذاهب الإسلام من”سنية بمذاهبه الأربعة” الشافعي والحنفي والحنبلى والمالكي” وفرقها من السنية والإباضية والشيعية، يتفرع عنها: أهل الحديث والسلفية والأشاعرة والماتريدية والمرحبة والمعتزلة والجهمية والصوفية والإثنا عشرية والزيدية والأصولية والأخبارية والشيخية والإسماعيلية والنزارية والمستعلبة والعلوية والأذارفة والنجدات والأحمدية والقرآنيين والبهرة  …إلخ والتي تصل الى 73 فرقة، كلها تدّعي أنها تمثل الإسلام “الصحيح”، وكيف  يستطيع هؤلاء التفكير أن لهم ميزة على الطوائف الأخرى وعلى الأديان الأخرى بما فيها الديانات الوضعية، عدا أن ليس لهم فضلاً أو ميزة حتى على ما في طائفتهم نفسها، ألم يحن الوقت ليتدينوا كما يريدون لكن بإبعاد الدين عن السياسة، ألا يكفي ما فعله الدين المسيس في البشرية جمعاء؟ تخيلوا 73 فرقة ومذهب إسلامي، ومثلها أو أقل قليلاً من الديانات الأخرى، والجميع بدون إستثناء يدعي أنه الصحيح، وإلا لغير مذهبه لو كان لديه شك فيه، فلو أراد كل طرف فرض رؤيته على الآخر ماذا يمكن أن يتم في عالمنا العربي؟ تخيلوا إلى أين يمكن أن توصلنا التقسيمات الطائفية والدينية، وربما لو تبعنا العرقية والقومية أيضاً، ستصبح أكبر دولة عربية حسب طائفتها ومذهبها أصغر بكثير من ملعب كرة قدم، دولاً متحاربة متذابحة إلى مالا نهاية، هذا إذا لم نفنِ بالحروب بعضنا بعضا!!!

  • لماذا لا يترك هؤلاء الدين لصاحبه، الله، ولماذا يتدخلون بصنع الله بخلقه؟ ومن أعطاهم الحق بذلك؟ فالدين كما ذكرنا لله والوطن للجميع، فلنترك ما لله لله، ولنتضافر لإعلاء صرح الوطن، ولا نترك أحداً ليتدخل في شؤون الله تحت أي إسم أو ذريعة، فهذه العلاقة بين الإنسان وربه من أشد العلاقات شخصية وخصوصية، ولا يحق لكائن من كان أن يتدخل بها، أما شيوخ الفتنة الذين بحرضون على العنف في أوساط فقراء الشعب وبغض النظر من أي ديانة أو طائفة هم، فنسألهم لماذا لا تبعثون أبناءكم ليفجرون أنفسهم ويصعدون ليحجزوا لكم مكاناً في الجنة؟ وإن كانوا “ملوا زوجاتهم”ويريدون الحوريات، فلماذا لا يذهبون هم أنفسهم ليفجروا أنفسهم ويصعدون الى السماء، بدلاً من تحريض الفقراء ؟ ولماذا لا يعطون الفقراء جزءً من جنانهم الأرضية إن كانوا بهذا الإيمان الذي يدّعون؟ولماذا يبعثون أولادهم وبناتهم إلى بلاد الغرب “الكافرة”، ويبعثون أبناء الفقراء لتفجير أنفسهم في خلق الله وعباده؟ وأكرر من أين لهم التأكد من صحة طائفتهم أو مذهبهم؟ ومن أين يعرفون أن لهم الجنة دون غيرهم؟ بل من قال أصلاً أن لهم الجنة؟، فالله ،حتى الله الرؤوف الرحيم، لا يرحم العملاء والمجرمين…

محمد النجار

الإسلام الأمريكي وأدواته في المنطقة

لم يكن تفجير الضاحية الجنوبية بالأمس، إلا مجرد هروب للأمام للتغطية على ما يدور في المنطقة كاملة من هزائم للمحور الرجعي العربي ، بقيادة آل سعود، وفي نفس الوقت محاولة يائسة للفتنة والتفتيت للتحالف اللبناني الفلسطيني، ، الأمر الذي يجعل حق العودة في مهب الريح، . وإذا أردنا الدخول في بعض التفاصيل نورد التالي:

* ما يدور على الجبهة السورية من انتصارات متتالية وسريعة في كامل الجبهات، الشمال والوسط والجنوب والقلمون و”الحبل على الجرار”، ما يعني أن الجبهة الرئيسية المستهدفة تخرج من بين أيدي هؤلاء الحثالات والدول الرجعية المتصهينة التي تقف خلفهم بقيادة آل سعود، الأداة الأكثر طاعة للصهاينة والإمبريالية الأمريكية، لذلك نرى كل هذا الإستكلاب الأمريكي وقصفه المتتالي للبنى التحتية السورية وتدمير لمنشآت النفط السورية، الأمر الذي لم يفعله وهي تحت سيطرة داعش والنصرة وأخواتهما، ونفطها يُسرق ويهرب عبر تركيا ويُباع للكيان العبري. والأمر كذلك بالنسبة لقاعدة الإمبريالية المتقدمة في المنطقة. الكيان الصهيوني المستفيد الأكبر من هذه الحرب الكونية على سوريا، والمنطقة عموماً سواء في العراق أو اليمن او مصر والجزائر وليبيا، فدوره في العراق من خلال أعماله الإرهابية الممولة من آل سعود وتقتيله لعلماء العراق، وتهديمه لبنيتة الأساسية (الإنسان العراقي والجيش العراقي) لم  ننساها بعد. وكذلك الحال لحكومة “الإخوان المسلمين” (العثمانية الجديدة)، الذين يريدون قضم الأراضي السورية، والذين يشكلون الذراع المتقدمة لحلف الناتو بعد اسرائيل، وكلهم بقيادة الإمبريالية الأمريكية.

* كذلك الحال في العراق، حيث الحشد الشعبي والجيش العراقي يتقدم ، لكن تقدماً بطيئاً لأنه يصطدم بالعرقلة الأمريكية دائما وأبداً، حيث لم يكتفِ الأمريكي بعدم إعطاء الجيش العراقي الأسلحة التي دفع ثمنها مسبقا، بعد أن فتّت جيشه وأضعفه وجرده من سلاحه، وفرض على العراق دستور بليمر الطائفي، ويرفضون السماح بتغيير الدستور الى دستور حداثي بعيدا عن الطائفية، فإن طائراتهم  أيضاً تقوم بإلقاء الأسلحة لحثالات الأرض من الدواعش والنصرة وخلف خطوطهم، وتعرقل الحشد وتقدمه لتنقذ قادة داعش وتنقلهم الى أماكن أكثر أمنا (كما حصل في تكريت، ليكونوا احتياطاً لهم في مشروعهم التدميري للوطن العربي والذي لم ينهزم بعد)،  وتم بعث المئات منهم في طائرات تركية وقطرية الى الجنوب اليمني ، وكما تم في ما أسموه عملية تحرير الاسرى  الأكراد من سجن عراقي، وكذلك من خلال طائرات الشحن العملاقة التي نقلت السلاح لتلك الحثالات في “تلعفر” في الموصل، وما زالت تعرقل قوات الحشد الشعبي وتحاربه بكل قوة وتحرض عليه طائفياً ومذهبياً وإعلامياً من خلال إعلام آل سعود و الشيخة “موزة” في حارة قطر، التي موّل أولادها وأحفادها حثالات الأرض الدواعش ب 32 الف سيارة تيوتا رباعية الدفع في سوريا فقط ، عدا السلاح والأموال، وما زالت، هذا عدا ملوك الرمال في مملكة آل سعود، والتركي الذي فتح أبواب بلاده لعشرات الآلف من الإرهابيين بأموال سعودية قطرية، وبأوامر أمريكية اسرائيلية.

*كذلك الأمر في اليمن، حيث يتم دك مواقع آل سعود وتحالفهم وكل مرتزقتهم سواء في باب المندب أو تعز أو المدن اليمنية المحتلة من آل سعود، والذي يتوج كل يوم بإحراق عشرات الاليات والجنود، من جنود آل سعود ومرتزقتهم، والغريب الطريف في ذات الوقت فإن الأمريكي وأتباعه لا يريدون أن يروا تمدد داعش والقاعدة في حضرموت وعدن وبقية مدن الجنوب، فأولئك رغم كونهم قاعدة لكنهم ليسوا ارهابيين ولا يجب محاربتهم، لأنهم في المكان الصحيح!!! واليمن الذي يعوم على ما يقارب ال35% من النفط العالمي والمحروم من استثماره بسبب آل سعود وتأثيراتهم المتتالية على حكومات اليمن، حد التبعية المطلقة، كما الحال في المعادن المختلفة والكثير من المواد الخام مطلوب أن يبقى مطية لآل سعود وأسيادهم من الكيان العبري الذي يدك المدن اليمنية بطائراته مع الإمبريالية لأمريكية ، ليبقى اليمن فقيراً هزيلاً تابعاً لا يستطيع التحكم لا بخيراته ولا بموقعه الإستراتيجي.

* والأمر يتكررفي فلسطين، كون القضية الفلسطينية هي المستهدف الرئيس مما جرى ومن كل ما يجري، وكون الكيان الصهيوني هو المستفيد الأول من كل ما يجري.، لذلك فانطلاق الإنتفاضة الفلسطينية من جديد رغم كل محاولت إيقافها وقمعها وطمس فاشية المحتل في التعامل  معها، ورغم ضغوط الرجعيات العربية المتصهينة على قيادة السلطة، هذه القيادات التي تقود الجامعة العربية المخصية والتي ما قدمته على مدار عمر القضية الفلسطينية كلها في القرن الأخير لم يصل إلى عُشر ما قدمته للحثالات البشرية في سنة واحدة، الأمر الذي يتطلب حرف وابعاد التركيز العربي والدولي عنها مادام ليس مقدور ايقاف فعالياتها. لذلك كله يجب التفجير والقتل ما أمكن في محور المقاومة، المحور الذي يقف ببسالة ضد حثالات الأرض وأسيادهم الصهاينة والأمبريالليين وتوابعهما من رجعيات عربية متهالكة متصهينة، وليكن في المكان الذي لم يستطيعوا تدميره، لبنان، وتحديدا ضاحيته الجنوبية حيث حزب الله، قائد حركة التحرر الوطني العربية بامتياز، والترويج أن من قام بذلك هم فلسطينيون، ليشتبك المخيم مع المقاومة اللبنانية ويصبح حق العودة نفسه مهدداً وبأيدي الثوار أنفسهم من لبنانيين وفلسطينيين. وأمام تحقيق أهدافهم في تفتيت الأوطان كان لا بد من استخدام ذخيرتهم الرئيسية في ذلك ، وهم “الإخوان المسلمين” ومرجعيتهم الأساسية أردوغان وحزبه العثماني الجديد، فكانوا هم خميرة تدمير سوريا، وهم خميرة تدمير اليمن من خلال حزب الإصلاح، وكذلك في تونس ومحاولات الفتنة الداخلية من خلال سياسة الأغتيالات ضد اليسار التونسي والذي اتهم فيها حزب النهضة الإخواني، وكذلك الأمر في مصر ومحاولة تدمير الدولة هناك ،رغم موقفنا الواضح من نظام السيسي، لكن هذا لا يبرر تدمير الجيش وتقتيل الوطن، والأمر نفسه كان قد تم في الجزائر من خلال جماعة عباس مدني، وما أوصلوا إليها ليبيا باسم ديمقراطية الناتو التي لم يؤمنوا بها يوماً لكنهم يدمرون باسمها الأوطان، وكيف قسموا السودان باسم الدين الأمر الذي لم يقم به أي نظام ديكتاتوري بما في ذلك نظامي عبود ونميري. وهاهم باسم الدين أيضاً برسلون جنود السودان الفقراء ليَقتلوا ويُقتَلوا في اليمن تحت أوامر آل سعود الذي يعتبر نفسه قد استأجر بضعة عجول لا أكثر، في الوقت الذي ينهار فيه السودان كوطن ومواطن تحت ذات القيادة التي تتاجر بالوطن والمواطن وأوصلت السودان الى الحضيض على كافة المستويات. وفي فلسطين حيث تحاول بعض قياداتهم توقيع هدنة طويلة مع الكيان الصهيزني من خلف ظهر الشعب كما فعلت تماماً قيادات أوسلو، فداعش ليس هدفاً أمريكياً، والقاعدة كذلك، وإن كان يضرب هذا القائد الميداني أم ذاك بين وقت وآخر لذر الرماد في العيون، فالسيدة كلنتون تعلن مجاهرة في الكونغرس “أنهم كانوا مضطرين لدعم  القاعدة”، ويعلن توني بلير “أن بلاده وأمريكا خلف ظهور داعش” ويعلن أوباما بكل صفاقة “أن داعش خرجت عن السيطرة” الأمر الذي يدلل على طبيعة العلاقة التي تربطهما، رغم كل ما يحاولون ترويجه من أكاذيب حول محاربتهم للإرهاب…  وفي النهاية، فهذا جزء من ضريبة النضال والمقاومة، فعلى الشهداء الرحمة والشفاء للجرحى والصبر لأههاليهم ولكل جمهور المقاومة.

