فاجأني أبُ كهلُ تجاوز السبعين بقليل، عندما حدثني وقال، أنه جاء لزيارة ابنه الذي لم يره منذ خمس عشرة سنة، وأنه منذ ما يقارب العام لا يستطيع الرجوع الى قطاع غزة بسبب القوانين الجديدة التي أقرها نظام السيسي على الفلسطينيين الذين يريدون الرجوع الى قطاع غزة، والتي على ضوئها لا يستطيع الرجوع حتى الآن…. الأمرالذي جعل هذا الكهل يدعو ربه بعد كل صلاة بألا توافيه المنية قبل أن يعود الى القطاع، وأن لا يميته في هذه البلاد البعيدة…. وكان هذا الكهل يتساءل بحرقة، هل نحن الفلسطينيين أخطر على الشعب المصري من الإسرائيليين الذين لا يحتاجون الى “فيزة” أو إعلان لدخولهم أرض مصر؟ وأكد الحاج مقسماً بأننا لسنا نحن من قتل الأسرى المصريين ولا من سرطن أراضيهم ولا من نظم شبابهم للموساد ولا من قتل أطفالهم في حوض البقر ولا من أسقط طائراتهم المدنية… بل نحن من ندافع عن الأمة العربية العاجزة جمعاء أمام تمدد الخطر الصهيوني، ولولا شباب المقاومة الفلسطينية واللبنانية لأصبح الكيان الصهيوني في عواصمهم، يدوسها بأحذيته وليس ببضاعته واقتصاده فقط، ولأصبحت عواصمهم مليئة بالمستوطنات….
كلمات الشيخ السبغيني دفعتني لأكتب موضحا هذه الكلمات: لقد أصبح من الواضح للعيان، ولا يحتاج المرء للكثير من الذكاء ليدرك أن نظام الرئيس” السيسي yes” ليس سوى نسخة مكررة بائسة عمّا سبقه من أنظمة، “مستثنيين نظام عبد الناصر رغم ملاحظاتنا الكثيرة عليه”، إبتداءً من السادات صاحب الفضل الأول في تعميق أسباب الهزيمة ونشرها وتعميمها وتتويجها بفاجعة كامب ديفيد، مروراً بمبارك المنفذ الأمين للسياسة الإمبريالية ـ الصهيونية في المنطقة، مرورا بمرسي الذي أحضروه بصفقة الإخوان مع أمريكا لحكم المنطقة وتقسيمها بقيادة العثمانية الجديدة بقيادة أردوغان، وصولاً إليه بصفقة العسكر هذه المرة التي أعطت لأمريكا وإسرائيل كل ما أرادتا من تعهدات بالحفاظ على كامب ديفيد وملاحقة ومحاربة القضية الفلسطينية ومؤيدوها، كيف لا وهي ذات المؤسسة المبنية أمريكياً كقوانين وتدريب ومفاهيم واستخبارات وشخوص؟!!! مستغلين انتفاضة الشعب المصري ضد الإخوان وظلمهم وحكمهم، وراكبين موجتها لتحقيق مخططات السيد الأمريكي وحليفه الإستراتيجي “إسرائيل” في المنطقة، بغطاء مالي رجعي خليجي هزيل سيزيد تعميق أزمة الإقتصاد المصري أكثر، مبقيا السياسة المصرية أسيرة مكبلة ومنحازة تماما للأوامر الأمريكية ـ الصهيونية، منتظرا المساعدات العسكرية الأمريكية مستجديها ، والتي لن تمر ولن تستمر إلّا من البوابة الإسرائيلية، وكذلك المساعدات الخليجية الرجعية التابعة حتى النخاع للأسياد في واشنطن وتل أبيب، مبقية الإقتصاد المصري رهينة في يد البنك الدولي الذي لم يدخل بلداً إلا أفقره وأذل شعبه واستعبده، وفي ذات الوقت فإنه “أي النظام”يزيد في تجهيل شعبه، وشبابه بوجه خاص، حارمه من معظم حقوقه الأساسية وأبسطها، من حق تعبير أو تظاهر أو تفكير أو كرامة، والإستعاضة عنها بالسجون والبطش والقمع والتجهيل وسيادة “ثقافة” الفهلوة والتذلل والبحث عن الحلول الفردية والكذب والتسلق والطفيلية…. وها هو الآن يُدخل سياسة الخطف والإختفاء القسري لل”مشتبه” بهم، “تماما كما الجنرال الفاشي بينوتشيه في تشيلي بعد إنقلابه على الرئيس إيليندي”، بعد أن أتخم السجون بالبشر…
