لقد إخترع العرب الإسطرلاب…

كنا، نحن معشر الشيوخ، عندما نراه قادماً وقد بدأ يبتسم، ندرك أن لديه شيئاً يريد قوله لنا، لتأخذ سهرتنا الريفية طابعاً مختلفاً، طابع تفاؤل الأطفال وآمال الشباب، فالهم كبير واسع يملأ المكان كله، لذا كلما كان يصطاد أحدنا ضحكة يضحك من أعماقه، وتزداد الضحكات من عمق الآلام ورغماً عنها، ونتهيأ لنسمع “اسطوانة” أبي فهمي الدائمة الجاهزة لمثل هذه الحالات:

ـ على ماذا تضحكون؟ أتضحكون على خيبتكم؟!!! ألم تتعلموا بعد “أن الضحك بلا سبب قلة أدب”؟

وتستمر ضحكاتنا دون أن نعير كلماته إنتباهاً يُذكر، “قابرين” جملته بين صدى ضحكاتنا، متخلصين من واجب المجاملة ومن صدق كلماته في آن …

جاء، من بعيد، رافعاً ابتسامته مثل علم، وكلما اقترب منا اتسعت ابتسامته لتتحول إلى ضحكة دون أن يقول كلمة واحدة، وكنا نحن بدورنا نبدأ بالإبتسام، وكلما أعلنت ابتسامته أكثر، عن نفسها، كلما أحدثت ابنتساماتنا ضجيجاً عالياً مسموعاً، متساوقاً أو متآمراً مع مشروع ضحكته الفاجرة.

كان أصغر من جيلنا بعقد واحد أو يزيد قليلاً، لكنه دخل، لا يدري أحد كيف أو متى، تحت جلودنا، وصار واحداً منا في أول الأمر، ثم صرنا نفتقد غيابه لاحقاً، دون أن يؤثر على تجمعنا الليلي أمام دكان أبي صابر، وسرعان ما تحول وجوده إلى ضرورة، إلى لازمة، لا تستقيم جلساتنا دونها، أصبح حضوره كملح الطعام، لا تستقيم جلساتنا دونها، وصار بعضنا يغادر إن لم يره بيننا، وكنّا أحياناً نستعجل حضوره بإرسالنا أحد أولادنا لإستعجاله، قائلاً له:

ـ أبي يريدك في موضوع مهم ياعمي أبو خالد… بسرعة إن تكرمت…

كي لا نترك له مجالاً للتفلت أو التأخير، ثم صرنا نقول له، أننا نفعل ذلك لنخلصه من كلمات زوجته التي تنزل على رأسه مثل السّوت، فيضحك ويقول:

ـ “ضرب الحبيب كأكل الزبيب”… علي شكركم على حرصكم عليّ … ما شاء الله عليكم، “محمليني جميلتكم أيضاً!!!

قال من بعيد هذه المرة، على غير عادته، بعد أن لوّح بيده في السماء، وكأنه زعيم سياسي يلقي خطاباً:

ـ و”قد إخترع العرب الإسطرلاب”… أإخترعه العرب أم لم يخترعوه، ما هم عليه العرب الآن؟… إنهم لم يتعلموا بعد أن “أصل الفتى ما قد فعل”…

وأعاد ضاحكاً كعادته:

ـ قال “إخترعوا الإسطرلاب” قال!!!

قلت دون أن أُغلق فمي أمام ضحكتي المتدفقة من بين أسناني:

ـ نعم، “إنما الفتى من قال ها أنا ذا”، لكن ما الذي استحضر هذا الأمر على بالك اليوم؟ أفي كل يوم لك “نهفة” جديدة؟!!

فقال الشيخ سالم وهو يُمسّد لحيته وبلغته الفصحى كعادة الشيوخ:

ـ قاتلك الله يارجل، كيف تستحضر هذه الأمور؟

قال وقد توقفت ضحكته على باب فمه، وكأنه ثبتها بيده:

ـ والله يا شيخ عندما أنظر لهذا الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، أكاد أنفجر غيظاً، لكن كما تعلمون “ليس باليد حيلة”.

قال الحاج أبو عماد معلقاً كعادته، الأمر الذي جعل أترابه يلقبونه بأبي عماد السياسي، كونه يعلق على كل خبر سياسي يسمعه، وربما لأنه ما زال من جماعة سلطة “أوسلو”، ويستفيد من خيراتها كما يؤكد أبو فهمي بين وقت وآخر:

ـ فعلاً صار الأمر يُفقد المرء عقله، أنظروا آخر خبر، مفتي المملكة السعودية لا يكفر المسيحيين فقط، بل يُكفر الشيعة أيضاً…

فرد أبو صابر صاحب الدكان الذي نجلس أمامه قائلاً:

ـ وما الغريب في الأمر؟!!! هؤلاء يُكفرون كل من خالفهم، ليس فقط في الأمور الكبيرة، بل وفي أبسط الأمور أيضاً، إنهم يدعون لقتل الذي يسهى عن إقامة أحد الصلوات سهواً وليس عمداً…فماذا يمكن أن تنتظر منهم؟!!!

فرد أبو علي قائلاً:

ـ لكنهم يفعلون السبعة وذمتها أينما حلّوا، ألم يطرد المتظاهرون الفرنسيون الملك وابنه والحاشية كلها من فرنسا قبل شهور؟!!!

لكن أبو محمد الذي يشعر الجميع بتوتره عندما يسمع بمملكة آل سعود، والتي يسميها ب”مملكة الذل والعهر”، قال ماداً يده بإستغراب وغضب:

ـ اتركوا المفتي وشأنه، فهو مجرد ببغاء، يردد ما يطلبون منه، وانظروا ل”غلام” ملوكهم وأمرائهم، الغلام الجبير، قائلاً “أن الأسد كالمغناطيس يجلب الإرهابيين”!!! يعني آل سعود مساكين، إنهم مظلومون، لا دخل لهم في دعم أو تمويل، ولا دخل لأمريكا بتسليح، وقصف الطيران الصهيوني للجيش السوري وعلاجه جرحى الإرهابيين ليس إلّا أكاذيب!!! مادام غلام صار سيحدد مصائر الرؤساء فقد هزلت والله يا جماعة… أسمعتم ؟ هزلت…

عاد أبو عماد “السياسي” للإمساك بخيط الحوار قائلاً:

ـ ماذا تريدون أكثر من أن المنهاج المصري الذي يدرسونه للأطفال، صار يعتبر القدس عاصمة إسرائيل!!! حتى أمريكا ومعظم دول الغرب والعالم لا تعترف بذلك!!! أما العرب فالكرم من أخلاقهم، يتبرعون بما لنا للصهاينة…

فقال أبو خالد وقد بدأ يبتسم من جديد:

ـ لا والله يا “سياسي”، هذه عليك وليست لك، من الذي جعل الحكام العرب يتجرؤون على مثل ذلك؟ أليست قيادتك؟ يعني بصراحة “عاقل يتكلم ومجنون يستمع” كما يقول المثل الشعبي، القيادة تنازلت ، لا تؤاخذني، حتى عن “كلاسين” نسائها، وتلوم الأنظمة؟ لوم قيادتك أولاً…

وضحك أبو خالد بحزن، حين رد الحاج أبو عماد “السياسي” قائلاً:

ـ والله هذه السلطة مليئة بالمناضلين، لو دققتم قليلاً في الأمر لما قلتم عنهم ما قلتموه منذ لحظات…

قال أبو صابر متهكماً، أثناء ذهابه لزبون دخل دكانه:

ـ صدقت والله يا “سياسي”، فها هم حازوا على موافقة الصهاينة ليجمعوا منا فواتير الكهرباء، “إتفاقية تاريخية” كما قالوا، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟

سألت أنا كالأبله، دون أن أميز الإستهزاء بين الكلمات:

ـ وما التاريخي في جمع فواتير الكهرباء؟

فقال أبو فهمي مُتندراً هازاً برأسه هزة لا تعرف أمن الغيظ أم من الإستهزاء بالأمر، أم من القرف منها جميعاً:

ـ آه، صناديد رجال هذه السلطة، أجبروا الإحتلال على أن يجمعوا فواتير الكهرباء… سلطة ولا كل السلطات…قاتلكم الله، كيف لو أنكم حررتم شبراً من أرض؟ لما كانت الدنيا كلها تتسع لكم…

فقال أبو خالد موجهاً كلامه لأبي عماد رغم ضحكات الجميع التي غطت عليها ضحكة الشيخ سالم:

ـ أه…ـ مهما كانوا أبطالاً في الماضي، فهذا لا يبرر أفعالهم المشينة الآن، “ياما ناس” كانوا مناضلين وخانوا يا أبا عماد، انت رجل سياسي وتعرف أكثر من أمثالي…

فقال ابو علي مجدداً، مشعلاً سيجارة “هيشي”، نافخاً دخانها بعيداً عن أبي فهمي، متجنباً كلماته: “عميت ضوي يارجل، أنفخ دخان سيجارتك بعيدا عني”، معلقاً على جماعة السلطة وجماعة الإخوان المسلمين معاً:

ـ حتى الإنتخابات المحلية حرمتمونا منها أنتم وهم..

فقال أبو عماد السياسي:

ـ نحن لا دخل لنا في الأمر، إننا إلتزمنا أمر المحكمة فقط…

قال أبو فهمي معلقاً، محاولاً إبعاد وجهه عن دخان سيجارة أبي علي:

ـ ولماذا لم تلتزموا بقرارت المحكمة عندما أمرتكم مرات، بإطلاق سراح زعيم الجبهة الشعبية الذي سلمتموه ل”ليهود”؟!!!

فقال أبو عماد مبتعداً قليلا عن كلمات أبي فهمي، محاولاً تحييدها لتفقد أهميتها ومعناها:

ـ نحن لا مصلحة لنا في تأجيل الإنتخابات، سنفوز سنفوز، ولكن الآخرين هم من ليس لديهم مصلحة…

وأشار برأسه إلى الشيخ سالم متهكماً، حين رد الشيخ سالم بشيء من العنف:

ـ “فشرت”، هذه “نطة فاتتك”، نحن كنا مَنْ سيفوز لذلك ألغيتموها…

فقال أبوفهمي من جديد:

ـ تتحدثان وكأن الناس في جيوبكما، كأن الشعب قطيع من الغنم يتبع الحمار الذي يسير أمامه “لا تؤاخذونني”، من أكد  لكما هذه النتائج الخادعة؟!!!

قال أبو خالد من جديد، وكأنه يريد تقويم الأمور:

ـ حتى لو فزتما فهذا ليس نجاح لكما بالمعنى الحقيقي للفوز، أعطوني “تلفزيوناً” وعدة صحف وعدة ملايين كي لا أقول مئات الملايين كما لديكما، وأردفوني بجهاز قمع لأسجن وأعتقل كل صاحب رأي مخالف، وأوقف تمويلكما متى شئت، وأغلق صوتكما متى أردت، تماماً كما تفعلان مع خصومكما السياسيين، لأرينكم، وأنا مجرد فرد ولست فصيلاً، كيف يكون الفوز، كلاكما، لولا صناديق المال وأجهزة القمع ما كنتما لتحققا الشيء الكثير…لكن…

وسكت قليلاً، وكأنه يريد إعلام الجميع أنه لم ينتهِ من كلامه بعد، وتابع في سياق آخر، مقترباً بفمه من أذن الحاج أبي عماد، مثيراً فضولنا، رغم أنه سأل بصوت مسموع:

ـ مَنْ ستبعث “قيادتنا المناضلة” للتعزية ب”رجل السلام” الإسرائيلي شمعون بيرس هذه المرة؟

وأطلق ضحكة مجلجلة هذه المرة أيضاً، حين أجاب أبو علي:

ـ من سيكون غير “محمد المدني” رجل التواصل مع “المجتمع الإسرائيلي”….

فقال أبو علي في ذات السياق:

ـ طبعاً ، هذا من باب الرسميات، لأن الرئيس يذهب بنفسه إذا ما أعطوه تصريح زيارة، وسيتصل بنفسه ليقوم بالواجب، أما مشروع الرئيس المقبل “الدحلان”، ربما فتح بيت عزاء في مكان إقامته، أما المدني…

فقال أبو خالد من وسط ضحكاته مقاطعاً:

ـ ماذا سيفعل الرجل ياجماعة؟ رجل “اسمه على جسمه”، يعني الشكل والمضمون واحد، إنه “المدني”، لم يقل مرة أنه العسكري لا قدر الله…

اتسعت الضحكات وتعمقت وانتشرت في فضاء القرية وفوق أسطح منازلها، وبعضها تسلل من الشبابيك المفتوحة ومن شقوق الابواب، وكانت ضحكة الشيخ سالم الشامتة أعلى الضحكات، فقال أبو فهمي هازاً برأسه موجهاً كلامه للشيخ سالم:

ـ مبسوط أنت؟ وكأن أحداً “يحك لك على جَرَب”، وكأن جماعتك أفضل بكثير؟

تنحنح الشيخ سالم وعدّل من جلسته قليلاً، عدل من وضع عمامته، ولم يحاول أن يقول شيئاً، فالمتحدث هو أبو فهمي، أكبر الرجال سناً وقدراً، كما أن هذا العجوز العتيق حمل السلاح في أكثر من وقت ليدافع عن الثورة، ومعارفه ليست من بطون الكتب داخل السجن وحسب، بل من “معمعان” الحياة التي لم ترحمه على طول عمرها، وظل رغم ذلك لا يحيد عن الحق أبداً، يقول “للأعور أنه أعور أمام عينه الباقية” و”لا يخشى في الحق لومة لائم”، وقال أبوصابر مكملاً كلام أبي فهمي:

ـ ألم تر ما يتم عندهم في القطاع المحاصر؟ صار الناس أكثر بؤساً وأكثر فقراً رغم مئات الملايين التي تصلهم، صارت الملايين في جيوب القيادات فقط، يكررون خطيئة قيادات منظمة التحرير نفسها…

ووجه حديثه مباشرة للشيخ سالم مكملاً:

ـ إنتخبكم الناس في الماضي عقاباً لقادة المنظمة الفاسدة، لقد رأوا فيكم مشروع حلمهم في التحرير، وسينبذونكم ما دمتم لا تختلفون بشيء عنهم، وعلى خطاهم المفسدة تسيرون.

قال الحاج أبو عماد معقباً وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة:

ـ أصبحت الأنفاق المتصلة بمصر ، لتهريب المخدرات وحبوب الهلوسة، وما دام التاجر يدفع لحماس فهي تحميه بدلاً من إعتقاله، والمعبر الذي يغلقه نظام مصر، لم يعد للحالات الإنسانية من مرضى وطلاب وكبار سن، بل لمن يدفع أكثر، تدفع تخرج، لا تدفع تموت منتظراً دورك الذي لن يأتي أبداً… إنكم أفضل من يحول بؤس الناس وألامهم إلى تجارة رابحة…

كان الجميع يعرف أن كلام “السياسي” صحيح رغم مآربه، وفكر الشيخ سالم الذي سمع الكثير عن حالات الفساد والإفساد الممنهج لدى جماعته، أن كلام السياسي هذا “كلام حق يراد به باطل”، وكي لا تبدأ السهام تلقى في وجهه، فكر بالسكوت كوسيلة ناجحة في الدفاع عن النفس، ف”السكوت من ذهب” في مثل هذه الحالات، لكن الحديث أيضا ببعض آيات من الذكر الحكيم ستلجم كل هؤلاء المتقولين، قال:

ـ “بسم الله الرحمن الرحيم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. صدق الله العظيم.”

لم يعرف أحد سر قول هذه الآية، لكن الرد جاء على غير توقعه، جاء من صديقه أبو أحمد الذي لم يقل شيئاً، كعادته، حتى هذه اللحظة:

ـ ما دام “الله يهدي من يشاء” ما قصة موضوع زندقتكم للناس والفصائل، التي يطرحها بعض مُفتي حماس هناك في غزة؟ لماذا لا تتركوا الأمر لرب العزة وحده؟ لماذا تدخلون “على خطه”وتحاولون إغتصاب عمله وإرادته؟ اتركوا الخلق للخالق، فتقييم الناس وتوصيفها الديني ومحاكمتها ليس شأنكم ياشيخ…

قال أبو محمد الذي ظل بنفس التوتر الذي كان عليه عندما تحدث عن آل سعود، خاصة أنه يعلم أن فتح وحماس يمولهما آل سعود بسخاء، لهذا لا يخرجا أبداً عن أوامرها:

ـ “مَنْ علمني حرفاً صرت له عبداً”، إنهم تربوا على يد وهابيوا آل سعود، الذين يتهمون بالردة ويُكفرون ويزندقون من أرادوا وكلما أرادوا ووقتما شاؤوا…

فقال أبو عماد من جديد:

ـ إنه بعض سلوكهم في قمع معارضيهم بإسم الدين…

فقال أبو صابر:

ـ يُصورون للناس أن من ينتقدهم ينتقد الدين، ويصورون أنفسهم حماة الدين…

فقال أبو فهمي ضارباً بعكازه وجه الأرض القاسي:

ـ يعني مَنْ يعادي أفكارهم هو عدو الله، وعدو الله يجب قتله أو تصفيته أو سجنه، وذلك أضعف الإيمان…

ثم صرخ غاضباً:

ـ مَنْ نصّب هؤلاء للوصاية على الدين؟ من وضعهم مكان الله؟!!!

سكتنا جميعنا أمام أسئلة أبي فهمي، ولم تعد تُسمع سوى ضربات عكازته لوجه الأرض القاسي الجاف، وسرعان ما قال:

ـ قيادة الإخوان المسلمين هؤلاء مثل قيادة شعب فلسطين التي لا تريد النزول عن ظهورنا، ينطبق عليهم المأثور الشعبي “ذنب الكلب لا يمكن أن ينعدل حتى لو وضعته في مائة قالب”، نسخة كربونية عن القيادات ذاتها، لكن بغطاء ديني هذه المرة…. ما أردت قوله أنه، بعد هزيمة حزيران سبعة وستين، “ونظر في وجوهنا ليرى أي منا قد عاصرها واعياً وليس طفلاً، وأكمل”:قال أحد أإمة الإخوان آنذاك، الشيخ محمد متولي شعراوي، أنه صلى لله شكراً لأنه نصر دولة اليهود “المؤمنة” على دولة عبد الناصر الكافرة… أرأيتم؟ أسمعتم أم أعيد؟ تماماً كما يطالب القرضاوي من أمريكا المؤمنة بضربة”للـــه” في سوريا الفاسقة الكافرة، ويستعيذ بالله ممن يفترض بوجوب حرب الصهاينة!!! ولم نسمعهم مرة واحدة في تاريخهم كله، يقولون كلمة واحدة أويقومون بفعل واحد ضد دولة رجعية، مهما فعلت ضد قضايا أمتنا، هؤلاء كانوا دائماً وأبداً معادين لأي ثورة في الوطن العربي، وها هم الآن يريدون إطفاء نقطة ضوئهم الوحيدة، “القساميون”، بأفعالهم المشينة…

أراد الحاج أبو عماد “السياسي” أن يُضيف على كلمات أبي فهمي، لكن أبو فهمي تابع ناظراً في عينيه نظرة فهمها جيداً، فكف عن محاولته، وأشار إلى الشيخ سالم بإصبع يده قائلاً لأبي عماد السياسي:

ـ هم يريدون إقناعنا أنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة، وأنهم ليسوا وكلاء الله فقط، بل أنهم الله ذاته، من خالفهم كفر، ومن عمل بعيداً عن توجيهاتهم سيتبوأ مكانه من نار جهنم، وأنتم تريدون إقناعنا، نحن القطيع، أنكم أنتم، وفقط أنتم أصحاب الحق الحصري في قيادة هذا الشعب والتحدث بإسمه، كونكم الوحيدون الذين تفهمون في السياسة ودهاليزها، وأنكم الوحيدون أصحاب الحق في التكسب من أكياس المال ـ العلف القادمة من آل سعود، لذا لا تتجرآن أنتما معاً على إدانة تدمير أوطاننا الذي يقوده آل سعود، كي لا أتحدث عن تساوقكما معه، وتعتقدان أن الوطن مختصر بكما، بأنكما الوطن والشعب والقضية… أنتما متشابهان حد التطابق، رغم كل الشعارات الفسفورية البراقة، كلاكما يرفض الآخر بطريقته، جُل القضية الوطنية بالنسبة إليكما مدى تطابقها مع مصالحكما الفئوية والشخصية، تتغنيان بها مادامت “بقرة حلوب” تشربان حليبها وتبيعان ما تبقى، حتى وإن كان حلق الشعب جاف وينتظر حتى قطرة الماء فما بالكما بالحليب؟!!! كُفَّا عن هذا العبث، كفاكما إختصاراً لشعب كامل في فصيلين إثنين، فوالله هذا الشعب أكبر منكما ومن كل الفصائل مجتمعة، ولن يكون قطيعاً مهما حاولتما، مهما دعموكما آل سعود وغير آل سعود، مهما كنتما وصرتما وستصيران… إذهبا إلى الجحيم أنتما معاً، فربما توحدتما في الطريق إلى هناك، أو عندما تقابلان “العادل”، والذي ظني، أنه لن يكون غفورا معكما، لأنه غفور رحيم في كل شيء إلّا في دم الشهداء وأنين الجرحى واليتامى والثكالى، الذي أكلتماه مالاً وبعتماه رخيصاً وشربتماه ذلاً حتى الثمالة، وما تزالان…

وقام أبو فهمي يساعده عكازه، مشى بضع خطوات إلى الأمام، توقف لحظات واستدار قائلاً:

ـ كيف كان يمكن أن يكون حالكما لو حررتما أرضاً؟ ربما كنتما ستنصبان لنا المشانق….

وأكمل طريقه دون تعليق من أحد، ظل يمشي ويهز برأسه ساخطاً، وصعد بنظره بعيداً نحو نجمة ظلت منذ سني شبابه الأولى تتألق في السماء، وكنا ننظر إليه كالبلهاء دون أن ننطق بكلمة واحدة.

أغلق أبو صابر دكانه، وتفرقنا إلى بيوتنا، تطرق رؤوسنا مطارق من كلماته، وفي تلك الليلة ظلت عيون القرية، ببيوتها وأشجارها وآبار مياهها الجافة، معلقة في تلك النجمة المتألقة الساهرة في سماء قريتنا، والتي ترفض المغادرة أو المبيت.

محمد النجار

الخل أخو الخردل!!!

كنا، ومنذ الصغر، أنا وعاهد على طرفي نقيض، نختلف في كل الأشياء التي لا يختلف عليها اثنان، كنا هكذا بدءاً من المدرسة الإبتدائية فالإعدادية فالثانوية، وبقينا نتحين الفرص لينقض أحدنا على الآخر ليحرجه أمام الآخرين، حتى كان لكل منا “شلته” التي يمشي ويلهو ويقضي وقته معها بعيداً عن الآخر، لكن وكما تعلم فهذا الأمر لا يستقيم في داخل قرية صغيرة محدودة، فما بالك في “خربة” جُل سكانها فرعين لنفس العائلة، يجتمعا في الأفراح والأتراح، في الأعياد وفي أماسي الأيام الرمضانية في المساجد والبيوت، وفي ديواني فرعي العائلة المتقابلين كندين في “خربتنا” الصغيرة، كما أننا كبرنا مع مرور الأيام والسنوات، ولم تظل الأمور على ماهي عليه من حِدّة، رغم بقاء بعدنا أحدنا عن الآخر، وجفاء كل منا نحو الآخر، خاصة جفائي أنا نحوه.

لطالما، كنت دائماً ما أرى نفسي عليه، وبفرع عائلتي على عائلته، من كافة الأبواب والنواحي، فنحن، منا، أصحاب الأرض الأكبر في “الخربة”، ولنا معظم أشجار الزيتون، وكل أشجار التين إلا ثلاثة، ونصف أشجار الفاكهة، ولدينا بضعة آبار صخرية لتجميع مياه الأمطار وهم لا يملكون سوى بئر واحد، ومنا أساتذة ثلاثة يُدرّسون في مدرسة القرية التي ننتمي إليها، مع عدد من “الخِرَب”المماثلة والمشابهة “لخربتنا”، كما أنني طالب في السنة الثانية لجامعة محلية وهو مجرد فلاح بائس، يعمل وحماره بشكل متساوٍ، يرتاحان سوياً ويأكلان في ذات الوقت، وربما يتجاذبان أطراف الحديث أيضاً!! يصفرّ وجهه ويضمحل بعد أن يتداخل بطنه ويلتصق بظهره إذا ما تأخر المطر أياماً، مثل شجرة تيبست لكنها ما تزال واقفة، لأن الجوع ملتصق وملازم له، ورغم ذلك لم ير نفسه يوماً بحجمه الطبيعي، ظل يضع رأسه برأسي ورأس أمثالي، دون أن يعير الفوارق الطبقية والإجتماعية بيننا أي إعتبار، بل أحياناً كان يكاد يقنعني أنا نفسي بأن هذه ميزة لصالحه وليست لصالحي، وكان أكثر ما يضايقني أن له من فرع عائلتي أنصاراً أكثر مني.

قال لي أحد أصدقائي، عبد العزيز، حين سألته عن سبب حب الناس واحترامهم له:

ـ إنه يقرأ كتباً لا يعلم أحد كيف أو مِنْ أين يحصل عليها، ويجزم الكثيرون أنه يقرأ أكثر منك ومن أساتذة “خربتنا ” كلهم مجتمعين، وكأنه هو من سيُمتحن وليس أنت!!! ويقول الناس أنه لهذا السبب بالذات لديه حججاً مقنعة لأهل خربتنا.

ثم تابع معلقاً:

ـ لم أكن أعرف أن الأجوبة جميعها تسكن وتقيم في بطن الكتب، وأن من يريد استجلابها، ما عليه سوى زيارة سريعة لتلك الكتب، ليصير من الجهابذة…

لم أعلق على أقواله، فعبد العزيز أحياناً لا يفترق كثيراً في حديثه عن المعاتيه، كما أنه أحياناً تخاله من الفلاسفة الذين أدرس عنهم في الجامعة…

نظر إلي عبد العزيز، وكأنه يريد أن يقول لي شيئاً أكثر مما قال، أو أن يُفهمني بكلماته تلك أكثر مما تحتمل، وتابع:

ـ كما أنه من أجرأ أبناء قريتنا وأكثرهم شجاعة، كما تعلم، رغم أنه يقول أحياناً كلمات لا يفهمها الكثيرون، مثل “أنه ورغم أهمية التعليم إلا أنه لا يساوي شيئاً أمام الثقافه، وأن الكثيرين من المثقفين غير المتعلمين تركوا بصمات وتأثيرات في العالم لم يتركها معظم المتعلمين”، و”أنك إن أردت أن يكون لك شأناً، عليك ترك توافه الأمور، خالقاً لنفسك شخصية تليق بك، فأنت أولا وأخيرا لن تأخذ من هذه الدنيا شيئاً، وستُنسى بعد أيام من مواراتك التراب مثل من سبقك، وإن أردت أن تبقي لك ذكرىً طيبة، عليك ترك أفعالاً تخلد ذكراك، يحبها ويتناقلها الناس”.

وتابع معلقاً:

ـ إنه يتحدث مثل رجل ستيني وليس كشاب من جيلنا، ألا تتذكر لقاءنا الأخير؟ كيف كان يتحدث في كل الأمور ويحللها ويعطيك نتائج تحليلاته وكأنه قد أنهى جامعة منذ سنوات؟!!!