محمد النجار

حمّلوه عنزة ظرط….

كنت جالساً أتابع التلفاز بمرارة، حين ظهر ذلك الشخص بشكل مفاجىء ليزيد حنقي، وإنني إذ أعترف لك أن مجرد رؤيته تستفزني، وأكاد أبصق عليه من على صفحة التلفاز، كلما نطق حرفاً، إلّا أنني لم أستطع أن أكبح جماح فضولي من الإستماع إليه، فبصقت عليه في سري وأخذت أستمع لما سيقوله عن سؤال وُجه إليه يقول: لماذا لم تستقبل دول الخليج المهاجرين السوريين، بدلاً من هذا العذاب المُميت والمُكلف والمُذل سياسياً ومادياً للوصول إلى الدول الأوروبية؟ فعدّل من وضع حطة رأسه ناصعة البياض والتي تشبه رايات الإستسلام التي يستخدمها الجبناء في الحروب لينقذوا جلودهم، وقال، لا بل “بال”، لا… لا ، لم أخطىء، نعم لقد “بال” من فمه، وأنت تدرك كيف يبول المرء من فمه، فالأمر مختلف عن الذي يسكت” دهراً وينطق كفراً”، فمثل هذا المرء مرده إلى الله ليسامحه أو لا يسامحه على كفره في يوم الدين، وكذلك الأمر مختلف عن الذي يتحدث متناسياً المأثور الشعبي القائل:”إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”، وأنت تدرك الفرق بين أن يكون الكلام الذي يخرج من فم الشخص فضة أم بولاً كالذي يخرج من فم “صاحبنا”… لذلك أنا أُصرّ على أنه “بال” من فمه رافعاً “رجله” تماماً كما يبول الكلب على قارعة الطريق. وما عليك إلّا أن تحكم بعد أن تستمع لما قال.

قال:

ـ  لا… لا، الخليج مختلف، له عاداته وتقاليدة، لا… لا يستطيع، فهؤلاء المهاجرون لديهم مشاكل نفسية خطيرة. عدّل من وضع حطة رأسه من جديد وتابع بوله:

ـ لا، الخليج مُكْلِف والحياة به غالية وهم لا يستطيعون… لا….

أول ما خطر في رأسي سؤالاً إستنكارياً يقول لهذا التافه: من الذي تسبب في هجرة هؤلاء؟ أليس أكلة قلوب البشر؟ أليسوا “محتكروا” الحقيقة القابضين على”مفاتيح الجنة” كما يدّعون؟ أليست حاميتكم أمريكا؟ وبأموال مَنْ؟ أليست بأموال آل سعود التي لم تطلق يوماً طلقة على أعداء الأمة العربية، بل لم تستخدم أسلحتها وأموالها إلّا لتدمير حركات التحرر العربية والمناضلين العرب وتدمير الأوطان، بل ووظفتها لخدمة ما تطلبه الإمبريالية من أفغانستان إلى دعم الأحزاب اليمينية في بعض الدول الأوروبية كي لا تصل أحزابها الشيوعية للسلطة خلافاً لإرادة شعوب تلك الدول التي إنتخبتهم كما تم في فرنسا وإيطاليا، وكما موّلت حملة الكونتراس في نيكاراغوا كي لا يصل الساندينيون إلى السلطة، تماماً كما موّلت القاعدة وداعش في ليبيا وسوريا والعراق واليمن ومصر” والحبل على الجرّار”… ولا أستغرب أن تكون حكومة آل سعود وحلفائها هي الداعم المالي للعثماني الجديد أردوغان ليتخلص من اللاجئين الذي بنى معسكراتهم قبل أن يبدأوا حربهم الكونية على سوريا، فمن جهة يضغط على الأوروبيين الذين لم يؤيدوا المنطقة العازلة، قائلاً لهم “لا تُريدون منطقة عازلة؟ إذن تلقوا المزيد من المهاجرين”، فمن غير المعقول أن يفر هؤلاء بعشرات الآلاف في نفس اللحظة مارين في دول عدة دون دعم دولي، تماماً كما أنه لا يمكن لتنظيم مهما على شأنه وكبره وتمدده، أن يمتلك دبابات وآليات وأسلحة وأموال ومتفجرات بآلاف الأطنان وجيش بعشرات الآلاف ويحارب في أكثر من مكان، دون أن تكون خلفه دولاً، كما حال داعش والقاعدة، والغريب أنهما رغم إمتلاكهما كل ما سبق وخروجهما أحياناً عن إرادة خالقيهما، إلّا أنهما لم يُخطئا ولو مرة واحدة ولم يخرجا عن الخط الأحمر الأول المرسوم لهما بأن يُطلقا طلقة واحدة باتجاه الكيان الصهيوني، ولو حتى عن طريق الخطأ !!!، ومن جهة ثانية لتفريغ سوريا كما العراق من كنزهما البشري وخاصة أن المهاجرين هم من الشباب في أغلبيتهم الساحقة والكثيرون منهم حملة شهادات وأكاديميون، وأمور أخرى كثيرة لا تتعلق بموضوع حديثنا. لكن أكثر ما استفزني في الأمر أن هذا المتخلف، ماذا؟ نعم المتخلف رغم شهاداته التي يحملها، وهل بالضرورة أن لا يكون كل من حمل شهادة متخلفاً؟ بماذا تفسر لي أن “حارة الشيخة موزة” تحتضن أكبر تجمع للمثقفين الذين لا هم لهم سوى الترويج والتنظير والتبرير لكل ما يضرب حركة التحرر الوطني العربية؟!!! هذه الحارة التي تحكم بالمؤبد على مجرد شخص ينادي بالإنتخابات، تعتقد أن لدى ديمقراطيتها متسعاً للمثقفين لو كانوا مثقفين حقيقيين ولديهم الحد الأدنى من الوطنية أو الثورية لو لم يكونوا تابعين لقوة المال؟… أقول أن هذا التافه لا يعلم ان هؤلاء لو كان لديهم مشاكل عصبية ونفسية كما يدّعي، فهو ومن يموله السبب في ذلك، كما أن هؤلاء ربما يكونون أقل منه ومَنْ هم على شاكلته مرضاً نفسياً، وأن جدود هؤلاء مع جدود الفلسطينيين واللبنانيين هم مَنْ نقلوا الأبجدية إلى تلك الصحاري قبل أن يصلها النفط، واستشهد منهم الكثير من الأفاعي والعقارب، وأن الذباب والبعوض الذي رأوه وحاربوه لم يروا بمثله ولا بحجمه في أصقاع الأرض، نقلوا لهم الأدوية وبنوا لهم المدارس بأيديهم كما المصحات والبيوت بدل الخيام، واستخرجوا لهم المياه وأحضروا لهم الحبوب وعلموهم الزراعة، نعم، هم من علموه وعلموا أجداده الحياة، وها هم الآن لا يحصلون على تأشيرة دخول لهذه البلدان التي لولاهم لماتوا من الظمأ، لا بل كانت مكافأتهم بتدمير أوطانهم وأحلامهم. إنهم نسوا “أن من علمني حرفاً كنت له عبداً”، وفضلوا أن يكونوا عبيدا لراعي البقر الأمريكي وللبريطاني والفرنسي، ويؤمنون بالقول المأثور”… الغريب حلو”.

نسي هؤلاء شيئاً اسمه الكرم، أو إغاثة الملهوف… “الخليج مُكلف”… في الزمن العادي كنتم تتآمرون على الناس وترحلوهم بعد أن تُشاركونهم أموالهم وتسرقونهم لاحقاً باسم ” الكفيل”، أنسيتم؟ الدول تبني حضارات بالمال، وأنتم تُدمرون أوطاناً وتقتلون البشر وتدمرون الحجر وتنشرون الدعارة والبطالة والجهل، نسوا هؤلاء الجهلة أن سوريا هذه، سواء أحببت النظام أم كرهته، هي من استقبلت الشعب الفلسطيني بالأحضان والتضامن  عند مأساته ولا زالت، ولم تُفرّق بينه وبين أبنائها، والسوريون كانوا جنباً إلى جنب يقاتلون الإستعمار في كامل سوريا الكبرى، ومن هو عز الدين القسام سوى مناضلاً سورياً جاء ليستشهد في فلسطين، وأن هؤلاء السوريون هم من احتضن ما يقارب من مليوني عراقي عندما أطلق آل سعود جنونهم تدميراً وتفجيراً في العراق مع الأمريكي، وهم من احتضن نصف مليون لبناني في الحرب على لبنان، وأن هؤلاء السوريون العظام لم يفتحوا لهم معسكرات ولم يطلبوا نقوداً ممن كان السبب في مآسيهم أمثال آل سعود، ولم يتاجروا بقضيتهم لأمم متحدة أو شؤون اللاجئين، تقاسموا معهم لقمة الخبز، وواسوهم وعضّوا على جراحهم مبتسمين، وأن سوريا هذه رغم كل الإنحطاط العربي لم تتنازل عن مجرد بضعة أمتار في “جولانها” المحتل… أم ربما لأنها كذلك يُديرون عليها كل هذه الحرب الكونية؟!!!

نعم هو هذا ذات الشخص الذي كان منذ بضعة أسابيع يدافع عن تدمير اليمن، يدافع عن مجازر آل سعود فيها، ويُهدد ويتوعد شعب عظيم كالشعب اليمني لا لشيء إلّا لأنه شعب فقير بسبب آل سعود أنفسهم الذين يمنعوه من إستثمار خيراته، فهو يعوم على بحر غاز ونفط يفوق ما لدى آل سعود، يتهجم على شعب مقدام جسور كريم، تخيّل!ويتحدث عن أنه وآل سعود سينغصون على إيران والإيرانيون حياتهم من خلال دفع الأموال لإثارة الفتن بين قومياتها ومذاهبها، تخيّل إلى أين وصلت بهم الصفاقة والوقاحة والغطرسة، وهم لم يكونوا قادرين على الصمود لحظة في وجه بلد مثل العراق، ولن يستطيعوا مع سوريا، وسيتمرغ أنفهم في تراب اليمن، والآن يتطاولون على إيران!!! صحيح كما قال المأثور الشعبي” حملوه عنزة ظرط قال هاتوا الثانية”…

ـ مالك تنظر إلي مثل الأبله؟ تحرك رأسك كأعضاء برلمان عربي متخلف جاهل…

ـ فشرت… لا تقل جاهلاً، صحيح أنني لا أمتلك شهادات كشهادة صاحبك، ولا كأولئك في حارة الشيخة موزة، لكني لست مثله ولا مثلهم، وكل ما قلته أنت أعرفه رغم أنني لا أعرف أن أقوله و”أُصفط” كلماته مثلك، واستفزني صاحبك هذا أكثر مما استفزك، بدليل أنني بصقت على وجهه القبيح على شاشة التلفاز بشكل جدي وليس مثلك في سري، شيء آخر سأقوله لك ، لا تُشبّهني بأعضاء البرلمانات العرب إذا أرت أن تراني مرة أخرى في بيتك….

