كِدْتُ أقول له…

مهداة إلى الصديق العزيز خالد…

لم نلتقِ “أديب” وأنا منذ بضعة أيام، كعادتنا دائماً، فلا تتسع أوقاتنا للقاءات يومية، كما أن صداقتنا ليست بهذا العمق لتتسع لذلك، فنحن جيران أكثر من كوننا أصدقاء، والجيرة كما تفرض العداء أحياناً فإنها تفرض الصداقات في الكثير من الأحيان، لكنه رغم ذلك دق باب داري، كما أفعل أنا نفسي عندما تضيق علي الأمور ويحاصرني الغضب، فتجدني أدق باب داره.

مذ رأيته يعتصر أصابع يديه ويلفها كأنه يريد خنقها، أو قتلها والتخلّص منها قبل أن يرميها بعيداً، لتخرج “صريراً” أشبه بباب حديدي عتيق، أيقنت أن في الأمر سراً، وأن هناك ما يشغل باله، وأن الأمر يؤلمه ويكاد يخرج عن نطاق سيطرته وقدرة إحتماله، لذلك بدأ بالعبث بأصابع يديه وكأنه يريد كسر عنقها، مجبرها على “الطقطقة” ، كعادته، قبل أن يطرق الباب، ليقول لي بضعة كلمات ويعود.

أجلسته على كنبتي القديمة، المكان الذي أُجلس به ضيوف بيتي، قدمت له فنجاناً من القهوة، جلست مقابله، ومجرد أن نظرت اليه قال:

ـ كدت أقول له أن لا يكون مثلهم، أو مثل بعضهم على الأقل، ليبقى نقياٌ كما يعرفه الناس أفضل، فالنقاء ميزة متأصلة، أظنها تولد مع الإنسان، لا أعرف إن كان لها علاقات في الجينات والوراثة، لكنني أجزم أنها من الصعب أن تُكتسب.

أمسك بفنجان القهوة دون أن يتذوقه، عاد وأرجعه تماماً في مكانه وكأنه خائف أن تخذله أصابعه، رفع رأسه وقال:

ـ زرع فيّ أملاً أنه سينشر مقالي في جريدة يعرفها، وسُررت كطفل حصل على لعبة بعد طول سنين، كي لا أبدو كمجنون يكتب لنفسه ولعدة أفراد حواليه، ثم وعدني بدراسة بعض كتاباتي وإعطاء رأياً بها، فكتبت أكثر لما لوّح لي الأمل بيديه، وأنهيت في لاحق الأيام مقالاً طويلاً آخراً، وأخبرته أملاً في أن يطلبه ويعطي به رأياً، لكنه حتى لم يُعلق على الأمر، تجاهله وتجاهلني على غير عادته، لأنه على الأغلب لم يعنه بشيء، فابتلعت عتبي ونمت عليه أسابيع، فكما قالت الحاجة آمنة يوماً: “قلة الكلام …كلام”، وحاولت مع نفسي أن أجد له عذراً وعذرته، موجداً له المبررات والأسباب، وجزمت في نفسي ” أن كثرة الهموم شغلته، وأنه سيتصل في لاحق الأيام، وأنه سيفاجئني بإبداء رأي في كل ما كتبت”، فخذلني مُجدداً ولم يتصل أو يكتب.

شرب من فنجان القهوة قليلاً، أعاده في نفس موضعه، وتابع دون أن يسمع سؤالي لمّا سألته:

ـ عمَّنْ تتحدث، وعن أي مقال؟

ـ لقد دعاني وصديقاً آخراً لحضور ندوة ثقافية، وأكد علينا حضورنا، ثم غاب ولم يتصل لا ليعتذر ولا ليؤكد الدعوة، ولا نعلم إن تمت الندوة أم لم تتم، لكننا كنا ننتظر. فقلت في نفسي، لعل في الأمر شيئاً، أو هناك سبباً متوارياً في طيات الأيام أو زواريبها، فربما أصابته وعكة صحية لا سمح الله ولا قدر، سأعطيه المزيد من الوقت، “فالغائب حجته معه” كما يقول المأثور الشعبي، الذي ظلت تردده الحاجة آمنة أمامي، وسيتصل ليخبرني، على الأقل، أين وصل مقالي الذي وعد بنشره.

لكن الأمر الذي جعلني لا أكاد أفهم شيئاً مما يدور، هو مرض طفلي الوحيد بمرض خبيث عضال كما تعلم، فكتبت له عن الأمر كصديق، وشعرت بتأثره من جملته التي كتبها لي، ” هذا خبر سيء جدا، الف سلامة عليه…. وسنتابع الأمر بعد عودتي”، وصار الزمن يتدحرج أمام ناظري، متجمعاً على شكل أيام وشهور، الوقت يمر والمرض يزداد، الأمر الذي جعلني أكتب اليه بعد أن فشلت في الإتصال، من باب أخذ النصيحة وربما الطمع بمزيد من التضامن من صديق، فرأيته يكتب لي معتذراً عن التواصل معي، لأنهم “منعوه من أي إتصال معي”، وبدى لي أنه بحاجة لقرار من “الجماعة” ليتواصل معي، مجرد تواصل إجتماعي، أبحاجة لقرار ليطمئن على سلامة طفلي الوحيد!!! أو ليعطي رأياً في مقالي الذي بين يديه، أو ليسألني عن مقالي الجديد، أتتخيل ذلك؟!!! وهؤلاء “الجماعة” الذين منعوه هم أنفسهم الذين يتغنون بالثقافة ودورها وميزاتها، ويعتقدون أنهم الأكثر قرباً منها وفهماً لها، رغم كونها بالنسبة لبعضهم ترف وليست ضرورة ولا حاجة ملحة، وهؤلاء الذين منعوه من التواصل معي هم مَنْ حميتهم أنا نفسي بدمي ولحمي الذي أكله القيد في الزنازين على مدى ربع قرن كامل، والصرح الذي شمخ بعيداً في السماء معانقاً، كان شيء يسيراً منه على أكتافي ومن عزمي وعرقي، والآن لا ينكرون عليّ ذلك فقط، بل يمنعون حتى التواصل معي، الأمر الذي قرع ناقوساً في رأسي، وخفت من تشويه وجه تاريخي الناصع، ومثلي ليس لهم إلا التاريخ يفخرون به، أما الحاضر فبحكم رجال المستقبل، لا يغلم به إلا الله.

لماذا وبأي حق يفعل بعضهم ذلك؟ فهذا شيء لا أعلمه بعد، لكني تذكرت عندما منعني أحد هؤلاء “بقرار” مشابه، بعدم مشاركة أحدهم في عمل خاص، لأنه “نصاب وحرامي” كما قال، ليشاركه هو بعد أن إنسحبت أنا ملتزماً بالقرار !!! وكنت سأعذره لو كان إلتزامه بما يخص الجانب السياسي، لكن الجانب الإجتماعي أيضاً؟!!! العلاقات الشخصية والإجتماعية يحددها له أشخاص لا يكادون يعرفون شيئاً عن هذه العلاقة التي تجاوزت كثيراً مجرد علاقة شخصية، لتصير عائلية أخوية متينة عصية على النسيان أو الإقتلاع، والمشكلة الأكبر أنه يلتزم بمثل هذا القرار خالطاً بين الخاص والعام، ربما مثلي بحسن نية وتأنيب للذات والضمير كما فعلت أنا، لكن المهم أنه يُقاطعني بقرار يمنع الصداقة بين اثنين، أو تُجرّم التواصل الإجتماعي بينهما، ومهزلة القدر عندما يريد البعض أن يُشعرك أنك لست أكثر من مرض معدٍ لا يجب الإقتراب منك، جربٌ قد يصيبهم بالأذى!!!

كان يتلفت حواليه، كأنه غير مصدق لما تم معه، أو كأنه خرج لتوه من كابوس ولم يهتدِ للطريق بعد، وتابع:

ـ كدت أقول له أنني لست جَرَبَاً مُعدياً، فقل لهم ألا يأخذوا الإحتياطات ويلبسوا الكمّامات، ألّا يهربوا من طريقي خوفاً على سلامتهم، فسلامتهم صنتها هناك حيث فرّط الكثيرون، وهم خير من يعلم أنني لم أهن أمام عدو، لم أفرط بكرامة، لم أبع وطناً ولم أساوم عليه، لم أستبدله بمال أو وظيفة مدير في سلطة أو منزل “بالكاش أو التقسيط”،  ولا بمسؤولية في منظمة غير حكومية، كدت أقول له أنني لم أبع قلمي ولم أُأَجره، وكنت وفياً للدم والحبر وحروف الورق، منسجماً مع حروف فمي وكلماتها، التي ظلّت بصمتي واضحة مشرّفة أينما حللت، وأنني لم أكن خصياً يوماً، فما هنتُ لأي سبب من الأسباب، كدت أقول له أن تكون متواضعاً دمثاً خلوقاً ميزة وليست تهمة، وأن تحمل في قلبك “ظلم ذوي القربى” وتعض على شفتيك وفاءً كل هذه السنين، دون أن ينز حرفاً من بين أسنانك متفجراً منتفضاً غضباً ليس بالأمر الهيّن، أن يجعلك البعض غريباً في وطنك ومغترباً بين من كنت حائط صد لحمايتهم، مجبرينك على الإنسحاب المبكر، فتصير بين إحتمالات، أن تهون  أو تخون أو تهاجر أو تنزوي أو ترتضي بمخلاة علف في عنقك أو تقبض على الجمر والسر والفكر وتقطع لسانك إن فكر عقلك بالحديث شكوى أو ثرثرة، كدت أقول له أنني لست من ثرثاري المقاهي ولا من النوّاحين، بل من الذين “أدركوا الفكرة” فحملوها في الرأس والقلب وبين الضلوع حماية، وأن بكاء الرجال في الليل الطويل غضباً وحزناً وتظلماً، مع النفس، قوة وليس ضعفاً، كدت أقول له ما قاله الشاعر الكبير مظفر النواب “أنني قاومت الإستعمار فشردني وطني”، كدت أقول له أنني ، لا سمح الله، لو ارتضيت أن أكون في حزب السلطة لجاء أصحاب القرار هؤلاء مسرعين مباركين مهنئين. فأنا، وبإختصار، لم أفعل غير واجبي، لذلك كنت أستحق السلام والكلام والتضامن والعزاء، وربما أكثر من ذلك بقليل. لكنني لم أقل له شيئاً من ذلك لأنه يعرف كل ذلك وأكثر، فيصير الكلام ليس ذو معنى.

منذ أن عرف أحد أصدقائنا المشتركين، ” محمود” الأقرب له بكثير مني، عن مرض طفلي الوحيد، وهو “يزّن” على رأسي أن أضع الأمر بين يدي “أديب”، وهو “حتماً سيُسخّر كل قدراته وعلاقاته ليساعد في الأمر، فالرجل معروف بنقاوته وحساسيته، ولن يوفر جهداً في ذلك”، وليقنعني أكثر قال: “إنه يساعد الغرباء فما بالك بالعائلة أو الأصدقاء”، ولما رآني أتململ وأراوغ لأخفي في صدري إلتزامه بقرار المقاطعة، قال:

ـ قل لي بربك لماذا لا تريد الإتصال به؟

ـ خجلت أن أقول له أنني كدت أطلب منه ذلك، قبل أن أراه يقطع العلاقة بحد السكين ملتزما بقرار جائر، غير معير لأي شيء آخر قيمة رغم مشاعره النبيلة، “فجهنّم مفروشة بالنوايا الحسنة”، حتى قبل أن يسأل “خالته زريفة” أو حتى يستأنس برأيها، والتي، ربما، كانت ستقول له: “إن استعصت عليك الأمور فاستفت قلبك”، ولربما أضافت: “إجعله بوصلتك في المسائل الصعبة، فالقلب الطاهر النبيل النظيف، كقلبك، دليل التائه”، وإن كانت أكثر مباشرة وغير خائفة من غضبه، فأبناء بطنها لا يغضبون منها، وهو مثلهم، فكما “الخال والد فالخالة أم” أيضاً، ستقول له ما ظلت تقوله له ولي وللكثيرين الحاجة آمنة رحمها الله، “حافظ على العيش والملح، فما بالك بالصداقة والأخوة”.

قلت له غارساً إصبعي في جرحه حتى آخره بدلاً من مواساته:

ـ كل الجماعات تحاول إسترجاع حتى أنصاف مناضليها، أصدقائها، وحتى المتعاطفين معها أقل تعاطف، وجماعتكم يبعدون عنهم أكثر مناضليهم صلابة، أكثرهم طهراً وعنفواناً، أعرف أن رأيي لطالما أزعجك، ربما كوني من فريق آخر، لكن صدقني، أن بعض الذين تهيلون عليهم الكثير من إنتقاداتكم، ربما الصحيحة، من الفرق الأخرى، حتى عندما كانوا يعدمون عميلاً ما تسلل لصفوفهم، كانوا يظلوا يساعدون أسرته، لكن أنتم، تتركون مناضليكم دون إهتمام، والكثير من أسراكم دون مساعدة، وجرحاكم لا يجدون قوت يومهم، حتى أسر شهدائكم يعانون من المرض والجوع.

قال بالكثير من الأسى:

ـ لقد كنا أوفياء، ما الذي أصابنا؟

قلت:

ـ كنتم، كما كان غيركم مناضلون، لكنكم لم تعودوا كذلك، على صعيد بعض قيادتكم على الأقل، فغالبيتها لم تعد كذلك، “فعندما ينخر السوس الصف القيادي قل على الحركة أو الحزب السلام”، وكثير من قيادتكم استطابت الراحة وأعماها المركز وتجميع المال، أصابها الفساد وحب السلطة وأمراض العلنية المزمنة، قل بربك كم واحد منهم يؤيد الرجوع للعمل السري؟ كم واحد منهم يرغب بالتخلص من شِباك “أوسلو” عملياً وليس أقوالاً فارغة؟ الأمر الذي أوجد “للسوس” أرضاً خصبة ومرتعاً لدى هؤلاء، لقد ذهب الزمن، ياصديقي، الذي كان الكثيرون يتمنون فيه أن يكونوا مثلكم، أن يبعث لهم الله برجال مثل رجالكم، ذهب.

نظرت في عينيه وسألت:

ـ ألم يكن الأجدر بهم أن يُقاطعوا بضاعة الإحتلال بدلاً ممن قاوم المحتل؟ البضاعة التي لا تغيب يوماً عن استهلاك بيوتهم؟

سكت قليلاً وأكملت:

ـ تقول لي أنك كِدْتَ تقول له، لماذا لم تقل له ما أردت قوله؟

قال:

ـ لأنه لم يكن أمامي، وأشعر ان الكلمات التي تمتطي الأوراق لا روح فيها أحياناً، وأحياناً تخذلك ولا تصل كما أردتها أن تصل وأن تكون، تصير كلمات فارغة طنانة لا قيمة لها، مجرد تراكم لحروف سوداء تغرس أنيابها في ورقة بيضاء مستسلمة ممددة تحتها ميتة دون حياة، وربما لا تؤخذ على محمل الجد وتُقرأ كما يجب، كما أن الكلمات تكتسي دما عندما تكون خارجة من القلب إلى القلب، وهذه عادة ما تكون وجهاً لوجه.

قلت:

ـ لو كان كلامك صحيحاً لما وصل الينا علم ولا نظريات، ولما بكينا عندما نقرأ رواية تهز أعماق مشاعرنا، لكن ما الذي تريد عمله؟

ـ لا شيء، سأظل أكتب وأكتب، حتى لو لم تقرأني سوى حفنة من الناس، فحتماً سيأتي وقت يقولون فيه: “لقد كان في ذلك الزمان رجال يتدفقون عزاً رغم كل صنوف الفساد، وكان أولادهم يموتون مرضاً وعائلاتهم جوعاً رغم إغراءات المال التي ظلت تناديهم، كانوا ينابيع رجوله، مواقفهم صلبة لا يساومون عليها، فلم يبيعوا موقفاً أو يؤجروا قلماً، وظلت أحرف أقلامهم رصاصات في وجه كل عدو، فترى نفسك وقد حييت من جديد، تأخذ حقك وأنت في القبر، أما هم فسيظلوا أمواتاً منسيين، و في أحسن الأحوال، ستدفنهم مواقفهم البائسة.

لم يكمل فنجان قهوته، عاد “يطرقع” في أصابع يديه، نظر في عقارب ساعته، قام مستأذناً مستعجلاً دون أن يكمل ما أراد قوله، قام منتفضاً وقال:

ـ حان الوقت لأسقي طفلي كأساً من “الشيح”،طفلي الوحيد الذي يعاني من مرض عضال، فمثلنا لا يملك ثمن الدواء.

محمد النجار

 

 

أم الشهيد

  • عندما نظرت إلى صورة الشهيدة سهام نمر، يتقدمها إبنها الشهيد مصطفى نمر، رأيت الشهيد ينظر في أعماق عيني ويقول، ” إن لنا عليك حقاً”، فخجلت وأخفضت عينيّ، وكتبت هذه السطور:

*إلى روح الشهيدة سهام راتب نمر، والدة الشهيد مصطفى نمر، وكل الأمهات اللواتي قدمن أبناءهن شهداء وجرحى ومعتقلين، وكن شهيدات حتى لو بقين يمشين على الأرض.

 

قامت من النوم مبتسمة كحالها في الأشهر الأخيرة، ورغم تيقنها الأكيد من نومها العميق، إلّا أنها تكاد تجزم أنها كانت مستيقظة متيقظة رغم ظلام الليل الذي دثر البيت بعتمته، وأن ما رأته كله حقيقة، حقيقة ساطعة كشمس النهار التي، بشعرها الذهبي، غطت بيوت المخيم كله، ولا شأن له نهائياً بالأحلام.

هذه الإبتسامة المعلقة الثابتة فوق شفتيها، مثل فانوس مستقر في وسط السماء، كان مثار حيرة في البيت كله، خاصة أنها صارت بهذا الوضوح بعد استشهاد ابنها، وفسّر الجميع الأمر بسبب اشتياقها له وافتقادها لرؤيته يشرب من كاسة شايه مستعجلا الوصول لعمله،  قبل أن يسرقه الزمن ويُغيبه النهار بعيداً دون أن يحس أو يشعر، ويجد نفسه عائداً خالي اليدين من رغيف المساء، فكان إتفاق ضمني من الجميع بتجاهل الأمر حتى يمر الزمن، والزمن قادر على فعل المعجزات.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة كما يبدو، فاستشهاده لا يجعلها قليلة التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الحلم والواقع، فهي تراه في كل ليلة ولا يغيب عن سهول عقلها في أي نهار، فارس يعتلي صهوة نهاره ويجوب في طرقات رأسها، يروح ويجيء ويحرث الأرض، يدق عنق التربة “ليخرج من الأرض ماءاً”، ثم يأتي إليها مُتحزماً بتاج العز، متلفعاً بالشهادة، تراه وتحتضنه وتقبل جبينه بعد أن يحتضن كفيها ويقبل يديها كل مساء، تجلسه في حضنها وتناغيه كما لو كان صغيراً، تدلعه وتلاعبه وتقبله وتتركه ليلعب على باب بيتها في المخيم، كما كان طفلاً، فباب بيتها كان يمكن أن يكون آمناً مثل كل المخيم، لولا أولئك الغرباء الذين بسببهم بُني المخيم، وهي تعلم علم اليقين أن المخيم ليس أَبَدِيّ، وأنها ستمسك ابنها، ذات يوم، من يده ويعودا سوياً تتبعهما الأُسرة كلها، والمخيم كله، إلى قريتها وبقية القرى المُنْتَظِرة منذ سبعة عقود، دون يأس أو وهن أو فقدان أمل، يعودوا ليطردوا اللصوص الذين قتّلوهم وهجّروهم وطردوهم واستولوا على بيوتهم بقوة الحديد، ولولا الحديد الذي بأيديهم ما كانوا ليجرؤوا على الإقتراب من باب بيتها، وأن الحديد لو كان متوفراً في أيدي رجال القرية ونسائها لما تجرأ أحد على القرية وسكانها، وأن الناس لو تُركت لتدافع عن نفسها دون تدخل أصحاب القصور من “ذوي القربى”، لكان شهيدها يجوب طرقات القرية وفأس الأرض على كتفه، لذلك كانت تعلم علم اليقين أنه بالحديد فقط سترجع بيتها المسروق، فكانت، لذلك ربما، ترضع وليدها أسرار القرية، جغرافيتها، تاريخها الذي طالما حاولوا،فاشلين، محيه أو إلغاءه، طرقها، مُغُر الجبال في أراضيها، حكايات نسائها ورجالها، أولادها وبناتها، جرحاها وأسراها وشهدائها على طول طريق السبعين عاماً، منذ خروجهم الدامي ملاحقين بالرصاص والموت وخيانات الملوك، قصص زيتونها ودواليها وسلاسلها وبيوتها، وشجرتي التين المعمرتين “العسالي والخروبي”، الواقفتان على مدخل القرية مثل حارسين ساهرين، تشرح له مع كل قطرة حليب تنزلها في فمه قصص البيدر والغلة والأرض والجيران والأعراس والزفة وليلة الحنة والعتابا والميجنا، وكيف حاول اللصوص تجريدهم من الذكريات بتفجير الرؤوس وفصل الرقاب، لكنهم رفضوا التنازل عن ذكرياتهم، فحملوها وهرّبوها وغامروا بحيواتهم لينقذوها، واحتفظوا بها في تلافيف الدماغ وطيات مُخَيِّخاتهم، لذلك هي ليست مستغربة أن ابنها ذهب لعمله شاباً يانعاَ يافعاَ، وعاد شهيداً كما يليق بالرجال، وليست مستغربة كيف نشأ وأترابه يحبون اللعب في الحديد لدرجة الهوس به، وأنهم منذ صغرهم يصنعون البنادق والصواريخ من الأسلاك، فكان من الطبيعي أن يعودوا شهداء واحداً تلو الآخر كما عاد إبنها، ملفوفاً بالعلم محمولاً فوق أعناق الرجال، لكنها لم تكن تتخيل أن يترك خلفه كل هذا الفراغ المرعب، كل هذا الصمت المدوي، وأن يكف من بعده البيت عن الإبتسام، وكأن الإبتسامات حُرّمت من الله دفعة واحدة ودون سابق إنذار، وأكثر ما أزعجها أنها لن تمسك بيده، أو تتعكز على ذراعه،  ويعودا سوياً الى قريتهم التي ظلت تتباعد، تتعقد طرقاتها، ويملؤها الشوك والرصاص وخذلان أنظمة العهر مع مرور الزمن.