وكي لا نتوه ونغوص عميقاً في بحر سياسة صاحب مقولة”مسافة السكة” ونبتعد عن جوهر موضوعنا نقول: إن ما يقوم به هذا النظام، من خنق ومساهمة فاعلة في تجويع وتضييق الخناق على ما يقرب من مليوني إنسان فلسطيني، بمن فيهم من جرحى وثكالى وأيتام من جراء الحروب والمجازر الصهيونية المتتالية والتي ظل في آخرها متفرجاً مغلقاً المعبر الوحيد للقطاع (مساهما قدر استطاعته في خنق المقاومة حالماً بإستسلامها)، نقول أن ما يقوم به ليس إلاّ مصلحة إسرائيلية بإمتياز، والكيان الصهيوني هو المستفيد الأوحد بها ومنها، والسيسي ونظامه ينفذ هذه السياسة بكل جد وأمانة. أما من حيث مصلحة الشعب المصري فبالعكس، فمصلحة الشعب بتصريف بضائعة وفتح سوق جديد لهذه البضاعة ، وتبادل السلع مع هذا السوق ، فما بالك في موضوعة إعادة البناء والتي ستكلف المليارات ويمكن للشعب المصري الإستفادة منها بدلاً من الشركات الصهيونية أو الأمريكية المتربصة، وبدلاً من استجداء مساعدات آل سعود وأمريكا.
ونظام السيسي الآن يتفوق كثيراً بسوئه وتآمره على القضية الفلسطينية عن سابقيه، فكما هو معلوم لم يتم إغلاق المعبر بهذا الشكل وبهذه المدة الطويلة عند أي نظام سبقه، ولم يقم أي نظام بهدم البيوت وتدمير الحجر واقتلاع الشجر وتهجير البشر من أبناء الشعب المصري نفسه كما يفعل نظام السيسي الآن…. وذلك كله للحفاظ على أمن إسرائيل حتى لو كان ذلك على حساب الشعب المصري.
منذ إعتلاء السادات رأس السلطة في مصر ، قلب المعادلة في شكل التعاطي مع القضية الفلسطينية، فضيق على الفلسطينيين المقيمين في مصر وطرد معظم الطلاب الدارسين في الجامعات المصرية، وأقر نظام عدم دخول الفلسطيني للأراضي المصرية إلا بتاشيرة مرور “فيزا”، حتى لو أراد مجرد المرور إلى قطاع غزة، وبعد إتفاقية كامب ديفيد أصبح الحصول على التأشيرة يزداد صعوبة، واستمر الأمر يزداد صعوبة في عهد مبارك أيضاً، وكان الفلسطيني إذا أراد الحصول على تأشيرة ليعود إلى غزة، يتم رفض طلبه في معظم المرات، محققاً النظام المصري بذلك أهداف إسرائيل بتفريغ فلسطين من أبنائها، كون أبناء القطاع لا يستطيعون العودة إلا عبر الأراضي المصرية، ليتم إصدار قانون غير مكتوب بعدم إعطاء التأشيرات لمن هم تحت سن الخامسة وأربعين عاماً، بالضبط نفس القانون الصهيوني بعدم إعطاء تصاريح لسكان الضفة وغزة لدخول القدس حتى لو للصلاة لمن لم يتجاوز الخامسة وأربعين عاماً !!!، وأسماها النظام المصري تأشيرة “كبار السن”، ومن ثم أخذوا يؤجلون طالب التأشيرة”لكبار السن” بسبب الحاجة للتدقيق الأمني،”ولاحقاً ارتفع السن إلى ما فوق الخمسين وبتدقيقٍ أمني” وأصبحت هذه التأشيرة لا تُعطى إلاّ للقليل من طالبيها، محققين بذلك أهداف الكيان الصهيوني بعدم عودة الأغلبية الساحقة من الشباب الفلسطيني لأرضه وكذلك جزءً لا بأس به من كبار السن !!!
