عندما يستعيد الثلج لونه

استقبلني عامر، كعادته، في بيته إستقبالاً يفيض ترحاباً، كمن يرى إنساناً عزيزاً عليه بعد زمن من الإنقطاع والإشتياق، كيف لا ونحن الإثنان كنا رفاق درب وسجن وحزب ومسيرة مليئة بالمد والجزر والفرح والحزن، وكلانا حمى الآخر بكل ما فيه من قوة في زمن الزنازين المقاوم، عندما كانت الفكرة شعلة، والقابض على الفكرة قابض على الشعلة، التي حتماً ستصل لنهاياتها الظافرة، عندما كانت الفكرة شعلة وبرنامج عمل ومنارة تضيء الطريق، مبدأ لا مجال للتشكيك في الإيمان به، إنه القول الفصل والمذهب الذي لا يختلف عليه إثنان، عندما لم يكن للعذاب ولا الموت كبير إعتبار أمام الإصرار على نشر تلك المبادئ والأفكار.

وفرقتنا الطريق بعد أن جاء “أوسلو” محملاً على ظهور القيادة مربوطاً بجيدها مثل “رسن”، كما يحب أن يقول، إفترقنا عندما “شرعنت” قيادتنا بدورها الدخول لمؤسسات “السلطة” القيادية، ووجدت الكثير منها أماكن عمل لها بوظائف “مدراء” بفروعها المختلفة:”ا و ب و ج “، مبررة أنها ستعفي الحزب من إلتزاماته المالية نحوها، وارتفع صوته المندد بالخطوة، المحذر من الإنزلاق في نفق “أوسلو” بغض النظر عن التبريرات، متهماً من وافق على تلك الوظائف بأنهم في خطوتهم الأولى لخيانة الأمانة التي وضعها الناس في أعناقهم، وأن الأمر لا يعدو سوى الخطوة الأولى للمهادنة والدخول في القفص، فطعم المال يُغري بالمزيد، وقال:

ـ إن العبيد وحدهم الذين يدخلون القفص بأقدامهم، ومن دخل القفص يكون قد ودع الطيران إلى غير رجعة، ولن يعود قادراً على التحليق نحو السماء حتى إن حمل زوجاً من الأجنحة بحجم أجنحة طائر الفينيق، ثم ما فائدة الأجنحة إن لم تكن قادرة على حمل صاحبها فوق أجنحة الرياح ومطباته وطرقاته المُتعرجة بإتجاه  الشمس؟!!

وتابع بكل مافيه من غضب وقال:

ـ أنتم تجردوننا من أحلامنا، تدفنوها في مزابل التاريخ وخلف الزمن، إنكم تضللوننا وتخدعوننا عن سبق إصرار، فضوء القمر هذا الذي تشيرون نحوه خادع كاذب، ليس سوى إنعكاس لحظي عن الأصيل عند بعض لحظات غيابه، الأصل هو ضوء الشمس الذي تُغيِّبون وتتجاهلون.

ولمّا سأله البعض عن ماهية العمل في مثل هذه الظروف قال:

ـ “إن أبغض الحلال عند الله الطلاق”، لم يعد يربطنا بهم رابط، والمنظمة ثمنها دماء الشهداء وأنات الجرحى والأسرى، لم يرثوها عن آبائهم، إنها حق من لا يخون دماء الشهداء، إن كنتم ترون بأنفسكم أهلاً لذلك استعيدوها، وإلاّ فسيكون أي كلام أو احاديث مجرد كلام، لا يستحق التوقف عنده.

أجاب بعض القادة حينئذٍ مُتجنبين النظر في أعماق عينيه:

ـ الطلاق؟ إنه مجرد عمل، إنها حقوقنا من منظمة التحرير.

فقال وقد تشابك عنده الغضب مع العتب:

ـ ياحيف على الرجال ياحيف، أتستحمرونني وتستهينون بقدراتي العقلية إلى هذه الدرجة؟ عن أي منظمة تتحدثون؟ وهل بعد هذا تبقَّى شيء من منظمة التحرير؟ في أيام العز كانت قيادة المنظمة المهترئة الفاسدة المفسدة، تمنع حصصنا المالية عند كل منعطف، ولو لم تكن كذلك لما ركبت قطار “أوسلو” أصلاً، أتريدونها بعد هذه الردة وهذا الإنحدار أن تعطي للفصائل المعارضة حقوقها؟!!!

سكت قليلاً ثم أضاف:

ـ كي أسهل عليكم الأمر، أنا أوافق على أمر الوظائف ضمن قانونين اثنين، الأول أن يكون الأمر مؤقتاً بشهور عدة ولا تزيد عن سنة، ويتم تداوره بين الرفاق، كل بضعة شهور يُعطى لرفيق غير الذي كان، والثاني، أن يأخذ صاحب المنصب قدر التفرغ الحزبي فقط ويُحوِّل ما يزيد عن ذلك لمالية الحزب.

طبعاً لم يوافق أحد عل إقتراحه، فزاد نقده لهم، لنفس رفاقه الذين طالما حماهم داخل الزنازين وحموه، قال:

ـ إنها الخطوة الأولى لتبتلعوا ألسنتكم، ومن يبتلع لسانه سيلجم فعله لا محالة، ولن تُلعلع رصاصاته سوى في الأعراس.

وتابع حديثه المتلاحق في كل مناسبة:

ـ إنكم لن تجرؤوا على إصطياد عصفور، فما بالكم بجندي أو مستوطن؟!!! بل لن تجرؤوا على تأييد من يفعل ذلك، هذا إن لم تتبرأوا منه أصلاً، هذا هو ثمن الوظائف تلك، وأمام أي موقف ستقارنون بين الفرق في دخلكم وحياتكم الماضية والحاضرة، وستنحازون إلى الراحة والبذخ، وليس لسنوات المطاردة والسجون والمواجهة، إنها سنن الحياة التي إخترتمونها.

وارتفع صوته وعلا، وتراجع حضوره أو قَلَّ بينهم، وغاب أو غُيِّب لا فرق فالنتيجة واحدة، ثم انفصل أو فُصل أو لم يعد أحد يتصل به، سيّان، وقلنا أنه تساقط في الطريق، وبررنا بأن الطريق الطويل متعب وشاق، وليس كل من يسير به يصل لنهايته، وأن هذه سنن النضال والحياة، وأن من الناس من يتحول لذاتي بعد تعبه أو فشله لئلا يعترف بعجزه، والبعض يتحول لجزء من جمهور المتفرجين، وحللنا وتفلسفنا واخترعنا النظريات، وظل هو يُعتقل عند سلطة أوسلو بسبب “طول لسانه”، لكنه بدل أن يصمت تصاعدت إنتقاداته وعلا صوته، وظل يعلو ويعلو، وصرنا نحن رفاقه السابقين الأشد تعرضاً لإنتقاداته، نحن و”حلفاء إسرائيل الجدد” كما سمّاهم، الأمر الذي جعل الرفاق ينتدبونني لأضع له حداً، أو لأخجِّله، لأذكِّره بماضيه الذي يحاول تناسيه ورميه بعيداً خلف جدران الوهم التي تحوم في رأسه، وكأن ذاك الماضي ليس منه ولا هو من صنع يديه، في جزء يسيرٍ منه على الأقل، ولأقول له أن مَنْ لا ماضي له ليس له مستقبل تحت هذه الشمس.

أخذت أستعيد الماضي معه ونحن نحتسي شاينا “الباذخ” الغارق برائحة النعناع حتى حدود “البطر”، وصحني الزيت والزعتر أمامنا، نغمس بهما قطعاً من خبز الطابون ليصل الزيت حتى نهاية عقلة السبابة والوسطى والإبهام، ونسكب خلفه جرعات من الشاي المُحلّى، فطعم الزعتر وزيت الزيتون المجبول بحلاوة الشاي لا يضاهيها شيء في هذا العالم.

فصار يتحدث وكأنه يترنم بمعزوفة موسيقية، وقال وهو يلوك الطعام ويصوغ العبارات، مذكرني بتلك الفترة التي كدت أنساها:

  •           *          *

في تلك الليلة الخريفية الباردة، أمّنت ظهري لصخرة في بطن الجبل، وشددت السماء المرصّع بالنجوم، بعيني، لحافاً، لكنه لم يحمني من برد ليل أواخر الخريف، كانت من بين ثقوب النجوم تتسلل حبيبات الهواء الباردة وتتكاثف جداول من برد ينخر جسدي من كل الأماكن، ولم ينفعني معطفي الهزيل في التصدي لها، فصرت ألتَّف بجلدي منتظراً قدوم شمس الصباح، التي تأخرت كثيراً عن موعدها، كأنها تتآمر مع الليل على جسدي البارد، ولم تأتِ قط.

في تلك الليلة قررت أن لا أعود لحضن الجبل مرة أخرى قبل إختفاء البرد، مع يقيني أنه لن يفعل مادام الفصل القادم يقف متحفزاً بالمرصاد للدخول من كل الأماكن والأبواب والمساحات المشرعة دون رابط، لكن ليس للأمر علاقة بالرغبات، فالقرار كان واضحاً، كما تعلم، لا لبس فيه : ” لا تُسلِّموا أنفسكم للعدو كالخراف”، وفي نفس الرسالة :” الوطن بحاجة لكل الطاقات، لا تهدرونها في الزنازين وخلف القضبان”، فتوجب علي أن أجد البديل.

كنت أنت جديداً على الحزب، ولم تكن علاقتنا بهذا العمق، وكنت أنا قد أمضيت الكثير من الليالي موزعاً نفسي عند بعض الأصدقاء، فارضاً نفسي بشكل لا يخلو من بعض الوقاحة أحياناً، وأحياناً مستغلاً باب الصداقة أو طيبة الآخرين، لكنني في معظم الأحيان لم أمكث أكثر من ليلة أو بضع ليال، لأعود أسعى في مناكبها باحثاً عن مكان للمبيت، وفي مثل هذا الحال ينقضي الوقت في البحث ويغيب الوطن عن جدول الأعمال، فيصبح الأمر “وكأنك يابو زيد ما غزيت”، فما الأهمية لوجودي إن لم أكن قادراً على متابعة المهام؟ لكن حملة الإعتقالات الأخيرة تلك لم تُبق لدي الكثير من الخيارات.

منذ دخول الفصل البارد القادم من وراء البحار سماء البلاد، تغير وجه المدينة بالكامل، كانت الغيوم تأتي متكاثفة متجمعة، وسرعان ما تُبطئ المسير لتهيل ما في أحشائها من مياه، وما أن تصطدم ببرد الهواء حتى تتحول إلى ثلوج قطنية بيضاء، ثمار القطن الذي نضج بفعل حرارة الصيف الذي مضى تراها تتطاير في فضاء هذا الشتاء دون رياح، تتراقص متحررة من الغيم الداكن لتفترش مساحات الحقول، وما أن تجد لها مكاناً على سطح الأرض، حتى تبدأ بالتراكم ثمرة فوق أخرى، وتنمو وتكبر وتتسع مدى، حشائش بيضاء مترامية تغطي السهل كله، مخفية أسطح المنازل و العمارات والطرقات والسيارات المتوقفة على رصيف الشوارع في لحظات، تعتلي أغصان أشجار التين والزيتون، تغطي أشجار السرو واللوز والمشمش، وتظل السماء حبلى بالغيوم، والغيوم حبلى بالثلوج كما كانت قبل الولادة الأخيرة، مستعدة لإنجاب التوائم الثلجية المتعددة، مليئة كما جاءت، كأنما لم تكتفِ بما جادت، ولا تنوي المغادرة بعد، وأنا تحملني وتسير بي قدماي، مُهشِّمة وجه الثلج الأبيض المتراكم، غائصة به إلى ما فوق الرسغ، أسير لاهثاً كأنني في رمال الصحراء، ممتلئة قدماي بالثلج المتحول لمياه ثلجية ما أن تَتلامَس مع حرارة قدماي، ماشياً متنقلاً بين أطراف المدينة مبتعداً عن عيون دوريات الجيش، كي أجد لي لحافاً غير السماء.

كنت مطلوباً منذ مايزيد عن عام كامل، كان “جيش الدفاع” قد داهم مرات عدة كما في هذه المرة أيضاً، منزلي بعشرات الجنود، كأنه في معركة حامية الوطيس، حاصر البيت من كافة جوانبه قبل أن يقتحمه مفجراً بابه متعمداً زرع الرعب والخوف في البيت كله، ووسط صراخ أطفالي المرعوبين من الجند وصوت الإنفجار راح يكسر المقاعد والخزانة الواقفة بصمت بجانب الحائط، يمزق الفراش ويهيل مافي “البراد” من طعام، ومن باب الإحتياط، كان يسكب حليب طفلي الرضيع على الأرض، ليتأكد أن عبوة الحليب لا تُخفي قنابل أو رصاص أو متفجرات، والغريب، قالت زوجتي، أنه يفعل هذا الأمر بالحليب في كل مداهمة، وكأنه يؤكد كرهه للأطفال أو خوفه منهم، وربما يرى فيهم خطراً مستقبلياً يمسح كل ماضي كيانه وكل حاضره الفاشي، وكنت أنا قد أخذت إحتياطي وغبت عن الأنظار قبل ذلك بكثير، لأنهم يعتقلون كل شيء وأي شيء، فهم لا يستطيعون إستيعاب ولا فهم كيف يجرؤ هؤلاء “الأغيار” على التمرد عليهم هم الأسياد؟ ألم يخلق الله العالمين جميعاً لخدمتهم؟ ألم يُسخر البشر جميعاً لخدمة شعب “يهوه” المختار؟

تجمع البرد والثلج والضربات الأمنية المتتالية في أجواء المدينة وسائر الوطن، وسقىت دماء مصطفى العكاوي أرض الزنازين، فارتقى شهيداً إلى السماء، فبكت مدينة القدس حباً وورداً وقمحاً وحياة، فتحولت مدينة رام الله الوادعة الجميلة إلى مدينة غريبة لا يكاد يعرفها المرء، وصارت أسطح عماراتها عيوناً متلصصة على الطرقات بعد أن إغتصب الجنود أسطحها، وخلف عماراتها أشباح وكمائن صيد متنقلة من دوريات الجيش، وأضحت الشوارع البيضاء ملتبسة غامضة، والجنود المشاة إستغلوا فقر الشوارع بالمشاة ليوقفوا ما طاب لهم من أُناس متلذذين بتعذيبهم بدعوى الأمن، ومن مكان مسيري الحذر الموازي لشوارع مركز المدينة، كنت أرى دورية من الجيش، وقد أوقفت عائلة بدعوى التفتيش والتدقيق، فلعل الأب أو الأم أو أحد الطفلتين مطلوبون، فرادى أو جماعة، لقوات الأمن، وبعد أن جاء الرد بالنفي عبر جهاز اللاسلكي، طلبوا من الأب الشاب أن يعانق الأرض الغارقة بالثلج والماء المتجمد ويداه خلف ظهره، مرة على بطنه ومرة على ظهرة ليفتشوا جيوبه الأمامية والخلفية، فهم لا يستطيعون تفتيشه واقفاً، وبين المرتين دقائق تمر وبكاء طفلتين ما بين  الخامسة والثامنة لا ينقطع وجسد ممدد فوق الثلج مرتعش، من البرد أو الخوف ربما، أو الأمرين معاً، وتفكك لحبيبات الثلج لتتحول إلى ماء مثقل بالبرودة والمرض ينغرس سكاكيناً حادة في جسد الأب الراجف، فلم يعد ل” وجعلنا من الماء كل شيء حياً” مكان، وصار الماء عدواً قاتلاً دون جدال، وصار الجسد الممدد فوق الأرض يمتص الماء مجبراً، فيرتج ويرتجف كأوراق شجرة داهمتها رياح عاتية مباغتة ودون رحمة فانهالت متهاوية من علِ، قبل أن يُعيدوا له ولزوجته بطاقتيهما، ويسمحوا للعائلة بالمغادرة، وأنا أقف على حافة الخطر أُراكم الحقد في داخلي ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، أسناني تصطك مع بعضها البعض، والبرد ينخر عظامي ويلتهمها دون رحمة، فيصير السجن رحمة، ويصبح الإعتقال أمنية، والوصول إلى بيت الرفيق المتوجه أنا إليه، في تلك اللحظات بالذات، هدف سامي، والحلم بكوب من الشاي، حتى دون الزيت والزعتر وخبز الطابون، من مواصفات الجنة.

هذا الرفيق الذي كنت متوجهاً لبيته كان أنت، وإتفقنا في إجتماعنا، إنْ كنت مازلت تذكر، على مباغتة دوريات الجيش بقنابلنا البدائية الحارقة، وظلت تتزاحم بين جفون عينيّ دماء الشهيد مصطفى الطاهرة تسيل، وصورة الرجل الذي يرتجف برداً وعذاباً دون ذنب، وأصوات بكاء الطفلتين تسيل في أذني حديداً مصهوراً، وكانت تتراءى لي بصاطيرهم وهي تعبث تكسيراً في خزائن بيتي، وتداخل صوت بكاء الطفلتين الخائف ببكاء أطفالي المرعوب، وكدت أرى أيديهم تسكب حليب أطفالي فوق ركام البيت مستهزئة مستهينة منتشية، فبدى لي أن الزجاجة الحارقة يجب أن تكون قنبلة، وألقيتها فوق دورية الجيش المارة متسللة في ليل المدينة، وألقيت أنت زجاجتك أيضاً، وكنا نرى دورية الجيش تحترق، وبدى لي أن الجنود هم أنفسهم الذين قتلوا الشهيد في الزنازين، وهم الذين إقتحموا بيتي، وهم من عبث بأثاثه، وهم أنفسهم من أبكوا الطفلتين الصغيرتين وعذّبوا أبويهما، وهم الذين قتلوا عمي وأجبروا أبي عندما كان صبياً وبقية القرية الوادعة على مغادرة بيوتهم، وأنهم يتكررون نسخة كربونية لا تجديد فيها سوى في فن القتل والذبح والعنصرية المتأصلة، وكدت أظل أتفرج على النار المشتعلة فيها، وبدى لي أن الدفء صار يتدفق إلى جسدي، ولم تعد أسناني تصطك ببعضها برداً، وأن قدمي قد جفّا واختفى الورم والتضخم من أصابعهما، وبدى لي أن الثلج قد بدأ يستعيد بياضه ولونه، واستعاد حيويته فازداد ضرع الغيوم عطاءً، وكبر حجم ندفه وتكاثف ليشكل لنا باب حماية للإختفاء، وكان لون الثلج أبيضاً، لكن ليس ذلك الأبيض الذي خبرناه منذ مجيء أوسلو، لم يكن أبيضاً مُزيفاً، كان ناصع الوجه نقياً غير متسخ وغير مُشوّه، فعادت مدينة رام الله جميلة كما أعرفها، وعادت لها الحياة، واستعادت الأسواق المغلقة رونقها، والشوارع حركتها، والمساجد والكنائس رحيقها، فارتفع الآذان وقرع الأجراس عزفاً متلألئاً في الأجواء، وتداخلت أصوات الباعة وزعيق الأطفال، وتعالت أصوات العتابا والميجنا والدحية، وارتفعت الدلعونا وحضر “زريف الطول”، ومن مكان قريب هلّت “زفة” لعريس جديد، وتجمعن الصبايا في ليلة حناء لعروس واقفة على أبواب المدينة ماتزال تبتسم، وأمام وقوفي العبثي متفرجاً، كانت يدك تشدني وتهزني بعنف:

ـ هيا بسرعة، أتريدهم أن يقتلوننا؟

وغادرنا المكان وسط بكاء رصاصهم المتفجر خلفنا، تماماً في أعقابنا دون أن يصلنا أو تصيبنا شظاياه، وفي كل مكان واتجاه، واحتوتنا شوارع المدينة التي لم تعد غريبة، وغطت إنسحابنا كاملاً من المكان، وكأنها توجهنا إلى طرق الحقول، وكانت أصوات إعلانهم لمنع التجوال في المدينة المرافقة لأصوات الرصاص لم تهدأ بعد، ونحن نصعد الجبل مبتعدين عن المكان.

في ركن بعيد في ثنايا ذاكرتي وخباياها، استحضرت بعض كلمات أبي قبل أن يغادرنا مبكراً إلى ربه يقول:

ـ “إقضِ على البرد بالحركة، السكون هو الموت بعينه، ورؤية النار، حتى البعيدة منها، تجعلك تشعر بالدفء”.

  •            *            *

أعاد لي عامر بقصته ذكريات وشجون، قلت قاطعاً حبل ذكرياته المتدفقة نبعاً من عمق جبل:

ـ ليس هذا ما أتى بي إليك، إنه شيء آخر، لسانك السليط علينا، لماذا كل هذا الحقد؟ أفقدت كل احترام لهذا التاريخ الذي تستعيده.

انزلقت قطعة الخبز من بين أصابعه إلى صحن الزعتر، كفت أسنانه عن المضغ، سكت طويلاً قبل أن يسكب في فمه ما تبقى من كاسة شايه ليسهل لها طريق الوصول لمعدته وقال:

ـ الحقد؟!!! أنا أحقد عليكم؟وهل هناك من يحقد على نفسه؟ على أمله؟ ولماذا؟ ربما كان الأجدر بك أن تقول الحب وليس الحقد، فأنتم الأمل الأخير إن إستطعتم استئصال أوراكم السرطانية، إن أخرجتم المستفيدين الذين استطابوا الراحة في الزمن الصعب، إن إستطعتم العمل، كما سبق، تحت الأرض، كنا بإحتلال ونعمل سراً، فما بالك عندما صار للإحتلال أعواناً وعيوناً ومنسقين أمنيين؟!!! صار له أذرعاً طويلة تلاحق وتعتقل وتُخبر وترشد وتكمم الأفواه وتقتل؟ أرأيت قيادة وطنية تُحاكم شهيداً وأسيراً؟

سكت قليلاً وكاد يغتصب إبتسامة فخاف أن تبدو حمقاء كاذبة فعدل، وقال:

ـ قال المرحوم والدي:” أُحب من أبكاني وبكى علي وليس من أضحكني وضحك علي”.

قلت ومازلت مصراً على إيصال رسالة الرفاق له:

ـ على الأقل انتقدهم هم، هم الذين فرطوا وليس نحن.

قال:

ـ “الضرب في الميت حرام” كما تعلم، رغم أن لساني لم يستثنهم أبداً، لكن وكما تقول هم فرطوا لكن ما الذي فعلتموه أنتم؟ ماذا فعلتم لوقف هذا التفريط أو إستمراره في الربع قرن الأخير؟ إنكم صرتم “مؤدبين” أكثر مما يجب، لا أعلم أخوفاً عل جرح مشاعرهم أم للحفاظ على مصالح بعض أفراد القيادة؟!!!وفي الحالتين النتيجة واحدة، وأنتم، في مثل هذه الحال، لا تستحقون غير الشفقة.

كنا نتحث بلغتين مختلفتين، وكان قد أخرج من علبة سجائره واحدة وأشعلها، وتابع مفصلاً:

ـ هناك تفريط يومي لدى قيادات “أوسلو” كما تعرف، فلماذا معارضتكم خجولة هزيلة إلى هذه الدرجة؟ ثم ما هي العوامل المشتركة التي ظلت تجمعكم بهم؟ لماذا مازلتم متشبثين بمواقعكم في مؤسسات السلطة القيادية؟ ما سر هذا “الحب العذري” معهم؟ ألم تتعلموا بعد أن الذي يخجل من عروسته لا يُنجب أطفالاً؟ لماذا لا ترفعوا صوتكم عالياً في وجههم؟ لماذا لا ترفعون صوت أفعالكم أعلى في وجه مَنْ يخدمون؟ لماذا لم تؤدبوا ولو مرة واحدة مسؤولاً أمنياً ممن يُنسقون مع آل صهيون؟ من الذين يشون برفاقكم ويعتقلونهم ويعذبون؟ ما الذي جرى لكم؟ ألا تنظرون أين صرتم والى اين وصلتم؟ أرفضتم المشاركة في إنتخابات البلديات كي تتمسكون في مفرزات “أوسلو”؟ لماذا لم تُكملوا ما عاهدتم الناس عليه من تصعيد الموقف وعدم الوقوف عند مجرد رفض المشاركة في إنتخابات بلدية؟ ألا تعتقد أن ذلك هروباً للأمام وتغطية على عجزكم؟!!!