محمد النجار

شهاب الدين وأخوه

الأمر ليس بجديدٍ على الشعب الفلسطيني، فمشكلته قديمة جديدة، فدائمًا يكون في قمة عطائه وقيادته في قمة مساومتها وتبعيتها وتنازلاتها، والأمر لم يعد محصوراً بعائلات الإقطاع التي قادته في ثوراته وانتفاضاته الفاشلة القديمة، بل والحديثة أيضاً، لذلك ينطبق عليه المأثور الشعبي بأسطع تجلياته،” طول عمرك يازبيبة في …. عود”… وكيلا نتوه في التاريخ ونبتعد عن جوهر موضوعنا، سنركز موضوعنا في قيادات الشعب الفلسطيني التي قادت الثورة الفلسطينية الحديثة، حيث ابتدأت قيادة الثورة البرجوازية الصغيرة، في قمة عنفوانها وعطائها الثوري، فساهمت في رسم الميثاق الوطني وحددت البرنامج الإستراتيجي والتكتيكي، وحملت البندقية وناضلت وقاتلت…لكنها تدريجياً أخذت تتماهى مع الرجعية العربية، وارتضت أن تزرع بها الأنظمة رجالاتُها، وقبلت بالمال المشروط، وأخذت تتذاكى لنراها مرة مع الأنظمة الوطنية ومرات مع الرجعية، وبنت “ترسانة” مالية ضخمة، تجاوزت الميزانية السنوية لبعض الدول العربية، حتى أنها أقرضت بعض الدول العربية أكثر من مرة، لتذهب هذه الترسانة المالية إلى يد أرملة الرئيس وكأنها أمواله الخاصة!!!، وكون المال لم يُستخدم لخدمة القضية الوطنية بشكل صحيح، فقد أضعفتها قوة المال فهانت دماء الشهداء وآهات شعبها، فتراجعت عن شعاراتها نفسها، وبدل المراجعة النقدية تاهت بين هدفها الإستراتيجي والتكتيكي، وغلبت التكتيك على الإستراتيجيا، وتنازلت عن الإستراتيجيا والتكتيك معاً، وأخذت هذه القيادة تتذاكى أكثر، فاتصلت بالصهاينة متجاوبة مع سماسرة الصهاينة ووعودهم فتنازلت عن الميثاق الوطني، وزيادة في التذاكي ساومت من خلف الشعب ودون علمه متنازلة عن كل ثوابته، وجلبت اتفاق أوسلو  بكل مآسيه للشعب الفلسطيني، محملاً بالتنسيق الأمني واعتقال المناضلين، ناشرة الفساد والإفساد، وثقافة البؤس والإستهلاك بدل الثقافة الثورية والوطنية، محاولة تحطيم المعنويات والتجهيل والتعتيم والمضايقة والملاحقة الأمنية، والسجن للوطن والناس، تاركة عملاء الإحتلال يصولون ويجولون دون رادع ولا حتى سؤال. هذا ما حصل مع قيادة حركة فتح ، وهو ما يتكرر ويحصل اليوم مع قيادة حركة حماس، فبعد أن انطلقت مع بداية الإنتفاضة الأولى في قطاع غزة، وبعد عام كامل من بدء الإنتفاضة في الضفة الفلسطينية، جاءتنا بشعارها الأول “حماس هي الأساس”، حتى أنها لم تعتبر نفسها امتداداً لقوى الثورة الفلسطينية كما يفعل حزب الله مثلاُ، بل اعتبرت نفسها بديلاً عن المنظمات جميعها، فمن حيث المبدأ لم تكن هي الأساس ، فهي جاءت بعد أربع عقود تقريبا من عمر الثورة الحديثة بشهدائها وجرحاها وأسراها، وفي الوقت الذي كانت فصائل المقاومة تقدم الشهداء وتثبت القضية الوطنية على “أجندات” العالم، وبغض النظر عن الأخطاء والخطايا التي تمت، فإن حركة الإخوان المسلمين في فلسطين، كانت ترفع شعار” لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها” وفي محاولات الهروب للأمام كانت تطرح”تحرير الأندلس قبل فلسطين”، ولم تقدم على مدى عمر الثورة حتى الإنتفاضة أسيراً واحداً فما بالك بالشهداء !!! وهي بذلك لم تختلف عن حركة الإخوان المسلمين العامة التي لم تقم يوما بتأييد أي حركة ثورية في العالم العربي، بل كانت دائماً وأبداً مع الثورة المضادة في أي مكان تواجدت به، والمثال الساطع وقوفها في وجه ثورة الشعب المصري التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في الوقت الذي دعمت به كل الأنظمة الرجعية!!!… والشعار الثاني الذي رفعته كان “الإسلام هو الحل”، الأمر الذي يعني في أحسن صوره تحييد مسيحيوا فلسطين وإبعادهم عن النضال، ثم أنهم بذلك جعلوا من أنفسهم أوصياء على الدين واختزال الدين بمفهومهم له، وفي سياق الإنتفاضة خاصة سنواتها الأولى، لم نر منهم اسلاماً وأكاد أقول ولا مسلمين أيضاً، فهم مثلاً لم يوافقوا يوماً على برامج مشتركة مع القيادة الوطنية الموحدة للإنتفاضة، ولم يوافقوا على بيان مشترك ، ولم يوافقوا على فعالية مشتركة، وكانت بياناتهم مربكة لحركة الشارع كونها كانت وفي معظم الأحيان في تناقض مع بيانات وبرامج القيادة الوطنية الموحدة للإنتفاضة!!! ولم تُجدي كل المحاولات، وفشلت كل الجهود لتوحيد جهودهم مع العمل الإنتفاضي، لدرجة أن الشعور العام الذي كان سائداّ آنئذٍ،  أن هؤلاء جاؤوا للإلتفاف على وحدانية تمثيل م.ت. ف. بدعم أمريكي لخدمة الكيان الصهيوني…

ومع محاولات القيادة المتنفذة في المنظمة، جني ثمار الإنتفاضة قبل نضوجها، بعد مهاجمة العراق من الإمبريالية الأمريكية، وعلى أثر اعتقال الآلاف من مناضلي الإنتفاضة وتحديداً من حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتحديداً الإعتقال الإداري، وفشل مشروع الجبهة لنقل الإنتفاضة إلى العمل العسكري الذي كانت قد بدأته في أوائل سنوات التسعينات من القرن الماضي لأسباب لم توضحها حتى الآن، ابتدأت حركة حماس الأعمال النوعية المميزة ، والأعمال الإستشهادية التي ازدادت وتنامت بعد رجوع المئات من مبعدي الحركة من الجنوب اللبناني، والتي كانت جهود حزب الله وبصماته واضحة على كل أعمالها تقريبا، في نفس الوقت الذي أخذت تظهر بجلاء مساومات القيادة الفردية وممارساتها وفسادها وما تقوم به من شراء للذمم ودعم البرجوازية التجارية ذات الطابع التكاملي مع الإحتلال، ومع الإعتقالات الهائلة لمناضلي اليسار وقياداته والتي كانت تعمل من تحت الأرض، بعد أن تم اكتشافها بعد عشرات السنين من نضالها، إضافة إلى شعارات حماس التي ركزت على الهدف الإستراتيجي من جديد، وبتحالفاتها مع حزب الله والدعم الإيراني والسوري لها، أخذ جزء مهم من جسمها التنظيمي ينحاز للعمل المسلح ويزيد من قدراتها، وأخذ يزداد إلتفاف الجماهير حولها الأمر الذي مكنها من كسب الإنتخابات لاحقاً وتشكيل حكومتها ، والإنتصار على محاولات” فتح” الإنقلاب عليها في غزة، من خلاال محمد دحلان المدعوم من أكثر من دولة رجعية عربية، ومن فتح نفسها بالطبع، وبعد أن أخذت تتفولذ حركة القسام وتزداد تجربة ومعرفة، وتتعمق تحالفاتها مع حزب الله وإيران وسوريا، كان جزء من القيادة السياسية بقيادة خالد مشعل وموسى أبومرزوق (الذي سرعان ما يلبس ثوب المفتي بعد أن يقلع ثوب المناضل، “أفتى بأن التفاوض مع الكيان الصهيوني لا يخالف الشرع، ومن يدري فربما يفتي لاحقاً بأن من لا يُفاوض الكيان يُخالف الشرع)، والمقيم في مصر (رغم معاداة النظام المصري لبندقية الثورة المنتصرة في غزة والتي تسبب له إحراجاً كبيراً)، والذين”مشعل ـ أبو مرزوق” أهم ما يميزهما “مع آخرين من القيادة السياسية، هو سياسة التذلل المالي والسياسي، وبناء “ترسانة” مالية كما فعلت قيادة فتح واستغلالها في الضغط على حركتهم نفسها لفرض مواقفهم التي ليس لها علاقة بالعمل الثوري، رغم أنهم تسلقوا وبشكل انتهازي على ظهر  إنتصارات “القسام” التي حققها بالدم والجهد والمثابرة، لتحقيق مآربه ومصالحه، مبقين الحركة مرتبطة مع المحور الرجعي العربي، ومع قيادات الإخوان المسلمين الرجعية التي لا تستطيع الحياة سوى في المياه الآسنة، ومع العثماني الجديد أردوغان. ويزداد تذاكيهم من خلاال خالد مشعل، الذي تفوق على قيادة م ت ف في “تبويس” اللحى وفي النفاق، فإيران وحزب الله تدعم وتدرب وتنقل التكنولوجيا في تصنيع الصواريخ، وينتصر الشعب الفلسطيني في القطاع، وخالد مشعل يوزع الشكر على “والي” قطر ووالي السودان وأردوغان وملك آل سعود، مبتعداً وبشكلٍ متعمد عن محور المقاومة، ليصل إلى اللقاءات غير المباشرة من خلال”مُدمر العراق” طوني بلير، واصلاً إلى حيث وصلوا بدعم ما تقدم من دول رجعية لن توصل شعبنا إلّا إلى “أوسلو جديد”، والشعارات نفسها كما كانت مع قيادة المنظمة، فك الحصار وبناء الميناء وإعادة الإعمار، مجمَلاً بشعارات تحرير كل فلسطين من هذا الزعيم أم ذاك، ألا يُذكرنا هذا بنفس أسلوب قيادة م ت ف والتي ما زال بعض قادتها يستعملونه حتى الآن؟!!!

والمهم إذا كان اتفاق أوسلو قد أوصل شعبنا إلى الهاوية، فإن الهدنة المقترحة ستمزق ما تبقى من وطن ومواطن، وواهم من يعتقد أن بمثل هذه المساومات الرخيصة وبموازين القوى هذه، أن يكون هناك أي مرفأ أو مكان دون رقابة إسرائيلية، أو أن يظل السلاح الفلسطيني كما هو وأن يتطور، أو أن لا يسلم مشعل ـ مرزوق السلاح كما فعلت قيادة فتح،  وفي الحالتين تفريغ الوطن من مصادر قوته ومن سلاحه!!! وغزة لن تصبح “سنغافورة” كما أن الضفة لم تصبح “هونغ كونغ” إقتصادية. فقيادة حماس ستصبح صورة مسخ عن قيادة المنظمة، فستعتقل (وهي تفعل)، وستُفسد وترشي وستكون الوساطة هي أساس التعامل ، وستتهم الآخرين بكل شيء وأي شيء لتُنَمّي مصالحها الطبقية، وكما أن “الطاسة ضايعة” لدى السلطة، بين قيادة حركة فتح وقيادة السلطة” عندما يعجبهم ففتح التي فعلت وعندما تكون الرائحة تزكم الأنوف، لا علاقة لفتح والسلطة المذنبة”، وكذلك الحال بين قبادة حماس وحكومة غزة، فالوساطة والبيروقراطية والفساد هي أساس الملك، ولا مَنْ يحاسِب أو يحاسَب ، وستصبح الديمقراطية “بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”، وتداول السلطة خروجاً عن طاعة الله وزندقة وفجور، وحرية الرأي والتعبير وحق الإختيار والتعبير “رجس من عمل الشيطان”، يعني كما هو الحال في الضفة الفلسطينية، وستُبنى الشركات المكملة وستُسوّق بضائع المصانع الإسرائيلية، وستأخذ الحكومة الموقرة حصتها من الضرائب… أليس الأمر مُشجعاً على التفاوض وقبول الإسرائيلي كجار لا بد منه في المنطقة؟!!!