رغم ذلك كانت متأكدة أنهم سيسترجعونها، وأن المسافات الطويلة هي سبباً لشحذ الهمم ومتابعة الخطوات، وتأكدت من حتمية الأمر عندما رأت ابنها شهيداً، فهي خير من تعرف أن الشهداء هم جسر العودة الأكيد في هذه الطرق والمسالك الخطرة، وأدركت أن حليب ثديها لم يذهب هدراً، لم يكن ماء آسناً قذراً، كما لم يكن مُزيفا ملوناً كاذباً مشتبهاً، وكانت تظل ساهرة مع وحدتها وظلام الليل، تتمنى من الليل أن يستر سرها، أن يغلق عنها قلوب العائلة النائمة كما عيونهم، لتظل تحاكيه وتقبل حجارة يديه التي ظل يُطل بها عليها صغيراً ومراهقاً وشاباً، عرفاناً منه بجميلها المبكر في وصوله للشهادة، عندما تربى على حملها ورشق دوريات الجيش بها، لتكون “بروفته” للوصول الى ما وصل إليه، ولتظل، هي أمه، تمسح جرحه النازف الذي ظل ينز دماً ومسكاً.

وسرعان ما صار، مع تقالب الأيام، يُضاعف زياراته لها، يأتي لها من طرقات الجنة، من بين ورد الياسمين والقرنفل وشقائق النعمان، من حدائق النرجس والإقحوان والسوسن والطيَّون، من تحت الأشجار المثمرة المليئة بالخيرات،يلوك شيئاً من فاكهتها في فمه، مُتقافزاً على شُجيراتها، متعطراً بعطر الزعتر البري والميرامية التي خص الله بها جنته برائحتيهما الفواحة، تحط بلابلها على كتفيه مغردة، يمر من تحت نبع معلق في نهايات السماء، ينساب برويَّة وارتخاء، وخرير مائه وحفيف أجنحة العصافير تملأ الجنة غناء، تراه قادماً متعلقاً على حبال خيوط الفجر، محمولاً فوق حبات الندى، متقافزاً على درجات الغيوم ناصعة البياض، لابساً بدلة عرسه التي لم يلبسها قبل استشهاده، والتي طرزت له عليها بيدها مفتاح بيتهم الحديدي الكبير، الذي يمكن أن يكون سلاحاً في غياب السلاح، ألم يحاكموا إبن مخيمهم علاء عندما وجدوا المفتاح المشابه لمفتاحهم مُخبأً في جيبه، متهمينه بإمتلاك سلاح قاتل؟ يأتيها وبعض بقع الدم تُزين بدلة عرسه، تنز من مكان الرصاصات التي إخترقت جسده اليانع وقلبه الشاب، تعطيه جرأة فوق الجرأة وشرفاً فوق الشرف، وترفعه من شاب يانع من على مقعد سيارته، التي أفرغوا فيه وفيها حقدهم، إلي أعلى صنوف البشر مرتبة، له مهابة الشهداء وشهامة الأبطال، وتفوح منه رائحة المسك وتغطي البيت كله، تلك الرائحة العطرة التي ظلت متخوفة أن تكشف سرها، وترميه بعيداً وراء الدار.

كانت تحتضنه مباشرة، تُخبئه عن عيون دورية عسكرية تبحث عن الشهداء لتعيد قتلهم، أو دورية “الأقربين” التي تبحث عنهم لتحاكمهم، وترمي بالمناضلين في غياهب سجونها، لتسلمهم بعد ذلك لإعادة قتلهم، فالأمر المخيف المرعب الممنوع لدى كلاهما، أن تُمارس الشهادة، أو أن تجرؤ على التفكير بها، مستبدلاً اليأس والقهر والظلم منهما بالشهادة، بإعادة رسم الطريق، بإعادة توضيح المسالك، بمحاولة رفع الرصاص والأشواك لئلا تختفي المعالم وتضل الطريق.

تُجلسه في “حجرها”، وتخبره عن أخبار المخيم، عن أسراه وجرحاه، عن شهدائه الذي ظل يؤكد لها أنه رآهم عند الأنبياء والصالحين، الذين يحسدونهم على شهادتهم هذه، التي جعلتهم أقرب منزلة منهم إلى الله، فالله يفضل الشهداء على كل شيء وأي شيء، بما في ذلك الأنبياء، لذلك كم ود الأنبياء أن يكونوا شهداء، وتكاد تسمعه يقول بأعلى صوته، “إن أنبياء هذا العصر ياأمي هم الشهداء، رجال كانوا أو نساء، كلهم عند الله سواء”.

كانت تسمعه وتحدثه وتتعطر بمسك جرحه النازف، لكنها لم تُرد يوماً أن تزعجه بقصص “الخانعين” في المخيم، ولا بسياسة التسحيج والتبعية ولعق الأحذية التي تتعمق أكثر عند بعض المخيم، ، ولا ببعض السفلة والأنذال الذين لا يسكنون المخيم، ومازالوا يبنون القصور من ثمن دمه ودماء رفاقه، والتي ليس لها مفاتيحاً كمفتاح بيتها هناك، ولا كمفتاح علاء الذي مازال يحتضنه السجن، لكن الأمر الذي طمأنها، أنهما كلاهما، لم يُخْطئا إتجاه البوصلة أبداً، التي كانت تُشير للقرية بهذا الوضوح.

شيء واحد فقط كانت تود فعله، واحد فقط لا غير، أن تعود معه إلى قريتها، وينتزعاها من لصوص الأاراضي والبيوت، من الغرباء الذين حللوا القتل والذبح وبقر بطون الحوامل، الذين ظلوا يتفننون بقتل النساء والأطفال والشيوخ والرضع، لكنهم رغم كل سلاحهم لم يثبتوا في الميدان أمام الرجال، وكانت تظن أنها ستفعل الأمر معه، سيعودان سوية، رغم أنها لم تفاتحه بالأمر أبداً، كما أنه لم يفاتحها أيضاً، لكن وكما للعيون كلمات واضحة، فللقلوب لغة لا تُخطئها الأم، فكانا يتحدثان بقلوبهما، يتناقشان ويتأملان ويخططان، لكنه استعجل الشهادة، خاف أن تمر في موعدها ولا تجده أو تُخطئه، ويصير عليه الإنتظار من جديد، والإنتظار أي كان نوعه، نذل جبان خانع، وهو لن يرتهن له، لن يضع مصير شهادته بين يديه، سيلحق الدورية العسكرية بنفسه، سيرجمها كما يرجم المؤمنون إبليس، سيحاول كسر زجاجها، ليصير حجره قادراً على الإيذاء، وداهم الدورية العسكرية، وصار يصب غضبه عليها من خلال حجارة يديه، وكانت الشِباك الحديدية تحمي زجاجها، فلم يكن الجنود في خطر، لكنهم خافوا مخالفة الأوامر، خافوا أن ينسوا مهنة القتل حتى لو لدقائق، وسرعان ما فكر بعمل أكثر نجاعة، عندما رآهم يتهيأون للقتل، وهو لا يملك غير حجارة يديه وسيارة بمحرك نائم، فركب سيارته وإحدى يديه قابضة على بعض الحجارة، ليكون للعمل معنى أعمق وتأثير أشد، ليجابه موتهم الذي يحيط به إلى مجابهة بالقليل الذي يملك، وكان الوقت يتسارع بين رصاصهم المنسكب ومحرك سيارته النائم، لكنهم كانوا أسرع منه، ورصاصاتهم أسرع من عجلات سيارته، أمطروه رصاصات في القلب والرقبة والرأس، فضعفت نبضات قلبه ووهنت قوة ذراعيه، لكن قبضته لم تتراخَ عن حجارتها، ووقع بصدره المدمي على مقود سيارته معاتباً، لماذا لم يكونا أسرع منهم؟ فالمسافة بينهما لم تكن سوى يقظة المحرك النائم كبداية لتحرك العجلات، مجرد ثوانٍ خانته فيها تقديرات الزمن في معركة غير متكافئة، فهو لم يكن يوماً عسكرياً، ولوكان لأنتصر على جبن رصاصهم وحماقات سلاحهم، وبعدها، ربما، كان سيكون للشهادة طعم أجمل، وربما أجمل بكثير.

كانت، ما تزال، أصابعه القوية تعتصر حجارته، تشد عليها بعنف، وفضلت روحه أن تصطحبها معها للسماء، أن تُحوِّط بها ورود الحنون، فذهب للسماء دون أن يذهب معها لقريته، الأمر الذي أثقل قلبها وأدماه، لكنها عندما فكرت ملياً في الأمر، وصلت إلى استنتاجات أخرى، استنتاجات إنسان مؤمن، مدرك لرحمة الله ولطفه، يلبي دعوة الشهيد ورغبته، وقدرت أنها لو استشهدت هي أيضاً، فربما جعلها الله تستند على يدي ابنها وتذهب معه للقرية لتراها، لكن الأمر سرعان ما أربكها وكاد يشل حركتها، عندما تساءلت أما نفسها قائلة: “وهل أنا أريد الذهاب زائرة؟!!!”، وأكدت أنها تريد استعادة القرية وليس زيارتها، صلَّت بضع ركعات لله، طلبت غفرانه، ذكّرته بصبرها على شهادة ابنها، وهل هناك صبر كصبر أم تستقبل إبنها الشهيد بالزغاريد، ودموع عينيها تتسابق على خديها المكلومين؟ أن تجعل من جنازته عرساً؟ أن تزفه إلى التراب كأنما لليلة عرسه؟ أن تُوزع الحلوى بدل القهوة السادة؟ رفعت عينيها لتنظرا في عيني السماء الخجلة أمام عينيها، وطلبت من الله أن يحقق لها رغبتها…

قامت من بين يدي الله، كنست بيتها ونظفته، كي يستقبل البيت “المهنئين” بصورة تليق بهم، كي لا يقول البعض أنها استشهدت وتركت بيتها وسخاً، أربكها الأمر، فنظفته كما لم تنظفه من قبل أبداً، طبخت لزوجها وبقية أطفالها، أطعمتهم وأشبعتهم مما قسم الله، قبّلتهم للمرة الأخيرة، وعضت عل دمعاتها بجفني عينيها كي لا تخدعانها وتبللان المكان، ووسط دهشتهم التي لم يعرفوا لها سبباً، أسالت نبعاً من الإبتسامات كي لا تترك في رؤوسهم مُتسعاً لشك، توجهت لمطبخها لتختار أكبر سكيناً، وضعته في “عِبِّها” لتخفيه عن العيون، أوصت الجميع بالحفاظ على مفتاح بيت قريتها المسروقة، وغادرت مدعية الذهاب لزيارة بيت أختها، واستقلت أول سيارة توصلها إلى باب العامود في القدس.

كان الجنود يحيطون بمدخل الباب كالجراد، يُغطيهم السلاح مُدَججين به، وكانت الأم تتقدم منهم بخطوات واثقة، تتحسس سِكّينها المختفي في طيات ثوبها، وتحاول أن تعرف بحكمة عينيها أيهم أكثر شأناً، ليكون صيدها ذا أهمية وشأن، وكانت تحس بأن كل خطوة من خطواتها تتسارع للقاء إبنها الشهيد، ودون أن يرف لها جفن أو تهتز لها قناة، رفعت سكينها وألقت بكامل قوتها على صدره، وانطلقت رصاصات من جنود يختبئون خلف البنادق، وكأنهم في ثكنة عسكرية، جنود يطلقون على النساء من الخلف لأنهم يخشون العيون ويرتعبون من نظرات البشر، فاخترقت الرصاصات جسدها الهزيل، وتهاوى الجسد ووقع على الأرض ليعانقها العناق الأخير، وتمدد الجسد فوق أرض القدس، ليقربها خطوة أخرى من إنتزاع قريتها من براثنهم، وعيناها مفتحتان ناظرتان نحو قريتها القريبة، وصعدت الروح الى السماء والجسد مازال يعانق الأرض، لتجد ابنها الشهيد واقفاً مع الشهداء والأنبياء مستقبلين على باب الجنة، وكانت تستمع إلى أصوات المنشدين الآتية من خلف السماء، يام الشهيد وزغردي …كل الشباب ولادكي…

محمد النجار

 

 

 

إن قتل القنصل… إعدموه

التقينا على فنجان من القهوة في بلاد بعيدة في الغربة، وصرنا نقلّب صفحات الماضي، كعادتنا في تلك البلدان، ربما من باب التملص أو رفع العتب عن الذات، لاننا لا نستطيع جلدها بشكل دائم، وربما من باب الشعور أن وراءنا ماض نعتز به، وربما نوعاً من الهروب للأمام بأننا كان لنا ماضٍ، وكنا ذات يوم مناضلين وكان لنا شأن…

لا أريد أن أقحم نفسي في الموضوع بهذا الشكل المباشر الفج، فأنا لم أكن مثل صديقي “كامل”، فهو من كان السجن بيته وليس أنا، وهو الذي كان يأكل “العصي” كما يقولون، ومثلي لم يستطع حتى عدّها، لكن لكل منا دوره في هذه الحياة، وأن تفعل شيئاً مهما كان بسيطاً، أفضل بكثير من أن تقيد يديك وتحملق في سقف الغرفة، وكما ترون أنا الذي أخط شيئاً من كلماته لتعرفونها، فهو يعتبر قصصه هذه لا تعني الشيء الكثير، ولكنني أراها تعني ولو القليل، ولهذا سأخطها كما هي، دون زيادات تجميلية، بل من باب أمانة النقل وليس فلسفته، قال لي:

ـ ربما لا تعرف والدي…لك أن تتخيل رجلاً عاش ما يقارب القرن، لكنه لم يُسئ يوماً لأحدٍ في حياته!!!لم يُغضب أحداً!!! كان يقسو علينا إن أسأنا بقدر حنو أب وعطف أم وحنانها ويزيد، ولا يستطيع فهم إنسان لديه قدرة على أن يُغضب أحداً ويكون قادراً على أن يغلق، في ظلمات الليل، عينيه وينام…

وتابع وهو ينظر في اللاشيء، وكأنه يرى والده أمامه:

ـ إنه إنسان بسيط، بسيط طيب إلى درجة السذاجة في عيون البعض، لكنه رجل حكيم في رأيي أنا، ربما لأنه والدي! وربما لأنني أُصنّف نفسي بسيطاً مثله، فأرى في كلماته حِكَمَاً، لذلك بالنسبة لي فالأمر لا يخضع لنقاش أو جدال…

كان الوقت عصراً عندما التقينا، والمقاهي في هذه البلدان مكتظة بالناس، والغيوم في هذا الوقت من السنة تكون منفلتة سارحة في فضاءات السماء مثل قطيع خراف، وصل لتوه من الصحراء الى حقول خضراء معشوشبة دون نهايات، فانطلق في كل الأماكن متبعثراً في أماكن متجمعاً في أخرى، متحركاً في كل الأماكن والإتجاهات على غير هدى، هدّه التعب لكن الجوع اكثر، فصار يقطع بأسنانه العشب مسرعاً متخوفاً من انتهائه قبل أن يسد جوعه، وكن النساء في المقهى يحتسين كاسات النبيذ أو الجعة وقد نزعن حِمْل الملابس الثقيل من فوق أذرعهن العارية أو نصف العارية، معلنات، دون ضجيج، عن درجات حرارة النهار المرتفعة في ذلك النهار الربيعي، الذي يسير، دون توقف، إلى نهايته الأكيدة، يقابلهن حبيباً أو صديقاً أو زوجاً أو رفيق، تعلو قليلاً أو تهبط ثرثراتهم، و”كامل” وأنا، نشرب القهوة على طاولة منزوية بعيدة في أقصى المقهى، وكلماته تنز من حلقه، ليقذف بها لسانه مباشرة في أذنيّ، وعقلي يسجلها بقلم مخبئ في ثناياه دون أن يراه “كامل” الذي ظل يتابع، عندما رآني أنظر إليه بإهتمام دون أن أقاطعه:

ـ كان المرحوم أبي يظل يحدثني عن “بيت عفّا”، قريتنا المنسية في جنوب فلسطين، مؤكد أنك لم تسمع بها، “تُحيط بها العديد من القرى والمدن الفلسطينية، مثل عراق السويدان وعبدس وبربرة وحمامة وجولس والسوافير والجلدية وبيت داراس، وكرتيا  وعشرات من القرى الأخرى، وكانت على مرمى العصا من المجدل والفالوجة، وأصوات الرصاص تُسمع من بعيد، والثوار يتجمعون ليدفعوا العصابات بعيداً عن أراضيهم، تلك العصابات التي أتت من بعيد بمساعدة الإنجليز، فلجأ الثوار لبيع “ذهبات” نسائهم ليشتروا حفنة رصاص أو بندقية عتيقة ما زال بها بقية حياة، فالناس كانوا مُوَحَدين متضامنين، قلوبهم على قلوب بعض”، قال والدي وأكمل:

ـ هل هناك ما يمكن أن يوحدهم أكثر من الدفاع عن قراهم؟!!!

قال “كامل” وتابع، و”أكمل والدي الحديث متأثراً بما سيقول، وكأن تأثير ما سيقوله يداهمه بشكل مسبق”:

ـ حاولوا اقتحام القرية أكثر من مرة، لكن الرجال يابني لا يُفرطون في شرفهم، وهل هناك شرف يطغى على شرف القرية؟ حتى عندما احتلوها من أيدي الثوار، حررها الرجال من جديد، ولما عادوا لإحتلالها بصعوبة كبيرة في المرة الثانية، حررها الرجال مرة أخرى، دفعوا مقابل ذلك دماً وأسرى ذبحتهم عصاباتهم كالخراف، كان يمكن تلخيص الرجل آنذاك بالجرأة، فمن لم يكن مقداماً مواجهاً شجاعاً لم يكن يُعد من بين صفوف الرجال، ولما عادوا واستقدموا المئات من رجال عصاباتهم وسلاحهم الجديد واحتلوها، حررها رجال مصر هذه المرة، رغم السلاح الفاسد الذي ورّدوه لهم، عندما كان المرحوم عبد الناصر يقود غرفة عملياته ويقاتل في المجدل، مُدركاً أن إحتلال فلسطين مقدمة لإحتلال مصر والعالم العربي كله، وأن فلسطين لم تكن أبداً الهدف الوحيد، بل هي العنوان الذي يُغطي الأهداف الحقيقية المُخبأة في أدراج السياسة، لذلك ظل يقاتل ويرفض الأوامر القادمة من خلف جدران القصور…

وكان والدي يتابع:

ـ كان لنا هناك بضعة دونمات يابني، وصيتكم بها، لا تتركونها في أيدي هؤلاء، عملنا أنا وجدك وشقينا لشرائها، سجلنا بعضها باسم أعمامك الذين كانوا صغاراً حينئذٍ، وسجلنا القليل منها باسمي واسم جدك، لم يكن أحد يفرق بين نفسه وبين أخيه أو عائلته…

ثم استدار بوجهه نحوي وكأن كلمات الملكية هذه لم تكن إلا مقدمة ضرورية لما سيقول:

ـ احفظ ما سأقوله لك…

وصار يُسمي لي المناطق التي اشترى منها، جعلني أسجل أسماء الناس الذي اشترى منهم، رغم أن بعضهم صاروا في “دنيا الحق”، وتابع:

ـ عليكم الرجوع إلى هناك، مهما كانت الصعوبة عليكم الرجوع، أعرف أن الطريق صعب وطويل، لكن “لا يحرث الأرض غير عجولها”، مدوا أياديكم واقتلعوهم من أرضنا، من لا أرض له لن يجد مكاناً لتقف عليه قدميه في هذا العالم، تظل وقفته خاوية ضعيفة معرضة لتطيح بها حفنة من رياح، تشبثوا بها واحضنوا أشجار المكان لئلاّ تنتزعكم العواصف، من لديه جذوراً سابحة في طيات التراب ليس من السهل إنتزاعه، وإن انتزعوه برعمت جذوره من جديد، أعرف انهم لم يُبقوا غير بضع شجرات من الجميز والصبار، وأنهم اقتلعوا البيوت وحدائق المنازل والعمران كله ، وأهالوا التراب في بئر الماء الوحيد بعد أن سمموا مياهه كي لا نعود، معتقدين أنهم مسحوا آثارنا، لكن تلك الشجيرات نحن من زرعها وسقاها وكبرها، هي شهادة لنا، فبصمات أيدينا مازالت على كل غصن ووريقة منها، لذلك يابني وصيتكم بيت عفّا…أتفهم بيت عفّا…لأننا سنبنيها من جديد…

فقلت له:

ـ كنت أعتقد أنك ستقول لي “وصيتك فلسطين يا أبي وليس بيت عفّا…”

لم أره يلبسه الغضب إلى هذه الدرجة، قال:

ـ وهل تكتمل فلسطين دون بيت عفّا ياولد؟ ألم أُعَلِّمك أن من يفرط في بيت عفّا يفرط بفلسطين؟ لا تصدق أحداً مهما علا شأنه يُفرط ببيته مدعياً أنه يريد تحرير فلسطين بدلاً عنه، مَنْ لا خير منه لبيته، لبلدته، لقريته، لمدينته، لا خير يرجى منه لفلسطين، ومن لا خير منه لأهله لا خير منه للآخرين، أفهمت الآن؟!!!…

قبلت رأسه كعلامة إعتذار، وقبل إعتذاري بقلبه الواسع بصعوبة، علّه أراد أن لا أنسى هذا الدرس أبداً، وكما ترى فأنا لم أنسه.

وسكت كامل عن الحديث، فقلت كي لا أظل صامتاً مثل أخرس:

ـ وما الذي ذكرك به الآن؟

قال بتأكيد شديد:

ـ لعلني لم أنسه أبداً ، خاصة عندما أكون محتاجاً لحِكَمه، وأكاد أجزم أنه يحضر هو بذاته ليعلمني درسا جديدا في كل مرة…لكني تذكرت الآن أمراً مما استوجب حضوره من جديد.