وتذكرنا سوياً أحداث الأيام الماضية وحوارنا معه في المسافة الواقعة بين ديواني فرعي العائلة، قبل بضعة أيام من هذه اللحظة، وكأننا على أرض محايدة، حيث كان الحديث عن المصالحة الفتحاويةـ الفتحاوية، بين الرئيس والدحلان، حيث تفرع الحديث لا يعلم أحد لماذا ولا كيف، عندما قال:

ـ إنظروا من يضغط من أجل هذه المصالحة، إنها مصر والأردن والإمارات على وجه التحديد، ومن خلفهم آل سعود، فلو كان الأمر حرصاً على قضيتنا، لفتح نظام مصر المعبر الذي يخنق به، مع المحتل، شعبنا، أو لما قال وزير خارجيتهم أن قصف أطفالنا ونساءنا بقنابل الموت الصهيونية لا يمكن إعتبارها إرهاباً، أو على الأقل لأوقف نظامهم محاولات تشويه الوعي العربي ليس في الإعلام فحسب بل في مناهجهم الدراسية، حيث”صارت إسرائيل دولة صديقة، وليست عدواً، وأن كثرة الحديث عن صلاح الدين وتحرير القدس يعتبر تحريضا على الإرهاب”!!! أتتخيلون إلى أين وصلت بهم الأمور؟!!

ولما سكت قليلاً أضاف محمد، والذي صار مثل ظله في الفترة الأخيرة، وكأنه يُكمل ما قاله عاهد:

ـ وكأن مصر “الولّادة” صارت عاقراً في ظل هذه الأنظمة، ولم تعد تنجب سوى “المخصيين”، انظروا من رأّست للجامعة العربية!!!، أبو الغيط، ربما أكثر شخصاً في حكومات المخلوع مبارك خساسة وذلاً واستسلاما، أبو الغيط هذا، وكما كانت تزعجه المقاومة وانجازاتها، يقلقه الآن تسوية الدولة السورية مع مسلحي “داريا”، لأنه يخاف من التغيرات الديموغرافية!!!، وليس خوفا من انتصارات الجيش السوري التي تشي بانهيارات قادمة لأكلة أكباد البشر وقاطعي رؤوسهم!!! الأمر الذي يُفشل مخططات أسياده، وكأن الناس متوزعون في سكناهم هناك على أسس طائفية!!! لكنه لم يقلق من قمع نظامه للشباب الثوري المصري الذي ابتدأ الثورة المسروقة بعد اسقاط مبارك، ولا لإعتقال الصحفيين ولاا لإعتقال أصحاب الرأي والعقول، ولا لمنع التظاهرات، ولا لبيع الجزر المصرية لآل سعود، وبيع كل مصر للبنك الدولي والصهاينة من عرب وغير عرب، لم يقلقه أي شيء من هذا كله، لكنه قلق لأن المصالحة تمت بعيداً عن أعين أمريكا وأدواتها!!!

وأمام صمت “شلتنا” المطبق، قال علي، ابن عمي أخو أبي، والذي كنت أعتقد أنه من أوفى أوفياء جماعتي، متوافقاً مع ما ذهب إليه عاهد، وكأن صلة القرابة تجمعه به وليس بي أنا:

ـ أما الأردن، الذي أوجد من أجل حماية “إسرائيل” لن يخرج عن سياقه، فدعمه لمسلحي سوريا هي في ذات السياق، ودعمه لجماعات الإخوان المسلمين المتصالحين مع كل أعداء الأمة، والمعادين لقواها الوطنية هي في ذات السياق، وتكميم الأفواه هناك واعتقال المبدعين تخدم الهدف نفسه. والإمارات رهنت نفسها لآل سعود، بضغط أمريكي، في اليمن، وآل سعود الذين دمروا دولنا وحضارتنا، لم يكن تاريخهم كله سوى لخدمة أعداءنا، من لحظة التبرع بفلسطين “للمساكين اليهود”، مروراً بتوظيف النفط لخدمة المصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة، وصولاً لإستباحة أراضي نجد والحجاز وتحويلها الى قواعد عسكرية لأعداء أمتنا، ولو أرادوا دعم القضية لفعلوا ذلك منذ زمن، فالقضية والشعب تنزفان منذ عقود، ولم يقدموا لها بندقية واحدة، بل تآمروا لإسقاط بندقيتها، وها هم بعد أن حاولوا فاشلين، تدمير شعبنا في اليمن،  يتحفوننا بتبريراتهم ، بأن سبب هروب جنودهم في اليمن، وانهيارهم أمام قوى الثورة اليمنية، ليس الخوف والجبن لا قدر الله، ولا كون جيشهم لم يُنشأ إلا لقمع الشعب وليس لحروب خارجية، بل لأن اليمنيين “سحروهم”…

وسكت قليلاً وكأنه يريد أن نفهم كلمته تماماً كما هي، كي ندرك مدى عجز وتخلف هذا النظام الذي يقود تدمير بلادنا باسم الدين، كما يحلو له أن يقول دائماً…وتابع:

ـ نعم كما سمعتم، سحروهم، يعني سخرّوا الجِن ضدهم وعملوا لهم “الأحجبة”، وجعلوا الشمس مسلطة في وجوههم، لذلك فروا هائمين على وجوههم أمام الجيش اليمني واللجان الشعبية، ولذلك تتفاجأ القيادة السعودية، حيث تذهب لتقصف طائراتها المناطق العسكرية ، فإذا بهذه الأهداف تتحول بفعل “السحر” الى أهداف مدنية، وليس أي أهداف، بل مدارس ومستشفيات ومساجد وأسواق ونساء وأطفال….

ضحك الجميع على ما سمع، وقال طارق، الذي كان جالساً على الأرض ويرسم أشياء على التراب بغصن زيتون مكسور، وما زال ينظر الى نفس النقطة التي أمامه:

ـ هؤلاء الكسالى الذين يريدون الحرب بدبابات مكيفة؟!!!

وضحكنا جميعاً، حين أخذ عاهد زمام المبادرة بالحديث، وعاد به الى نقطة البدء، قال:

ـ إن ضغط هؤلاء لمشروع المصالحة بين عباس ودحلان ليس مشروعاً بريئاً، تماماً مثل محافظتهم على الدحلان ودعمه طوال هذه الفترة، ألم يكن “دحلان هذا” جاهزاً في “عريش” مصر أثناء الحرب الأخيرة بجنود وعتاد، ليدخل على أنقاض المقاومة، بعد توقعاتهم بهزيمتها في غزة؟!!! ثم على ماذا هما مختلفان، أقصد عباس والدحلان؟ “فالخل أخو الخردل” كما يقول المأثور الشعبي، فلا خلاف على برنامج ولا على سياسة، ولم يكن الدحلان الجنرال جياب كما لم يكن عباس جيفارا عصره…

استفزني الحديث، واستفزني أكثر موافقة معظم الجالسين على أقواله، فهذا البائس لا يترك مناسبة دون التهجم على الرئيس وباقي القيادة، قلت:

ـ كعادتك، المبالغة في كل شيء والتهجم على قيادات الشعب، تُفلسف الأمور كي تخدم وجهة نظرك، لا يُحركك سوى الحقد، هراء، كل ما تقوله هراء…

نظر نحوي وكأنه يشفق على عقلي، وتابع وكأنه لم يسمع كلمة واحدة مما قلته، وكأنني مجرد صدى صوت وصل  من مكان بعيد دون أن يعني أي أحد، وتابع حديثه قائلاً:

ـ انهم ببساطة شديدة، يريدون خليفة للرئيس الهرِم، يريدون ترئيسنا شخصاً أكثر سمعاً وطاعةً وبصماً لكل ما يريده الأعداء، وأكثر قمعاً للشعب وملاحقة لمناضليه، كما وأكثر تسامحاً مع “أبناء العمومة”، يعني نسخة أكثر تشويهاً ومسخاً وخضوعاً، وشباباً في نفس الوقت من الرئيس الحالي، حتى يضمنوا أن يظل الحذاء فوق رأس شعبنا أطول فترة ممكنة، كون الأعداء يدركون أن أي منهما لن يكون مشروعاً ثورياً أبداً…

قلت بغضب على حديثه، مُخفياً غضبي على تجاهله لي، محاولاً احراجه في نفس الوقت:

ـ إذا كان حتى الرئيس، رأس الهرم، لا يعجبك؟ ما الذي تريدونه من هذا الشعب أكثر؟ ألا يكفي كل ما تعرض له؟ ألا يحق له أن يعيش بسلام؟ ثم انني لا أعرف من أين لك هذه المعلومات وأنت طوال نهارك تسير خلف حمارك لحرث الأرض، أنا … أنا نفسي ابن الجامعة، لم أسمع بمثل هذه التحاليل التي تتفوه بها…

نظر نحوي طويلاً، ونظر الجميع نحونا، وعلى غير توقعي، تابع حديثه مبتسماً متجاهلاً لوجودي ولحديثي ولكياني كله مرة جديدة، وقال:

ـ وسوف نسمع المسحجين والمستفيدين يباركون، ويعتبرون الأمر وكأنه لا يعدو عن كونه لخدمة وحدة الحركة، وسنستمع الى التبريرات من نفس الشخوص الذين اتهموا دحلان بالخيانة يدافعون عنه الآن، لأنه كما الرئيس، “قائداً مغواراً”، فتح عليه الله ب”العقل المستنير”، فأراه “الحق حقاً ورزقه اتباعاً وأراه الباطل باطلاً ورزقه إجتناباً”، وربما حاولوا إقناعنا وبقية الشعب بأنهما “مبشران بالجنة” أيضاً، وسيبررون لنا ،نحن القطيع، كيف فتح الله لهما باب رزقه بالملايين لهما ولأولادهما وعائلاتهما وللمسحجين والمطبلين لهما، ويسّر لهما الدول والمخابرات المختلفة لدعمهما، ولتفتح لهما صناديق مالها لتغرف منه ما تشاء، ما دامت تسبح بحمد أمريكا وبني صهيون وممالك ومشايخ العربان وعلى رأسهم آل سعود، فكما ترون صار مجتمعنا يتدعشن بفعل سياستهم وبفعل ثقافة الدين السياسي، فصار حتى اسم المرأة عورة، وصاروا يفرضون حتى على المرشحات أن يخفين أسماءهن، ولولا نظام “الكوتا” لترشيح المرأة، ربما لما رأينا مرشحة واحدة، وصار “الأخ اللدود” للدحلان، اللواء الرجوب، والذي لم يعرف أحد كيف صار لواءاً، ربما بعد تسليمه قادة الفصائل المقاومة و تعذيبهم و ملاحقتهم! مثله مثل آلاف الموظفين المماثلين، يُسمي مسيحيينا ب”الماري كريسمس”، ربما لأن ثقافة الرجل أجنبية، فبعد سنوات القمع للمناضلين في جهاز أمنه الوقائي، على امتداد سنوات وسنوات، جاء ليتحفنا الآن بخفة ظله وتهكماته المتخلفة، منتقداً تصويتهم لحماس في عام 2006، متجنباً الخوض أنهم بذلك قد تجاوزوا التعصب الديني والمذهبية والطائفية المقيتة، التي تحاول كل الأنظمة التي فتحت لهم خزائن المال زرعها في مجتمعنا، ودون أن يذكر سبب تصويت معظم الشعب لحماس آنذاك كحركة مقاومة أولا، وحين أدرك الناس أن السلطة ما هي الّا جهاز قمع، وصارت جزءاً من مشروع أمريكا ـ اسرائيل في المنطقة، وغدت سلطته سلطة فساد وإفساد وقمع وتجهيل وكذب ورياء وشراء ذمم، كما هي عليه الآن، وهل يمكنه تفسير لماذا ما زال قائداً هو والدحلان وعباس وأمثالهم حتى الآن، ولماذا كل هذا الإصرار على عدم إصلاح المنظمة والإمعان في فسادها وإفسادها، في الوقت الذي يدفع الشعب دمه وسنين عمره في سجونهم وسجون الإحتلال، كضريبة يومية للتخلص من الإحتلال الذي صار من أهم مموليهم؟ أليس من أجل بقائهم في قيادة الشعب والسلطة؟

قال أحمد معلقاً من وسط الجمع:

ـ صار هؤلاء الإنتهازيون كثيرون داخل السلطة، بل يشكلون معظم قيادتها ممن ينطبق عليهم القول:

” وكم رجل يعد بألف رجل                         وكم ألف يمر بلا عداد”…

قال عبد العزيز مؤكداً على نفس الكلمات:

ـ فعلاً… وكم ألفاً يمر بلا عداد…

فقال طارق معلقاً على ثرائهم الفاحش:

ـ من أين لهم كل هذه الأموال؟ لقد كان هؤلاء حفاة عراة قبل السلطة ومناصبها، وقبل أن يصيروا قادة لهذا الشعب، ولا يعرف أحد كيف؟ فهم ليسوا الأفضل وليسوا الأشجع وليسوا الأكثر عطاءً ولا الأكثر ثقافة، بل على عكس ذلك كله…

علق صديقي وابن عمي خالداً، والذي أنبني بعد ذلك لمحاولاتي الطفولية في إهانة عاهد ناظراً نحوي:

ـ لأنهم عكس كل تلك الصفات التي ذكرت صاروا قيادة، وفعلاً لقد كان هؤلاء لا يملكون ثمن رغيف خبز قبل أن يصيروا قادة،  وينطبق عليهم قول الشاعر:

أتذكر إذ لحافك جلد شاة                       وإذ نعلاك من جلد البعير                                                        فسبحان الذي أعطاك ملكاً                    وعلمك الجلوس غلى السرير

قام من جانبي، طبطب على ظهر عاهد كما لم يفعل من قبل، وقال:

ـ هيا لأوصلك في طريقي، نراكم في مساء الغد ياشباب، تصبحون على خير…

أمسك عاهداً من ذراعه وسارا وليل القرية “الخربة”، وبدأ الجمع يتفرق واحداً بعد الآخر مثل مسبحة قُطع خيطها وانهارت حبيباتها، وبقيت وحدي، ونظرت الى السماء، وبدا لى أنها، هي أيضاً، لا تريد البقاء بجانبي، ورأيتها كيف بدأت تغلق عيونها بعد أن انتهى الصخب في “خربتنا”، وأخذت تغفو في حضن القمر، متمددة على سواحل النجوم، متخفية خلف غيوم الصيف السابحة تحتها، غير آبهة بها، تلك الغيوم المتباعدة المتجولة فوق خربتنا، الغارقة في النوم تحت حفيف أغصان أشجار الزيتون…

محمد النجار

ب”التركي” الفصيح…

إستحضر الرئيس التركي أردوغان السيد خالد مشعل لأنقرة، أبلغه بما أتمّه من صفقة مع الكيان الصهيوني، نصحه، كما ذكرت بعض وسائل الإعلام، باللقاء مع رئيس الموساد، ورغم تأكيد البعض بوقوع الإتصال، إلا أن هذا بعيدا عن موضوعنا، فأردوغان الذي لم تنقطع علاقاته يوماً واحداً مع الكيان العبري، ولا مع اللوبي اليهودي في بلاد العم سام، وكان التاجر “الشاطر” والرابح الأكبر لبيع نفط سوريا والعراق للكيان العبري، بشركات أولاده وصهره، وقبض الثمن على كل “رأس” من الإرهابيين الذين ادخلهم لتدمير سوريا والعراق، كما وثمن كل قطعة سلاح أو آلية أدخلها لهما، وتطور في عهده التبادل التجاري مع “إسرائيل”إلى حوالي ثلاث أضعاف ما كان عليه قبل وصوله للسلطة، رغم كل الضجة والضجيج والمزايدات على القضية الفلسطينية، “ورغم أن تدمير سوريا والعراق بالتأكيد ليس في صالح القضية الفلسطينية”، التي طالما تغنى بها أردوغان نفسه.

والإخوان المسلمون ،كعادتهم، لم يحتجوا ولو بكلمة واحدة على محاولات أردوغان، على مدى عمر الأزمة السورية، اقتطاع الشمال السوري ليلحقه بتركيا، ولا لمطالباته الوقحة بالموصل ليصير جزءا من تركيا، وبالمقابل لم يتذكروا يوماً إغتصاب تركيا للواء الإسكندرون السوري، الذي ضموه لتركيا بالإتفاق مع بريطانيا، عند تقاسم “الغنائم” المحتلة سابقاً من الدولة العثمانية… لكن كل هذا بعيد عن موضوعنا.

وما أن عرف جماعة الإخوان المسلمين بأمر الصفقة، حتى قبل أن يعرفوا تفاصيل ملحقاتها السرية، ورغم أن “بطلهم” أردوغان تنازل عن قَسَمِه ووعوده بما يخص رفع الحصار عن قطاع غزة، إلّا أنهم انبروا للدفاع عن “إمامهم” ب”الباع والذراع”، لدرجة شبهه البعض منهم بالرسول الذي قام بصلح الحديبية، وأن صفقته تخدم الإسلام والمسلمين، وتخدم القضية الفلسطينية حتى وإن بدى غير ذلك، ومن جديد وكعادتهم، يوظفون الدين لخدمة تبرير أفعالهم المشينة، بدلاً من سياسة النقد والنقد الذاتي التي يمارسها معظم الأحزاب السياسية بغض النظر عن توجهاتها وعقائدها، لكنهم وكونهم ينظرون لأنفسهم كوكلاء “حصريون” لله على الأرض، لا يحق لأحد منازعتهم عليها، وربما لا يحق للخالق نفسه إلغاء هذه الوكالة! فإن إعترافهم بالأخطاء ينزلهم في نظر معظم “القطيع” الذي يصدقهم، من المنزلة “الربوبية” إلى المنزلة “الطينية” التي يتشكل البشر منها، فيظهروا على حقيقتهم، التي ليس لها علاقة لا بالآلهة، ولا بالبشر في أحيان كثيرة. لكن كل هذا بعيد عن موضوعنا أيضاً.

لم تتوقف نرجسية أردوغان يوماً حتى وهو في قمة ذُله، وبدلاً من أن يفسر أويبرر سبب خضوعه وخنوعه للكيان الصهيوني الغاصب،  فأخذ يخاطب، متوعداً، الذين أشرفوا على سفينة مرمرة، صارخاً “مَنْ الذي سمح لكم لتفعلوا ذلك؟ هل أخذتم الإذن لتقوموا بذلك؟”، يعني جعل الضحايا من المناضلين هم المذنبون، حتى لوكانوا أتراكاً ومنهم الشهداء والجرحى !!! ولم نلحظ أيضاً أي تعليق على هذا الأمر من كل جماعة الإخوان المسلمين، وكأن شيئا لم يحصل ولم يُقال، وقبل ذلك، قام أردوغان “صاغراً”، بالإعتذار عن إسقاطه الطائرة الروسية، ووعد بأشياء كثيرة “خصمه” الروسي، رغم كل جعجعته ورفضه الإعتذار طوال الفترة الماضية، وأيضاً لم نسمع لو مجرد نقد أو عتاب من كل زعامات الإخوان المسلمين في كل الأقطار التي يتواجدون فيها، لكن هذا أيضاً بعيد عن جوهر موضوعنا.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ماذا لو جاء “أو سيجيء” في الإنتخابات حزباً آخر بقيادة أخرى غير قيادة الإخوان في تركيا، وقام “أو سيقوم”بما قام به أردوغان، يعني، إعتذر للروس باسم تركيا عن اسقاط طائرتهم وقتل طيارهم، وعقد الصفقة المخزية مع الكيان الصهيوني، وتنازل عن رفع الحصار عن غزة، ورفض تنفيذ سياسة أمريكا وحلف الناتو في المنطقة، من سياسة تقسيم سوريا والعراق، ألا يصبح في نظرهم وإعلامهم وتنظيراتهم أنه دكتاتوراً وفاسداً، ما دام ليس من “قبيلة” الإخوان، وسيتذكرون فجأة لواء الإسكندرون المحتل من تركيا؟!!! تماماً كما يفعلون مع إيران بعد سقوط الشاه الذي كانوا يلعقون قدميه صبحة وأصيلا، وربما لم تكن إيران “شيعية”في عهده؟!!! لكن هذا بعيد عن موضوعنا أيضاً.

صدرت، قبل أيام من توقيع الصفقة الأردوغانية ـ الصهيونية، تصريحات متتالية، لأكثر من مسؤول من قيادة  الإخوان المسلمين، فرع فلسطين”حماس”، سواء داخل غزة أو خارجها، بالإطراء على طهران، واصفينها بأنها الداعم الحقيقي للمقاومة، تسليحياً ومالياً، نفس الشخوص الذين طالما امتدحوا قطر وآل سعود والسودان و…إلخ، متجاهلين دور إيران حضورها الدائم بشكل متعمد، منكرين ومستكثرين تصريحات “مناضلي القسام”، حينها، الذين لطالما أعطو إيران حقها في هذا المجال، وتساءلت مثل الكثيرين، مع نفسي، لماذا تأكيد المؤكد هذا، لماذا الآن وفي هذا الوقت بالذات؟ ورأيتني أحيل أسباب ذلك لعدة أسباب منها:

  • أن هؤلاء أرادوا الضغط بطريقة فاشلة على قادة الكيان، بأنه إن لم يتنازل بشيء ما لأردوغان، فإنهم سيتجهون إلى إيران، يعني إحفظي يا”إسرائيل” ماء الوجه لقائد العثمانية الجديدة أردوغان، كي نبقى تحت إبطه، وإلا فإنكِ تجبريننا للتوجه إلى عدوك اللدود إيران.

*أمر آخر ربما يكون وراء ذلك، هو أن قيادة الحركة تعرف جيداً أن إيران ، وبعد موقفهم، من سوريا واليمن وتحريضاتهم المذهبية والطائفية في فلسطين، ربما جعل إيران تدعم القوى الأكثر جذرية في الساحة الفلسطينية، على حساب دعمهم، الذي لم ينقطع أبداً ولكنه، ربما، تراجع قليلاً، الأمر الذي قد يطيح بزعامتهم من القطاع، فكما تقول بعض المصادر، أن إيران دعمتهم بثلاثمائة مليون دولار في ثلاث سنين فقط، يعني لو إمتلكها أي حزب أو تنظيم آخر سيجعل لديه جيشاً جراراً، وسيفرض قوته على الأرض دون كثير من الجهد.

  • الأمر الآخر الذي يجعلهم يتنافسون في هذا المديح، أنه وبعد الرفض المتزايد لبقاء خالد مشعل في منصبه على رأس المكتب السياسي لحماس، وتتزايد المطالبة في تغييره في مؤتمرهم القادم، فإن الكثيرين يريدون الوصول لهذا المنصب، وكون “القساميون” لهم وزنهم وكلمتهم، فمن يريد تبوء هذا المنصب عليه أن يقدم أوراق إعتماده لهم أولاً وقبل أي شيء آخر، وهؤلاء الذين رفعوا إسم حماس عالياً، ولولاهم لظلت الحركة لا تعدو عن فرع للإخوان المسلمين في أي بلد آخر، لا بل هؤلاء القساميون هم النقطة المضيئة الوحيدة في تاريخ حركة الإخوان المسلمين في العالم كله، وعلى المتبارزين في سباق رئاسة الحركة، تقديم ما يُرضي هؤلاء، مرحلياً على الأقل، لأنهم “الإخوان” كصاحبهم وقائدهم أردوغان، سيفعلون ما يريدون ويتغيرون ويتبدلون ما أن تنتهي الإنتخابات… لكن هذا بعيد عن موضوعنا أيضاً.

إذن ما هو الموضوع، ما دام كل ما سبق بعيداً عنه؟ الأمر بإختصار شديد، أن قيادة الإخوان تعرف أردوغان جيداً، فهو منهم وإليهم، مثلهم تماماً، حرباء تُغير لون جلدها كلما غيرت مكانها، يعني “إذا الريح مالت مال حيث تميل”، كما قال الشاعر الإمام الشافعي، وهم يتناسون الشطر الأول من البيت ” لا خير في ود إمرء متلونٍ”، لأنهم كلهم متلونون بكل ألوان الطيف، وكلهم لو كانوا مكانه لفعلوا الأمر نفسه، فهم لا ذمة ولا ضمير ولا موقف واحد ثابت من شيء، لا موقف مبدئي إلا إذا خدم مصالحهم، والوطن لا يعدو أرضاً من أرض الله لا أكثر ولا أقل، أهميتها في كونها بقرة حلوب لمصالحهم ومشاريعهم، وكله بالطبع بشعارات الدين والقرآن والسنة، ففي اليمن كانوا مع علي عبدالله صالح حتى قامت الثورة، فتحولوا لهادي حتى سقط، وكانوا كلما توصلوا لإتفاق مع أنصار الله وباقي قوى اليمن، ولوح لهم آل سعود بالريال تراجعوا عما وقعوا عليه. وها هم يؤيدون عدوان آل سعود على شعبهم وتاريخ اليمن وحضارته. وفي مصر عقدوا صفقة مع السادات لضرب قوى اليسار، ثم تحالفوا مع مبارك ورفضوا المشاركة في الثورة حتى قبل سقوطه بأيام، ثم عقدوا صفقة الحكم مع العسكر، الذين عادوا لينقلبوا عليهم بمساندة شعبية “قرفت” منهم ومن أفعالهم في مدة لم تتجاوز عام واحد فقط، رغم كل الشعارات الدينية لشعب مؤمن بفطرته و70% منه أمياً وتحت خط الفقر المدقع، فما بالك لو كانت نسبة الجهل تقارب الصفر كما كانت في عهد المرحوم عبد الناصر؟!!! كذلك الحال، شكل لنا خالد مشعل عصابة”أكناف بيت المقدس” في مخيم اليرموك، واستحضر لنا جبهة النصرة التي استحضرت بالمال الدواعش، ليقتلع شعبنا من أكبر تجمع فلسطيني، رمز “حق العودة” ويدمروه على رأس قاطنيه، ليعيدوا تهجير من نجا من سكانه في بلاد العالم باسم الدين، والمخيم الذي ناهز ال180 ألفاً، لم يعد به ثمانية آلاف، بعد ما قدمت لهم، على وجه التحديد، سوريا من دعم غير محدود…. والأمثلة على ذلك كثيرة منذ نشأتهم بقرار من “بريطانيا العظمى”حتى هذه الساعة، فهم لم يكونوا يوماً إلّا في صف الثورة المضادة، لم يكونوا يوماً واحداً في صفوف شعبهم أم معه، وكل ذلك مبررا بالدين والشريعة وبإسمهما. لذا نقولها بالصوت العالي، وب”التركي” الفصيح، ما دام “هيدا العربي ما بفيد”كما قال الفنان الكبير زياد رحباني، أنكم ورغم كل نفاقكم، واستخدامكم الإنتهازي للدين، وبعد تدميركم لأوطاننا ولأوطان غيرنا أيضاً، وبعد تهجيركم مسيحيي شعبنا العربي، ومسلميه خاصة “السنة” منهم ،والذين تدّعون الإنتساب إليهم، وقتلهم في البيوت والطرقات والصحاري، وبعد سبي نسائنا من غير ديانة، واغتصاب “السنيات منهن” بمسمى جهاد نكاحكم، حتى للأب مع إبنته ياقذارات الأرض، ووليتم علينا العثمانية الجديدة دون استشارة من الشعب أو حتى استمتزاجه، رغم أن العثمانية القديمة هي مَنْ أوصتنا إلى أذيال الأمة بعد أن كنا في طليعتها، واُخرجوا من بلادنا تاركين شعبنا أسوأ من الزمن الذي دخلوا به واحتلوه، يعني أسوأ مما كنا عليه قبل أربعمائة عام!!!، هذا بعد أن نهبوا ثروات بلادنا وخيراته، وأخذوا رجالنا وقوداً لحروبهم مع شعوب العالم، وأخذوا أطفالنا كجنود للمستقبل، ودمروا حضارتنا وأقاموا المجازر ضد شعبنا وشعوب الكثير من العالم، وغادرونا بعد أن سلموا بلادنا للإستعمار الجديد، وبعد أربعة قرون لم يبنوا فيها جامعة ولم يقيموا مشفى، ولم يعبدوا طريقاً ولم يحفروا بئراً. وها أنتم ما زلتم تنتجون كل الحثالات البشرية من أكلة لحوم البشر وقلوب الناس، وقاتلي أبناءنا الأسرى ومنكلين بهم، تماماً كما فعل الصهاينة في فلسطين، ووزعتم دماءنا في كل بقاع الأرض، من أفغانستان إلى باريس إلى اليمن والصومال، لكننا لم نسمع عن صولات وجولات لكم مع الصهاينة في فلسطين منذ قرن كامل.