فحركة الإخوان المسلمين كانت في كل أماكن تواجدها حركة منافقة ، مناوئة للثورات، مع الأنظمة الفاسدة، وها نحن نراهم في سوريا، كيف أدخلوا حثالات الأرض الدواعش القاعدة”النصرة”، وكانوا مصنعاً لتفريخهم، ورأيناهم خلال سنة كاملة في مصر وما زلنا، وكيف كان رئيسهم يناشد بيرس ويناغيه ويصفه بالرجل العظيم، وكيف قادوا سياسة التجهيل ورفض الآخر والهجوم على لقمة الشعب والإستدانة من البنك الدولي والصفقات مع العم سام، ورأينا مشعل نفسه يوعز لمرافقيه لتأسيس”أكناف بيت المقدس” التي استجلبت النصرة لمخيم اليرموك وأفرغته من سكانه، كما في الكثير من المخيمات الأخرى، في الوقت الذي كانت الصواريخ السورية تتدفق إلى غزة!!!، ورأيناهم في تونس وحالات الإغتيالات السياسية لليسار وقادته، وأنزلهم الشعب عن العرش كما في مصر، وها هم في السودان حيث قسّموا السودان بمساعدة مشيخة قطر وصحّروه وجوعوا شعبه، وها هم قسّموا ليبيا فعلياً بمساعدة “الأطلسي”، وفي اليمن يؤيدون عدوان أمريكا ـ  آل سعود ويحاربون ثورة الشعب اليمني بقوة السلاح، لكنهم لم يحركوا ساكناً في أي دولة رجعية في المنطقة. النقطة الوحيدة المضيئة لهم “القسّام” يريدون إطفاءها بكل السبل وبدعم عثماني وأموال قطرية سعودية وبإتفاق مع الكيان الصهيوني. وفي النهاية، إن القيادتين متشابهتان حد التطابق، والشعارات لوحدها لا تحرر أوطاناً، وسيظل “شهاب الدين أظرط من أخيه”…

لذلك، وكون محور المقاومة جاداً في دعم قضية فلسطين، فعليه فعل ذلك كما يجب وبشكل مكثف، وأعتقد أنه لا يجب أن يظل أسيراً في تكثيف دعم التيارات الدينية فقط، أو أكثر من اليسارية، فهو خير من يعلم أن “ليس كل ما يلمع ذهباً”، بل إن تكثيف دعم اليسار الفلسطيني وبقوة حاجة ضرورية ومستعجلة وماسة، فلدى رأس اليسار من الخبرة والإستعداد والإرادة ما يجعله ربما الأقدر على القيام بهذه المسؤلية، وهو بالتأكيد الأكثر أصالة ووفاء، بجانب حركة الجهاد الإسلامي، رغم ما أصاب بعض أطراف جسده من ترهل، لأنه يدرك جيداً أن هذا الزمن ” لا كما يتخيلون…. بمشيئة الملّاح تجري الريح… والتيار يغلبه السفين” كما قال الشاعر الكبير محمود درويش ذات يوم، وتاريخه حافل بالإبداع والمبادرات، وهو لم يهن يوماً وعمل وما يزال يعمل على أن ينفض طائر العنقاء “الفلسطيني” الرماد عن نفسه ويُحلّق من جديد ، ممزقاً إتفاقاتهم وراميها في مزابل التاريخ.

محمد النجار

أمي رأت أمك

ـ سيدي، الأمر ليس كذلك، لماذا تصدقوه وتكذّبونني؟ ألسنا متساوين أمام القانون؟ ولماذا أنا في هذه الزنزانة وهو حر طليق ينتقل من قناة تلفزيونية إلى أخرى مثل الإعلانات التلفزينية، أو مثل المسلسلات الهابطة؟ بالطبع لا، لم أقصد إهانته ولا إهانة أحد بكلامي هذا، أقصد… إنك تعرف تماماً ماذا أقصد… ماذا؟ إذا لم يكن هو السبب فمن إذن؟ فأنا منذ تشريفكم إلى “البلد””بَطّلت” السياسة والحديث بها، خلعتها ورميتها بعيداً، طلّقتها ياسيدي، والدليل أنكم لم تعتقلوني قبل الآن ولا مرة واحدة، صحيح أنكم استدعيتموني لكنكم لم … ماذا؟ بلد ديمقراطي؟ نعم …أراه وأحسه على جلدي كما ترى، والله لا أتحدى ولا “أتخوّت” ولا زفت… قل لي ماذا تريد مني!!!

يشعل سيجارة، ينفخ دخانها في سماء غرفة التحقيق ويقول:

ـ  طبعاً كنت معتقلاً قبل دخول سلطتكم، ومَنْ لم يُعتقل؟ فملفي بين يديك كما أرى، نفس اللون وأكاد أجزم أنها صورة عن نفس الأوراق… وما زالت الكلمات العبرية تتصدر معظم صفحاته، وأنا لم أُهدده ولم أهدد أحداً، ثم أنك قلت أنه ليس المقصود، وأنا لا يوجد لدي قصصاً لأحكيها لا لك ولا لغيرك…

يستمع الى المحقق، وما زال يدخن ثم يقول:

ـ ربما، أعتقد أن هناك بعض التغيير، حينها كانت هذه الزنزانة بالذات أكثر نظافة، كنا نغسلها بأيدينا أكثر من مرة في الأسبوع، لكنكم ومنذ أسبوع كامل بالكاد تعطونا مياه للشرب، كما أننا كنا ندخن على حساب الصليب الأحمر والآن أدخن من سجائري، لكن وللحق فالشبح نفسه والضرب نفسه، كل شيء يبدو متشابه من” إحكي القصة حتى … لا أعرف بعد فالأمر لم ينتهِ بعد لأعرف”… وعلى كل حال قصتي الوحيدة هي التالية:

ـ كثيرة كانت الإنتقادات في الفترة الماضية لحركة حماس، بسبب المفاوضات التي تجريها سراً مع الكيان الصهيوني، ماذا؟ لا، أقصد الكيان الصهيوني وليس “إسرائيل”، فأنا مهما جرى لن أعترف بدولة أُقيمت على أرضي وأرض شعبي أسموها “إسرائيل”…  وإن كان أمر المفاوضات صحيحاً، فإنتقادها صحيح أيضاً، الأمر الذي كان سبباً في حوار أخذ أحياناً طابع الحدية مع ذلك السيد، والذي كان كثير النقد لما يجري حسب، و هو من رجالاتكم ومن رجالات الحزب الحاكم أيضاً، وأنا لم أدعوه، لقد لبى دعوة زميلي الذي يشرب الشاي معي ويدخن النرجيلة في مقهى المدينة، جالسنا ليري الناس أنه ما زال رجلاً شعبياً يجالس البسطاء حتى بعد أن كَبُر شأنه. وكي تكون الأمور واضحة، سأقول لك بعض المعلومات عن محاوري هذا، فهو مثلاً كان من أحد أقطاب اليسار الفلسطيني، يعرف عن الماركسية أكثر مما يعرف عن التاريخ العربي الإسلامي، يحفظ فقرات منها ويستشهد بها أكثر من استشهاده بالمأثورات الشعبية، بل أكثر من إستشهاد شيخ بآيات من القرآن والأحاديث، وفجأة أخذ يقلل من إستشهاداته تلك، واستبدلها بإستشهادات بأقوال “الأخ القائد”، فأخذت تظهر صوره ولقاءاته على التلفاز بشكل مفاجيء، ليتبين لي وللجيران الآخرين أن إحدى بنات “قادة الصف الأول”معجبة به أشد الإعجاب، بل إنها أحبته من النظرة الأولى، وكون الحب يصنع المعجزات، فبدأت المعجزة الأولى بتردده على بيتهم معزوماً من أمها، و”كرّت” المسبحة بمعجزات متتالية، والأم كانت قد ورثت عن زوجها المتوفى بضع عشرات من ملايين الدولارات، ف”المغرفة في يد القيادة،” ومن بيده المغرفة لا يجوع”، وما زالت تعمل في القيادة ومعها، ومشهورة بهز الرأس بالإيجاب دائماً، ولا تعرف كلمة “لا” الى لسانها طريق، وقال عارفوها أن بيت الشعر القائل:

ما قال قط لا إلّا في تشهده …… لولا التشهد لكانت لاؤه نعم

ينطبق عليها أشد الطباق، لذلك مازال لها حظوة لدى كل القادة الأكثر تنفذ.

وسرعان ما تزوج عريسنا، وبدلاً من أن تنتهي القصة هنا وعند هذا الحد، فقد كانت البداية من هنا بالذات “لعريسنا الكبير”،  فأُقيمت الأفراح والليالي المِلاح، واستمرت الإحتفالات أياماً بلياليها كما لا بد تعلم إن لم تكن معزوماً، و”للحق” وكي أكون مُنصفاً، لم تدم الأفراح لدينا في المدينة سوى ثلاث ليالٍ، وذلك بسبب أوضاع الضفة، حيث الشهداء والأسرى،كما قال مؤكداً لبعض عارفيه، ومن ثم انتقلت الأفراح لمدينة عمان في الأردن لتكمل أسبوعها ، وبعدها غادر العريسان إلى باريس لتقضية شهر العسل هناك، وبعد عودته إزداد حضوره على الشاشات وبطون الصحف ونشرات المذياع، حتى غدا كما تعرف ويعرف الجميع، من الوجوه الأولى التي يصعب تجاوزها. قال لي حينها مفسراً موضحاً:

ـ إن ما يقومون به من مفاوضات سرية، ما هي إلّا لفصل القطاع عن الضفة، وليُثبِتوا هدنة يستمروا بعدها في الحكم هناك، وهذه والله خيانة عظمى!!!

فقلت:

ـ هل فعلأ يقومون بذلك أم مجرد دعاية؟ ف”الجماعة” ما زالوا متمسكين بالبندقية كما نرى، والحرب الأخيرة لم يمر عليها سوى عام واحد

ـ دعاية؟!!! إننا نعرف ذلك جيداً، فمصادرنا موثوقة… وكل ما تراه ما هو إلّا لذر الرماد في العيون…

ـ مصادركم؟!!! وحرب تدمر القطاع لذر الرماد في العيون؟

سألت مستهجناً مستغربا حين قال:

ـ نعم مصادرنا…

وضحك مكملاً:

ـ محاوريهم أنفسهم أخبرونا بذلك

قلت سائلاً من جديد:

ـ لكنكم قلتم أنكم أوقفتم المفاوضات معهم احتجاجاً على الإستيطان، ألم توقفوها؟

قال :

ـ بلا، لكن يوجد خطوط مفتوحة هنا وهناك كما تعلم

قلت:

ـ لا والله لا أعلم، وكل ما أعلمه أنكم قلتم أنكم أوقفتم كل الخطوط عندما أوقفتم التنسيق الأمني، أكان ذلك كذبة أم مزحة ثقيلة سمجة؟ وما دام الأمر كذلك لماذا تزايدون عليهم إذن؟!!! إنكم تعملون كما يقول المأثور الشعبي”قال له أمي رأت أمك في الكرخانة، فقال له جيد، أمي تعمل هناك ولكن ماذا كانت تفعل أمك؟” وأنتم ماذا كنتم تفعلون مع الصهاينة الذين أخبروكم بالأمر؟!!!