ـ ما هو؟

سألت وقد راودني الفضول، فقال:

ـ كنت في التحقيق بعدما أنهيت سنوات دراستي، وكان التحقيق جاداً، كونهم، كما استخلصت، كان لديهم أسباباً تستدعي سجني في عرف دولتهم…

وضحك “كامل” ورسم بشاهديه علامة قوسين، وكأنه أراد أن يخبرني بجملة معترضة وسط كلامه وقال:

ـ لعلني يجب أن أخبرك أن أبي يعرف كلمة “القنصل”، وربما لا يعرف معناها بالضبط، كما لا يعرف عمل أو وظيفة القنصل، لكنه يجزم بينه وبين نفسه أنها الوظيفة الأرفع في التاريخ، ومَنْ يصل إليها يكون قد أتم كل شيء، ويكون قد وصل إلى درجة الكمال، يعني “ختم العلم” كما نقول نحن المثقفون هازئين…

واتسعت ابتسامته التي ظلت متشبثة بشفتيه رافضة النزول، وأكمل:

ـ ولما استعصيت عليهم في التحقيق، واقتنعوا أن الصخرة التي بين يديهم لن تنز ماء أبداً، قرروا أن يلجأوا لوسائل ضغط علي، فأحضروا والدي…

كان “كامل” يسحب أنفاساً من سيجارته وينظر إلى السماء، وكأن والده ينظر الينا من علوّه هناك مناشداً ابنه التمسك بالحقيقة فقط، وتابع:

ـ أجلسه ضابط التحقيق مقابله، وبدأ بإقناعه أن يحدثني ويقنعني بالتجاوب معهم، وقال له:

ـ إن لنا عند ولدك دين ياحاج، وجاء الوقت لسداده، فإنْ أبى التسديد حاكمناه وسجناه، وإن سدد تجده في بيتك قبل أن تصل له، هذا إذا لم تأخذه بيدك وأنت مغادر من هنا…

اقترب أبي بكرسيه من الضابط وسأل، بكل ما فيه من غضب، بإستهزاء:

ـ وهل تأكدتم أن ابني هو مَنْ قتل “القنصل”؟

كان استغراب الضابط كبيراً، فسأل أبي يريد أن يعرف أكثر، واعتقد أن هناك صيد ثمين، مادام الحديث يجري عن عملية قتل، فقال:

ـ القنصل؟! عن أي قنصل تتحدث ياحاج؟

فقال أبي مؤكداً:

ـ القنصل… وكم قنصل في هذه البلد؟

ـ آه أفهم، قل أنت لأتذكر، لا بأس مادمت تريد تسديد دينه…قل…

قال ليجعل والدي يتحدث عن عملية “القتل”، ورن على جرس من تحت مكتبه حتى إذا جاء أحد الجنود طلب كأسين من الشاي، وتابع:

ـ قل كل ما تعرف، وليقدرني الله على عمل الخير لإخراج إبنك من محنته…

استغرب الحاج هذه اللغة الناعمة، لكنه لم يفكر بالأمر كثيراً، فهو رجل بسيط كما تعلم، لكن ذهنه ظل مشدودا لما يريد قوله فقط، فقال:

ـ أنا الذي يعرف؟ أنتم تدّعون المعرفة، وأنا أقول لكم إن كان ابني قد قتل “القنصل” إعدموه…

دخل الجندي بكأسي شاي ووضعهما على الطاولة، وقدم الضابط الشاي بنفسه لأبي، فأرجعها والدي من أمامه للخلف كمن يرجع بكفه فاحشة تتقرب منه، وكان قد تذكر كلماتي، برفض التعاطي مع رجال المخابرات لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بأي شيء آخر، فظل متذكراً المبدأ لكنه نسي الأسباب والمبررات، وقال:

ـ عندي السكر… لا أشرب الشاي… ولا غيره

قال جملته الأخيرة كي لا يعود الضابط ليعزمه على مشروب آخر، وقال الضابط الحانق مفتعلاً الهدوء:

ـ كما أخبرتك ياحاج، عليك مساعدتنا بإسترجاع دَينَنا، أرأيت مديوناً طليقاً دون أن يسدد دينه؟

فقال والدي جازماً:

ـ طبعاً رأيت ، ألم تسرقوا “بيت عفّا” ولم ترجعوها بعد؟

ـ “بيت” مَنْ؟… عفّا؟ وما هذه ال”بيت عفّا”؟!!!

فقال والدي معتقداً أن الضابط  يستهزئ به:

ـ أنسيت بيت عفّا الآن؟ “بطلت” تعرفها؟ قريتي في الثمانية واربعين، أم نسيت هذه أيضاً؟!!!

وضرب صدره بكفه ليأكد أنها قريته، ووقف على قدميه وقال:

ـ هيا أرونيه كي أخبره أن لا ينسى “بيت عفّا” التي سرقتموها ولم ترجعوها بعد، وما دام الأمر يتعلق بالديون لنرى مَنْ لديه عند الآخر ديناً!!! وكيف سيتم تسديده…

فاستدعى الضابط الجندي غاضباً، صارخاً أن يوصلوه مباشرة للباب الخارجي، قائلاً:

” ألم تنسوا بعد كل هذه السنين؟”أخرجوا هذا المجنون برّه…بــــــرّه

وأخرجوه، وهو يسأل:

ـ ننسى؟ أننسى ماذا؟ربما تقصد بيت عفّا؟ ماذا تقول أيها المجنون؟

وأخرجوه ختى باب السجن الخارجي، وبقيت جاهلاً بالأمر ولا أعلم عنه شيئاً حتى خروجي من التحقيق…

وظل ينظر كامل في حقول السماء، الى الغيمات المبعثرة على أطرافه كقطيع خراف متفلّت متبعثر، وقلت له لمّا رأيت ضجيج سكوته يسيطر في المكان:

ـ أتذكر خالد؟

ودون أن أنتظر إجابة، أكملت، حيث أن خالد صديق لكل أفراد العائلة:

ـ صديق عائلتكم، أخبرني ذات يوم أنه كلما رأى والدك كان يرى فيه رجل تلك اللوحة، لوحة سليمان منصور، جمل المحامل، الذي يحمل فيها القدس على ظهره…

لم ينظر نحوي لئلا أرى دمعتي عينيه المترقرقتين، فيخجل او يشعر بالحرج، لكنه قال:

ـ لعله كذلك… رحمه الله…

وظل يتابع بعينيه خراف السماء

محمد النجار

هذيان…

وُلِدَت، “عائشة” في ليلة ظلماء حالكة، كان الليل خينئذٍ قد إندلق واستحكم في الأشياء، فاقتحمت الظلمة البيوت والطرقات وأشجار الحقول، وكانت الشمس بالكاد تسترق لحظات من طول النهار، وما تكاد تظهر حتى يهاجمها الليل والظلمة وقطاع الطريق، في تلك اللحظات ولدت عائشة، ولدت من رحم الأرض، تحت دالية مجاورة لتينة عتيقة وشجرة زيتون لم يتعدى عمرها الألف عام بعد، ولدت هزيلة ضعيفة بالكاد تستطيع الحركة، مكبلة بقيود من سلاسل صحراوية قاسية، من وهم ووهن وذل وخنوع، خطواتها قصيرة قليلة ضعيفة مترنحة مرتجفة، تمشي بحكم إرادتها وإصرارها فقط، رغم السياط التي تنهال على جسدها الضعيف الرضيع من غير إتجاه، باسم الدين تارة والعادات والتقاليد تارة أخرى، أو بإسم القانون الذكوري الأبوي الحاكم المتحكم بحركات الفتيات في كامل العشيرة والعشائر المجاورة.

هناك ولدت وأسموها “عائشة”، أملا أن تعيش هذه المرة، بعد كل حالات الموت التي أصابت مثيلاتها، أسموها “عائشة” أملا في أن تعيش، صلّوا من أجلها، إمتنعوا عن الأكل وأطعموها، دون أن يعلموا شيئا عن معجزاتها.

كانت “عائشة” من أيامها الأولى تزحف على أربع، على يديها وقدميها، وبالكاد يستطيعان حمل جسدها الضعيف، لكنها، وهذه معجزتها الأولى، وُلدت قادرة على الحركة، قادرة على الزحف على أربع، ورغم ظلام الليل، فقد كانت قادرة على الرؤية، إذا لم يكن ببصرها فببصيرتها، وجاءت للحياة باسمة ضاحكة دون بكاء ولو بدمعة واحدة على عادة المواليد، وهذه معجزتها الثانية، طفلة بريئة نقية جميلة متفائلة، وعلى غير توقع، ورغم كونها فتاة أنثى وليست ولداً ذكراً، جلبت البسمة والفرح لأهلها وعائلتها وعشيرتها جميعاً، وخلقت كمعظم الأطفال حياة وحركة وفرحة داخل البيت رغم هشاشة عظامها، وفقر دمها الذي ولدت به، وعضلاتها الصغيرة الضعيفة.

الغريب أن هذه الطفلة “عائشة” كانت توحي بأشياء غير مألوفة في محيط المنزل والعشيرة كلها، وكانت، ربما الطفلة الوحيدة، التي تولد من رحمٍ رغم خصوبته، إلاّ أنه مُحاط بالخوف والجوع والأمراض، بفقر الدم والسرطان ، وبأرحام هزيلة مريضة عاجزة، يتحكم فيها شيوخ القبيلة وصديقهم الأبيض ذو العينين الزرقاوين، داخل قبائل متخصصة بولادة الأولاد دون البنات، وإذا ما ولدت فتاة كانوا يتحون المآتم ويسكبون الدموع، رغم أن أولادهم كانوا  بقلوب قطط مرتعدة خائفة من الأيام ومن المجهول، أولاد لا يحبون المغامرة، يصلون لله ولزعماء العشيرة وشيوخها مرّات، وربما من باب الأدب والأخلاق والدين، لا يخرجون على رأي الزعيم وطاعته حتى لو كان ظالماً، ويخافون، مثل شيوخ العشائر وزعمائها، من غضب قادم من أرحام النساء، التي ربما تُفاجأهم وتلد ما يردعهم ويضع حداً لذكوريتهم المفرطة، دون علمهم أو في غفلة منهم، الأمر الذي يخافون منه ويهابونه، أو من ولادة قد تُثمر زرعاً غير زرعهم، ونسلاً يعاند نسلهم، فيصير المولود مارداً يُنغص عليهم حياتهم ولا يراعي حرمة لصديقهم الأبيض ذو العينان الأزرقين.

إنتفض زعماء العشائر كلها لمّا علموا بالولادة “الشاذة” من خلف عيون زعماء العشار، إستصرخوا واسعانوا واستدعوا زعيم عشائر الصحراء الذي كان في قيلولة عميقة، صدى شخيره يتردد فوق الرمال، عيناه تائهتان في حلم يتنقل فيه بين نسائه الأثنتان وعشرين، رغم نشاز بعضهن، وكان يود، لو ساعده الحظ قليلاً لجعلهن أربعين أو خمسين، لكن رفض إحداهن وتحريضها ومقاومتها له ولصديقه الأبيض، حرمه من هذا الأمل ومن تحقيق هذا الهدف، كان يحلم حائراً عند أيهن يبيت ليلته القادمة، ويده تناغي خصيتيه اللتين زينهما بالجواهر واللآلئ، وعطّرهما بأجود أنواع الطيب والمسك، وبخّرهما بالبخور الهندي وقرأ عليهما خوفاً من العين والحسد ، تداعبهما يده وتسقيهما من زيت الصحراء، خصيتاه اللتان طالما قرح بهما وكانتا عنوان فخره، فظل يزداد حرصاً عليهما ويود تقبيلهما لتقديم الشكر والعرفان لهما، هو خير من يعرف أن “الذكر” لا يساوي شياً دون خصيتيه، وأنهما عنوان عزته وكرامته وفخره وكبريائه، لذلك عليه حفظ كرامتهما وحفظ الجميل لهما، ولذلك أيضاً نادراً ما كان يتركهما وحيدتين في ظلام الليل، بل يتفقدهما ويداعبهما ويُزينهما ويسقيهما زيت الصحراء بدل الماء إعترافا بجميلهما. كان يحلم مفكراً بفتيات “الفرنجة” اللواتي أحضرهن صديقه الأبيض ذو العينين الأزرقين، هدية خالصة صافية لا يريد لها رد جزاء، أيقظوه من أحلامه الجميلة تلك، رفعوا يده عن خصيتيه ليعاود عقله العمل، أخبروه بالمصيبة التي يمكن أن تحل بالعشائر  كلها نتجة لميلاد طفلة في بلاد التين والزيتون، على أطراف الصحراء البعيدة، باسمة ضاحكة تحب الحياة ، هناك حيث الكلأ والماء والأشجار ونسائم الهواء.

أفهموه بأن البسمة والضحك يجلب الفرح والبهجة، وهذا مسموح للزعماء ممنوع على العامة، كي لا يغويهم الشيطان ويبعدهم عن شرع الله، فيصبحوا متعلقين بالحياة الدنيا الزائلة، فيطالبوا بنصيب من مال زعماء العشائر أو يتشبهوا بهم، وهذا مخالف لدين الله وشرعه وتعاليم شيوخ الإسلام وعلى رأسهم ابن تيمية وتلامذته وصولاً لمحمد ابن عبد الوهاب رضي الله عنهم جميعاً، والله سبحانه يقول “والآخرة خير وأبقى”، فأقلقوا منامه وقطعوا أحلامه، فارجفت خصيتاه وارتعدتا، فشاط  واستشاط وعنّف، وفتى لهم وأمر برقابة تلك الطفلة، حتّى الإمساك بها ووأدها حية تحت تراب الأرض وطينها، فتصير عبرة لمن إعتبر ولمن أرادت أن تولد باسمة ضاحكة ومحبة للحياة، ولمّا ذكّروه بقول الله “وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت” أمر “طال عمره” بحذف هذه الآية من القرآن قبل أن يعود ليناغي خصيتيه مدللاً معتذرا.

ورغم كون الطفلة وحيدة، أو، على الأقل، لم يُبلّغ عن ولادات أخرى مُشابهة، في عشيرة تتفجر أرحام نسائها بالأجنة، حيث كان رجال عشائر الصحراء وصديقهم الأبيض يقتلونهن في الأرحام، أو يُفجرون الأرحام كيلا يفاجأهم حمل أو ولادة لفتاة، تخوفاً من عار يجلبنه للعشيرة، إذا ما كبرن وبان حسنهن ونضجت براعمهن وأثمرت جمالا وحبا وحياة، فتتبدل وتتغير ملامح العشائر الجادة المُهابة بين الناس وبقية عشائر الكون، فيحل الفرح محل الغم والتفاؤل مكان التشاؤم والنور بدل الظلمة والحياة محل الموت، وينتشر هذا المرض المعدي، في المجتمع وبين الناس، كما النار في الهشيم، لذلك يرفض كل زعيم ” أن ينام في القبور كي لا يرى أحلاماً مزعجة”، ويُفضّلوا “إقتلاع الضرس للتخلص من ألامه” .

كان شيوخ العشائر يعتبرون أن الفتيات على وجه التحديد، يُشكلن خطراً على مصالحهم ومصالح المجتمع برمته، فدائماً ما تيقّنوا أنهن يجلبن العار والفتنة، يستقطبن شباب العشيرة و”يُخربن” أخلاقهم، فيُبعدونهم عن ذكر الله فيهجرون بيوته، فشباب العشيرة، كمعظم الشباب وأي شباب، دائماً ما استهوتهم الفتيات الحسان الجميلات، خاصة عندما يكن حاسرات سافرات، فيلحق الشباب جمالهن ويُعجبون به، ثم يقعون فريسة عشقه الذي ينمو ويكبر في الصدور، ولا يستطيع أحد السيطرة عليه بعد ذلك، وهذا وحده كفيل بتعميم ثقافة الحب والعشق والحياة بين الناس، بدلاُ من ثقافة الكره وعذاب القبر وبول البعير، الأمر الذي كان يُخيف شيوخ القبيلة وزعماء العشيرة ويُرعبهم فوجب  الإحتياط منه، الأمر الذي فرض سياسة وأد المولودات في الأرحام، حتى قبل أن يولدن، ليقضون على “المرض” قبل وصوله، ويظلوا في مأمن منه.

أحد لم يعرف كيف إستطاع هذا الرحم إخفاْء الجنين طوال فترة الحمل، كيف تغلّب على حواجز تفتيشهم، أو غلى مداهمة الأرحام المفاجئة، رغم أن عيونهم جمعاء لم تكن لتفارق مراقبة أبوابه، وما أن ينتهي أحد الزعماء من الرقابة أو المداهمة أو التفتيش، حتى يكون هناك من يحل محله، فهذا الرحم، على وجه الدقة، رحم مشاغب متمرد، وكانت لديه محاولات متتالية للولادة، بعضه قتلوه في مهده وبعضه قبل ولادته أو بعدها بقليل أو كثير، لكنه طالما كان ينجح في الولادة، وطالما كانوا هم أيضاً ينجحون بوأد المولود بعد ولادته مباشرة، وأحد أسباب تخوف شيوخ العشائر وزعمائها، وكذلك صديقهم الأبيض ذو العينين الزرقاوين، أن المولودة لا تُشبههم، وترفض أن تُشبههم بشيء، ولا تريد التشبه بهم، وهي عنيدة مخالفة وعصية غلى الكسر، الأمر الذي يجبرهم على المضي بسياسة الوأد في الرحم أو بعد خروجه، دون أن يتركوا أمامها متسعاً من وقت لتعيش أو تكبر، وها هي ترفض أن يكون لها أبٌ ممن يُقررونه لها، وتُفضل أن تظل يتيمة على ذلك، كما أنهم لا يمكنهم التساهل فيما يخص أمر الله، فهم لا يقبلون تجاوزاً أو حتى مجرد حوار في مثل هذا الأمر، ف”المرأة ناقصة عقل ودين” و”لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة”، وهذه الطفلة ستكبر وربما نفضت عن نفسها غبار الماضي وألم السنين وقررت فجأة أن تمسك بيدها قرارها؟!!! فما العمل حينئذٍ؟!!! ويؤكد زعماء العشيرة وشيوخها، أنهم لن يمانعوا لو أن لديهم ضمان واحد، واحد فقط مهما كان صغيراً، لو أنها تقبل أن تكون نسخة عنهم، أو أن تتشبه بهم، أو بالرجل الذي يرتضونه لها أباً، بل وسيساعدونها أيضا بالمال والزيت والرمل والعلف وبول البعير وأبوال الشيوخ، وربما وجدوا لها عريسا من زعماء العشيرة، لأنهم  مؤمنون دوماً بأن “مَنْ شابه أباه ما ظلم”، لكن كل المؤشرات تشير إلى أنها ترفض كل خيوط التشابه مع زعماء العشائر وشيوخها جميعاً، وراحت تتشبه بالرعاع من فقراء العشيرة  و”أرذال” القبيلة وصعاليكها، وهنا مربط الفرس.

لقد ولدت هذه الطفلة وفي جعبتها الكثير من المفاجآت، لا يدري أحد كيف ومن أين أتت بهن، لكن الجميع كان يرى هذه المفاجآت بعد أن تتم، ففجأة ودون سابق إنذار، لا يعرف حتى الآن أحد، رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن على ولادتها، كيف إستطاعت في تلك اللحظة وذاك العمر الغض، أن تقطع القيد الحديدي وتمزقه إرباً إرباً وترميه بعيداً خلف الصحراء، حيث يسكن أصحابه في قصور من رمل هناك، وصارت حرة طليقة لم يعد باليسر والسهولة على أحد ترويضها.

وكيف إستطاعت أن تشب وتكبر وتنضج بين عشية وضحاها، وتصير صبية جميله فارعة الطول والحسن ولا ينقصها المنطق، وكيف كسرت قيد العشائر كلها، كيف قوي واشتد عودها وقست عظام ساعدها بهذه السرعة، رغم تكالب زعماء العشيرة وصراخهم على تجاوزها لقوانين القبيلة ودوسها عليها بأرجلها الجميلة و”بصطارها” الثقيل ولباسها المرقط، وعلى هيبة الزعماء والأمراء ورؤساء العشائر كلها، وبخروجها على عادات القبيلة وتقاليدها التي جنحت للسلم منذ قرون، فتنادوا جميعاً لحماية شرف العشائر التي تهتكه وتنتهكه هذه البنت الشاذة العاقّة كل يوم في كل الميادين، خاصة بعد أن صار شبان القبيلة يمتدحون جمالها وحسنها، ويتغزلون بقوامها وصدرها وحسن وجهها، واصبحوا مفتونين بها وعلى خطواتها أراد معظمهم السير، بل إنها صارت فتنة للرجال من خارج القبيلة، وصارت القبائل البعيدة تحسدها على هذا الجمال الفتّان، إلا القليل منها.

وقيل أن الزعيم الأكبر للعشائر كلها، أكد أن هذه البنت العاق صارت تنافس جمال بنات العشائر كلها، اللواتي كن مكسوّات بالذهب والجواهر من رؤوسهن حتى أخمص أقدامهن، وأنها بأثوابها البسيطة المرقطة وأنوثتها الطاغية جلبت الأنظار إليها ومنعته عن مثيلاتها المذهبات والمتجوهرات، واستقطبت كل نساء العشائر ورجالها من العامة، وفرضت دون كلمة واحدة منها قانون الجمال الطبيعي الذي لا يفوقه جمال، حتى لو ترصع بالذهب والفضة، الأمر الذي يفرض عليه كزعيم أن يقف في صف حماة الذهب والفضة الذي تحاول تلك الفتاة إخفاءه والتقليل من شأنه، وأن يمنع تأثيرات جمالها ونسائم عطرها الفوّاح عن عشيرته وكل العشائر الأخرى المتفرقة، حتى لو كان بقتلها واغتيالها رغم تحريم الله ذلك إلا بالحق، وهو بالحق سيفعل ذلك ويقتلها، لكنه قبل ذلك قرر إغلاق أبواب البيوت ونوافذها، وقيّد رجالها وغمّى عيونهم كيلا يروا ما يغضب الله مما تفعله هذه الفتاة، وغطى آذانهم كي لا تسمع، وأمر بحشر النساء كالإبل في المزارع والبيوت، لأنهن أكثر خطرا وأشد فتنة، فهن يُثرثرن ويحِضن ويلدن،  واستحضر شيوخه المحرمات جميعها وألقوهن على رؤوس النساء، وحرموهن من الجنة إن هن خالفن بعولهن أو رددن له طلبا، وإن حرضنه على ولي الأمر، ثم أمروا بلفلفتهن وبرقعتهن وضربهن ومنعهن من الخروج من بيوتهن إلّا للقبر، لكن الزعيم الأكبر كرجل حسّاس مؤمن بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، يؤمن أيضا بالشورى والديمقراطية كما يقولون، وعملاً بالآية الكريمة “وشاورهم في الأمر” و”وجادلهم بالتي هي أحسن”، فهو سيشاور نُظرائه، حتى لو كان لا يعترف بنظير له، ويجادلهم ويحاورهم ويستمع لأقوالهم جميعاً وأحاديثهم، لكنه سيفعل ما برأسه، رغم قناعبه، وبحمد الله، أنه لن يجد من يخالفه رأيه أو يخرج عن طوعه.