وأخيراً، وليس آخراً، لماذا لم نرَ الإحتفالات بيوم القدس، نعم القدس التي تقع في فلسطين وتحوي المسجد الأقصى إن كنتم ما زلتم تتذكرون، إلا في الدول “الشيعية” ومن ال”الشيعة” عرباً وفرساً، كما في تونس المعادية لمشروعكم الإخواني، وفي سوريا والعراق واليمن الذي تدمرون، ولم نرَ ولو مظاهرة واحدة في بلدانكم “السنية” الداعمة للقتل في بلادنا، من دويلات الخليج أو مملكة آل سعود، أو تركيا قائدة “التدمير” في بلادنا “الكافرة”؟ !!! أم أن القدس والأقصى يتبعون “الشيعة” وليس “السنة”؟!!! كي لا نقول لماذا لم تدعموا الشعب بالمال والسلاح بربع ما دعمتم الحثالات البشرية التي تُقتل بشعبنا وتدمر أوطاننا؟ وكما تدعمون القتلة في سوريا والعراق وتونس والجزائر ومصر واليمن و….و…و….

نقولها بكل وضوح، أن نهايتكم السياسية تلوح في الأفق، فالشعوب لن تسامحكم عما فعلتموه وما زلتم بأموال النفط المنهوبة من قِبل آل سعود، قسمتم بلادنا إلى “سنة وشيعة وعلويين ودروز و…و… من الملل والمذاهب والطوائف، وإلى أديان من “مسيحيين ومسلمين” وقوميات”عرب وأكراد”، وقتلتم الجميع بما فيه من تدعون أنكم إليهم تنتمون، فالقطيع بعد أن بدأت تتضح له الرؤيا لن يظل، على الأقل، كله قطيعاً، فمرحلتكم في أفول ومستقبل شعبنا تبنيه الدماء التي هدرتموها على مدى السنوات الماضية، وبالسواعد التي ما تزال تدافع عن الوطن العربي في وجه حثالاتكم البشرية … إنكم نسيتم  أو لا تعلمون، كونكم لا تقرأون ولا تعرفون تاريخ شعبنا العربي، أن طائر الفنيق ،كلما إحترق، يقوم من تحت الرماد، وطائرنا بدأ يتململ ويحرك أجنحته لينطلق محلقاً في السماء من جديد.

محمد النجار

“قوة الرئيس في ضعفه”…

جاءني الكهل أبو عمر مُجَدداً، حاملاً بيده، كعادته، لعبة صغيرة لإبنتي، وجريدة لم أعد أذكر إسمها، رماها أمامي على الطاولة وهو يضحك بدموع مدرارة، لم أدرك حينها أبسبب الفرحة الكبيرة أم الحزن اللامتناهي، فأزحت الجريدة جانباً من أمامي، وشكرته على هديته، وأصغيت لما يريد قوله، غير مدرك أن الجزء الأساس فيما يريد قوله ينام متمددا في بطن “جريدته” تلك، ولما رآني أزحتها جانباً، أوقف ينبوع ضحكاته وأبقى على دموعه تتسايق للوصول إلى تجاعيد وجهه، قبل أن يُوزّعها على مساحة وجهه بظاهر يده، وقال وكأنه جاء مُصادفة فقط، وليس خصيصاً ليراني، ويُروّح قليلاً عن نفسه:

ـ ما هي آخر الأخبار يا أستاذ؟

تربطني بهذا الكهل علاقة غريبة نوعاً ما، فلا صلة قرابة بيننا ولا صداقة ربطتني، في سابق الأيام، مع أولاده الذين هم بمثل سني ومن جيلي، ولست من مخيمه القابع على مدخل المدينة لإستقبال كل قادم وزائر إليها، وكل ما في الأمر أننا إلتقينا مرة واحدة، واحدة فقط، في زيارة لأحد السجون، هو لزيارة حفيده الشاب وأنا لزيارة أخي، تجالسنا في مقعدين متجاورين في باص الصليب، دردشنا في أمور شتى، في السياسة، في أمور الناس المعيشية، في ظروف وحاجات الأسرى وهمومهم، وكان أكثر ما شرح صدره حينها، كما أذكر، تلك الإرادة “الهائلة”، كما سمّاها، لبناتنا ونسائنا، اللواتي يُهربن السائل المنوي من رجالهن لينتصرن على مشروعهم القاتل، بمشروعنا الحياتي الإنساني، وهن ، كما قال، يستطعن الإنفصال والزواج والإنجاب، بعيداً عن كل هذه الهموم، دون أن يخشين لائمة أو عتاب، ولما قلت له “أنها االإرادة والتحدي التي طالما إنتصرت على القمع والقهر وكل مشاريع الموت، التي تنتهجها “هذه الدولة” ودول العرب جميعها”، نظر إليّ مستغرباً بعض الشيء وقال: “إنه الإخلاص والأصالة قبل ذلك كله”، ثم التقط جرعة هواء وأضاف: ” إنهما الأصل في كل ذلك، لولاهما لما كان ما ذكرت أبداً”.

وسرعان ما إلتقينا بعدها في المدينة، وكنت قادماً لمكتبي الهندسي، ولا أعرف ما الذي إستحضره في تلك اللحظة بالذات، وما أن رأيته حتى توجهت إليه ودعوته لمكتبي ليشرب شيئاً، فهو من الكهول الذين لا تملّ أبداً من الجلوس معه، ولا يغادرك ولو مرة واحدة دون أن يترك أثراً أو بصمة، كما أنه من القلائل الذين لا يمكنك نسيانهم بسهولة.

وقبل دعوتي شاكراً “لطفي”، وكانت دعوتي تلك جسرا يربط بيننا، وصارت أحاديثنا تُمتّن هذه العلاقة وتقوي الجسر، بعد أن تكررت زياراته لي بشكل متباعد، وفي كل مرة كان يحمل شيئاً ليخبرني به، كما لعبة صغيرة لإبنتي مها، التي أخبرته عنها وعن عمرها في لقائنا الأول… ولم يأت يوماً لمكتبي بيدٍ فارغةٍ أبداً.

قلت وقد مددت يدي بكأس عصيرٍ أمامه:

ـ الأخبار كثيرة يا أبا عمر، ولا أدري كيف يحتملها الناس؟!!!

فقال مؤكداً قولي:

ـ صدقت والله يا أستاذ، كيف يحتملها الناس فعلاً؟!!! إن كل ما فعلوه لم يريدوا منه سوى خلق حفنة من المرتزقة المسحجين للرئيس وحاشيته، وشعب من البُلداء وغير المبالين، الذين لا يعرفون أكثر من “شعار” اللهم نفسي، ونجحوا في الأولى كما ترى، لكنهم فشلوا في الثانية وإن بدا أحياناً أن الناس مُحبطين… أم بماذا يمكن أن تُسمي تصريح الرئيس بأن” مُنفذ عملية تل أبيب إرهابياً ويجب إعدامه”؟!!!، هذا الكلام لم يقله الرئيس عن أي مجرم منهم، ولم يطالب يوماً بإعدام من أحرقوا أطفالنا ولا من قتلوا نساءنا وأولادنا… وتجد المرتزقة والطفيليين يسحجون ويكررون كالببغاوات ما يقول، ويبررون أقاويله ويفسرونها ويشرحونها وكأنهم يفسرون “القرآن الكريم”، معتقدين أن الشعب سيبتلع تفاهاتهم ويظل بالعاً لسانه ومقيداً يديه إلى الأبد.

كعادته، إبتدأ أبو عمر الحديث مباشرة ودون مراوغة، فهو، كما بدا لي، لم يتجنب يوماً قول الحقيقة مهما بدت قاسية ومهما كان ارتدادها عليه سلباً، وإلا كيف يمكنك تفسير أن إنساناً يُعتقل إدارياً في مثل سنه؟!!! وأكمل وكأنه لم ينهِ حديثه بعد:

ـ وها هو نفسه يبعث مندوباً عن منظمة التحرير بجانب مندوب عن “الجيش الحر” وبعض الدول العربية، للمشاركة في “مؤتمر هرتسيليا للمناعة القومية” الصهيوني، يبعث أو يؤيد أو يتغاضى، لا فرق، عضو لجنة تنفيذية للمنظمة، أتتخيل ذلك يا أستاذ؟ منذ متى “المناعة القومية للصهاينة كانت مفيدة لفلسطين والفلسطينيين؟!!!

وسرعان ما ابتدأت تتسع فتحة فمه وتظهر عدة أسنان متباعدة في فمه، لتلد ضحكة مصاحبة لبضع دموع من عينيه مجدداً، وقال:

ـ منظمة التحرير؟!!! أما زالت تُدعى كذلك يا أستاذ؟ ألم يُغيروا إسمها بعد؟!!! قال التحرير قال!!!

سكت قليلاً وأطلق ضحكة جديدة وزخة دموع، وأكمل متهكماً:

ـ منظمة التحرير والجيش الحر!!! كلاهما حراً وللتحرير… أرأيت المصادفة يا أستاذ؟!!!

قلت عندما أبعد دموع عينيه وأوقف ضحكته:

ـ لكن الرئيس إحتج على تصريحات حاخاماتهم ودعوتهم “لتسميم” مياه الفلسطينيين…

فقال وكأنه يحتج على كلامي:

ـ وهل المطلوب أن يسكت على ذلك أيضاً؟ السؤال الصحيح ياأستاذ، لماذا لم يقدم شكوى للمؤسسات الدولية لحقوق الإنسان بسبب ذلك وغيره أيضاً، أليس ذلك “أضعف الإيمان”؟ فبالنسبة لهم إن إحتج الرئيس أو لم يحتج، إن قال أو لم يقل، فالأمر سيّان، يعني كما قال المأثور الشعبي” قروا أبناء يعبد والّا لعمرهم قرروا”، الأمر ليس في القول أو الإحتجاج، هل رأيت يوماً طريق عودة مرصوفاً بالكلمات؟ السواعد هي الأساس ياأستاذ، مهما كانت هذه الكلمات منمقة أو ملونة أو جميلة!!!

سكتنا قبل أن يرتشف شيئاً من كأس العصير الذي ظل واقفاً أمامه مثل صنم، وسألني وكأنه يريد أن يفتح باباً لتعليقاته أكثر من محاولات معرفة الخبر:

ـ ماذا جرى في مؤتمرهم ذاك؟

فقلت فاسحاً له المجال ليعلق كما يريد، ربما تقديراً لسني عمره أو لإعجابي بتعليقاته:

ـ “كبيرهم كيسنجر”مذعور على مستقبل إسرائيل، خاصة بعد أن صارت يد “حزب الله” تُناطح مخرزهم وتنتصر عليه أيضاً، ورغم كل جبروتهم لا يستطيعون كسرها…

فقال مباشرة ودون تردد:

ـ ليبقى مذعوراً إذن، وما دام هذا مذعور، عليهم أن يقلقوا فعلاً بشأن مستقبل دولتهم…. وماذا أيضاً ياأستاذ؟

ـ يقول قادتهم أنهم لن يسمحوا للجيش السوري بالإنتصار على الدواعش والقاعدة في سوريا، فهؤلاء لم يفعلوا شيئاً ضد إسرائيل، ولن يستبدلونهم بإيران وحزب الله كما يقولون…

قلت مكملاً ما بدأته، وانتظرت تعليقاته من جديد:

ـ طبعاً يا أستاذ، أم لماذا تعتقد أن أمريكا تحاول إدراج “جبهة النصرة، تنظيم القاعدة في بلاد الشام، ضمن ما تُسميهم التنظيمات المعتدلة؟ ولماذا كل هذا التدفق بالسلاح النوعي والآلاف من المرتزقة والأموال من آل سعود والحدود التركية المفتوحة، في الوفت الذي يُحاولون فيه تجفيف كل منابع حزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية،  المالية والتسليحية ؟ ولماذا التدريب والعلاج من “إسرائيل”وفيها؟ أم أنك تعتقد ان كل ذلك عملاً خيّراً؟ هؤلاء لم يكونوا يوماً جمعيات خيرية، إنهم قساة الأرض ومجرموها، لكن ما داموا يعلنون ذلك على الملأ، هناك سببان ياأستاذ، أولهما كونهم لم يعودوا يحسبون حساباً لشعوبنا، معتقدين أنهم ليسوا أكثر من قطيع غنم أو ماعز، وهذا ما يؤلمني، لكنهم في نفس الوقت يستشعرون خطراً جدياً على مشروعهم التكفيري في المنطقة، الأمر الذي يعني أن في هذه الأمة بقايا رجال، تغرق على أبواب سواعدهم كل هذه الحثالات.

قال واقترب بالجريدة ووضعها أمامي مجدداً:

ـ أرأيت هذا يا أستاذ؟

أخذت الجريدة من يده، وبدأت أقرأ الخبر الذي كان يتصدر الجريدة، وكان يبدو مكتوباً من أحد “المسحجين” الذين شغلهم الشاغل “إستحمار” البشر ، ووضع أنفسهم في مكان المكتشفين أو الفلاسفة. وبإختصار شديد، كان الموضوع يتغنى بالرئيس، ليس من حيث طوله أو عرضه، ولا عن “عبقريته” في التوصل إلى إتفاق “أوسلو”، ولا “شطارته” وجمعه لكل ثروته، ولا عن عمله ليلاً نهاراً ليشكل كل هذه الشركات لأولاده وأحفاده وبكل رأس المال هذا …لا…لا … لا، بل كونه “أخطر رجل دبلوماسي على إسرائيل”!!! أتلاحظ معي؟ الأخطر دون جدال أو منافسة، فعلاقات إسرائيل “السيئة” مع أصدقائها بسبب حنكته!!! وتنازلاتهم للفلسطينيين دون أي مقابل بسبب سياسته!!! وتقهقر وضعها الأمني بسبب هذه السياسة أيضا!!!

شعرت وأنا أقرأ أننا نحن من ندخل مدنهم ونقتل أطفالهم، وأننا نحن من نصادر أراضيهم ونبني مكان زيتونهم “مستوطناتنا”، وأن أمريكا ودول الغرب الإستعمارية تضغط عليهم لإرضائنا، ولوهلة ظننت أن الرئيس أخطر من كل الفصائل المقاومة، وأنه أخطر من الصواريخ والمدافع والرصاص.

ونظرت إلى أبي عمر الذي كان، على ما يبدو، يتدارس تضاريس وجهي، وأخذت أبتسم، وتتسع إبتسامتي لتصبح ضحكة تتعالى، وسرعان ما التقت بضحكة أبو عمر، التي إنطلقت مجدداً مفجرة لحفنة دموع، سرعان ما أزاحها قبل أن تنزلق في الهاوية ما بين نهاية خديه وجسده الضعيف، وأوقف ضحكته فجأة وقال محدثني بحكاية من حكاياته، فقال لكن من نهاية القصة هذه المرة:

ـ كان الرجل يحدث زوجته عن معركته مع خصمه اللدود في الحارة، وعلائم الهزيمة على وجهه وجسده، لكنه لن يعترف لها بهزيمته فقال لها متباهياً متنافخاً:” تعاركنا… فلاحني ولحته… ومن شدة قوتي أصبحت تحته… وانظري لعروق رقبتي من كثر ما خنقته…”!!!

وقام أبو عمر مودعاً، وكان قد أوقف ينبوع ضحكاته لكنه لم يستطع أن يوقف نزيف دمعاته.

محمد النجار

قبل حزيران بقليل

كنا ملتفين حول التلفاز في تلك اللحظة، وكنت قد أنهيت آخر إمتحان لدي قبل أيام ثلاثة من وصول أواخر أيار الى أوائل حزيران، ليسلّمه أمانة متابعة الطريق، مُحمله كيس الأيام على كتفيه ليمضي بها ويسير. قمت متاخراً من النوم كعادتي في أيام العطل المدرسية، شربت الشاي مع أمي وجدتي، فبقية أخوتي لم ينهوا عامهم الدراسي مثلي بعد، وللحق، فإنني بالقدر الذي أحب فيه الجلوس مع أمي، كنت بذات القدر لا أحب الجلوس مع جدتي، لكنني كنت أحاول التغطية على الأمر كي لا تغضب أمي.

أمي امرأة دائمة الحركة، ليست إلا نحلة تتنقل من مكان إلى آخر، تكاد لا تجلس أبداً، وفي معظم الأحيان لا تتناول طعام الإفطار معنا، وبالكاد تشرب الشاي، وبالتالي لا يشغلنها شيء سوى عمل البيت ، فمن غسيل الملابس والأطباق، لكيِّ الملابس لجميع أفراد البيت، لتهيئة الطعام ليكون جاهزاً مع موعد قدوم أبي من العمل، لتنظيف البيت وغسله، كما إنجاز متطلبات البيت ومشترياته… الامر الذي يجعلها لا تهتم ، أو لا تستطيع، متابعة التلفاز وبرامجه، كما تفعل جدتي، ومصيبة جدتي أنها لا تتفرج على أفلام أو مسلسلات أو موسيقى، بل شغلها الشاغل متابعة الأخبار، والأخبار فقط، ومن هنا تبتدئ القصة وتنتهي أيضاً ، فلولا عادتها هذه لما كانت هناك لا بداية ولا نهاية ولا كان هناك قصة أصلاً، وما تم ما تم.

تسكن عائلتنا في عمارة من طابقين إثنين، نقيم نحن في الطابق الثاني من شارع وادي التفاح في مدينة الخليل، فرندة البيت الأمامية تطل على الشارع الرئيس، وحمام البيت الخلفي يطل شباكه على شارعيين فرعيين في المنطقة، وجدتي التي تجلس في صالون البيت لا تفعل أكثر من تقليب صفحات التلفاز من محطة إلى أخرى، على نشرات الأخبار دون كللٍ أو ملل، نفس الأخبار التي ما فتئت سمعتها منذ لحظات.

كان الشارع الرئيس ممتلئاً بالناس على عادته في كل يوم، أناس يحاولون التصدي للمستوطنين الذين يملؤون المدينة، ويسيرون يستفزون الناس بعد أن سرقوا بيوتهم بمساعدة الجيش وأسلحتهم، بعد أن سرقوا الحرم الإبراهيمي وقسّموه، والناس الذين لا يملكون سوى سواعدهم وبضع حجارة من حجارة الجبل، ظلّوا يدافعون عن المدينة والكرامة، رغم الثمن الذي ظلوا يدفعونه بشكل يومي، وكان طلاب المدارس قد أنهوا يومهم وخرجوا للشارع، أطفال من جيلي، أكبر أو أصغر قليلاً، صاروا يقذفون الجيش المتسكع الذي يحمي مستوطنيه، والجيش الذي كان يُطلق قنابل الغاز والرصاص على صدورهم، كان ما يزال يطلق النار دون توقف.

وكوني لا أحب الأخبار ولا سماعها، أمسكت بهاتفي الخلوي وقمت إلى الفرندة وأخذت أُصوّر مشهد الجيش وراشقي الحجارة، كمخرج من الملل، كوني لا أستطيع أن أشاهد فيلما أو مسلسلاً لأن جدتي إحتلت شاشة التلفاز في صالون البيت، وشدني مشهد الجيش عندما ألقى القبض على “هيثم”، و”هيثم” هو أحد أبناء مدرستي الذي يصغرني بقبضة سنين، وجارنا ، في الوقت نفسه، القاطن في بيت مجاور، كان قد عاد لتوه من المدرسة، بعد أن أنهى إمتحاناته اليوم بالذات، متوجهاً إلى بيته، وأخذت أُصوّره متخيلاً كيف ستكون ردة فعله وانقباضات وجهه، عندما يطلقون سراحه وأريه “الفيلم” الذي وثّقت به إعتقاله وضربه، لكن الأمور لا تسير دائماً كما نشتهي أو نحب، فقد أخذ الجنود “هيثم”، أركبوه مقدمة الدورية العسكرية ليحميهم من حجارة الطفال، درع بشري كما يقولون، وتوجوا به إلى الشوارع الخلفية، حيث يمكنهم ضربه وإهانته دون متابعة وملاحقة من عيون الشهود.                                                                                                                      لاحقت فكرتي، وانتقلت من “الفرندة” إلى حمام البيت لأكمل التصوير، ومررت من أمام جدتي التي كانت ما تزال تتفرج على مشهد على الشاشة، وترغي وتزبد وتعلق وتقول، فسحبت كلماتها فضول عينيّ إلى الشاشة أثناء مروري…

  •     *       *

كان يحتل الشاشة تقريراً يظهر فيه الرئيس مرة وبعضاً من حاشيته مرة أخرى، يتحدثون عن السلام وما جلبه من أمن وأمان للبلاد والعباد، و”أننا نحن الفلسطينيون لن نوقف التنسيق الأمني مهما كثر الرافضون له، فنحن أعرف بمصالأح شعبنا من كل المزايدين”.

وعلقت جدّتي من بين بواقي أسنانها:

ـ طبعاً، أنتم الآلهة والشعب مجرد أصنام، وهل للأصنام كلام إذا ما تحدثت الآلهة؟!!! فمنذ قدومكم و”مصالح”       شعبنا محفوظة ومُصانه والحمد لله…

وأكمل المتحدث، ذو الصلعة الواسعة مثل طريق أسفلتي واسع في غابة هزيلة،حديثه:

ـ وسنعمل على ان يكون هناك تطبيعاً شاملاً من الدول العربية والإسلاميه، كما أكد سيادة الرئيس، إذا ما وافقت حكومتهم على “السلام”…

وعلقت جدتي من جديد:

ـ آه طبعاً، هذا “فوق البيعة”… يعني بالعربي “زيادة البياع”… فعلاً “الشحادة عادة”…و”وين ما ضربت الأقرع يسيل دمه، هذا إذا كان عنده دماً”

وأكمل المتحدث ذو الصلعة الواسعة التي تكاد تُغطي مساحة رأسه، متابعاً ومدافعاً عن مقترح الرئيس:

ـ تطبيع يخدمهم ويخدمنا ويخدم السلام، وأننا ،كإثبات حسن نية، نوافق على تبادل أراضٍ معهم…

فعلقت جدتي وكأنها مصرة على الرد على كل ما يقولونه، متوجهة بكلامها إلى شاشة التلفاز:

ـ ما هي قصتكم؟ تكذبون الكذبة وتصدقونها… تتحدث عن مبادلة الأراضي وكأنها أرض أبوك، ولا تخص هذا الشعب المسكين…صدق من قال” لا تاخذ من الأقرع نصيحة، لو ربك بحبو لجعل راسه صحيحة”

وسرعان ما قال شخص آخر، أظهره التقرير، غير الأول، لكن من الحاشية نفسها، يُكمل ما قاله صاحبه، لكن بصورة  تُظهره وكأنه متمايز عنه:

ـ أنا لا أتفق مع هذا الرأي، التنسيق الأمني لا يجب أن يكون هكذا، عليهم أن يطلبوا منا ما يريدون ونحن من يقوم بالتنفيذ، وليس أن يقتحموا هم بأنفسهم مناطق السلطة ليعتقلوا ويحاصروا ويقتلوا…

وضعت جدتي يدها عل خدها وقالت ترد على ما سمعت:

ـ شوفي ياأختي “جاء ليكحلها… عماها”، فعلاً كما قال المثل” لا تشمتي ياخدّوجة، أنا عورة وأنت عوجة”… لماذا “يستحمرنا” هؤلاء إلى هذه الدرجة؟!!! فعلاً”قال له مَن فرعنك يافرعون قال له لم أجد من يوقفني عند حدي”…

ثم أن جدتي بدا وكأنها لم تعد تسمع كل كلامهم، فكلامهم متشابه ومكرر ومعاد، لكنها ظلت تعلق على ما ترى وتسمع أحياناً، خاصة عندما كان الرجل “الأقرع” في حذاء أحدهم، والذي لم يكن من حاشية الرئيس، وكان يلبس عباءة سوداء كليل شتاء هذا العام ، يحيط بكامل طرفها خطاً ذهبياً يعطي العباءة ثمناً وهيبة، وبدا أنه قد جاء لتوه من الصحراء فاغتسل ولبس واحتل موقعه أمام شاشة التلفاز ليدلي بتصريحه، وظل يردد عبارة واحدة ويكررها ويلف حولها، ” نحن نوافق على ما يوافق عليه الأخوة الفلسطينيين، نحن مع السلام الدائم والعادل…. إيــــــــــــــه”، ولما سأله صحفي عن أي فلسطينيين يتحدث؟ ف”أغلب الفلسطينيين يرفضون أوسلو ومجراه”، قال:

ـ نحن نتحدث عن قيادة الفلسطينيين الحقيقية،  ولا نتحدث عن المغامرين والمتطرفين….

وهنا ثارت ثائرة جدتي، فصارت تتحدث وكأن هؤلاء جميعهم أمامها في الواقع وليسوا في التلفاز، وتريد بكلامها أن تضع لهم حداً:

ـ ظلوا هكذا أيها الأنذال، دافعوا عن سلامهم ومذلتنا، ولتعلموا أننا نحن “المغامرون” في هذا الوطن العربي و “متطرفيه”، الحائل الوحيد بينهم وبين غرف نومكم. ها أنتم خلعتم كل ملابسكم، صرتم عراة كما جئتم لهذه الدنيا أمامهم، قدمتم لهم كل ما طلبوا ولم يطلبوا، ماذا أخذتم مقابل ذلك غير العار؟!! عار لفكم كأشخاص ودول وأشباه دول وممالك وحارات، لماذا لم تكونوا بهذه الحصافة والإنسانية في العراق وسوريا وليبيا واليمن؟!!! لماذا لم تكونوا هناك أيضاَ رجالات سلام؟!!! … نعم، نحن المغامرون الطريق الوحيد لمسح ما جلبتموه لأمتنا من عار، إصمتوا على ذبحنا، وشاركوا في تدمير أوطاننا واستحمار شعوبنا، لكنكم لا أنت ولا هم، تستطيعون وقف تقدمنا أو قتل إرادتنا، أو مسح ما إستجلبتموه من  ذبح وذل وعار، وسندفنه معكم في غياهب صحرائكم…

  •      *        *

كنت قد غادرت الصالون ،إلى الحمام، من أمام جدتي، وكل كلماتها تتساقط في أذني كلمة بعد أخرى، ووقفت على المرحاض لأستطيع إكمال تصوير “هيثم”، الذي أخذه الجنود إلى الشوارع الخلفية شبه الفارغة ليكملوا حلقات التمتع بضربه، وفي ذهني كشف تصويره هذا لأقرابي وأصدقائي، لنضحك عليه ومعه، والتلفاز مازالت الأصوات المتحدثة به تصل لأذني مثل نباح كلب، لا يعرف السكوت، وأدخلت “هيثم” في عدسة تصوير هاتفي، وأكملت التصوير، والرئيس من التلفاز يصرخ غاضباً ويقول:

ـ أنا لست ضد الكفاح المسلح فقط، أنا ضد كل أشكال العنف أيضاً…

فردت عليه جدتي بحنق:

ـ لماذا تترأس شعباً يريد ذلك إذن؟ يا أخي “حل عن ظهرنا”، مدة رئاستك “خلصت، فارقنا”…

لقد قيدوا أيدي هيثم خلف ظهره، وشنطة كتبه معلقة فوق كتفيه، وسرعان ما غمّموا عينيه بشريطة متسخة بيضاء، وألقوا به أرضاً، إقترب منهم أحد المستعربين ،الذي كان قبل قليل ملثماً وبين راشقي الحجارة، بعد أن خلع لثامه المُزيف، وصورته بلثامه ودون لثام، همس في أذن الضابط بكلمات لم أستطع فك طلاسمها لبعدها عن أذني ولكونها، ربما، بلغة لا أعرفها، أمر الضابط جنوده، فرفعوا هيثم عن الأرض التي ألقوه فوقها عند وصولهم للشارع الخلفي، وتوجهوا به إلى الدورية العسكرية ليضعوه في داخلها.