ثم بدأت هذه الأنظمة بتطبيق سياسة “الترحيل” والقاضية بنقل الفلسطيني من المطار مباشرة إلى معبر رفح، بعد حشره وعائلته وأطفاله كالمجرمين في المطار حتى يأتي الباص في صباح اليوم التالي، فيتم وضع الفلسطيني وعائلته وأطفاله به محاصراً بالجنود، ويُدفِّعوه ثمن الترحيل، وفي الطريق إن لم يدفع الرشاوى للجنود والسائق وإطعام الجميع على حسابه فإنه سيصل بعد أكثر من عشرين ساعة بدلاً من الساعات السبع، وسط لهيب صحراء سيناء الحارق، بحجة أن الباص لا يسير بأكثر من 40ـ 50 كلم في الساعة، أو الباص قد تعطل أو….. لم يكتف نظام الجنرال “السيسي yes” بكل ما سبق، بل أراد أن يؤكد إلتزامه وبشكل لا يقبل الشك بأمن “إسرائيل” وإلتزامه المطلق بها، بنفس القدر بمواجهة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية ومقاومته الشعبية والمسلجة، فأضاف على كل ما سبق مجموعة من المتطلبات الجديدة:
- على أي فلسطيني يريد العودة الى غزة، متابعة وسائل الإعلام المصرية المقروءة والمرئية والمسموعة، ليعرف من خلالها متى سيتم فتح المعبر أمام عبور الأفراد، وعند معرفته بذلك، فقط حين تأكده من ذلك، عليه التوجه الى أقرب مدينة يكون فيها سفارة مصرية لإعلامهم برغبته بالسفر وأخذ الإذن منهم بذلك .
-
بعد موافقة السفارة على رغبته يمكنه التقدم بطلب من أجل الحصول على التأشيرة، والتي لا يعلم أحد إن كان سيحصل عليها أم لا، فموافقة السفارة على إقرار رغبته بالسفر لا يعني بحال من الأحوال الموافقة على إعطائه التأشيرة. * بعد أخذ التأشيرة فقط يمكنه حجز تذكرته للعودة مرورا بمطار القاهرة الدولي، إن هو وجد مكاناً له في تلك الرحلة!!! لذلك، فالكثيرين إن كان في مدينة بعيدة عن مدينة السفارة فما يكاد الوصول للسفارة لإبلاغها برغبته حتى يكون المعبر قد أغلقه الجنرال من جديد، وفي أحيان كثيرة ما يكاد أن يضع طلباً للتأشيرة حتى يكون المعبر قد أُغلق، خاصة أن الرد على التأشيرة قد يتأخر لأسابيع وأحيانا أشهر لأسباب أمنية، في الوقت الذي فتح المعبر لا يزيد عن يومين اثنين، فكرم الجنرال شحيحاً في المسائل المتعلقة “بالأمن القومي”!!! خاصة أن الإذن أو التأشيرة لا يصلح إلا لموعد محدد واحد ليس أكثر، يعني لا يمكنك أن تأخذ إذناً ليوم كذا في شهر كذا وتذهب قبل أو بعد الموعد بيوم أو حتى ساعة واحدة، لأنه يلزمك إذناً جديداً وتأشيرة جديدة، يعني العودة الى نقطة الصفر، لذلك فالكثيرين إن أخذ موعدا يتأخر في أخذ التأشيرة ، وإن أخذ الإثنين ربما لا يجد طائرة في نفس اليوم، وإن وجد طائرة فربما لا يجد مكانا له فيها، وفي كل مرة عليه الرجوع الى المكان الذي بدأ منه.
هذا ما تفتقت به عقلية الجنرال، الذي يرى في قدرته العسكرية ما يمارسه من قمع لشعب مصر وشبابه، الذي تسلق شبابه هؤلاء 13 طابقا على” المواسير” ليصلوا الى السفارة الإسرائيلية، ويحرقوا محتوياتها التجسسية والمعادية للأمة العربية جمعاء، وعلى شعب فلسطين الأعزل إلا من عزته وكرامته وإرادته الصلبة.
لكنه يبدوا أنه ما زال جاهلاً (رغم رتبته العسكرية التي لم يستحقها بجدارة الحرب)، أن كل مؤامرات الأعراب، وكل ما فعلته الأنظمة الرجعية وعلى رأسهم حلفاؤه من أعراب آل سعود، وكل آلة القمع والقتل الصهيونية الأمريكية للشعب الفلسطيني، لم تزد هذا الشعب إلا تمسكاً بأرضه، وتعميقاً لإرادته وتشبثاً بأهدافه كاملة، وعلى رأسها تحرير كامل ترابه الوطني من البحر الى النهر، مهما تكالب الأنذال على هذه الأهداف…. وأن هذا الشعب الذي وقف وما زال في الخندق الأمامي مع الشعب اللبناني البطل دفاعاً عن أمته العربية جمعاء، يؤمن تماماً بأنه كلما ازداد ظلام الليل حلكة، كلما كان الفجر أسطع….. محمد النجار