فهب فيّ صارخاً عندما لم يستطع إجابتي، واتهمني أنني أشتم السلطة والقيادة، فأجبته بدوري أنني لا أشتم أحداً، وإن كان مايقوله صحيحاً فهم يستحقون الشتيمة، وتطور الأمر لا أعرف كيف، ولكني أضفت:

ـ “مَنْ بيته من زجاج لا يحذف الناس بالحجارة”، فأنتم أول من إبتدأ المفاوضات، قمتم بها متجاوزين منظمة التحرير وقيادة الفصائل والمنظمات الجماهيرية والإتحادات الشعبية والشعب كله، وجئتم حاملين لنا “إتفاق أوسلو” وشعار غزة وأريحا أولاً، وبغض نظر منكم وتواطئ وموافقة، ملؤوا السجون بالمعتقلين قبل تسليمكم للمدن كي لا تواجهكم أي معارضة، ووقفوا لنا على أبواب المدن بدورياتهم وجنودهم، وفاوضتم من جديد، فأخذوا المدن التي أعطوكموها حتى بعد أن كنتم مثل الطفل المؤدب، وقمتم بكل ما طلبوه منكم، إعتقلتم وسلمتم أسلحتكم وأسلحة المطاردين، وأغمضتم أعينكم عن تضاعف عدد الشهداء والجرحى والمعتقلين، وعن مصادرة الأراضي والمستوطنات والطرق الإلتفافية، واختصرتم القدس بالمسجد الأقصى ووافقتم على عدم دخول مواطنيكم القدس أو ألأراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين على إعتبار أنها أراٍ ض إسرائيلية لدولة جارة صديقة، وبصمتم على أراضي ”  bو c” لتكون تحت السطرة العسكرية، واستنكرتم العمل المسلح وتنازلتم عن حق العودة وكأن فلسطين مُلكُ عائلاتكم أو ورثتموها عن السيد الوالد، وها أنتم أعجز من أن تحترموا قراراً اتخذتموه بأنفسكم، وفي المحصلة فإنهم إن كانوا يفعلون ما فعلتم، فهم أيضاً مدانون مثلكم، وشعبنا لن ينسى من يفرط بحقوقه، وإن كان لأحد الحق في الإعتراض والحديث فهو ليس أنتم، فهم إن فتحوا سجوناً فأنتم سبقتموهم في ذلك، وإن إعتقلوا فأنتم السابقون وهم اللاحقون،  ويظلوا هم متميزين عنكم بأنهم ما زالوا قابضين على البندقية، ربما ليس إلى فترة طويلة إن ظلوا وراء إمارة قطر والعثمانيون الجدد، أوحتى خلف مشورة آل سعود، وفي كل الأحوال أنتم وهم مدانون وتستحقون الشفقة…

إشتد غضبه، وبدأت أرى شرراً يتصاعد من بؤبؤي عينيه، وأخذ يرعد ويزبد، فقررت أن استمر بعنادي وأقول رأيي لهذا “الطفيلي” مهما كان الأمر، فتابعت:

ـ إن كل ما تريدونه أن تحكموا غزة أيضاً، أن لا تتركوا بندقية تؤلم الإحتلال وتؤذيه، لتصبح غزة كسيحة مثل الضفة الفلسطينية، وإلا لماذا لا تقوموا بإصلاح المنظمة وتوحيدها على أساس كفاحي؟ على مشروع وطني يقاوم الإحتلال ويؤلمه، لماذا لا تريدون إصلاح مؤسسات المنظمة التي تعفنت وعفى عليها الزمن؟ أم أنكم لم تعودوا قادرين على الحياة في أجواء صحية وهواء نقي؟ إن كنتم تريدون التحرير فطريقه ليست مفروشة بالورود، وإن كان الأمر صعباً ولا تستطيعون القيام به، اتركوا الأمر لمن يستطيع…

أشعل الضابط  سيجارة هذه المرة،وظل المعتقَل يتابع موجهاً كلامه للمحقق الذي أمامه :

ـ وهل يجب أن أكون أخرساً؟ ومنذ متى عدم العمل في السياسة تعني أن لا يكون لدى المرء رأياً؟ لكن دعني أسألك أنت، فربما تستطيع أن تشفي غليلي بإجابة شافية:

ـ هل فعلاً ما زلتم تفاوضون وتنسقون أمنياً من تحت الطاولة؟

وأمام ابتسامة الضابط ونظرات عينيه، وقبل أن يجيبه، رد الضابط المحقق على هاتفه الخيلوي الذي كان في درج مكتبه، وهو ليس الهاتف الذي فوقه وقال:

ـ شالوم… ماشلم خا.. كين…أني….*

وخرج من مكتبه ليكمل الحديث…

  • لغة عبرية تعني: مرحباً… كيف أنت… نعم… أنا…                                                                                                                                                                                                                         محمد النجار

أعترف الآن

قال محامي الدفاع:

ـ المتهم يرفض سيدي القاضي وحضرات المستشارين أن يدافع أحد عنه، ويصر على أن المحكمة مسرحية هزلية قرارها معروف مسبقاً وحكمها جاهز، وكون محكمتكم الموقرة قد وكلتني بالدفاع عنه، فإنني سأبقى رغم أنفه، لأنه رغم كبر سنه إلّا أنه لا يعرف صالحه، يعتقد أن الأمور “ستفرق” عند سعادتكم إن قبل أو رفض، لكن وكون بعضاً من دولكم التي تمثلون هي واحات للديمقراطية في العالم وفي الشرق الأوسط، فإنها ترفض أن لا يكون للمتهم محامياً، حتى وإن كان ما يقوله صحيحاً، وعليه فإن تدخلي سيكون فقط في حالات الضرورة القانونية، والآن سأترك المتهم ليدلي بدلوه، وشكراً.

كان القاضي الأساس طويل القامة نحيف الجسد حليق اللحية والشنب، يلبس بدلة سوداء أنيقة وقبعةً مثل قبعات رعاة البقر التي كانت تُلازمهم عند مطارة الهنود الحمر، والقاضي الثاني بمثل مواصفاته، لكنه دون قبعة ومتوشحا ببدلة بيضاء تحمل على امتداد الكتفين كما القدمين صورة نهرين كتب على الأول في الأعلى “النيل” وعلى الأسفل “الفرات” ، والقاضي الثالث كان يلبس عباءة مُذهبة، على رأسه يلتف عقال فوق حطة ناصعة البياض، وفي قدمه “صندلاً” أسوداً يُبرز أصابع قدميه التي كانت تتماحك وتتحرك كمجموعة من الديدان على وجبة غداء. فالمتهم خطير وتتطلب تهمه مجموعة قضاة وليس قاضياً واحداً، وسيكون الحكم بالتالي متوافق عليه بين الجميع، على قاعدة ثبتها القاضي ذو العباءة المذهبة، والقائمة على الآية الكريمة” وأمرهم شورى بينهم”.

المتهم واقفاً داخلاً في لب الموضوع  الذي إعتقلوه في منتصف الليل من أجله:

ـ أقر وأعترف، أنا المُوقع إسمي أدناه، وأنا بكامل قواي العقلية، بأنني لم أكن يوماً على وفاق مع أنظمة الحكم،  والعربية منها على وجه التحديد، فكل الآهات والمآسي والشرور منها أو بسببها أو بمشاركتها، ورغم إدراكي التام ـ حسب ظني ـ بين الوطني والرجعي منها، إلّا أنني طالما صببت جام غضبي على الأنظمة الوطنية منها.

“يبتسم القاضي ذو العباءة الذهبية” ويكمل المتهم:

ـ ربما أكثر من الأنظمة الرجعية، كوني كنت قد “غسلت” يديّ من الأنظمة الرجعية منذ زمن، فهي لم تعد تصلح كما يقول المأثور الشعبي “لا في العير ولا في النفير ولا في عثرات الزمان”.

يتجهّم نفس القاضي ويكمل المتهم:

ـ كما أننا ـ كشعوب ـ لا يمكننا إتباعها، فهي لم  تكن ولن تكون مثالاً إيجابياً لأحد، و”ملاحقة البوم يدلك ع َ الخراب”، كما يؤكد المأثور الشعبي أيضا، كما أنك لن تجد ما هو أكثر منها سوءً أو أشد تبعية أو تخلفاً أو قمعية أوبلاهة أو حتى إنحطاطاً، فتخيلوا أن يكون مثالنا دولة آل سعود مثلاً!!!، لذا كنت أعتقد دوماً بأن “الضرب في الميت حرام” أو كما قال الشاعر :

قد أسمعت لو ناديت حياً                                       ولكن لا حياة لمن تنادي

يتجهم أكثر ينتفض “كرشه” المنتفخ، يقوم عن مقعده محتجاً، تتحرك ليتاه كليتي خاروفين أثناء عدوهما نحو كومة برسيم، يصرخ محتجاً، يحاول القاضيين الآخرين تهدئته، ويطالبه أحدهما هامساً” اتركه ليتحدث، فكما تعلم فنهايته بين أيدينا…، والمتهم يكمل ولا يعيره أي انتباه.

ـ أما الوطنية والممانعة منها، فطالما “رغبت”أو/و تمنيت، أن تتحول وتتطور من دول ممانعة إلى دول مواجهة، ومع عدم نيل هذه الأمنية على مدار عشرات السنين، وعدم تحقق رغبتي إزددت غضباً على هذه الأنظمة أيضاً. كذلك الحال فقد زادت هذه الدول في غلوائها، فغابت الديمقراطية أو كادت بشكل شبه دائم، وأصبحت حرية التعبير حلماً صعب المنال، وأصبح التجمع في غير محطات الباص والمقاهي جريمة يعاقب عليها القانون، وتشكيل الأحزاب رجس من عمل الشيطان، والمنسحب من الحزب الحاكم كالمرتد عن الإسلام، ومفهوم التداول السلمي للسلطة كفر بالذات الإلهية لا يناهزه جرم ويدفع بمرتكبيه إلى “النار الدنيا” وتوصية من شيوخ السلطة إلى جهنم وبئس المصير، وأصبح الفساد جزءً لا يتجزء من أمن الدولة، وكلما زاد” اسشراسا” في الحياة كلما أصبحت الدولة أكثر أمناً، لذلك فزادت نسبة الإفساد وتعمقت كي تجني الدولة مزيداً من الأمن!!!، الأمر الذي طالما زادني حزناً، وفي معظم الأحيان أصابني بالغثيان.

يبتسم نفس القاضي من جديد، زائحاً وكأنه بيده، غضبه وحنقه الذي كان على وجهه قبل لحظات، والمتهم الذي كان يتحدث مازال يتحدث ويكمل:

ـ هذا في الدولة الوطنية فما بالك بالرجعية التي لا تملك دستوراً أيها ال”متبسم”…. والأمر الواضح لديّ أن الأمن يتأتى من الديقراطية، وأنه كلما ازدادت الديمقراطية وتعمقت في المجتمع كلما أصبح أمن الدولة جزءً من أمن المواطن، ويكون المواطن بالتالي جزءً من “سلطة” أمنية كامنة للشعب والدولة بغض النظر عن النظام الحاكم في هذه المرحلة أو تلك، ولا يكون الأمر من إختصاص أمن النظام ” المخابرات”، الذي يفسر ويُفصّل المفهوم الأمني كما يحلو له وكما يريد، وبالتالي تكون الدولة دولة قانون وليست دولة الحاكم أو الرئيس. وكنت أمام حالة أي إعتقال لأي شخص، ذنبه الوحيد أنه معارض أو لديه وجهة نظر مختلفة عن النظام، وربما كان أكثر طهراً وشرفاً ووطنية وإستعدادً للتضحية من نصف النظام الحاكم، كان الأسى يزداد عندي إلى درجة الإشمئزاز.

كان نفس القاضي ينظر بعيون ميتة، وكأنه يستمع إلى طلاسم أو لغة لا يعرفها ولا يفهم منها شيئاً، والأخران يستمعان دون إهتمام كونهما يعرفان تماماً ماذا تعني دولة القانون في “بلادهما”، لكنهما كانا مستاءين كون هذه المعرفة أخذت تنتقل إلى هذه البلاد، الأمر الذي يتطلب قتل الجنين قبل أن يولد. وظل المتهم مكملاً:

ـ واعتقدت دوماً أن هذه الدول ستظل تراوح مكانها في أحسن الأحوال، وأن برجوازيتها الوطنية ستتحول تدريجياً ـ كلها أو جزء منها ـ الى رجعية، قائدة البلاد والعباد إلى موقعها الطبقي الجديد، وأنها لن تتطور أبداً إلى حالة المواجهة بدلاً من الممانعة والمراوحة، خاصة بعد أن طالت حالة السكون، واستطالت مرحلة اللاحرب، وأخذ جزء من هذه الدول يتراجع عن إنجازاته، وتم غزو بعض دُوَلَه مثل العراق من قِبلِكُم، وتسييد آل سعود المشهد، حتى أضحت دول الممانعة محصورة في الدولة السورية ـ والدولة الجزائرية البعيدة عن خطوط التماس ـ هنا في المشرق، ورغم نظرتي التي لم تتغير للدولة السورية، ومعرفتي المسبقة بأنها مَنْ احتضن المقاومة الفلسطينية وقياداتها على مدار عشرات السنين، وقدمت للها الدعم والإسناد، ومعسكرات التدريب والسلاح، ورغم كونها الدولة الوحيدة التي تعاملت مع اللاجئين الفلسطينيين فيها كما تتعامل مع مواطنيها السوريين، دون أي فرق أو تمييز في كافة نواحي الحياة، ورغم إحتضانها للكثير من المفكرين والمثقفين العرب الذين ضاقت بهم حكومات بلدانهم، ولم يجدوا غيرها مستقراً آمناً لهم، في السنوات العجاف تلك، ورغم أنها كانت المعبر الوحيد الموثوق للمقاومة اللبنانية، لوصول إمداداتها وأسلحتها ومعرفتها بجانب الإيرانية، وأن لها دوراَ أساسياً في انتصارات المقاومة في لبنان وغزة، ورغم معرفتي بأنها رفض التنازل عن متر واحد من أرضها المحتلة، عندما تهاوت الأنظمة وازداد تساقطها كحبات فاكهة متعفنة فوق شجرة مريضة، وأنها حاولت ربط القضايا العربية والفلسطينية على وجه التحديد مع بعضها البعض، قبل أن تبرر القيادة الفلسطينية إستسلامها ب”القرار الفلسطيني المستقل”، متجاوبة مع توجيهات وريالات آل سعود…