كانت حرارة شمس نهاية أيار قد اندلقت في الشوارع وفوق رؤوس الناس، وكنت أرى بنفسي كيف تفجرت أشعة الشمس ينابيع عرق من على رأس “هيثم” مارّة بعروق رقبته الضعيفة إلى كل أنحاء جسده، وما أن وقف به الجنود مقيداً مغمّى العينين على باب الدورية العسكرية، حتى علا صوت الجهاز في يد الضابط، فتقدم في تلك اللحظة المستعرب وقد تناول مسدسه المختبئ خلف ظهره، وقال الرئيس في تلك اللحظة بالذات مُصرحاً، في جهاز التلفاز الذي تسمعه جدتي، وكلامه يتدفق في أذني رصاصات قاسية صلبة:

ـ أنا ضد الإنتفاضة أيضاً… الإنتفاضة دمرتنا…

وانطلقت رصاصة واحدة من مسدس الضابط المستعرب، بعد أن نظر يميناً وشمالاً، ليتأكد من أن الشارع لا يضم الكثير من الشهود،  ولمّا ظن أن أحداً لا يوثق ما يفعله، وضع رأس المسدس في رأس هيثم، وأطلق طلقة واحدة، طلقة واحدة فقط وكلمات الرئيس الصارخة” الإنتفاضة دمرتنا”، إخترقتا جمجمة “هيثم” الذي إعتلى شهيداً لتوه درجات السماء نحو الشمس. وجدّتي ترد صارخة، تخاطبه وكأنه أمامها:

ـ نسيتَ ان تقول أن المفاوضات أحيتنا، وأوسلو نهض بشعبنا، والتنسيق الأمني حرر أسرانا وحمى شبابنا وأطفالنا من القتل…

واحتضن هيثم الأرض بوجهه، ولثم ترابها وكأنه يُقبّل أمه، واختلط دمه مع التراب بشكل غريب، كأنه أراد أن يجبل التراب بدمه مع سابق إصرار، وكان جدول الدم يسيل ويسيل، ولم أكن لأصدق يوماً ان جسد الشهيد يمكن أن يحوي كل هذا القدر من الدماء، وكأن هذه الدماء تتزايد خصيصاً لتروي تراب الأرض، لتصير كما كانت تقول جدتي دوماً متسائلة بإستنكار وإصرار، عندما يعلو ويرتقي أي شهيد، بعد أن تسقي دماؤه الأرض:

ـ ماذا كنتم تعتقدون؟!!! أم” من أين للزيتون كل هذا الزيت؟”…

  •         *          *

كنت قد بقيت مشدوها جراء ما رأيت، لم أكن مصدقاً عيناي، بل إعتقدت للحظة أنني ما رأيت سوى كابوس، وأن عيناي تكذب عليّ كما تكذب عينا تائه عطش في سراب الصحراء، وبقيت أنظر من شباك الحمام وهاتفي الخلوي في يدي، ومددت جسدي للخارج أكثر وكأنني أريد أن أثبت لنفسي كذب بؤبؤي عيني، وفي تلك اللحظة بالذات رأوني، لم يرتبكوا كثيراً، فستدافع عنهم دولتهم وقضاءهم كما في كل مرة، لكنهم قرروا اخذ الهاتف كي لا أستطيع نشر ما رأيت، والتفّوا إلى الشارع الرئيس ليجدوني ويصادروا هاتفي.

نزلت من على المرحاض، وصرخت:

ـ لقد رأوني يا”ستي”، لقد رأوني وسيحضرون لمصادرة الهاتف…

ولم أفكر للحظة في مجيئهم لإعتقالي، لكنني أجبت على الأسئلة التي كانت تتوالى من عيني جدتي دون كلام، وأكملت:

ـ لقد قتلوا “هيثم” ياجدتي… قتلوه

ولم تسأل جدتي عمّن يكون “هيثم”، فللشهداء نفس الصورة والقيمة في صدرها وقلبها، وأنا لم أكن أعلم قبل ذلك أن جدتي، هذه العجوز المعمّرة، يمكن أن تفهم ما أريد قوله وبهذه السرعة، وأكثر من ذلك أنني لم أتصور يوماً أن جدتي “الحادة” مثل سكين، يمكن أن تكون ببرودة الأعصاب هذه، في وقت الشدة، قالت بهدوء ووضوح، وقد مدت يدها لأسقط فيها هاتفي:

ـ إياك أن تعترف بما فعلت… سيعتقلونك ويعذبونك، سيسألونك عنه، وأشارت بيدها لتريني عما تتحدث، هذه فرصتك لتكون رجلاً، لا تُفرّط بهذه الفرصة التي لا تتكرر كثيراً إلّا للرجال، إجلس الآن وتفرج على التلفاز وكأن شيئاً لم يكن….

وخرجت إلى الغرفة الأخرى، عرفت لاحقاً أنها أعطت الهاتف لأمي وأخرجتها من المنزل لتعطيه لبعض الجيران البعيدين عن بيتنا، وسرعان ما داهم الجنود البيت، وقابلتهم جدتي، وسألتهم وكأنها من باب التحدي ليس أكثر:

ـ ما الذي تريدونه؟ “هي وكالة من غير بواب؟”البيوت لها حرمتها…

وأخذت تدافعهم على الباب، تحاول منعهم بكل السبل، وكأنها تريد تحويل الأمر الذي جاؤوا من اجله وتغيير هدفه، لكنهم دفعوها ودخلوا، فعضلاتهم أقوى من عظام شيخوختها، لكنها ما أن دخل آخرهم حتى دفعته بكل ما استطاعت من قوة، فتدعثر بقدميه وأسقط واحداً من الجنود الذين كانوا أمامه، فارتفعت حالة الخوف لتتحول إلى جبن داخلهم، كما قال أبي، وهوت على رأس من أسقطته ب”بابوج” قدمها البلاستيكي، واخذت تضرب به رأسه ووجهه، وفي مثل هذ الحالات” يتصاعد الجبن داخل الخائف ويكبر، فما بالك بالجبان من الأصل؟”، والسلاح كما أكد أبي، “في يد الجبان يجرح”، فما بالك إن كان هذا الجبان عدواً؟”، وعندما صار الخوف يتصاعد من ضربات بابوج جدتي، وارتفع منسوب الجبن المجبول بالحقد والكره، وصل الجبن إلى أقصاه ومنتهاه، أخذ الضابط بندقيته الرشاش من على كتفه، وافرغ في جسد جدتي مخزناً كاملاً من الرصاص، فانفجرت ينابيع الدم القاني من جسد جدتي، وسال مدراراً على بلاط البيت، وبابوجها ما زال يهوي على رأس الجندي المتمدد أمامها …

قال لي أبي ونحن نستقبل العزاء المشترك، محتفلين ونوزع الحلوى لإستشهاد جدتي وإستشهاد “هيثم”، قبل إعتفالي بيوم واحد فقط:

ـ حتى وإن إستشهدت جدتك في البيت، وسالت دماؤها على “المصطبة”، فإن دمها قد روى الأرض، فلدماء الشهداء طريقتها في الوصول للأرض لترويها، أم من أين تعتقد أن للزيتون كل هذا الزيت؟!!!

محمد النجار

لمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذا؟!!!

ظلّت الكثير من الأسئلة تدق رأسي دون هوادة، خاصة بعد بعض الحوارات ،المُصرّة على قلب الحقائق، مع البعض، والذين لا يريدون أن يروا ما يدور في منطقتنا، من حرب كونية على مقدراتنا وتاريخنا وبلادنا وشعوبنا ، إلا حرباً طائفية!!! فلا أمريكا تطمع بنا وبخيرات بلادنا، ولا “آل سعود” هم رأس الأفعى في المنطقة، ولا ما يتم لمصلحة الكيان الصهيوني!!! ولا….إلخ، بل إن إيران”الشيعية”، هي فقط السبب وراء الحروب وإدامتها واستدامتها، ومعها حزب الله طبعاً، ولا يمكن أن تنتهي الحرب إلًا بعد الخلاص من إيران “الشيعية”، تاريخاً وطوائف ومذاهب وحتى جغرافيا إن أمكن!!! الأمر الذي يعني طبعاً إدامة الصراع واستمراره إلى آخر إنسان في الجانبين، وبهذا نكون نحن”السنة” قد نظفنا بيتنا من الداخل ونتفرغ لحرب الكيان الصهيوني!!! كلام خالٍ من أي منطق، فلماذا لا يمكننا أن نضع أيدينا مع إيران، ونتخلص من الكيان الصهيوني أولاً، فهذا لا يصح، ولماذا لا نتخلص من الصهاينة وحدنا ثم نرى أمورنا مع إيران فلا يصح أيضاً، فلا يصح معنا نحن “السنة” إلا إستعداء إيران فقط، وتحويل الصهاينة إلى حلفاء محتملين!!!

هكذا قال محاوري في حوارنا الأخير، فازداد طرق السؤال رأسي، لماذا، وازدادت الأسئلة التي تبدأ به أكثر، فتجاهلت “كيف ومتى وأين وهل ومن وإلى متى”، لأنني لو طرحت كل ما يدور في رأسي من أسئلة لما أنهيت مقالتي هذه أبداً، وعليه سأطرح فقط بعض ما يدور في رأسي من أسئلة تتعلق ب”لماذا”، منوهاً أنني لست من أنصار لا الدول الدينية ولا الأحزاب الدينية، وأنني أرى أن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة تخصه وحده، ولا يحق لأي كان التدخل بها، لا من قريب ولا بعيد، كما أنني لاحظت أن كل أصحاب النظرة الطائفية والمتمسكين بها، معجبين أشد الإعجاب بالنظام “الغربي”، والذي لا يفرق بين أبنائه لأي بسبب، دين أو لون أو جنس أو معتقد، لكنهم “عندنا” يريدون مجتمعاً بلون واحد فقط، هذا إذا ظل هناك لون بعد الصراع الدائر….

ولنبدأ بالأسئلة، التي أرجوا أن لا يجيب عليها أو يقرأها أحداً من المتعصبين، من أي طرف كان، وهي أسئلة برسم التفكير لكل مَنْ يدعي أن الصراع الدائر في منطقتنا ما هو إلا صراع طائفي، وليس صراعاً سياسياً في جوهره، مغلفاً بغلاف طائفي:

  • لماذا إصرار الدول “السنية” على حرف إتجاه البوصلة، من فلسطين وتحريرها، ومن العداء للصهيونية إلى جعل العداء لإيران؟ وهل صحيح أن “طويل العمر” ملك آل سعود، دعم بناء المستوطنات بعشرات ملايين الدولارات؟ ودعم حملة إنتخابات نتنياهو ب80 مليون دولار، كما نؤكد الصحافة العبرية؟

  • إذا كان الصراع طائفياً لماذا إذن لم تقم “الدول السنية”، وعل رأسها دولة “آل سعود”، بمحاربة إيران أيام الشاه؟ أم أن إيران كانت “سنية”آنذاك؟

  • لماذا تم افتعال حروب متتالية مع إيران بعد إنتصار الثورة مباشرة؟ رغم أن الإنجليز “حلفاء” الدول السنية “وأبرز داعميهم حتى اليوم (هم مَن سلم الأهواز لإيران، تماماً كما سلّم الفرنسيون لواء الإسكندرونة لتركيا والإنجليز  لمناطق نجران وعسير وجيزان لآل سعود أنفسهم)، وكذلك سيطرت إيران على الجزر الإماراتية أثناء حكم الشاه، فلماذا لم تحارب الدول “السنية” وعلى رأسها آل سعود الشاه “الشيعي” ولم نسمع من هذه “الدول السنية” ولو كلمة واحدة بهذا الشأن آنذاك؟. بل إن علاقتهم مع الشاه كانت استراتيجية، وهو من ساعدهم على ضرب القوى الثورية التي نشأت في بلادهم!!! ولم نسمع “بسنة أو شيعة”، ولا عن اي دور “تشييعي” لإيران في المنطقة.!!!

  • لماذا اكتشف حكام الدول “السنية”، “شيعية إيران” بعد أن تم رفع العلم الفلسطيني فوق سفارة”إسرائيل” الموروثة من عهد الشاه، وتحويلها لسفارة “فلسطين”؟ وفي نفس الوقت الذي إبتدأت أمريكا بفرض حصارها على إيران؟

  • وما دام الموضوع هو “سنة وشيعة”، فلماذا تقيم هذه الممالك والدول والحكام “السنة”، أرفع العلاقات وأكثرها تطوراً، مع دولة أذربيجان “الشيعية”، صاحبة العلاقات الأكثر تميزاً بالكيان الصهيوني، وخاصة من الناحية الأمنية، التي تضر أول ما تضر بقضية”العرب السنة” في فلسطين؟!!!

  • لماذا، والأمر كذلك، لم تدعم الدول “السنية”وعلى رأسها بلاد “مملكة الخير” وقيادتها، آل سعود، الفصائل “السنية” في فلسطين، بعُشر ما قدمته لما إستجلبته من حثالات بشرية لتدمير أوطاننا في سوريا والعراق وليبيا واليمن و”الحبل على الجرار”؟ وتركت الأمر لإيران”الشيعية” لدعم فلسطين “السنية” وفصائلها؟ وتركت خلايا “حزب الله الشيعي” يدرب ويعلم وينقل السلاح ويُهربه إلى القطاع المحاصر، وتُعتقل بعض خلاياه في الدولة المصرية “السنية”؟ ولم تقدم أي نوع من الدعم للقضية الفلسطينية “السنية”، على مدار 68 سنة من عمر القضية، ولا حتى فتوى واحدة من شيوخ “السنة” العباقرة في بلاد آل سعود، بل أنها أوقفت حتى التبرعات لهذه القضية…

  • لماذا لم تقم الدول “السنية” بمحاربة محتلي المسجد الأقصى المبارك” أولى القبلتين وثالث الحرمين” رغم مرور 49 عاماً على إحتلاله، وشيوخ فتنتها كما القرضاوي “ينبحون” لمحاربة سوريا لنشر الديموقراطية هناك؟!!! ويستعيذ الله متبرئاً ممن يقولون بمحاربة “إسرائيل” بعد الإنتهاء من سوريا، ويشحذ من أمريكا المزيد من التدمير لبلداننا، ” ضربات لسوريا من أجل الله ياأمريكا”، الغريب أن البلاد والمقدسات محتلة من”اليهود الصهاينة” وهم ينادون بالديمقراطية في بلدان يحكمها “مسلمون”!!! والأغرب أنهم يريدون الديمقراطية التي يمنعونها في بلادهم، والإنتخابات التي لم يجرونها يوماً، والدستور وهم لا يملكون دستوراً… مع ملاحظة أن كاتب هذه السطور من أشد مؤيدي حرية الرأي والفكر والتعبير والإختيار، وضد كل أنواع التمييز الديني أو العرقي أو المذهبي والطائفي، أو اللون أو الجنس أو العرق، ومع تشكيل الأحزاب إلّا الدينية منها، والتبادل السلمي للسلطة.

  • بل لماذا تبرعت “مملكة الخير” أطال الله عمر قادتها آل سعود”، بفلسطين، في رسالة موثقة عبر الحلفاء الإنجليز، إلى “المساكين اليهود” أو حتى “إلى غيرهم “كما ورد في الرسالة؟ أعيد “تبرعت” بفلسطين وكأنها من بقايا موروث آبائهم العملاء الفاسدين المتخلفين الجهلة”!!!

  • لماذا لم تستخدم “مملكة الخير”ودول النفط “السنية”علاقاتها بالغرب، أو بالنفط، أو أموال النفط، لدعم قضيتها الأولى قضية فلسطين”السنية”؟

  • لماذا حارب آل سعود “السنة، الثورة الناصرية”السنية”، متحالفاً مع شاه إيران “الشيعي”؟ وراعيتهما أمريكا، أم أنه لم يكن “شيعياً” وإنما نحن الجهلة  المفتقدين للثقافة نعتقد ذلك؟ ولماذا إستدعت الحرب عليه من إسرائيل في حرب 67، معتبرة في رسالتها أن نظام ناصر إذا إستمر دون تدمير حتى سنة 70 فإن نظام “آل سعود” لن يعيش أبداً ليصل لعام 1970، أم أن الصهاينة هم صهاينة “سنة”؟

  • وما دام الأمر طائفي، لماذا إستُجلبت “القاعدة “من العالم إلى ليبيا لتدمير بناها التحتية، وذبح عشرات الآلاف من البشر “السنة”، وتدمير أول شيء النهر العظيم الذي خضّر حتى الصحراء الليبية؟ وأين الشيعة في ليبيا؟ وأين الشيعة من مصر التي يحاولون تدميرها وتقسيمها ؟

  • لماذا ترتضي الدول “السنية”، قائدة الثورة”السنية” في الوطن العربي، ل”تنظيماتها ومناضليها في جبهة النصرة وداعش وأحرار الشام وجيش الإسلام في سوريا” أن يُعالجوا في المستشفيات”الصهيونية” ويزورهم ويلتقيهم “نتنياهو” نفسه، وكل وسائل إعلامهم، ووسائل إعلام الأنظمة “السنية” تغطي على الأمر وتمنع نشره في وسائل إعلامها، وكأنها بذلك تحجب الحقيقة؟ وكيف ترتضي لقيادة الثورة “السنية” في سوريا بالتبرع بهضبة الجولان لإسرائيل مقابل دعمها بإسقاط الأسد؟ كما وكيف ترتضي للثوار”السنة” بالتدرب على أيدي ضباط الصهاينة، وأن يقود عملياتهم في غرفة عمليات “موك” في الأردن ضباطاً “إسرائيليين” بجانب ضباط من طرف آل سعود وأمريكا والأردن؟ والآن يقوم الصهاينة بإنشاء غرفة عمليات مشتركة مع ” المناضليين الجهاديين السنة” من “جبهة النصرةـ تنظيم القاعدة في بلاد الشام ـ لإقامة شريط عازل في الجولان على غرار ما تم في جنوب لبنان؟

  • لماذا لا يُحارب آل سعود، كقيادة للدول “السنية” أمريكا، التي أسقطت القيادة العراقية السنية “صدام حسين” ، بل إستدعت أمريكا وتحالفاتها لإسقاطه بعد أن رفع شعار”نفط العرب للعرب”؟ وفي الوقت الذي رفضت فيه إيران “الشيعية” أن تفتح أراضيها للغزو الأمريكي للعراق ، رغم محاربته لها 8 سنين طوال، فعلت ذلك دول النفط وغير النفط “السنية”، من مصر إلى دولة آل سعود إلى دولة “النعاج” كما سمّاها رئيس وزرائها آنذاك حمد الصغير، إلخ؟  بعد أن حاصروه وقتلوا من شعب العراق ما يزيد عن مليون طفل فقط بسبب حصارهم…

  • لماذا لا تُحرضون “السنة” في لبنان وتدعمونهم بالصواريخ كما فعلت إيران مع حزب الله، لمحاربة إسرائيل، خاصة وأن لديهم قيادة ثورية مثلكم (من الحريري إلى السنيورة إلى فتفت “شرّيب الشاي” مع الجيش الإسرائيلي، إلى ريفي)؟ ولماذا تحالفاتهم فقط مع جعجع وأمثاله، أحد أهم أبطال مجزرة صبرا وشاتيلا، القاتل المحكوم في المحاكم اللبنانية نفسها؟

  • لماذا دعمتم يا آل سعود، ياقادة “السنة”، إثيوبيا، الدولة التي ـ ربماـ من أكثر الدول الإفريقية تعاوناً مع “إسرائيل”، في بناء سد النهضة الذي يحرم الدول “السنية” العربية”مصر والسودان”من المياه، يعطش شعبهما ويصحر أراضيهما، وبتعاون مباشر مع إسرائيل؟

  • لماذا أصبحت إيران دولة نووية رغم حصاراً أمريكياً ودولياً ومنكم أنتم أنفسكم أيها الدول “السنية”، وآل سعود على رأسكم، وصار عندها ما يقرب من الإكتفاء الذاتي إقتصادياً، وأنتم بدلاً من أن تتعلموا منها، وتثبتوا لها أنكم “السنة” لستم بأقل شأنا، فإنكم ما زلتم تعتمدون في إقتصادكم بنسبة أكثر من 90% على النفط، وبدلاً من طلب مساعدتها تحاربونها، وأنتم أيها الكسالى الخائبين، يا آل سعود، ما زلتم تستوردون خضارا ،فقط خضـــــــــــــار، من مختلف دول العالم بأكثر من 30 مليار دولار، أقول مليار وليس مليون، في العام الواحد، وتستوردون المياه بأعلى من أسعار نفط شعبكم المنهوب…وصارت “سلة غذاء الوطن العربي”، السودان، التي تمتلك 30 مليون رأساً من الأبقار، وخمسين مليون رأساً من الماعز ومياه النيل وعشرات الأنهار الأخرى، صارت صحراء وجائعة وجاهلة ومتخلفة وتبيع أبناؤها لآل سعود ليقتلونهم في حرب اليمن، ويمزقها الفساد والبيروقراطية,… رغم “سنيتها” وتطبيقها للشريعة الإسلامية السنية أيضاً.” في هولندا مجرد مليون رأس من الأبقار، وبدون “سِنّة” ولا “شريعة”، صارت من صفوف الدول الأولى في العالم في تصنيع الأجبان والشوكولاتة، وبدون أمية ولا فساد ولا إفساد. أما السودان الذي  إتبع نصائح “سنة” قطر وآل سعود فتقسمت بلاده إلى قسمين، وبدلاً من الإهتمام بمصالح الوطن والمواطن، يقوم بمحاكمة فتاة تلبس بنطالاً أو أخرى تتزوج مسيحياً، لكنها لم تحاسب فاسداً واحداً أو لصاً واحداً.

  • لماذا تتقدم الدول “السنية” دول العالم في الفشل والجهل وتفشي الأمراض والأمية، مصر والصومال وموريتانيا واليمن والسودان والباكستان وأفغانستان.

  • لماذا لم تستثمر الدول الغنية “السنية” أموال خيرات شعبها، في الدول “السنية” المحتاجة لذلك، بدلاً من إبقائها في بلاد الغرب وبنوكها؟ مثل مصر والسودان واليمن، الأمر الذي يُطور هذه الدول ويقضي على البطالة والفقر، ويجعل الدول المستَثمِرة رابحة في نفس الوقت. أم أنهم يدركون أن أمريكا لن تسمح لهم بذلك، وربما تصادر هذه الأموال شاهرة في وجوههم ملف حقوق الإنسان كما هو متوقع!!!

  • لماذا تصر قيادة الدول “السنية” لمحاربة كل من يحارب أمريكا وإسرائيل، ولشيطنته وملاحقته وتوقبف قنواته الإعلامية؟، وكما دفعت أمريكا بإعترافها، ما يفوق على 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله، هكذا تفعل الدول “السنية” بقيادة آل سعود مع فصائل المقاومة العراقية التي طردت الأمريكي خارج العراق في 2011، ومن بينها بعض فصائل الحشد الشعبي في العراق، أو مناهضوا سياسة التدمير التي أنتجها آل سعود في اليمن من “أنصار الله” وغيرها من فصائل إسلامية ويسارية…

  • لماذا يُحارب آل سعود”السنة”، أعداء أمريكا وإسرائيل، ليس في المنطقة فقط بل والعالم أيضاً؟ وتكيل لهم كل التهم وتدفع الأموال من جيب شعبها، لتحصد أمريكا الثمار، وهذه مجرد أمثلة على ذلك:

ـ دفع آل سعود “السنة” مبالغ طائلة بعد فوز الحزب الشيوعي الفرنسي، وكذلك الحزب الشيوعي الإيطالي في إنتخابات بلادهم، للأحزاب الأخرى كي لا يدخلوا في تحالفات معهما كي لا يستطيعا تشكيل حكومات كل في بلدهما، هل كان أولئك شيعة؟ وهل إعتدوا على سيادة بلدان العرب أو المسلمين؟ وبأي حق يتدخل آل سعود في شؤونهم الداخلية؟ ولمصلحة مَنْ؟ أليس لمصلحة أمريكا وبأموال العرب؟!!!

ـ دفع الأموال لشراء البشر والسلاح وبشعارات دينية لمحاربة الإتحاد السوفييتي السابق، لتعود أفغانستان للحظيرة الأمريكية وبأموال عربية، هل كان السوفييت شيعة وأمريكا دولة سنية؟!!! وما شأن آل سعود بذلك؟ ولماذا سكتوا عن تحويل أفغانستان “السنية” إلى دولة فاشلة؟

ـ دعم آل سعود أعداء الثورة الساندينية، بالمال والسلاح، الكونتراس، كي لا يصل أعداء أمريكا للحكم آنذاك، وزهقت نتيجة ذلك عشرات آلاف الأرواح، ودمرت البلاد، بأموال العرب ولمصلحة أمريكا، فهل كانت الثورة الساندينية “شيعية”؟ وبماذا أساءت للسعودية لتقف موقفها ذلك؟

ـ أغرق آل سعود السوق بالنفط وأنزلوا سعره من 120 دولاراً للبرميل إلى أقل من 30 لكي يضربوا الإقتصاد الفنزويلي المعادي للأمريكي وكذلك الروسي المنافس له، وليضربوا الإقتصاد الإيراني أيضاً، فإن كان هناك خسارة بيِّنة لإيران في مليون برميل تصدره في اليوم الواحد كبيرة ومؤثرة، فإن خسارة آل سعود كانت أحد عشر ضعف الخسارة الإيرانية، كونها كانت تبيع أحد عشر ضعف المنتج الإيراني، ومن الرابح من جراء ذلك؟ أمريكا بالتأكيد، وآل سعود”جكر في الطهارة يشخون في لباسهم”.