رأى زعيم العشائر وشيخها الهوان والمذلة والإنكسار في عيون سادة القوم جميعهم، كانوا متخوفين جميعاً من العار الذي يمكن أن تجلبه لهم هذه المصيبة التي حلت فوق رؤوس الجميع، والعصيان الذي بدأ يدخله ويمارسه شباب العشائر، وحالة العشق المتفجر التي أصابتهم وما زالت يوماً بعد آخر،  بإغوائها لهم وفتنتها، بجمال مشيتها الأخاذ أثناء إستعراضها للباسها المرقط و”بصطار”رجليها الكبير، الذي لا يعرف أحد سر أو مكمن الجمال فيهما!!!      إقترح بعض الزعماء أن يتركوها مؤقتاً، ويفرضوا حصاراً على الأرحام في بطون النسوة في بقية العشائر الأخرى، خاصة وأن هناك رياح تحمل في طياتها حملاً يلوح بالأفق، حمل ربما يأتي بمعجزات أكثر من المعجزات التي جاءت بها هذه الطفلة، ومن يدري، فربما تكون أكثر جمالاً وأكثر فتنة أيضاً!!! لذلك لا بد من مهاجمة البطون والأرحام، والإستمرار بحجب آذان النسوة عن السمع وعيونهن عن البصر،  كي لا “يَغرن” منها ويفعلن ما فعلت، فالمأثور الشعبي يقول “لولا الغيرة ما حبلت النسوان”، وأن يجعلوا الزعماء يقاطعوا فروج نسائهم ويتوجهوا لغزو فروج الفرنجة، من بلاد بعيدة وقريبة، كي يضمنوا عدم الحمل وإنجاب ما يشبه تلك الفتاة التي نمت رغم أنوفهم جميعاً، لكن البعض قد رد بوضوح مُشككاً بهذه الأقوال، رغم أنهم على أي حال يؤيدون غزو فروج نساء الفرنجة، عملاً بقول رسول الله صلى الله عيه وسلم “غربوا النكاح”، ويقنِّنون الإقتراب من فروج نسائهم منذ زمن، لأنهن صرن مثل أخواتهم، ولا أحد يعرف لماذا،  لكن السر الذي كشفته “عرافة” الشيخ الكبير، زعيم قبيلة رمال الصحراء، هو أنهم مهما أنجبوا لن يستطيعوا أن يورِّثوا مثل هذا الإنجاب، ولا حتى ما يشبهه، فهم لن يُنجبوا سوى أشباههم، الذين لا يجلبون لعشائرهم وقبائلهم سوى العزة والإباء والشموخ والإكبار، فهم ليسوا مثل بقية “خلق الله” وخاصة الرعاع منهم، وذكرتهم بقول الشاعر الحطيئة الفقير لكنه رغم ذلك نطق بكلمة الحق حيث قال:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم                  ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا.

كانت الطفلة قد صارت فتاة تزداد جمالاً مع تقادم الزمن، وكلما مر الزمن فوق جسدها، كلما صقله وجمّله وزاده حسناً، وطالما كانت تلك الفتاة تسير، كانت تزداد محاولات القبيلة التخلص منها لينتهي عارها، لكن امر محاولات قتلها لم يعد سراً أمام شباب القبيلة، الذين صاروا يُحذّرونها، يلتفون حولها، ويسمعونها غزلهم الرقيق بها، وإعجابهم بجمالها الساحر، متمنين عليها أن تبعث بنسائم عطرها ليصل، شبابهم في عشائرهم البعيدة، رحيقة، ليخترق الحصار المفروض على الحدود والفضاء ونسائم الهواء ورمال الصحاري.

وصار الكثير منهم  يزورها ويلبس لباسها، خاصة بعد أن صارت نداً ولو ضعيفا لبنت الرجل الأبيض، صديق الشيخ زعيم قبائل الصحراء والرمال وأتباعه، ذو العينين الزرقاوين، يتحدثون كما تتحدث، ويفتتنون بما يسمعون منها من كلمات وأحاديث، وتحولوا لعاشقين لكل ما تفعل، فالعشق إذا ما دخل قلباً حوّله إلى قمر مشع مضيء، يفرد أنواره عل كل الأشياء، مَن دخل العشق قلبه حسن في عينيه ما ترياه، وفي أذنيه ما تسمعاه وفي أيديه ما تفعله، من يعشق يظل يمارس عشقه بطريقته، ورغم عذابه فهو يرفض أن يتوب.

صار الجميع من علية القوم يرون فيها خطراً أكبر مما ظنوا، وأدركوا أن وجودهم مرهون بوأدها وقبرها دون أن يعلم أحد أو يحس ، فحتى قتلها بطريقة فجة ستجعلهم في مرمى سهام شباب القبيلة، فصارت محاولاتهم متكررة متعددة، لكن الفتاة كانت تشع ذكاء بجانب حسنها، فما فائدة الحسن إذا لم يكتمل بالذكاء؟!!! ما أهميته إن كان مرتعاً للعيون الحاقدة الحاسدة والأيدي الطويلة المتحرشة، إذا لم يكن عقلاً يتدبر التعامل مع الأحداث جميعاً، وأيدٍ قوية تحرسه، يكون مثل وردة ضعيفة هزيلة “تتناتشها” الأيدي العبثية المارة وتعبث بها الأصابع القذرة، وفي حالتها، حيث حالات الولادة صعبة ونادرة و مراقبة وملاحقة، فالحفاظ على الذات أمر في سلم الأولويات،  من أهم الأسس لتنمو وتكبر وتُثمر وتنضج وتعطي الحياة، وكانت دائماً ما تقارن نفسها بشجرة زيتون على بعد نظرة عين واحده، تظل تعطي وتعطي دون كلل أو ملل، دون شكوى أو عتاب، لكنها تدرك أن عطاءها مرتبط بصحة الجذور داخل حبيبات الأرض وبين طيات الصخور، بأوراقها اللواتي إن تنازلت عنهن ولو مرة واحدة سيجف الساق وتنتحر الجذور، فهذه الفتاة كانت تحمل حكمتها، تمتصها من الطبيعة والأرض والهواء وأشجار الزيتون، من حركتها في الليل والنهار، من “بصطارها” وملابسها المرقطة وسواعدها، من مشقات الطريق.

رأى قادة العشائر أنهم عاجزون عن وأدها واغتيال الحياة فيها، وربما هي عصية على ذلك، فقرروا تغيير الأساليب ويظل الهدف نفسه واحد، “واحد لا شريك له”، القتل مع سبق الإصرار والترصد، لكن كيف وبيد مَنْ؟

كان زعيم القبيلة، الشيخ الكبير لا يخفي عن صديقه الأبيض الذكي ذو العينين الزرقاوين سراً، وشريك له في بعض تجارة، ويأتمنه على نفسه وماله كما لم يأتمن أحداً من أبناء عشيرته، حتى أنه يُخزّن هناك في خزائنه أموال العشيرة كلها، مطمئناً عليها أكثر من إطمئنانه لو كانت بين يديه، وكانا يجلسان يتسامران بين فينة وأخرى، يشكو فيها زعيم العشيرة الكبير ما ينغص عليه لصديقه الأبيض، يستمع منه لنصائحه ويقوم بتنفيذها وكأنها أوامر من الله رب العباد سبحانه، لأنه خير من يعلم أنه لا يريد به وبعشيرته إلّا خيراً، فرد عليه صديقه قائلاً:

ـ ألم أحذرك من هذا الخطر منذ سنوات؟ ليس أمامك سوى أن تضع يدك بيد إبنتنا، فهي جميلة وأكثر حسناً وأكثر ذكاء، وذات حسب ونسب، وفي الوقت نفسه أغرقها بالمال!!!

لكنه هذه المرة لم يكن مقتنعا بهذه النصيحة، بل أجابه زعيم العشيرة:

ـ نحن لم نقصر بحق إبنتك الحسناء، أما بما يخص تلك الفتاة، فيقولون إن “المال قوة”، هل تريدني أن أزيدها قوة فوق قوتها، كي تقوى عظامها وتقسى ويشتد ساعدها أكثر، ولا يعود بالإمكان ترويضها؟”

فقال له بثقة كما يفعل دائماً:

ـ الملابس المرقطة والمال لا يجتمعان، فإما أن تلبس “البصطار” والبدلات المرقطة، وإما أن تمتلك المال، فالمال يشبه الماء، إن أردت أن تقتل أحداً أغرقه بالمال، فما أن يصل إلى فوق رأسه حتى يغرق ويموت…

وهز رأسه إلى الأعلى والأسفل، كعلامة للتأكيد على أقواله، فقال الزعيم:

ـ لكنها ستنقذ نفسها لمّا تراها في خطر…

كان صديق الزعيم، الرجل الأبيض ذو العينين الزرقاوين يُعبئ غليونه بنوع من “التتن” الفواح، أخذه من ظرف بلاستيكي أزرق، مكتوب عليه شيء أو مرسوم، فالشيخ زعيم القبيلة لا يجيد القراءة ولا يعرف من الرسوم  غير رسم النوق، ولكن وكون الرسم حرام، فهو لا يقترب من الحرام إلّا إذا كان مضطراً، وكان صديقه يأخذ حبات من التتن بين إصبعيه ويحشو بها فتحة الغليون، ثم يدكّها بقطعة معدنية فبل أن يشعلها بولاعتة ذات الشعلة الطويلة، واستغرب زعيم القبيلة لماذا لا يتركه ليُحضر أحد الخدامين أو العبيد ليحشو له غليونه، وظن أنه لا يريد أن يكشف غليونه على عبيد القصر، وقال صديقه مراجعا نفسه ناقدا:

ـ لا لا لا، المال ليس كالماء، مَنْ يُغرقه المال لا نجاة له…

ونفث دخان غليونه في وجه الشيخ زعيم قبيلة رمال الصحراء، فامتلأ صدر الشيخ بما يشبه البخور، ورغم عدم قناعته إلا أنه لا يرفض طلبا لصديقه الأبيض، وبدأ يُغدق المال على أهل “الفتاة”، ومنذ ذلك اليوم صاروا يسمونها ب”العروس”، وصارت تكتب عن “العروس” الأقلام وتتحدث الأفواه، وانتشر ، عملاً بنصيحة صديق الشيخ، الأمن في البلاد، وصاروا يصطادون من حمد أو شكر الله لسماعه شيئاً من الفتاة أو عنها، أو صفق لجمالها الأخاذ، أو لم يستبدل إسمها بالعروس، وفتحوا باب التبرع بالمال لها، فصار المال نهر جار على أهلها وأصحابها وعشاقها، وبذلك إتضح لأمن العشيرة المؤيدين “للعروس”، فصار يتلقطهم ويودعهم سجون الصحراء “جزاء بما كانوا يفعلون”، وكانت تُهمهم جاهزة ” الخروج عما هو معروف من الدين بالضرورة” وهو “الخروج على الحاكم حتى لو كان ظالماً”، فما بالك والحاكم عادل كالفاروق؟!!! وطبقوا بحق البعض منهم الحد بالقتل ذبحا بحد السيف، أو رمياً من طائرة عمودية في وسط الصحراء، أو داخل فرش من الباطون تحت عمارة من عشر طوابق.

ابتلت ملابس العروس، حيث كان المال يتدفق فوق رأسها مثل الماء، وصار لا بد من تغيير الملابس المرقطة التي صارت تذوب تدريجياً ألوانها، فتشوّه شكلها ولم يعد جمالها أخّاذاً كما كان، فغيروها واستبدلوها بأخرى تليق بالعروس، فألبسوها الفساتين البيضاء، بدلا للبدلات المرقطة، وحذّروها من أن تبان عورتها، وعلموها أنها كلها عورة من رأسها حتى اخمص قدميها، ثم بدأوا بتجميل العروس، مادامت عروساً، بطريقتهم، بالمكياج المستورد عن طريق بلاد صديق الزعيم، فكيف ستكون عروساً دون مكياج، ولم ينفع كل تمنعها كي لا يغيروا ملابسها ويصبغوا وجهها، فأمرها صار بأمر ولي أمرها، وتكثّفت طبقات المكياج الثقيلة غلى وجهها، فلم يعد يتنفس، وامتلأ بالبثور والحبوب، وصار يفقد جماله الطبيعي يوماً بعد يوم، وزال الترقيط وذاب نهائياً عن ملابسها، وتحول “بصطارها” الكبير إلى حذاء جلدي بكعب عال، لا تستطيع به صعود الجبال ولا مجرد السير، وتكاثرت عليها أشياء تشبه الحشرات، بل صارت كالمستنقع الذي يفيض بها، وتكاثرت فوق جسدها الطفيليات، وصار لها الكثير من الآباء بعد أن صار للأبوة مكاسب، وأزاغت قوة المال الأبصار، و تجرأ رجال العشيرة وأصدقاؤهم وصاروا يغتصبون الفتاة، وقدموها هدية لصديق الزعيم لينتقم لنفسه ولإبنته التي أزعجها جمالها، وزادت حالات الإغتصاب تحت أسماء مختلفة، بعضها باسم الدين وأخرى باسم التحضر، وبأسماء لم يسمع بها أحد من قبل.

ظلوا معتقدين أن رحم الفتاة يمكن أن يحمل، فحاولوا إنتزاع الرحم من جسدها ورميه بعيداً، لكنهم فشلوا، فبعض أعضائها كانت متمسكة به، مراهنة ربما على حمل جديد، ورغم أنهم قيدوها ليسهل إغتصابها، فقد كان بعض أعضائها ما يزال يتمرد رافضاً، حاولوا تغيير الرحم، إستبداله برحم يشبههم، أن يحمل بأشباههم، لكن الرحم كان عنيداً غاضباً رغم القيد وحالات الإغتصاب المتكررة، فتمزق وتهاوت جدرانه، ورغم ذلك أدرك الزعيم وعلية القوم كلهم، أنهم مهما كبروا وامتلكوا وتملكوا وتمادوا واحتكموا وتحكموا، ومهما تزاوجوا واغتصبوا وانجبوا وكبروا، فإنهم كان لديهم إحساس وشعور وحتى تيقن أنهم لن يستطيعوا استيلاد ولو طفل صغير واحد بمستوى أي صغير يخرج من رحمها، لذلك قرروا إحراق الرحم في جسدها الحي، كي لا تفكر عائشة مجدداً أن تخلق حياة.

كانت “عائشة” كلما كبرت كلما زادت حسناً وجمالاً، فصارت الآن تزداد ضعفاً وتشويهاً وحتى قبحاً، لكنها لم تفقد كل لمسات الجمال بعد، وظلت تزداد ضعفاً خاصة بعد أن أحرقوا رحمها ، وظل يضمحل جسدها وعضلات بدنها، وكان من إدّعى أبوتها يشارك الآخرين إغتصابها، وصار الزعيم وصديقه الأبيض ذو العينين الأزرقين وابنته، يتضاحكون ويشربون الأنخاب على إقتراب موت “عائشة”، ومن مكان قريب من رأسها، شمال الرأس تماما، كانت قد أطلت مولودة جديدة تمشي، وتلبس “البصطار والملابس المرقطة”، في غفلة من أمرهم جميعاً ورغماً عنهم، وكانت حسناء جميلة ذكية، استجلبت من جديد شباب العشائر جميعاً وإعجابهم، فعاد في رحم “عائشة”، في مكان منزو وفي قلب الرماد قلب ينبض بخفوت من جديد، يعارك من أجل الحياة، كان يغيب عن الوعي طويلاً، لتبدأ دقاته من جديد، كان قلباً غريباً، يأخذ مواصفات أمه، بدأ يرفرف بجناحين كبيرين، وصار يتعلم الطيران في رحم”عائشة” بعيداً عن عيون زعماء القبيلة كلهم وأصدقاؤهم، وهمس صوت من مكان فقير…إنه طائر الفنيق…

صحوت من نومي، وأمسكت بأطراف حلمي كي لا يغادرني كما في كل صباح، حمدت الله على أنه كابوساً وليس حقيقة، لكنني شاهدت سيوف القبيلة مشرعة فوق جثة عائشة الممزقة الممدة أمامي، يصرخون لقتل هذه الفتاة الداعرة، وسمعت صوت قلب ينبض، يكاد يغطي على صهيل السيوف.

محمد النجار

ألا تسكن في بتاح تكفا؟

إلتقينا بعد ما يقل قليلاً عن العشرين عاماً، جيل كامل فصل آخر لقاء لنا، أو “عُمْر” كما قال هو، أتتخيل أن تلتقي وشخصاً تعرفه بعد عشرين عاماً؟ أو مع شخصٍ تحبه، بل ربما تحسده، بعد هذا العمر؟ أعرف أن الأمر ليس بمعجزة، لكن أن تكون في نفس المدينة ولا تراه؟ أعتقد أن لا علاقة للأمر بالصدفة فقط، بل بقرار قد إتخذه أحدنا أو كلانا.

إحتضنني وشدني نحوه، كأنه كان يفتقدني طوال هذه الفترة، ولم تسنح له ظروفه بلقائي، وجاملته بالطبع، ولما أخذت حريتي من بين يديه بعدما أطلق سراحي، رأيت كيف مر العمر بهذه السرعة، رأيت كِبَري في وجهه، من خلال التجاعيد التي حفرها الدهر كطريق غير معبد تناثرت حجارته، من خلال الشيب المتسلل إلى ليالي رأسه، فكوني قد اعتدت على رؤية نفسي ولم ألحظ هذه التغيرات، لا يعني البتة أنها غير موجودة، وربما تفاجأ هو أيضاً لما رآها مرسومة بوضوح، على صفحة وجهي، بعد كل هذه السنين.

إلتقينا آنذاك في زنازين المسكوبية في القدس، أدخلوه على زنزانتنا بعد أيام من وجودنا هناك، كان التحقيق قد إنتهى معنا، وكان هو قادم من جولةالتحقيق الأخيرة له، فهذه الزنزانة والزنزانة المقابلة لمن إنتهى التحقيق معه عادة، قبل أن ينزلونا إلى الغرفة، أو يشحنوننا كل إلى سجن…

تعارفنا حينها، كنا طبيبين وثالثنا مهدس في الزنزانة المقابلة، وأدخلوه عندنا نحن وليس في تلك الزنزانة حيث البرش الفارغ، وكان التحقيق قدانتهى معنا منذ أيام، حيث قدمنا إعترافنا وننتظر لائحة إتهامنا، وكان هو عاملاً يعمل في إحدى المستوطنات، يتحدث قليلاً وبروية، يكاد يُشعرنا أنه يلتقط كلماته عندما علم أننا في هذا المستوى العلمي، وكانت مفاجأته التي حاول إخفاءها عندما عرف أننا معترفين، وتفاجأنا نحن أكثر لما علمنا أننا كلنا مجتمعون، لا نساوي رجولته، أو لو أننا جمعنا رجولتنا مجتمعة لرجحت رجولته عليها، وصرنا نبرر لأنفسنا، في دواخلنا، “أن لكل جواد كبوة”، وأن كبوتنا هذه ليست بتلك الكبوة الكبيرة، لأننا لم نعترف إلا على أنفسنا.

بقي معنا أياماً متتالية، نقلوا زميليّ وبقينا نحن الإثنان معاً، وفي الزنازين تتحدث بكل شيء إلّا الممنوعات، والممنوعات هي الشئون الوطنية، فلا كلام في الخصوصيات الحزبية والتنظيمية، فأنت أولاً وأخيراً تجهل كل شيء عن زميلك في الزنزانة، فربما يكون اي شيء، مناضلاً أو نصف مناضل أو عميلاً، وربما إنساناً عادياً رمته الصدفة أو القليل من شجاعة مؤقتة أو ردة فعل، فلم نتحدث بشئء ذا معنى طوالا أيام…

علمت أنها لم تكن تجربته الأولى في الزنازين، بل إنه من روّادها، وكان كما هو الآن، لم يُسجل إعترافاً ولو مرة واحدة، قال لي، ربما، من باب الحيطة والحذر، ” أنا لست بطلاً، أنا ليس عندي ما أعترف به”، وسكت، ولما أخبرته أنني إعترفت على نفسي من شدة التعذيب، أهال في عينيّ جمرات من عتب غاضب صامت، وكدت أسمع صرخته دون كلام “أنصف خيانة تعني؟ أم أن خيانة الذات أقل تكلفة؟” وسألني:

ـ  كم كان قد مضى عليك في التحقيق؟

قلت:

ـ خمس وأربعون يوماً

قال:

ـ لو عضضت لسانك بضعة أيام أخرى لكنت اليوم في بيتك…

قلت:

ـ لم أتحمل التعذيب أكثر، صار التعذيب أقسى من أيامه الأول…

قال:

ـ إنها كالولادة، كلما زاد الطلق كلما إقتربت نهاية الألم

كدت أضحك في سري على كلماته، وأخبره بأنني”أنا الطبيب وليس أنت”، فأوقفني خجلي، ولما ترك نظراته تسرح في ثنايا رأسي، قال مستدركاً:

ـ هناك أشياء تعرفها من الحياة، وهي ليست بحاجة لتوصيف طبيب.

لطالما كنت أمقت “المتفلسفين” أو “المُفتين” دون علم، لكن هذا الرجل كان يقول الأشياء دون تكلف، تسيل الكلمات من فمه كأنها جدول صغير يتمشى بين أشجار الحقول، متناغماً بخريره مع نسمات الغسق، ليعزفان سوية نغمات ناعمات على ضفاف المساء.

ثم أكمل شعراً كلمات للشاعر مظفر النواب مترنماً:

ـ أنا يقتلني نصف الدفء

ونصف الموقف أكثر

لم أعلق، لكنني بقيت أفكر في كلماته، فأنا ،قبل ذلك، لم أفكر بهذ الطريقة أبداً، وربما لو فكرت كذلك لإنعكست النتيجة وانقلبت رأساً على عقب، وبصراحةأكبر، فإن ما فاجأني أن هذه الكلمات بدت وكأنها تخرج عن مثقف، وصرت أتساءل مع نفسي “أيكون هذا الرجل منهم؟ وأنا الطبيب لست سوى رجلاً متعلماً، يعرف صنعته، مثل نجار أو حداد يعرفان دواخل صنعتيهما!!!”وتأكد صحة ما ذهبت إليه مع توالي الأيام التي عشناها سوياً في تلك الزنزانة،  وفي زنازين مدينة رام الله لاحقاً، قبل أن يسلموني بيدي ورقة بالعبرية تتضمن لائحة إتهامي، وينقلونني من الزنازين إلى غرف السجن.

بقينا ما يزيد قليلاً على إسبوعين كاملين، وفي الزنازين للوقت ثمن، فالوقت مارد يتربص، فتكون في حالة من التوتر الدائم، الخوف من إعتراف جديد، من العودة للشبح والقيد والتحقيق، ومن داخل توترك يقودك حدسك، وعليه، بدل العينين، أن يرشدك، يوجّهك، يوازن لك ما بين العقل وبين القلب، ومن داخل هذا التوتر ذاته تتعمق صداقات لا تكاد تتخيلها، وتبدو مستحيلة في الخارج، وبالعادة صداقات ثابتة تتعمق مع كل لحظة تمر، وتصير ، مع توالي الأيام، مغروسةفي القلوب، تتمدد جذوراً تسير مع الشرايين، وجسوراً متتابعة متواصلة بين البشر، أو هكذا تبدّا لي في تلك الأيام.

صاروا يأخذوننا من الزنزانة لتناول وجبات الطعام في غرفة تابعة لمطبخ السجن، وصرنا نلتقي ببقية السجناء الأمنيين القادمين من غرفة الإنتظار، المتراكمين فيها لتوزيعهم على السجون المختلفة، وصرت أرى إحترام الناس له، معرفتهم به، وعلمت أنه وصل لهذه الزنازين بعد جولة واسعة في زنازين مختلفة في أكثر من مدينة، ولما جاءنا كان قد مر عليه مثلما مر علي من مدة زمنية، وكان يتوقع أن لا ينتهي التحقيق بهذه البساطة، لكنهم وعلى غير توقع، أوقفوا التحقيق معه وبعد أيام على ذلك نقلوه من زنازين سجن نابلس المركزي إلى زنازين المسكوبية.