سحب من رأس سيجارته نفساً عميقاً، اقترب مني، وأطلق سهمين من عينيه لتخترقني وقال:

ـ ما فعل هؤلاء القادة المتمسكون بهذه العلاقة أمام إعتقال رفاقهم في سجون السلطة؟ ماذا فعلوا ليحمونهم من أجهزة أمنهم وسجونهم؟ أهذا هو الحزب أو الفصيل الذي كانوا يرتعدون منه ويحسبون له ألف حساب؟ أهذا هو الحزب الذي ظل على الدوام حامياً ومدافعاً عن الوطن والرفاق والناس والقضية؟

عدل من جلسته وتابع سحب الأنفاس من رأس سيجارته وقال:

ـ ترى مَنْ الذي عليه إعادة النظر في مفرداته الوطنية؟!!!

ودون مقدمات، وكأنه يريد الخروج من الموضوع أو الإبتعاد عنه، قال:

ـ لقد قاطعتني دون أن أكمل لك القصة.

وأكمل دون أن يسمع لي رداً:

ـ لقد كان هواء الجبل البارد نقياً، كان عطراً برائحة الميرمية والشيح والزعتر إن كنت مازلت تذكر، وكان يبتلع برده المتجمد كأنما يريد حمايتنا من مرض كامن في أزقة الهواء، يزيله ويخفيه بعيداً في أعماق الأرض، أو ينثره بعيداً فوق مساحات السحاب، وكان لون الجبل أبيضاً ناصعاً كأجنحة ملائكة الجنة، إستعاده الجبل بعد مرور سنوات على ذلك، لون أبيض لا علاقة له بالرايات البيض، تخاله يشبه الرايات الحمر في زمن الحرب، أو بلون حشائش الأرض الربيعية الخضراء الممتدة على طول السهول، وربما بلون الأرض الأسود الممدة على ظهرها بإنتظار الإخصاب، لكنها لا تتخصب من ثلج خصي مزيَّف اللون عاجز، بل من ثلوج ناصعة بيضاء استعادت لونها الأصيل الشامخ، مشرئب العنق مرفوع الجبين ويحتضن الجبل والسهل كله، كأنه يحميهما من رصاصهم المتطاير حقداً وعنفاً وانتقاماً وسفور، وظل يطاردنا ونحن نصعد عالياً عالياً من صخرة إلى أخرى، متسلقين السلاسل الحجرية محاذين أشجار الزيتون الراقصة بنا فرحاً، وحينه فقط أدركت طريقي إلى الدفء…. أأدركته أنت؟

قلت مغلوباً على أمري:

ـ يعني ما في فايدة؟

قال:

ـ بلى، عندما يستعيد الثلج لونه الأبيض، ويصير كالراية الحمراء وحشائش السهل الربيعية الخضراء ولون الأرض الأسود المستعدة للإخصاب.

محمد النجار

 

 

 

الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار

أم الشهيد

  • عندما نظرت إلى صورة الشهيدة سهام نمر، يتقدمها إبنها الشهيد مصطفى نمر، رأيت الشهيد ينظر في أعماق عيني ويقول، ” إن لنا عليك حقاً”، فخجلت وأخفضت عينيّ، وكتبت هذه السطور:

*إلى روح الشهيدة سهام راتب نمر، والدة الشهيد مصطفى نمر، وكل الأمهات اللواتي قدمن أبناءهن شهداء وجرحى ومعتقلين، وكن شهيدات حتى لو بقين يمشين على الأرض.

 

قامت من النوم مبتسمة كحالها في الأشهر الأخيرة، ورغم تيقنها الأكيد من نومها العميق، إلّا أنها تكاد تجزم أنها كانت مستيقظة متيقظة رغم ظلام الليل الذي دثر البيت بعتمته، وأن ما رأته كله حقيقة، حقيقة ساطعة كشمس النهار التي، بشعرها الذهبي، غطت بيوت المخيم كله، ولا شأن له نهائياً بالأحلام.

هذه الإبتسامة المعلقة الثابتة فوق شفتيها، مثل فانوس مستقر في وسط السماء، كان مثار حيرة في البيت كله، خاصة أنها صارت بهذا الوضوح بعد استشهاد ابنها، وفسّر الجميع الأمر بسبب اشتياقها له وافتقادها لرؤيته يشرب من كاسة شايه مستعجلا الوصول لعمله،  قبل أن يسرقه الزمن ويُغيبه النهار بعيداً دون أن يحس أو يشعر، ويجد نفسه عائداً خالي اليدين من رغيف المساء، فكان إتفاق ضمني من الجميع بتجاهل الأمر حتى يمر الزمن، والزمن قادر على فعل المعجزات.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة كما يبدو، فاستشهاده لا يجعلها قليلة التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الحلم والواقع، فهي تراه في كل ليلة ولا يغيب عن سهول عقلها في أي نهار، فارس يعتلي صهوة نهاره ويجوب في طرقات رأسها، يروح ويجيء ويحرث الأرض، يدق عنق التربة “ليخرج من الأرض ماءاً”، ثم يأتي إليها مُتحزماً بتاج العز، متلفعاً بالشهادة، تراه وتحتضنه وتقبل جبينه بعد أن يحتضن كفيها ويقبل يديها كل مساء، تجلسه في حضنها وتناغيه كما لو كان صغيراً، تدلعه وتلاعبه وتقبله وتتركه ليلعب على باب بيتها في المخيم، كما كان طفلاً، فباب بيتها كان يمكن أن يكون آمناً مثل كل المخيم، لولا أولئك الغرباء الذين بسببهم بُني المخيم، وهي تعلم علم اليقين أن المخيم ليس أَبَدِيّ، وأنها ستمسك ابنها، ذات يوم، من يده ويعودا سوياً تتبعهما الأُسرة كلها، والمخيم كله، إلى قريتها وبقية القرى المُنْتَظِرة منذ سبعة عقود، دون يأس أو وهن أو فقدان أمل، يعودوا ليطردوا اللصوص الذين قتّلوهم وهجّروهم وطردوهم واستولوا على بيوتهم بقوة الحديد، ولولا الحديد الذي بأيديهم ما كانوا ليجرؤوا على الإقتراب من باب بيتها، وأن الحديد لو كان متوفراً في أيدي رجال القرية ونسائها لما تجرأ أحد على القرية وسكانها، وأن الناس لو تُركت لتدافع عن نفسها دون تدخل أصحاب القصور من “ذوي القربى”، لكان شهيدها يجوب طرقات القرية وفأس الأرض على كتفه، لذلك كانت تعلم علم اليقين أنه بالحديد فقط سترجع بيتها المسروق، فكانت، لذلك ربما، ترضع وليدها أسرار القرية، جغرافيتها، تاريخها الذي طالما حاولوا،فاشلين، محيه أو إلغاءه، طرقها، مُغُر الجبال في أراضيها، حكايات نسائها ورجالها، أولادها وبناتها، جرحاها وأسراها وشهدائها على طول طريق السبعين عاماً، منذ خروجهم الدامي ملاحقين بالرصاص والموت وخيانات الملوك، قصص زيتونها ودواليها وسلاسلها وبيوتها، وشجرتي التين المعمرتين “العسالي والخروبي”، الواقفتان على مدخل القرية مثل حارسين ساهرين، تشرح له مع كل قطرة حليب تنزلها في فمه قصص البيدر والغلة والأرض والجيران والأعراس والزفة وليلة الحنة والعتابا والميجنا، وكيف حاول اللصوص تجريدهم من الذكريات بتفجير الرؤوس وفصل الرقاب، لكنهم رفضوا التنازل عن ذكرياتهم، فحملوها وهرّبوها وغامروا بحيواتهم لينقذوها، واحتفظوا بها في تلافيف الدماغ وطيات مُخَيِّخاتهم، لذلك هي ليست مستغربة أن ابنها ذهب لعمله شاباً يانعاَ يافعاَ، وعاد شهيداً كما يليق بالرجال، وليست مستغربة كيف نشأ وأترابه يحبون اللعب في الحديد لدرجة الهوس به، وأنهم منذ صغرهم يصنعون البنادق والصواريخ من الأسلاك، فكان من الطبيعي أن يعودوا شهداء واحداً تلو الآخر كما عاد إبنها، ملفوفاً بالعلم محمولاً فوق أعناق الرجال، لكنها لم تكن تتخيل أن يترك خلفه كل هذا الفراغ المرعب، كل هذا الصمت المدوي، وأن يكف من بعده البيت عن الإبتسام، وكأن الإبتسامات حُرّمت من الله دفعة واحدة ودون سابق إنذار، وأكثر ما أزعجها أنها لن تمسك بيده، أو تتعكز على ذراعه،  ويعودا سوياً الى قريتهم التي ظلت تتباعد، تتعقد طرقاتها، ويملؤها الشوك والرصاص وخذلان أنظمة العهر مع مرور الزمن.

رغم ذلك كانت متأكدة أنهم سيسترجعونها، وأن المسافات الطويلة هي سبباً لشحذ الهمم ومتابعة الخطوات، وتأكدت من حتمية الأمر عندما رأت ابنها شهيداً، فهي خير من تعرف أن الشهداء هم جسر العودة الأكيد في هذه الطرق والمسالك الخطرة، وأدركت أن حليب ثديها لم يذهب هدراً، لم يكن ماء آسناً قذراً، كما لم يكن مُزيفا ملوناً كاذباً مشتبهاً، وكانت تظل ساهرة مع وحدتها وظلام الليل، تتمنى من الليل أن يستر سرها، أن يغلق عنها قلوب العائلة النائمة كما عيونهم، لتظل تحاكيه وتقبل حجارة يديه التي ظل يُطل بها عليها صغيراً ومراهقاً وشاباً، عرفاناً منه بجميلها المبكر في وصوله للشهادة، عندما تربى على حملها ورشق دوريات الجيش بها، لتكون “بروفته” للوصول الى ما وصل إليه، ولتظل، هي أمه، تمسح جرحه النازف الذي ظل ينز دماً ومسكاً.

وسرعان ما صار، مع تقالب الأيام، يُضاعف زياراته لها، يأتي لها من طرقات الجنة، من بين ورد الياسمين والقرنفل وشقائق النعمان، من حدائق النرجس والإقحوان والسوسن والطيَّون، من تحت الأشجار المثمرة المليئة بالخيرات،يلوك شيئاً من فاكهتها في فمه، مُتقافزاً على شُجيراتها، متعطراً بعطر الزعتر البري والميرامية التي خص الله بها جنته برائحتيهما الفواحة، تحط بلابلها على كتفيه مغردة، يمر من تحت نبع معلق في نهايات السماء، ينساب برويَّة وارتخاء، وخرير مائه وحفيف أجنحة العصافير تملأ الجنة غناء، تراه قادماً متعلقاً على حبال خيوط الفجر، محمولاً فوق حبات الندى، متقافزاً على درجات الغيوم ناصعة البياض، لابساً بدلة عرسه التي لم يلبسها قبل استشهاده، والتي طرزت له عليها بيدها مفتاح بيتهم الحديدي الكبير، الذي يمكن أن يكون سلاحاً في غياب السلاح، ألم يحاكموا إبن مخيمهم علاء عندما وجدوا المفتاح المشابه لمفتاحهم مُخبأً في جيبه، متهمينه بإمتلاك سلاح قاتل؟ يأتيها وبعض بقع الدم تُزين بدلة عرسه، تنز من مكان الرصاصات التي إخترقت جسده اليانع وقلبه الشاب، تعطيه جرأة فوق الجرأة وشرفاً فوق الشرف، وترفعه من شاب يانع من على مقعد سيارته، التي أفرغوا فيه وفيها حقدهم، إلي أعلى صنوف البشر مرتبة، له مهابة الشهداء وشهامة الأبطال، وتفوح منه رائحة المسك وتغطي البيت كله، تلك الرائحة العطرة التي ظلت متخوفة أن تكشف سرها، وترميه بعيداً وراء الدار.

كانت تحتضنه مباشرة، تُخبئه عن عيون دورية عسكرية تبحث عن الشهداء لتعيد قتلهم، أو دورية “الأقربين” التي تبحث عنهم لتحاكمهم، وترمي بالمناضلين في غياهب سجونها، لتسلمهم بعد ذلك لإعادة قتلهم، فالأمر المخيف المرعب الممنوع لدى كلاهما، أن تُمارس الشهادة، أو أن تجرؤ على التفكير بها، مستبدلاً اليأس والقهر والظلم منهما بالشهادة، بإعادة رسم الطريق، بإعادة توضيح المسالك، بمحاولة رفع الرصاص والأشواك لئلا تختفي المعالم وتضل الطريق.

تُجلسه في “حجرها”، وتخبره عن أخبار المخيم، عن أسراه وجرحاه، عن شهدائه الذي ظل يؤكد لها أنه رآهم عند الأنبياء والصالحين، الذين يحسدونهم على شهادتهم هذه، التي جعلتهم أقرب منزلة منهم إلى الله، فالله يفضل الشهداء على كل شيء وأي شيء، بما في ذلك الأنبياء، لذلك كم ود الأنبياء أن يكونوا شهداء، وتكاد تسمعه يقول بأعلى صوته، “إن أنبياء هذا العصر ياأمي هم الشهداء، رجال كانوا أو نساء، كلهم عند الله سواء”.

كانت تسمعه وتحدثه وتتعطر بمسك جرحه النازف، لكنها لم تُرد يوماً أن تزعجه بقصص “الخانعين” في المخيم، ولا بسياسة التسحيج والتبعية ولعق الأحذية التي تتعمق أكثر عند بعض المخيم، ، ولا ببعض السفلة والأنذال الذين لا يسكنون المخيم، ومازالوا يبنون القصور من ثمن دمه ودماء رفاقه، والتي ليس لها مفاتيحاً كمفتاح بيتها هناك، ولا كمفتاح علاء الذي مازال يحتضنه السجن، لكن الأمر الذي طمأنها، أنهما كلاهما، لم يُخْطئا إتجاه البوصلة أبداً، التي كانت تُشير للقرية بهذا الوضوح.

شيء واحد فقط كانت تود فعله، واحد فقط لا غير، أن تعود معه إلى قريتها، وينتزعاها من لصوص الأاراضي والبيوت، من الغرباء الذين حللوا القتل والذبح وبقر بطون الحوامل، الذين ظلوا يتفننون بقتل النساء والأطفال والشيوخ والرضع، لكنهم رغم كل سلاحهم لم يثبتوا في الميدان أمام الرجال، وكانت تظن أنها ستفعل الأمر معه، سيعودان سوية، رغم أنها لم تفاتحه بالأمر أبداً، كما أنه لم يفاتحها أيضاً، لكن وكما للعيون كلمات واضحة، فللقلوب لغة لا تُخطئها الأم، فكانا يتحدثان بقلوبهما، يتناقشان ويتأملان ويخططان، لكنه استعجل الشهادة، خاف أن تمر في موعدها ولا تجده أو تُخطئه، ويصير عليه الإنتظار من جديد، والإنتظار أي كان نوعه، نذل جبان خانع، وهو لن يرتهن له، لن يضع مصير شهادته بين يديه، سيلحق الدورية العسكرية بنفسه، سيرجمها كما يرجم المؤمنون إبليس، سيحاول كسر زجاجها، ليصير حجره قادراً على الإيذاء، وداهم الدورية العسكرية، وصار يصب غضبه عليها من خلال حجارة يديه، وكانت الشِباك الحديدية تحمي زجاجها، فلم يكن الجنود في خطر، لكنهم خافوا مخالفة الأوامر، خافوا أن ينسوا مهنة القتل حتى لو لدقائق، وسرعان ما فكر بعمل أكثر نجاعة، عندما رآهم يتهيأون للقتل، وهو لا يملك غير حجارة يديه وسيارة بمحرك نائم، فركب سيارته وإحدى يديه قابضة على بعض الحجارة، ليكون للعمل معنى أعمق وتأثير أشد، ليجابه موتهم الذي يحيط به إلى مجابهة بالقليل الذي يملك، وكان الوقت يتسارع بين رصاصهم المنسكب ومحرك سيارته النائم، لكنهم كانوا أسرع منه، ورصاصاتهم أسرع من عجلات سيارته، أمطروه رصاصات في القلب والرقبة والرأس، فضعفت نبضات قلبه ووهنت قوة ذراعيه، لكن قبضته لم تتراخَ عن حجارتها، ووقع بصدره المدمي على مقود سيارته معاتباً، لماذا لم يكونا أسرع منهم؟ فالمسافة بينهما لم تكن سوى يقظة المحرك النائم كبداية لتحرك العجلات، مجرد ثوانٍ خانته فيها تقديرات الزمن في معركة غير متكافئة، فهو لم يكن يوماً عسكرياً، ولوكان لأنتصر على جبن رصاصهم وحماقات سلاحهم، وبعدها، ربما، كان سيكون للشهادة طعم أجمل، وربما أجمل بكثير.

كانت، ما تزال، أصابعه القوية تعتصر حجارته، تشد عليها بعنف، وفضلت روحه أن تصطحبها معها للسماء، أن تُحوِّط بها ورود الحنون، فذهب للسماء دون أن يذهب معها لقريته، الأمر الذي أثقل قلبها وأدماه، لكنها عندما فكرت ملياً في الأمر، وصلت إلى استنتاجات أخرى، استنتاجات إنسان مؤمن، مدرك لرحمة الله ولطفه، يلبي دعوة الشهيد ورغبته، وقدرت أنها لو استشهدت هي أيضاً، فربما جعلها الله تستند على يدي ابنها وتذهب معه للقرية لتراها، لكن الأمر سرعان ما أربكها وكاد يشل حركتها، عندما تساءلت أما نفسها قائلة: “وهل أنا أريد الذهاب زائرة؟!!!”، وأكدت أنها تريد استعادة القرية وليس زيارتها، صلَّت بضع ركعات لله، طلبت غفرانه، ذكّرته بصبرها على شهادة ابنها، وهل هناك صبر كصبر أم تستقبل إبنها الشهيد بالزغاريد، ودموع عينيها تتسابق على خديها المكلومين؟ أن تجعل من جنازته عرساً؟ أن تزفه إلى التراب كأنما لليلة عرسه؟ أن تُوزع الحلوى بدل القهوة السادة؟ رفعت عينيها لتنظرا في عيني السماء الخجلة أمام عينيها، وطلبت من الله أن يحقق لها رغبتها…

قامت من بين يدي الله، كنست بيتها ونظفته، كي يستقبل البيت “المهنئين” بصورة تليق بهم، كي لا يقول البعض أنها استشهدت وتركت بيتها وسخاً، أربكها الأمر، فنظفته كما لم تنظفه من قبل أبداً، طبخت لزوجها وبقية أطفالها، أطعمتهم وأشبعتهم مما قسم الله، قبّلتهم للمرة الأخيرة، وعضت عل دمعاتها بجفني عينيها كي لا تخدعانها وتبللان المكان، ووسط دهشتهم التي لم يعرفوا لها سبباً، أسالت نبعاً من الإبتسامات كي لا تترك في رؤوسهم مُتسعاً لشك، توجهت لمطبخها لتختار أكبر سكيناً، وضعته في “عِبِّها” لتخفيه عن العيون، أوصت الجميع بالحفاظ على مفتاح بيت قريتها المسروقة، وغادرت مدعية الذهاب لزيارة بيت أختها، واستقلت أول سيارة توصلها إلى باب العامود في القدس.

كان الجنود يحيطون بمدخل الباب كالجراد، يُغطيهم السلاح مُدَججين به، وكانت الأم تتقدم منهم بخطوات واثقة، تتحسس سِكّينها المختفي في طيات ثوبها، وتحاول أن تعرف بحكمة عينيها أيهم أكثر شأناً، ليكون صيدها ذا أهمية وشأن، وكانت تحس بأن كل خطوة من خطواتها تتسارع للقاء إبنها الشهيد، ودون أن يرف لها جفن أو تهتز لها قناة، رفعت سكينها وألقت بكامل قوتها على صدره، وانطلقت رصاصات من جنود يختبئون خلف البنادق، وكأنهم في ثكنة عسكرية، جنود يطلقون على النساء من الخلف لأنهم يخشون العيون ويرتعبون من نظرات البشر، فاخترقت الرصاصات جسدها الهزيل، وتهاوى الجسد ووقع على الأرض ليعانقها العناق الأخير، وتمدد الجسد فوق أرض القدس، ليقربها خطوة أخرى من إنتزاع قريتها من براثنهم، وعيناها مفتحتان ناظرتان نحو قريتها القريبة، وصعدت الروح الى السماء والجسد مازال يعانق الأرض، لتجد ابنها الشهيد واقفاً مع الشهداء والأنبياء مستقبلين على باب الجنة، وكانت تستمع إلى أصوات المنشدين الآتية من خلف السماء، يام الشهيد وزغردي …كل الشباب ولادكي…

محمد النجار

 

 

 

إن قتل القنصل… إعدموه

التقينا على فنجان من القهوة في بلاد بعيدة في الغربة، وصرنا نقلّب صفحات الماضي، كعادتنا في تلك البلدان، ربما من باب التملص أو رفع العتب عن الذات، لاننا لا نستطيع جلدها بشكل دائم، وربما من باب الشعور أن وراءنا ماض نعتز به، وربما نوعاً من الهروب للأمام بأننا كان لنا ماضٍ، وكنا ذات يوم مناضلين وكان لنا شأن…

لا أريد أن أقحم نفسي في الموضوع بهذا الشكل المباشر الفج، فأنا لم أكن مثل صديقي “كامل”، فهو من كان السجن بيته وليس أنا، وهو الذي كان يأكل “العصي” كما يقولون، ومثلي لم يستطع حتى عدّها، لكن لكل منا دوره في هذه الحياة، وأن تفعل شيئاً مهما كان بسيطاً، أفضل بكثير من أن تقيد يديك وتحملق في سقف الغرفة، وكما ترون أنا الذي أخط شيئاً من كلماته لتعرفونها، فهو يعتبر قصصه هذه لا تعني الشيء الكثير، ولكنني أراها تعني ولو القليل، ولهذا سأخطها كما هي، دون زيادات تجميلية، بل من باب أمانة النقل وليس فلسفته، قال لي:

ـ ربما لا تعرف والدي…لك أن تتخيل رجلاً عاش ما يقارب القرن، لكنه لم يُسئ يوماً لأحدٍ في حياته!!!لم يُغضب أحداً!!! كان يقسو علينا إن أسأنا بقدر حنو أب وعطف أم وحنانها ويزيد، ولا يستطيع فهم إنسان لديه قدرة على أن يُغضب أحداً ويكون قادراً على أن يغلق، في ظلمات الليل، عينيه وينام…

وتابع وهو ينظر في اللاشيء، وكأنه يرى والده أمامه:

ـ إنه إنسان بسيط، بسيط طيب إلى درجة السذاجة في عيون البعض، لكنه رجل حكيم في رأيي أنا، ربما لأنه والدي! وربما لأنني أُصنّف نفسي بسيطاً مثله، فأرى في كلماته حِكَمَاً، لذلك بالنسبة لي فالأمر لا يخضع لنقاش أو جدال…

كان الوقت عصراً عندما التقينا، والمقاهي في هذه البلدان مكتظة بالناس، والغيوم في هذا الوقت من السنة تكون منفلتة سارحة في فضاءات السماء مثل قطيع خراف، وصل لتوه من الصحراء الى حقول خضراء معشوشبة دون نهايات، فانطلق في كل الأماكن متبعثراً في أماكن متجمعاً في أخرى، متحركاً في كل الأماكن والإتجاهات على غير هدى، هدّه التعب لكن الجوع اكثر، فصار يقطع بأسنانه العشب مسرعاً متخوفاً من انتهائه قبل أن يسد جوعه، وكن النساء في المقهى يحتسين كاسات النبيذ أو الجعة وقد نزعن حِمْل الملابس الثقيل من فوق أذرعهن العارية أو نصف العارية، معلنات، دون ضجيج، عن درجات حرارة النهار المرتفعة في ذلك النهار الربيعي، الذي يسير، دون توقف، إلى نهايته الأكيدة، يقابلهن حبيباً أو صديقاً أو زوجاً أو رفيق، تعلو قليلاً أو تهبط ثرثراتهم، و”كامل” وأنا، نشرب القهوة على طاولة منزوية بعيدة في أقصى المقهى، وكلماته تنز من حلقه، ليقذف بها لسانه مباشرة في أذنيّ، وعقلي يسجلها بقلم مخبئ في ثناياه دون أن يراه “كامل” الذي ظل يتابع، عندما رآني أنظر إليه بإهتمام دون أن أقاطعه:

ـ كان المرحوم أبي يظل يحدثني عن “بيت عفّا”، قريتنا المنسية في جنوب فلسطين، مؤكد أنك لم تسمع بها، “تُحيط بها العديد من القرى والمدن الفلسطينية، مثل عراق السويدان وعبدس وبربرة وحمامة وجولس والسوافير والجلدية وبيت داراس، وكرتيا  وعشرات من القرى الأخرى، وكانت على مرمى العصا من المجدل والفالوجة، وأصوات الرصاص تُسمع من بعيد، والثوار يتجمعون ليدفعوا العصابات بعيداً عن أراضيهم، تلك العصابات التي أتت من بعيد بمساعدة الإنجليز، فلجأ الثوار لبيع “ذهبات” نسائهم ليشتروا حفنة رصاص أو بندقية عتيقة ما زال بها بقية حياة، فالناس كانوا مُوَحَدين متضامنين، قلوبهم على قلوب بعض”، قال والدي وأكمل:

ـ هل هناك ما يمكن أن يوحدهم أكثر من الدفاع عن قراهم؟!!!