  • ما دام “الدواعش” وجبهة النصرة، وما شابههم من حثالات بشرية “ثواراً”، لماذا يذبحون الناس ويفجرون أنفسهم في المساجد والأسواق الشعبية، ويصرخون”جئناكم بالذبح” هل هذا الإسلام “السني” الذي يريدون حكمنا به؟ وهل لائحة النساء في زواج النكاح اللواتي يُطلقن ويُزوجن بأوامر “سنية شرعية”ما يقرب من عشرين مرة في اليوم الواحد، ويدفع لها ثمن النكاح، هل هذا من الإنسانية في شيء؟ وهل هو من الديانات لا سيما المذهب السني في شيء؟ وهل يختلف عن بيوت الدعارة في شيء؟ولماذا تركت الدول الغربية القتلة للقدوم إلى سوريا والعراق وسهلت مرورهم؟ ولماذا ساعدتهم أمريكا وقطر وآل سعود؟ وإن كانت تريد أمريكا محاربتهم لماذا تركتهم يتدربون تحت سلطتها وبسلاحها وفي معسكراتها في تركيا وليبيا، ولماذا لم تقدم للجيش العراقي حتى الآن السلاح المطلوب، رغم أنه دفع ثمنه منذ سنوات؟ وماداموا يريدون محاربتهم لماذا جلبوهم إلى ليبيا “السنية”، والتي ليس بها من الشيعة أحد؟ وكيف لم يروا الأسطول البحري الذي يزيد عن 3000 صهريج وينقل النفط المسروق من العراق وسوريا ويتوجه الى تركيا واسرائيل؟ وكيف سمحوا لدويلة الشيخة موزة بشراء 3200 عربة تويتا مجهزة للقتال من اليابان ويدخلونها من تركيا إلى سوريا؟ وكيف لم يرَ الأمريكان مئات الآليات والدبابات ومدافع الهاون والصواريخ التي تتنقل في العراق وسوريا وما بينهما على مساحة آلاف الكيلومترات المربعة؟ في الوقت الذي ترى فيه لو مجرد مناضل فلسطيني واحد في قطاع غزة وتقصفه، لكنها لا تقصفهم؟ وكيف لم تر نقلهم بطائرات تركية وقطرية إلى جنوب اليمن؟ ولماذا قام آل سعود “السنة”وكذلك دولة قطر”السنية” بعزل الجنرال “السني” السوداني”الدابي”، الذي بعثته الجامعة العربية للتحقيق في أحداث سوريا منذ بدايات احداثها، عندما إتهموا النظام بقتل المتظاهرين، وعاد ليقول لرئيس وزراء قطر السابق “حمد الأصغر”، إوقفوا دعمكم وتسليحكم للإرهاب، تتوقف الحرب في سوريا، فكان نتاج تقريره عزله ووقف مهمته.
  • لماذا لم نرَ أو نقرأ أو نسمع رغم كل عمليات التفجير في المساجد والكنائس والأسواق، وتدمير الآثار والتاريخ، والتقتيل والذبح في كامل الفسيفساء العربية، من المناضلين “السنة”، عن أي عملية ضد الكيان الصهيوني، ولو عن طريف الخطأ؟ ولماذا يقتلون من “السنة” أكثر ما يقتلون من المذاهب والطوائف الأخرى، لكل من لا يتطابق وآراءهم؟ وفي المقابل لماذا لم نسمع عن “شيعي”يفجر نفسه في مناطق السنة؟بل أن “الشيعة”في الحشد الشعبي، “والذي يضم في صفوفه عشرات آلاف “السنة”، هم مَنْ يُحرر المناطق “السنية”، لاحظ “السنية” من براثن داعش وأخواتها، ولماذا لم يتوجه الدواعش للمناطق الشيعية في وسط العراق وجنوبه ليحتلوه ماداموا يريدون القضاء على “الرافضة”؟ بل داهموا المناطق “السنية” فقط وذبحوا أهلها ودمروا بنيانها واغتصبوا نساءها؟ ولماذا لم نسمع هذا التقسيم الطائفي عن “سنة وشيعة” بين الأكراد؟

  • لماذا، وهذه ال”لماذا”، كان يجب أن تكون في البداية ربما، لماذا يعتقد هؤلاء “المناضلين السنة”، ومن خلفهم داعميهم وأولهم آل سعود، أن الجنة من حقهم ونصيبهم حصراً ودون غيرهم؟ فلا نصاً يؤكد ذلك، ولا منطق أيضاً، فمذاهب الإسلام من”سنية بمذاهبه الأربعة” الشافعي والحنفي والحنبلى والمالكي” وفرقها من السنية والإباضية والشيعية، يتفرع عنها: أهل الحديث والسلفية والأشاعرة والماتريدية والمرحبة والمعتزلة والجهمية والصوفية والإثنا عشرية والزيدية والأصولية والأخبارية والشيخية والإسماعيلية والنزارية والمستعلبة والعلوية والأذارفة والنجدات والأحمدية والقرآنيين والبهرة  …إلخ والتي تصل الى 73 فرقة، كلها تدّعي أنها تمثل الإسلام “الصحيح”، وكيف  يستطيع هؤلاء التفكير أن لهم ميزة على الطوائف الأخرى وعلى الأديان الأخرى بما فيها الديانات الوضعية، عدا أن ليس لهم فضلاً أو ميزة حتى على ما في طائفتهم نفسها، ألم يحن الوقت ليتدينوا كما يريدون لكن بإبعاد الدين عن السياسة، ألا يكفي ما فعله الدين المسيس في البشرية جمعاء؟ تخيلوا 73 فرقة ومذهب إسلامي، ومثلها أو أقل قليلاً من الديانات الأخرى، والجميع بدون إستثناء يدعي أنه الصحيح، وإلا لغير مذهبه لو كان لديه شك فيه، فلو أراد كل طرف فرض رؤيته على الآخر ماذا يمكن أن يتم في عالمنا العربي؟ تخيلوا إلى أين يمكن أن توصلنا التقسيمات الطائفية والدينية، وربما لو تبعنا العرقية والقومية أيضاً، ستصبح أكبر دولة عربية حسب طائفتها ومذهبها أصغر بكثير من ملعب كرة قدم، دولاً متحاربة متذابحة إلى مالا نهاية، هذا إذا لم نفنِ بالحروب بعضنا بعضا!!!

  • لماذا لا يترك هؤلاء الدين لصاحبه، الله، ولماذا يتدخلون بصنع الله بخلقه؟ ومن أعطاهم الحق بذلك؟ فالدين كما ذكرنا لله والوطن للجميع، فلنترك ما لله لله، ولنتضافر لإعلاء صرح الوطن، ولا نترك أحداً ليتدخل في شؤون الله تحت أي إسم أو ذريعة، فهذه العلاقة بين الإنسان وربه من أشد العلاقات شخصية وخصوصية، ولا يحق لكائن من كان أن يتدخل بها، أما شيوخ الفتنة الذين بحرضون على العنف في أوساط فقراء الشعب وبغض النظر من أي ديانة أو طائفة هم، فنسألهم لماذا لا تبعثون أبناءكم ليفجرون أنفسهم ويصعدون ليحجزوا لكم مكاناً في الجنة؟ وإن كانوا “ملوا زوجاتهم”ويريدون الحوريات، فلماذا لا يذهبون هم أنفسهم ليفجروا أنفسهم ويصعدون الى السماء، بدلاً من تحريض الفقراء ؟ ولماذا لا يعطون الفقراء جزءً من جنانهم الأرضية إن كانوا بهذا الإيمان الذي يدّعون؟ولماذا يبعثون أولادهم وبناتهم إلى بلاد الغرب “الكافرة”، ويبعثون أبناء الفقراء لتفجير أنفسهم في خلق الله وعباده؟ وأكرر من أين لهم التأكد من صحة طائفتهم أو مذهبهم؟ ومن أين يعرفون أن لهم الجنة دون غيرهم؟ بل من قال أصلاً أن لهم الجنة؟، فالله ،حتى الله الرؤوف الرحيم، لا يرحم العملاء والمجرمين…

محمد النجار

أصابع الببو ياخيار

ما زالت تدق تلافيف رأسي بقوة، كلمات أمي وزوجتي حتى هذه اللحظات، وهذا الهجوم علي وكأنني لا أعني لهما شيئاً، وما يربكني أكثر اتحادهما ضدي في الفترة الأخيرة، فما أن أفتح فمي متحدثاً أو معلقاً في أمور السياسة وشؤونها حتى تنقضّان على عقلي، مشككتان في أهليته، رغم أنهما تعرفان جيداً أنني أنهيت دراستي الجامعية، رغم أنني أبيع بعض إنتاجهما من خضار حديقة بيتنا الريفي، على عربة في سوق المدينة، كوني لم أجد مكاناً أعمل به في شهادتي هذه، حتى أصبحت الشهادة تُستخدم كسلاح ضدي في بعض الأحيان، فتقول أمي مثلاً ” أحمد الله” أنهم لم يقبلوك حتى معلماً في مدارس أطفالنا، كي لا تسمم عقولهم بأفكارك هذه، فمثل أفكارك لا تنقصهم أبداً”.

ـ “أصابع الببو يا خيار”

ناديت لترويج ما لدي من خيار على عربتي، علّني أبيعها قبل العصر لأستطيع العودة في باص القرية مبكراً هذا النهار، وكلامهما ما زال يدق رأسي كمهدةٍ حديدية ضخمة، ينهال بها عامل قوي فوق سكة حديدية برتابة صلبة لا تنتهي، حتى وأنا أوزن للزبائن طلباتهم لم ينقطع هذا الطرق ولا هذا الرنين، لدرجة أن أرجع لي أحدهم مشكوراً بعض النقود التي أعطيتها له قائلاً لي منبهاً:

ـ إصحَ يا رجل لقد أعطيتني “كيس الخيار”، وأرجعت لي كل المبلغ كبقية لورقة “المية”، حدّ الله ما بيننا وبين الحرام.

كنا ننتظر خبراً عن ذكرى “منتصف أيار”، لنعرف أين سنتفاعل والآخرون بهذه الذكرى، فمنذ سنوات وزوجتي وأمي تشاركان في معظم المناسبات الوطنية ما أمكنهما ذلك، خاصة ذكرى النكبة منها على وجه التحديد، الذي تظل أمي تسأل عنها منذ مغادرتها حتى قدومها في العام الذي سوف يأتي.

وما أخذ يُزعجني في السنوات القليلة الماضية، أكثر من أي شيء، هذا الحلف الذي تشكل ضدي بين أمي وزوجتي، كما أنني لم أسمع بمثل هذا الحلف بين “الحماة وكنتها” إلّا في بيتي، وعلى من؟ على الإبن، أو الزوج، يعني علي أنا، أنا بالذات، ويتكرر الأمر كثيراً لأنني لا أعرف أن أغلق فمي عندما يقتضي الأمر ذلك، لأجد الهجوم أول ما أجده من أمي، التي تبدأ بالقول عند تعليقي الأول على حدث ما:

ـ  لو إنخرست لكان أفضل من أن تبول من فمك، ألم تتعلم بعد أن “السكوت لأمثالك من ذهب”؟

وكنت أقول من باب تكملة الحكمة الشعبية:

ـ نعم و”الكلام من فضة”.

لكنها قالت معلقة:

ـ “بل من تنك صدئ”، لو كان من فضة أو حتى من نحاس لما علقت.

وتكمل زوجتي معلقة في ثنائية عجيبة:

ـ “إذا بُليتم فاستتروا”.

بدأ الأمر كله منذ بضع ليال، عندما رأيت “المناضل الكبير”، كبير المفاوضين الفلسطينيين، وأمين سر منظمة التحرير، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والله وحده يعلم كم من المواقع والمراكز يحتلها أيضاً، وهذا دليل ذكاء وقدرة وعطاء، ولعله شرف كبير لأي كان أن يحتل هذه المواقع، أقول أنني مجرد أن رأيته إنتابني شعور فُجائي بضرورة القيام لتوي والصلاة “ركعتين وربما ثلاثاً” لله عز وجل، على مِنته ونعمته علينا بمثل هذه القيادات، وقلت عندما رأيته بوجهه ” المِسْمَرّ” من أشعة الشمس كوجهي :

ـ وجه المسكين محروق من الفِلاحة…

نظرت أمي الى زوجتي، وأزاحت وجهها كي لا تراني، وعلقت زوجتي:

ـ مثله لا يعرفون فلاحتنا نحن، يعرفون الفلاحة في الشعب، قل ربما من شواطئ بحر تل الربيع…

كنت أنظر إليها وأفكر بصوت مسموع، وكلمات تفكيري تندلق في آذانهما ككتل من رصاص مغلي ذائب لا أعرف له سبباً، قلت عندما رأيته يمرر يديه أو إحداها فوق رأسه، ويضغط معتصراً أفكاره:

ـ كم هو عميق التفكير!، فعلاً كما يقولون أن الرأس كثيف الشعر أو  الرأس الصلعاء من علائم الذكاء، أنظرن إليه بربكن كيف يحاول إعتصار الكلمات من رأسه، حتي ليبدو لمن لا يعرفه، أنه “يستخسر” الكلمات فينا نحن الشعب،  الذين لا نستطيع فهم الأمور على حقيقتها، كوننا لا نفهم كل شيء.

وأنهيت عبارتي لا أعرف لماذا بالقول:

ـ وأكثر ما يعجيني بهذه القيادة شيئين إثنين، وأشرت بإصبعي موضحاً وأكملت، الوعي بالقضية الوطنية، ونظافة اليد…

ويا ليتني لم أقل ما قلت، فسرعان ما قالت أمي بكلمات مستهزئة قاسية:

ـ صدقت، إن كل ما نراه من فلل وعمارات وسيارات وعقارات من معاشهم الشهري فقط…

وصرخت كأن نكبة جديدة اغرقت رأسها من كلملتي:

ـ متى ستتعلم أيها الدابة أن تستخدم رأسك؟ والله أحياناً أفكر أن خلفة أمثالك ما هي إلا إمتحان من رب العالمين وإختبار لصبرنا.

فقلت محتجاً:

ـ أرجوكِ يا أمي أخفضي صوتك، نحن في الليل و”الصوت يُجيب”، ولا أريد أن يسمعنا الجيران.

التقطت زوجتي الكلمات مانعة مماحكتي لأمي من الإستمرار، وقالت بدورها مستهزئة، منادية أمي كما كانت تناديها دوماً منذ بداية زواجنا:

ـ نعم يا “أمي”، كل ما ذكرت من معاشهم فقط…

وكدت للحظات أظن أنها واقفة في صفي، لكن كلماتها لطمتني كحذاء على رأسي، الذي ظلت تدور به الأفكار قبل أن تتشتت وتتفرق، مثل سحابات متقطعة في يوم صيفي عابر، وتابعت:

ـ هذه القيادة يا “أمي” لم تساوم على وطن، ولم تتنازل عن شبر منه، ولم تحوّل ما تبقى منه لتجارة رابحة لها، فلم تُبدل أراضٍ من مناطق c بمناطق من  b ولا من b بمناطق من a، بصفقات مشبوهة مع الإحتلال، لتجني من خلفها الملايين، ولم تقيم الشركات لها ولأولادها لنهب المال العام، ولم تسرق أموال الشعب، وتفاجئنا كل يوم بمحاسبة الفاسدين والمُفسِدين ولصوص المال العام، وبإعتقال العملاء والخونة وسجنهم وإفشال مخططاتهم، وهي لم تعتقل مناضلاً ولم تستهدف مواطناً، لم تختطف طالباً ولم تقمع رأياً ولم توقف عملية فدائية، كما أنها و”الحمد لله” لم تلحس حذاء أمير أو ملك أو رئيس، ولم تبع موقف لأحد، ولديها القرار الفلسطيني المستقل مستقل فعلاً وقولاً، وهي يا “أمي”قيادة جماعية، قراراتها بالإجماع ومؤسساتها تعمل بفعالية، وتنفيذ مهام مؤسساتها لم تنقطع يوماً، الأمر الذي أبقى البنادق موجهة للإحتلال وليس لصدر الشعب. وفوق ذلك كله، ومهما بحثت، فلن تجدي لهم أرصدة في البنوك الغربية ولا العربية ولا المحلية، لا بالملايين ولا حتى بمليون واحد، دليل على نظافة اليد كما أكد زوجي الحبيب!!!

سكتت قليلاً وتابعت وكأنها تحفظ قصيدة عن ظهر قلب:

ـ و”الحمد لله” أن زميلاً لهذا، “وأشارت بيدها الى القائد المناضل المفاوض على التلفاز”، المناضل العبقري الكبير عزام الأحدب أو الأحمق، فأنا لا أحفظ أسماءهم، كان قد أوضح لنا مُفسراً أيضاً، “أن إضراب المعلمين من أجل نيل حقوقهم، يمس بالأمن القومي الفلسطيني!!! “أرأيتِ يا “أمي” ؟ يخبرنا بما لم نكن نعلم، يخبرنا أن هناك أمن قومي فلسطيني، وأنا مثل الكثيرين كنت جاهلة بالأمر!!! كنت جاهلة أن هناك أمن قومي فلسطيني والبلد كله مستباح؟ أمن قومي والصهاينة يطاردون شبابنا ويقتلونهم كل يوم بدم بارد، أمن قومي وجنود الإحتلال يفتشون في غرف نوم هذه القيادة وفي سراويل نسائها؟!!! إضراب المعلمين هو ما يؤثر على الأمن القومي وليس التنسيق الأمني مثلاً، أرأيت؟ فلولا عبقريته في فن إدارة التفسير وطريقته ما كان لنا ، نحن الجهلاء،  أن نفهم الأمر على حقيقته، وكان التبس الأمر علينا وتهنا وأضعنا البوصلة مصدقين المعلمين لا سمح الله ولا قدر.      هؤلاء لا يرون فينا إلّا مجرد قطيع، يتحرك كما يريدون، يسمع ما يقولون، يفهم كما يشتهون ويصدق ما يكذبون.

في تلك اللحظة بالذات، كان المناضل المفاوض الكبير، يقول مفسراً التنسيق الأمني وماذا يعني، موضحاً لمن يريد أن يفهم، ودون أن يترك مجالاً لشك أو تحريف أو تدوير:

ـ التنسيق الأمني يعني أنه عندما يقتل “اسرائيلياً” زوجته، ويتخفى بين الناس في الضفة أو القطاع، ننسق معهم لإرجاعه.

فقلت فوراً في زهوٍ منتصر، موجهاً الكلام لأمي مهملاً زوجتي:

ـ أرأيتِ يا أمي؟

فقالت أمي مباشرة ودون تلعثم:

ـ ومنذ متى يحتمي الصهاينة بيننا يا غبي؟ وهل مثل هذا الأمر إن حصل يحتاج لتنسيق أمني؟ ألهذا يصر الرئيس على أن التنسيق الأمني مقدساً؟ وتصر أمريكا و”إسرائيل” على إستمراره؟ إلى متى سيبقى عقلك مُعطلاً يا ولد؟

ورغم أنني لم أقتنع بكلمة من كلماتهن، إلّا أنني فضلت أن لا أعلق على كل ما يقوله المناضل المفاوض الكبير، كي لا أستمع لمزيد من التوبيخ والإستهزاء منهما، لذلك لم أعلق بأكثر من ابتسامة غامضة عندما فسر لنا كلمات الرئيس، وفي أي إطار كانت، عندما قال أنه يبعث الأمن الفلسطيني ليفتش حقائب طلبة المدارس بحثاً عن سكاكين، لكن زوجتي التي تزداد تطرفاً يوماً بعد آخر مدعومة من تشجيع أمي قالت:

ـ ومنذ متى يحمل أطفالنا السكاكين؟ أيريد رئيسك أن يحولنا إلى قطاع طرق لمجرد أن يُرضي أسياده الإسرائيليين؟!!! بدل أن يدافع عن “السكين” كوسيلة لرد الظلم ومقاومة المحتل، قي ظل غياب وسائل أخرى.

فقالت أمي جملة من جملها القصيرة الحادة:

ـ طبعاً، فالسلاح أرسلوه ليدمروا سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولم يبق شيء يرسلونه لفلسطين، يا حيف على هذه الأمة يا حيف.

لا أعرف ما الدي أصاب أمي بالضبط، فكل يوم تزداد إنتقاداً وحِدّة على قيادات فلسطين والعرب، لكنني يوم عزاء الشهيد أمجد الذي إغتالوه واقفاً على باب داره برصاصة قناص، قبل شهر من الآن، استمعت لحديث الدكتور خالد، الذي فسر الأمر قائلاً :

ـ أن أمهاتنا وآباءنا بعد أن مر الزمن وهم ينتظرون العودة مُصدقين وعود الأنظمة، سرعان ما تهاوى شبابهم واندثر وهم يأملون خيراً في القيادة الفلسطينية بعدهم، ورأوا أنفسهم يتدثرون في أحضان شيخوخة بائسة، غير قادرة لحملهم لأي شاطئ آمن في بلادهم، التي يرونها بعيونهم المجردة، ولا يبتعدون عنها سوى بضعة كيلومترات، وبعد ما رأوا من تهاون القيادات وتفريطها بالقضية، أخذوا يزدادون ميلاً للمواقف الجذرية الحاسمة، في محاولة للإستفادة من تجربتهم المرة مع المحتل، وفي نفس الوقت لتقريب حظهم في الرجوع والعودة، فهم أكثر من يدرك أن عودتهم مرهونة بصلابة أولادهم، فصاروا يزدادون صلابة خاصة وأنه لم يبق من العمر بقية، وحلمهم بالعودة يدق بعنف تلافيف أدمغتهم…

ورغم أنني لا أتفق مع هذا التفسير الذي يحاول المس بقيادتنا، إلا أن بعضه، خاصة ما يخص أمي على وجه الدقة، صحيحاً، لكن زوجتي وكرهها أو حقدها أو على أقل تقدير عدم إحترامها لهذه القيادة، شيء لم أفهمه ولن أفهمه أبداً.

وسرعان ما أخذ “المناضل المفاوض”، يُدافع عن الرئيس المصري، معيداً كلماته بأن “فلسطين في سلم أولوياته”، فثارت أمي قائلة:

ـ طبعاً، فهو منكم وإليكم، وإلّا لما أغرق أنفاق غزة بمياه البحر، ومنع الطعام عن الغزيين والذي يشترونه بأموالهم، ويغلق المعبر الوحيد أمام الجرحى والمرضى والطلاب والأقارب، حتى لا أقول السلاح الذي كان يجب تقديمه بكل الطرق للغزيين، ليدافعوا به عن الأمة العربية وأولها مصر قبل فلسطين…

فقالت زوجتي بإبتسامة حزينة:

ـ مادامت مصر لم تكن يوماً أولوية لديه هل ستكون فلسطين كذلك؟ من يُهدي الجزر المصرية لآل سعود، ويبقي على أبواب مصر مفتوحة للنهب الأمريكي الإسرائيلي، ويعتقل عشرات الآلاف من شباب الثورة الذين أوصلوه لسدة الحكم، وزاد الجهل جهلاً وعمّق الأمية ورفع نسبتها، ورفع الأسعار وزاد نسبة الدين العام، ورفع الدعم عن المواد الرئيسية، ولم يبنِ مصنعاً أو يدافع عن ماء نيله ضد المشروع الإثيوبي الإسرائيلي، وكمم الأفواه ومنع التظاهر، أتريد من مثل هؤلاء أن يدافعوا عن فلسطين؟!!!

فقالت أمي معلقة من جديد، وكأنهما يعزفان لحناً واحداً ألّفتاه سوياً:

ـ يا طالب الدبس من طيز النمس!!!

فقلت بغباء لكن بحسم واضح:

ـ الرئيس إن قال فهو لا يكذب

فقالت زوجتي بطريقة حاسمة لا تقبل التأويل:

ـ لا يوجد رئيس لا يكذب

فقلت سائلاً بسذاجة طفل، لا أعرف كيف أو لماذا:

ـ والملوك أيضاً؟!!

فردت أمي هذه المرة قائلة:

ـ الملوك والأمراء أبداً لا يَصْدُقون…

ظل “المناضل المفاوض” يلوك كلماته وسط تعليقات أمي وزوجتي، وكلما كان ينطق بشيء لا يعجبهن كن يعلقن عليه بتكامل غريب، وكان حديثه وكأنه مفصل ليستطعن التعليق عليه، خاصة عندما بدأ بالدفاع عن آل سعود كما تسميهم زوجتي، “بأنهم لم ولن يتآمروا على قضية فلسطين”، ودون أن أنبس ببنت شفة قالت زوجتي معلقة:

ـ هؤلاء إما جهلة لم يقرأوا التاريخ يوماً، وإما أعمتهم أموال آل سعود ويكذبون بالمجان، ألم يقرأ  هذا كيف تبرع ملوك آل سعود بفلسطين “للمساكين اليهود” كما وصفوهم؟ ألم يقرأوا كيف تآمروا وتحالفوا مع شاه إيران “حيث إيران لم تكن شيعية في ذلك الوقت!” على عبد الناصر وثورته ومشروعه العروبي؟ وكذلك على نظام الجمهورية في اليمن؟ ألم يستدعوا ويطلبوا برسائل واضحة تدمير الدولة المصرية وهزيمة ناصر بهجوم اسرائيلي وإلاّ فالمخاطر كبيرة على نظام العائلة بأكمله، قبل شهور من حرب الخامس من حزيران 1967؟ وإن كان هذا من الماضي فماذا عن لقاءات مخابرات البلدين الدائم؟ وماذا عن لقاءات الأمراء مع “موسادهم” والتنسيق المشترك؟ وهل فعلاً لم يسمع عن لقاءات الأمراء مع الصهاينةفي الأردن؟ وزيارات بعض وزراء آل سعود للقدس المحتلة نفسها؟ أم كل ذلك لجس نبض المحتل ليعرف آل سعود كيف يحاربونه؟!!!

وضحكت بألم قلّما رأيته عل صفحة وجهها وتابعت بجديتها نفسها:

ـ هؤلاء يعلمون أن مستقبل عائلتهم معلق في أيدي “أمريكا وربيبتها اسرائيل”، والأخيرة هي الأقرب الآن بعد  ما يجري من تدمير للأوطان، لذلك كل هذا التحالف الذي أصبح علنياً الآن ولا يريدنا أن نراه صاحبك القائد.

فقالت أمي رادة على كل أسئلة زوجتي دفعة واحدة:

ـ إنه ثمن المال المدفوع يا بنيتي، والمال إن دخل ثورة أفسدها، أغنى قادتها وأذل شعبها وأضاع قضيته، لهذا بالضبط يابنيتي، نحن على ما نحن عليه من وهن وتبعية وخنوع، وحزب الله على ما هو عليه من عزة وعنفوان وصلابة، رغم أننا سبقناه بعدة عقود بحمل السلاح، لكننا أضعنا إتجاه البوصلة، أو غيرنا إتجاهها بثمن بخس.

كنت أحاول الإبتسام على كلام زوجتي قبل أن تبدأ والدتي حديثها، لكن كلماتها الجافة مزقت محاولات ابتسامتي الفاشلة ورمتها بعيداً خلف جدران الغرفة، كل ذلك و”القائد المناضل المفاوض”، ما زال يتحدث شارحاً تأييده للمبادرة الفرنسية التي لا يعرف نقاطها كما قال، كون القيادة ملّت من التفاوض مع “اسرائيل”، التي لا تفاوض بل تُملي شروطاً كما أكد، وهنا قالتا الإثنتان دفعة واحدة وبنفس الكلمات:

ـ إذن لماذا ما زلتم تتمسكون بالتفاوض كطريق وحيد أيها الأنذال؟

وأكملت زوجتي، وكأنها لا تريد أن تترك شيئاً من الحديث يفوتها التعليق عليه:

ـ إنهم يوافقون على مبادرة لا يعرفون مضمونها كما يدعون، ورغم رفض أغلبية الفصائل الوطنية والإسلامية، إلّا أنهم يعطون لأنفسهم الحق في الموافقة والمشاركة!!! من هم ليفعلوا ذلك؟ من أعطاهم الحق بتمثيل الأرض والعباد؟

فقلت صارخاً بزوجتي بعد أن “بلغ السيل الزبى”، ولم أعد احتمل كل هذا القدح والذم الذي تسيله فوق رؤوس القيادة:                                                                                                                               ـ كفى… لماذا لا تغلقين فمك هذا الذي لم يكف عن الحديث الهدّام؟!!!