كان يظل يقول أن جولة التحقيق هذه معه كانت شرسةلكنها سريعة، فهو في معظم جولاته السابقة كانت لا تقل مدة الواحدة منها عن ثلاثة شهور سوى أيام عدة، لكنها المرة الأولى التي إختُزلت ودفعة واحدة إلى النصف، وكان هذا الموضوع يشغل تفكيره أحياناً، لكن بشكل لا يخلو من إستغراب، وكنت أصحو من النوم أحياناً لأجده يكتم ضحكات متفجرة يحاول أن يطفئها جاهداً دون نجاح، قبل أن تنتشر في مساحة الزنزانة المغلقة، فتوقظني شظاياها، وكنت أستيقظ بسبب توتري، كما بسبب غبائي، وأحياناً كنت أفتعل النوم وعيناي تحملقان في سقف الزنزانة المضاءة بضوء أصفر باهت، سيؤدي حتماً للتأثير على البصر في قادم السنوات، وأضرب رأسي بأسئلة تزيد حنقي على نفسي، وتكشف لي غبائي المتأصل: “كيف إستطاعو إقناعي، وأنا الطبيب المتعلم، أن إعترافي سينقذ جلدي؟!!! لو لم أكن ضعيفاً لما صدقتهم، لو لم تكن لدي الرغبة بالإعتراف لما إعترفت”، وكنت أخلُص إلى النتيجة التالية في كل مرة، “أنني كنت أبحث عن مخرج لضعفي، عن مبرر أتكئ عليه، يُشكل لي حاملاً أو حتى “عكازاً” ضعيفاً متهلهلاً يحمل تبريراتي، ولو بصورة مؤقتة بين الناس، أتخطى به عجزي وضعفي وأجد بذلك ما يبرر خيانتي لنفسي، ومرات كنت أتساءل: أليس من السهل على مَنْ يخون نفسه أن يخون الآخرين؟” وأصل إلى النتيجة المؤلمة التي طالما هربت منها، “ربما، لو استمروا بضغطهم وتعذيبهم”، وللحق ومن باب الإنصاف، كان الأمر يربكني ويذهلني، فأحاول كبت تفكيري وأوقفه عن الجريان…وكان هو لا ينتبه ولا يعرف ما يدور برأسي، فلديه، في معظم لياليه على الأغلب، ما يضحكه، وبالتالي ما يبعده عن خلايا رأسي وتلافيفه، ولم أزعجه بدوري بسؤاله عما يُضحكه، يضحكه إلى درجة إنفجار ينابيع الدموع، فتتدفق وتكاد تكشف أسرار قلبه، وصار الأمر من طرفي مساومة مع نفسي، “أتركه أنا مع ضحكاته ليتركني هو مع آلامي وهمومي”.

بقي الأمر كذلك، حتى نقلونا سوياً إلى زنازين مدينة رام الله، وهناك، بقينا في الزنزانة رقم خمسة سوياً، مع ثلاثة من المعتقلين، ولما فرغ مكاناً في السجن نتيجة لحركة التنقلات الدائمة، ودعته قبل نزولي الى السجن، وتفاجأت بعد أيام من أحد “القادمين الجدد”، أن “حسّان” قد خرج إلى بيته…

عشرون عاماً مضت، ولا أدري لماذا كان طيفه يمر من فوق رأسي بين حين وآخر، وأنا في البيت أو أثناء دوامي في عيادتي الخاصة، وأحياناً وأنا أتمشى مع زوجتي في شوارع المدينة الفاجرة.

وها هو ينقض عليّ، يعانقني ويقبلني، كأنه رأى أخاً له، وأنا ،من باب رفع العتب، أضرب بكفي على كتفه، فتلك الأيام ماتت منذ زمن، بالنسبة لي على الأقل، ربما لأنني أريد أن أخفي تلك المرحلة من عمري، أن أقبرها وأهيل فوقها التراب، فما زلت أعتقد أن تلك التجربة لم تشرّفني، وأنها مرآة تريني رغم أنفي، هشاشتي وزيفي، والآن صرت متأكداً أن طيفه ظل يلاحقني ليريني أن أنصاف المواقف لا تليق بالرجال.

أصر على إصطحابي إلى مقهى مجاور، حيث تقابلنا لنشرب الشاي، وسألني عن أحوالي وعملي، إن كنت قد تزوجت وعدد أطفالي، ورأيتني أخبره كما في الأيام الخوالي، ونسيت تحفظي عليه أمام نفسي، وإختبائي خلف ضعفي، وصارت الكلمات تسيل من فمي بتأني، كانت تنز بأحرف متقطعة في أول الأمر، وتحدثنا طويلاً، وطلبنا الشاي مرةأخرى، وسألته بدوري، وعلمت أنه أعتقل أكثر من مرة من سلطة “أوسلو”، ومن ثم أعتقل إدارياً، وأن ذلك تم بتنسيق ما بين السلطتين، وقال أننا الآن في زمن آخر، زمن تحالف “إخوة الأمس مع أعداء كل يوم”، وفي هذا الزمن أنت تُراقَب بأربع عيون وليس بإثنتين فط، وتُسجن في سجنين بتحالف من سجَّانَين، وتُقتل برصاصتين، رصاصة من كان لك أخاً ورصاصة عدوكالدائم، وفي النهاية، الخير في “العربان” وزيتهم، الذين يدفعون بسخاء ليغطوا مصاريف الرصاص والسجون والتدجين والعلف…

كنت أعرف كل يقول، أو بالأصح كنت أراه، لكن كل ما خطر في ذهني في تلك اللحظات، شيء آخر مختلف عن كل ما يقول، بل إنني كنت لا أسمع ما يقول وأنا أحاول صياغة سؤالي بطريقة مناسبة، وألبسه بدلة ورباطة عنق كيلا يكون فجاً ومحرجاً، وكي لا أبدو وكأنني كنت أتجسس عل حركاته في تلك الليالي، قلت:

ـ في تلك المرحلة، كما تعلم، كنت أكاد لا أنام

قال:

ـ كنت أحس بك في الكثير من الأيام

قلت:

ـ كانت ضحكاتك تتفجر ينابيعاً، فتذيب الصمت المتوتر من على جوانب أذني، فأسمعها رغم أنفي…

عاد، رأيت ذلك بأم عيني، عاد إلى تلك المرحلة، وسرعان ما بدأ يضحك من جديد، وقال:

ـ هل أزعجتك ضحكاتي؟ هل أقلقت منامك؟

قلت:

ـ بالعكس، كنت أكبت أنفاسي وأعض على كلماتي، وأبقيت فضولي حبيس أدراج صدري كي لا أسألك لماذا تضحك؟

قال متداركاً:

ـ وتريد أن تعرف الآن سر ذلك؟

وأمام إبتسامته، رأيتني أهز رأسي بالإيجاب، فقال:

ـ في تلك الفترة الزمنية، وقبل إعتقالي بشهور، كنت أعمل مع مقاول عربي في الداخل الفلسطيني، وكان لديه عقداً بترميم بضعة بيوت في مدينة “ملبس” الفلسطينية التي أسموها “بتاح تكفا”، وهناك في شارع فرعي بإسم “يافو” كنت أقوم بتركيب الحوائط الجبسية، وكان صاحب البيت يروح ويجيء بين وقت وآخر، يحضر للمقاول ما يحتاجه من مواد البناء.

شرب شيئاً من كاسة شايه، وابتسامته معلقة كمصباح تحت شاربيه وتابع:

ـ حتى هذه اللحظة فالقصة عادية وطبيعية، وفي الأيام الأولى لوجودي في زنازين المسكوبية، كان أحد أفراد مخابراتهم يتعمد ضربي وإهانتي، كان دوره هو دور “الذئب” معي، فكان لا يترك لحظة إلاّ واستغلها في ضربي، خاصة أمام الآخرين، ليثبت لهم حسن أدائه، كما أن الأمر محمود لديهم مادام المتهم عربي، وكان هذا الرجل هو نفسه صاحب البيت الذي عملت فيه، أتتخيل الصدفة؟! لكنه لم يتذكرني، حتى أنه لم يفكر في ذلك، فهؤلاء من الغرور لدرجة لا يقيمون لنا وزناً، كما أنني في تلك الفترة لم أتعامل معه لا من بعيد ولا قريب، ولما كان يضربني في أحد اليام، وكنت مقيداً أمامه في الكرسي من يدي وقدمي، قفزت فكرة أمام عيني وشكلت سؤالاً صار يتفلت من على لساني، وقررت أن أرمي به في وجهه، وتذكرت والدتي عندما كانت ترمي بقتصتها هذه في وجه أيٍ كان في ظروف مشابهة، عندما كانت تُردد وتقول” قال الله للقرد أريد أن أسخطك، فقال القرد: أأكثر من ذلك يالله، إنني قرد وطيزي حمراء”، وقلت في نفسي “نعم …أكثر من القرد لن يخلق الله”، فحملت كلماتي ورميتها في وجهه وقلت:

سكب ما تبقّى من الشاي في حلقه مباشرة، كأنه يرمي بعيداً بما يُربك إكمال قصته وإتمامها، وتابع قائلاً، قلت للضابط بجدية كاملة:

ـ أتعتقد أنني لا أعرفك؟ أتعتقد أنك بعيد عن أيدينا؟ لقد صار إسمك وعنوانك في الخارج أيها الغبي، وقفت عيناه عن التحرك، وتسمرت يمناه، وبالكاد فتح فمه سائلاً:

ـ ماذا تقول؟ أتحادثني أنا؟

ـ أيوجد أحد غيرك في الغرفة معي؟

قلت مؤكداً وتابعت هامساً:

ـ ألست من بتاح تكفا؟ألا تسكن في شارع “يافو” رقم تسعة؟!!!

عادت يده إلى جنبه، تحول لون وجهه إلى لون الموت، كأنه، دفعة واحدة، فقد كل قطرات الدم منه، أو كأن الدم لم يعد قادراً على الصعود بعد أن إغلقت ابواب الشرايين أمامه، ولسانه الذي كان إلى قبل لحظات يتفنن بلسعي وجَلدي بكل ألوان الشتم، قد شل أو أنتزع من مكانه، وصار ينظر حواليه، وقال بصوت هامس راجف جبان:

ـ أرجوك… لدي زوجةوأطفال، إنني أقوم بعملي فقط…أرجوك

كان يتلفت مذهولاً مرعوباً، يقطر الجبن منه كما يرشح الماء من زجاجة مثقوبة، وقال من جديد:

ـ لن أمسك بعد الآن، وأنت إبق على ما أنت عليه، لا تعترف، وسأعمل على أن ينتهي التحقيق معك بأسرع وقت، ثق بي أرجوك…

ودون أن أنطق بكلمة، أكمل:

ـ إعتبر الموضوع منتهياً…

وصار أثناء شبحي يأتي ليخفف من ضغط القيود على يدي، وكان يُغرق زنزانتي بالسجائر، ولم تمر إلا أيام قليلة ورأيت نفسي بينكم في الزنازين، وكان التحقيق قد انتهى كما رأيت…

وأكمل مستغرباً:

ـ لم أكن أتوقع هشاشة هؤلاء الأوباش، لقد قلت ما قلت من باب الإستفزاز والإرباك، لكن للجبن قوانينه، كما للشجاعة قوانينها، ومهما عظمت القوة في يد الجبان وتضخمت، تكون مثل البالون فقط، فعماد القوة الشجاعة، وعماد الشجاعة الإصرار عل نيل الحق…

وتحدثنا وضحكنا، وعبثاً حاولت أن استضيفه في بيتي، لكن وقع كلماتي كان عليه جميل، وصرت أفكر بكلماته وأجلد نفسي، ” كيف استسلمت أمام مثل هؤلاء الجبناء؟ كيف استطاعوا هزيمتي، ولاحقاً دعوت الله ليساعدني في رد إعتباري لنفسي، وكنت متيقناً أن هذا لن يتم إلا بجولة جديدة من التحقيق.

محمد النجار

القلعة

ساقتني قدماي إلى بيت الشيخ “أبو محمد الأعور”، كي يُفسر لي حلماً يتابعني ويلاحقني منذ زمن، ولست قادراً على التخلص منه، والأعور لقب له كما وصِفة أيضاً، فالله الذي خلق الإنسان وكبره، خلق فيه بعض الصفات الحسنة أو القبيحة، أو كلاهما معاً، لذلك حق القول أن “لله في خلقه شئون”، لكن كيف فقد الشيخ أبا محمد عينه؟ أو كيف فُقئت؟ فهذا شأن آخر، وهناك قصص وأقاويل وحكايات نُسجت في هذا الموضوع، لكن هناك إجماع على حكايتين اثنتين مختلفتين في هذا الأمر، سأوردهما كما سمعتهما دون زيادة أو نقصان، ليس لأن الأمر يهمني، فلا فقؤ عينه يهمني ولا حتى جدع أنفه، لكن من باب الإنصاف وقول كلمة الحق ليس إلّا.

يؤكد البعض أن للشيخ قصص وحكايات وصولات وجولات في تفاسير الأحلام، كما وفي الربط والحل للرجال أثناء الزواج وقبله وبعده، وفي حالات التوفيق بين الأزواج أو طلاقهما، كما وفي كتابة “الحِجابات”، كما له صلة بعالم الجن الذي يوظفه الرجل في حل قضاياه المستعصية، ويؤكد بعض الرواة أن فقْأ عين الشيخ تم على يد أحد زبائنه، الذي قصده في مشكلة ما، وأن الرجل أعطى الشيخ كل ما طلب، لكن مشكلته لم تُحل أبداً، وفي كل مرة تزيد مطالب الشيخ كانت تتعقد مشكلة الرجل، حتى جاء يوم وقرر الرجل  فيه أن يستخدم عقله، وبعد دراسة للأمر وتمحيص وتدقيق، وحسابات لِما خرج من جيبه لجيب الشيخ أبي محمد، الذي لم يكن أعوراً بعد، أدرك الرجل أن أبا محمد قد إستغله أبشع إستغلال، بل رأى أنه كان أبلها أو مضحوك عليه في أحسن التعابير وأكثرها نعومة، وفي الوصف الحقيقي للموقف رأى الرجل في نفسه حماراً، نعم حمار بأذنين واقفتين وذيل طويل، وأنه دفع مالاً مقابل كلمات لا أكثر ولا أقل، وفوق ذلك فهي كلمات فارغة كاذبة، فطالب الرجل بماله، وقال والشرر يخرج من بين أسنانه:

ـ لقد إتفقنا على أن أعطيك مالاً مقابل حل مشكلتي، فأخذت المال وبقيت مشكلتي دون حل، لذا أعطني ما دفعته من مال وأسامحك بتضييع وقتي والضحك على لحيتي طوال هذه الأشهر…

لكن أبو محمد الذي مازال غير أعور حتى هذ اللحظات، رفض بشدة، ويؤكد الرواة أنه “مثل المقبرة” لا يرد شيئاً، فرفض رد المال، وعجز بكل مالديه من “جن” أن يحل المشكلة، وفي نفس الوقت استفز الرجل أكثر وقال له:

ـ إذا كان رب العباد خلقك حماراً، ورد لك بعض عقلك الآن، أتريد أن يكون رد عقلك على حسابي أنا؟!!! خسئت…

والرجل الذي كان ينفث ناراً من شدة غضبه، دون أن يكون بحاجة لهذه الكلمات وهذا التعليق، ثار الدم في عروقة، ارتفع نبض قلبه وعلى ضغط دمه، اشرأب عنقه،ولم تعد شفتاه قادرة على النطق، ولمّا أراد الكلام رأى نفسه يقف على أبواب النهيق، وكاد يتأكد أن بينه وبين التحول لحمار مسافة كلمة واحدة يخرجها من فمه، وأن كل الكلمات ستتحول إلى نهيق لا ينقطع، فازداد غضبه ثورة، ورأى نفسه قافزاً، وكأن شيئاً يدفعه، إلى عنق الشيخ أبي محمد الأعور، ورأى نفسه يضغط على عنقه بكل قوته، وقبل أن تفارقه روحه وتتجه لخالقها، لمّا لم يبقَ بينه وبين العالم الآخر سوى شهقة شهيق واحدة فقط، تركه وتوجه لمرجل النار الذي يتوسط عادة بينه وبين زبائنه، وقلبه فوق رأسه، وبإصبعه فقأ عينه وخرج والدم يقطر من يده، ومن يومها صار أبو محمد أعوراً إسماً وصفة، لكنني وبصراحة لم أصدق هذه القصة حتى قبل أن أرى الشيخ وأتعرف عليه، وقدرت أن هذا القول ليس إلّا من باب الحقد والحسد.

أما القصة الثانية حول عينه المفقوءة، فنقلها الرواة كالتالي:

قالوا أن أبا محمد الأعور والذي لم يكن أعور حتى تلك اللحظات، رجل بخيل جشع، وأنه قد استطاع شراء ثمار بعض أشحار الزيتون، في ذلك الموسم، من بعض الفلاحين المحتاجين، فبحكم مهنته لم ينقصه المال يوماً، رغم أنه لا يعرف شيئاً عن شجر الزيتون ومواصفاته،  وقالوا أنه عندما جاء موسم “جدّ” الزيتون، قرر أبو محمد أن “يجدّ” الزيتون بيديه كي لا يدفع للآخرين مقابل عملهم، غير مدرك أن للزيتون موسمه المحدد والمحدود، لا تستطيع تجاوزه أو تأجيله ولا القفز فوقه، وأنه عندما كان “يجد” شجرة زيتون، كان يسحب الحبات ويسحب معها أوراق الشجر، وشجرات الزيتون مثل نساء قلعتنا، لا يقبلن أن يُعريهن غريب، ويرفضن أن يقفن على رؤوس الجبال عاريات كما خلقهن الله، لتتلصص عليها كل عيون المارة، كما أنهن ولأسباب تخصهن ترفضن التنازل عن وريقاتهن، ويتشبثن بهن ويحملهن ويضمهن بين أغصانهن محاولات حمايتهن من حر الصيف وبرد الشتاء، لذا زاد حقدهن على أبي محمد الأعور، بعد تماديه في استباحة أجسادهن، كما أنهن ولسبب ما زال مجهولاً، يحتفظن بحبة زيتون واحدة أو بضع حبات لأنفسهن حتى الموسم القادم، وإن رأينك مصراً على تجريدهن من كل ثمارهن بما في ذلك حبتهه الأخيرة تلك أو حبيباتهن القليلات، فإنهن يحاولن إخفاءها عنك، وإن أصريت، رمينك عن سلمتك التي تركبها وأوقعنك أرضاً، وفي أحيان كثيرة ينفضن جسدك من فوق أغصانهن حتى لو أدى ذلك لكسر يدك، وكان الشيخ أبو محمد الذي لم يكن أعوراً بعد، كما أخبرتكم مراراً، مصراً على تجريد شجرات الزيتون من حبيباتهن تلك كما جردها من وريقاتهن وتركهن عاريات على مساحات الحقول، فحذرته الأشجار بطرقهن المختلفة والمتعددة، لكنه وكما هو الآن، لم يكن يعرف لغة أشجار الزيتون، ولم يتعلمها أبداً، كان مصراً على أخذ ما ليس له، ولما استُنفذ صبر شجرات الزيتون، قررن تعليمه درساً على كل ما فعله بهن، وتركوا الأمر لزعيمتهن، تلك الشجرة الرومية التي بشرت مهللة راقصة بقدوم المسيح، قبل ما يزيد عن ألفين من السنين، تلك الشجرة التي كان يستفيء بظلها يوحنا المعمدان ويحرض الشعب لإتباع “المعلم”،  والتي كان جذعها يتسع لعائلة كاملة لتحميها عندما كان القصف يشتد على أهالي القرية من الغرباء، بعد ذلك بألف جيل. . ويؤكد الرواة أن أشجار الزيتون رغم صبرها إلّا أنها لم تكن يوماً جبانة، وهي التي تعطيك زيتها النازف بالحسنى، بعد أن تكون قد جمعته من دماء الأرض، ترفض أن تبتزها حتى بحبة زيتون واحدة، مهما كانت النتيجة، حتى لو قطعتها قطعاً وأطعمتها النار، أو أقتلعتها من جذورها، وأمام جشعه وإصراره المقيت، لم تجد الزيتونة الرومية بُداً أمامها من محاسبته، واتخذت قرارها بإقتلاع إحدى عينيه، نعم إقتلاع عين واحدة بأحد أغصانها، وهكذا فعلت، مدت غصنها إلى قاع عينه وسحبتها، فصار منذ ذلك الوقت الشيخ أبو محمد الأعور أعوراً بحق، وصار درساً لمن يحاول إغتصاب الأشجار، وزيتونها على وجه خاص.

وهناك الكثير من الروايات التي لم تستطع أن تستقر في رأسي الكبير الذي أمامكم، لأنني لم أصدق أي منها، وما دام أعطاني الله رأساً بهذا الحجم وهذا الكبر، فسيحاسبني ربي إذا لم أستخدمه، أقول لكم ذلك من باب سرد الحقيقة فقط، لأنني لا أجزم بصحة أي قصة من القصص التي ذكرتها لكم بنفسي، وكي لا تذهب بكم ظنونكم بعيداً، عن هذا الشيخ الذي طالما إعتبرته عالماً جليلاً، لا يكف عن ذكر الله “بكرة وأصيلا”،الأمر الذي لا يرضى الله ولا رسوله ولا المؤمنون، وفي نهاية الأمر شتان بين عمى البصر وعمى البصيرة كما قال والدي، رحمه الله، دوماً، رغم أنه لطالما أرفق كلماته الناصحة أو الشارحة لي بكلمة “يادابة”، كوني لم أكن أستمع لنصائحه دائماً، وإن استمعت فبالشكل الذي أعرفه أنا وليس بالطريقة التي يريدها هو، ولو كان اليوم موجوداً لقال من جديد: “أإلى هذا الحضيض وصلت أيها “الدابة”، أهذا ما اهتديت إليه لا هداك الله، إلى البصارين والعرافين؟” ولرفع يديه للسماء مكملاً، ومعاتباً ربه: “يارب منك وعليك العوض، أهذا مَنْ رزقتني به ليورثني؟ كان الأفضل أن أظل بدونه، أو أن تجعل أمه عاقراً… اللهم لا إعتراض”، ثم لكان إلتفت إليّ وقال: “تحمل رأساً كرأس البغل وجثةً كجثته، لكن طفلاً صغيراً بإمكانه جرك أيها “الدابة”، وكي لا تضيعوا معي في هذه المتاهة الطويلة، عليكم التركيز على ما دفعني للذهاب إلى بيت الرجل، لذلك فلنترك أبي يرتاح في قبره، والسبب الذي أدّى إلى فقدان الرجل عينه، ولأقص عليكم ما الذي أوصلني لبيت الشيخ أبو محمد الأعور.