قال “كامل” وتابع، و”أكمل والدي الحديث متأثراً بما سيقول، وكأن تأثير ما سيقوله يداهمه بشكل مسبق”:

ـ حاولوا اقتحام القرية أكثر من مرة، لكن الرجال يابني لا يُفرطون في شرفهم، وهل هناك شرف يطغى على شرف القرية؟ حتى عندما احتلوها من أيدي الثوار، حررها الرجال من جديد، ولما عادوا لإحتلالها بصعوبة كبيرة في المرة الثانية، حررها الرجال مرة أخرى، دفعوا مقابل ذلك دماً وأسرى ذبحتهم عصاباتهم كالخراف، كان يمكن تلخيص الرجل آنذاك بالجرأة، فمن لم يكن مقداماً مواجهاً شجاعاً لم يكن يُعد من بين صفوف الرجال، ولما عادوا واستقدموا المئات من رجال عصاباتهم وسلاحهم الجديد واحتلوها، حررها رجال مصر هذه المرة، رغم السلاح الفاسد الذي ورّدوه لهم، عندما كان المرحوم عبد الناصر يقود غرفة عملياته ويقاتل في المجدل، مُدركاً أن إحتلال فلسطين مقدمة لإحتلال مصر والعالم العربي كله، وأن فلسطين لم تكن أبداً الهدف الوحيد، بل هي العنوان الذي يُغطي الأهداف الحقيقية المُخبأة في أدراج السياسة، لذلك ظل يقاتل ويرفض الأوامر القادمة من خلف جدران القصور…

وكان والدي يتابع:

ـ كان لنا هناك بضعة دونمات يابني، وصيتكم بها، لا تتركونها في أيدي هؤلاء، عملنا أنا وجدك وشقينا لشرائها، سجلنا بعضها باسم أعمامك الذين كانوا صغاراً حينئذٍ، وسجلنا القليل منها باسمي واسم جدك، لم يكن أحد يفرق بين نفسه وبين أخيه أو عائلته…

ثم استدار بوجهه نحوي وكأن كلمات الملكية هذه لم تكن إلا مقدمة ضرورية لما سيقول:

ـ احفظ ما سأقوله لك…

وصار يُسمي لي المناطق التي اشترى منها، جعلني أسجل أسماء الناس الذي اشترى منهم، رغم أن بعضهم صاروا في “دنيا الحق”، وتابع:

ـ عليكم الرجوع إلى هناك، مهما كانت الصعوبة عليكم الرجوع، أعرف أن الطريق صعب وطويل، لكن “لا يحرث الأرض غير عجولها”، مدوا أياديكم واقتلعوهم من أرضنا، من لا أرض له لن يجد مكاناً لتقف عليه قدميه في هذا العالم، تظل وقفته خاوية ضعيفة معرضة لتطيح بها حفنة من رياح، تشبثوا بها واحضنوا أشجار المكان لئلاّ تنتزعكم العواصف، من لديه جذوراً سابحة في طيات التراب ليس من السهل إنتزاعه، وإن انتزعوه برعمت جذوره من جديد، أعرف انهم لم يُبقوا غير بضع شجرات من الجميز والصبار، وأنهم اقتلعوا البيوت وحدائق المنازل والعمران كله ، وأهالوا التراب في بئر الماء الوحيد بعد أن سمموا مياهه كي لا نعود، معتقدين أنهم مسحوا آثارنا، لكن تلك الشجيرات نحن من زرعها وسقاها وكبرها، هي شهادة لنا، فبصمات أيدينا مازالت على كل غصن ووريقة منها، لذلك يابني وصيتكم بيت عفّا…أتفهم بيت عفّا…لأننا سنبنيها من جديد…

فقلت له:

ـ كنت أعتقد أنك ستقول لي “وصيتك فلسطين يا أبي وليس بيت عفّا…”

لم أره يلبسه الغضب إلى هذه الدرجة، قال:

ـ وهل تكتمل فلسطين دون بيت عفّا ياولد؟ ألم أُعَلِّمك أن من يفرط في بيت عفّا يفرط بفلسطين؟ لا تصدق أحداً مهما علا شأنه يُفرط ببيته مدعياً أنه يريد تحرير فلسطين بدلاً عنه، مَنْ لا خير منه لبيته، لبلدته، لقريته، لمدينته، لا خير يرجى منه لفلسطين، ومن لا خير منه لأهله لا خير منه للآخرين، أفهمت الآن؟!!!…

قبلت رأسه كعلامة إعتذار، وقبل إعتذاري بقلبه الواسع بصعوبة، علّه أراد أن لا أنسى هذا الدرس أبداً، وكما ترى فأنا لم أنسه.

وسكت كامل عن الحديث، فقلت كي لا أظل صامتاً مثل أخرس:

ـ وما الذي ذكرك به الآن؟

قال بتأكيد شديد:

ـ لعلني لم أنسه أبداً ، خاصة عندما أكون محتاجاً لحِكَمه، وأكاد أجزم أنه يحضر هو بذاته ليعلمني درسا جديدا في كل مرة…لكني تذكرت الآن أمراً مما استوجب حضوره من جديد.

ـ ما هو؟

سألت وقد راودني الفضول، فقال:

ـ كنت في التحقيق بعدما أنهيت سنوات دراستي، وكان التحقيق جاداً، كونهم، كما استخلصت، كان لديهم أسباباً تستدعي سجني في عرف دولتهم…

وضحك “كامل” ورسم بشاهديه علامة قوسين، وكأنه أراد أن يخبرني بجملة معترضة وسط كلامه وقال:

ـ لعلني يجب أن أخبرك أن أبي يعرف كلمة “القنصل”، وربما لا يعرف معناها بالضبط، كما لا يعرف عمل أو وظيفة القنصل، لكنه يجزم بينه وبين نفسه أنها الوظيفة الأرفع في التاريخ، ومَنْ يصل إليها يكون قد أتم كل شيء، ويكون قد وصل إلى درجة الكمال، يعني “ختم العلم” كما نقول نحن المثقفون هازئين…

واتسعت ابتسامته التي ظلت متشبثة بشفتيه رافضة النزول، وأكمل:

ـ ولما استعصيت عليهم في التحقيق، واقتنعوا أن الصخرة التي بين يديهم لن تنز ماء أبداً، قرروا أن يلجأوا لوسائل ضغط علي، فأحضروا والدي…

كان “كامل” يسحب أنفاساً من سيجارته وينظر إلى السماء، وكأن والده ينظر الينا من علوّه هناك مناشداً ابنه التمسك بالحقيقة فقط، وتابع:

ـ أجلسه ضابط التحقيق مقابله، وبدأ بإقناعه أن يحدثني ويقنعني بالتجاوب معهم، وقال له:

ـ إن لنا عند ولدك دين ياحاج، وجاء الوقت لسداده، فإنْ أبى التسديد حاكمناه وسجناه، وإن سدد تجده في بيتك قبل أن تصل له، هذا إذا لم تأخذه بيدك وأنت مغادر من هنا…

اقترب أبي بكرسيه من الضابط وسأل، بكل ما فيه من غضب، بإستهزاء:

ـ وهل تأكدتم أن ابني هو مَنْ قتل “القنصل”؟

كان استغراب الضابط كبيراً، فسأل أبي يريد أن يعرف أكثر، واعتقد أن هناك صيد ثمين، مادام الحديث يجري عن عملية قتل، فقال:

ـ القنصل؟! عن أي قنصل تتحدث ياحاج؟

فقال أبي مؤكداً:

ـ القنصل… وكم قنصل في هذه البلد؟

ـ آه أفهم، قل أنت لأتذكر، لا بأس مادمت تريد تسديد دينه…قل…

قال ليجعل والدي يتحدث عن عملية “القتل”، ورن على جرس من تحت مكتبه حتى إذا جاء أحد الجنود طلب كأسين من الشاي، وتابع:

ـ قل كل ما تعرف، وليقدرني الله على عمل الخير لإخراج إبنك من محنته…

استغرب الحاج هذه اللغة الناعمة، لكنه لم يفكر بالأمر كثيراً، فهو رجل بسيط كما تعلم، لكن ذهنه ظل مشدودا لما يريد قوله فقط، فقال:

ـ أنا الذي يعرف؟ أنتم تدّعون المعرفة، وأنا أقول لكم إن كان ابني قد قتل “القنصل” إعدموه…

دخل الجندي بكأسي شاي ووضعهما على الطاولة، وقدم الضابط الشاي بنفسه لأبي، فأرجعها والدي من أمامه للخلف كمن يرجع بكفه فاحشة تتقرب منه، وكان قد تذكر كلماتي، برفض التعاطي مع رجال المخابرات لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بأي شيء آخر، فظل متذكراً المبدأ لكنه نسي الأسباب والمبررات، وقال:

ـ عندي السكر… لا أشرب الشاي… ولا غيره

قال جملته الأخيرة كي لا يعود الضابط ليعزمه على مشروب آخر، وقال الضابط الحانق مفتعلاً الهدوء:

ـ كما أخبرتك ياحاج، عليك مساعدتنا بإسترجاع دَينَنا، أرأيت مديوناً طليقاً دون أن يسدد دينه؟

فقال والدي جازماً:

ـ طبعاً رأيت ، ألم تسرقوا “بيت عفّا” ولم ترجعوها بعد؟

ـ “بيت” مَنْ؟… عفّا؟ وما هذه ال”بيت عفّا”؟!!!

فقال والدي معتقداً أن الضابط  يستهزئ به:

ـ أنسيت بيت عفّا الآن؟ “بطلت” تعرفها؟ قريتي في الثمانية واربعين، أم نسيت هذه أيضاً؟!!!

وضرب صدره بكفه ليأكد أنها قريته، ووقف على قدميه وقال:

ـ هيا أرونيه كي أخبره أن لا ينسى “بيت عفّا” التي سرقتموها ولم ترجعوها بعد، وما دام الأمر يتعلق بالديون لنرى مَنْ لديه عند الآخر ديناً!!! وكيف سيتم تسديده…

فاستدعى الضابط الجندي غاضباً، صارخاً أن يوصلوه مباشرة للباب الخارجي، قائلاً:

” ألم تنسوا بعد كل هذه السنين؟”أخرجوا هذا المجنون برّه…بــــــرّه

وأخرجوه، وهو يسأل:

ـ ننسى؟ أننسى ماذا؟ربما تقصد بيت عفّا؟ ماذا تقول أيها المجنون؟

وأخرجوه ختى باب السجن الخارجي، وبقيت جاهلاً بالأمر ولا أعلم عنه شيئاً حتى خروجي من التحقيق…

وظل ينظر كامل في حقول السماء، الى الغيمات المبعثرة على أطرافه كقطيع خراف متفلّت متبعثر، وقلت له لمّا رأيت ضجيج سكوته يسيطر في المكان:

ـ أتذكر خالد؟

ودون أن أنتظر إجابة، أكملت، حيث أن خالد صديق لكل أفراد العائلة:

ـ صديق عائلتكم، أخبرني ذات يوم أنه كلما رأى والدك كان يرى فيه رجل تلك اللوحة، لوحة سليمان منصور، جمل المحامل، الذي يحمل فيها القدس على ظهره…

لم ينظر نحوي لئلا أرى دمعتي عينيه المترقرقتين، فيخجل او يشعر بالحرج، لكنه قال:

ـ لعله كذلك… رحمه الله…

وظل يتابع بعينيه خراف السماء

محمد النجار

ألا تسكن في بتاح تكفا؟

إلتقينا بعد ما يقل قليلاً عن العشرين عاماً، جيل كامل فصل آخر لقاء لنا، أو “عُمْر” كما قال هو، أتتخيل أن تلتقي وشخصاً تعرفه بعد عشرين عاماً؟ أو مع شخصٍ تحبه، بل ربما تحسده، بعد هذا العمر؟ أعرف أن الأمر ليس بمعجزة، لكن أن تكون في نفس المدينة ولا تراه؟ أعتقد أن لا علاقة للأمر بالصدفة فقط، بل بقرار قد إتخذه أحدنا أو كلانا.

إحتضنني وشدني نحوه، كأنه كان يفتقدني طوال هذه الفترة، ولم تسنح له ظروفه بلقائي، وجاملته بالطبع، ولما أخذت حريتي من بين يديه بعدما أطلق سراحي، رأيت كيف مر العمر بهذه السرعة، رأيت كِبَري في وجهه، من خلال التجاعيد التي حفرها الدهر كطريق غير معبد تناثرت حجارته، من خلال الشيب المتسلل إلى ليالي رأسه، فكوني قد اعتدت على رؤية نفسي ولم ألحظ هذه التغيرات، لا يعني البتة أنها غير موجودة، وربما تفاجأ هو أيضاً لما رآها مرسومة بوضوح، على صفحة وجهي، بعد كل هذه السنين.

إلتقينا آنذاك في زنازين المسكوبية في القدس، أدخلوه على زنزانتنا بعد أيام من وجودنا هناك، كان التحقيق قد إنتهى معنا، وكان هو قادم من جولةالتحقيق الأخيرة له، فهذه الزنزانة والزنزانة المقابلة لمن إنتهى التحقيق معه عادة، قبل أن ينزلونا إلى الغرفة، أو يشحنوننا كل إلى سجن…

تعارفنا حينها، كنا طبيبين وثالثنا مهدس في الزنزانة المقابلة، وأدخلوه عندنا نحن وليس في تلك الزنزانة حيث البرش الفارغ، وكان التحقيق قدانتهى معنا منذ أيام، حيث قدمنا إعترافنا وننتظر لائحة إتهامنا، وكان هو عاملاً يعمل في إحدى المستوطنات، يتحدث قليلاً وبروية، يكاد يُشعرنا أنه يلتقط كلماته عندما علم أننا في هذا المستوى العلمي، وكانت مفاجأته التي حاول إخفاءها عندما عرف أننا معترفين، وتفاجأنا نحن أكثر لما علمنا أننا كلنا مجتمعون، لا نساوي رجولته، أو لو أننا جمعنا رجولتنا مجتمعة لرجحت رجولته عليها، وصرنا نبرر لأنفسنا، في دواخلنا، “أن لكل جواد كبوة”، وأن كبوتنا هذه ليست بتلك الكبوة الكبيرة، لأننا لم نعترف إلا على أنفسنا.

بقي معنا أياماً متتالية، نقلوا زميليّ وبقينا نحن الإثنان معاً، وفي الزنازين تتحدث بكل شيء إلّا الممنوعات، والممنوعات هي الشئون الوطنية، فلا كلام في الخصوصيات الحزبية والتنظيمية، فأنت أولاً وأخيراً تجهل كل شيء عن زميلك في الزنزانة، فربما يكون اي شيء، مناضلاً أو نصف مناضل أو عميلاً، وربما إنساناً عادياً رمته الصدفة أو القليل من شجاعة مؤقتة أو ردة فعل، فلم نتحدث بشئء ذا معنى طوالا أيام…

علمت أنها لم تكن تجربته الأولى في الزنازين، بل إنه من روّادها، وكان كما هو الآن، لم يُسجل إعترافاً ولو مرة واحدة، قال لي، ربما، من باب الحيطة والحذر، ” أنا لست بطلاً، أنا ليس عندي ما أعترف به”، وسكت، ولما أخبرته أنني إعترفت على نفسي من شدة التعذيب، أهال في عينيّ جمرات من عتب غاضب صامت، وكدت أسمع صرخته دون كلام “أنصف خيانة تعني؟ أم أن خيانة الذات أقل تكلفة؟” وسألني:

ـ  كم كان قد مضى عليك في التحقيق؟

قلت:

ـ خمس وأربعون يوماً

قال:

ـ لو عضضت لسانك بضعة أيام أخرى لكنت اليوم في بيتك…

قلت:

ـ لم أتحمل التعذيب أكثر، صار التعذيب أقسى من أيامه الأول…

قال:

ـ إنها كالولادة، كلما زاد الطلق كلما إقتربت نهاية الألم

كدت أضحك في سري على كلماته، وأخبره بأنني”أنا الطبيب وليس أنت”، فأوقفني خجلي، ولما ترك نظراته تسرح في ثنايا رأسي، قال مستدركاً:

ـ هناك أشياء تعرفها من الحياة، وهي ليست بحاجة لتوصيف طبيب.

لطالما كنت أمقت “المتفلسفين” أو “المُفتين” دون علم، لكن هذا الرجل كان يقول الأشياء دون تكلف، تسيل الكلمات من فمه كأنها جدول صغير يتمشى بين أشجار الحقول، متناغماً بخريره مع نسمات الغسق، ليعزفان سوية نغمات ناعمات على ضفاف المساء.

ثم أكمل شعراً كلمات للشاعر مظفر النواب مترنماً:

ـ أنا يقتلني نصف الدفء

ونصف الموقف أكثر

لم أعلق، لكنني بقيت أفكر في كلماته، فأنا ،قبل ذلك، لم أفكر بهذ الطريقة أبداً، وربما لو فكرت كذلك لإنعكست النتيجة وانقلبت رأساً على عقب، وبصراحةأكبر، فإن ما فاجأني أن هذه الكلمات بدت وكأنها تخرج عن مثقف، وصرت أتساءل مع نفسي “أيكون هذا الرجل منهم؟ وأنا الطبيب لست سوى رجلاً متعلماً، يعرف صنعته، مثل نجار أو حداد يعرفان دواخل صنعتيهما!!!”وتأكد صحة ما ذهبت إليه مع توالي الأيام التي عشناها سوياً في تلك الزنزانة،  وفي زنازين مدينة رام الله لاحقاً، قبل أن يسلموني بيدي ورقة بالعبرية تتضمن لائحة إتهامي، وينقلونني من الزنازين إلى غرف السجن.

بقينا ما يزيد قليلاً على إسبوعين كاملين، وفي الزنازين للوقت ثمن، فالوقت مارد يتربص، فتكون في حالة من التوتر الدائم، الخوف من إعتراف جديد، من العودة للشبح والقيد والتحقيق، ومن داخل توترك يقودك حدسك، وعليه، بدل العينين، أن يرشدك، يوجّهك، يوازن لك ما بين العقل وبين القلب، ومن داخل هذا التوتر ذاته تتعمق صداقات لا تكاد تتخيلها، وتبدو مستحيلة في الخارج، وبالعادة صداقات ثابتة تتعمق مع كل لحظة تمر، وتصير ، مع توالي الأيام، مغروسةفي القلوب، تتمدد جذوراً تسير مع الشرايين، وجسوراً متتابعة متواصلة بين البشر، أو هكذا تبدّا لي في تلك الأيام.

صاروا يأخذوننا من الزنزانة لتناول وجبات الطعام في غرفة تابعة لمطبخ السجن، وصرنا نلتقي ببقية السجناء الأمنيين القادمين من غرفة الإنتظار، المتراكمين فيها لتوزيعهم على السجون المختلفة، وصرت أرى إحترام الناس له، معرفتهم به، وعلمت أنه وصل لهذه الزنازين بعد جولة واسعة في زنازين مختلفة في أكثر من مدينة، ولما جاءنا كان قد مر عليه مثلما مر علي من مدة زمنية، وكان يتوقع أن لا ينتهي التحقيق بهذه البساطة، لكنهم وعلى غير توقع، أوقفوا التحقيق معه وبعد أيام على ذلك نقلوه من زنازين سجن نابلس المركزي إلى زنازين المسكوبية.

كان يظل يقول أن جولة التحقيق هذه معه كانت شرسةلكنها سريعة، فهو في معظم جولاته السابقة كانت لا تقل مدة الواحدة منها عن ثلاثة شهور سوى أيام عدة، لكنها المرة الأولى التي إختُزلت ودفعة واحدة إلى النصف، وكان هذا الموضوع يشغل تفكيره أحياناً، لكن بشكل لا يخلو من إستغراب، وكنت أصحو من النوم أحياناً لأجده يكتم ضحكات متفجرة يحاول أن يطفئها جاهداً دون نجاح، قبل أن تنتشر في مساحة الزنزانة المغلقة، فتوقظني شظاياها، وكنت أستيقظ بسبب توتري، كما بسبب غبائي، وأحياناً كنت أفتعل النوم وعيناي تحملقان في سقف الزنزانة المضاءة بضوء أصفر باهت، سيؤدي حتماً للتأثير على البصر في قادم السنوات، وأضرب رأسي بأسئلة تزيد حنقي على نفسي، وتكشف لي غبائي المتأصل: “كيف إستطاعو إقناعي، وأنا الطبيب المتعلم، أن إعترافي سينقذ جلدي؟!!! لو لم أكن ضعيفاً لما صدقتهم، لو لم تكن لدي الرغبة بالإعتراف لما إعترفت”، وكنت أخلُص إلى النتيجة التالية في كل مرة، “أنني كنت أبحث عن مخرج لضعفي، عن مبرر أتكئ عليه، يُشكل لي حاملاً أو حتى “عكازاً” ضعيفاً متهلهلاً يحمل تبريراتي، ولو بصورة مؤقتة بين الناس، أتخطى به عجزي وضعفي وأجد بذلك ما يبرر خيانتي لنفسي، ومرات كنت أتساءل: أليس من السهل على مَنْ يخون نفسه أن يخون الآخرين؟” وأصل إلى النتيجة المؤلمة التي طالما هربت منها، “ربما، لو استمروا بضغطهم وتعذيبهم”، وللحق ومن باب الإنصاف، كان الأمر يربكني ويذهلني، فأحاول كبت تفكيري وأوقفه عن الجريان…وكان هو لا ينتبه ولا يعرف ما يدور برأسي، فلديه، في معظم لياليه على الأغلب، ما يضحكه، وبالتالي ما يبعده عن خلايا رأسي وتلافيفه، ولم أزعجه بدوري بسؤاله عما يُضحكه، يضحكه إلى درجة إنفجار ينابيع الدموع، فتتدفق وتكاد تكشف أسرار قلبه، وصار الأمر من طرفي مساومة مع نفسي، “أتركه أنا مع ضحكاته ليتركني هو مع آلامي وهمومي”.

بقي الأمر كذلك، حتى نقلونا سوياً إلى زنازين مدينة رام الله، وهناك، بقينا في الزنزانة رقم خمسة سوياً، مع ثلاثة من المعتقلين، ولما فرغ مكاناً في السجن نتيجة لحركة التنقلات الدائمة، ودعته قبل نزولي الى السجن، وتفاجأت بعد أيام من أحد “القادمين الجدد”، أن “حسّان” قد خرج إلى بيته…

عشرون عاماً مضت، ولا أدري لماذا كان طيفه يمر من فوق رأسي بين حين وآخر، وأنا في البيت أو أثناء دوامي في عيادتي الخاصة، وأحياناً وأنا أتمشى مع زوجتي في شوارع المدينة الفاجرة.

وها هو ينقض عليّ، يعانقني ويقبلني، كأنه رأى أخاً له، وأنا ،من باب رفع العتب، أضرب بكفي على كتفه، فتلك الأيام ماتت منذ زمن، بالنسبة لي على الأقل، ربما لأنني أريد أن أخفي تلك المرحلة من عمري، أن أقبرها وأهيل فوقها التراب، فما زلت أعتقد أن تلك التجربة لم تشرّفني، وأنها مرآة تريني رغم أنفي، هشاشتي وزيفي، والآن صرت متأكداً أن طيفه ظل يلاحقني ليريني أن أنصاف المواقف لا تليق بالرجال.