وما فاجأني رد أمي التي علا صوتها صوتي قائلة:

ـ لأننا نتحدث عن وطن وعن قضية… نتحدث عن شيء ليس من حق أي كان التفريط به أو التسامح فيه… أفهمت أم علي إفهامك بطريقة أخرى…

كانت ربما المرة الأولى التي تخاطبني بها والدتي بهذه القسوة منذ فترة مراهقتي، وربما طفولتي أيضاً، وما كان مني أن انسحبت بهدوء غاضب لف جسدي كله، اتجهت لغرفة نومي، ودفنت رأسي في ظلام فراشي، وحيداً، طردت أحلامي واستسلمت للنعاس.

استيقظت مع الفجر، حملت صناديق “الخيار”إلى مؤخرة الباص المتوجه للمدينة، وأخذت عربتي ذو العجلات الثلاث، من مكانها الذي أؤمنها كل يوم فيه، أفرغت صناديق الخيار فوقها، ثم أخذت أرتبه حتى جعلته هرماً جميلاً يشد الإنتباه، مع شروق شمس الصباح كنت أنادي عل بضاعتي، “خيــــــــــــــــــــــــــــار… أصابع الببو ياخيـــــــــــــــــــار، أصابع الببو ياخيــــــــــــــــــــار”، وهجم الناس يشترون كما لم يفعلوا يوماً من قبل، فعرفت حينها أن أمي رغم غضبها مني ومن غبائي أحياناً كما تقول، إلّا أنها رضيت علي وعني، ولم تبخل علي بدعواتها بعد صلوات الفجر التي لم تهملها يوماً.

ومع الضحى، امتلأت المدينة بالبشر حتى فاضت بهم، وبدأت تتشكل جماعات بشرية تهتف بحياة فلسطين، وبدأت “الإحتفالات” بيوم النكبة، وكنت أجر عربتي وأنادي ترويجاً لبضاعتي، وفجأة ودون سابق إنذار، داهمت الشرطة الفلسطينية المتجمهرين وعربتي فقلبتها، وانهار بقايا “هرم الخيار” الذي كنت حريصاً على بقائه ليجلب مزيداً من الزبائن، ووقع الميزان بأوزانه وكفتيه، وداست أقدامهم الخيار والميزان وطيق العربة الخشبي، ووقعت أنا بين يدي العربة، ودون تأخير حاولت إعادة عربتي، لكن أيادٍ قوية إنتزعتني، فصرخت”إنها عربتي، أنا بائع الخيار”، وهوت على رأسي هراوة لم أستطع تحديد ضاربها، وتهاويت حتى وقعت على وجهي مثل لوح خشبي، وللحظات لم أعد أرى، وأحسست فقط بلزوجة دافئة تتدفق من الجرح على وجهي ورقبتي، وبقايا كلمات آتية من مكان بعيد تصرخ بي” بائع خيار ياابن الكلب”، وأطل والدي ببارودته، شاباً قوياً لم يعرف الشيخوخة أبداً، تماماً كما صُورته التي أخفتها أمي ولم تُظهرها إلّا بعد استشهاده، والدي الذي استشهد بعد ولادتي بشهور عدة، ورفضت أمي الزواج بعده قائلة، “أنها لن تبدل ذكرياتها مع الشهيد بأي كان أو بأي شيء كان”، لهذا بقيت وحيدها، وكان شيء يصرخ في داخلي” أنا ابن الشهيد ولست ابن كلباً”، أنا ابن الشهيد بائع الخيار، وكان صوت يأتي من بعيد بعيد وكأنه من أعلى طبقات السلطة، من فوق، هناك من العمارة التي يعتليها رأس السلطة، يكرر “شهيد… بائع خيار… ابن كلب”، وعلى مجموعات من البشر بعيدة عن مدى سمعي، كانت تتفجر قنابل الغاز السام من جنود الإحتلال وكأنهم يساعدون شرطة السلطة للسيطرة على الأمور.

وصحوت وأنا في زنزانة في السجن، يقف على بابها شرطي ببارودة طويلة، قال زميلي الذي يبدوا عارفاً بأنواع السلاح، أن هذا النوع من البنادق لا يُطلق إلّا للخلف، ولمّا قرأ الغرابة فوق وجهي أضاف ” إن الخيل من خيّالها”، وكان هناك على أبواب المدينة ضابط عسكري يحمل على كتفه نجمة داوود، يخاطب ضابطاً فلسطينياً، ينسق معه أمنياً، تماماً كما شرح وفسّر “القائد المناضل المفاوض”، يطالبه أن يبحث له عن “يهودي قتل زوجته واختبأ بين أهل المدينة”، وكانت الهراوات ما تزال تدق عظام “المنكوبين” منذ ما يقرب من سبعة عقود في الخارج، والزنازين تمتلئ بالأجساد المنهكة، وكلمات أمي وزوجتي تتعالى وترتفع في أذني صارخة” إننا نتحدث عن وطن وعن قضية…ليس من حق أحد التفريط به… التفريط به…التفريط بــــــــــــــــــــــــــــــــــه”.

محمد النجار

خفافيش الليل تخشى ضوء النهار

تقابلنا بعد مرور ما يزيد عن حفنتين كاملتين من السنين، بل لقد عرفني من مشيتي وأوقفني، مشيتي العوجاء التي لطالما أضحكته وأنا أدور في “فورة” سجن رام الله في دائرة مثل أبقار الساقية، قبل أن ينقلونا سوياً الى سجن النقب الصحراوي مُحوليننا الى الإعتقال الإداري بعد إنتهاء تحقيقاتهم معنا دون نتيجة، حيث “الفورة” أوسع وأكثر شمساً وأعلى حرارة، لكن كل ذلك لم يغير طريقة مشيتي العوجاء كما ظل يسميها، والتي كان طول قامتي يجعلها كبيت تهالك وتآكل جانب من أساسه فمال جانباً وأصبح آيلاً للسقوط.

أوقفني فتوقفت ناظراً في صفحة الوجه المفرود أمامي، لكنني لم أعرفه، فابتسم الرجل كاشفاً عن سنٍ واحدٍ فقط تبقى في منتصف فكه العلوي، قاسماً فمه الى قسمين متساويين، فزاد الأمر تعقيداً على عقلي، فأطلق ضحكته المعهودة الصاخبة وسأل سؤالاً معاتباً:

ـ ألم تعرفني ياصديقي؟                                                                                                     وكلمة “صديقي” هذه هي ميزته الأولى قبل ضحكته الصاخبة، فهو لم يكن يستعمل الكلمات “التنظيمية” للتخاطب كما كنا نفعل نحن، فلم ينادي أحداً ب”الأخ” أو “الرفيق” يوماً، بل بكلمة “صديقي”، حتى لو لم يرَ المُخاطَب إلّا في تلك اللحظة، فكان يخاطبه بنفس الخطاب كما أصدقاءه الحقيقيين أو زملاء السجن العاديين.

وأمام ذهولي المؤقت، حاول أن يوقظ فيّ ذكريات غطتها السنون، فوضع إصبعه على سنه الوحيد الذي ما زال واقفاً وأفلت ضحكته الصاخبة من جديد وقال:

ـ آه… قبل سنوات لم يكن وحده، أما الآن فأصبح وحيداً مثلي، تخيل أنني وكي أحافظ على صديقي الوحيد الذي تبقى، فإنني أقوم كل صباح وأغسله بالفرشاة والمعجون حتى “أهلكه”، ويكاد يأخذ بالصراخ ويقول”اتركني من أجل الله”، أتتخيل كيف أدور حوله بالفرشاة و”أفعكه” و”أُحممه” و”أشطفه”، في محاولة ليظل يسليني فيما تبقى لي من عمر.

عانقته فوراً بعد أن سمعت ضحكته الصاخبة الثانية، وقلت صادقاً حتى وإن لم أكن صادقاً تمام الصدق:

ـ طبعاً عرفتك يا صديقي، وكيف لي أن لا أعرفك، وهل يخفى القمر يا أبا خالد؟

وخالدٌ هو الإبن الذي لم يرَه، حيث كانت زوجته حاملاً به في الشهر الخامس في الإنتفاضة الأولى، عندما تلقت قنبلة غاز في صدرها، في مسيرة نسائية على باب الكلية الأهلية في مدينة رام الله، فأوقعتها، وأخذ الغاز ينتشر بكثافة في المكان، ودخل دفعة واحدة في فمها وأنفها، فلم تعد قادرة على التنفس عِوضاً عن النهوض، وكلما اقتربت منها امرأة لسحبها من المكان كان الرصاص يطلق نحوها، وحتى عندما حضرت سيارة الأسعاف، أوقفوها ومنعوها من التقدم الى المكان، وسرعان ما اعتقلوا الطبيب المناوب فيها لإحتجاجه على الأمر وحولوه الى الإعتقال الإداري، وظلت هي في مكانها تحاول جاهدة انتزاع حزمة هواء نقي خالٍ من السموم ،للطفل على الأقل، دون فائدة، متناسية آلام حروق صدرها، حتى صعدت روحها الى السماء مع طفلهما الجنين، وربما تمتم هو في صدره”جاءت من القرية ليكرمها الله بالإستشهاد في المدينة”، ووفاء منه وحباً، لم يتزوج أبداً، حتى أن أمه قبل موتها لم تلح عليه كثيرا، وقدّرت واحترمت موقفه، وقالت في سرها “إن إبنها من صنف بعض الرجال الذين حتى لو لم يُخلِّف فهو لن يموت”، وظل هو يزور قبرهما وقبر أمه المجاور، ما دام خارج السجن.

شكرني على كلماتي “الطيبة” كما وصفها، واحتضنْتُ عضده، ودون مقدمات أقسمت بأن يأتي للغداء عندي، ولا أدري لماذا اجتاحتني ” موجة الكرم الحاتمي” هذه، والتي لم أكن أعلم أنها متأصلة في عقلي الباطني، بل في مرات عديدة كانت زوجتي تصدمني بكلماتها وهي تقول لي معاتبة عندما لا أقوم بدعوة الناس الذين ألتقيهم:      ـ لماذا وقفت مثل الأبله؟لماذا لم تدعهم على وجبة غداء؟

وعندما كنت أنظر اليها منبهاً بكلماتٍ من عيني، بأن ثلاجتنا خاوية من كل أصناف اللحوم كانت تكمل وتقول:

ـ الجود من الموجود…. على فنجانٍ من القهوة على الأقل…

قال محاولاً التفلت من قبضة يدي:

ـ بارك الله فيك، لا أستطيع، وهل أنا أريد تجربة كرمك؟

لكني أقسمت على غير عادتي من جديد.

كان يكبرني بجيل كامل ونصف الجيل، يعني أنه ربما يقف على أبواب السبعين، لكن جسده الرفيع ما زال رفيعاً، وما زال منتصبا مثل جذع زيتونة صلب ليس من عادته الإنحناء، وكان في كل فترة السجن من أكثر الناس قراءة، وعادة ما كان وقته مقسوماً إلى أشياء ثلاث يفعلها في سجن النقب على وجه التحديد ، القراءة والمشاركة في البرنامج الثقافي و ساعة من المشي يوميا في ساعات ما قبل الغروب، وكنت أحب الإستماع لشروحاته وغناها، وأحاول أن أقرأ ما يقرأه علّني أصبح فاهماً ومثقفاً مثله، وعندما رآني أستعير ذات الكتب التي يقرأها، سألني:

ـ هل قرأت كتاب كذا وكذا؟

ولما أجبت بالنفي قال :

ـ أنصحك بقراءتها أولاً كي تستطيع فهم هذا الكتاب بطريقة أفضل.

وأمام إصراري على دعوته قال:

ـ جيد، نشرب القهوة… ولا شيئاً آخراً…

ومشينا نحو منزلي القديم على طرف المدينة البعيد، غرفة وصالة صغيرة ومترين مربعين حولتهما لمطبخ، ومرحاض، سألني:

ـ ماذا تفعل هذه الأيام؟

فقلت:

ـ كما تعلم مع هذا الحصار وهذه الحواجز، وكوني معتقل سابق يمكنهم توقيفي واعتقالي على أي حاجز، لم يعد بإمكاني متابعة عملي كعامل مياوم خارج المدينة، على الأقل كي لا أُذَكَّرهم بنفسي، وكي أظل أقتنص وأصيد الرغيف بين فترة وأخرى ما دمت خارج السجن…

قال:

ـ نعم ياصديقي، الأوضاع صعبة وعليك الحفاظ على نفسك وعائلتك… لأن هذا نضال أيضاً، وكيف هي  إبنتي؟!!      سأل عن زوجتي التي كان يطلق عليها لقب”ابنتي” في أحيانٍ كثيرة، واكتفى بهزة رأس وكلمتين مني ،”ماشي الحال”

كان حديثه سرعان ما يجد طريقه الى العقل والقلب، وأذكر عندما قال زعيم إحدى فصائل الإسلام السياسي، الذي لقبوه ب”أميرالمؤمنين” ، الذي ظل يتغنى “بأن الله ميزنا على غيرنا عندما أكرمنا ب”الإسلام”، قال له أبو خالد:

ـ كما أكرمنا الله بديننا أكرم الآخرين بدينهم أيضاً، وهنا لا ميزة لأحد على الآخر، فكلنا وُلدْنا بديننا ولم نختره، أم تعتقد أنه أكرمنا بديننا وأذل غيرنا بدينه؟!!!

ثم حذّر الرجل بالتروي والتنبه فيما يقول، كي لا يكون الأمر موضوع فتنة داخل السجن، خاصة وأن الإحتلال يتربص ليجد ما يفرق به المناضلين. ومع تعنت “أمير المؤمنين” سأله أبو خالد مجدداً:

ـ يا صديقي، بأي حق تريد فرض معتقداتك على الآخرين؟ من أعطاك هذا الحق؟

فقال الشيخ:

ـ إن من واجبي أن أقيم “شرع الله”.

فقال أبوخالد:

ـ وهل أعطاك الله أمراً بذلك؟ كل معتقِد يعتقد أن دينه أو مذهبه هو الأصح وهو “شرع الله”، وكلهم مؤمن بذلك، لكن لا أحد من كل الديانات أو المذاهب والطوائف يستطيع ان يجزم بذلك، وإن كان كل واحد سيطبق ما يسميه ب”شرع الله” ويقيم حدوده وقوانين دينه على الآخر، فسندخل في مجازر وحروب لن تنتهي.

فقال الشيخ بثقة وتأكيد:

ـ بلى، إننا نستدل على ذلك بقول الله وبالمنطق.

فرد أبو خالد قائلاً:

ـ كلٌ يعتقد أن الله أمره بتطبيق ما ورد في كتبه المقدسة، ويؤمن أن منطقه هو المنطق الأسلم والأصح يا صديقي الشيخ.

وبالمناسبة سأل أبو خالدُ “الشيخ”:

ـ منذ متى أنت معتقل؟

ـ ثلاثة شهور.

ـ وبكم أنت محكوم؟

ـ ست شهور إدارية

ـ وهل هذه أول مرة تُعتقل فيها؟

ـ إنها الثالثة

فقال أبو خالد مشيراً بإصبعه نحو شخص كان يتمشى في ساحة “الفورة”:

ـ أترى ذلك الشخص ذو البنطال الأسود والقميص الأزرق؟

ـ نعم.

ـ قبل عشرين عاماً من الآن، أمضى هذا الرجل عدة سنوات في السجن،  وبعد فترة من خروجه تمت مطاردته وجرت محاولات لإلقاء القبض عليه، فاختفى واختفت أخباره معه، ليكتشف الجميع أنه بقي يناضل متخفيّاً عشر سنين كاملة قبل أن يتم إعتقاله مجدداً، أتتخيل الأمر؟ عشر سنوات لم يستطيع الإحتلال بأجهزته ومخابراته القبض عليه، وبعد اعتقاله حاكموه بالسجن الفعلي لخمس سنوات، وبعد أن أمضاها حولوه مباشرة للإعتقال الإداري، وها هم يمددون له للمرة الرابعة على التوالي  و”الحبل على الجرّار”، ست شهور في كل مرة.              وسكت قليلاً وأكمل:                                                                                                              ـ إن هذا الرجل مسيحي الديانة، ومثله الكثيرون إن كان الأمر يعنيك إلى هذا الحد،  فمن تعتقد أنه يمتاز عن الآخر برأيك ياصديقي، أنت أم هو؟ أم تعتقد أن الله سيدخلك الجنة كونك مسلم ويدخله النار كونه مسيحي دون النظر في أعمال كل منكما؟!!!

ولما لم يجد الشيخ ما يجيب به اتهم أبي خالد بأنه علماني الهوى، فقال أبو خالد حينها:

ـ وهل العلمانية تهمة؟ أنا لا أراها كذلك، وهي لو علم المتدينون الأفضل بالنسبة لهم، فهي تمكن كل متدين مهما كانت ديانته ومهما كان حجم تمثيلها ونسبتها في المجتمع، بأن تمارس طقوسها وعباداتها وشعائرها دون حق الإعتراض أو الرفض أو التهديد أو حتى حق الممانعة من أحد، لكن المذهبيين أو الطائفيين أو المتعصبين من أصحاب الديانات المختلفة، يرون في مذاهبهم حصراً أنها الصالحة والصحيحة دون غيرها، أما الديانات أو المذاهب والطوائف الأخرى، فيرونها خارجة عن قوانين الله وشرعه، وبالتالي وجب إيقافها ومعتقديها عن “غيهم” و”فسقهم” وعن “ردتهم”إن شئت، ليعودوا لرشدهم  وبحد السيف إن تطلب الأمر ذلك، يعني تحت شعارات دينية زائفة تعتقد أنها تملك الحقيقة دون غيرها، وتُدخل مجتمعاتنا في أتون حروب لن تنتهي، فكما قلت لك ياصديقي لا أحد يستطيع التأكد بأن دينه أو طائفته هي الصحيح المطلق .

ومن يومها عمم “أمير المؤمنين” : مقاطعة أبي خالد، وحرّم الحوار معه.                                                    وذكّرته بالأمر الآن ونحن نسير نحو بيتي، فقال:

ـ إن ما تراه أمامك الآن من تدمير للأوطان ما هو سوى نتيجة لمثل أفكار ما أسموه ب”أمير المؤمنين” ذاك وأمثاله، أعني أن “الغرب” وجد ضالته بهؤلاء، فدعمهم وسلّحههم وموّلهم من جيوبنا ليدمر بهم أوطاننا ويقسمها.، يعني يخوض حروباً بدمنا وأموالنا ويدمر حضاراتنا وتاريخنا ليحقق مصالحه، أرأيت المأساة؟!.

وتابعنا مشينا نحو بيتي، وأكمل وكأنه يكمل موضوعاً لم يكتمل بعد، فقال مستبقاً ما أراد قوله بضحكة مجلجلة صاخبة:

ـ يريدون إقناعنا بأن ما يدور في منطقتنا بأنه “ثورة شعب”، مستخفين بعقولنا وكأننا قطيع ماشية وليس بشر، تخيل “ثورة” تقودها أمريكا وبريطانيا العظمى وفرنسا الإستعمارية وتدرب قواتها “إسرائيل” كما وتعالج جرحاها، وتمولها “حارة الشيخة موزة” وعائلة آل سعود، فهل هذه ثورة؟ ويخوضون الحرب علينا تحت شعارات الديمقراطية!!! أي ديمقراطية هذه التي تدعمها أكثر الدول فساداً ولصوصية وفاشية وعنصرية ومعاداة للديمقراطية؟!!! وأي ديمقراطية هذه التي تُدمر الأوطان وتحاول تقسيمها وتستجلب دول “الناتو” لغزوها؟!!! ببساطة ياصديقي، لا يمكن لثوار أن يأتوا محمولين على ظهور دبابات الأعداء، لا يمكن لثوار أن يتنازلوا عن جزء من أوطانهم للأعداء مقابل دعمهم في تدمير بلدهم، بحجة فساد النظام كما فعل “أبطال الثورة السورية”، متنازلين عن الجولان المحتل لإسرائيل مقابل دعمهم، ولا يمكن لثورة ولا لثوار معاداة كافة قوى التحرر وبناء التحالفات مع القوى الرجعية في المنطقة.

ـ يا صديقي، إن كان صحيح أن العنف ضرورة للثورة في معظم الأحيان، فمن الصحيح أيضاً أن ليس كل عنف ثورة، وأكثر صحة أن لا الإستعمار ولا الرجعية يمكنهما أن يقودا ثورة، عوضاً عن أنهم يُقاتلون وربما يُقتلون من أجل أن ننعم نحن بالديمقراطية، ألا يكفينا “ديمقراطيتي” العراق وليبيا كي نفهم الأمور؟!!!.

سكت قليلاً وقال من جديد:

ـ كثيراً ما تذكرت في الفترة الأخيرة الماضية، كلمات المناضل كاسترو الذي قال” إذا ما إمتدحت أمريكا والغرب سياستنا علينا إعادة النظر بهذه السياسة”، أرأيت آلية تفكير الثوار الحقيقيون ياصديقي!! ونحن يقودنا ويوجهنا ويهدر دمنا ويدمر أوطاننا الأمريكان وحلفاؤهم وتابعيهم في المنطقة، وندّعي أن ما لدينا ثورة!!!

كنا قد وصلنا البيت، ورحبت به زوجتي، بل وقبلته من خديه، فما أكثر ما رأته سواء في زيارتي في زنازين سجن رام الله، حيث كانت محاكمات التمديد تجمعني والكثيرين بما فيهم هو، وكذلك في بعض زيارات سجن النقب، أثناء زيارة أمه العجوز قبل أن يُغيبها الموت.

وتقابلنا على فنجان قهوة، وأكمل هو وكأنه تذكر شيئاً لم يقله:

ـ تخيل!!! آل سعود يريدون الديمقراطية في سوريا والعراق وليبيا!!! والكثيرون يصدقون ذلك!!! لا أحداً من أولئك يدرك أن فاقد الشيء لا يعطيه!!! وأن من يقطع الرؤوس التي تعبر عن رأيها في بلده يعطينا دروساً دامية في الديمقراطية!!! يالله ياصديقي، آل سعود!!! هزلت ورب العزة، رحمك الله يا ناصر السعيد.

وأكمل وكأنه يريد تعريفي بناصر السعيد:

ـ ذلك المناضل الحجازي الذي اختطفته جماعة من”قيادتنا الفلسطينية” في بيروت، وسلمته لآل سعود ليلقونه من طائرة عمودية في صحراء الربع الخالي، أيمكن تخيل مثل هؤلاء المتوحشون الذين بشرونا بنشر ديقراطيتهم هذه في سوريا والعراق واليمن وليبيا؟ . لقد قال ذلك المناضل:”لن تنتصر قضية فلسطين ما دام آل سعود في سدة الحكم”، وها نحن نرى تحالفهم مع الصهاينة لمحاربة ما تبقى من قوى الثورة والممانعة بإسم الإسلام “السني”مرة والعروبة مرة أخرى، وكأن العروبة مقتصرة على السنة فقط في الإسلام، فكما حاربوا عروبة المرحوم “عبد الناصر” بإسم الإسلام “السني والشيعي” بتحالفهم مع إيران الشاه، يحاربون قوى الثورة العربية باسم السنة والعروبة الآن.   طبعاً إنهم “ثوار” آل سعود.!.!.!

وضحك بصخب أكثر هذه المرة، وقال عائدا الى صلب الموضوع،

ـ أتساءل أحياناً، هل الله فعلاً هو من خلق آل سعود ،أم أنهم نبتاً شيطانياً فاسداً ظهر فجأة وفي غفلة من الزمن؟!!! أستغفر الله العظيم، ولا أخفيك أنني أستصعب تصديق ذلك، إلا إذا كان الأمر إبتلاءً من الله واختباراً لصبرنا وقدرتنا على التحمل. لأن نسبة الذل والهوان والفساد والجهل والضلال والعفن والوقاحة والغرور في طينتهم عالية جداً، لكنني أعود وأقول أن هذه الصفات ما هي إلا صفات مكتسبة لا علاقة للإله بها، ولا يستطيع اكتسابها إلا كل نذل خسيس.

فقلت من باب المجاملة والمشاركة في الحديث:

ـ أنظر ماذا يفعلون في “حلب”، يقصفون ويدمرون وينهبون خيرات المدينة، ويصرخون “حلب تحترق”، وهم من يحرق ويدمر ويُزوِّر الوقائع، وتصرخ معظم كل الدول “العاهرة” في هذا العالم “أنقذوا حلب”!!!…

فقال:

ـ طبعاً ياصديقي، بعد أن فشلوا في تحييد تنظيم القاعدة في بلاد الشام المعروف بإسم “جبهة النصرة”، وجعله تنظيماً “معارضاً معتدلاً” لجأوا لخطوة زعيمهم الأمريكي للخطة “ب”، حيث دعموا هؤلاء التكفيريون بآلاف المقاتلين الجدد وبالعدة والعتاد من بلاد “العثمانيين الجدد”، وبضخ الأموال من حثالات آل سعود، ليكسروا شوكة جيشنا العربي السوري، “ودق على صدره عندما ذكر كلمة جيشنا وأكمل”، لكني أعتقد أن الأمور في نهاياتها، وأن قوى الظلام هذه ستحترق مع شروق شمس الصباح، فهذه الخفافيش لا تستطيع الحياة إلا في بين تلال العتمة ومنحنيات الظلام.

أحضرت زوجتي صحنين من الزعتر والزيت، وصحن جبنة بيضاء، وأربع بيضات مسلوقة مقطعة مبهرة تزينها كمية من زيت الزيتون، وصحناً من دبس الخروب الذي صنعته بيديها، وبضعة أرغفة من خبز الطابون، وقالت :

ـ هيا على ما قُسم…

وأمام محاولات رفضه الخجول قالت زوجتي:

ـ وهل هناك من يخجل من أبنائه؟!!!

ودون أي كلام تقدم وقسم الرغيف من طرفه، محاولاً منع بضع دمعات كانت تتفلت للإنسياب على وجهه.

قلت مغيراً الموضوع:

ـ أنا آسف، لم أعرفك للوهلة الأولي، تهيأ لي أنك قد تغيرت .

فقال بطريقة حاسمة:

ـ بالتأكيد، كلنا نتغير، يفعل الزمن فعله فينا بصمت وهدوء، وننخدع نحن بشبابنا أو بأموالنا أو بقوتنا، ولا ندري كيف يتقدم العمر بنا ولا كيف تدخل الشيخوخة أجسادنا، وللشيخوخة مظاهرها ورائحتها، فما أن تضع قدمها في حياتنا حتى تأخذ أيامنا تركض وتتسارع نحو نهاياتها، لنجد الموت مختبئاً لنا في أي زاوية ومكان، هكذا هو الأمر ببساطة يا صديقي…

وضحك أيضاً بعد هذه الكلمات بصخبه نفسه، متجاوزاً الحالة التي تركتها كلمات زوجتي على ملامح وجهه.

أنهى طعامه قبلنا ، كعادته في السجن، كان يغادر جلسة الطعام قبل الجميع، وكثيراً ما كنت أشعر أنه يريد توفير الطعام ليشبع الآخرين قدر الإمكان، ولما حاولت الإحتجاج قال:

ـ إنك تعرفني جيداً، هكذا كنت وما زلت.

ساعدت زوجتي في رفع الصحون وعدت لأشرب الشاي معه، وقلت:

ـ تبيت الليلة عندنا، وتغادر في الغد…

فقال:

ـ بارك الله فيك، لكني لا أستطيع.

قلت:                                                                                                                                  ـ كيف لا تستطيع؟

وكدت أكمل “فأنت بعد وفاة أمك أصبحت وحيداً”، و “وأصبحت مقطوعاً من شجرة”، ولشدة غبائي لم أفكر لحظة بأن هذا الرجل ربما تزوج وأنجب أيضاً في كل تلك السنوات التي إنقضت ولم أره بها.