أبو محمد الأعور هذا، كما علمت لاحقا، كان يُركز على إسمه الأخير بشكل دائم، كون الناس صارت لا تعرفه إلا بصفته تلك التي أكدت إسمه، فصار إسماً على مسمى، لذلك ما أن تقول الأعور لوحدها، حتى يعرفه الناس فوراً، حتى دون أن تذكر لقبه الأول “أبو محمد”، وإن كنت حذفته عامداً متعمداٌ، يقول الرجل أنه يعرف مدى سوء الإسم وقبحه، لكن من باب التواضع لله، فإنه يصر عليه كي لا تأخذه نفسه وتغرقه في بحور الكبرياء، ويبتعد عن قول الله “إن الله لا يحب كل مختال فخور”، بل يريد نفساً متواضعة خاشعة بعيدة عن التكبر، خاصة بسبب علاقته النافذة عند “معشر الجن”، حيث لا يُرفض له طلب ولا يُرد، بل يتقافز الجن على أصابع يديه كلاعبي السيرك، بعد أن يتقزموا ليتسع لهم المكان، ويُحضرون له ما أراد ويجلبون له كل  ما يطلب، لذلك ظل يؤكد على اسمه مع أي كان وفي أي وقت كان. لكن البعض الآخر يُكذّب الشيخ وينفي أقواله، ويعتبره رجلاً أفّاقاً كذوباً منافقاً، ويؤكدون أن كل ما يقوله ما هو إلا كذبا وتزويراً، وأنه ليس إلا مُدّعيا، وعلاقته بالجن ليست سوى من باب الضحك على “الذقون”، وتركيزه على الإسم من باب الدعاية وليس من أي باب آخر، ف”كأبي محمد” يوجد الألوف، لكن كم أعور ستجد في البلاد جميعها من حالات؟ فما بالك كإسم وصفة، وكي يُكذب كل ما يتم تداوله من قصص وحكايات وحتى نكت تم نسجها حول عينه تلك، وكي لا تغرقوا معي في تفاصيل لا لزوم لها، ركزوا معي على أصل القصة التي أوصلتني لهذا الشيخ، كوني أعتقد أنكم، مثلي، تُريدون “العنب” وليس مقاتلة الناطور.

ما أن طرقت باب الرجل حتى فتح لي الباب شاب دخل مرحلة الشباب منذ بضعة شهور فقط، هذا ما بدى لي، وأنه بالكاد وضع قدمه على سلمة الشباب، خارجاً لتوه من طفولة طويلة أرهقته وأتعبت جسده اليافع، لم يقل شيئاً عدا رد التحية، وكأنه مصاب بداء “القرف” من كل ما يجري، وأنه مع تكرار الأمر مرات في اليوم الواحد، لم يعد يحتمل الأمر أكثر، أعطاني ظهره وقال:

ـ تفضل…اتبعني…

لم يسألني مَنْ أنا ولا ماذا أريد، كأنه لا يأتي بيتهم أحد إلا لهذا الأمر الذي جئت أنا أيضاً من أجله، واقتادني إلى غرفة الصالون، حيث هناك رجل واحد ينتظر دوره، والذي بادرني بالسؤال عن إسمي ولقبي وبعض المعلومات عن عائلتي ، وعن سبب مجيئي، ولما أخبرته أنني قادم من أجل تفسير حلم يلاحقني منذ أسابيع، كان قد جاء دوره ودخل، وبعد دقائق جاء آخر ليطلب مبلغاً من أجل “الجن” التي تعمل مع الشيخ أبو محمد الأعور، فهؤلاء “الجن” لا يعملون ب”السُخرة”، والشيخ الذي يفعل ما يفعل، يفعله فقط “لوجه الله”، لا يريد جزاء ولا شكوراً، وهو لا يستطيع أن يغطي مصاريف “الجن” من جيبه الخاص، وطالبني بأن أحضر معي في المرة القادمة خروفاً لا يتجاوز عمره الستة أسابيع، برأس أسود وجسد أبيض، وإن تعذر فبرأس أبيض وجسد أسود، وإن تعذر فليكن خروفاً أسوداً، وإن تعذر فليكن أبيضاً، وإن تعذر فأي خروف وبأي شكل أو عمر أو لون، إضافة لدجاجتين بلديتين مع “ديك” بريش طويل مُلوّن، لأن بعض الجن التي لا تأكل لحم الخروف، تحب لحم الدجاج البلدي والعكس صحيح، لكن “إياك أن تأتي بدجاخ المزارع”، فالجن لا تأكل دجاج المزارع أبداً.

قال مبغضي الشيخ معلقين، أن الرجل الذي كان أمامي، هو أحد العاملين مع الشيخ وليس زبوناً آخراً، وإلا لما سألك عن أصلك وفصلك وسبب مجيئك، وعلق بعضهم قائلاً إنه “عصفور” الشيخ، يعمل كما يعمل “العصافير” في الزنازين لصالح المحتل، وضحكوا كثيراً، وأكمل المتحدث قائلاً، أنه يجالس القادمين ليأخذ منهم بعض الأسرار والمعلومات، ليعطيها لشيخه الذي يستخدمها بدوره وكأنه يعرفها، ليخدع بها الناس…”الطيبين” أمثالك، وأمام تردده في ذكر كلمة الطيبين، تخيلت المرحوم أبي يقولها بفم ملآن ودون تردد، “أمام الدواب من أمثالك”، لكنني أيضاً لا أظن ذلك، لا أصدق ما يقولون، وأعتقد أن ذلك من باب الحقد والحسد على الشيخ أبو محمد الأعور…

أدخلوني غرفة شبه مظلمة في وسط النهار، كانت شبابيكها  قد صُغِّرت عمداً، وغُطي ما تبقى منها ببرادٍ ثقيلة لتمنع الشمس من التسلل والدخول، وكما علمت فأبو محمد الأعور فعل ذلك بنفسه، كون الجن لا بحب النور، بل يعشق الظلمة ويفضلها، فكان لزاما عليه توفير الحد الأدنى من رغائبهم، وأبو محمد الأعور الذي تآخى معهم وعاهدهم وعاهدوه، فقد تآخى فقط مع المسلمين منهم، وابتعد عن يهودييهم والنصارى، وشن حروباً طويلة عليهم جميعاً، في معركة “الشرشحة والمرمرة”، حيث شرشحهم ومرمرههم كما كان يؤكد متحدثاً، وفي معركة “التحليق والتمزيق والتعليق”، حيث حلقت معه الطير الأبابيل وبسواعده مزق أجسادهم وعلق رؤوسهم على الأعمدة والأشجار، وضرب بيد من حديد ملحديهم بشكل خاص، وهزمهم شر هزيمة، وفي تلك المعركة يؤكد أنه فقد عينه، حيث جاءه سهم طائش من “جني” مسلم عن غير قصد، وعلق أحد مستمعيّ قائلاً: “آه… تقصد أنه من نار صديقة…” وضحكوا طويلاً هذه المرة أيضاً، حين علق آخر مستذكراً أسماء المعارك التي ذكرت أمامهم أنه خاضها، لكنني تجاهلتهم وأكملت وقلت بأنه لهذا السبب يصر على التمسك بإسمه وصفته، كونه فخوراً بما أصابه من القوم الكافرين، وعينه المفقوءة هي علامة على جسده من علامات الجنة.

لكن كفرة الجن وملحديهم سرعان ما عادوا لتجميع أنفسهم، وشنوا حروباً ضد مسلمي الجن  بقيادة أبو محمد الأعور نفسه، والحرب كما تعلمون سجال، مرة لك ومرة عليك، لكن الشيخ لن يتراجع إلا بعدأن ينصره الله عليهم ويفني بقدرته القوم الكافرين، فقد وهب الرجل نفسه لذلك “والله على ما يقول شهيد”، أتتخيلون “إنسياً” يقود جيوش مسلمي الجن ليحارب أعداء الله من كفار ومرتدين وزنادقة، ليًعلي كلمة الله في مجتمعات الجن وفي جحورهم؟!!!أتتخيلون ما له من فضل على المسلمين جميعاً من إنس وجن؟!!!.

كانوا ينظرون لبعضهم بعضاً أمام كلماتي، الأمر الذي يشعرني بكلمات أبي ويذكرني به، وكأنه راعهم غبائي أو “طيبتي”، لكن نظراتهم ظلت تطلق كلمات أبي نحو رأسي كرصاصات…يادابة… فضحتني يادابة… قف عن التبول والتبرز من فمك أيها الدابة، ألم تسمع يوماً أنه “إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”؟ ف”الحق ليس عليك، بل علينا نحن، لو لم نكن دواباً لما خلّفنا بغلاً مثلك!!!. لكن ماذا سأفعل وقد بدأت بالحديث عن سبب ذهابي إليه، فلا بد أن أتمم ما بدأت.

أقول ما أن دخلت حتى وجهني الرجل بكلمتين من لسانه لأن أجلس على كنبة مقابله، وقد كان جسده فقط في الغرفة، لكن روحه بالتاكيد لم تكن معنا، كان دخان البخور الثقيل يتطاير من وسط المرجل الذي صار بيننا، دخان كثيف ككثافة قنابل غاز الإحتلال لكن بطعم ورائحة مختلفتين، فتزداد كثافة العتمة في المكان، ويصير من الصعب التدقيق في أيما شيء، وسرعان ما تبدأ شرارات في التناثر من المرجل في المكان، ويأتي صوت الشيخ الآمر، “لا تتقافزوا أيها الجن كيلا تخيفوا ضيوفي”، وما هي إلا لحظات حتى يتوقف الجن الذي تمظهر لي على شكل شرارات بالإختفاء، وتعود النار الى طبيعتها وشكلها، ويكف الجن عن التقافز والألعاب، ويأتي صوت أبي محمد وكأنه من داخل الجدران وليس من فمه، آمراً الجن شارحاً لهم:

ـ هذا الرجل الذي أمامكم هو صالح أحمد الطيب…

قال دون أن أخبره بإسمي ودون أن يسألني، وأكمل:

ـ إنه إبن أبي صالح الطيب، الذي توفاه الله منذ مدة وجيزة، له زوجة واحدة، لا مثنى ولا ثلاث ولا رباع، لم يرزقه الله سوى بذكر وأنثى، وامرأته لم تحمل الحطب يوماً، لأنهم يمتلكون فرن غاز بجرته في البيت، وجاء ليوسطني عندكم لتفسير حلم يلاحقه منذ أسابيع، فاقعدوا وانصتوا له، علكم تفلحون في التفسير… حـــــــــــــــــي … أمامك سكة سفر…

وقبل حتى أن أبدي دهشتي بكلماته التي يبدوأنه يقولهن لكل زبائنة، قال أبو محمد الأعور مصححاً نفسه:         ـ أقصد، أليست معلوماتي صحيحة؟

ولم ينتظر جواباً، بل تابع واثقاً من نفسه:

ـ لن يستطيع حتى الجن أنفسهم أن يعطوني معلومات خاطئة، قل يابني ما عندك… قل…ابدأ بشرح أحلامك، وليوفقنا الله في التفسير…

وابتدأت في سرد الحلم للشيخ الجليل ابو محمد الأعور، فقلت:

  •          *           *

لقد حلمت سيدي الشيخ، بحلم أرجو أن يكون خيرأ…

ـ خيرُ إنشاء الله، اللهم إجعله خير…حــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

ـ حلمت أننا كنا نعيش في قلعة، يمتد أحد جوانبها مع البحر ويلازمه، وجانبها المقابل مع نهر طويل وبحيرات، وكلا الجانبين تتراص عليهما الأسوار العالية والقلاع والمدافع، وفي رأس القلعة كما تحت قدميها، تزداد الأسوار علواً ويتضاعف عدد الحراس، لأنهما لا تحظيان بحراسة مُضاعفة من البحر والنهر، كما يحظيا الجانبان الآخران، فالبحر والنهر حارسان ياشيخنا، لاتنام لهما عين ولا يغمض لهما جفن، وعلى امتداد الأسوار جميعاً كان يتزايد عدد المتطوعين لحماية القلعة يوما بعد يوم، وكان المتطوعون الجنود هؤلاء، يتسابقون في حماية القلعة، وفي مرات عديدة، كانوا يبادرون لمهاجمة الأعداء قبل أن تصل أقدامهم إلى أرض القلعة أو حتى القرب منها، وكان الجند يقومون بالتضحية بأنفسهم من أجل القلعة، فكلما أهدى أحدهم دمه إلى أسوار القلعة، أو شوارعها وطرقها وأزقتها، أي كلما سال دم أحدهم على أرضها، كلما سارع الآخرون ليثبّتوا أسماءهم بعده وعلى طريقه ذاتها، ليكونوا الأوائل في المواجهة والمجابهة، وفي بعض الأحيان كانوا يتلاسنون إذا ما اقترب مَنْ لم يكن له “دور” محاولاً التعدي على “دور” أحدهم أو أخذ مكانه. بإختصار فقد كانت القلعة والهبة لحمايتها والذود عنها هما مقياس الأخلاق والحب والتضحية والفداء، مقياس الشرف والمروءة والشهامة وإنكار الذات، فكان مَنْ أصابته إصابة يتباهى بها ويعلنها على الملأ، وكأنها علامة من علامات الجودة في مجتمع القلعة وبين أهلها، وكان من أراد خطبة حسناء ما من أهل القلعة، يتوجب عليه أن يقدم علامة حب للقلعة أولاً، لأن من لم يحب قلعته ولم يقدم لها براهين حبه، لن يستطيع أن يكون قادراً على حب غيرها من النساء، مهما كبر جمالها وعلا شأنها، لأنه وبكل بساطة لن تجد إمرأة أكثر جمالاً من القلعة، والغريب سيدي الشيخ أن النساء كن يعلمن بالأمر ويعرفنه، لكنه لم يشكل لهن إزعاجاً أبداً، وكأن الأمر طبيعي ومنطقي ومفهوم لدرجة تلتغي فيه المقارنة أو الغيرة أو الحسد أو حتى الثرثرة في الموضوع وتنتفي، وكي أكون صادقاً، إلا من بعض حثالات تافهات ثرثارات، كما بعض ضعاف النفوس من الذكور وليس الرحال، ممن لم يعرفوا القلعة ولم يشربوا من حليبها ومياهها، أو شربوا وخانوا ذلك الماء والحليب، وكما تعلم سيدي الشيخ، من يخن لا أصل له ولا ذمة ولا ضمير، فما بالك إن خان القلعة نفسها؟!!! أقول كان لا بد من تقديم هدية ما عند الرغبة بالزواج، وكلما كان جرح الجريح غائراً والنزيف أكبر كلما كان المتقدم للزواج طلباته مقبولة أكثر وأسرع، وتقام له الإحتفالات أياماً في شوارع القلعة وأزقتها وبيوتها وجوامعها وكنائسها، وتمتد الإحتفالات ليال وأيام، ويمتد الرقص والدبكة والميجنا في طول القلعة وعرضها، ويسرح ويمرح “ظريف الطول”، ويعود “مشعل” من غربته على صهوة جوادة، وترقص فاطمة وصبحة ووضحة وزينب وآمنة، وتمتلئ الشوارع بالأرز المنثور من أكف الصبايا على رؤوس الشباب، وتبدأ زفة العريس وسهرة العروس تسبقهما ليلة الحناء، وأنوار القلعة تضيء أعماق البحر ومياه النهر، وتتبادل التحايا والزيارات مع الجيران، فما بالك عندما يرتقي شهيداً من القلعة إلى السماء، فكانت تتوزع الحلوى في الطرقات وتنتشر زغاريد النسوة في فضاء مدن القرية على وقع أنغام أغاني الشباب والصبايا” ياأم الشهيد وزغردي    كل الشباب أولادكي” وتتنافس الآيات القرآنية في تمجيد الشهيد ومكانه الذي لن يكون إلا بقرب الأنبياء والقديسين. ويكون عرساً “قلعاوياً” بجدارة واستحقاق، يستمر أياماً بلياليها دون كلل أو ملل، متحولة بيوت العزاء إلى زفة للشهيد رجلاً كان أم إمرأة.

وكان في القلعة، سيدي الشيخ، مدناً وأسواقاً وأريافاً تغص بالأشجار والخيرات والمحاصيل، والناس تتزاور وتتضامن وتتساهر، والخير يعم أرض القلعة من أقصاها لأقصاها، بحماية الناس أنفسهم والمتطوعين، كما كان في القلعة سجناً صغيراً للصوص، وهناك بعيداً في أعلى القلعة كانت قيادة القلعة، تحمل سلاحها وتنظر في كل الإتجاهات، تتابع هدير أمواج البحر، وما يختبئ فيه من أخطار الأعداء، تكاد لا تنام الليل خوف مداهمة أخطار تختبئ في ظلال الموج، وتعطي الأوامر للمتطوعين ليدافعوا عن القلعة عند هبوب العواصف والرياح.

وفجأة سيدي الشيخ، ودون سابق إنذار، وكما في الأحلام، تغيرت ملامح قلعتنا، ورأيت القلعة تضيق علينا وتتقلص، وصار الأعداء يحيطون بنا من داخلها، وتقلصت أعدادنا، وكأن الناس في معظمها قد هُجرت، وضاقت دنيانا علينا أكثر وأكثر، وأصبحنا في جزء قليل من أرضها بعد أن إمتلأت على حين غرة بالأعداء من كل حدب وصوب، فاختفت المزارع والمحاصيل مع إختفاء الأرض من القلعة، لكن حماة القلعة وقادتها ظلوا يدافعون عنها، وأوقفوا الأعداء مرات ومرات، لكن أسلحتهم صارت تختفي، نعم اختفت معظم أسلحتهم فجأة ودون سابق إنذار، فامتشق حماتها وأهلها الحجارة، وظلوا يدافعون عنها بشراسة أكثر، واعتبروا أنهم لم يُهزموا بعد، رغم خسارتنا لمعركة كبيرة، فخسارة معركة ليست بهزيمة، وذهبت وعود الأقارب بالدعم أدراج الرياح، واخذوا يعوضوننا بالمال بدل الرصاص، وكما تعلم سيدي الشيخ، فالمال لا يستطيع أن يكون بديلاً عن البنادق رغم قوته، وبقدرة قادر، صار المال يصل إلى قيادة القلعة أكثر وأكثر، ولا نعرف عبر أي طريق، رغم الحصار المفروض على القلعة من كل الجوانب والإتجاهات، ويقال أن للمال قوة يجهلها أمثالي، ويمكنها أن تذلل العقوبات وتخلق المعجزات، وهذا ما تم فعلاً، قصارت قيادات القلعة تتكرش وتتكلس ويأكلها الصدأ، وصارت البنادق التي بأيديهم تتحول إلى رُتَب ونياشين ونجوم  وهمية فوق الكتف وفوق الصدر، ولما أخذت أدقق في وجوه هذه القيادات، رأيت أن لصوص السجن ومخصيي القلعة هم من أصبحوا قيادات اليوم، لكن لها نفس ملامح قياداتنا السابقة، وصاروا يحكمون بالرصاص والعصي، وباعوا كل ما استطاعوا باسم الله تارة وباسم الوطن تارة أخرى، وصرت أسمع تسحيجاً من حماة القلعة، وصار من يسحج أكثر يصير من المقربين أكثر للقيادات الجديدة، وصار يُرمى لهم المال ليسحجوا ويهتفوا بحياة القيادة أكثر وأكثر، وساد الظلام أرض القلعة، وانتشر الجهل كأحد أبرز ملامح المرحلة، وصار شيوخنا يا”مولانا” يلوون فم الدين ليُقوّلوه ما يريدون، ويجيّروه ليبرروا للصوص لصوصيتهم وللظَلَمة استعبادهم، ويلعنون ويُكفّرون ويُزندقون كل مخالف، فحاربوا أهل العلم والمعرفة، وطاردوا العقول، وأخرجوا المسلمين منهم من ملة الإسلام واستأصلوهم، كما تستأصل دملاً متقيحاً آذاك وآلمك في مكان معين من جسدك، واستمروا يُخرجون مَنْ أرادوا من ملة الإسلام والمسلمين، فأصبح التكفير والردة والخروج عن أولي الأمر صفة ملاصقة لكل من يعارض، وصار إطلاق اللحى وحفّ الشوارب من مقاييس الإسلام وصحته، والمسبحة والعمامة من أعمدته وثبوته، فصار الإسلام يتقزّم ويتقلص ويضعف، وسرعان ما ساد قانون التحريم، فحرّموا كل شيء، وصار التحريم هو السائد والحلال هو الشاذ، إلا لدى شيوخنا، سيدي الشيخ، وقيادات القلعة من لصوص ومخصيين، فكل شيء لهم حلال، وكل حرام عندهم مُباح، فصار شيوخنا يتصدرون صفوف “الهتيفة” و”السحيجة” في مدح الحاكم، وصارت بيوت الله مكاناً لمدائح الحكام والدعوات لهم، وصارت بيوت ربك أماكن للعبث والكذب والنفاق والعهر السياسي، فانتشرت قصائد الغزل مع صُور اللصوص كقيادة جديدة للقلعة، وحل سيف “يزيد” مكان عقل “الحسين”.

وفي زمن العتمة يزداد عدد اللصوص، لكن قيادة قلعتنا كانت تسرق في الظلام وفي النور، وصرنا نتحول تدريجياً إلى قطيع من الماعز، أو بالأصح إلى قطيع من البهائم “حاشاك الله”، وعلفونا وعلقوا لمن هتف وسحج “مخالي التبن”، ومن حاول الإعتراض منعوا عنه الأكل والماء، ولاحقوه وأهانوه وضيقوا عليه مصادر رزقه، وصارت أيادي اللصوص الذين صاروا قادة لنا تمتد لتصافح الأعداء، تُنسق معهم، وصاروا سوياً يلاحقون من رفض التخلي عن بندقيته، ثم لاحقوا من رفض التخلي عن مبادئه أو أفكاره، فلاحقوا وسجنوا وقمعوا وقتلوا بأيديهم وأيدي من كان بالأمس عدواً، وكما في الأحلام سيدي الشيخ، لا أعرف كيف، فإذا بحماة القلعة تتحول وجوههم من مراقبة الأعداء إلى مراقبتنا نحن في الداخل، وصارت بنادقهم تطلق على القلعة وشعبها، وتحول معظمهم إلى طُفيليات بشرية، لاهم لها سوى جمع المال و”مخالي التبن”، فاختفى “ظريف الطول” وصار “مشعل” ملاحقاً كما في عهد السلاطين من عهد بني عثمان، وصارت العتابا والميجنة “رجس من عمل الشيطان”، فحرموا الموسيقى وزندقوا ما تبقى من كُتَّاب، وكفروا الفلاسفة والمفكرين، وصار الدجل هو المسيطر، لا مؤاخذة سيدي الشيخ، وانتشرت عيادات العلاج بالقرآن على حساب عيادات الأطباء، والأحجبة بدل الأدوية وحرّموا القراءة والكتابة والتفكير، وأشاعوا النقل والمنقول، فحولوا الدين إلى عرض أزياء، فرضوا فيه زي الجاهلية وأوائل الإسلام، وسرعان ما لففوا النساء وبرقعوهن وأزالوهن من الخدمة، و”عوّروا” المرأة من رأسها لأخمص قدميها، وحشروها في سجون البيوت، وسرعان ما شيأوها وألقوا بها بين الملاعق والصحون في المطابخ، ثم إلى فراش الجنس البهيمي، وانتشرت الفتاوي وتمددت وشملت كل القلاع المحيطة، فانتشر تتعدد الزوجات وملك اليمين وأسواق النخاسة، وأغتصبن الفتيات لقاصرات، وكذلك الطفولة في المهد وفي عمر الزهور باسم الدين والزواج، وادعوا أنه على سنة الله ورسوله، وحللوا جهاد النكاح، فتحولت القلعة إلى مجتمع ذكوري فج، يحكم فيه الذكور حتى لو لم يكونوا رجالاً، ويقود فيه المخصيين واللصوص باسم الله والوطن والشعب.