أصر على إصطحابي إلى مقهى مجاور، حيث تقابلنا لنشرب الشاي، وسألني عن أحوالي وعملي، إن كنت قد تزوجت وعدد أطفالي، ورأيتني أخبره كما في الأيام الخوالي، ونسيت تحفظي عليه أمام نفسي، وإختبائي خلف ضعفي، وصارت الكلمات تسيل من فمي بتأني، كانت تنز بأحرف متقطعة في أول الأمر، وتحدثنا طويلاً، وطلبنا الشاي مرةأخرى، وسألته بدوري، وعلمت أنه أعتقل أكثر من مرة من سلطة “أوسلو”، ومن ثم أعتقل إدارياً، وأن ذلك تم بتنسيق ما بين السلطتين، وقال أننا الآن في زمن آخر، زمن تحالف “إخوة الأمس مع أعداء كل يوم”، وفي هذا الزمن أنت تُراقَب بأربع عيون وليس بإثنتين فط، وتُسجن في سجنين بتحالف من سجَّانَين، وتُقتل برصاصتين، رصاصة من كان لك أخاً ورصاصة عدوكالدائم، وفي النهاية، الخير في “العربان” وزيتهم، الذين يدفعون بسخاء ليغطوا مصاريف الرصاص والسجون والتدجين والعلف…

كنت أعرف كل يقول، أو بالأصح كنت أراه، لكن كل ما خطر في ذهني في تلك اللحظات، شيء آخر مختلف عن كل ما يقول، بل إنني كنت لا أسمع ما يقول وأنا أحاول صياغة سؤالي بطريقة مناسبة، وألبسه بدلة ورباطة عنق كيلا يكون فجاً ومحرجاً، وكي لا أبدو وكأنني كنت أتجسس عل حركاته في تلك الليالي، قلت:

ـ في تلك المرحلة، كما تعلم، كنت أكاد لا أنام

قال:

ـ كنت أحس بك في الكثير من الأيام

قلت:

ـ كانت ضحكاتك تتفجر ينابيعاً، فتذيب الصمت المتوتر من على جوانب أذني، فأسمعها رغم أنفي…

عاد، رأيت ذلك بأم عيني، عاد إلى تلك المرحلة، وسرعان ما بدأ يضحك من جديد، وقال:

ـ هل أزعجتك ضحكاتي؟ هل أقلقت منامك؟

قلت:

ـ بالعكس، كنت أكبت أنفاسي وأعض على كلماتي، وأبقيت فضولي حبيس أدراج صدري كي لا أسألك لماذا تضحك؟

قال متداركاً:

ـ وتريد أن تعرف الآن سر ذلك؟

وأمام إبتسامته، رأيتني أهز رأسي بالإيجاب، فقال:

ـ في تلك الفترة الزمنية، وقبل إعتقالي بشهور، كنت أعمل مع مقاول عربي في الداخل الفلسطيني، وكان لديه عقداً بترميم بضعة بيوت في مدينة “ملبس” الفلسطينية التي أسموها “بتاح تكفا”، وهناك في شارع فرعي بإسم “يافو” كنت أقوم بتركيب الحوائط الجبسية، وكان صاحب البيت يروح ويجيء بين وقت وآخر، يحضر للمقاول ما يحتاجه من مواد البناء.

شرب شيئاً من كاسة شايه، وابتسامته معلقة كمصباح تحت شاربيه وتابع:

ـ حتى هذه اللحظة فالقصة عادية وطبيعية، وفي الأيام الأولى لوجودي في زنازين المسكوبية، كان أحد أفراد مخابراتهم يتعمد ضربي وإهانتي، كان دوره هو دور “الذئب” معي، فكان لا يترك لحظة إلاّ واستغلها في ضربي، خاصة أمام الآخرين، ليثبت لهم حسن أدائه، كما أن الأمر محمود لديهم مادام المتهم عربي، وكان هذا الرجل هو نفسه صاحب البيت الذي عملت فيه، أتتخيل الصدفة؟! لكنه لم يتذكرني، حتى أنه لم يفكر في ذلك، فهؤلاء من الغرور لدرجة لا يقيمون لنا وزناً، كما أنني في تلك الفترة لم أتعامل معه لا من بعيد ولا قريب، ولما كان يضربني في أحد اليام، وكنت مقيداً أمامه في الكرسي من يدي وقدمي، قفزت فكرة أمام عيني وشكلت سؤالاً صار يتفلت من على لساني، وقررت أن أرمي به في وجهه، وتذكرت والدتي عندما كانت ترمي بقتصتها هذه في وجه أيٍ كان في ظروف مشابهة، عندما كانت تُردد وتقول” قال الله للقرد أريد أن أسخطك، فقال القرد: أأكثر من ذلك يالله، إنني قرد وطيزي حمراء”، وقلت في نفسي “نعم …أكثر من القرد لن يخلق الله”، فحملت كلماتي ورميتها في وجهه وقلت:

سكب ما تبقّى من الشاي في حلقه مباشرة، كأنه يرمي بعيداً بما يُربك إكمال قصته وإتمامها، وتابع قائلاً، قلت للضابط بجدية كاملة:

ـ أتعتقد أنني لا أعرفك؟ أتعتقد أنك بعيد عن أيدينا؟ لقد صار إسمك وعنوانك في الخارج أيها الغبي، وقفت عيناه عن التحرك، وتسمرت يمناه، وبالكاد فتح فمه سائلاً:

ـ ماذا تقول؟ أتحادثني أنا؟

ـ أيوجد أحد غيرك في الغرفة معي؟

قلت مؤكداً وتابعت هامساً:

ـ ألست من بتاح تكفا؟ألا تسكن في شارع “يافو” رقم تسعة؟!!!

عادت يده إلى جنبه، تحول لون وجهه إلى لون الموت، كأنه، دفعة واحدة، فقد كل قطرات الدم منه، أو كأن الدم لم يعد قادراً على الصعود بعد أن إغلقت ابواب الشرايين أمامه، ولسانه الذي كان إلى قبل لحظات يتفنن بلسعي وجَلدي بكل ألوان الشتم، قد شل أو أنتزع من مكانه، وصار ينظر حواليه، وقال بصوت هامس راجف جبان:

ـ أرجوك… لدي زوجةوأطفال، إنني أقوم بعملي فقط…أرجوك

كان يتلفت مذهولاً مرعوباً، يقطر الجبن منه كما يرشح الماء من زجاجة مثقوبة، وقال من جديد:

ـ لن أمسك بعد الآن، وأنت إبق على ما أنت عليه، لا تعترف، وسأعمل على أن ينتهي التحقيق معك بأسرع وقت، ثق بي أرجوك…

ودون أن أنطق بكلمة، أكمل:

ـ إعتبر الموضوع منتهياً…

وصار أثناء شبحي يأتي ليخفف من ضغط القيود على يدي، وكان يُغرق زنزانتي بالسجائر، ولم تمر إلا أيام قليلة ورأيت نفسي بينكم في الزنازين، وكان التحقيق قد انتهى كما رأيت…

وأكمل مستغرباً:

ـ لم أكن أتوقع هشاشة هؤلاء الأوباش، لقد قلت ما قلت من باب الإستفزاز والإرباك، لكن للجبن قوانينه، كما للشجاعة قوانينها، ومهما عظمت القوة في يد الجبان وتضخمت، تكون مثل البالون فقط، فعماد القوة الشجاعة، وعماد الشجاعة الإصرار عل نيل الحق…

وتحدثنا وضحكنا، وعبثاً حاولت أن استضيفه في بيتي، لكن وقع كلماتي كان عليه جميل، وصرت أفكر بكلماته وأجلد نفسي، ” كيف استسلمت أمام مثل هؤلاء الجبناء؟ كيف استطاعوا هزيمتي، ولاحقاً دعوت الله ليساعدني في رد إعتباري لنفسي، وكنت متيقناً أن هذا لن يتم إلا بجولة جديدة من التحقيق.

محمد النجار

إحذروا الإخوان والسلطان… فشيمتهما الغدر

كنت أراه مراراً جالساً على مقعد صغير على باب بيته، بحطته الفلسطينية القديمة وعقاله الأسود، كأنه تمثال حجري قديم لا يتزحزح، يجالس، في أغلب أوقاته، الطريق، هادئاً صامتاً ثابتاً عابساً راسخاً كصخرة جبلية لا تحركها ريح ولا تهزها عاصفة، ولا تستطيع قوة، مهما عظمت، تحريك شفتيه المطبقتين على حفنات من الكلمات، اللواتي يمكنها تفسير حالته وشرح مأساته. نادراً ما ذهب وجاء إلى أي مكان، يغادر مكانه في أوقات معينة فقط، هي على الأغلب أوقات الطعام في بيته، الذي يقذفه خارجه كل صباح ويُجلسه أمامه، حتى يأتي أحد أفراد أسرته، ليأخذ بيده ويدخله لداخل البيت، وكنت أثناء مروري، من ذات الطريق، إلى بيتي، ولا أجده جالساً، أشعر بعرْي المكان، بفراغ الطريق وموته، كأن شيئاً ناقصاً، وكأن الطريق قد فقط سمته وخصوصيته، وإلى حد كبير فقد الحياة، التي طالما ميّزته عن باقي طرقات المخيم وجعلته حيّاً، إذا إستثنينا لعب أطفاله الكثر كما بقية أزقة المخيم وطرقاته المبعثرة، كما وبتاريخه الذي ما يزال حياً بوجود هذا الرجل ـ التمثال، وأمثاله، في وسطه، فرغم صمت هذا الرجل إلا أنك تستطيع تلمس عبق التاريخ وشموخ الوطن، أصله وفصله من تاريخ مكتوب ومحفوظ وصامت، أو مسكوت عنه ومُغيّب، أو حتى تائه بقصد في زحمة الأحداث ومخططات التزوير والتقسيم ومسح الذاكرة.

كان لا يتحدث مع أحد، ولا يُزعج أحداً بمتطلباتٍ مهما كانت صغيرة، يرد التحية على من يلقي بها عليه بما يشبه الصمت، ثم يعود إلى نفسه وأفكاره وهمومه التي لا يعرفها أحد البتَّة في المخيم كله. تراه أحياناً ساكتاً ساكناً مثل صخرة، وأوقاتاً قليلة يتحدث مع نفسه، لكن أحداً لم يظن يوماً أنه مجنون أو معتوه، وفي أكثر المبالغات في وصفه، كان يقول البعض “أنه رجل على باب الله”، لكن ما تبقى من قُدامى من جيله، ممن عاصروه وعرفوا قصته، كانوا في كثير من الأحيان يذهبون بكراسيهم ويجالسوه، رغم سكوته الدائم، متناقشين متحاورين في شتى الأمور، خاصة حول ما يجري في بلداننا التي ما زالت تأكلها النيران، وتحاول تفتيتها “الجراذين” بمختلف المسميات، يُدلي كل منهم بأسهمه، يختلفون ويتفقون، يتناقشون على مسمعه دون أي ردة فعل منه، لا بالأخذ ولا بالرد، حتى تأتي مواعيد مغادرتهم، يسلمون عليه ثم يغادرون، ويظل هو في مكانه على كرسيه نفسه، ثابتاً، مثل صنم حجري، لا يتحرك.

منذ ما يقرب من ربع قرن والرجل ـ التمثال، على حاله هذا، بعد أن كان عَلَماً من أعلام المخيم، منذ أن قيل له: ” جد لك عملاً آخراً… لم يعد لدينا لك مكان…كما أن ميزانيتنا لا تسمح ببقائك متفرغاً”، منذ ذلك التاريخ وجد نفسه دون أي قيمة ولا كيان، رجلاً لا لزوم له ولا مكان، فهو لم يطلب أن يكون متفرغاً، بل هم من طالبوه بذلك قبل عقدين من ذلك الزمن، عندما كان القابض على مبادئه كالقابض على الجمر، حينما عز الرجال في الزمن الصعب، والتزم ووافق تاركاً عمله لمصلحة العمل الوطني، واعتقل مرات لم يعدقادراً على عدّها، ولم يعترف يوماً على أحد رغم وصوله حد الموت مرات ومرات، وأصيب في ذراعه ورفض الذهاب للمشفى، كيلا يمنحهم فرصة الضغط عليه من خلال جرحه، والله وحده الذي ستر ذراعه من البتر، عندما مزقت الرصاصة عضلاته دون العظم، وبعد استبعاده حاول العمل، لكن شبابه كان قد خدعه وغادر، لا يدري هو متى أو أين، وكيف بهذه السرعة وعلى حين غرة، دون إذن أو إعلان، وعمل وعمل بما تبقى لديه من عضلات، من بقايا قوة ظلت متشبثة في العظام، ولما تعذّر الأمر ارتضى بالقليل، وظل أحد أبرز شخوص المخيم الوطنية، ورجل إصلاحها الأول، وكاد يمر فوق الأمر بهدوء لولا ما تم بعد إعتقاله الأخير.

عام كامل ظل في سجنه الإداري، لم يُقدم له رفاقه محامياً ولم يصله منهم مؤونة ولا غذاء، إلاّ من زوجه التي لم تكن قادرة على إطعام أطفاله، ولولا عمل إبنه البكر أحمد، إبن السابعة عشر عاماً تاركاً صفوف دراسته، لما لقيت العائلة ما يسد رمقها، كما ان “جماعته” “كما سمّاهم دائماً بسبب التحبب وشدة القرب”، لم يتفقدوا عائلته يوماً أثناء سجنه ذاك، ورغم كل ذلك تخطى الأمر وتجاوزه، لكن أن يخرج من السجن ويزوره الناس جميعاً إلّا “جماعته”، فكانت الضربة الأكبر له.

كان ينتظر أن يأتوه، أن يفرحوا به، أن يُهنئوه بسلامة خروجه، أن يخجلوا قليلاً ويعتذروا على تقصيرهم معه، وكان سيسامحهم لو فعلوا وينسى كل الإساءات والتقصير، لكنه لم ينتظر إلّا الهواء، فصار يخرج إلى باب داره حاملاً كرسياً من القش، ويجلس على باب بيته منتظراً، لعل وعسى، وظل يفكر لماذا، فهو لم يُقصر يوماً بعمل ولم يتهرب أو يتقاعس، كما لم يخن أحداً لا في حياته ولا سجنه المتكرر، بل بالعكس، فلطالما أوقف إعتراف الآخرين بصموده، فكان الحائط الذي لم يمروا منه أبداً، وظل يحاول إيجاد سبباً مفقوداً لم يجده إلى يومنا هذا، فصار يشعر بإغتراب لم يعشه أبداً، وقال كلمته تلك لولده الذي ظل يتذكرها رغم سنه المبكر، قال ” أن تكون غريباً بين جماعتك… بين أبناء بلدك… هي الطامة الكبرى، الإغتراب يابني أقسى من السجن والزنازين والتعذيب، بل حتى من الغربة نفسها، أقصى بكثير…” وسكت، ولم يتحدث بعد ذلك أبداً، ابتلع كل الصمت الجاثم في فضاء المخيم كله، وتحولت عيناه الى زوج من الكريات الزجاجية، وماتت البسمة التي كانت تميزه، وسرعان ما صار يتحول لون بشرته إلى لون الموت، وصارت تتراجع حركات جسده، فصار يتحول كل الجسد إلى عصب صخري ثقيل، يكاد لا يربطه رابط باللحم والدم الآدميين، وفي تلك المرحلة بالذات، داهم المخيم والمدينة وكل القرى المجاورة، بركان أقسى بكثير من بركان النكبة، بركان اجتث الأخضر واليابس، فأعاد خلط الأوراق والألوان والأقلام، فصار أخ الأمس عدو اليوم وعدو الأمس رفيق اليوم، ورفعت أغصان الزيتون على دوريات الجيش الذي كانت، بقايا دماء النساء والأطفال، عالقة بها مُتشبثة ترفض النزول، كشاهد على جرائم ترفض الإندثار رغم مرورها في دهاليز الزمن وجريانها مع مزاريب التاريخ، ومع تفجر بركان “أوسلو” المدمر ذاك ومرور الأيام، صارت حالة التمثال تتقدم على حالته الإنسانية، فصارت تتراجع روحه، أو ربما الأصح أن روحه صارت تتغطى بالتراكم الصخري وتفقد حياتها شيئاً فشيئاً، ولم يعرف أحد أبداً، أن ما حدث لأبي حاتم كان بسبب البركان أم بسبب الإغتراب، أم بسبب الإثنتين معاً، أو لأسباب أخرى لا يعرفها أحد.

هذه قصة أبو حاتم التي عرفتها في “سجنتي” الإدارية الأخيرة، فسلطتنا لا تستطيع أن تحمي نفسها ناهيك أن تحمي شعبها، وجنود الإحتلال يسرحون ويمرحون ويداهمون ويعتقلون ويُصيبون ويقتلون دون مواجهة أو دفاع ولا حتى رفض أو إعتراض، فداهموا المخيم واعتقلوني وآخرين، وحولوننا للإعتقال الإداري، وهناك التقيت “أبا إبراهيم” الذي حدثني عن “أبي حاتم” ،الذي صارت قصته تتراجع وتتقلص في العقول، وتضمر وتغور بعيداً في النسيان. لذلك وبعد خروجي ذهبت لعنده، جلست مقابله على باب بيته، حاولت محادثته، إغتصاب نظرة، حركة، بسمة، دون نجاح، لكنني، رغم ذلك، بقيت أتردد عليه بين وقت وآخر، ربما من باب الشفقة أو الإحترام أو العرفان لهؤلاء الذين لا يموتون إلّا واقفين، جذورهم مغروسة في قلب الأرض ورؤوسهم عالية في حضن الشمس، وصرت أحدثه عن قصص السجناء ومآسيهم التي خلقت كل هذا العنفوان لديهم، تلك القصص التي ما أن صارت جزءاً من الماضي حتى أصبحت مجالاً لأكثر حالات التندر، مدركاً أنه جزء منها، ممن نحتوا قصصها في فضاء الوطن كله، بعد حفرها عميقاً في خلايا جسده، ثم حدثته عن “أبي إبراهيم”، ونقلت له سلاماته وتحياته، الأمر الذي خلق لدي إنطباعاً بأنه فوجئ لأن هناك مَنْ ما زال يتذكره، وأن تاريخه لم يتم نسيانه، لم يمت بعد، بل ما زال حياً عند جزء من الناس على أقل تقدير، فأكثرت من الحديث عنه، وبالغت في نقل أخباره، لكن دون أن تصدر عنه أي إشارة على أنه يسمعني، بل ظلت عيناه الزجاجيتين زجاجيتان، ولون الموت الأبيض الصخري يغطي وجهه، ولم يلتفت لي أو يُغير من طبيعة جلسته أبداً.

لكنني ولسبب ما واصلت زياراتي ومجالستي له، وصرت أنقل له الأخبار اليومية ورأيي بها، خاصة ما يجري من تدمير لأوطاننا، وللحق لا أعرف حتى الآن لماذا كنت أفعل ذلك، ولطالما كنت أتمنى لو كان والدي مثله، والدي الذي ظل يعتبر نفسه مُحايداً أو حتى غير معني بكل مل يتم في مخيمنا أو خارجه، وأكثر ما فعله في حياته هو الدعاء على “اليهود” والدعاء لأمة المسلمين، كنوع من الهروب من المسؤولية، لكن الله وكأنه لا يريد الإستماع له أو لمن لا “يعقل ويتوكل”.

تردادي المتكرر لاقى استغراب الكثيرين من سكان الشارع، بما في ذلك أبناؤه، لكن أولاده سرعان ما استحسنوا الأمر، وصاروا يأتون لي بكأس شاي أو فنجان من القهوة كلما وقعت قدماي في المكان، وسرعان ما تحول وجودي لعادة أو شئ مألوف فيما تلى ذلك من أيام…

قلت له في مجالساتي المتتالية له، أشياء يعرفها أفضل مما أعرفها، وأشياء ربما لم يسمعها أو يعرفها منذ فترة مرضه أو إغترابه هذا الذي لم يخرج منه، وكان جل هدفي أن أحدثه، أن أرى منه كلمة أو إشارة أو حركة، قلت:    ـ منذ زمن قسّموا القضية، بعد أن رموا بنا خلف العصر ووراء التاريخ، فكان التاريخ العثماني وبال علينا، فبعد محاولات تتريكنا وسلب خيرات بلادنا، سلخوا لهم جزءاً من أرضنا، وأعطوا الباقي “لسايكس وبيكو”،وسرعان ما صار “بلفور” يوزع بلادنا كوطن قومي لللآخرين…

وسكت قليلاً، ثم أضفت:

وها هم أنفسهم، العثمانيون، مع ورثة “سايكس وبيكو” يدمرون بلادنا لتقسيمها واقتسامها، ليجعلوا من أحفاد “بلفور” البلد الأكبر والأقوى والأكثر تماسكاً، وربما الأكبر عدداً كما الأكثر عدة، أتتخيل لو استطاعوا تقسيمنا بين مذاهب وطوائف ماذا كان يمكن أن يحل بنا؟ستكون أكبر دولة أصغر من كيان بني صهيون!!!                             ولم يكن ليتطلع إلي في أي يوم، ورغم كل ما سمعته عنه وعرفته، إلاّ أنني بقيت أنظر له على أنه من الجيل الثائر وليس الجيل المهزوم، وهذا ما يميزه عن والدي الذي ما زال يدعو الله دون نتيجة، دون أن يكل أو يمل، وفي يوم آخر قلت له:

ـ ما زال “الأتراك” لديهم معسكرات “لداعش والنصرة”، يتدربون فيها على فنون قتلنا وتذبيحنا في الشوارع، بقيادة ضباط من “أصحاب الوطن القومي” والأمريكان والأتراك وآل سعود، لذلك عندما احتجزت لهم داعش فريقهم الدبلوماسي في الموصل، أطلقوا سراحهم دون أن يمسوا منهم أحداً “حفظاً للجميل”، تسع وأربعون دبلوماسياً لم يُجرح أو يهان أو يوبخ أو يقتل أحد منهم…. أتتخيل مدى العلاقات…

في كل ترددي ظل موضوع الغزو التركي ومحاولته تقسيم أوطاننا، ما يشغل بالي وما أقوله وأكرره على مسمعه، وصرت كمن يتحدث إلى نفسه دون أن يتلقى جواباً، لكنني أنا الذي ظل والدي يلقبني ب”العجول” على مدار حياتي، كنت طويل البال، وأتحدث مع أبي حاتم وكأنني أتحدث مع إنسان كامل الإنسانية وليس مع رجل تحوّل إلى صنم أو تمثال، رجل تحول اللحم والدم فيه إلى حجارة وصخور، وكنت أجلس بالساعات أحياناً ولا أكف عن الحديث، وقلت في يوم آخر:

ـ “السلطان العثماني الجديد”، يرفض أن يقترب أحد من حدوده، يعتبره مُهَدِدَاً لأمنه القومي، لكنه يتدخل في بلادنا، ويطالب صراحة بإسترجاع ما سلبته دولته العثمانية، يريد حلب والموصل وسنجار وكركوك ودابق وإعزاز، وبكل صفاقة يتدخل بمن يحق له في بلادنا محاربة الإرهاب ومَنْ غير المسموح له بذلك، وبعد أن إنهمكت جيوش سوريا والعراق في حربيهما، صار يرسل الدواعش بطائراته لكركوك ليعيقوا تقدم الجيش العراقي ويبعث بضباطه لتلعفر والموصل ليحاربوا بأنفسهم هناك، وليفتحوا الطريق للدواعش ليهربوا الى الرقة السورية عبر أراضيه، ويفعل كل هذا مُدعياً محاربة الإرهاب.

سكت حينئذٍ قليلاً ثم تابعت شارحاً كي لا أكف عن الكلام، وقلت:

ـ ها هو قد أدخل قواته لجرابلس ودابق، في الشمال السوري، دون أن تُطلق ولو رصاصة واحدة بينه وبين الدواعش، ليس هذا فحسب بل كل ما في الأمر أن الدواعش غيروا أعلامهم بأعلام “الجيش السوري الحر” التابع للأتراك، فصار الأتراك محاربين للإرهاب!!! أتتخيل كيف يمكن أن تستقيم الأمور؟ أن يكون جيشاً سورياً وحراً وهو تابع للأتراك والأمريكان، ويتدرب على يدهم ويد آل سعود وبني صهيون!!! والأمرّ من كل ذلك وأدهى أن هذا “السلطان العثماني الجديد”، يقود دولة علمانية، لكنه يريدنا أن نقتسم إلى طوائف ومذاهب وأديان!!! وهو نفسه، حامل لواء السلطنة والخلافة والإسلام،  أمر أخيراً محاكم بلاده بإسقاط ملاحقتها للصهاينة المجرمين الذين قتلوا أبناء شعبه التركي في سفينة مرمرة!!!!