ـ لا تشتم أولياء الأمر…

ـ ـ دعنا نستمع كيف يفكر هؤلاء… اتركه يتحدث…

ـ إلّا أنني بقيت أنظر إلى هذا النظام بعين الريبة والشك، حتى بدأت الحرب الكونية الإمبريالية على سوريا، دولةً وشعباً وقيادة، فألح علي السؤال الذي تساءلته حين بدأتم بغزو ليبيا وأسقطم نظامها رغم كل ملاحظاتي عليه، وتساءلت من جديد، لماذا سوريا؟!!! فهل دويلة قطر بحمديها الصغير والأصغر، وطائراتها “الإنسانية” المحمَّلة بالأسلحة للمعارضة، وبقواعدها العسكرية الأمريكية هي دولة أكثر تطور وديمقراطية من سوريا؟ وهل دولة آل سعود وحكامها المتخلفون الجهلة هي دولة أكثر ديمقراطية من سوريا؟

ـ قلت لك لا تشتم أولي الأمر…

فقال المتهم راداً:

ـ أتعتقدني سأتخلى عن دولة مثل سوريا لأتبع نظام آل سعود ؟ صدق الشاعر خداش بن زهير حين قال:

ولا أكون كمن ألقى رِحالته

على الحمار وخلّى صهوة الفرسِ

ـ خسئت أن أفعل ذلك… سأقول ما أريد واحكموا كما تريدون…

ـ أرجوا أن لا تقاطعوا موكلي سيدي الرئيس، وأكمل المتهم:

ـ وتساءلت ماذا يفعل الصهاينة في مصر وتونس بعد هذا “الربيع العربي”؟ وما سر هذا الرضى الأمريكي عن هذا “الربيع”؟ واستحضر ذهني مباشرة مقولة القائد الثوري الكبير فيدل كاسترو ” إذا امتدح العدو الأمريكي سياستنا، علينا إعادة النظر في هذه السياسة”، فما بالك بإمتداح الأمريكي والصهيوني والعثماني والرجعي العربي؟!!! لا بل دعمهم لهذه المعارضات ودعمهم لها بالسلاح أيضاً، ووقفت طويلاً أمام “ثورية “آل سعود والحمدين في حارة قطر، وتساءلت، لماذا يقدم هؤلاء كل هذا الدعم بالمال والسلاح لهذه المعارضة ولم يقدموا رصاصة واحدة لتحرير فلسطين، ولماذا تُحارب سوريا بالمرتزقة؟ ما علاقة الأفغاني والقوقازي والشيشاني بسوريا، وإبن مملكة الشر لماذا لا يحارب لتحريرها من آل سعود بدلاً من القدوم لسوريا؟ وفكرت،لماذا نسبة المرتزقة تفوق أضعافاً نسبة السوريين؟ فعندما يكون اللص في بيتك تحاول طرده ولا تذهب لتطرد آخر من بيت الجيران، وأدركت أكثر أن ما في “بيت الجيران” ربما ليس لصاً،وربما نصف لص، وأن من تدعمه مملكة الشر وأسيادها ليس لصاً يسرق قطعة خبز، بل هو قاتل محترف.  فأدركت ما يلي:

  • أن كل ملاحظاتي وانتقاداتي للنظام في مكانها وصحيحة، لكنها لا تغير موقعه، فربما لو كان أكثر ديمقراطية وأقل فسادا، لما إستطاعوا الدخول من ذات المدخل على الأقل لتدمير الدولة السورية، فكون سوريا مطلوبة لحلف الدمار الرأسمالي الصهيوني الرجعي لن يلغي أنهم سيجدون مداخل لهذا التدمير المبرمج والممنهج، لكنه ـ ربما ـ كان أقل كلفة مما هو عليه الآن، وربما كانت إمكانية الإنتصار على حثالات الأرض ” داعش والنصرة” وأخواتهما، وعلى مملكة الشر “مملكة آل سعود” وحليفاتها من دويلات في الخليج العربي، وكذا على العثمانيين الجدد أيسر .

  • أن مطالب الشعب والكثير من مطالب المعارضة الوطنية هي مطالب محقة تماماً وعلى النظام حلها،ويجب عليه بالحوار حلها، وتم إستغلال هذه المطالب المحقة لتدمير الشعب ودولته.

*أن على الشعب السوري، بنظامه وقيادته ودولته، أن يحول دولته من دولة ممانعة إلى دولة مواجهة، الأمر الذي يتطلب تحويل الدولة إلى ديمقراطية ثورية، تضع على رأس أجندتها الهدف الإستراتيجي بإزالة الكيان الصهيوني كأمر ضروري لوحدة الدولة السورية قبل تقسيمها إلى أربع دول، كخطوة أولى على وحدة العالم العربي، فخيار المواجهة مهما عظمت تضحياته، هو الأكيد والأقل كلفة من خيار المراوحة في المكان، وأن سوريا لو كانت قد خاضت حرباً شعبية ضروساَ مع الكيان الصهيوني والإمبريالية واستمرت سنوات وسنوات لما كانت لتخسر هذا العدد من الشهداء والجرحى والأيتام والثكالى، ولا هذا الكم من المهجرين، ولا كل هذا التدمير في بناها التحتية، ولكانت بجانب المقاومتين الفلسطينية واللبنانية قد حرر ت الجولان وجنوب لبنان وثلثي فلسطين.

يتململ القاضي الثاني ذو البدلة البيضاء والنهرين الأزرقين، ويتمتم للقاضي الأول بشيء في أذنه… ويستمر المتهم:

  • لقد تأكدت الآن أكثر، بأنك إن كنت ممانعاً، أو في حالة صراع مؤجل، فهذا لا يعني للأعداء أنك لست عدواً، وأن عليك أن تخرج من جلدك حتى تتقي ـ مؤقتاًـ شرهم، وأنك إن لم تستسلم تماماً فأنت ما تزال عدواً، “فالعربي الجيد هو العربي الميت”.

  • لقد بدأت متأكدا أنكم أنتم جميعكم أعداء هذه الأمة وكل الأمم، وأن مواجهة أحدكم دون الآخر يبقى ناقصاً، لن يؤدي للنتيجة ذاتها من التحرر، وأن هذه المواجهة واجبة وضرورية للإنعتاق من التبعية، وأن الرصاصة تصيب الهارب والفار ومولي الأدبار، وتجبن أمام الأنداد الثوريين.

  • لقد اتضح الآن أن ما قاله المناضل الحجازي، الشهيد ناصر السعيد، هو عين الصواب، عندما وجه حديثه لبعض قادة المقاومة الفلسطينية قائلاً” لا تحلموا بتحرير شبر من فلسطين ما دام آل سعود يحكمون شبه الجزيرة العربية”، واتضح أيضاً صواب ما ذهب إليه الشاعر الكبير ، المناضل مظفر النواب من عشرات السنين حين قال:

أعلن أن الحجيج سلاح بمكة

كافر من يحج بدون سلاح

وظني أن سوريا ستخرج من محنتها، وأن خروجها منتصرة سيكون البداية لأشياء كثيرة وكبيرة، أقلها تعميق وتثبيت محور المقاومة، فبعد إقتلاع حثالات الأرض، لن يدوم كثيراً إقتلاع سادتهم من المنطقة.

ينتفض القاضي الثاني، يرتج النهران المرسومان بعناية على طرفي بدلته، ويبدأ بالمقاطعة والصراخ، يظل القاضي الأول ذو القبعة الشبيهة بقبعة رعاة البقر يحاول تهدئته. والمتهم يكمل رغم الصراخ:

إنتصار سوريا سيكون بداية عهد نهضة عربية جديد، بل بداية عهد نهضة للمنطقة بأسرها أيها السادة…

ـ أخرسوه…

ـ إقطعوا لسان هذا الملحد…

ـ لا! نحن واحة الديمقراطية هنا، لا نقوم بهذه الهمجية، الإعدام غير موجود في قاموسنا…. دسوا له السم في الطعام

ـ اشنقوا هذا اللئيم…

ـ لا، أفضل أن نطلق سراحه ويموت بحادث سير…

ـ بل برصاصة عندما يخرج في أول مظاهرة…

ـ بل رجماً بالحجارة… إنه زنديق مرتد…

ـ بل برصاصة قناص..

ـ بل ذبحاً بالسكين على يد المعارضة المعتدلة… ظني أنه شيعي رافضي

هرج ومرج في صالة المحكمة بين القضاة الثلاثة، يجلس المتهم، ويمد قدميه فوق المقعد الذي أمامه، وسط أحاديثهم وانفعالاتهم…..

محمد النجار

ماذا لو؟!!!

منذ البدء، أرادت قوى الظلام في المنطقة، مدعومة إمبريالياً وصهيونياً، من شيطنة إيران، ومن تفجير حرباً مذهبية “سنية ـ شيعية”، لكنها بدأتها بالحرب العراقية الإيرانية التي إستمرت ثماني سنوات كاملة، فأزهقت أرواح مئات آلاف البشر من الدولتين،  ودمرت بنيتهما التحتية وذهبت بمئات مليارات الدولارات، مدمرة إقتصادهما. وكانت تلك الأنظمة قد إكتشفت لتوها، ياسبحان الخالق، مباشرة بعد سقوط الشاه،” شيعية” إيران و”رافضي”تها!، فأصبح الحديث عن إيران خارج نطاق الشيطنة ليس أكثر من “عمالة للفرس” ونوع من أنواع التشيع، ولا يجد له أي مكان في إعلام ألئك المتخلفون المرتهنون لأعداء الشعوب العربية جمعاء، لدرجة أن المرحوم، الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم أعلن ذلك في إحدى قصائده صارخاً محتجاً:

كلامنا عن إيران                                     ملوش طبعاً مكان

في إعلام الخيانة                                   وصوت الأمريكان

فماذا لو لم يكتشف الأعراب “شيعية” إيران و”رافضي”تها؟ وماذا لو امتدت يد التعاون والصداقة مع النظام الجديد في إيران بدل تلك الحرب المدمرة؟!!!  وماذا لو اُستُغِلَّت تلك الأرواح والأموال في بناء الحضارة وتطويرها لمصلحة المنطقة وشعوبها بدلاً من تدمير الحضارات والبشر والبنى التحتية، وتبدبد ثروات الشعوب لمصلحة الشركات الإمبريالية العالمية؟!!!

بالطبع حاولت الإمبريالية إحتواء الثورة، لتفريغها من مضمونها، لتظل إيران جزءً من المحيط التابع للغرب ولكن بشعارات إسلامية، “مثلما فعلت بنظامي مرسي في مصر والغنوشي في تونس”، فما دامت مصالحهم مؤَمَّنة لا فارق لديهم من يحكم لينفذ هذه السياسة إن كان يلبس عمامة أم بدلة وربطة عنق. لكن وجود قيادة ثورية على رأس الثورة الإيرانية، مدعومة بتأييد عشرات الملايين من الشعب الإيراني، كما إستحضار هذه القيادة لتاريخ شعبها ـ وربما لتجارب الشعوب الأخرى مع الإمبرياليةـ ولتاريخها الحديث الذي لم يمر عليه وقت طويل، عندما إنتخب الشعب الإيراني رئيس وزراء له”محمد مصدق” مرتين في غضون ثلاث سنوا ت”1951ـ 1953″، وبمجرد أن ابتدأ بخطواته الإصلاحية وعلى رأسها الإصلاح الزراعي، وتوّجها بتأميم شركات النفط، تم الإنقلاب عليه من المخابرات البريطانية الأمريكية، وسجنه لسنوات وفرض الإقامة الجبرية عليه حتى موته… إنها ديقراطية الإمبريالية عندما يتعلق الأمر بمصالحها !!! فماذا لو كانت قيادة الثورة الإيرانية قيادة رجعية متخلفة مثل قيادات دول الخليج العربي، أكان يمكن لإيران أن تتطور بهذا الشكل ولتصل إلى ما وصلت إليه؟ أكانت دولة تصنيع وتطوير زراعي وإصلاحات إجتماعية ومن ثم دولة نووية؟!!! مَنْ يمكن أن يعتقد أن قيادات الوطن العربي وخاصة الخليجية قادرة أن تُنتج تطوراً فإعتقادي أن واهم، وربما جاهل بها، ففاقد الشيء لا يعطيه، فهي في نهاية المطاف قيادات بحكم الوراثة وليس بحكم المواهب والتطور والعلم والمعرفة، وتربّت على أن تكون خادمة مطيعة خانعة، راضية بحمايتها وبما يقدمه لها الأحتلال الأمريكي الذي يملأ أراضيها بقواعده العسكرية، مقابل ثروات البلاد وحرية شعوبها، وفي نفس الوقت تزداد قساوة وتكبر وتجبر على شعوبها وقواها الحية،كيلا تفكر بإزالة عروشها الهشة، وفي آخر النهار تملأ أمعاءها “كبسة”،وتتآمر على بعضها وعلى إرادات شعوب المنطقة وتنام مالئة القصور شخيراً وكوابيس.