قال :                                                                                                                                  ـ صدقني يا صديقي، فأنا فعلاً لا أستطيع…

فقلت مصراً على بقائه:

ـ هل تزوجت في لاحق السنين؟

فضحك بصخب وقال:

ـ أبعد كل هذا العمر؟!!! لا يا صديقي لا.

واقترب من أذني وقال:

ـ أتذكر صديقنا صلاح؟

وأمام سكوتي الأبله قال موضحاً:

ـ الذي أرجعوه من الإداري الى التحقيق؟

وبقيت ساكتاً غير مجيب فقال:

ـ الذي كان مصاباً في ساقه يا رجل…

وعندها هتفت متذكراً:

ـ آه … صلاح، ماهي أخباره؟ ماذا به؟

فقال ودون أن يضحك هذه المرة:

ـ بعد أن أخرجوا الرصاصة من ساقه، ابتدأت الساق تضعف وتتقلص وكأنها تسير نحو الإضمحلال، يبدو أن العصب تمزق وبعضه قد جف، ولم يعد بالإمكان فعل شيء…                                                                          فقلت من باب الشفقة والألم:                                                                                                   ـ مسكين ياصلاح…                                                                                                                   قال:                                                                                                                                 ـ لا أستطيع تركه لوحده، فهو في استضافتي، ونعيش سوياً من “حاكورة” المنزل…

ورأيت التبدلات التي تعصف بوجهه، وأكمل وبركان قلبه يكاد يتفجر، وقال:

ـ لا أريد التعليق على ترك فصائلنا لمثل هذا الشاب هكذا دون علاج، لكن أن تتركه دون مساعدة مالية يستطيع أن يعيل نفسه برغيف خبز؟ إنها والله لا تُفهم ولا تُصدق… والأكثر إيلاماً أنه يمكن أن يُعتقل من بيته وتكون نهايته الأكيدة…

سكت قليلاً وقال من جديد:

ـ وسمعت أن “مثله مثايل”، والموضوع ليس متعلقاً بسلطة أوسلو وحدها، فهؤلاء لا خير فيهم ولا أمل منهم، بل بفصائل تاريخها ظل تاريخاً مشرفاً، ما الذي يحصل يا صديقي؟ أإلى هذه الدرجة وصلت بنا اللامبالاة ؟ألهذا الحد فقدنا إنسانيتنا؟ أم أن أمراض “أوسلو” توغلت فينا وأخضعتنا لذاتية قاتلة مفرطة؟!!!

فقلت في محاولة للدفاع فاشلة، ولا أعرف السبب وراء ذلك، فأنا لم أقدم مثله للقضية الوطنية، ولست بأحرص منه عليها:

ـ ربما نسوا أمره!!

فقال ساخراً دون أن يضحك ضحكته الساخرة، صدق الشاعر حينما قال:

“إن كنت تدري فتلك مصيبة                            وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم”

وأكمل بجدية صادقة لم أرها عند أحد من قبل:

ـ أقصد كيف يمكنهم نسيان ذلك، إن من نسي جرحك وألمك اليوم سينسى دمك لا محالة غداً، فمثل هذا النسيان ليس من شيم الثوار ، ومن ينسى دماء ثوّاره كيف يمكن إإتمانه على القضية ياصديقي.

وقف على رجليه وأكمل دون أن يطلق ضحكته الصاخبة وقال:

ـ لم يبق على موعد الباص المتوجه لقريتنا كثيراً، وأعتقد أنه الباص الأخير، إذهب وأحضر إبنتي لأودعها، فربما كان الوداع الأخير، فلا أحد يستطيع أن يعلم متى ترميبه الشيخوخة في أحضان الموت.

محمد النجار

آل سعود يضمنون الدنيا والآخرة

نادى المنادي أهم عقول أمراء وسلاطين آل سعود للإجتماع بأمر ملكي واضح لا لبس فيه، فتوافد الجميع للإجتماع رغم معرفتهم المسبقة بأن جلالته لا يسمح له مرضه لا بإصدار الأوامر ولا النواهي، وهو “طال عمره” رغم حضوره على مقعده المتحرك من مساعديه في القصر، إلا أنه لن يبقى طويلاً في هذا الإجتماع، فلا صحته تسمح بذلك، ولا عقله الذي إخترقه مرض الزهايمر بقادر على إبقائه لأكثر من بضع عشرات من الدقائق في حالة ثابتة واحدة. حضر الجميع عدا الأمير عبد المحسن بن الوليد بن عبد العزيز المسجون في لبنان بعد إلقاء القبض عليه مُتلبساً بتهريب طُنين من المخدرات من كوكايين وحبوب مخدرة في طائرته الخاصة، ولم تفلح حتى الآن القوى اللبنانية التابعة لآل سعود بإطلاق سراحه، ولا محاولات بعض الأمراء أن تنجح بذلك.

وعادة ما يتم جمع هذه العقول التي تشكل زبدة الفلاسفة والمفكرين والمبدعين وأصحاب الرؤى والبصر والبصيرة لأمر جلل، فالعقل وإن كان يورّث ويولد مع الأبناء “الذكور” في عائلة “آل سعود العامرة”، إلا أن النبوغة ليست كذلك، فهي كنز يجده الأمير أمامه بهداية من الله، أو من خلال “مصباح علاء الدين” قد يتعثر به الأمير في رمال الصحراء، أو بنزول ليلة القدر والضوء الإلهي القادم من السماء في ليلة ظلماء تفتح العقل وتجعله من نوابغ الدهر.

وهكذا كان هؤلاء النوابغ في “مملكة الخير” من آل سعود، حيث اصطفاهم الله وأفهمهم وعبقرهم وأفلحهم في الدنيا وسيجعل الجنة مأواهم بعد عمر طويل أفنوه في خدمة الوطن والمواطن، وفي أعمال الخير التي تكاد لا تنتهي، ودعوتهم هذه ما كانت لتكون إلا لأمر كبير جلل، فمثلهم لا يُضاع له وقت ولا يُتجنب له رأي، ولا تُهمل له نصيحة، صغيراً كان أم كبيراً، أو “مقمطاً في السرير”، فهؤلاء مَنْ وصفهم تعالى بقوله”وأما بنعمة ربك فحدث”، وهؤلاء النادرون في الزمن الغادر الذي عز فيه الرجال ورجاحة العقل والعمل الخيِّر، والذين يعملون بصمت في الزمن الصعب، متفانين مضحين ساهرين الليالي لخدمة أمة محمد أجمعين.

أما من جاء من ضمن الحضور فكان السيد عادل الجبير، الذي لا تربطه صلة بأمراء آل سعود، ولا دمه من دماء الأمراء والملوك ولا رجاحة عقله رغم اجتهاده بعبقرية وذكاء ودهاء المتجمعين، لكنه ظل “متشبهاً” بهم وبكل أسياده من العائلة الحاكمة بجداره، والمالكة دون إعتراض، للأرض والنخيل والبشر والرمل والبعران.

وما أن تجمع “الرَبْعُ” طالت أعمارهم، حتى قام الأمير ولي العهد صارخا بالجبير:

ـ من الذي أتى بك الى هنا؟

وأمام الإرتباك الذي أحدثه وقع السؤال غير المتوقع على رأس قائد الدبلوماسية لآل سعود، أكمل الأمير:

ـ لم أكن أعلم أنك وريث معنا في مُلكنا ومملكتنا!، أو أنك من الأمراء وأنا لا أدري، ويعلم الله أنك كنت من عباقرة العائلة وعقولها النيرة ولم يُخبرني أحد بذلك… قم يا وجه الشؤم واخرج وانتظرنا في الخارج، هذا ما تبقى… أن يشاركنا “المخنثين” و”الغلمان” أملاكنا وأموالنا وجلساتنا… هزلت ورب الكعبة…عدُمت ورافع السماوات وباسط الأرض…

قام الجبير راكضاً الى الخارج من لسع صوط كلمات ولي العهد، لما لاحقه الصوت نفسه قبل أن يقفل الباب خلفه:

ـ إبقَ واقفا على الباب، حتى إذا تعب صاحب الجلالة، أو تهيأ له أنه عاد طفلاً صغيراً كعادته، ويريد أن يلعب في الخارج، أن تهتم به وتتابعه  كي لا يضيع في فضاء الصحراء أو تبتلعه رمالها…

كان الجميع يدرك أن “الكلام لك ياكنّة وافهمي يا جارة”، وأن الأمر برمته موجه للأمير ولي ولي العهد محمد بن سلمان، لكن أحداً لم يعلق على ما تم، فالأمر لا يعني أحد غير وليا العهد، وسرعان ما ابتدأ الجمع في أحاديث متفرقة بدأها الأمير محمد بن سلمان، في زهو بدى وكأنه يرد على الأمير ولي العهد ولسان حاله يقول “لن تبقى لفترة طويلة ولياً للعهد”، فقال:

ـ لقد جئت أنا بالجبير ليقدم لكم تقريره، ويضعكم في صورة ما جري ويجري في مملكة الخير ومعها، رغم أن جدول إجتماعنا يحوي نقطة واحدة لا غير، وهي تحضير مملكة الخير لمرحلة ما بعد النفط، إلّا أنني رأيت أن من المناسب أن يكون جميع الأمراء داخل بيت آل سعود العامر في صورة ما يحدث.

سكت قليلاً ثم قال بخبث موصوف:

ـ صحيح أنني لم أحصل على جائزة “جوقة الشرف” الفرنسية، كما أنني لم أطلبها أيضاً كما فعل الكثيرون.

ونظر مُبتسماً نحو ولي العهد مباشرة وأكمل:

ـ لكني رأيت من واجبي اضطلاع الأخوة وأبناء العمومة الأمراء، خاصة وهم يُشكلون عُصارة عقل آل سعود، عما يدور في كواليس السياسة، لكن إن كان الأمير ولي العهد طال عمره لا يريد ذلك أو يُزعجه الأمر فلا بأس… فنحن أولاً وأخيراً في خدمة مليكنا طال عمره وولي عهده أيضا…

امتعض الأمير محمد بن نايف، وأدرك أنه خسر نقطة لصالح غريمه على مكان الملك القادم، لكنه لم يرُدْ ، كونه لا يريد أن يتطور الأمر الى “الكباش ” المباشر مع ولي ولي العهد، ويبدو الخلاف على السطح من جديد، ويريد أن يجعل الخلاف خارج العائلة وليس بين أبنائها، خاصة وأن موعد النزال لم يحن بعد، فقال مهدئاً “اللعب” مع الأمير محمد بن سلمان:

ـ لم أعرف عن الأمر طال عمرك، لهذا لما رأيته يدخل بيننا نحن الأمراء متهادياً برأس مرفوع مثل “الهدهد”لم أحتمل ذلك وحصل ما حصل…

فرد الأمير محمد بن سلطان مجاملاً بالطريقة ذاتها وقال:

ـ  لا عليك طال عمرك، ففي نهاية الأمر فالجبير وغيره ليسوا سوى “خدماً” أو في أحسن الأحوال “موظفين” لدى العائلة العامرة، متى شئتَ عليك فقط أن تُشير بإصبعك، وإن استكثرت ذلك فبفردة من فردتي نعليك لينتهي أمرهم تماماً…

فهزت الكثير من الأجساد رؤوسها، وتطايرت الكلمات من اتجاهات عدة نحو أذني كل من وليي العهد:

ـ إي بالله، بفردة صندلك طال عمرك.

ـ سلم الله لسانك.

ـ صدقت ورب الكعبة.

ـ آل سعود ما يرفع أحد رأسه أمامهم.

هدأت النفوس قليلاً في الظاهر، رغم حالة الغليان الداخلية بين الرجلين، وما يمثل كل منهما داخل العائلة، وجاء سؤال الأمير محمد بن سلطان مجدداً:

ـ ماذا قلت “طال عمرك”؟ أنحضره أم نبقيه في الخارج؟

فقال الأمير محمد بن نايف:

ـ نحضره “طال عمرك” ليقدم تقريره وينصرف…

فرفع الأمير ولي ولي العهد يده للحارس ليحضر الجبير من أمام باب الصالة، وهكذا فعل…

دخل الجبير هذه المرة وقد بدى أكثر تواضعا عن دخوله في المرة الأولى، وقد تأكد الآن كما في كل مرة أنه لولا الأمريكان ما كان ليصل يوما لا وزيراً ولا حتى غفيراً، فمثل هؤلاء “الأعراب” لا يؤتمن لهم جانب، وأنهم “أشد كفراً ونفاقاً” كما وصفهم سبحانه، وأضاف ” وضعة وخبث ولؤم ونذالة وحقارة وتخلف”، واستغرب مع نفسه لماذا لم يكمل سبحانه وصفهم لأن ما وصفهم به أقل القليل، فهم قوم لا مصداقية لديهم ولا صدق ولا صديق،  وينطبق عليهم المأثور الشعبي القائل”إخدمني وأنا سيدك”، لكنه بالطبع لم يفصح عن مكنونات صدره، وتعامل مع الأمر وكأن شيئاً لم يتم.

فتح “ملفاً” كان في يده، أخرج بضع ورقات وأخذ ينظر إلى رؤوس أقلام ويشرح ناظراً في وجوه الأمراء المجتمعين، قال:

ـ كما تعرفون طال عمركم، بعد أن “احتل” الجيش السوري مدينة تدمر وبلدة القريتين، بدا التدهور في قوات الأخوة المجاهدين بما في ذلك جبهة النصرة وداعش، وقبلهما جيش الإسلام بعد أن قتلوا قائده “المناضل الكبير” زهران علوش، الأمر الذي جعل الأخوة الأمريكان يقررون “مسايرة الروس قليلاً، ويعاودون التأكيد على أهمية الحل السلمي في سوريا ومحاربة “داعش” في العراق، لكنهم في حقيقة الأمر في العراق مثلاً، ورغم رفعهم لشعار تحرير الموصل منذ شهور، إلّا أنهم لم يقوموا ولا حتى بغارة جوية واحدة هناك، وهذا التأكيد ليس منهم فقط بل من الأخوة المجاهدين هناك أيضاً، بل وعملوا بكل طاقتهم على إبعاد “ميليشيات” الحشد الشعبي عن الهجوم في الفلوجة والبصرة في محاولة لتقزيم دوره إن لم يكن بالإمكان إنهائه.

أما في سوريا فوقف إطلاق النار الذي وافقوا عليه، هو لوقف الإنهيار الذي تم في جماعات الأخوة المجاهدين، كما لمدهم بالمال والسلاح والرجال لإسنادهم ومساعدتهم ورفع معنوياتهم المنهارة، وقد لعب الأخوة الأتراك دوراً مميزاً في ذلك كعادتهم ، فحولوا كل السلاح الذي بعثوه الأخوة الأمريكان والإسرائيليين والمدفوع ثمنه من “مملكة الخير” للإخوة المجاهدين، على كل الجبهات في سوريا، كما سهلوا مرور الإخوة المجاهدين من جبهة النصرة والتي تدربت في معسكرات الأخوة الإسرائيليين على أيدي ضباط الجيش الإسرائيلي، لتساهم في محاربة نظام الأسد القمعي.

ـ هؤلاء المجاهدين الذين كُشف أمر تدريبهم وتم تصويرهم في معسكرات التدريب؟

سأل صوت من الصالة الملكية لم يُميزه الجبير، لكنه أجاب:

ـ نعم ، صدقت طال عمرك، وتم سجن الصحفي الذي كشف الأمر.

ثم عاود النظر في الأوراق التي بين يديه وقال من جديد:

ـ نعم، لقد أكد لي الأخوة الأمريكان أنهم سيستمرون بحرب الإستنزاف في سوريا والعراق لسنوات وسنوات، وسيعملون على تدمير الجيش السوري وتغيير الدستور بآخر يحفظ حقوق الطوائف وتمثيلها في البرلمان، تماماً كما فعلوا في العراق، لتتحول سوريا أيضاً لدولة ديمقراطية كما العراق وليبيا طال عمركم.

عدّل الجبير من وضع عباءته، وعاد لينظر في الأوراق التي بين يديه، وتابع من جديد:

ـ كذلك الأمر في اليمن، فنحن وكما يعرف سيادة الأمير ولي ولي العهد “طال عمره”، ما زلنا نقصف الميليشيات الحوثية وجيش المخلوع “صالح” بكل قوة وعنفوان لتحقيق عاصفة الأمل، ونقدم الدعم المالي والتسليحي للإخوة المجاهدين في حضرموت وعدن”من القاعدة والدولة الإسلامية في العراق وسوريا “الذين نقلنا جزءاً منهم من العراق وسوريا بالطائرات التركية والقطرية، وكذلك لحزب الإصلاح الإخواني الذي قدم لنا كل مساعدة لضرب المليشيات الحوثية وحلفائها هناك، وهنا يجدر التنويه لوصول الدفعات الثلاث الأولى من ضباطنا، ضباط “مملكة آل سعود العامرة” الذين شاركوا في دورات عسكرية تدريبية في “إسرائيل”، والذين سيلتحقوا بجبهات القتال في اليمن ضد عملاء إيران وحزب الله.

وأكمل الجبير تقريره شارحاً:

ـ لكن في الفترة الأخيرة بدأت بعض ما يُسمى بمنظمات حقوق الإنسان والصحف منتقده ما تفعل “مملكة الخير” عن فترة عام كامل من عاصفة الحزم وعاصفة الأمل، واصفاته بإرهاب الدولة وبإستخدام أسلحة محرمة دولياً، ومطالبةالأخوة الإنجليز والأمريكان بوقف تصدير السلاح لمملكة الخير، مما جعلنا وبنصيحة الأخوة الأمريكان أن نجنح للسلم قليلاً معهم، مع الإستمرار في نفس الوقت بقصفهم ليستسلموا لمملكة الخير ويعود اليمن  عزيزا كما كان.

أخرج أوراقاً أخرى من ملف آخر، وبدا ينظر بها ويقلب بعض الصفحات، وأكمل:

ـ أما ما يخص الملف المصري،  فأهم ما يمكن الحديث فيه هو أن الرئيس هناك يريد “رد الوديعة” لمملكة الخير على أن يكون “الدفع” من تحت الطاولة، وأعتقد رغم “فهلوة” الرجل إلا أنه أحياناً يحافظ على وعوده التي قطعها مع بعض دول الخارج، فكما وعد أمريكا وإسرائيل بخنق “المخربين” في قطاع غزة وصدق، فها هو يصدق بما وعد به بحق الجزيرتين.

وما أن إنتهى الجبير من تقديم تقريره، حتى أشار له ولي ولي العهد للخروج بإشارة من إصبعه، وما كاد يخرج حتى لحق به جلالة الملك سلمان قائلاً:

ـ أريد حبة بوظة ياوالدي.

وتبعه للخارج حيث كان يقف.

تناول الأمير ولي ولي العهد الحديث، وأخذ يشرح ويبين بعض الأمور التي لم يقلها الجبير، فقال:

ـ إن الأخوة المجاهدين في سيناء، والذين يقاتلون الجيش المصري، ما زالوا تحت السيطرة، فكما تعرفون أن مصر إن لم تظل تابعة لنا وللإخوة الأمريكان، فلن نستطيع السيطرة عليها، كما أننا لن نستطيع السيطرة عليها إن كان جيشها قوياً، لذلك فإن الأخوة المجاهدين ضرورة لأمننا، وهم كما تلاحظون لم يعتدوا على أي جندي أمريكي من الموجودين في قوات الطوارئ في سيناء رغم أنهم بإمكانهم ذلك، تماماً كما لم يعتدوا على “إسرائيلي” واحد على الحدود مع سوريا.

فقال الأمير الوليد بن طلال:

ـ صدقت “طال عمرك” ، لقد قالها المرحوم الملك عبد العزيز في وصيته، قال”لكل جسد رأس وقلب، ورأس الأمة مصر وقلبها سوريا، فاضربوا الرأس وأطعنوا القلب كي لا تصل يد مصر لسوريا ولا يد سوريا للعراق”، كما أذكركم بوصيته عن اليمن حيث قال”سعادتكم يآل سعود تكون عندما يكون اليمن فقيراً وممزقاً وتابعاً، فأفقروه لكي تبقوا أغنياء سعداء”.

سكت قليلاً وقبل أن يتحدث أحد غيره قال:

ـ آه، وقبل أن أنسى، عندما زرتُ “إسرائيل”، يا سلام ياسلام على ما رأيت، والله ما رأته عينيَّ هناك لم ترياه إلا في أكبر المدن في بلاد الأمريكان العامره، ياسلام على الأمن ، ياماشاء الله على الأمان، على الإستقرار، على الجمال، على الخضرة والماء والوجه الحسن، والحريم ياطوال العمر، إي والله الحريم اللواتي تراهن هناك لا تستطيع تفريقهن عن حوريات الجنة.

ولما رأى أن كل الأفواه أصبحت مفتوحة والآذان مشرئبة، والعيون محملقة والوجوه باهتة، قال سائلاً الأمير ولي ولي العهد:

ـ ما الذي جرى بينكما طال عمرك، في لقائك مع رئيس وزراء “إسرائيل” في العقبة؟

فقال الأمير:

ـ كما تعلم طال عمرك، فإن أهدافنا مشتركة ومصالحنا واحدة، فاتفقنا على استمرار دعم المعارضة في سوريا والسنة والأكراد في العراق، من خلال دعم “المجاهدين” في كلا البلدين، وعلى الأستمرار بحرب الإستنزاف هناك لإضعاف الجيشين والدولتين خاصة السورية، لأن العراقية قد وصلت الى الحضيض، ووعدتُ أن نستمر نحن بالتسليح والتموين وهم بالتدريب والتدخل كلما كان ذلك متاحاً، وفي اليمن اتفقنا أن تستمر مشاركتهم في القصف الجوي للأعداء وبالدورات العسكرية لضباطنا هناك، على أن يظل الأمر محاطاً بالسرية حتى يحين وقت البوح به. كذلك اتفقنا على تطوير “سيناء” لإخراج سكان غزة الى هناك بعد الأتفاق مع الرئيس المصري، والأمر ليس صعباً مع الرئيس، وأظنه سيكون أسهل من موضوع الجزيرتين.

سكت الأمير قليلاً وقلب بعض الصفحات أمامه ثم أكمل:

ـ كما قمنا بعقد إتفاقية عسكرية واقتصادية بيننا، وشرحنا له ما تم في المؤتمر الإسلامي، وأكدنا له أننا أزلنا عملياً دولة “اسرائيل” كعدو وثبتنا إيران بدلاً عنها، كما أننا سنتابع “شيطنة” حزب الله وفضح وكشف ارهابيته في كل المحافل والمؤسسات والإعلام العربي والغربي، وقلت له أننا “وراك وراك ياحزب الله، ووراك وراك يا حسن نصر الله” وأكدت استمرارنا نحن بحربنا السياسية والإعلامية، وعلى “اسرائيل” الحرب العسكرية واستخدام عصاتها الغليظة لكسر رأسه.

فجأة، من طرف الصالة البعيد صوت الأمير الصغير “مفلح”، والذي غادره ربيع عمره العشرين قبل شهر من الآن ولا يريد العودة مجددا له، قال:

ـ ألم تتحدثا في موضوعة الجزر طال عمرك؟

فرد الأمير باسماً:

ـ عملياً نحن نفذنا مع مصر ما اتفقنا عليه مع “اسرائيل” في موضوعة الجزر، ولاحقاً سنبدأ بإذن الله بمد خط النفط والغاز عبر ميناء حيفا، وبذلك نضرب الإقتصاد الروسي عبر الغاز البديل الى أوروبا، ونقوي إقتصاد الحليف الإسرائيلي، كذلك ُنفقد مضيق “هرمز” بعض ميزاته، الأمرالذي يُؤثر سلباً على دولة الفرس “الرافضية”، ولاحقاً بديلاً عن قناة السويس، الأمر الذي يفقد مصر ورقة من أهم أوراقها الإستراتيجية ويضعفها، الأمر الذي يجعلنا قد أوفينا بوصية المغفور له الملك عبدالعزيز، بأن نضرب رأس الأمة مصر، وذلك كله مخطط له متفق عليه مع الأخوة في إسرائيل.

وما كاد الأمير ولي ولي العهد أن ينهي عبارته حتى قال أحد الأمراء المدعو “عُقله” سائلاً:

ـ يقولون ياطويل العمر أن الرئيس أوباما يريد أن يشتري الجزر لصالح إسرائيل، فهل هذا صحيح؟

وقبل أن يجيب الأمير قال الأمير سويلم:

ـ ليس بين الخيرين حساب.

فرد الأمير متعب:

ـ اسرائيل منا فينا والذي عندنا عندهم.

وكاد يقول “والذي عندهم عندنا” لكنه عدل عن الأمر كونه يعرف أن ما لديهم  لديهم وحدهم. وقبل أن يُجهد تفكيره ويُتعبه، قال الأمير ولي ولي العهد بشكل واضح جلي:

ـ لا والله ما أنتم بأكرم من الملك سلمان وأبنائه، والكرم الملكي يقتضي أن نَهِب الجزيرتين هديه للرئيس واسرائيل إذا طلب شرائهما، “هدية لله ورسوله ليس وراءها رد جزاء”.

في هذه اللحظة بالذات دُق باب الصالة الكبيرة في القصر الملكي، وفُتح الباب ومن بين ظرفتيه دخل رأس الجبير يتنازعه الخوف وقلة الحيلة، وقال بعد أن إعتذر:

ـ يا أصحاب السعادة والسمو، جلالته لا يريد أن يظل في القصر، وبعد أن تقافز من على الطاولة على أرض القصر وكاد يكسر يده، فهو مصر على الخروج واللعب في الرمل، ولا أدري…

أشار الأمير محمد بن سلمان لأحد الأمراء بالخروج ومعالجة الموضوع، وعاد الجمع الى متابعة أمورالمملكة.

لاحظ الأمير محمد بن نايف ولي العهد، أن الوقت يمر سريعا وأن هذه العقول المجتمعة من خيرة عقول آل سعود، لم تناقش الموضوع الأساس الذي حضروا من أجله، فقال داخلاً مباشرة في صلب الموضوع:

ـ كما تعلمون طال عمركم أن النفط الى نهاية، وعلينا التفكير في مستقبل المملكة ومستقبلنا، وإلا تخاصمنا وتقاتلنا وربما لا قدر الله عدنا الى الزمن الغابر حيث”لحافنا جلد شاة ونعلينا من جلد البعير” كما قال الشاعر، لذا وقبل أن تقع الواقعة فعلينا أن نستعد و نعد…

فقال الأمير عُقلة:

ـ علينا بناء المزيد من محطات التلفاز الخاصة، ونفرض الإشتراكات الإجبارية على الناس…

لكن الأمير الوليد بن طلال هب وكأن أفعى قد قرصته وقال:

ـ هذا المجال مجالي ولا يحق لأحد اقتحامه علي…

لكن ولي العهد قال:

ـ ياجماعة الخير، إن إختلفنا فربما لم نجد أناساً تشترك ولا أموالا لما تقولون، علينا أن نظل موحدين… ورأيي أن نتهيأ للزراعة، فأراضينا والحمد لله واسعة وشمسنا ساطعة، وربما نجد مياهاً جوفية كما وجد القذافي في الصحراء الليبية…

فرد الأمير سالم مستغرباً:

ـ زراعة؟ ومثل القذافي؟ خاف ربك! طال عمرك، أتريدنا أن نعمل وبالزراعة بعد؟ ومثالك القذافي؟ هذا عدا أننا لو فعلنا ما فعل القذافي فلن يرضى عنا أكثر حلفائنا تعصباً ودعماً، لأننا لن نكون بحاجة لإستيراد منتجاتهم، أنت تريد أن نعادي حلفاءنا؟ ألم ترَ أن أول ما دمرته أمريكا في ليبيا هو ما أسماه القذافي ب”النهر العظيم”؟ أي المياه المستخرجة من باطن الصحراء، هذا عدا أن بلادنا صحراوية ياسعادة الأمير…

فرد عليه الأمير محمد قائلاً:

ـ لقد قال لي الملك الأردني أن “الشيوعيين” عندهم، لما كانوا مسجونين في سجن الجفر الصحراوي، جعلوا هؤلاء الكفرة من الصحراء جنة، فزرعوا الخضار ومن ثم الفاكهة ونجحوا في ذلك.، كما أننا سنزرع ما ليس له وجود في بلاد الحلفاء فقط، لنتجاوز غضبهم..