ظل الأمر على حاله مع أبي حاتم، وبقيت أشرح له، أو الأصح أنقل له آخر الأخبار والتطورات في سوريا والعراق، وآخر أخبار اليمن السعيد الذي يحاول آل سعود أن يحرقوا سعادته، ودور الإخوان المسلمين المتواطئ مع السلطان العثماني، ودورهم في استجلاب كل حثالات البشر لقتل شعبنا العربي ومحاولة تقسيمه في غير مكان، تماماً كما فعلوا بإرسال أبنائنا لحرب الروس في أفغانستان لمصلحة الأمريكان، في قضية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وها أنت ترى أفغانستان بعد عشرات السنين من حكمهم الإسلامي، كإحدى أوائل الدول الفاشلة في العالم، بعد أن كانت على أبواب الحضارة والتقدم، هؤلاء الإخوان أنفسهم لم يستجلبوا ولو فرداً واحداً لمحاربة الإحتلال منذ سبعين عاماً، وحاربوا كل من حاول محاربته وتحالفوا مع من صادقه…

وقدمت له خلاصة الأمر على لسان موشيه آرنس أحد وزراء حرب كيان إسرائيل، وأحد أكبر باحثيه الإستراتيجيين، والذي أكد أخيراً، “أن كيانه فشل في الرهان على تنظيم القاعدة وداعش، لتحقيق ما عجز عنه جيشهم في ضرب المقاومة عام ألفين وستة”، ولم أكن أنتظر أي رد كعادتي، وقبل أن أقوم، وضعت ركبته في باطن يدي، وقلت:

ـ سآتي بعد يومين لأراك، يوم الجمعة يا أبا حاتم…                                                                           وأنا الذي لم أُناده ولا مرة حتى الآن بلقبه هذا، وجدت سيلاً من الدمع يأخذ له مجرى في أخاديد وجهه، أخاديد كان الزمن وسنوات عمره قد تآمرا عليه وخطوهما مثل سكة حراث في أرض بور، دمع متدفق وكأنه نبع قد تفجر لتوه واندلق، ولم يئن أو يتلوى أو يتألم أبو حاتم هذا، أو على الأقل لم أشعر أنا بذلك، وتفادياً للحرج، قمت وخرجت وتركته في مكانه وكأنه تمثال، بقدرة قادر، ينزف دموعاً لا تتوقف، تسير في أخاديدها مثل جدول…

كان حينها الوقت وقت غروب، تتمايل الشمس فيه متثاقلة نحو المبيت، كطفل يقاوم النوم ولا يستطيع رده، جلست على كنبة في صالون بيتي، وفتحت التلفاز دون أن أسمع ما يقول، وكنت ما زلت أفكر في دمعات ذلك الرجل العجوز المنهارة من إرتفاع عينيه إلى ما تحت ذقنه شبه الحليق، وكأنها تريد الإنتحار ولم تستطع، فظلت معلقة في أطراف ذقنه، تتراخى أيديها، غير قادرة على الثبات ولا على الإنهيار، فلا ذقنه شبه الحليق أمتصها، ولا تراخت يديها لدرجة الإنهيار، لكنه سرعان ما إحتضنها بباطن يده، وكأنه يريد أن يخفي جرماً قد إقترفه.

كانت الظلمة قد بدأت تفرد أجنحتها فوق المنزل والمخيم، وربما فوق المدينة نفسها، عندما تسلل إلى أذني صوت طرق هامس على باب بيتي، طرق متراتب هادئ، كأن الطارق يخاف أن يجرح حديد الباب، لكن لرجل سياسي مثلي، عرفت أن القادم أحد رفاقي الذي أراد أن لا يلفت الإنتباه إليه، وقدرت أن في الأمر شيء جلل، وبهدوء قمت وفتحت باب بيتي، لكن المفاجأة جاءتني حادة قاطعة كنصل سكين واضح لا لبس فيه، لقد كان أبو حاتم واقف على بابي متلفتاً ميمنة وميسرة، كأنه يقوم بعمل سري لا يريد أن يلفت الإنتباه إليه، كما في الخوالي من الأيام، رحبت به وأدخلته وأجلسته مكاني وجلست مقابله، وقبل أن أبدأ بالحديث كعادتي قال هو هذه المرة:

ـ ظننت أن من المفيد أن لا أنتظر ليوم الجمعة كي نلتقي، فبعض القضايا لا تحتمل التأجيل ويوم الجمعة ما زال بعيداً، ومن هم في مثل سني لا ضمانة عندهم ليعيشوا أبعد من يومهم، فما بالك بأيام حتى يجيء يوم الجمعة…

فقلت:

ـ خير يا عمي أبا حاتم…أُأْمرني…

فقال:

ـ عليك الذهاب إلى سوريا…

قلت:

ـ لكنني كما تعلم ممنوع من السفر، لكن لماذا؟

سكت قليلاً وكأنه يفكر في حل لهذا اللغز وقال:

ـ إذن إبعث من تثق به لهناك، إبعثه للقيادة السورية ليقل لهم وعلى لساني أنا أبو حاتم المهدي، الذي كان له ماض مشرف، أن لا يثقوا يوماً لا بالسلطان العثماني ولا بالإخوان المسلمين، فالغدر من شيمهما، بل هو ما يميزهما…

وقام من مكانه متوجهاً إلى الباب، وغادر قائلاً:

ـ اللهم اشهد فإني قد بلّغت… سأذهب حتى تستطيع تدبير أمورك بسرعة…

وغادر، وبقيت وحدي، وفكرت في كلماته، وكنت كلما فكرت في الأمر وبأي إتجاهٍ، وجدتني أصل لنفس خلاصته، فالغدر من شيم هؤلاء الناس، كانت الإنتهازية والتجارة بالدين والكذب والنفاق من ميزاتهم، ونادراً ما تجد مبدئياً واحداً في هذه الأوساط، وفكرت بأن القيادة السورية وبعد تجربتها الطويلة الدامية معهم، لا بد أنها توصلت لنفس خلاصة أبو حاتم المهدي…

إنتظرت يوم الجمعة بفارغ الصبر، وما أن إبتدأت الشمس تشق لنفسها طريقاً فوق الغيوم، بين نجوم السماء المتخفية في متاهات الدروب هروباً من عيني النهار، حتى وجدتني أحتضن كرسياً من القش وأتوجه مباشرة إلى الطريق، حيث أبو حاتم يجلس كالعادة على كرسيه، إقتربت منه حاملاً ابتسامتي فوق شفتي، وما أن جلست حتى نظر نحوي وبيده كوباً من الشاي على غير العادة، هززت له رأسي بالإيجاب وكأنني نفذت نصيحته، رأيت محاولة ابتسامة نصر تحاول الولادة المُيسرة من تحت شاربيه، لم يقل أبو حاتم المهدي شيئاً، ولم ينبس ببنت شفة، لكنه نظر إليّ طويلاً ثم ناولني كوب شايه لأشربه.

محمد النجار

إن لم تستحِ فافعل ما شئت

أكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أن روايته حقيقية، لا تشوبها شائبة، وأن المتشكك أو الملتبس عليه البحث في كتب التاريخ، القديم منه والحديث، متنوراً متبصراً ليعرف ويتأكد من ذلك بنفسه، وأكد أن من الصحيح القول أن النار تخلف رماداً إن لم تسقها بالمزيد من العمل والحطب والبنادق والأفكار، لذلك لا تستغربوا أن يكون الرماد أحياناً ميتاً خالٍ حتى من بعض الشرارات، حيث الأمل مفقود، والنار محاصرة معزولة محبوسة، لذلك فالإبن اللص لا يشبه أبيه الأمين بشيء حتى لو كان من نفس دمه، بل يكاد يُخرج أباه من قبره، محتجاً غاضباً صارخاً به، أن يتوقف عن النذالة والحقارة والعبث، لذا فشتّان بين الأب والإبن، في كثير من الأحيان كما شتان بين الثرى والثرية.

وأضاف الراوي أن الأمر ينطبق على معظم رموز سلطة بني كنعان، منذ نشأتها وحتى تتهاوى على رؤوسهم، من أعلى الهرم، رأسهم ورئيسهم، و”خليفتهم”حتى وإن لم يصم أو يصلي، ولا حتى يقوم الليل إلا لتفقد تكاثر المال في الحسابات والبنوك، مروراً بحاشيته التي باعت وطنيتها وضميرها واستعاضت عنهما النفاق والكذب والتبعية، التي تساعدها في تكديس المال ودفن الكرامة والمروءة والأخلاق.

وأضاف الراوي، معطياً مثالاً على ذلك:

أن هناك من الأسماء ما يتناقض مع أفعال صاحبه، فحين تقول “الطيب”، يمكن أن يعني الخبيث، وأن “الطيب” في “الطيب عبد الرحيم”، هو اسم وليس صفة، وخلافاً لأبيه، فمن أبرز صفات صاحبه، الكذب والنفاق واللعب على الحبال من أجل حفنة مال، ومثال ذلك أن الرجل كان من أكثر الناس إلتصاقاً برئيسه السابق ياسر عرفات، وكان يدافع عنه ب”الباع والذراع”، وخاصة أمام خصمه اللدود المدعوم أمريكياً، والمقبول من الصهاينة العرب كما الصهاينة الأصليين، السيد عباس، وتخال “الطيب” أحياناً قائداً وطنياً صلباً ، يرفض وصول عباس للسلطة على حساب عرفات، أو حتى أخذ جزء من صلاحياته، ويعتبره مؤامرة على الوطن والقضية، وخطوة على طريق تصفيتها، لكن ما أن توفى الله عرفات وجاء خليفة سلطة أوسلو الجديد، حتى صار “الطيب” من أهم أعمدة “الخليفة” الجديد، ويعلم الله أنه لو جاء أي رئيس آخر بما في ذلك “الدحلان” الذي يعاديه اليوم هذا “الطيب”، لانقلب على نفسه وصار من أقرب المقربين له، مقابل الإحتفاظ بمركزه المالي والإقتصادي، وقوته وتأثيره السياسي ، ويقول البعض أن الله وحده يعلم كيف تتم الإنقلابات داخل كيانات هؤلاء البشر، فيصبحون اليوم نقضاء الأمس، ويدافعون اليوم عمّا حاربوه بالأمس. لكن ومن باب نقل الأمانة كما هي يؤكد الراوي، أن الرجل كان رجل ثقة عند رئيسه الأول وولي نعمته الذي علمه وجعله سفيراً ووزره وأعطاه المناصب والمراكز العليا على طول الطريق، وما يؤكد الأمر تسلم الرجل مسؤولية رئاسة اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد ومحاربته، منذ أواسط التسعينات، وحقق الرجل ما تعجز عنه مؤسسات بأكملها وعدتها وعديدها، الأمر الذي “نظّف” البيت الكنعاني برمته من الفساد والفاسدين، ومن “عواهر” السياسة، ومن الطفيليات البشرية والمنافقين، ولم يبق به لا إنتهازيين، ولا متملقين، ولا طفيليين، لذا وصلنا لما وصلنا إليه الآن، بعد مرور عشرين عاماً كاملة على تشكيل تلك اللجنة، وهذا غيض من فيض من إنجازات الرجل، كي لا نتحدث عن إنجازاته في لجنة الحوار مع المعارضة الفلسطينية، أو في داخل الخارجية الفلسطينية وسفاراتها التي لن تجد فيها ولو سفارة واحدة ولا سفير واحد تنخر بهما مخابرات العالم وسفلته، ولن تجد منهم فاسداً واحداً، أو سفيراً غير مؤهل أو لصاً أو عابثاً أو سكيراً أو حتى تاجراً، تماماً كما أعضاء المجلس الوطني الذي هو أحد أعضاءه، والذي يرفع يده به أوتوماتيكياً ويهز برأسه كلما سمع صوت ولي نعمته، وكذلك لا يمكن نسيان دوره، في تعميق الديمقراطية في مؤسسات السلطة وداخل حركة فتح نفسها، وداخل مؤسسة الرئاسة في السلطة، والأهم حفاظه ومن معه من قيادة “رعاها الله” حفاظاً مستميتاً على القرار الوطني المستقل لبني كنعان، لدرجة أصبح كل من هب ودب، بما في ذلك الإمارات “بلا صغرة” تحاول فرض رئيساً علينا!!!…

ويضيف الراوي، أن ما ذكّره بهذا الأمر الآن وفي هذا الوقت بالذات، ما قاله وصرح به هذا الرجل من أكاذيب وقلب للحقائق، عندما صرّح باسم الرئاسة وبإسم الرئيس شخصياً، أنه يدين بشدة قصف أنصار الله والجيش اليمني لمكة المكرمة، رغم أن كل العالم أقر بأن القصف كان لمطار عسكري في جدة “غير المكرمة” وليس ل”مكة المكرمة”، وهو ومن حوله يعلمون ذلك، ثم و”ما دمتم تقولون أنكم حياديون، فلماذا لم تستنكروا ولو مرة واحدة وبنفس الطريقة والقياس، وحتى لو من باب رفع العتب، أو التساوي في الإدانات، المجازر ضد المدنيين التي يقوم بها آل سعود، لهذا الشعب الذي قدم للقضية الغالي والنفيس، وكان دوماً في مقدمة الشعوب الداعمة لها وبالدم؟ وإن كان لديكم حرج في موضوع اليمن، فلماذا لم تحتجوا على إعتقال “خالد العمير” الذي حكمت عليه محاكم آل سعود بثماني سنوات من السجن الفعلي لا لشيء إلّا لأنه استنكر حرب بني صهيون وقصفهم لقطاع غزة؟ ألا يستحق الرجل منكم ولو كلمة تضامن واحدة معه ؟وإن كنتم لا تهتمون بالبشر بل بالأماكن المقدسة، فلماذا لم تستنكرون ما قصفه آل سعود من مساجد داخل اليمن؟ ولماذا لم تستنكروا تدمير الكعبة من آل سعود على رأس الثائر جهيمان العتيبي وجماعته؟ أو لماذا لم تستنكروا يوماً تدمير المقابر والمساجد التاريخية، ولا حتى قبور الصحابة أنفسهم على يد الوهابيين في مملكة العهر والظلام؟ وما دمتم بهذا الوضوح وهذه الصلابة مع آل سعود، لمبدئيتكم طبعاً وليس خوفاً وطمعاً، فلماذا لا نرى منكم خطوة عملية واحدة على قتل الصهاينة لأبنائنا؟ أم لأنهم أبناؤنا وليسوا أبناءكم؟ فأبناؤكم يتسوحون ويتعلمون ويتاجرون في بلاد العم سام!!! ولماذا لم ترفعوا صوتكم مرة واحدة وتتقدمون حتى لو بشكوى ضد الإحتلال عل ما فعله بأقصانا وصخرتنا وكنائسنا ومقابرنا إلى محكمة الجنايات الدولية حتى لو من باب إغلاق أفواهنا؟”

ويضيف الراوي قائلاً، فعلاً “إن لم تستحِ فافعل ما شئت”، فإن المذكور ومن حوله من قيادة مهترئة متصدعة، لم يعودوا يستحون، لذلك سرعان ما رفضوا مبادرة السيد رمضان عبدالله شلح، لرأب الصدع في ساحة “بني كنعان”، وأن الأمر كان متوقعاً ولا توجد به مفاجآت، كونهم يأتمرون بأوامر “الفرنجة” و”بني صهيون” و”الأعراب الأشد كفراً ونفاقاً” من آل سعود وأشباههم، ولم يكن يوماً أمرهم من رأسهم أو بيدهم، كما أنهم لن يقبلوا أن يتخلوا عن السلطة أو أن يتقاسموها مع أي أحد آخر، فمن هو، من وجهةنظرهم، ذلك الأحمق الذي يترك من يده “بقرة” حلوب أو “دجاجة” تبيض ذهباً، ويتقاسم حليبها أو ذهبها مع الآخرين؟ وبجانب الخسارة الإقتصادية هذه، سيقل عدد المسحجين والأنتهازيين والطفيليات من حولهم، الأمر الذي يمكن أن يؤدي لفقدانهم القرار الوطني “المستقل” لبني كنعان جميعاً، وينعكس سلباً على قضيتهم كلها!!!

كما أن الموافقة على برنامج الرجل يعني، إعادة تثوير المنظمة، ورفع رايات بنادقها، وهم، وبعد أن تكرشوا وتعودوا رفاهية العيش وبذخه، لا يستطيعون ترك حياة الفنادق الفاخرة “v i p” والتعود على حياة الخنادق، ويعلم الله أنهم كم يودون فعل ذلك لو استطاعوا، لكنهم لا يستطيعون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لذلك فهم يفضلون البقاء كما هم، “كعاهرات الليل”، يقتاتون على فتات بني صهيون من عرب وغير عرب، على أن يغامروا مغامرات تفقدهم حتى هذا الفتات…

لذلك، يؤكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أنهم، وبمناسبة الذكرى التاسعة والتسعين لوعد بلفور، أناس واقعيون، غير مغامرين، مدركون أن لكل شيء في هذا الوجود ثمنه، وأنهم منذ اللحظة التي خُيِّروا فيها بين “السلة والذلة” إختاروا بكل صدق واقتناع، الذلة ثم الذلة ثم الذلة، كثمن لا طريق غيره لتحقيق الذات، وأن الناس ستعتاد على ما يبثونه بينهم من سموم في الصحافة والإعلام، وسيرتدعون من خلال الملاحقات البوليسية والقتل والسجون، تماماً كما اعتادوا على قرار 242 و على ال”لعم” الشهيرة، وعلى التنازل عن الميثاق الوطني، والتنازل في الأمم المتحدة عن أن “اسرائيل” دولة عنصرية، من كل “التكتيكات” التي قاموا بها، وأن “آل عباس” وسلطته وأبناؤه وحاشيته، تدرك أن التكتيك يجب أن يخدم الإستراتيجية، وأنهم يجزمون أن تكتيكاتهم تخدم الإستراتيجية، لكن إستراتيجية بني صهيون، والتي صارت استراتيجيتهم جزء لا يتجزأ منها، وتخدم مشاريعهم وأهدافهم المشتركة، كما أن هذه التكتيكات تدر عليهم الملايين، وبالنسبة إليهم، فإن الكرامة مهما علت وكبرت ووسعت واتسعت فإنها لا تستطيع أن تملأ جيباً واحداً بالدراهم، عِوضاً عن الملايين، حتى أن بعضهم يسخر قائلاً أن الكرامة لا تجلب إلا الفقر، بل هي والفقر متلازمتان…ومهما قيل، فإن الخنادق لا تجلب غير الكرامة، والكرامة وعزة النفس لا تستقيمان دون تضحية، وللتضحية أخطار وطريق طويل متعب خطر ممل، وفي أحسن أحواله لا يجلب المال، لذلك سنوا القوانين “الديمقراطية”، وسمحوا للمواطنين بالتظاهر لتأييد الرئاسة، وبمشاهدة سيادته خطيباً مفوهاً على شاشات التلفاز، وبقراءة الصحف التي تخضع للرقابة، وحرّموا استخدام السكاكين في المطابخ والشوارع والأسواق، ولما استخدم بنو كنعان أسنانهم في تقشير البرتقال لأكله، اقتلعوا أنيابهم حفاظاً على الأمن العام، وسمحوا للشعب بأسره، ولكل من أراد منه أن يتحول إلى “أنعام”، ومن رفض حاولوا إقناعه بالحسنى أو بالسوط ، أن “يضع رأسه بين الرؤوس ويقول يا قطاع الرؤوس”، وصاروا ينشرون السلام بدل الكره الذي كان سائداً في البلاد لصهيون وبنيه، وظلوا يقنعون الناس “أن يسامحوا بحقوقهم لأن “المسامح كريم”، وأن جزاءهم في الآخرة “خير وأبقى”، وقرروا أن يصمدوا بوجه بني صهيون حاملين الرايات البيضاء بكل عز وشموخ، وأن يظلوا يطالبون “بالمرحاض” الذي حشروهم به دون سيادة، بعد أن أخرجوهم من غرف البيت وساحاته الخضراء.           لذلك كان كلما ضربهم المحتل بحذائه على خدهم الأيمن أداروا له الأيسر، ولما ضربهم على الخدين معاً، وب”الشلاليط” أيضاً على أماكن أخرى، تتحسسوا أماكن الألم وتعايشوا معه في بادئ الأمر، ولما تكرر الأمر وتكاثر ترداده تعودوا عليه، ولم يعودوا يحسون به، واختفت آلامه لاحقاً، وابتدأت تداعياته، فأخذوا يثبتون حسن نواياهم، فقاموا وما يزالون بخطف “المخربين” وسجنهم وقتل بعضهم، واعتقال “المشاغبين”، وملاحقة الأقلام “الجارحة” لتكسيرها، وإغلاق الأفواه وكتم الأنفاس، من باب الإلتزام بالمواثيق الموقعة مع بني صهيون، وتابعوا باقتحام المخيمات والقرى والمدن التي ما تزال تفرخ المتظاهرين، لتخريب كل ما تم انجازه حتى اللحظة من أمن وسلام وتطبيع ومحبة، وصاروا يؤمنون بالله وآل سعود وبني صهيون، ويؤمنون بأن البقاء للأقوى كما أكد القائد نتنياهو، لغيرهم وليس لهم، وأما هم فقوتهم تكمن في شدة بطشهم للمشاغبين المارقين المغامرين من بني كنعان، وبشدة ضعفهم أمام بني صهيون، وأما نتنياهو وإن ضربهم بالنعال، فإن نعاله يملؤها “سلام الشجعان” وتُغلفها الأعلاف، وسكوتهم عما يفعله آل سعود وغيرهم، رغم معرفتهم “أن السكوت عن الحق شيطان أخرس”، لكنه أخرس غني وأفضل من متحدث فقير. وكما يضربهم نتنياهو بحذائه هم يضربون الشعب بالأحذية والرصاص، ليثبتوا له وللقاصي والداني جديتهم في محاربة رافضي الخضوع لهم والخنوع لأسيادهم من بني صهيون عرباً وعجم.     ويؤكد الراوي بأنه لا يستطيع فتح ملفاتهم مجتمعين، بل فرادى وبالتقسيط، لأن رائحة ملفاتهم وسيرتهم تزكم الأنوف وتعمي العيون، وأن كمية العفن والفساد والسقوط واللصوصية، يستحيل وجودها بهذا الكم في بقعة جغرافية صغيرة “كمرحاض” أرض كنعان حيث يقطنون، بعد أن تنازلوا عن المنزل وحديقة البيت، الأمر الذي ربما يؤدي لعكس ما يريده من وراء هذه الكلمات، لذا سيكتفي بهذا القدر فقط في هذا اليوم… والله من وراء القصد.

محمد النجار

إنهم يقتلون الخيول…

أجلستني عناصر الشرطة والمحققون على باب غرفة التحقيق، لأكون قريباً منهم وقتما يحتاجونني للإدلاء بشهادتي، فيبدو أن هذا الرجل “الأكتع” خطير على الأمن العام، خطر ذئب جائع على قطيع غنم، فكما يقول المأثور الشعبي “كل ذي عاهة جبار”، ما بالك وهذا “الجبار” حر طليق يجوب الشورع والطرقات دون رقابة، ومن أمام الباب يمكن سماع نتفاً من التحقيق المتسرب من تحته ومن مساماته الخشبية، ويصير الأمر أوضح عندما يفتحون الباب لأسباب متعددة، دخول أو خروج، قهوة أو شاي، أو لإستحضار أحد الضباط نتيجة لخطورة الوضع والموضوع، أو عندما يتطلب الأمر إستدعاء شاهد ما، حينها ترى وتسمع بكل وضوح، كيف يتدفق نهر الكلمات جملاً بكاملها وفواصل وحروف ونقاط، خارجة من باب الغرفة، متدافعة مع دخان السجائر المكبوت في تلك المساحة الضيقة، ليغطي الرواق الذي نقف على بابه، كما الغرف المجاورة أيضاً . ولست أدري كيف كانت أذناي، حتى والباب مغلق، كالمغناطبس تلتقط الحروف، تجلبها، تُجمّعها، تلملمها من الهواء وتنقيها، كإمرأة موهوبة تلتقط حبات الزوان والحجارة الصغبرة من بين حبيبات الأرز بسرعة فائفة، ثم تصهرها وتُِشكلها كلمات وجمل مترابطة داخل رأسي، رغم أنني رجلاً لا يحب الفضول، بل يمقته، لكن يبدو أن للخوف قوانينه، له إنعكاسات وسلوك وطقوس، الأمر الذي لم أكن أعرفه قبل ذلك أبداً إلا لماماً، في مناسبات متباعدة تكاد لا تُذكر، ما زلت أتذكر تفاصيلها رغم كل محاولاتي الفاشلة لنسيانها، متذكراً في كل لحظة كلمات المرحومة أمي، وهي تقول لي آسفة على الرعب الذي يتلبسني:

ـ يا حسرة يابني، أعلم أن “الرجولة” والشهامة والعزة والإباء لا تُورّث، وعبثاً ذهبت كل محاولاتي والمرحوم والدك أن نحشوها في أوصالك، فهي ليست مثل حبيبات الأرز هذه داخل حبة من “الكوسا”ـ مشيرة إلى ما كانت تحضره من طعام بين يديهاـ من سوء حظك يابني أنها تنمو وتكبر وتبرعم وتثمر في معمعان المعارك، في الزمن الصعب، تتطلب الحكمة والوضوح والتحدي والإقدام، تماماً كما جذور الزيتون التي تخترق الصخور وتُفتتها، في لحظات تمتحنك بها الحياة، لحظات الحسم التي لا مجال فيها لتردد أو تسويف، خوفي يابني من نهر الخوف الذي يندلق في عروقك في اللحظات الصعبة، وينازع دمك على لونه، خوفي أن ينتصر عليه ويغير لونه، أن يحوله الى ماء مُعكّر نجس، ويحولك إلى جبان رعديد، يمقتك بسببه الناس والمجتمع، وحتى زوجتك التي تستقبلك بداخلها ظانة أنك أمين عليها، وتشكل لها السند القوي وحائط الأمان…تماسك يابني تماسك، فبين الخوف والجبن لحظة واحدة أرق من ورقة السيجارة وكم هائل من الدمار، تماسك يابني، إن كل العالم لن يستطيع إصلاح لحظة جبن واحدة إن تفلتت منك وانكسرت، لأن أول خساراتك هي نفسك، وخسارة النفس ليس يوازيها خسارات.