منذ البدء وحتى يومنا هذا، استمرت محاولات إسقاط ثورة إيران والعودة بها إلى سياسات الشاه لكن بقوالب جديدة، فكانت التفجيرات ومن ثم المظاهرات ومن ثم الإحتجاج على نتائج الإنتخابات مترافقة مع أعمال العنف،”ألا تجدون تشابه مع ما تم ويتم الآن وفي هذا الوقت بالذات مع فنزويلا اللاتينية حد التطابق، ومع دول لاتينية أخرى سابقة وربما لاحقة؟!!!”، وسرعان ما لبس الذئب جلد الحمل، فقُدمت الإغراءات وعروض البنك الدولي، وأيضاً لم تنجح، فعاد الحمل ذئباً من جديد، ففرضت المقاطعة، وازدادت وتطورت، وابتدأت حملة التلويح بالحل العسكري، وأيضاً لم ترضخ إيران، وأمام كل ذلك أبقت يدا ممدودة لجيرانها واستمرت في تطوير قدراتها الدفاعية ودعمت شعوب المنطقة وقواها الثورية المناضلة بالمال والسلاح والمعرفة، وصعّدت حالة العداء للصهاينة والإمبريالية، وانتصرت من خلال حلفائها في أكثر من جبهة ومعركة ومكان، وأسست بذلك لمحور مقاومة ابتدأ يكون قوة ذات شأن في المنطقة والإقليم أيضاً. فماذا لو  رضخت إيران، خوفاً من تهديدٍ أو رغبة في إغراءات، أتعتقدون أنها تظل دولة شيعية ورافضية عند الأعراب خاصة ودويلات الخليج و”حظيرة”آل سعود؟ أتقوم ضدها الدنيا والإعلام وتحارب كل هذه المحاربة؟ أكانت ستصل إلى ما وصلت إليه من تطور غلى كافة الأصعدة أم ستكون نسخة كربونية مسخة عن دولة آل سعود؟ وماذا لو ساومت إيران على شعوب المنطقة؟ أكان حزب الله يستطيع تحرير الجنوب اللبناني في نفس المدة؟ أكان يستطيع التأسيس والقدرة لتشكيل حالة ردع ل”إسرائيل” تحمي لبنان واللبنانيين؟ أكان يمكن أن يكون لبنان وجنوبه في هذا المأمن والأريحية من القصف اليومي الإسرائيلي؟ أكان لبنان بمنأى عن الإستيطان الإسرائيلي؟ أكانت مياهه لشعبه أم للمستوطنين داخل لبنان وفلسطين المحتلة؟ أم تعتقدون أن آل  الحريري والحريريون، ومن يقودهم من آل سعود سيذودون عن لبنان واللبنانيين؟ من يدري فربما وجدوا في الإستيطان الإسرائيلي مشروع إستثماري مربح ليشاركون به!!! ماذا كان يمكن أن يفعل “الثوار” التكفيريون بلبنان وشعب لبنان لولا قدرات حزب الله التي جاء معظمها من إيران؟. وماذا كان يمكن أن يحصل مع فلسطين وشعب فلسطين وتحديداً في غزة لولا دعم إيران ماديا وعسكرياً وخبرات تصنيع؟ أكان يمكن أن تصمد؟ أكان يمكن أن تصنع صاروخاً لو بدائياً أو حتى “عبثياً” كما وصف رئيس السلطة محمود عباس ذات يوم؟  أم أن مملكة آل سعود كانت ستقوم “بالواجب” مستعينة بالله وبخبرتها العلمية المهولة وبقرارات قيادتها الثورية وبنصائح حليفتها أمريكا “أطال الله عمرها” وتسد هذا الفراغ؟!!! أو ربما ترسل طائراتها كما تفعل في اليمن لتقضي على شيعة فلسطين؟ وتوعز للرئيس السيسي لفتح معبر رفح امام الجرحى والمرضى والدعم بالمال والغذاء والسلاح وكل ما يلزم القطاع وتفك عنه الحصار؟!!!

وكون أن البقاء للأقوى كما يؤكد “داروين”، والعالم يعيش في “غابة” تخضع لهذا القانون، الذي عززته الرأسمالية الشرسة الشرهة، وايران فهمت أن أسباب غزو العراق هو ضعفه وليس إمتلاكه للقوة، ورأت أن أسباب عدم مهاجمة كوريا الشمالية مثلاً هو إمتلاكها ل”لعضلات النووية”، وأن الرأسمالية لا تهاجم إلاّ الضعفاء، وكانت قد رأت في تراجع “إسرائيل” عن مهاجمة لبنان بعد أن امتلك حزب الله لقوة ردعه درساً يُعاد عن ذات العقلية ومنها، فقد ابتدأت ببناء قدراتها الدفاعية وبشكل ذاتي، وابتدأت بإمتلاك المعرفة النووية بشكل ذاتي أيضاً، إعتماد على شعبها وقدراته ورغبته في التطور والتحرر، إعتماد على إرادته الصلبة التي سقاها واستقاها من قيادته ولقيادته” فالأمر جدلي بالطبع”، وبدأ مفاوضته للرأسمالية المتوحشة كند وليس كضعيف أو تابع، ندُ يريد الإتفاق لكن ليس بأي شكل ولا بأي طريقة ولا بأي ثمن، قالها بوضوح”إن أردتم إتفاقاً عليكم أخذ الخطوط الحمر الإيرانية بعين الإعتبار، وإلاّ نحن مستمرون في برنامجنا النووي السلمي”، وحققوا معظم ما يريدون، وأخذت تتدفق عليهم الشركات والدول حتى قبل أن يصادق مجلس الأمن على الإتفاق، ويرجوا “التاجر” الفرنسي الذي يلبس لباس وزير الخارجية إيران أن تنسى الموقف الفرنسي الحاد أثناء المفاوضات لأنه انتهى عند التوقيع!!!، ومجدداً تنتصر إيران، ويسعد شعبها بإنتهاء العقوبات الأمبريالية الظالمة. فماذا لو رضخت إيران للغرب بالتخلي عن برنامجها النووي دون رفع العقوبات حالاً مثلاً، أكانت سترفع العقوبات يوماً؟ ماذا لو لم تكن نداً صلباً يضع الهدف الإستراتيجي صوب عينيه وكل ما يفعل من تكتيكات تصب في نهر تلك الإستراتيجيا، أكانت وصلت إلى ما وصلت إلية؟ وبالأصل ماذا لو أن إيران لم تمتلك شروط القوة أكانت وصلت الى نفس النتيجة؟ وأبعد من ذلك ماذا لو كانت إيران ضعيفة أكان الغرب يحاورها أساسأ؟ أظن أنها لو لم تكن كما هي عليه لرأينا مثالاً آخراً لأفغانستان والعراق. ويبقى سؤال في ذهني كفلسطيني، ماذا لو فاوضت إيران بطريقة المنظمة  ممزقة ميثاقها الوطني متخلية عن برنامجها الوطني واستراتيجيتها السياسية، ومن وراء شعبها ودون علمه ولا حتى استشارته أو استشارة قواه الوطنية، أو بطريقة السلطة بعد أن غيرت إتجاه أسلحتها، و نسّقت أمنياً وسلّمت مناضليها للإحتلال أو وضعتهم في السجون ، فربما وجدنا القادة الإيرانيين يلزمهم هم أيضاً تصريحاً عند مغادرة مكان الإقامة أو عند السفر من مدينة إلى أخرى لا تبعد سوى كيلومترات عدة من الإمبريالية، كما يحتاج الرئيس الفلسطيني وقيادة السلطة من الصهاينة، ويفاوضون منذ ربع قرن على أقل من رُبع فلسطين فحصدوا الريح بجدارة.

محمد النجار

ذكاء آل سعود…

قال الراوي:                                                                                                                                        أهم ما يُميز عائلة آل سعود هو ذكاء أفرادها، كبيراً وصغيراً، ذكراً وأنثى، شيباً وشباناً، يعني “من الكبير للمقمط في السرير” كما يقول المأثور الشعبي، فالمولود يأتي إنزلاقاً من بطن أمه، فيأتي باسماً ضاحكاً صاخباً وليس مثل بقية البشر عابساً باكياً، وتظهر إشعاعات الذكاء فسفورية بارقة مثل أشعة الشمس من رأسه، فلله في خلقه شئون، ورغم محاولات إنكار ذلك من الحساد والروافض والزنادقة والملحدين والمرتدين، إلاّ أن الأمر يزداد وضوحاً وسطوعاً، يوماً بعد يوم وساعة بعد أخرى، وما يغيظ كل هؤلاء الأعداء التي تدعمهم دولة الفرس الحاقدة، كون هذا الذكاء هو في حقيقته ذكاء فطري رباني موصوف موروث أباً عن جد، وليس بحاجة لا إلى قراءة أو كتابة أو ثقافة أو تعليم أو تفكير أو معرفة أو ممارسة، وأكاد أجزم إلى أنه ليس بحاجة حتى إلى عقل في معظم الأوقات….. والله أعلم.

*        *           *

وأضاف الراوي شارحاً موضحاً:                                                                                                                أن ماتم مؤخراً من مؤامرة تسريب وثائق المملكة عبر مؤسسة”ويكيلكس” التي يتزعمها جوليان آسونغ، هي مؤامرة مفضوحة، يراد منها إثبات أولاً أن المملكة ليست دولة وليس بها مؤسسات، الأمر الذي لم ينفه أحد من الأمراء والوزراء ومجلس الشورى ولا حتى صاحب الجلالة، أعاد الله له عقلة الذي خطفه منه مرض الزهايمر وذهب، وثانياً أن يفضح المملكة ورجال مخابراتها في السفارات، وعملاء المملكة من إعلاميين وكتاب وصحف وإذاعات ومحطات تلفزيونية، وثالثاً كشف الأموال وحركتها إلى “الثوار “في سوريا والعراق ولبنان واليمن…إلخ.  وأن صاحب السمو الملكي رئيس العلاقات الخارجية كلها، الأمير سعود الفيصل أطال الله في عمره، حاول منع ذلك، واتصل بأحد المقربين من جوليان آسونج بنفسه ـ طال عمره ـ وقال موضحاً :

ـ المملكة وبحمد الله هي ملكنا، إيه… ملك بيت آل سعود العامر… وأن قطعان البهائم والبشر، وأن الشجر والحجر،  والنفط والزيت والغاز والرمل،  وكل ما تضمه المملكة بعون الله هي ملك آل سعود ورثوه “حلال زلال” أباً عن جد، ولا أحد له الحق بالتدخل أو الإعتراض على هذا الحق الذي شرّعه رب العالمين، وأن الملك طال عمره، بجرة قلم يطلِّع طاقم المخابرات المكشوف في السفارات ويوجهه ليتجسس أقصد ليقوم بدوره في الداخل ويستبدله بجيش آخر في الخارج، وأنا “والعياذ بالله من كلمة أنا” أنصحك بدراهمنا، فربّ العباد حط في ريالاتنا البركة، و”أطلب تُعطى” حدد بلسانك المبلغ وأنا لن أناقشك في السعر… لكنه رفض، لأنه قليل العقل، رفض كما أوضح الأمير، رفض، وكان رده وقحاً، قال للأمير :