فقال الأمير سويلم:

ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أنتشبه بالشيوعيين؟ ماذا بك اليوم؟مرة تريدنا مثل القذافي ومرة مثل الشيوعيين طال عمرك… أستغفر الله العظيم

سكت الأمير ولي العهد عندما قال الأمير محمد بن سلطان:

ـ أنا أرى أن نعبئ الشمس في زجاجات ونبيعها للغرب والشمس كما تعلمون ليس أكثر منها شيئاً في بلادنا.

فقال الأمير مفلح معقباً مقترحاً في ذات الوقت:

ـ الشمس موجودة في كل الأرض طال عمرك، ولن يشتريها أحد، لكن علينا أن نجعل الشيوخ تبحث في كتب التاريخ فربما وجدوا قولاً للرسول عليه السلام يفرض فيه الحجيج ثلاثاً ورباعاً وخماساً، وبالتالي يتضاعف الدخل لمملكة الخير خمس أضعاف عمّا هي عليه الآن، نتيجة تضاعف موسم الحاج.

فقال الأمير ولي العهد:

ـ من سيصدقنا إن وجدنا مثل هذا الحديث، كما أننا لا نريد دخلاً موسميا، نريد دخلاً مثل النفط دون أن ينقطع ولا ينضب….

كان في زاوية الغرفة أحد أهم عقول آل سعود الإقتصادية، كان يستمع طوال الوقت، لا يقول شيئاً، لدرجة أن بقية الأمراء كادوا ينسون وجوده، تنحنح الأمير مريود كعادته عندما يريد الحديث، فانتبه الجمع إليه وساد الهدوء في صالة القصر الكبيرة، وقال الأمير مريود:

ـ أذكروا اللـــــــــــــــــــــــه….

فرد الجمع:

ـ لـــــــــــــــا إله إلّا الله

فقال الأمير مريود مجدداً:

ـ وصلّوا على محمد

فرد الجمع:

ـ صلى الل عليه وسلم

فقال الأمير مريود:

ـ وزيدوا للنبي صلاة

فرد الجمع:

ـ ألف صلاة على محمد

فقال الأمير مريود:

ـ لقد حبانا الله بأرض خيرها لا ينتهي، فترابها من ذهب، وأمرائها من عزة وشعبها مطواع، نحن والحمد لله لدينا مورد من الخير لا ينضب، وهو قائم وموجود لكنه غي مُسْتَغَل، فالله سبحانه وتعالى خص هذه العائلة وأكرمها بعقول نيرة وأمراء خير وتربة معطاء، “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”، لكننا انتبهنا للنفط ولم ننتبه لغيره…

أطل رأس الجبير من جديد بعد أن طرق الباب، وقال:

ـ صاحب الجلالة يريد أن يركب الحمار ويذهب لسقايته من العين، إنه يعتقد نفسه طفلاً…

وكرر الأمير محمد بن سلمان الإشارة لنفس الأمير الذي خرج ليعالج الأمر ويعود، ورغم ذلك ظلت الأعين معلقة بفم الأمير مريود وما يريد قوله، فهذا الأمير يؤكد معظم الأمراء أن لديه من العقل ما يفوق آل سعود مجتمعين، وأنك لتجد “الجواهر” بين كلماته دون عناء، ونسب البعض آرائه وصحة اجتهاداته لعلاقته بعرّافة القصر “أم عوين” التي تفيض عليه بالمعرفة والبصر والبصيرة التي يأتي بها لها الجن، وأن آراءه وأفكاره قوية مسنودة “لا تخر منها الماء”.

وسكت الأمير مريود وكأنه لم يقل شيئاً، فخاطبه الأمير سويلم قائلاً:

ـ وما هو هذا المورد الذي لا ينضب يا سعادة الأمير طال عمرك؟

فقال الأمير مريود برأس مرفوع:

ـ إنه بول الإبل… نعم بول الإبل…

وأمام اندهاش الجمع الذي غاب الأمر عن أذهانهم فجأة ودون سابق إنذار، رغم أنهم شربوا منه ولا يزالون حتى الثمالة، ويعرفون أكثر من أي كان أهميته وفائدته والفيتامينات القابعة في طياته، وأعتقد الكثيرون أن ما غيّب الموضوع عن أذهانهم ليس إلّا الجن الذي يساعد الأمير مريود مدفوعاً من عرافة القصر أم عوين، وأكمل الأمير مريود:

ـ لكن الأمر لن يكون بسيطاً كما تعتقدون، فالموضوع بحاجة للبدء به مبكراً، ليترافق مع دخل النفط، فعلينا أن نبدأ ببناء المشافي الضخمة المتخصصة بالأمراض كافة التي يُشفيها بول البعير، من الروماتيزم ومرض القلب والأمعاء والسرطان والسيلان والزهري وأمراض الكلى والإيدز ومرض العيون والأنف والحنجرة، وبناء المصحات وبرك السباحة المليئة ببول البعير وليس بالماء، ليتسبح الناس فيها تاركين أجسادهم لتتشربه لتحقيق أكبر قدر من الإستفادة، كما وعلينا بناء المصانع التي تنتج “المايوهات” الإسلامية للمسلمين، أو الجلاليب القصيرة لما فوق رسغ القدمين لهم، والسماح بالإختلاط والسباحة العارية للكفار من الكتابيين والملل والديانات الأرضية، لنستجلب أكبر عدد منهم الى مملكة الخير، وكما تعرفون ف”إن الله غفوررحيم”، كما بناء مصانع الزجاجات الفارغة لتعبئته وتصديره الى كل أصقاع الأرض وبلاد العالم ، وبناء مصانع الأوراق اللاصقة التي ستلصق على الزجاجات وعليها “صورة البعير بائلاً” وعلى رأسه “تاج ملكي” ومكتوب عليها بعشر لغات عالمية” انتاج طبيعي مائة بالمائةـ BIO” كما ونبني الإذاعات ومحطات التلفاز والملصقات والصور والنشرات، ونخصص في كل سفارة من سفاراتنا مركزاً للإستشارات الطبية والدعاية والإعلام لتوزع النشرات على الناس في بلدان العالم المختلفة، وتدعيم النظام المعرفي الصحي بينهم، لتطوير نظام العلاج العالمي والتداوي الأممي ببول الإبل، ومن يتقاعس منهم فيجلد ألف جلدة، وإن أخطأ فحد السيف “وما ربك بظلّام للعبيد”.

كما لا تنسون أن الأمر يتطلب العمل وبصمت كي لا يتم كشف خططنا الإستراتيجية، وتتلقفه بعض الدول الحاقدة الجاحدة الحاسدة فتبدأ بتنفيذه قبلنا، وخاصة دويلة “الشيخة موزة” وولدها حمد الصغير، لذلك يجب شراء الإبل والنياق منها على وجه التحديد، لتبدأ بالتكاثر والتناسل بهدوء واستمرار ودون ضجة، واخفائها في مناطق متفرقة في الصحراء للتمويه وكي لا تظهر كثافة أعدادها وينكشف سرنا، وما علينا عقر ناقة مثل قوم صالح ولا ذبح إلا ما كبر منها وأصبح عالة وغير منتج،  إلا إذا طالبت نفس أحد الأمراء لحم البعير، فيصبح الذبح حلالاً زلالاً، رغم أنه يُفضل استيراد اللحمة للأمراء طازجة من الخارج، كي يظل مشروعنا مستمر في النمو …. وتخيلوا طال عمركم، نحن نسقي البعير ماءً من فمه والبعير “حشا السامعين” يبول من … تعرفون من أين، والمصانع تعبئ والريالات تهفهف مثل المطر، يعني نحن نسقي وهو يبول، نسقي ويبول وخير الله بالقناطير فوق رؤوس آل سعود كلهم من بوله…إي والله بالقناطير فوق رؤوسنا…

وسكت الأمير مريود ليأخذ نفساً من الهواء ويشرب جرعة من بول البعير مستعيناً بها بعد الله ليكمل حديثه، لكن الأمراء اعتقدوا أنه أنهى حديثه، فضجت الصالة الملكية بالتصفيق، الذي على أثر سماعه دخل الملك سلمان الصالة راكباً حماره الذي أحضروه له نزولاً عند طلبه الملكي، حائلين دون ذهابه لعين الماء التي لم تعد موجودة منذ عشرات السنين، وكانت يداه تصفقان بعزم وقوة لا تتناسبان مع سني عمره، وهو فاغر الفم ضاحكاً مطالباً بأن يحضروا له بعض الحلوى الشاميه التي تعودعلى أكلها منذ الصغر، وبدأ الأمراء بالتعليق كل من موقعه على أفكار الأمير مريود. فقال ولي ولي العهد:

ـ كيف لم تخطر هذه الفكرة النيرة على بالي؟.

ولم يعلق الأمير ولي العهد رغم إعجابه بالفكرة لكنه كان من أكثر المصفقين، وقال الأمير سويلم:

ـ هذه هي العقول طال عمرك، إنها من عند الله فقط

وقال الأمير سالم:

ـ أفكارك طال عمرك والله “ما كنا لنهتدي إليها لولا أن هدانا الله”.

وكانت نظرات الإعجاب تقطر ابتسامات من بين شفتي الأمير مقرن فقال:

ـ سلم الله لسانك ونور بصيرتك على هذه الأفكار.

وقال الأمير مفلح معجباً:

ـ والله لن يتوصل لهذه الأفكار إلا جني أو إنسي مرفوع عنه الحجاب، أو ولي من أولياء الله.

أشار لهم الإمير مريود ليهدأوا وليكمل لهم جملته الأخيرة، فسكت “الربع” وقال الأمير بعد أن تنحنح كعادته:

ـ ولا تنسوا أننا بذلك نضمن أمور دنيانا ونكسب آخرتنا لأننا عملنا بسنة محمد صلوات الله عليه وطبقناها في بلاد الله، فيغنينا الله في الدنيا ويجزينا في يوم الآخرة حيث” لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم”…

بدأت تنهال التبريكات والتهاني، وأمطر الأمراء الأمير مريود بالكلمات التي عبرت عما غمر صدورهم من فرح وبهجة

ـ صدقت، دعني أقبل “خشمك الزين”

ـ إي والله صدقت، نقبل خشمك وقفا البعران أيضاً

ـ صدقت ورب الكعبة، والله كلامك وبول البعير يوزن بالذهب

ـ سلم الله لسانك

ـ جعلنا الله من أهل الدنيا والآخرة…

ـ آمين                                                                                                                                 ـ آمين يارب العالمين…

وتعانقوا وباركوا لبعضهم البعض الأفكار النيرة وإرادة الله في كشف طريق النور والبر والتقوى أمامهم، وتمايلوا راقصين على أهازيج “الدحيِّة”، ورفع الملك سيفه الخشبي فوق ظهر حماره، وأنهوا الإجتماع الملكي متفقين على الإستراتيجية الجديدة لآل سعود لمرحلة ما بعد النفط، وقرأوا الفاتحة على ذلك.

محمد النجار

أم عمر تريد نصيحة الرئيس…

كانت تتردد بشكل يومي تلك المرأة الثمانينية على مقر المقاطعة حيث أعمل حارساً، تمر بخطوات متثاقلة حاملة كل سنوات عمرها الثقيلة فوق كتفيها، مستعينة بحديد السلالم عندما تصعد الدرجات، وتقف لتلتقط أنفاسها بين درجة وأخرى، تأتي مع شمس الصباح وتغادر مع النهار عند مغادرته، تجلس على مقعد خشبي بانتظار ان يسمحوا لها بمقابلة الرئيس، لكنهم كانوا يمنعونها من ذلك، بل لا يعيرونها انتباه ولا يعطون مطلبها اهتمام، فالرئيس ليس لديه وقتاً لأي كان من أمثالها، ولا “لكل منْ  هب ودب” كما قال أحدهم، لو كانت صحافية من البيت العبري لفردوا لها الأرض رملاً واستقبلها الرئيس خارج مكتبه وأجلسها بنفسه على مقعدها، فالرئيس يكرس كل وقته الآن في خدمة القضية الوطنية وليس لديه وقتاً ليضيعه مع مثل هذه المرأة الهرمة، فجل وقت الرئيس يبذله مع “أبطال التنسيق الأمني”، كي لا يفلت من بين أيديهم “لا سمح الله ولا قدّر” لا من يُحرِّض وينشر”الكراهية” مع الجيران الجدد، ولا خلية”تخريبية”، ولا قطعة سلاح “عبثية”، من جهة، ومع الصحافة بشكل عام والعبري منها على وجه التحديد،  كونه وعد نفسه بأنه سَيُحْدِث التغيير في المجتمع “الإسرائيلي” كي يضغط على حكومته من أجل السلام، غير عابئ بكل استطلاعات الرأي التي تؤكد نقيض ذلك!!.

وأم عمر التي لا تعرف هذا الأمر، ظلت تتردد ومنذ ما يزيد على أسبوع وما تزال للقاء السيد الرئيس. وكانت حاشية الرئيس ووزرائه في بداية الأمر لا تعيرها انتباه يُذكر، لكن أم عمر التي كانت تجلس صامتة في بداية الأمر، أخذت مع طول قعدتها ومرور الوقت الثقيل تزداد سؤالا عن موعد قدوم الرئيس، وبعد أيام أخذت تقول شيئا من مكنونات صدرها، الأمر الذي جعل بعض “أبطال التنسيق الأمني” يستشعرون “الخطر الكبير” الذي تحويه هذه المرأة العجوز في صدرها وكلامها، مما “اضطرهم لأخذها الى أحد المكاتب للتحقيق معها فربما تكون مدسوسة لتعكر صفو الرئيس أو لتجلب له الغضب و لأيامه التعاسة.

قال لها المحقق العقيد أبو هاني، أحد “أبطال التنسيق الأمني”، والذي كان بعض أصدقائه يتهكمون عليه مازحين قائلين، “أن عليه أن يأخذ معاشه من حكومة “إسرائيل” مباشرة وليس من السلطة، لعظمة ما يقدمه لها من خدمات”، والذي كان مثاله الأعلى المحقق “شلومو”، الذي على يديه تمت أعلى نسبة من الإعترافات في العامين الأخيرين، بهدوء وبخبث كعادته:

ـ أهلاً وسهلاً ياأمي، لماذا تريدين مقابلة الرئيس؟

فقالت الحاجة أم عمر:

ـ لا أخفيك يابني أنني في الفترة الأخيرة أسمع الكثير من الرئيس أو على لسانه، وأنني أكاد لا أصدق ما أسمع، فقررت أن أقابله كي أسأله وأقدم له نصيحة أيضاً….

فقال العقيد أبو هاني :

ـ لنبدأ من” ماذا سمعت منه أو على لسانه وبماذا تريدين سؤاله” ومن الذي أسمعك أو حثك وجعلك تقررين مقابلته؟

لم يعجب الحاجة أم عمر سؤال المقدم أبو هاني، لذلك تجاهلت مالا يعجبها في السؤال، وأجابت بنفس الهدوء، لكن بكلمات متعبة لاهثة:

ـ سمعت الكثير يابني، الكثير، لدرجة أنني أحياناً كنت أفكر وأقول أنه ليس من المعقول أن الرئيس “يبول من فمه”، وكنت أُكَذِّب أذني، لكن “الشمس لا يمكن إخفاؤها بغربال”.

ابتلع العقيد أبو هاني ريقه، لكنه فضل أن يظل على هدوئه ليعرف ما تريد هذه المرأة بالضبط، ومَنْ الذي وراءها، وسأل مجدداً:

ـ كيف ياأمي؟ كيف؟

فقالت العجوز مستغربة:

ـ وتسألني كيف؟ ألم تسمعه يستجدي الصحفية قائلاً أنه يريد لقاء زعيمهم في أي مكان وزمان، ويقول”جربوني أسبوعاً وإن لم أنجح أعيدوا الأمر على ما هو عليه،  أإلى هذه الدرجة وصلت المهانة؟ يجربوه في ماذا؟ إن كان يقتل ويعتقل ويعذب أم لا؟ وهل هناك شيء آخر يريدونه منه؟ ألم يدرك الرئيس بعد أن “من ليس لديه خميرة لا يخمر له عجينن”؟ وهو كما ترى لا خميرة ولا عجين، مأثورنا الشعبي يقول يابني” المنايا ولا الدنايا”، وهو رجل هرم مثلي ويعرف ذلك جيدا، وإن كان لا يعرف ليستقيل ويترك الأمر لمن يعرف، ألم يقل ذات يوم أنه لو خرج ضده شخصين اثنين في مظاهرة سيستقيل؟ لماذا لا يستقيل إذن وضده كل هذه “الأمة”؟ لا أحد يريده نتيجة أفعاله تلك سوى المستفيدين من وجوده، أم يعتقد أن “المسحجين” يمثلون شعبنا؟ الإنسان يابني يرتبط من لسانه وليس من “حافره”، ليعش “ديكاً يوما واحداً أفضل من أن يظل فرخة العمر كله”، وهو ماذا تبقى له من الأيام بعد هذا العمر الطويل؟ ليطالب بحقوق شعبه كاملة غير منقوصة إن أراد أن يظل رئيساً، و”أكثر من القرد لن يسخط الله”.

سكتت الحاجة قليلاً ثم أكملت من جديد:

ـ أنا أعرف أنهم لن يعطوه شيئاً، كما أنهم لن يعطوه شيئاً من القليل الذي يطلبه، لكن “لا يضيع حق وراءه مُطالب” يابني، وما عليه كرئيس إلا تثبيت مطالب شعبه وترسيخها، وقصتنا قصة تحلها الأجيال وليس جيلاً واحداً، فليترك الأجيال تقوم بمهامها.

أخذت الدماء تغلي في عروق بطل “التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني، لكن تجربته علمته أن يظل مستمعاً حتى النهاية ليعرف كل شيء عمَّن أمامه، فقال:

ـ لكن هذه المظاهرات يقوم بها فصيل واحد ياحاجة، وليس كل الشعب الفلسطيني…

فقالت الحاجة أم عمر:

ـ “أول الرقص حجلان” يا بني، ثم هل سينتظر الرئيس ليقوم ضده كل الشعب الفلسطيني؟ إنه يعرف أن معظم الشعب لا يؤيد سياسته، فالشعب يعرف أن “عدو جدك ما بودك، ولو عبدته مثل ربك”، وأن عدوا سلب الأرض وانتهك العرض، ويقتل كل يوم ويعتدي ويعذب ويقمع ويسجن لا يمكن التعايش معه، وهذا الفصيل الذي تتحدث عنه لم يقم لا بإنقسام ولا بحرب داخلية ولم ينجر لفتنة، وقدم من الشهداء من القيادة حتى الأعضاء، وظل شريكا بالعمل الوطني منذ عشرات السنين ومن الأوائل، والسجون مليئة بأعضائه، وأنا لدي اثنين من أبنائي في السجون منهم …

أدرك أبوهاني من أين لهذه المرأة تلك الأفكار “الهدامة الحاقدة”، فقال:

ـ لكنهم أحرقوا صوره ياحاجة، أليس من المعيب فعل ذلك؟

فردت الحاجة أم عمر وقد رأت نفسها في معركة مع هذا الذي يجلس أمامها:

ـ ألم يحرق هو قلوبهم وقلوبنا بتصرفاته وأقواله؟!!! وإن كان هؤلاء قد حرقوا صوره فعلى أبناء تنظيمه أن يرموه بعيداً ويزيحونه من القيادة كما أكد ابني الثالث القابع في السجن منذ سنوات، والذي هو من أبناء التنظيم الذي يدعي الرئيس أنه ينتمي اليه، ثم كيف يمنع عنهم مستحقاتهم المالية؟ من هو وبأي حق يفعل ذلك؟ هذه الأموال يابني هي أموال الشعب وليس ملكاً شخصياً لهذا الزعيم أم ذاك، وكما قال أحد أبنائي أن تلك المستحقات ربما تكون اقل من مصروف أحد أبناء الرئيس الأسبوعية، فهل يُعقل ذلك؟ هذا الأمر يعني إما أن “تبصموا”على ما أفعل أو أن تموتوا جوعاً…. وهؤلاء يعرفون أن “الشعير للبعير”، لذلك ظلوا طوال حياتهم رافضين أن يكونوا قطيعاً، رغم أن القليلين منهم ارتضى هذه المهانة، وسكت ليصله “الشعير” في آخر الشهر…

كان “بطل التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني يعرف أن ما تقوله الحاجة صحيحاً، ومهمته الحد من مثل هؤلاء المتطرفون الذين ما زالوا يحرضون على الرئيس وعلى قطار التسوية الذي ما يزال يسير، وها هو يعرف أن أبناء تلك المرأة في السجون ما زالوا يحرضون، وهي معلومة جيدة يمكن البناء عليها، فأكمل مع الحاجة محاولاً كشف المزيد، قال:

ـ يظل الرئيس ياحاجة رئيساً، ونحن لا نعرف كل أمور السياسة، لكنه رغم كل ذلك يحب وطنه مثلك تماماً…

فقالت الحاجة أم عمر وهي تنظر مباشرة في عيني بطل التنسيق الأمني:

ـ من يحب بلده عليه التقدم بالقرابين، شهداء أم جرحى أم أسرى، وأنا لم أرَ الرئيس قدم أحداً من أبنائه أو أحفاده، بل إن الشعب يُقدم وهو يكنز لهم الأموال، وها هو  وبعض أزلامه يبعثون أولادهم وأحفادهم ليشاركوا في مخيمات “اسرائيلية” تطبيعية!!!، وجاءهم الرد من الصهاينة أنفسهم، “أنكم لو قدمتم رؤوس قادة المقاومة على طبق من فضة، ودخل الرئيس حزب السلطة “الإسرائيلي”، فلن يغير هذا الأمر من توجهات الإسرائيليين”، “إن العدو ما بيصير حبيب ولا فرخ الحية بنحط في العب” يابني، الأمر مبتوت ومعروف، على الرئيس أن يترك الناس لتتصدى لعنصريتهم، أن يفضح ممارساتهم، أن يسلط الضوء على ممارسات جيشهم وقادتهم، من تقتيل وسجن وتعذيب بحق أطفالنا ونسائنا وشبابنا، ليعرف العالم كله أن “هذا لجيش الذي لا يقهر “هو في حقيقة الأمر الجيش الأكثر جبناً، والجيش الذي ليس لديه ذرة أخلاق، هذا إذا كان الرئيس لا يريد أن يظل حاملاً معولهم ويهدم في مقاومتنا وحقوقنا وتاريخنا…

سكتت الحاجة أم عمر قليلاً، وقالت موجهة كلامها من جديد الى أحد أهم أبطال التنسيق الأمني العقيد أبو هاني، دون أن تعرف ذلك:

ـ أتعرف ما يدهشني؟ أن الرئيس لا يعرف أن هؤلاء الصهاينة كلما ازدادوا تطرفاً وعنصرية وفاشية، كلما كان يوم نهايتهم يقترب، إنهم يعتقدون أنهم بذلك يدافعون عن نهايتهم القادمة لا محالة…

سكتت من جديد دون مقاطعة وأكملت:

ـ إذا كان الرئيس فعلاً حريصاً على الشعب والقضية لماذا لم نرَ ولا مرة واحدةً تحقيقاً مع عميل أم حبس مرتبط أو محاسبة فاسد؟ بدلا من اعتقال المقاومين ومطاردتهم وتعذيبهم كما لدى الإحتلال؟!!! أنظر يابني، “كلمة بت ولا عشرة لت”، الأمر أصبح في غاية الوضوح، والذي “لا يفهم بالوما الحكي معه خسارة”، التركيبة كلها فاسدة ومفسدة ومخترقة كما لم تكن يوماً، وهذا هو المطلوب من الغرب كله وعلى رأسه الدول …. ما اسمها؟ التي تعطي الرئيس “المصاري”، لقد قالوا لي أبنائي ذلك ونسيت…

فقال العقيد أبو هاني موضحاً:

ـ المانحة، الدول المانحة.

ـ المانحة نعم، يسلم لسانك، هذه الدول التي لا تقدم “الشعير للقطيع” مجاناً، المطلوب فاسدين ومفسدَين ومفسِدين وعملاء ومشاريع عملاء فقط، فهؤلاء فقط هم المستعدون للتنازل عن الأرض والشعب والوطن والتاريخ، هؤلاء فقط من يستطيعون التنازل عن مستقبل هذا الشعب مقابل حفنة من المال، لهذا لا مكان للمقاومين والشرفاء والأحرار في قيادة سلطة أوسلو…

إزداد ضغط “بطل التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني، ولم يعد قادراً على تحمل المزيد، والحاجة أم عمر التي أخذت المزيد من الهواء، ما يكفي لقول بقية كلماتها، قالت:

ـ وعلى كل حال، ورغم ذلك كله فقد جئت لأقل كل ذلك للرئيس مباشرة، وأقدم له نصيحة عله يُنقذ شعبه ونفسه من كل ماجرى، رغم أن “الضرب في الميت حرام”.

ـ وما هي هذه النصيحة؟

سأل العقيد ابو هاني ولم يعد قادراً على مجاملة هذه “العجوز” حتى لو كان من أجل معلومات توقع أن يسمعها، حين أكملت الحاجة أم عمر قائلة:

ـ جئت لأطالبه بأن يكون رجلاً مرة واحدة، وأذكره أن الذئب عندما قبل التدجين أصبح كلباً…

كنت في نوبة الحراسة آنئذٍ عندما سمعت صريخ “بطل التنسيق الأمني” أبو هاني من وسط مكتبه، منادياً عليَّ قائلاً:

ـ خذوا هذه “العجوز الشمطاء” خارجاً، ولا أريد أن أراها مرة ثانية بعد الآن…”خلِّيها تحل عن قفانا”

وأخذتها وأنزلتها الدرجات معتذراً عن كلماته بعيني، لكنها ظلت مصرة على مقابلة الرئيس، تأتي يومياً الى المقاطعة رغم منعها من الدخول، فعملت من صُخيرة مقعداً لها مقابلي بجانب البوابة، تجلس عليها منذ شروق الشمس حتى مغيبها، عدا بضعة أيام في الشهر حيث تذهب لزيارة أبنائها الثلاثة في سجون الإحتلال المختلفة، وتأخذ تحدثني عن أمور شتى خاصة بما قالته “لبطل التنسيق الأمني” العقيد ابو هاني، قبل أن تعرف مني أنه أحد “أبطال التنسيق الأمني”، تحدثني منذ لحظة دخولها واستدراجها بالحديث، حتى أقسم لها بأن يعمل على أن يتحول أبناؤها المحرضين، بعد انقضاء فترة محكوميتهم للسجن الإداري، طالباً ذلك رسمياً من الصهاينة.

كنت أنظر لهذه المرأة الثمانينية وأزداد استغراباً لشدة هذا الأمل والإصرار والعنفوان التي يتمتع به مثل هؤلاء البشر.

محمد النجار