كما أنني لا يمكن أن أنسى توصيات والدي المرحوم منذ صغري، وتنبيهاته لي بأن لا أثق مطلقاً بسلطة أو ملك أو رئيس أو أمير أو عاهرة، لأن كل منهم “عاهر” بطريقته، والعهر واحد لا ينقسم، حتى وإن اختلفت أشكاله وطرائقه، فالعاهرة تبيع جسدها، وهم يبيعون بلادهم ومصالح شعبهم، ولوحدي أضفت اليهم لاحقاً الكتبة والمسحجين والمطبلين من لاعقي الصحون والأحذية، لكنني لم أبح بذلك لأحد.

وعليه وكي أحمي نفسي، فإنني أطلقت العنان لحواسي مجتمعة، لكل قرون الإستشعار عندي، خافية وظاهرة، لتعرف كل ما يدور داخل غرفة التحقيق، فلا أحد ضامن أن لا أتحول من شاهد إلى متهم، ورغم أنني لعنت اليوم بل اللحظة التي أخرجتني من باب منزلي في ذلك الصباح، التي لولاها لما وصلت أمام غرفة التحقيق في قسم الشرطة هذا، بسبب ذلك  “الرجل الأكتع”، إلا أنني لمت نفسي أكثر ولعنتها مراراً على شفقتي عليه، وضعف قلبي على حِنيّته المفرطة، قبل التأكد من أن هذه الشفقة وهذا الحنين لن يكونا في غير مكانهما، لكن ما العمل أمام مثل هذه الطيبة المفرطة والسذاجة القاتلة؟نعم “ليس باليد حيلة” كما يقول المأثور الشعبي…

خرجت من باب منزلي صباحاً كعادتي في الفترة الأخيرة، بسبب دخولي عالم العاطلين عن العمل منذ شهور عدة، لأتفرج على ذلك الرجل الطيب الهرم، الذي يأتي كل يوم ليطعم الحمام البري، فازداد إيماني وثقتي بالله الذي “يرزق الدودة في باطن الأرض”، ولا ينسى من فضله أحدا، ورأيت التفاؤل هذا والإيمان يزيدان التفاؤل داخلي بأن أجد عملاً من جديد، فالدنيا لا تخلو من “أولاد الحلال”، وأنها “إن خلت بلت” كما يقول المأثور الشعبي، وحلمت واعياً أنني ربما وجدت عملي القادم عند هذا الرجل الطيب، مبتعداً عن غابة البطالة الكثيفة هذه، التي تمتد وتكبر وتنتشر مثل النار في الهشيم، حاصدة آلاف الأيدي الباحثة عن رغيف خبز يوما بعد آخر، وعدت أنظر لهذا العجوز المنقذ الذي يأتي للحمام بالخبز و الحبوب من منزله في كل يوم.

لا أستطيع القول من “بيته”، فكلمة “بيت” فيها الكثير من الغبن والإجحاف، ربما الكلمة الأصح هي من “قصره”، وبغض النظر عن المعنى لهذه الكلمة وهذا التوصيف، فالرجل كان يأتي، دعني أقول، من “بيته الكبير”، المؤلف من عدة طبقات، لا أعرف ماذا يحوي أي منها،  لكنني أعرف أن البيت محاط من كل جوانبه ببساط أخضر وشجر مثمر من كل صنف، تلفه الرعاية والشمس والمياه والحنين، وأي تقاعس من قبل العاملين فيه يواجه بالتوبيخ والتعزير والخصم من الراتب الشهري وحتى الفصل من العمل، لدرجة قال البعض أن أحداً من الذين عملوا في هذا “القصر” لم يأخذ يوماً راتباً كاملاً أبداً، وكنت أقول في نفسي “أن الله يعطي اللحمة لمن ليس له أسناناً”، فهؤلاء العاملون الحمقى لا يعرفون ماذا يعني أن يكون لديك عمل، أن تكون ضامناً لرغيف خبزك لليوم التالي، أن لا تسمع بكاء أطفالك متضورين جوعاً وتعنيف زوجتك لأنك لم تجد ملاً، وكأنك قادر على ذلك وترفض أو تتمنع، لذلك هم يتكاسلون ولا يقومون بعملهم كما يجب، وكذّبت صديقي الذي يعمل هناك، عند العجوز الطيب منذ شهرين ويزيد، عندما إدعى أن الرجل العجوز يفتعل القصص ليخصم عليهم أجورهم.

كما يوجد في البيت حمام سباحة في المنطقة الخلفية، ومظلات للحماية من الشمس، كي لا تؤذي أحفاد العجوز وأولاده، ويقول بعض “المبالغين” أن الماء الذي تُسقى به الأشجار والبساط الأخضر يتعدى كثيراً ما يشرب المخيم القريب ويغتسل، وكان للقصر طريق معبد لعبور سيارات أولاده وزائريه من البوابة الحديدية الضخمة، قيل أن تختفي في مكان ما تحت القصر.

لا أعرف لماذا أظل أثرثر بعيدا عن لب الموضوع، فالأمر ببساطة شديدة، أن ذلك الرجل العجوز الطيب لا يستطيع تجنب قعل الخير، فكان يخرج في كل صباح باكر ليطعم الحمام خارج قصره، باقياً حتى ساعات الظهيرة القاسية، يخرج ببنطال رياضي طويل، وبلوزة أو سترة من اللون نفسه، يفوح منهما رائحة النظافة والنقود، متوجهاً إلى ظل شجرة قريبة من الطريق العام، يجلس على كرسيه الذي يحمله أحد عمال القصر يُجلس عليه العجوز قبل أن يعود.

يبدأ العجوز بتقطيع الخبز ونثره على بعد خطوات من قدميه، وكان الحمام يأتي حائماً تحت سقف السماء، سابحاً على أمواج الهواء، مقترباً من أرض الطريق، ثم سرعان ما يشق الهواء بمنقاره ورأسه الى الأعلى، يعاود “الكر والفر” مرات ومرات قبل أن ينزل بحذر بعيداً عن الرجل في أول الأمر، ليلتقط ما تيسر من غذاء، ثم يأخذ بالإقتراب قليلاً قليلاً، وسرعان ما صار يتخلى عن حذره رويداً رويداً، لمّا رأى  الرجل لا يضمر له أي سوء، صار الحمام يقترب أكثر وأكثر، ويوماً بعد آخر صار يتخلى عن حذره، ثم تحولت رؤيته للرجل العجوز إلى عادة، فصار يتجمع أكثر وأكثر، ويأخذ الفتات المتساقط تحت أقدام العجوز، ومرات ينقر الخبز من بين يدي العجوز نفسها، الذي تتفتح شفتاه مظهرة اسناناً اصطناعية بيضاء مثل زهرة، مطلقة ابتسامة طفولية بريئة، تزيد في طمأنينة أسراب الحمام التي تتكاثر بين يديه يوماً بعد آخر، ممزقة حذرها قاذفة به، إلى الصخر، من أعالى السماء، وتجعل من يرى المشهد مثلي يكن للعجوز كل المودة والحب والإحترام، ويدعو له الله في كل صلاة.

جاء نفس هذا “الرجل الأكتع” كما في كل يوم، خرج من مخيم قريب، حيث يمكنه أن يغتسل وينام أحياناً على حصائر المسجد أو مقاعد الكنيسة المتجاورين، جاء هذا المشرد بملابسه الرثة، بحذائه البالي، بشعره الأسود الأجعد الكثيف، شعر طويل يغطي وجهه كاملاً، حتى لا تستطيع أن ترى منه شيئاً، حتى أثناء التحقيق معه، كان كلما أمره المحقق أن يرفع شعره ليستطيع رؤية وجهه، يرفعه من جانب لتنهال بقية الخصل من جوانب مختلفة لتغطي الجزء الذي تم كشفه، أقول أنه جاء كما في كل يوم، وكنت أنا مثل كل يوم أيضاً، أفترش الأرض في ظلال شجرة وحيدة مقابل الرجل العجوز، أتمتع برؤية الحمام المتطاير بين يدي الرجل ومن حواليه، وهي تنقر خبزها، وهي “تهدل” متغازلة متمايلة متهادية، وهي تسير الهوينى عارضة رويشاتها البيضاء والسوداء والبنية والرمادية والزرقاء، كأنها في عرض أزياء طبيعي فاتن، كل حمامة تعرض أكثر من لونين من الريش الجميل، بعضها تفرد أجنحتها لتساعدها أكثر في الحركة، بعض الذكور تغازل أناثيها، يداعبونهن بمناقيرهم، والأناثي ترنو إليهم وتبتعد ، يتبادلون تنظيف رويشات بعضهم بعضاً، ثم تبتعد الإناث لتقترب من جديد، ذكور أخرى تطعم أناثيها بمناقيرها، ربما لتسرق قبلة تظهر من خلالها حباً، تطير الإناث متدللة إلى مسافة قصيرة قريبة، تعود لتلتقط حبات الحبوب أو كسرات الخبز الصغيرة، قبل أن تعود الى عشوشها في سويعات الظهيرة أو قبل مداهمة الظلام، في أعالي الأشجار، كانت تظل تسير برأسها المرفوع الشامخ، ترى نفسها أكثر بكثير من مجرد سرب حمام، ترى في حمائميتها نسوراً جارحة قوية، لا تدرك أن النسور لا تستجدي غذاءً، ولا تنتظر أحداً أن يلقي لها بقطعة لحم، فما بالك بكسرة خبز، وأن “نسوريتها” تلك من كونها ترفض أن تعتاش على فتات، من قدرتها على أن تستحضر الطعام بقوة مخالبها ومنقارها المعقوف، من صبرها على الجوع، فهي ك”الحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها”.

كنت أراقبها في مجيئها وذهابها، في أكلها، في حركة طيرانها، وهي تجلس بعد أن تشبع في ظلال الشجرة الآمن، متخلية عن كامل حذرها إلا قليلاً، ،وكنت أفكر قائلاً لنفسي، أنه حتى اسراب الحمام لها رونقها وجمالها عندما تشعر بالأمان، عندما تنام مطمئنة بين يدي إنسان عطوف مثل هذا العجوز، ولو لم يكن هذا الرجل طيب القلب أبيضه، لأحس به الحمام وتفاداه، لابتعد عنه وجافاه، لو لم يشعر بحبه له لما وثق به واقترب منه هذا الإقتراب، فالحمام يحس الحب والكره، ومن الصعب خديعة الحمام.

لكن “الأكتع” عكر ابتسامتي وقتل فرحتي  بلحظة واحدة، عندما نظر من بين خصلات شعره الأجعد الكثيف، نظرات كره من عينيه السوداويتن الحاقدتين، ورأيته يتجه مباشرة الى تجمع أسراب الحمام بين يدي الرجل الطيب العجوز، ينحني ويلتقط قطعة خبز جافة، لكن الحمام الذي كان حتى تلك اللحظة يشعر  بالطمأنينة والأمان، تطاير مرعوباً من هذا “الكائن” الذي عكر عليه صفوه، ومزق طمأنينته ورماها في غير اتجاه، تاركاً غذاءه والعجوز وظلال الشجرة وبعض رويشاته تتطاير في المكان، راكباً من الخوف أمواج الهواء، محاولاً التسلق إلى أعالي السطوح والشجر وأعمدة الكهرباء ورؤوس تلال الهواء الساخن، والرجل العجوز الذي فجعه ما رأى لسرب الحمام، كاد يبكي من الألم، وسرعان ما فتح هاتفه الخيلوي معرفاً عن نفسه طالباً قدوم الشرطة، لإعتقال الرجل “الأكتع”، الرجل الذي لا قلب له، وسرق طمأنينة وطعام الحمام وشتت شمله…

 

  •              *              *

قال له الضابط المحقق:

ـ ما هذا الشكل؟ لماذا هذا الشعر الطويل؟ ألكي لا يتعرف عليك الناس؟

فأجاب بصلف ناتج عن ثقة أو وقاحة:

ـ لماذا أتخفى؟ وهل أنا مطلوب ياسيدي؟!!!

فقال الضابط غير متجاهل لسؤاله مجيبا:

ـ لا أستطيع الجزم بذلك، فأنت لا تملك حتى بطاقة لتثبت بها هويتك، لكن كوننا ديمقراطيون ولا نتهم الناس جزافاً، فأستطيع القول أنك لست مطلوباً، لكنك سارق، أنت لصٌ…إعترف لتختصر الوقت عليك وعلينا.

وضحكوا، عندما رد هو:

ـ أنا لست لصاً، أنا مجرد مواطن جاع وتشرد في وطنه مثل الآلاف ياسيدي، لوكنت سارقاً لما قطعوا يدي…

واقترب من أذن الضابط وقال:

ـ في بلادنا يقطعون الأيدي النظيفة يا سيدي، الأيدي العفيفة التي لم تمتد يوماً الى أملاك الغير ولا إلى حقوق الناس….

قطع الضابط ضحكته، نظروا بدلالات لوجوه بعضهم البعض، ثم قال موجهاً كلماته الى زملائه قبل أن يوجه سؤاله الى الرجل “الأكتع”، الذي لم نعرف له إسماً بعد:

ـ هذا رجل مجنون أم ماذا؟ ماذا يقول هذا المعتوه؟ من الذي قطع يدك؟

أشار “الأكتع” بإصبعه إلى الأعلى، فسأل الضابط:

ـ الله؟!!! الله من قطع يدك؟!!!

ـ لا ياسيدي، معاذ الله، الله لا يقطع أيدي رعاياه، بل من نصّبوا أنفسهم مكانه، إنهم أولئك الجالسون فوق، على الأكتاف ياسيدي…

فكر الضابط بأن يواصل أسئلته كي يتعرف على الرجل الذي أمامه، فربما كان أمام حالة خطرة متخفية وراء هذا الشعر الأشعث الكثيف، قال:

ـ وكيف قُطعت يدك؟

أسند “الأكتع” ظهره الكرسي، رفع رأسه عاليةً وكأنما أراد استحضار الزمن أمامه كي لا ينسى شيئاً، وكانت عيناه الشيء الوحيد المتوهج اللامع داخل كتلة رأسه، قال:

ـ في ذلك الزمن سيدي، كان الوطن مختلفاً عما هو عليه هذه الأيام، له طعم آخر وشكل آخر ورونق آخر ومضمون مختلف، كان الناس يتسابقون لخدمته، والموت من أجله شرف لا يناله أيٍ كان، يناله من يستحقه فقط، والجريح يمشي في الشارع مزهواً بجرحه، معتداً به ليراه الناس، كان مهر العروسة علامة جرح أو سنين سجن، لم يكن يسجنك أحد إلّا عدوك، وكان الناس سيدي وكأنهم كتلة واحدة، متعاونيين متضامنيين، قلب كل منهم على الآخر، الفرد في خدمة الكل والكل في خدمة الفرد، إلا القليل منهم الذين ركبوا لاحقاً على الأكتاف، بعد أن تهدمت بمعاول غريبة، من الجذور، تلك الأخلاق وبشكل مدروس مقصود، كان الوطن زينة الناس وشرفها، كان الهم والألم والأمل، كان البيت وكان الحب وكان الجنة، عصارة كل جميل وحلو ولذيذ، رغم مرارة الأشياء كلها التي تحيط به، رغم الثمن الغالي الذي تدفعه من أجل هذا الحب، الذي قد يودي بك لدفع حياتك ثمناً، ورغم ذلك كان الشباب يتسابق ليدافع عنه ويفديه، فارشاً حياته جسراً للآخرين مضحياً بها، لتستمر المسيرة وتنمو شجرة الأخلاق التي قطعوها من جذورها لاحقاً، هل تتخيل يا سيدي، أن إمرأة أو شيخاً أو ولداً كانوا يحتضنون أشجار الزيتون المقتلعة ويبكونها كما يبكون شهيداً؟ يفتحون لها بيوت عزاء، هل تتخيل أن حيازة بندقية صدئة أو مسدس كان يودي بك الى التهلكة وغياهب السجون؟ لا تتعجب سيدي، فبنادقنا الصدئة تلك تختلف عن بنادقكم هذه، بنادقنا تلك لم تعرف يوماً كيف يكون الإطلاق للخلف، لم تعرف الغدر ولا المناورة ولا الخيانة تحت شعار التكتيك أو أي من المسميات، كان لها اتجاه واحد فقط …قلب العدو…

شكراً سيدي لم أعد أدخن، الظروف أجبرتني على تركه، من لا يجد خبز يومه لا يجب أن يدخن أيضاً، حاولت العمل مراراً، لكنني ما لقيت إلا فشلاً، حاولت حمالاً وعتالاً، أن أعمل في مقهى، أن أبيع جرائد لكن دون فائدة، من سيُشغل رجلاً “أكتعاً” مثلي؟ حاولت العمل مع الحكومة ، طالبوني بنقل أخبار المخيم، قلت ها هو المخيم أمامكم، ينخره الجوع والعطش، يعمل به الأطفال تاركين المدارس ليعيلون أسرهم، متحولون إلى جهلة يطاردون رغيفاً، أخبرتهم بجوع أسر الشهداء والجرحى العاطلين مثلي عن العمل، قالوا أنهم يعرفون كل ذلك، وهذا كله لا يعنيهم، وأنهم يريدون أخبار الرجال، رجال الليل على وجه التحديد، وكوني أنام بعد العَشاء مباشرة لم أستطع أن أكون ذو فائدة لهم يا سيدي.

نسيت أن أخبرك أنني لم أتسول يوماً حتى من أجل الخبز، لم أمد يدي الباقية لأحد، أأمد اليد التي حملت تلك البندقية لتتسول؟!!! ومن أجل سيجارة؟!!! ربما لو كان لدي فائض من قروش لدخنت من جديد، لكن لا، لا ياسيدي، لن أدخن من جديد، ربما اشتريت بها خبزاً لأناس مثلي يعج بهم المخيم، كي أكفيهم شر الحاجة والعوز ياسيدي….

تَحَمّلني قليلاً، في تلك الأيام حملت بندقيتي مع بضع رفاق درب، كنا جاهزين للقتال دائماً، نتنقل ببنادقنا من مكان إلى مكان، حيثما هناك حاجة تجدنا، لسنا وحدنا، مثلنا كان “مثايل” سيدي، كنا قد قررنا أن نحرر المسجد والكنيسة المتجاورين في مخيمنا، حيث أنام في هذه الأيام، ونحرر شجيرات الزيتون المحيطة بهما، كان الجند قد إغتصبوها، كانو فد إعتلوا المسجد والكنيسة وحولوهما لمكان لأصطياد الناس وقنصها، وكانوا يدوسون المسجد والكنيسة والأرض وأشجار الزيتون بأحذيتهم، وأنت تعرف سيدي أن بيوت الله والأرض وأشجار الزيتون مقدسة، كما الإنسان تماماً، ولا يجدر بنا تركها تُداس بأحذية الأعداء، مهما كانت قدرتهم وتضخم جبروتهم، فذهبنا واشتبكنا وحررنا المقدسات كلها في المخيم، واستقدموا قواهم وبنادقهم وآلياتهم، وهاجمونا من جديد، وقاتلنا بدورنا حتى لم يبق لدينا ذخيرة نكمل حربنا معهم، وكنا نسمع أصواتاً تأتي من بعيد بعيد، من داخل الحدود وخارجها، وكلها من الراكبين على ظهور الناس وفوق أكتافهم سيدي…

وأشار بإصبع يده الى فوق من جديد، وقال:

ـ وكانوا بنا يصرخون: “العين لا تجابه المخرز”… يكفي ما قمتم به… “بوس الكلب من تمه تتاخذ غرضك منه”… “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”…”يكفيكم مغامرات غير محسوبة”… “ستدمرون كل جدران السلام التي بنيناها”… “انتظروا جيش العرب” “إلتزموا بأوامر الحاكم” وافقوا على “هدنة”لنستطيع مساعدتكم… يكفي أوقفوا إطلاق للنار…

كلما كنّا في قمة انتصارنا، كانت نفس تلك الأصوات تطالبنا بالتوقف والهدنة، وتساءلنا مرّات مع أنفسنا، هدنة ماذا تلك التي يريدون؟ وعلمنا دون عناء كبير، أنهم يريدون دعم الجند الذين كانوا أمامنا يتقهقرون، لماذا لم يطلبوا هدنة ولو مرة واحدة عندما كان رفاقنا بحاجة لها؟ هل هذه مجرد صدف؟ ونحن لم نكن بحاجة الى الهدنة ولا الى كل هذا النعيق سيدي، كنا نأمل أن يمدوننا ب”كمشة رصاص”، بدل هذا العويل، لكن “لا حياة لمن تنادي”، لم يكن أحد ليستمع لمطالبنا ولا احتياجاتنا، ولم نستمع نحن أيضاً لنعاقهم…

كانت معركة صعبة ياسيدي، كانوا أضعافنا عدداً وعدة، فاستشهد رفاقي كلهم، وأصبت أنا سيدي، رصاصة في خاصرتي، ضلت طريقها فخرجت من الجانب الآخر إلى مكان لا أعرفه ، وثلاث رصاصات في يدي، يدي تلك التي إنتزعوها وقطعوها في لحظات ضعفي.

زحفت في المكان لأخرج من المكان الذي كنت فيه محاصراً، زحفت كما لو أنني لم أكن مصاباً، فالحياة جميلة ونحبها حتى عندما نضحي بها، ربما أننا نضحي بها لشدة حبنا لها ياسيدي، زحفت وزحفت وزحفت، ونوافير الدم تتسابق لتعانق جذور الزيتون، كان دمي قد اختلط بدماء رفاقي الشهداء، لدرجة أنني لم أعد قادراً على تمييزه، نفس اللون ونفس الرائحة ونفس الطريق، وظنّي أنه وصل لأساسات الكنيسة والمسجد ليقوي صمودهما، وربما ليشد من أزرهما، ليطمئنهما واعداً بدماء جديدة قادمة… وفجأة… دون مقدمات أو سابق إنذار، فسحب المياه من البئر مهما كان عميقاً يؤدي إلى جفافه، فما بالك بجسد ضعيف مثل جسدي هذا؟!!! سرعان ما أخذ يجف الينبوع في جسدي، ولم يمر طويل وقت حتى غبت عن الوعي، ليس بسبب الألم سيدي، بل ربما بسبب فقداني لكمية كبيرة من الدم، كما قال أحد الأطباء، بعد ذلك وبصراحة سيدي لا أعلم كيف صار الأمر بالضبط.