ـ لديك من “القحاب” الكثير كما تؤكدالوثائق، اتركنا وشأننا…                                                                         وقبل أن يحتج طويل العمر، أضاف الرجل:                                                                                                  ـ قحاب السياسة أو الإعلام الذين يبيعون مواقفهم أو أقلامهم لا يختلفون عمن تبيع جسدها ياصاحب السمو، تخيل أن هناك من لا يُباع ولا يُشترى في هذا العالم!!!                                                                                         وأصر على أن ينشر ما لديه من وثائق …

*        *         *

وأضاف الراوي عائداً بالأمر إلى أوله، فقال:                                                                                               حاول طويل العمر،” والذي سُمي “بجيفارا” العصر بعد تصميمه على تحرير اليمن وسوريا والعراق من الكفرة الزناديق أهل البلاد المدعومين من الفرس الروافض، وأقسم بالله أن يجعل من هذه البلاد بلاداً دستورية تيمناً ببلاده، ويحولها إلى بلاد ديمقراطية، تنعم شعوبها بحرية الرأي والتعبير وتشكيل الأحزاب والتداول السلمي للسلطة”بالسكون على حرف اللام وليس بالفتحة”، وبتقاسم الثروة العادل والتنعم بها تماماً مثل بلاده، وأن لا يكون فرقاً بين عربي وعجمي إلاّ بالتقوى، ولا بين غني أو فقير ولا أمير أو غفير كما في مملكة العدل حماها الله ورعاها مملكة آل سعود، والفرق الوحيد الذي سيكون هو مع ديار الفرس الذين أخذهم الغرور وتطوروا وصنعوا وتسلحوا ودعموا الكفرة في لبنان وفلسطين ضد الحليف الصغير دولة “إسرائيل”، وإلا سيدمرها فوق رؤوس أهلها الكفرة ويحرقها و يحرقهم سوياً.

نقول حاول صاحب السعادة سليل عائلة الأمجاد والفروسية والتاريخ المُشرِّف أن يسد الثغرة التي تسربت منها الوثائق، منذ المرة الأولى التي كانت سنة 2011، وبذكائه المعروف بعد فشل طاقمه في شراء المُسربين، أخذ كامل إحتياطه، ووضع الله ورسوله نُصب عينيه، وقال قول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه” لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين”، لكن أن يتم الأمر مرة ثانية ومن نفس الجماعة ومن نفس المكان، فكان الأمر أشبه بضربة في الرأس على صاحب السعادة والسمو، الأمر الذي جعله يلاحق الأمر بنفسه ويتابعه، فقام في اللحظة والحال بمجموعة من الإجراءات، أولها، أنه بعث بخطاب واضح ومحدد وواجب التنفيذ لمفتي المملكة والعائلة يقول فيه، أنه حان الوقت لتغيير حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذو الصلة،”لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين” ليصبح “لا يُلدغ المومن من جحر واحد ثلاث مرات”، وأن يُنشِّط باب الإجتهاد كما فعل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ويُلغي الآية الكريمةالتي تقول” إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة”، إذا لم يستطع تغيير كلمة أفسدوها ب”طوروها” واستبدال كلمتي أذلة لتكون مكان أعزة والعكس بالعكس، وإن تعذرا الأمرين، فاستبدال كلمة الملوك بالرؤساء، والله من وراء القصد…

وثانيها، أعلن سعادته النفير العام وإستدعاء كل الشركات الأجنبية على وجه التحديد، والعربية من باب الإحتياط، طالباً أن يوقفوا التسريب بعد أن رفضوا جماعة التسريب الرشوة، نقصد التعاون، وعبثاً حاولت الشركات الشرح بأن الأمر قد فات على ذلك، الأمر الذي أغضب الأمير وجعله يضاعف العطاءات للشركات الأجنبية، والتهديد والوعيد للعربية منها كون العرب لا يفهمون غير لغة العصا، وبعد أخذ العطايا والهبات من الأمير أكدت له الشركات جميعها أنها استطاعت وقف التسرب عما تبقى من أسرار وأخذت عدة ملايين عن جهودها الإضافية…

وثالثها، تحيَّن سموه إلتقاط اللحظة المناسبة للإجتماع بصاحب الجلالة والسمو خادم الحرمين الشريفين، ملك آل سعود جميعهم ومليك بقية “قطعان” الأمة كلها في كامل المملكة، في لحظة نادرة من رجوع سلطان العقل إلى رأس جلالته، فلا أرى الله مكروهاً لأحد وخاصة بمرض الزهايمر، ودار بينهما الحوار التالي:

ـ أظنك يا صاحب الجلالة تعلم أن الكفرة في حزب الله هم السبب في هذا التسرب، ويعلم الله أنه لولا الدعم السوري والإيراني لما كان لهذا التسرب  أن “ينز” من أي مكان في بيت آل سعود العامر، فكما تعلم طال عمرك فالقطبع كله من البشر حتى البهايم تشكر فظلك، حتى أن أحد رجالنا المخلصين وهو يتلصص على عباد الله أقسم لي أغلظ الأيمان أنه أول أمس، مساءً وهو عائد لبيته، راى بعينيه اللتان سيأكلهما الدود ، بعيراً رافعاً يديه الأماميتين إلى السماء مبتهلاً إلى الله عز وجلّ، أن يطيل عمرك لتظل تاجاً فوق رؤوس البهايم والعباد، وأن الدعايات المغرضة طال عمرك عن احتجاجات وتذمر ومظاهرات، هي أقوال مبالغ فيها، وأنني أنا نفسي أقسمت برب العباد أن أجعل سيفي هذا يرتوي من دماء المحتجين النجسة، عملاء الإيرانيين الكفرة.

أسهب طويل العمر، رأس الدبلوماسية الملكية الظافرة في الشرح، حين قال صاحب الجلالة بإيجاز وإختصار:

ـ وهل هذا التسريب يحتاج لكل هذا الجيش من الشركات؟!!! غريب أمركم يا أولاد آل سعود، خربتم وما عاد فيكم خير، أنا أعرفكم وأعرف أنه حتى الطعام خسارة فيكم  ولا تستاهلونه، ألا تفهمون أن الجِلدة إنهرت وذابت؟ غيروا “الجِلدة” يتوقف التسريب…

ـ “جلدة” شنو طال عمرك؟ هذا كمبيوتر وليس….                                                                                         لكن صاحب الجلالة بدى وكأنه لم يسمع ما قاله صاحب السمو ، فتابع حديثه مكملاً:

ـ شوف أي واحد من مجلس الشورى، يمكن أن تجد بينهم أحد يفهم، “خليه” يغير “الجلدة”أو حتى الماسورة كلها فتنتهي القصة، وهل نحن مركبين لكل منهم “مخلاة” في رقبته، ونعلفهم دون مقابل، الموضوع “مش أكل ومرعى وقلة صنعة”، ألا ترى أن الواحد منهم صار بحجم البغل حاشاك، شغّلهم…

وأمام إندهاش صاحب السمو وسكوته، تابع صاحب الجلالة:

ـ والله لولا العيب وكلام الناس، لولا الخوف من الخلق يقولون أن كبير آل سعود “تجنن”، وأنه لم يبق رجال في بيت آل سعود، لقمت وغيرتها بنفسي .                                                                                                             كان بخار الويسكي يتصاعد في رأس الأمير، وغيمات ضباب تتراقص أمام عينيه، وكان يشعر أنه قد سكر فعلاً من كلام الملك أكثر من المشروب نفسه، وأخذ يشرح للملك مجددا الأمر قائلاً في أواخر شروحاته:

ـ وكل شيء يمكن تعويضه طال عمرك، لكن أخطر ما في الأمر أن الكثيرين من عملاء المملكة الإعلاميين والسياسيين، كما العديد من جهاز مخابراتها الخارجي قد تم تسريبه وكشفه، لكن وبعون الله، حلفاء المملكة إتصلوا بي متضامنين وداعمين، وأطمنك طال عمرك أننا في المملكة لا نحسب أي حساب لأي أحد “أبد أبد”، ما دامت حليفتنا أمريكا وإسرائيل في ظهرنا…

وسأل الملك مجدداً:                                                                                                                             ـ هل هذا الخطر الوحيد؟                                                                                                                       أدرك صاحب السمو أن عقل الملك عاد له من جديد، فقال:

ـ  الخطر الأهم طال عمرك أن ينكشف المكشوف، أعني علاقتنا ودعمنا للدواعش والقاعدة، ودعمنا لهم بالمال والسلاح طال عمرك…                                                                                                                           ـ إيه…. ها… إيه…                                                                                                                               ـ وتعرف طال عمرك اللي عملناه خاصة في العراق، تدمير وتفجيرات في البشر والمساجد والكنائس،  وتفجير “الأصنام اللي يسمونها آثار طال عمرك”.

ـ إيه….ها….إيه…

ـ هذا كل ما في الأمر طال عمرك

ـ إيه … ها … إيه…                                                                                                                               قال مليك آل سعود، وأكمل هذه المرة:

ـ لكننا لم نفعل شيئاً إلّا بعد مشورة ورضا الحلفاء…                                                                                     فابتسم الوزير وقال في نفسه:

ـ والله كلام هذا الشايب “الخرف” صحيح…                                                                                                   حين أكمل الملك أسئلته مجددا، وكأن المرض قد فارقه إلى غير رجعة:                                                           ـ ومن هم الذين خلف الموضوع؟

ـ ظني أنه من ديار بني الأصفر، لكنه متخفي بلباس حليفنا الأمريكي، من جماعة “حُرمة” السويد الحاقدة، التي أرادت أن تبهدلنا في ديرتنا وتتكلم عن حقوق الإنسان طال عمرك، لكن وأنا ترباتك ياصاحب الجلالة، والله ما أترك “حُرمة”تبهدل مملكة آل سعود وتقل قيمتها  بين الخلق وأنا عايش، لا والله وأنا”ريالك”طال عمرك…                            ـ ويش اسمه؟                                                                                                                                    سأل صاحب الجلالة

ـ اسمه جوليان آسونغ…                                                                                                                       أجاب صاحب السمو، حين كرر الملك سؤاله مستغرباً:

ـ قلت جوليان شنو؟

ـ آسونغ يا طويل العمر، آسونغ بحرف العين طال عمرك….إيه يا طويل العمر بحرف العين….                                   وانفجر الملك ضاحكاً، وقال:

ـ وهل هناك “ريال””رجل”اسمه جوليان، يا لمساخر الأقدار…..                                                                       وسكت بشكل مفاجىء كما بدأ ضحكته، وتابع آمراً:

ـ اشتروه، إدفعوا له دون أن تسمسروا هذه المرة، الله لا يشبعكم

ـ حاولنا ورفض طال عمرك . قال الأمير مرتبكاً، وكاد أن يقول له “أنسيت كل شيء إلّا هذه قاتلك الله، ويضيف: أما كنت تفعل أنت الشيء نفسه قبل أن تتملك علينا، واللاّ هذي نسيتها كمان؟” لكنه عدل. وتابع الملك آمراً:

ـ إذن غيروا الجلدة وتوكلوا على الله، اسمع من هذه اللحية ولن تندم بعون الله…

*    *    *

لم يسعف صاحب السمو “عودة العقل” لمليكه مدة طويلة، ليهنئه بطرد “مقرن” من ولاية العهد، الذي منذ تعيينه وهو مقتنع أن إسمه هذا وحده كفيل بألا يجعله جزءً من قيادة آل سعود، وأن الأسماء لوكانت بريالات لإختاروا له إسماً أفضل من “مقرن”، لكن ليس هذا هو همه الآن، بل عليه الإتصال يخارجية الحليف الأكبر أمريكا، بعد هذه التسريبات ليطمئن منه على مستقبل المملكة … وهكذا فعل، وجاء الرد مؤكِداً كالتالي:

ـ لا يهمنكم من أي شيء ما دمتم عقلاء كما نعرفكم، فنحن لم نتخل يوماً عن خدمنا، أنظروا إلى رئيسنا كيف يعامل كلبه ويدلله وخذوا من ذلك عبرة، استخدموا ذكاءكم الفطري الذي عهدناكم عليه ولن تضلوا أبداً.                                                                                                                                                                                       محمد النجار