وصارت الأمور تمشي على رأسها بدل قدميها، فأصبح تدمير الأوطان “ثورة”، واستدعاء الأساطيل الأجنبية مرغوب وواجب، والقتل على الهوية من أسس الدين، فحل “صحيح البخاري” و”ابن تيمية” وابن عبد الوهاب” مكان كتاب الله وبديلاً عنه، ف”أمموا” الجنة وجعلوها للمسلمين، بل لطائفتهم وحدهم فقط، وكفروا بقية الطوائف والمذاهب والأديان، وقاموا بإنقلابهم الكبير، فعزلوا الله ونصبوا أنفسهم مكانه، وصاروا هم من يقررون لمن الجنة ولمن النار، وأنهم هم، وفقط هم، من يقرر مصير البشر و الحجر والشجر، وهم وحدهم الناطقون الحصريون باسم الله، فازداد الظلام لزوجة وظلاماً، وصرنا نغوص فيه حتى رقابنا، فلم يعد للزهور مكان في قلعتنا ولا في القلاع المجاورة، وصار الحب جريمة تستحق رجم القلب، الذي تجرّأ على الحب، حتى الموت، أو إقتلاعه وأكله نيئاً، وصار تفجير المدنيين من أطفال ونساء “شهادة”، وشق البطون وتفخيخ الأطفال بطولة، وذبح الأسرى شهامة، ووضع اليد مع الغرباء لتقسيم ما تبقى من قلاعنا ضرورة، فسرقوا البسمة عن شفاهنا، واقتلعوا أشجار التين والزيتون، وجففوا أشجار البرتقال بعد أن جفت دموعها وذبلت، وأبكوا شجيرات الزعتر والميرامية في بطون الصخور، فجفت ينابيع الماء، وغادرتنا البحيرات، وخط لنفسه النهر مجرى بعيداً…

لكن ولشدة دهشتي يامولانا الشيخ، عندما استيقظت من حلمي هذا وجدت نفسي في داخل السجن، نعم سيدي، لا تستغرب، فسجن القلعة الصغير الذي كان للصوص، أصبح كبيراً ويضم معظم سكان القلعة، ونظرت بعيني الإثنتين اللتين “سيأكلهما الدود”، فوجدت اللصوص الذين رأيتهم في المنام يتربعون على العرش، هم أنفسهم، نفس الوجوه والأشكال، ورأيت معظم حماة القلعة يحملون أسلحة لمطاردة الشعب رغم كل خطر الأساطيل التي تحيط بنا وتهددنا، ورأيت بأم عيني كيف اختفى البحر وجفت مياه النهر وتبخرت البحيرات، تماماً كما في الحلم، وصارت الأمطار تجافينا وتفر من ظلام مدننا، وضاقت أرضنا بنا، فصرنا نتكلس ونتكوم في بضعة أمتار بعد أن كانت كل البلاد بلادنا. كنت يامولانا قد استغفرت ربي عندما استيقظت، ونهضت وصليت ركعتين للمولى عز وجل، وقرأت الفاتحة وياسين وسورة الكرسي، بعد استعاذتي بالله من الشيطان الرجيم، لكن الحلم داهم رأسي في الليلة التالية، فأعدت ما قرأت من كتاب الله وأضفت سورة الناس والفلق وقل هو الله أحد، فهاجمني الحلم بشكل أكثر شراسة في الليلةالتي بعدها، فقرأت إضافة لما سبق سورة يوسف، ثم تمارضت وغبت عن عملي وأضفت فوق كل ما سبق سورة البقرة والنساء حتى أنهيت كتاب الله كله، لكن ذلك لم يمنع تكرار حلمي في كل ليلة لاحقة، لدرجة صرت أظن “وإن بعض الظن إثم” أن ما رأيته ليس حلماً، بل حقيقة تتجسد لي في ثوب حلم، خاصة أنني كلما خرجت أو فتحت مذياعاً أو تلفازاً صرت أرى حلمي أمامي يتجسد داخل كل الأشياء.

هذا هو الحلم الذي رأيته يا مولانا، ما تفسيره، وهل تعتقد أنه حلم أم كابوس، وهل له صلة بالواقع الذي نعيش أم مجرد أوهام من رجل بائس ربما أصيب بعمى الألوان، أم أن الشيطان قد ركبني ويصور لي الأشياء على غير حقيقتها ؟!!!

  •                     *                    *

أثناء شرحي لحلمي هذا للشيخ أبو محمد الأعور، كان الشيخ يرش البخور فوق النار، وبين فينة وأخرى يهدئ الجن الذين يتقافزون، و “نَهَرَ” مرّات الجان “شخبوط” وأخيه “زعموط” ليكفا عن الإزعاج، كي يستطيع سماعي بشكل أفضل وأوضح، وكان رأسه يعانق أعلى كنبته وهو يصرخ “حـــــــــــــــــــــــــــــــــــي”، وفجأة، وبعد أن تعمقت في شرح حلمي وأسهبت فيه، رأيت الشيخ أبو محمد الأعور يتوقف عن استدعاء الجن، ثم صار ينظر إلي، وسرعان ما قام وأشعل المصباح الكهربائي، ثم أزاح البرادي عن شبابيكه الصغيرة ليراني بعينه الوحيدة بشكل أوضح، وأخذ ينظر إلي ويقيسني من الأعلى إلى الأسفل، وعندها رأيت عينه المطفية ينطبق عليها جفن قابضاً عليها بشكل كامل، وما تزال تبدو عليه آثار جرح قديم، وملتصق في تجويفها بشكل يصعب الفكاك منه، دون أن أستطيع تحديد من منهما يقبض على الآخر ولا يريد الفكاك منه، وسرعان ما صارت قدمه تدق الأرض وكأنني أزعجه بما أقول، وما أن انهيت حديثي حتى سألني بعصبية قائلاً:

ـ أنت لست من حكومتنا الرشيدة، فالجماعة، منهم من هو زبون لنا، ومنهم من يشاركنا لقمتنا، قل لي مَنْ الذي حذف بك إليّ؟ وما الذي تريده بحكايتك هذه؟

ولما حاولت أن أقسم له بأنني صادق فيما قلت، نهض من مكانه ومن سرعته تعثّر فأوقع “الكانون” على مصطبة البيت، فتناثر الجن في كل مكان، ولم يلتفت الشيخ لأحد من الجن المتطايرين فوق المرجل ومصطبة البيت، بل سحبني من يدي، وأخرجني إلى باب بيته الخارجي، أعاد لي نقودي، ومسح عينه السليمة بظاهر يده، وقال:     ـ أنا لم أسألك إن كنت صادقاً أم لا، أنا سألتك من الذي بعث بك إليّ؟ على كل حال إن رأيتك مرة أخرى سأكسر رجليك… لست بحاجة لمشاكل من جديد…إلى جهنم وبئس المصير.

ودفعني إلى الخارج، حيث اصطدمت بالحائط المقابل، وأكمل بصوت خفيض:

ـ أجئت لتقطع رزقي أيها الزنديق؟ لصالح مَنْ تعمل أيها الكافر؟!!!

ولما رأى بعض المارة قادمين صرخ بأعلى صوته:

ـ حـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

وطبق خلفي الباب وعاد لغرفته المظلمة، وبقيت وحدي، أسير لأخرج من زقاق بيته، تلاحقني الظلمة وعيون حكامنا الجدد وبنادق السحيجة الهتاّفين، تتربص بي جميعها بتنسيق لم نعهده من قبل، مع الغرباء جميعاً قريبين وبعيدين، بيدي ما أعاده لي من نقود، وفي رأسي صورة قلعتنا الجميلة القديمة، تُقبِّل أقدامها أمواج البحر، يداعبهما خرير مياه النهر، أسواره تعلو نحو فضاءات السماء، وخضرة أشجاره تملأ الساحات بروائح البرتقال واليمون والزعتر والزيتون، برائحة الريحان والميرامية والنعنع البلدي، بطعم العتابا والميجنا والدحيِّة والجفرا والطيارة والدلعونا، بحبات تينه المتدلية من غصون أمهاتها كنجوم مضيئة في وسط السماء، أما الحلم ـ الكابوس الذي لاحقني وما زال، فكان مايزال يدق بعنف طيات رأسي، يحاول تحطيم قلعتي التي أعرفها، تحطيمها وتحويلها إلى رماد وغبار متناثر على أبواب الصحراء، لتبتلعه وتحوله إلى زيت أسود وريالات، وها هو يتمدد أمام خطواتي ويكبر، يتسع والسجن مع كل حركة من حركات قدميّ، يحاول التمكن من الناس والشوارع والطرقات، الإمساك بحركة البشر والأفكار والمبادئ والأحلام، ليسحقها تحت قدميه ويلغيها من الحياة، وأنا مازلت أمشي، إلى الأمام أسير، أتخطى العراقيل وأتجاوز المطبات، ورأيتني أشتاق للمرحوم والدي كما لم أشتق له من قبل، وكم تمنيت في تلك اللحظة لو أنه مازال حياً يُرزق، كي لا أضطر لمثل “مولانا” الشيخ أبو محمد الأعور، حتى لو صفعني بكلماته قائلاً: ” ألم يبقَ غير “الأعور” لتلجأ إليه ليريك الحقائق ويفسر لك الأحلام؟ أتريد من أعور أن يُنير لك الطريق يا “دابة ابن الدواب”؟!!!.

محمد النجار

إحذروا الإخوان والسلطان… فشيمتهما الغدر

كنت أراه مراراً جالساً على مقعد صغير على باب بيته، بحطته الفلسطينية القديمة وعقاله الأسود، كأنه تمثال حجري قديم لا يتزحزح، يجالس، في أغلب أوقاته، الطريق، هادئاً صامتاً ثابتاً عابساً راسخاً كصخرة جبلية لا تحركها ريح ولا تهزها عاصفة، ولا تستطيع قوة، مهما عظمت، تحريك شفتيه المطبقتين على حفنات من الكلمات، اللواتي يمكنها تفسير حالته وشرح مأساته. نادراً ما ذهب وجاء إلى أي مكان، يغادر مكانه في أوقات معينة فقط، هي على الأغلب أوقات الطعام في بيته، الذي يقذفه خارجه كل صباح ويُجلسه أمامه، حتى يأتي أحد أفراد أسرته، ليأخذ بيده ويدخله لداخل البيت، وكنت أثناء مروري، من ذات الطريق، إلى بيتي، ولا أجده جالساً، أشعر بعرْي المكان، بفراغ الطريق وموته، كأن شيئاً ناقصاً، وكأن الطريق قد فقط سمته وخصوصيته، وإلى حد كبير فقد الحياة، التي طالما ميّزته عن باقي طرقات المخيم وجعلته حيّاً، إذا إستثنينا لعب أطفاله الكثر كما بقية أزقة المخيم وطرقاته المبعثرة، كما وبتاريخه الذي ما يزال حياً بوجود هذا الرجل ـ التمثال، وأمثاله، في وسطه، فرغم صمت هذا الرجل إلا أنك تستطيع تلمس عبق التاريخ وشموخ الوطن، أصله وفصله من تاريخ مكتوب ومحفوظ وصامت، أو مسكوت عنه ومُغيّب، أو حتى تائه بقصد في زحمة الأحداث ومخططات التزوير والتقسيم ومسح الذاكرة.

كان لا يتحدث مع أحد، ولا يُزعج أحداً بمتطلباتٍ مهما كانت صغيرة، يرد التحية على من يلقي بها عليه بما يشبه الصمت، ثم يعود إلى نفسه وأفكاره وهمومه التي لا يعرفها أحد البتَّة في المخيم كله. تراه أحياناً ساكتاً ساكناً مثل صخرة، وأوقاتاً قليلة يتحدث مع نفسه، لكن أحداً لم يظن يوماً أنه مجنون أو معتوه، وفي أكثر المبالغات في وصفه، كان يقول البعض “أنه رجل على باب الله”، لكن ما تبقى من قُدامى من جيله، ممن عاصروه وعرفوا قصته، كانوا في كثير من الأحيان يذهبون بكراسيهم ويجالسوه، رغم سكوته الدائم، متناقشين متحاورين في شتى الأمور، خاصة حول ما يجري في بلداننا التي ما زالت تأكلها النيران، وتحاول تفتيتها “الجراذين” بمختلف المسميات، يُدلي كل منهم بأسهمه، يختلفون ويتفقون، يتناقشون على مسمعه دون أي ردة فعل منه، لا بالأخذ ولا بالرد، حتى تأتي مواعيد مغادرتهم، يسلمون عليه ثم يغادرون، ويظل هو في مكانه على كرسيه نفسه، ثابتاً، مثل صنم حجري، لا يتحرك.

منذ ما يقرب من ربع قرن والرجل ـ التمثال، على حاله هذا، بعد أن كان عَلَماً من أعلام المخيم، منذ أن قيل له: ” جد لك عملاً آخراً… لم يعد لدينا لك مكان…كما أن ميزانيتنا لا تسمح ببقائك متفرغاً”، منذ ذلك التاريخ وجد نفسه دون أي قيمة ولا كيان، رجلاً لا لزوم له ولا مكان، فهو لم يطلب أن يكون متفرغاً، بل هم من طالبوه بذلك قبل عقدين من ذلك الزمن، عندما كان القابض على مبادئه كالقابض على الجمر، حينما عز الرجال في الزمن الصعب، والتزم ووافق تاركاً عمله لمصلحة العمل الوطني، واعتقل مرات لم يعدقادراً على عدّها، ولم يعترف يوماً على أحد رغم وصوله حد الموت مرات ومرات، وأصيب في ذراعه ورفض الذهاب للمشفى، كيلا يمنحهم فرصة الضغط عليه من خلال جرحه، والله وحده الذي ستر ذراعه من البتر، عندما مزقت الرصاصة عضلاته دون العظم، وبعد استبعاده حاول العمل، لكن شبابه كان قد خدعه وغادر، لا يدري هو متى أو أين، وكيف بهذه السرعة وعلى حين غرة، دون إذن أو إعلان، وعمل وعمل بما تبقى لديه من عضلات، من بقايا قوة ظلت متشبثة في العظام، ولما تعذّر الأمر ارتضى بالقليل، وظل أحد أبرز شخوص المخيم الوطنية، ورجل إصلاحها الأول، وكاد يمر فوق الأمر بهدوء لولا ما تم بعد إعتقاله الأخير.

عام كامل ظل في سجنه الإداري، لم يُقدم له رفاقه محامياً ولم يصله منهم مؤونة ولا غذاء، إلاّ من زوجه التي لم تكن قادرة على إطعام أطفاله، ولولا عمل إبنه البكر أحمد، إبن السابعة عشر عاماً تاركاً صفوف دراسته، لما لقيت العائلة ما يسد رمقها، كما ان “جماعته” “كما سمّاهم دائماً بسبب التحبب وشدة القرب”، لم يتفقدوا عائلته يوماً أثناء سجنه ذاك، ورغم كل ذلك تخطى الأمر وتجاوزه، لكن أن يخرج من السجن ويزوره الناس جميعاً إلّا “جماعته”، فكانت الضربة الأكبر له.

كان ينتظر أن يأتوه، أن يفرحوا به، أن يُهنئوه بسلامة خروجه، أن يخجلوا قليلاً ويعتذروا على تقصيرهم معه، وكان سيسامحهم لو فعلوا وينسى كل الإساءات والتقصير، لكنه لم ينتظر إلّا الهواء، فصار يخرج إلى باب داره حاملاً كرسياً من القش، ويجلس على باب بيته منتظراً، لعل وعسى، وظل يفكر لماذا، فهو لم يُقصر يوماً بعمل ولم يتهرب أو يتقاعس، كما لم يخن أحداً لا في حياته ولا سجنه المتكرر، بل بالعكس، فلطالما أوقف إعتراف الآخرين بصموده، فكان الحائط الذي لم يمروا منه أبداً، وظل يحاول إيجاد سبباً مفقوداً لم يجده إلى يومنا هذا، فصار يشعر بإغتراب لم يعشه أبداً، وقال كلمته تلك لولده الذي ظل يتذكرها رغم سنه المبكر، قال ” أن تكون غريباً بين جماعتك… بين أبناء بلدك… هي الطامة الكبرى، الإغتراب يابني أقسى من السجن والزنازين والتعذيب، بل حتى من الغربة نفسها، أقصى بكثير…” وسكت، ولم يتحدث بعد ذلك أبداً، ابتلع كل الصمت الجاثم في فضاء المخيم كله، وتحولت عيناه الى زوج من الكريات الزجاجية، وماتت البسمة التي كانت تميزه، وسرعان ما صار يتحول لون بشرته إلى لون الموت، وصارت تتراجع حركات جسده، فصار يتحول كل الجسد إلى عصب صخري ثقيل، يكاد لا يربطه رابط باللحم والدم الآدميين، وفي تلك المرحلة بالذات، داهم المخيم والمدينة وكل القرى المجاورة، بركان أقسى بكثير من بركان النكبة، بركان اجتث الأخضر واليابس، فأعاد خلط الأوراق والألوان والأقلام، فصار أخ الأمس عدو اليوم وعدو الأمس رفيق اليوم، ورفعت أغصان الزيتون على دوريات الجيش الذي كانت، بقايا دماء النساء والأطفال، عالقة بها مُتشبثة ترفض النزول، كشاهد على جرائم ترفض الإندثار رغم مرورها في دهاليز الزمن وجريانها مع مزاريب التاريخ، ومع تفجر بركان “أوسلو” المدمر ذاك ومرور الأيام، صارت حالة التمثال تتقدم على حالته الإنسانية، فصارت تتراجع روحه، أو ربما الأصح أن روحه صارت تتغطى بالتراكم الصخري وتفقد حياتها شيئاً فشيئاً، ولم يعرف أحد أبداً، أن ما حدث لأبي حاتم كان بسبب البركان أم بسبب الإغتراب، أم بسبب الإثنتين معاً، أو لأسباب أخرى لا يعرفها أحد.

هذه قصة أبو حاتم التي عرفتها في “سجنتي” الإدارية الأخيرة، فسلطتنا لا تستطيع أن تحمي نفسها ناهيك أن تحمي شعبها، وجنود الإحتلال يسرحون ويمرحون ويداهمون ويعتقلون ويُصيبون ويقتلون دون مواجهة أو دفاع ولا حتى رفض أو إعتراض، فداهموا المخيم واعتقلوني وآخرين، وحولوننا للإعتقال الإداري، وهناك التقيت “أبا إبراهيم” الذي حدثني عن “أبي حاتم” ،الذي صارت قصته تتراجع وتتقلص في العقول، وتضمر وتغور بعيداً في النسيان. لذلك وبعد خروجي ذهبت لعنده، جلست مقابله على باب بيته، حاولت محادثته، إغتصاب نظرة، حركة، بسمة، دون نجاح، لكنني، رغم ذلك، بقيت أتردد عليه بين وقت وآخر، ربما من باب الشفقة أو الإحترام أو العرفان لهؤلاء الذين لا يموتون إلّا واقفين، جذورهم مغروسة في قلب الأرض ورؤوسهم عالية في حضن الشمس، وصرت أحدثه عن قصص السجناء ومآسيهم التي خلقت كل هذا العنفوان لديهم، تلك القصص التي ما أن صارت جزءاً من الماضي حتى أصبحت مجالاً لأكثر حالات التندر، مدركاً أنه جزء منها، ممن نحتوا قصصها في فضاء الوطن كله، بعد حفرها عميقاً في خلايا جسده، ثم حدثته عن “أبي إبراهيم”، ونقلت له سلاماته وتحياته، الأمر الذي خلق لدي إنطباعاً بأنه فوجئ لأن هناك مَنْ ما زال يتذكره، وأن تاريخه لم يتم نسيانه، لم يمت بعد، بل ما زال حياً عند جزء من الناس على أقل تقدير، فأكثرت من الحديث عنه، وبالغت في نقل أخباره، لكن دون أن تصدر عنه أي إشارة على أنه يسمعني، بل ظلت عيناه الزجاجيتين زجاجيتان، ولون الموت الأبيض الصخري يغطي وجهه، ولم يلتفت لي أو يُغير من طبيعة جلسته أبداً.

لكنني ولسبب ما واصلت زياراتي ومجالستي له، وصرت أنقل له الأخبار اليومية ورأيي بها، خاصة ما يجري من تدمير لأوطاننا، وللحق لا أعرف حتى الآن لماذا كنت أفعل ذلك، ولطالما كنت أتمنى لو كان والدي مثله، والدي الذي ظل يعتبر نفسه مُحايداً أو حتى غير معني بكل مل يتم في مخيمنا أو خارجه، وأكثر ما فعله في حياته هو الدعاء على “اليهود” والدعاء لأمة المسلمين، كنوع من الهروب من المسؤولية، لكن الله وكأنه لا يريد الإستماع له أو لمن لا “يعقل ويتوكل”.