علمت لاحقاً أنهم أخذوني الى الكنيسة أولاً، أخفوني هناك مستعينين بطبيب شاب ليوقف نزيف دمي، ثم إلى أحد المستشفيات بعد أن هدأ البحث والتفتيش، وكنت أسمع كلاماً كما في أحلام اليقظة سيدي، كان من غامر وساعدني يستجدي الأطباء، وكان بعض الأطباء يهزون أكتافهم، يريدون القول أن “ليس باليد حيلة”، فأحد الحكام أو الجنرالات سيدي، كان قد جاء لعلاج إنتفاخ في خصيتيه، في تلك الليلة وذات اللحظة، ويبدو أن هذا بسبب سوء طالعي، فخصيتا أي حاكم أو جنرال أو مسؤول، كما تعلم، لا تضاهيها أرواح مَنْ هم مثلي من الناس، فما بالك بمجرد يد؟!!! فبين أفخاذ الحكام والرؤساء والملوك والأمراء، تُطبخ وتنضج وتترتب أصعب الأمور، تتفتح وتحل أكثر الأمور تعقيدا، لكن لا تنمو زهرة واحدة!!! ربما بسبب الزيوت والعطور والمنشطات الكيماوية سيدي!! أنا لم أكن أعلم بالضبط كيف تسير الأمور، كيف تأخذ مساراتها، لكن بعد أن فكرت في الأمر أكثر، وكي أكون صادقاً وجاداً أيضاً، تساءلت: ماذا يساوي ذراع رجل فقير “نكرة” مثلي أمام خصيتي أي من الحكام؟ بل ماذا يساوي بضعة رجال من أمثالي أمام خصيتيه؟ أنا رجل واقعي وأعرف حجمي سيدي، وأعلم أنهم لو وضعوا “خصيتي اصغر حاكم” في كفة، وعشرة رجال من أمثالي في الكفة الأخرى، لرجحتا خصيتي الحاكم، “مجنون يتكلم وعاقل يستمع”، ما هذه المقارنة الفاشلة، وغير المتوازنة ياسيدي؟!!!

نعم سيدي، تجمع كل الأطباء في غرفة الحاكم، ومن كان لديه الحظ سيدي، فقط من كان لديه الحظ، استطاع أن يلمس خصيتي الحاكم، أن يتحسسها ويتلمسها، سعيد من استطاع أن يبدي إعجابه بها، ليرضى عنه وعليه الحاكم، فالحكام تحب أن “نُرطل بيضاتها” سيدي، وتفرح كالأطفال عندما نعجب بأي شيء عندها، فما بالك بخصياتها؟، أما بقية الأطباء، الذين لم يكن لديهم ذلك الحظ، فرؤوهما من بعيد فقط، “وكما يقول المأثور الشعبي” اللي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى”، لكن المأثور الشعبي نفسه يؤكد قائلاً “الريحة ولا العدم”، ولا أخفيك كم كان هؤلاء حزانى لعدم قدرتهم للوصول لتدليك خصيتي الحاكم، ولا أستطيع الجزم سيدي، ففي أحلام يقظتي تلك تهيأ لي أن بعضهم كان ساجداً بين خصيتيه، وكأنه أراد عبادتها أو تقديم فروض الطاعة لها…وربما تقديم الأضاحي على أبواب حصونها سيدي.

أحد الأطباء همس للبقية المتحولقة حول “خصيتي” الحاكم، أن هناك حالة طارئة، وأن عليهم تحضير غرفة العمليات، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد سيدي، حيث صرخ به الحاكم قائلاً:

ـ كيف تجرؤ على التفكير بذلك؟ أتريدهم ترك خصيتي لمجرد وجود حالة طارئة؟!!! لقد هزلت، أتساوي بخصيتي حالة طارئة؟ وأكثر من ذلك أتساويهما بحالة طارئة من العامة؟ من الرعاع؟ حتى الله يقول” وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات، أكافر أنت أم مرتد أم زنديق؟أتساوي خصيتي بحياة شخص “نكرة”؟ ألا ترى أنه يشبه الإرهابيين؟ ألا يكفي أن مثل هؤلاء من يعطل الأمن والسلام والإستقرار في المنطقة؟

حاول الطبيب الدفاع عن نفسه قائلاً:

ـ إن يد الرجل ستقطع يامولاي، إن لم نسارع في استخراج الرصاص المتفجر من داخلها…                       فقال له المسؤول جازماً:

ـ للخرى….فلتقطع…

وقطعوها سيدي فداءً لخصيتي الحاكم…

  •           *            *

طرقت الباب مستأذناً للذهاب للمرحاض في آخر الممر الطويل، أبعدتني الطريق فلم أعد أسمع لبقية قصته، وأصدقك القول أنني لم أكن لأصدقه لمّا كان يرفع إصبعه متهماً الحكام، أو ساكني القصور كما قال أكثر من مرة، فها هو الرجل العجوز الذي يفني عمره ويقضي وقته لإسعاد وإطعام بضعة حمامات ضعيفات يبحثن عن فتات خبز، أليس هو من ساكني القصور؟!!! فكيف تريدني تصديق أقواله؟ لكن دعك من هذا وانظر ماذا سمعت عند رجوعي مرتاحاً من المرحاض أعزك الله، إلى حيث كنت أمام باب غرفة التحقيق، فاتحاً بابه مخبراً عن قدومي، متحملاً كلمات الضابط الذي عبر عن إحتجاجه قائلاً ” جيت؟الله لا يجيبك… إرتزي بره”…

و”إرتزيت”كما أمر، لكنني كنت قد رأيت وسمعت، رأيت كيف كانت عيناه تلمعان من تحت شعره الكثيف، حين كان الضابط الكبير ناظراً إليه محاولاً تفسير كل كلماته وحركات جسده، ومن على الكرسي المقابل سمعت ماذا سأله ضابط كبير آخر ، قائلاً:

ـ لماذا أخذوك جريحاً للكنيسة وليس للمسجد؟ أأنت مسلم أم مسيحي؟

سمعته بأذني عندما توتر كما لم يكن من قبل، وهاج وماج وقال للضابط:

ـ وما علاقتك أنت بديانتي؟ هذا الأمر بيني وبين الله ولا دخل لأي كان به، الزموا حدودكم ولا تسألوا مالا يعنيكم…

ولم يقل له حينها “ياسيدي”، فقال الضابط الأول مجدداً حازماً متشككاً:

ـ أجئت لتعمل علينا بطلاً أيها اللص المتشرد؟ لو كنت ذكياً، ومادمت قد قررت السرقة، فما كان عليك إلّا أن “تسرق جملاً”؟ لكن رائحة غبائك تزكم أنوفنا…

وانهال بكفه فوق وجه الرجل “الأكتع”، فتح الباب النادل في تلك اللحظة بالذات، ليدخل بكؤوس الشاي لطاقم التحقيق، فرأيت كيف تلقّف “الأكتع” بيده المتبقية يد الضابط ممسكاً بها مثل ملزمة، وقال:

ـ لو فعلتها ثانية سأكسرها لك، أفهمت؟

وظل قابضاً على يد الضابط وقال دون أن يترك يده:

ـ لم آت لأعمل بطلاً على أحد، مثلي لا يفتعل شيئاً ليس به، لأنني في الأصل بطل فعلاً، ولو كنت لصاً و”سرقت جملاً” كما تقول، لربما كنت في مكانك الآن… سيدي.

كانت كلمة سيدي هذه المرة، أكثر استهزاءً من أي مرة أخرى، ثم أفلت ذراعه، وأكمل الضابط بالعاً الأهانة:

ـ لقد ألقينا القبض عليك متلبساً، كسرة الخبز ما تزال في جيبك أليس كذلك؟

ـ بلا، لكنني لم أسرقها، أنا وجدتها على الأرض، قطعة ناشفة جافة ملقاة في وسط الشارع…

ـ لكنها طعام الحمام، نعم الحمام، رمز السلام والمحبة والتعايش، لكن مثلك من تعود أن يعطي قيمة للرصاص، لا يمكن أن يفهم ماذا يعني ذلك، كما أن الرجل العجوز الطيب القاها للحمام وليس لك أنت، وأنت تجرأت على الحمام فأرعبته وأخذت أكله…

قال الضابط مؤنباً “الأكتع”، الذي دس يده في جيبه وأخرج كسرة الخبز وقال:

ـ أيمكن للحمام أن يأكل مثل قطعة الخبز هذه سيدي؟

كانت القطعة بحجم نصف الكف، الأمر الذي جعل الضابط يكمل التحقيق دون تعليق مهم:

ـ يمكن أو لا يمكن، أنت سرقت الخبزة وأرعبت الحمام، وعقابك السجن….لكن قل لي من أين أنت؟ فأنت لا تملك حتى اثبات شخصية.

ـ من المخيم سيدي…

ـ أي مخيم؟ المخيم الصيفي؟

قال الضابط مستهزئاً، حين رد “الأكتع” مجيباً:

ـ لا يا سيدي، مخيمنا شيء آخر يختلف عمّا في ذهنك، مخيمنا بدأ بالخيمة والطين والبرد والأمطار، ثم تحول الى طوب وصفيح وأمطار وبرد ومجاري وأزقة ضيقة وأشباه طرقات، إلى وكالة للغوث والتدجين ومحاولات تمرير الأمر الواقع، بيوت صغيرة سيدي لكن يسكنها عدد كبير من الناس، كما جاء في مناهجكم الجديدة سيدي” تجمع بشري كبير” بعد أن أسقطم عنه، معهم، جميع ميزاته وأبقيتموه عارياً…سيدي

وأشار بإصبعه الى فوق مرة جديدة… وأكمل:

ـ وما دمت ترى أن السجن مكاني المناسب، إذن فليكن السجن، أتعتقد أن “مَنْ تحت المزراب يخشى من المطر”؟!!! رحمك الله ياطرفة بن العبد:

” وظلم ذوي القربى أشد مضاضة        على المرء من وقع الحسام المهند”

فقال الضابط الأول متفاجئاً بالرجل “الأكتع”، وكأنه لم ينتظر أن يحوي رأسه أكثر من أطياف جهل وغباء:

ـ ماذا قلت؟ أعد…

ـ ليس مهماً سيدي، ليس مهما…

صار الضابط يشعر أن من أمامه ليس رجلاً معتوهاً كما يبدو، فحاول أن يسأل ليتعرف عليه أكثر، قال:

ـ لماذا لم يساعدك من أعطوك البندقية إذن؟

نظر في أعماق عيني الضابط، وقال وكأنه ينتزع سكيناً غرسه الضابط بسؤاله في قلبه:

ـ لأنهم يقتلون الخيول سيدي، يقتلونها بكل أشكالها وأنواعها وحجوما وجنسها، فالحصان إن ترافق مع المهرة يخلقون الزلازل ويفجرون البراكين، لذا يقتلونها وهي ماتزال تسير، وهي جامحة شامخة، يقتلونها وهي ما تزال تعدو، يقتلونها فرادى وجماعات، فالخيول تظل تحن الى أرض المعركة، وإن لم يصحبها أحد تعود وحيدة الى هناك، تظل تصهل وتعدو وتحفر الأرض بحافرها، وإن منعتها تغضب وتصهل وتقطع الحبال وتعدو في البراري والسهول، لذا توجب قتلها، ومطاردة مُهُرها قبل أن تشب وتكبر وتتعلم العدو والصهيل، فهي تذكرهم بواجباتهم التي أغمضوا عنها عيونهم.

وسكت هنيهة وأكمل أسئلة إستنكارية لم ينتظر عليها أي جواب:

ـ أما زلت تسأل لماذا سيدي؟ ألم تسمع ب”الأم التي تقتل أبناءها”؟!!! أُدرك أنهم قد غيروا الزمن وقلبوا المفاهيم، وأنهم قتلوا الخيول الأصيلة وروضوا بعضها محولينها بإرادتها إلى بغال، ونقلونا من زمن الخيول الأصيلة الى زمن البغال والحمير، وفي مثل هذه الأزمان يصير قتل الخيول، وفي وضح النهار، واجب ، فرؤية الخيل تصهل وتعدو تذكرهم بزمن لا يريدون تذكره… لكن أتعتقد أن هذا الزمن سيستمر طويلاً سيدي؟!!!.

كان الباب مغلقاً في تلك اللحظات، وسرعان ما فُتح ليأخذ الضابط عناويننا وأسماءنا، للشهادة على سارق أكل الحمام ومرعبه، وفي تلك اللحظة رأيت كيف عجز الضابط عن تقييد يده الوحيدة، فاستعاض عن ذلك بتقييد قدميه، ولشدة خطورته قيدوا يده الوحيدة بالقدمين أيضاً، وقال الضابط وهو يسحبه إلى خارج الغرفة لأحد المجندين:

ـ إياك أن يهرب منك…إنه خطير…                                                                                                                                           *            *            *

عدت الى بيتي ذلك المساء، بقيت أفكر في ذلك الرجل، رث الثياب فقيرها، “أكتع” اليد حاد البصر كصقر بري لن يتروض أبداً، والذي منع عن عيني النوم معظم مساحة الليل كله، وأنا أقلب كلماته داخل حجرات رأسي.

ولأن “الطبع غلب التطبع”، عدت الى طبعي للخروج في صباح اليوم التالي، للإستلقاء تحت تلك الشجرة لأراقب الرجل الصالح وهو يطعم الحمام، وفعلاً خرج من قصره، حاملاً أكل الحمام في كيس بلاستيكي، وأنا أراقبه كيف ينثره لها، والحمام يأتي بأسرابه بين يديي الرجل العجوز وبين أقدامه، ويكون قد عاد الى مغادرة حذره، واثقاً بالرجل البشوش الطيب، آكلاً من بين يدي هذا الرجل العجوز، ومنذ خرج العجوز من قصره، كان أكثر بشاشة وحيوية وابتسام، لم ينتظر ليصل إلى مكانه تحت الشجرة، بل صار يلقي الحبوب منذ خروجه من بوابة قصره العملاقة، في الشارع والطريق وضفتيه، استغربت لما رأيته يطعمها بحبوب لا أعرفها، لكنني “حسدته” على كرمه، كيف يشتري للحمام الحبوب إن نقص الخبز من بيته!!! وكدت أذهب لحد بيته لأهنئه وأقبله.

لم يمر طويل وقت، حتى بدأ الحمام يترنح في الطريق وعلى جانبيه، ثم يقع على أحد جنبيه أو ظهره، وبعض اللواتي حاولن الطيران منها، خدعتاه جناحاه اللذان أصابهما الوهن والخدر، ووقعت على سطح بيت العجوز أو في حديقته الخضراء، فأخذ العجوز يصرخ بالعاملين :”إحذروا أن يتسخ القصر، إذبحوها في الخارج قبل أن تموت، إياكم أن يتشوه وجه الحديقة الأخضر ويتسخ، كي لا أخصم ما تبقى من راتبكم هذا الشهر”، واستل سكينه وأخذ يذبح بدوره الحمام الغائب عن الوعي، يلقيه أرضاً ليخفي التراب دماءه النازفة، ويتمتم مع نفسه ” ما كان يجب أن تطعمهن هذا الكم من المواد المخدرة، نصف الكمية كانت تكفي…كيف استطعت أن تنفق كل هذا المال؟!!!” ثم أحضر أكثر من عامل من قصره، ابتدأوا يجمعون جثث الحمام المذبوح الهامد داخل أكياس بلاستيكية ويدخلونها داخل القصر.

كان الرجل العجوز يأكل الحمام ويأكل عظمه الطري على أسنانه الإصطناعية الماضية، يأكل حتى حد ما فوق التشبع، فالعجوز يحب الحمام ولحمه، يسند ظهره على ظهر كرسيه على طاولة السفرة، يأخذ نفساً عميقاً، ثم ينقضّ على الحمام المحمر الذي أمامه، ويبدأ الأكل وكأنه ابتدأ لتوه، كما وصف لي صديقي العامل داخل القصر عنده، منذ ما يزيد على شهرين بقليل، ثم يأخذ يلعق ما علق فوق أصابعه، مدخلاً أصابعه داخل فمه، أو مخرجاً لسانه ليلعق ما تبقى فوقها من بقايا طعام، وكأنه يستهزئ بعقل الحمام الذي صدق خديعته. دون أن يفقد ابتسامته لحظة واحدة طيلة فترة غدائه.

قام من على طاولته، وقال:

ـ يقول المأثور الشعبي ” تغدى وتمدى، تعشى وتمشى”، لا أريد أن أسمع صوتاً الآن، جاء وقت قيلولتي بعد هذه الوجبة الدسمة… يا أبو محمد… حضِّر الخبز لأطعم، صباح غد، هذا الحمام المسكين الذي لا يجد من يطعمه… “إفعل الخير وارمه البحر” يارجل ، لا تنسَ أبداً هذا الأمر…

واستلقى على كنبته الفارهة بعد أن غسل يديه بالماء دون الصابون، مسحهما بفوطته الصغيرة، ثم صار كعادته يشم رائحة لحم الحمام الطري المتشبثة بيديه، وبقع الدم ما تزال متشبثة بساعديه وفوق قميصه…

عدت إلى بيتي مغموماً ذلك النهار، وقد اتخذت قرارين مهمين، أولهما أن لا أتقدم لوظيفة في قصر العجوز، وأن لا أشهد ضد الرجل “الأكتع” مهما هددوا أو حاولوا إجباري، ولسبب ما تذكرت المرحومة أمي، فقررت أن أزور قبرها وأقرأ الفاتحة على روحها الطاهرة…

محمد النجار

غُلام السلطان

جلست معهم على نفس الطاولة، فكلنا، ودون استثناء، من الجيل نفسه، جيل الكهول كما تحبون، أنتم الشباب، أن تسموننا، فكما ترى، أصبحوا يحشرون الأعراس في صالة! بين أربعة جدران! ولم تعد كما كانت، طليقة حرة، تسبح في سمائها الأهازيج الشعبية من عتابا ودلعونا وميجنا، من مناداة وإستجلاب “لظريف الطول”، ولم تعد تسبح في الفضاء، لتملأ الحقول والجبال والكون كله فرحاً وقمحاً ووروداً،  واليوم كما ترى، ف”مهاهاة” النسوة تتكسر أصداؤها على حوائط الصالة، وتنهار منزلقة كحبات الندى من على أوراق الأشجار.

من الطبيعي أن أجلس مع جيلي، لنتسامر ونتحدث ونلتقي ونختلف، في وسط تلك الآلات المزعجة الصاخبة التي يسمونها بالموسيقى، موسيقى تغيب عنها الشبابة؟!!! يا لمهازل هذا الزمان!!! لكن ما العمل ولكل جيل زمانه وميوله وأفكاره وطريقة حياته؟

جلست مع أبو مصطفى، مع أبو أحمد وأبو حاتم، وخامسنا الشيخ أبو العبد، والذي رغم عدم رغبتي في مجالسته في معظم الأوقات، إلا أنني لا أظهر له شعوري هذا إلّا إذا أجبرت على ذلك، من باب الحرص على عدم جرح شعوره، أو إحراجه أمام الناس، فمعرفتي به على مدي أجيال، ما زالت تبعدني عنه وعن منْ يُمثل، فانا لا أحب تجار الدين، ولا من يضعون مصالحهم فوق كل إعتبار، ولديهم دائماً وأبداً “الغاية تبرر الوسيلة”.

كما أنني لا أهتم للأمر لولا حالة الإستعلاء التي يمارسها، أحياناً، دون وجه حق، أقصد التي قوائمها من عجين، وبالتالي يمكن أن أسميها بحالة “إستقواء مؤقت”، لأن الكذب والخداع والتملق واللعب على الحبال لن يستمر للأبد أبداً، ولهم في قيادة المنظمة ولاحقاً السلطة دليلاً عما أقول، صحيح أنهم كسبوا المال، لكنهم خسّرونا القضية كما تعلم، ومن العار أن نقع في مستنقع المال المُذلّ ذاته.

كان يمسح على لحيته البيضاء عند قدومي، يهدهدها ويدغدغها ويكاد يناجيها، كعادته، وكعادتي عندما ألتقيه، ورغم خلافنا الكبير، اُمازحه وأستفزه لأخلق جواً جميلاً بشوشاً لقعدتنا، فما بالك في جو العرس المبهج رغم موسيقاه الصاخبة الخالية من الشبابة؟!!! وأحياناً كان هو يفعل الأمر نفسه، لكن ليس بنفس النجاح التي تلاقيه كلماتي، الأمر الذي يزيد من إستفزازه وغضبه.

قلت له ما أن إحتضنني المقعد:

ـ والله لحية!!! بيضاء مثل الصفحة البيضاء، آه لو كان قلبك أبيضاً مثلها…

وضحكت لتأكيد مزاحي، حين أسند ظهره المقعد جيداً، كأنه يريد التأكد من حماية ظهره، وقال:

ـ كيفما كان فهو أكثر من قلبك بياضاً…

شعرت بنبرة الغضب بين كلماته، ورأيت الحقد يتدحرج معها، فاقتربت منه وسألت بصوت خفيض لكن مسموع من كل الجالسين:                                                                                                                       ـ أمتأكد أنت مما تقول؟

لم أكن أعلم أن سؤالي هذا سيستثيره أكثر من شتم أبيه، وسيربكه ويغضبه، وأنه سيفتح باباً للنقاش ليس العرس مكانه المثالي، قال وكان مدركاً بأن أي إجابة سيعطيها لن تقنع الجالسين، وأن تقاسيم وجهه ستخونه وتكشف أمره، لكنه رغم ذلك قال:

ـ نحن قلوبنا بيضاء دائماً والحمد لله، والله سبحانه أكرمنا في دنيانا وسيجعل مأوانا الجنة في الآخرة إنشاء الله…

عرفت أنه يستقوي علي بجماعته من خلال كلمة “نحن” التي قالها بوضوح، وشعرت أنه أخذ الحديث وسحبه إلى مكان آخر، غير الطريق الذي كان يسير فيه، عن سبق إصرار، وأنا كما تعرفني رجل مستقل عن الأحزاب جميعاً، رغم أن هذا ليس مفخرة، ورغم وجهة نظري التي تلتقي أحياناً أو تتعارض مع بعضها، فقلت:

ـ أن تكون لكم او لغيركم “الجنة” فهذا أمر لا يعلمه إلا الله، رغم شكي بأنكم ستصلونها يوماً، إلا إذا كان سبحانه قد وكلكم مكانه على الأرض كما تحاولون إفهام القطيع!!! أما هذه “الفلل” والعقارات والسيارات الفارهة، فهي من مملكة الخير، مملكة آل سعود وحارة الشيخة موزة أطال الله عمرهما، ولا أدري فربما من السلطان العثماني الجديد أيضاً، كما لدولة “الفرس الرافضية” الدور الأساس لمدكم بالمال والسلاح، نعم ذات الدولة التي تُحرِّضون عليها في المساجد وفي تعميماتكم الداخلية، وتمتدحونها، أحياناً، في العلن، في لعبتكم المنافقة الممجوجة، وليس من عند الله، فأنتم بئر بلا قعر، لا يملؤه شيئاً أبداً، وهذه على ما أظن ليست فخراً بقدر كونها نفاقاً، وهي، على كل حال، مغموسة بدماء الشهداء وأنات الجرحى وبكاء اليتامى والأرامل، كونها لم تُعطَ لكم، بغض النظر عن نوايا المتبرعين، لسواد عيونكم، بل بسبب مخططات وبرامج كل دافع إيجاباً أم سلباً.

وكان أبو حاتم قد دس عبارته بين كلماتي قائلاً:

ـ إنهم كالمقبرة لا جازاهم الله خيراً، لا يردون قادم، وفوق ذلك يشكون ويبكون…

ـ أصدقك القول أنني لم أرد أن أقول كل ذلك ولا حتى شيئاً منه، كما لم أتوقع أن لا يكون إحتجاجه إلا على السلطان العثماني، ولم أعتقد أن يكون بهذه الدرجة من الغضب، قال:

ـ لا تتحدث على دولة الإسلام!!! يُغضبكم “القائد”لأنه “الفارس الأخير” الذي يدافع عن بلاد الإسلام والمسلمين، لذلك حاولوا أمثالكم الإنقلاب عليه…

لم أتوقع جوابه هذا رغم معرفتي بوجهة نظره ونظرهم عن “السلطان”، فوجدتني أقول:

ـ لم أكن أعرف أن الدولة التركية، الدولة الأهم لحلف الناتو، وصاحبة العلاقة الأكثر تميزاً مع الكيان، والتي بها البغاء والخمور وكل الرذائل، متداولة على الملأ وبترخيص من الدولة، هي دولة إسلامكم المثالية!!! وأنه يحارب سوريا لأنها دولة الكفر والفساد والفسق والفجور، ويقيم العلاقات و يُنجز المعاهدات والتطبيع مع دولة الكيان لأنها دولة ديمقراطية، لم تحتل أرضاً ولم تقمع أو تهجر شعباً ولم تسجن أحد ولم تهدم مسجداًاًَََ!!! وأن خدمته لحلف “الناتو” هي لخدمة الإسلام وليس لخدمة المشروع الصهيو ـ أمريكي في المنطقة، لكن ماذا سأقول وأنتم لستم بأحسن منه، أما زلتم تراهنون على بلير أم كففتم بعد انكشاف أمركم؟!!!

فقال متحدثاً بإتجاه واحد، وكأنه لا يهمنه شيئاً سوى “السلطان”، الأمر الذي أثار في تساؤلات كثيرة عن زياراته المتكررة لهناك، لكن الأمر ليس شخصياً بالنسبة لي كما تعلم، قال:

ـ هذا القائد جاء عن طريق الإنتخابات الديمقراطية كما تعلم ويعلم الجميع، ومن يتجرأ على هزيمته فهناك صناديق الإقتراع وليس الإنقلابات…

فقلت وقد ذُهلت لما للأمر من أهمية عندهم:

ـ أنا بطبعي ضد الإنقلابات العسكرية كيفما كانت وأينما كانت، وبغض النظر إن كان الإنقلاب حقيقي أم مُفبرك، فهذا لا يعطي الحق لسلطانك أن يعتقل الآلاف ويفصل من العمل عشرات الآلاف ويمنع الملايين من السفر، كيف استطاع محاكمة هؤلاء في ساعات؟ ولمصلحة من يسحل القضاة والمحامين وأساتذة الجامعات من المعارضين في الشوارع؟ لكن إذا كان قد قمع التظاهرات وسجن الصحافيين والمخالفين، ودمر عشرات القرى للأكراد والعرب بدون إنقلاب، فماذا سيكون عليه الأمر مع وجود إنقلاب؟!!!

قال وقد أخذ يتصاعد الغضب داخل صدره، خاصة بعد أن تدخل أبو أحمد وأبو مصطفى وأبو حاتم في الحديث في غير صالحه:

ـ أتريد أن يرمي هؤلاء الإنقلابيون بالورود؟

قال حينها أبو مصطفى:

ـ ياشيخ أبا العبد، الأمر ليس كذلك، فكل ما هو مطلوب تقديم المتورطين للعدالة بعد أن يأخذ التحقيق مجراه…

وتابع أبو أحمد:

ـ إذا كان العسكر هم من قام بالإنقلاب، فما علاقة المعلمين والقضاة والمحامين وعاملي المؤسسات الخدمية في الدولة بالأمر؟ أقصد لماذا طالهم الأعتقال والفصل والمنع من السفر؟

فقال أبو حاتم والذي كان مجرد وجوده استفزازاً للشيخ أبو العبد:

ـ صحيح أن الإنقلاب مرفوض ياشيخ، لكن أن تُعمل دولة موازية تحكمها شركة سرية، لا يعرف أحد كيف أخذت ترخيصها ولا من أين، وتعمل تحت إمرة “السلطان”، وتأخذ تفتك بالشر دون رادع فهل ههذا مسموح في دولتك الإسلامية؟!!!

فقال الشيخ أبو العبد عندما وجد نفسه وحيداً في الدفاع عن “السلطان”:

ـ هراء… كل ما تقولونه هراء، جُل ما تبغون أن تُشوهوا سمعة “السلطان” والدولة الإسلامية التي يقود…

فقال أبو حاتم من جديد:

ـ لنأخذ الأمر بطريقة أخرى ونسأل: لماذا باعكم السلطان في سوق النخاسة الإسرائيلي وتخلى عن رفع الحصار عن غزة؟ لماذا لم يدعمكم بالسلاح والمال كما دعمتكم دولة “الفرس” التي ما زلتم تحرضون عليها قواعدكم؟ ولماذا لم تقدم لكم المكان الآمن والخبرة والصواريخ كما قدمتها لكم دولة سوريا التي تحاربون؟ أم تعتقدون أن الغزيين لا ينقصهم إلّا “شوكولاتة” السلطان وألعابه لينتصروا على دبابات “إسرائيل”؟!!!

أخذ أبو أمصطفى الكلام من فم أبي حاتم، وأضاف وكأنه يتابع ما قاله:

ـ يأخي يا شيخ أبو العبد، والله “هلكتمونا” وأنتم تقولون دولة إسلامية، وأصدقك القول أنني لم أعد أتعجب أبداً، أن أسلافكم، وعلى إ‘متداد ألف وثلاثمائة عام كاملة، لم يقدموا لنا من العدالة شيئاً يُذكر، فلو رفعتم سني الخلافة المختلف عليها أصلاً، لما بقي في ثلاثة عشر قرناً دولة إسلامية عادلة نفتخر بها سوى عامين ونصف العام عهد عمر بن عبد العزيز، وتسع شهور فقط في عهد الخليفة المهتدي، أهذا ما تريدون تطبيقه علينا؟ يا أخي “لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”.

ـ خسئتم… ألف مرة خسئتم، فوالله دولة الإسلام هي من خرّجت للعالم في العلوم كافة، علم الطب والفلك والفيزياء والفلسفة، أبو بكر الرازي وابن الهيثم والكندي وابن سينا وابن رشد والجاحظ، نسيتم ذلك أم تتناسون؟ لا والله أظنكم تتناسون!!!

وأسند ظهره المقعد من جديد، حين بدأت الضحكات تتعالى من البقية المحيطة به، وقال أبو حاتم مجدداً:

ـ ألم تُزندقهم “دولتك الإسلاميه وتكفرهم وتتهمهم بالإلحاد؟ ألم يكفروا الرازي ويحجروا على كتبه وفلسفته لعشرات السنين، وكذلك الحال مع ابن الهيثم؟ ألم يسخر الجاحظ من النقليين أمثالكم بما فيهم من نقلوا الحديث؟ ألم يدعو لسلطة العقل؟ ألم تُصادر مكتبة الكندي ويُجلد أمام الناس بأمر من الخليفة نفسه؟ ألم يُكفر ابن سينا ويُسمى ب”إمام الملحدين”؟ ألم يحرقوا كتب ابن رشد، ولولا إعادة ترجمتها عن اللاتينية لما عرفنا عنها شيئاً؟ أم أنكم كعادتكم دائماً، تشوهون الحقائق أو تقلبونها، ماهو جيد فهو لكم وما هو فاسد لا علاقة لكم به!!! إن عمود الإسلام هو العدل، أرنا أين ومتى تم تطبيقه على إمتداد من إدّعوا أنهم أقاموا دولة إسلامية…

تدخلت وقلت، وقد رأيت الذهاب بعيداً عن الموضوع قد يخلط الأمور، في محاولة للعودة لما بدأناه:

ـ أنت تتحدث عن الديمقراطية التي طالما اعتبرتموها بدعة، وأنها ليست من الإسلام في شيء، ألم يقل زعيمكم جميعاً حسن البنّا “يجب أن تكون القيادة من رجال الدين، ومن المتمرسين على القيادة مثل رؤساء العشائر!!! ولا تُعتبر الإنتخابات مقبولة إذا لم تأت بهم”!!! يعني الديمقراطية تكون فقط إذا انتخبتم من نريد!!! تفصيلاً على المقاس، ثم هل زعماء العشائر منصوص عليهم في كتاب الله؟

فقال أبو أحمد قاطعاً حبل أفكاري:

ـ أتركونا من الماضي كله، إن ما يزعجني تصريحات بعض قادة الإخوان في غزة، أنهم مع السلطان حتى لو سالت دماء شعبنا على سواحل تركيا، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة عندما تم التطبيع بين الكيان ودولة “السلطان”…

فقال أبو مصطفى وقد بدأت ابتسامة متهكمة ترتسم تحت شاربه الكثيف:

ـ مشعل يقول أن الشعب الفلسطيني الخاسر الأكبر لو نجح الإنقلاب!!!

ومسح شاربيه بإصبعين من يده، وتابع:

ـ الخاسر هو الشعب وليس حركة الإخوان المسلمين!!! أسمعتم؟ لأننا وقتها قد نخسر نتائج التطبيع مع الكيان.

وأطلق ضحكة فاجرة كادت تستجلب عيون المحتفلين، وأكملت أنا:

ـ وأكمل مشعل”يتهموننا أننا “حريم السلطان”، يشرفنا أن نكون “حريم السلطان، إذا كان السلطان هو أردوغان”…

وانتهى النقاش وسط دهشة الشيخ أبو العبد، المنطلقة من بؤبؤي عينيه اللتين اتسعتا فجأة أكبر من أن يستطيع حجبهما، وابتدأت التعليقات، وتعليقاتنا، نحن الكهول، فاجرة فاحشة في أحيان كثيرة، بل معظم الأحيان، وصارت التعليقات مصحوبة بالضحكات وبغلاف دخاني كثيف من سجائر الهيشي:

ـ والله يبدو أن السيد مشعل ياأبا العبد يعرف كيف تكون “حريم السلطان”.

ـ وربما يعرف تماماً ما يبسط “السلطان” وإلّا لما تمنى أن يكون من حريمه!!!

ـ آه والله ياعمي، إسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

ـ لنسأل مشعل أبا ياشيخ، إن كان السلطان يفضل الغلمان!!!

ـ غلام غلام لكن سعره فيه…

ـ ربما نسمع غداً أن “السلطان” أمر “أعط هذا الغلام ألف درهم ومائة ناقة”، مشيراً بإصبعه إلى السيد مشعل، لفضله في متعة السلطان…

ـ  فهمنا لماذا الألف درهم، لكن لماذا المائة ناقة ياأخ العرب؟

ـ ليجلب للسلطان على سناماتها غلماناً جدداً من الفصيلة ذاتها، يعني قافلة متوجهة للباب العالي …

واستمرت التعليقات منهمرة كجدول ماء من سطح جبل، ولم يلحظ مغادرة الشيخ أبو العبد الطاولة سوى أبو حاتم الذي ناداه بأعلى صوته قائلاً:

ـ إلى أين يا أبا العبد؟ القافلة لم تصل بعد، لماذا كل هذه العجالة؟!!!…

فما كان من أبي العبد إلا أن عاد فوراً إلى مكانه، وأخذ يبتسم أمام ضحكاتنا، وقال:

ـ كفى لعنكم الله، كفى قاتلكم الله…

واتسعت ابتسامة فمه واقترب من وسط الطاولة ليسمع الجميع سؤاله، وقال:

ـ بربكم هل صحيح ما نقلتموه على لسان السيد مشعل؟

هز بعضنا رأسه بالإيجاب، لكن أحداً لم يقل شيئاً، خاصة بعد ان هدأ كل شيء فجأة، وأخذت تنسكب في آذاننا صوت شبابة يأتي متماوجاً في سماء الصالة، وقام بعض الشبان والصبايا بكوفياتهم وهندياتهم وأثوابهن الشعبية يدبكون، ويدقون صدر الأرض بأقدامهم الواثقة، على أنغام الدلعونا….. حينها أدركت أن أعراس الصالات أيضاً، لم تكن بذاك السوء الذي تصورته.

محمد النجار

كلب الشيخ شيخ

أصابتني القشعريرة، فجأة على حين غرة، وانتفض جسدي، تهالكت مفاصلي وارتخت، ولم تعد تحملاني ساقاي، وسرعان ما أصابتني الحمى، وتساقط شعر رأسي كما أوراق الأشجار في فصل الخريف، مباشرة بعد تصريح وزير الخارجية القطري، أطال الله عمره، حين قرر سعادته بأن بلاده لن تظل ساكتة، ولن تقف مكتوفة الأيدي، أمام مجازر “الأسد” ضد الشعب السوري، و”أنها ستشارك بالحرب إن تطلب الأمر ذلك”، يا ويلتي… يا ويلتي!!! تُشارك بالحرب!!! إن على الدنيا السلام… وأضاف أن بلاده لن تفكر في الأمر مرّتين، أمام الدماء الجارية من الشعب السوري الشقيق، الذي فتحت له بلاد السيد الوزير ذراعيها مستقبلة، بدلاً من أن يتوجه إلى بلاد الغرب “الكافرة” لا قدر الله ولا سمح، فكيف يمكن أن يهاجر شعب سوريا لبلاد الغرب البعيدة، ومشيخة العز والنخوة والشجاعة والكرم موجودة وعلى مرمى العصا؟ فقيادة مشيخة سيادته، تيمناً بكرم حاتم الطائي الذي ذبح فرسه لضيفه، ذبحت وما زالت أبناءها لتقدم لحمهم وتكرم الغرباء القادمين من أمريكا تحديداً، عن بعد آلاف الأميال، فما بالك بالأقرباء أبناء الجلدة الواحدة والقومية والعروبة والدين والمستقبل المزدهر الواحد، وهي لها في الكرم الحاتمي صولات وجولات، فكما قدمت ما يزيد عن ستين في المائة من تكلفة فاتورة الحرب الأمريكية من القاعدة المتواجدة على أرضها في الحرب على العراق “المجرم”، الذي أراد نفط العرب للعرب، لم تبخل أيضاً في تقاسم فاتورة الحرب على سوريا “المجرمة” التي دعمت متطرفي الأمة في فلسطين ولبنان، ورفضت التسوية والتطبيع مع الحلفاء في إسرائيل، فدفعت المشيخة فاتورة الحرب عليها مناصفة مع الأخوة من آل سعود.

وفوراً، كعادتي في اللحظات الحرجة، تجدني أتقرب الى الله أيُّما تقرب، ففور سماعي الخبر، توجهت إلى المسجد، وتوضأت وصليت وكبّرت واستغفرت، ودعوت الله أن يعود الوزير عن رأيه، فالحرب مكروهة مهما كانت بسيطة ومن دول ثانوية، فما بالك عندما تقودها دولة عظمى مثل “مشيخة الشيخة موزة”!!! فمثل هذه الحرب إن حصلت لن تنطفئ قريباً أبداً، وستنقلب إلى جهنم، وربما كان وقودها “الناس والحجارة”، خاصة إذا بدأت جيوش المشيخة الجرّارة تتقدم زاحفة من أرض المشيخة نفسها، وليس من شركة “بلاك ووتر” وبنغلادش والسودان والشيشان، وكل المسلمين والمؤمنين وحتى من أهل الكتاب، من كل بلاد الله الواسعة، التي يمكن دفع ثمن جيوشها، كما يدّعي المدّعون !.

كما أنني مدرك ومتأكد من نية السيد الوزير الصافية، وأن سيادته لا يريد سوى نقل الخير والبركة لسوريا، كما نهر التقدم والحضارة ونشر الديمقراطية التي تتمتع بها بلاده التي، يوماً، لم تسجن شاعراً أو كاتباً أو صاحب رأي أو مقالة، مهما كان هذا الرأي، وهي، ولله الحمد، لم تكن يوماً “نصف شعبها” مُهمّشاً ودون جنسية باسم “البدون”، وترفض إعطاءه جنسية أو عنوان أو جواز سفر،  ولا كانت أسرتها الحاكمة مستأثرة بسلطة أو ثروة، كما  يقول المغرضون الحاقدون الجهلة، وجل ما تريده لسوريا والسوريين، مجرد طرد القواعد الأجنبية من طول البلاد وعرضها، كي تصبح البلد محررة متحررة مثل بلاده، كذا وتطوير وتصنيع سوريا وتأميم مصانعها ليصير الإقتصاد ملك الدولة والشعب، تماماً مثل دولة سيادته، وتوجيه القطاع الزراعي كي لا تصير الأرض عاقرا جافة، وهذا كله كي لا تظل سوريا دولة مستهلِكة متستوردة حتى الخضار والفاكهة وزجاجات المياه، تيمناً ببلاده أيضاً، التي أسسها الأمير الفذ حمد المسمى زورا وبهتاناً بحمد “الصغير”، الذي لم ينقلب على أبيه “الأمير الوالد” ولم يبقه منفياً خارج البلاد لسنوات طوال، لكن الحرب حرب في كل الأحوال، والجُهَّال مثلي ليسوا لا يفهمون فقط في الحرب بل وفي السلم أيضاً، نعم إنني لا أفهم كما يفهم السيد الوزير وحكام المشيخة من أمراء مناضلين، والتي يسميها بعض الجهلة بالحارة، لذلك التزمتُ الصمت بعد أن ركبني الخوف، وأدمنت المسجد مصلياً داعياً قائماً بعض الليل وطول النهار، واستمر حالي هكذا حتى هزل جسدي وجفت دموع عيني، وتقلصت أوتار صوتي بعد أن جفت وقست وكأنها كومة قش كانت ملقاة في لهيب رمل الصحراء، وصرت لا استطيع الصلاة إلا جالساً ثم نائماً، والخوف، مثل أسد، يتربص بي ويصرعني كلما حاولت النهوض، فصرت أرى، بأم عيني، كيف تتقلص أيامي أمام ناظري، ويتفلت عمري كحفنة ماء من بين أصابعي، وأنا عاجز لا أستطيع أن أفعل شيئاً.

واستمر الخوف مسلطاً سيفه على عنقي، والرجفة تهز أطرافي كما تهتز أغصان شجرة هاجمتها الرياح من كل اتجاه، رغم محاولات أصدقائي إقناعي أن الوزير لم يقصد ما قاله، أو أنه كان يمزح، وأن الوزير إن قرر “غزو” سوريا والعراق أيضاً، أو حتى إيران فإن هذه الدول لن تأخذ “غلوة” واحدة أمام جبروت أم المشايخ، مشيخة “الشيخة موزة” العظمى، وأمام إرادة أمرائها، مهما تهاونت وتواضعت وتساهلت هذه المشيخة المرموقة، والحرب، والحال هذه، لن تكون سوى حرباً خاطفة سريعة، تماماً كلمح البصر، النصر محقق فيها لأصحاب السمو، كما الهزيمة محسومة أيضاً للجيش السوري “الفئوي العلوي”.وقيادته المستهترة.

لم أقتنع بتطمينات أصحابي، وبقيت، في المسجد، أدعو الله خلف شيخي،  وأردد استغفاري بإبتهال متوتر راجف بعد كل صلاة، كوني رأيت نهاية العالم في تصريح الوزير، ووجدتني أعيد دعوات الشيخ كاملة في سري وعلانيتي، حتى إذا تعبت، وعاودتني لحظات الرعب وتلعثمت بكلماتي قبل أن يخرسني جبني أو يكاد، اكتفيت بترداد كلمة “آمين… آمين …آمين يا رب العالمين”، وبذرف الدموع على ما ستؤول الأمور إليه من جبروت “مشيخة المشايخ” وأمراؤها ووزراؤها الأشاوس الصناديد.

طالت الأيام، وأنا لم أعتد الأمر بعد، وأمام غيابي الطويل عن زيارة والديّ، نتيجة تدهور وضعي الصحي، توجهت زوجتي لتشكو إليهم حالي، فجاءت أمي وأبي لمنزلي الزوجي غاضبين، وما أن رأتني أمي، حتى سألتني عما أصابني، لأنها لم تكن لتصدق ما أخبرتها به زوجتي، وقالت أن “إبني ليس مجنوناً ليصاب بكل ذلك”، ولما قابلتني، وذكرت لها مخاوفي من إمكانية هجوم المشيخة لتغيير ميزان القوى في سوريا، بعد فشل مائة دولة في تغييره وحسمه بمن فيها أمريكا ومعظم دول الغرب، ولم يبقَ أمام المشيخة إلّا أن تتدخل بنفسها، قاطعتني وقالت:

ـ “ما ظل في الخم إلّا ممعوط الذنب”

وعلق أبي من وراء ظهرها:

ـ “الفص الحامي من الحمار الضعيف”

لم أعلق على كلامهما المستهزء الجاهل ، لكنني شرحت لهما رأيي وأخبرتهما بتخوفي كوننا دولة مجاورة لسوريا وحرائق حربها ستصلنا، ونحن لا نملك شيئاً لصدها، و”اللي مش بيدك بكيدك” كما يقول مأثورنا الشعبي، وسوف نتأثر بهذه الحرب الجهنمية القادمة شئنا ذلك أم أبينا، فسألت أمي بإستنكار شديد وإستغراب:

ـ أتتكلم بجدية أم تمزح ياولد؟

ولما لم تر غير الجد في كلماتي وبين طيات حروفي، قالت:

ـ آه… عال… هكذا أفخر بولدي!!!

ونظرت إلى السماء، وخاطبت الله قائلة:

ـ ما الذي فعلته ياالله لترزقني بمثل هذا؟ “كان بلا هالرزقة” يارب، أستغفر الله العظيم…

سكتت قليلاً، وأبقت نظراتها معلقة في السماء، وأكملت تخاطب الخالق، منزلة عيونها نحو زوجتي وتابعت:

ـ إن كنت أنا قد أخطأت بحقك وعاقبتني به، فما ذنب هذ المسكينة التي بلوتها به يارب؟

ثم عادت واستغفرت ربها وعادت متوجهة بالحديث إلي:

ـ صدقني يا بُني، كم حاولت أن اُغيرك، لكني أعترف لك أنني فشلت، كنت أعرف طوال الوقت أنك حمار بامتياز، وحاولت نقلك خطوة للأمام، أن تصبح بغلاً مثلاً، لكني فشلت، نعم، فشلت أن أنقلك تلك الخطوة، لكني وللحق لم أتوقع يوما ولم آمل أن تصير حصاناً، لأن الأمل له أسبابه وعلله ومبرراته، تكمن “خميرته” به، وأنت لم تكن بك “خميرة” هذا الأمل أبداً، لكن مادمت تصر على أن تبقى حماراً فلن ينجح أحد في تغييرك…. فاطمئن ونم قرير العين يا ولدي، واحمد الله على ما أنت عليه، الله، الذي لا يحمد على مكروه سواه…

سكتت أمي هُنيهة، لكنها سرعان ما سألتني:

ـ وهل ستغزو سوريا لوحدها أم مع “إخوتها الإسرائيليين”؟

لم أفهم ماذا قصدت ب”إخوتها الإسرائيليين”، لكنني قلت مُتهكماً:

ـ مثل هذه المشيخة هي “أم المشايخ”، ولا تحتاج لا إلى “إسرائيل” ولا إلى أمريكا…

قالت، بعد أن تنهدت طويلاً، وكأنها تخشى نفاذ كومة الهواء التي تحيط بأنفها:

ـ طبعاً يابني، فمثل مشايخنا لن تجد أبداً، فهي ومثيلاتها،  لا يحتاجون لأحد ليأمرهم أو يدعمهم ليبدأوا غزواتهم، فالدول المستقله مثلهم لا يسمحون لأحد بالتدخل في شئونهم ولو بنصيحة، لكنني أتساءل إن كانت جحافل النعاج قد بدأت بالوصول أم تاهت في الطريق؟

تساءلت بغضب وقلت:

ـ نعاج؟ عن أي نعاج تتحدثين؟ جيوش جرارة لدى هؤلاء الزعماء وليس نعاجا…

فقالت مبتسمة مذكرة بكلمات رئيس الوزراء السابق:

ـ لست أنا من قال ذلك، إنه “حمد الأصغر”، ألم يقل أنهم دولة صغيرة “وأنهم نعاج”؟ عندما كان الحديث عن الحرب مع “إسرائيل” كانوا نعاحاً، ولما تحالفوا مع اسرائيل ضد سوريا صاروا أسوداً؟ هؤلاء لا يستطيعون أن يكونوا أسوداً مهما فعلوا يابني، النذل نذل ياولدي حتى لو ملك المال أو القوة أو حتى الإثنتين معاً، لكن سؤالي كيف يمكن للنعجة الحرب؟ تظل النعجة نعجة مهما كبرت أو تضخمت، ويظل مصيرها الذبح.

وتابعت بعد أن سكتت للحظات:

ـ حتى أنه خاف أن يقول أنهم “كباش”، لأن الكباش “تنطح أحياناً”، ومع حليفهم غير مسموح لهم لا “النطاح” ولا البطاح…

قلت غير مقتنع ولا مصدق لكلمات أمي، فهي تبالغ كثيراً لتثبت وجهة نظرها، وهل أكثر دلالة في وصفها لي بأنني ما زلت حماراً، وأنني لم أخطُ تلك الخطوة التي توصلني لدرجة البغل؟ فقلت:

ـ لو لم يكونوا دولة ذات شأن، هل كان يمكن لأمريكا واسرائيل التحالف معها؟

قالت بشكل حاسم حازم:

ـ ليسوا حلفاءهم يابني، إنهم كلابهم…

غضبت وقاطعتها قاءلاً:

ـ إنهم حلفاؤهم وليسوا كلابهم…

فالت بهدوئها الذي لم أرث شيئاً منه:

ـ بل كلابهم…

ـ بل حلفاؤهم…

ـ بل كلابهم…

فقلت بعد أن أخذ مني الغضب ما أخذه:

ـ حتى لو كانوا كلابهم، ف”كلب الشيخ شيخ”….

نظرت مباشرة في قاع عيني، صعدت بعينيها الى حدود السماء، تمتمت بكلمات لم أفهمها، وأثناء مغادرتها، ربتت على كتف زوجتي، وقالت:

ـ أعانك الله يابنيتي… أعانك الله…

وخرجت ممسكة بذراع أبي مستندة عليه…

محمد النجار