تردادي المتكرر لاقى استغراب الكثيرين من سكان الشارع، بما في ذلك أبناؤه، لكن أولاده سرعان ما استحسنوا الأمر، وصاروا يأتون لي بكأس شاي أو فنجان من القهوة كلما وقعت قدماي في المكان، وسرعان ما تحول وجودي لعادة أو شئ مألوف فيما تلى ذلك من أيام…

قلت له في مجالساتي المتتالية له، أشياء يعرفها أفضل مما أعرفها، وأشياء ربما لم يسمعها أو يعرفها منذ فترة مرضه أو إغترابه هذا الذي لم يخرج منه، وكان جل هدفي أن أحدثه، أن أرى منه كلمة أو إشارة أو حركة، قلت:    ـ منذ زمن قسّموا القضية، بعد أن رموا بنا خلف العصر ووراء التاريخ، فكان التاريخ العثماني وبال علينا، فبعد محاولات تتريكنا وسلب خيرات بلادنا، سلخوا لهم جزءاً من أرضنا، وأعطوا الباقي “لسايكس وبيكو”،وسرعان ما صار “بلفور” يوزع بلادنا كوطن قومي لللآخرين…

وسكت قليلاً، ثم أضفت:

وها هم أنفسهم، العثمانيون، مع ورثة “سايكس وبيكو” يدمرون بلادنا لتقسيمها واقتسامها، ليجعلوا من أحفاد “بلفور” البلد الأكبر والأقوى والأكثر تماسكاً، وربما الأكبر عدداً كما الأكثر عدة، أتتخيل لو استطاعوا تقسيمنا بين مذاهب وطوائف ماذا كان يمكن أن يحل بنا؟ستكون أكبر دولة أصغر من كيان بني صهيون!!!                             ولم يكن ليتطلع إلي في أي يوم، ورغم كل ما سمعته عنه وعرفته، إلاّ أنني بقيت أنظر له على أنه من الجيل الثائر وليس الجيل المهزوم، وهذا ما يميزه عن والدي الذي ما زال يدعو الله دون نتيجة، دون أن يكل أو يمل، وفي يوم آخر قلت له:

ـ ما زال “الأتراك” لديهم معسكرات “لداعش والنصرة”، يتدربون فيها على فنون قتلنا وتذبيحنا في الشوارع، بقيادة ضباط من “أصحاب الوطن القومي” والأمريكان والأتراك وآل سعود، لذلك عندما احتجزت لهم داعش فريقهم الدبلوماسي في الموصل، أطلقوا سراحهم دون أن يمسوا منهم أحداً “حفظاً للجميل”، تسع وأربعون دبلوماسياً لم يُجرح أو يهان أو يوبخ أو يقتل أحد منهم…. أتتخيل مدى العلاقات…

في كل ترددي ظل موضوع الغزو التركي ومحاولته تقسيم أوطاننا، ما يشغل بالي وما أقوله وأكرره على مسمعه، وصرت كمن يتحدث إلى نفسه دون أن يتلقى جواباً، لكنني أنا الذي ظل والدي يلقبني ب”العجول” على مدار حياتي، كنت طويل البال، وأتحدث مع أبي حاتم وكأنني أتحدث مع إنسان كامل الإنسانية وليس مع رجل تحوّل إلى صنم أو تمثال، رجل تحول اللحم والدم فيه إلى حجارة وصخور، وكنت أجلس بالساعات أحياناً ولا أكف عن الحديث، وقلت في يوم آخر:

ـ “السلطان العثماني الجديد”، يرفض أن يقترب أحد من حدوده، يعتبره مُهَدِدَاً لأمنه القومي، لكنه يتدخل في بلادنا، ويطالب صراحة بإسترجاع ما سلبته دولته العثمانية، يريد حلب والموصل وسنجار وكركوك ودابق وإعزاز، وبكل صفاقة يتدخل بمن يحق له في بلادنا محاربة الإرهاب ومَنْ غير المسموح له بذلك، وبعد أن إنهمكت جيوش سوريا والعراق في حربيهما، صار يرسل الدواعش بطائراته لكركوك ليعيقوا تقدم الجيش العراقي ويبعث بضباطه لتلعفر والموصل ليحاربوا بأنفسهم هناك، وليفتحوا الطريق للدواعش ليهربوا الى الرقة السورية عبر أراضيه، ويفعل كل هذا مُدعياً محاربة الإرهاب.

سكت حينئذٍ قليلاً ثم تابعت شارحاً كي لا أكف عن الكلام، وقلت:

ـ ها هو قد أدخل قواته لجرابلس ودابق، في الشمال السوري، دون أن تُطلق ولو رصاصة واحدة بينه وبين الدواعش، ليس هذا فحسب بل كل ما في الأمر أن الدواعش غيروا أعلامهم بأعلام “الجيش السوري الحر” التابع للأتراك، فصار الأتراك محاربين للإرهاب!!! أتتخيل كيف يمكن أن تستقيم الأمور؟ أن يكون جيشاً سورياً وحراً وهو تابع للأتراك والأمريكان، ويتدرب على يدهم ويد آل سعود وبني صهيون!!! والأمرّ من كل ذلك وأدهى أن هذا “السلطان العثماني الجديد”، يقود دولة علمانية، لكنه يريدنا أن نقتسم إلى طوائف ومذاهب وأديان!!! وهو نفسه، حامل لواء السلطنة والخلافة والإسلام،  أمر أخيراً محاكم بلاده بإسقاط ملاحقتها للصهاينة المجرمين الذين قتلوا أبناء شعبه التركي في سفينة مرمرة!!!!

ظل الأمر على حاله مع أبي حاتم، وبقيت أشرح له، أو الأصح أنقل له آخر الأخبار والتطورات في سوريا والعراق، وآخر أخبار اليمن السعيد الذي يحاول آل سعود أن يحرقوا سعادته، ودور الإخوان المسلمين المتواطئ مع السلطان العثماني، ودورهم في استجلاب كل حثالات البشر لقتل شعبنا العربي ومحاولة تقسيمه في غير مكان، تماماً كما فعلوا بإرسال أبنائنا لحرب الروس في أفغانستان لمصلحة الأمريكان، في قضية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وها أنت ترى أفغانستان بعد عشرات السنين من حكمهم الإسلامي، كإحدى أوائل الدول الفاشلة في العالم، بعد أن كانت على أبواب الحضارة والتقدم، هؤلاء الإخوان أنفسهم لم يستجلبوا ولو فرداً واحداً لمحاربة الإحتلال منذ سبعين عاماً، وحاربوا كل من حاول محاربته وتحالفوا مع من صادقه…

وقدمت له خلاصة الأمر على لسان موشيه آرنس أحد وزراء حرب كيان إسرائيل، وأحد أكبر باحثيه الإستراتيجيين، والذي أكد أخيراً، “أن كيانه فشل في الرهان على تنظيم القاعدة وداعش، لتحقيق ما عجز عنه جيشهم في ضرب المقاومة عام ألفين وستة”، ولم أكن أنتظر أي رد كعادتي، وقبل أن أقوم، وضعت ركبته في باطن يدي، وقلت:

ـ سآتي بعد يومين لأراك، يوم الجمعة يا أبا حاتم…                                                                           وأنا الذي لم أُناده ولا مرة حتى الآن بلقبه هذا، وجدت سيلاً من الدمع يأخذ له مجرى في أخاديد وجهه، أخاديد كان الزمن وسنوات عمره قد تآمرا عليه وخطوهما مثل سكة حراث في أرض بور، دمع متدفق وكأنه نبع قد تفجر لتوه واندلق، ولم يئن أو يتلوى أو يتألم أبو حاتم هذا، أو على الأقل لم أشعر أنا بذلك، وتفادياً للحرج، قمت وخرجت وتركته في مكانه وكأنه تمثال، بقدرة قادر، ينزف دموعاً لا تتوقف، تسير في أخاديدها مثل جدول…

كان حينها الوقت وقت غروب، تتمايل الشمس فيه متثاقلة نحو المبيت، كطفل يقاوم النوم ولا يستطيع رده، جلست على كنبة في صالون بيتي، وفتحت التلفاز دون أن أسمع ما يقول، وكنت ما زلت أفكر في دمعات ذلك الرجل العجوز المنهارة من إرتفاع عينيه إلى ما تحت ذقنه شبه الحليق، وكأنها تريد الإنتحار ولم تستطع، فظلت معلقة في أطراف ذقنه، تتراخى أيديها، غير قادرة على الثبات ولا على الإنهيار، فلا ذقنه شبه الحليق أمتصها، ولا تراخت يديها لدرجة الإنهيار، لكنه سرعان ما إحتضنها بباطن يده، وكأنه يريد أن يخفي جرماً قد إقترفه.

كانت الظلمة قد بدأت تفرد أجنحتها فوق المنزل والمخيم، وربما فوق المدينة نفسها، عندما تسلل إلى أذني صوت طرق هامس على باب بيتي، طرق متراتب هادئ، كأن الطارق يخاف أن يجرح حديد الباب، لكن لرجل سياسي مثلي، عرفت أن القادم أحد رفاقي الذي أراد أن لا يلفت الإنتباه إليه، وقدرت أن في الأمر شيء جلل، وبهدوء قمت وفتحت باب بيتي، لكن المفاجأة جاءتني حادة قاطعة كنصل سكين واضح لا لبس فيه، لقد كان أبو حاتم واقف على بابي متلفتاً ميمنة وميسرة، كأنه يقوم بعمل سري لا يريد أن يلفت الإنتباه إليه، كما في الخوالي من الأيام، رحبت به وأدخلته وأجلسته مكاني وجلست مقابله، وقبل أن أبدأ بالحديث كعادتي قال هو هذه المرة:

ـ ظننت أن من المفيد أن لا أنتظر ليوم الجمعة كي نلتقي، فبعض القضايا لا تحتمل التأجيل ويوم الجمعة ما زال بعيداً، ومن هم في مثل سني لا ضمانة عندهم ليعيشوا أبعد من يومهم، فما بالك بأيام حتى يجيء يوم الجمعة…

فقلت:

ـ خير يا عمي أبا حاتم…أُأْمرني…

فقال:

ـ عليك الذهاب إلى سوريا…

قلت:

ـ لكنني كما تعلم ممنوع من السفر، لكن لماذا؟

سكت قليلاً وكأنه يفكر في حل لهذا اللغز وقال:

ـ إذن إبعث من تثق به لهناك، إبعثه للقيادة السورية ليقل لهم وعلى لساني أنا أبو حاتم المهدي، الذي كان له ماض مشرف، أن لا يثقوا يوماً لا بالسلطان العثماني ولا بالإخوان المسلمين، فالغدر من شيمهما، بل هو ما يميزهما…

وقام من مكانه متوجهاً إلى الباب، وغادر قائلاً:

ـ اللهم اشهد فإني قد بلّغت… سأذهب حتى تستطيع تدبير أمورك بسرعة…

وغادر، وبقيت وحدي، وفكرت في كلماته، وكنت كلما فكرت في الأمر وبأي إتجاهٍ، وجدتني أصل لنفس خلاصته، فالغدر من شيم هؤلاء الناس، كانت الإنتهازية والتجارة بالدين والكذب والنفاق من ميزاتهم، ونادراً ما تجد مبدئياً واحداً في هذه الأوساط، وفكرت بأن القيادة السورية وبعد تجربتها الطويلة الدامية معهم، لا بد أنها توصلت لنفس خلاصة أبو حاتم المهدي…

إنتظرت يوم الجمعة بفارغ الصبر، وما أن إبتدأت الشمس تشق لنفسها طريقاً فوق الغيوم، بين نجوم السماء المتخفية في متاهات الدروب هروباً من عيني النهار، حتى وجدتني أحتضن كرسياً من القش وأتوجه مباشرة إلى الطريق، حيث أبو حاتم يجلس كالعادة على كرسيه، إقتربت منه حاملاً ابتسامتي فوق شفتي، وما أن جلست حتى نظر نحوي وبيده كوباً من الشاي على غير العادة، هززت له رأسي بالإيجاب وكأنني نفذت نصيحته، رأيت محاولة ابتسامة نصر تحاول الولادة المُيسرة من تحت شاربيه، لم يقل أبو حاتم المهدي شيئاً، ولم ينبس ببنت شفة، لكنه نظر إليّ طويلاً ثم ناولني كوب شايه لأشربه.

محمد النجار

عبيد آل سعود يشترون لهم سيِّداً

لم أجد أفضل من التلفاز لأجالسه في ذلك اليوم، ولك أن تعرف مدى الألم الذي كان يحيط بي، وأنا، من عادتي مجالسة التلفاز في الأيام العصيبة فقط، ربما كي لا أفكر بأشيائي، بهمومي ومشاغل رأسي، وربما للهروب منها مختبئاً في تفاهات التلفاز من مسلسلات وأفلام وأكاذيب وتلفيقات على مدار الساعة. ولا أدري لأي سبب فتحت على قناة إخبارية على غير عادتي، فعادة ما أتخفى خلف الأفلام والمسلسلات، لكن ماذا دهاني وغير عاداتي في ذلك اليوم، فأنا لم أعد أعلم أو أتذكّر.

كان غضبي في ذلك اليوم منصباً على آل سعود، هؤلاء القوم الذي ما تختفي فضيحة من فضائحهم، وتكاد تنتهي روائحها النتنة، حتى تفوح من جديد، بشكل وطريقة تزكم الأنوف، فضيحة أو فضائح جديدة أو متجددة، فأعود أغضب وأشتم وأتساءل عن عمق النذالة فيهم، وكيفية إحتواء أجسادهم تلك، كل هذا القدر من الذل والمهانة والخصي والتأزم والأمراض النفسية والجهل والتخلف، بطريقة لن تجدها مجتمعة أبداً عند سواهم، لأتأكد من جديد أنني أمام حالة مريض ميؤوس منه، لا شفاء له، ولا مكان لطهارته، وما زال أمامي وأمامك وقتاً، وإن كان ليس طويلاً، حتى يموت ونستطيع دفنه، وعندها فقط تصير رائحة نذالته وعفونته من الماضي، وتأخذ تتبخر في البعيد من الأيام.

طرق بابي ودخل الحاج أبو إبراهيم كعادته في معظم الأيام، فحرمني من وحدتي، وقطع للحظات تواصلي مع التلفاز، وما أن جلس في مكانه المعتاد على الكنبة نفسها، حتى كانت تلك المحطة تعيد لقاءها مع سفير آل سعود في الأمم المتحدة، يرد فيه على سؤال صحفي يسأله:

ـ ” لماذا ما تزال دولتكم تقصف دولة اليمن؟”

فيجيب السفير “الذكي النجيب”:

ـ”إنني أشبه قصف بلادي لليمن بالرجل الذي يضرب زوجته”

ويضحك “سعادته”، يضحك طويلاً، ربما لأنه يَشْتَمّ رائحة دماء اليمنيين بين يديه، من نساء وأطفال وشيوخ، فهو كما قادته تثيرهم وتغريهم وترسم البسمة، بل الضحكة، فوق شفاههم، الدماء، وكلما كانت طاهرة زكية، كلّما أثارتهم أكثر وأكثر، لكن سعادة السفير لا يعرف أو يعلم، وربما، على الأرجح، لا يفهم، أنه لا يوجد في الكون رجلاً “مخصياً” أكثر من رجل يضرب إمرأة، فما بالك بزوجته كما يفعل ويفعلون، وأن من يلجأ لضرب الزوجة، إنما يعبر عن خمول ذهني وجفاف فكري وانحطاط بشري، وهو في كل الأحوال إنما يُعبر عن نقص في الرجولة، الرجولة بمعناها الإنساني بالطبع، فأن تفيض رجولك لضرب زوجك بدلا من الميدان ليس من الرجولة في شي،لأن هذه الثقافة، أينما وُجدت فهي بالأساس ثقافة الجهل والتخلف وإغلاق الأفق والعقل، يعني وبإختصار ثقافة بول البعير.

هكذا علّقت على المشهد الذي أمامي على غير عادتي، مثل مثقف حفظ شيئاً، من كتاب، عن ظهر قلب وصار يردده، وتابعت دون تعليق من الحاج أبو إبراهيم، بعد أن صرت أتوجه بالكلام إليه وكأنني أخاطبه:

ـ وهذه العادة المتوارثة لدى آل سعود، يحاولون توريثها بشتى السبل لكامل حدود المملكة وخارجها أيضاً، ولطالما أظهرت، عادتهم هذه، مدى خصي هذه القيادات البائسة، المريضة نفسياً، المتخلفة، والمتعجرفة المغرورة في الوقت نفسه، فهذه القيادات التي تقصف اليمن بكل جنون العنجهية والغرور، محاولة تقسيمه إلى طوائف ومذاهب وقبائل وأقاليم، رغم التداخل والتزاوج والتسامح بين كل الأ،طياف، هي مَنْ دعمت حثالات الأرض وجمعتهم في سوريا، وعملت جاهدة على تكريس الفتنة في العراق بين مكوناته الطائفية والمذهبية، وقدمت كل الدعم العسكري والمالي ل”سنته”، هي نفسها التي تحارب “سنة” فلسطين وتعرقل مشروعهم الكفاحي، وتعمل جاهدة لتفرض عليهم تسويات تقتل مشروعهم الوطني بكامله، لكنها وفي نفس الوقت تتبرع لرجل “السلم” نتنياهو بثمانين مليون من الدولارات لتساعده في النجاح في الإنتخابات، وتتبرع لكيانه بمائة مليون لبناء الملاجئ التي تحميهم من حرائق الغابات اليوم، ومن صواريخ حزب الله في حرب قادمة، وتدعم “التكاثر” السكاني للمستوطنات ببضعة مئات من الملايين!!!

قال الحاج أبو إبراهيم مُعلقاً، داخلاً كعادته، في صلب الموضوع دون مقدمات، وبدعاباته المعهودة:

ـ لا لا لا، لا تظلم القوم يا أبا علي، يقول البعض أن ذلك تم بالخطأ، تماماً كأخطاء  قيادات “بني أمريكا”، الذين قصفوا الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي والجيش السوري وقتلوا مئات المدنيين بدل أن يقصفوا الدواعش والقاعدة عن طريق الخطأ، وفقط عن طريق الخطأ، وآل سعود أخطأوا أيضاً ظانين أن كل مساعداتهم تلك تذهب الى غزة، لكنها وبقدرة قادر ذهبت في إتجاه غير الإتجاه، وفي نهاية الأمر “جل من لا يُخطئ” يارجل….صححني إن كنت مُخطئاً.

وتابع وقد بدأ يلف سيجارة من علبته المعدنية قائلاً:

ـ كل شيء كان على ما يرام، عندما كان “الجبير” يتصدر شاشات التلفاز!!! لكنهم يبدو أنهم أضاعوه وأضاعوا البوصلة من بعده، فلم يعودوا يتحدثون عن ضرورة “مغادرة الأسد” بالقوة إن لم يغادر بالسياسة، ولم يعودوا يهددوا مصالح روسيا أو رشوتها بعرضهم عليها مائة مليار مقابل التخلي عن سوريا… إن شيئاً ما قد حصل منذ إختفاء الرجل، اللهم اجعل العواقب سليمة، تُرى أتعرف كيف اختفى أو أين ولماذا؟!!!

وأمام وجومي وبلاهتي، وعدم سرعة بديهتي وإدراكي لمزاحه وعبثه، وفي نفس الوقت توهاني بين حروف كلماته دون أن أعلم ماذا يريد بنقلي هذه النقلة، وما علاقة “الجبير” بما أقول، أكمل حتى دون أن ينظر باتجاهي:

ـ على كل حال “حجة الغائب معه”، لكنني سمعت أنهم سيرسلون منادياً يبحث عنه في عمق الصحراء منادياً قائلاً: “ياسامعين الصوت صلّوا على محمد، مَنْ رأى منكن “الجبير” أو من يُشبهه، حياً، ميتاً، أو ما بين بين، عليه ابلاغ السلطات وله “نصفه”، أو بدل “الحسنة” أضعافها”، عملة ورقية أمريكية، واضحة الترقيم جديدة الأوراق لمّاعة، من البنك المركزي تسير الى جيوب الرابح، كزرافات عاريات مختالات، والله على ما نقول شهيد…

وابتسمت رغم امتعاضي وعدم فهمي في أول الأمر، فكلمات الحاج عادة ما تُشعرني بالغبطة والسرور، لكنه المذيع من جديد، وكأنه لا يريدني إلا غاضباً، أو كأنه لا يوجد في الكون سوى آل سعود، فابتدأ في الوصف والتحليل، وكان يُلخص ما قاله:

ـ بعد انتخاب “ترامب”، و”عداؤه” لآل سعود، كونه يريدهم أن يدفعوا أكثر، استجلب هؤلاء رئيسة وزراء بريطانيا لإجتماع مجلس التعاون الخليجي، وعقدوا معها صفقات أسلحة بالمليارات، لتحمي عروشهم، ليسعيضوا عمّن ضربهم بحذاه، وعقدوا معها صفقات تدريب وتعليم لجيشهم…

فقلت معلقاً وكأنني أتحدث مع التلفاز:

ماذا سيعلمونهم؟ على رأي المثل” علّم في المتبلم يُصبح ناسي”، أليس هذا الجيش من يُطالب بالدبابات المُكيَّفة؟!!! أليسوا هؤلاء من يهرب من وجه حفاة اليمن في نجران وعسير وجيزان؟

لكن المذيع لم يتوقف، وعلق الحاج أبو ابراهيم من جديد:

ـ يبدو أنهم يريدون حليفاً جديداً، لأن رئيس أمريكا المنتخب يُلوح لهم بعصاته… لكن ياتُرى أين إختفى الجبير؟!!! منذ فترة طويلة لم نرَ وجهه السمح على شاشات التلفاز.

قلت، ونظرت إلى تقاسيم وجهه العابس، ورأيته يُحاول الأمساك بإبتسامة تتفلت من تحت شاربيه:

ـ كلا ياحاج، كلا، هؤلاء ما تعودوا أن يكونوا حلفاء لأحد، هؤلاء توابع، عبيد، وبعد أن تم تجميد أموالهم من سيدهم الأمريكي، من خلال قانون “جاستا”، صاروا يبحثون عن سيد جديد لهم، دافعين “ما فوقهم وما تحتهم” ليجدوه، فهؤلاء مهما حاولوا التطاول يظلوا مجرد أقزام، ومهما حاولوا التسيد يبقوا عبيداً، لكن ليس أي نوع من العبيد، إنهم من ذلك النوع الذي لا يرى نفسه إلا عبداً، لا يعرف ولا يقبل أن يكون حراً، فبعد طردهم من تحت العباءة الأمريكية مسلوبة ثروتهم، لم يحتجوا أو يُجادلوا أو يغضبوا لفقدان تلك الثروة، بل على فقدان سيدهم، وسرعان ما صاروا يبحثون عن سيد آخر، وبحذاء ثقيل أيضاً، فاهتدوا إلى الحليف المؤسس لمملكتهم، بريطانيا العظمى، دافعين ما تبقى في مملكتهم الظلامية من زيت وغاز، مشترين سيداً جديداً ليتملكهم…أرأيت أكثر من هذا الذل ذلاً!!!

فقال الحاج أبو إبراهيم، وقد ابتلع كومة من الدخان من ذيل سيجارته، وصار ينفثها في الهواء مغيراً من نوع الهواء وتماسكه:

ـ نعم صدقت، إنهم يريدون شراء سيداً جديداً، لكن ليس هذا ما يشغل بالي، إنما أين ذهب الجبير؟ ألم تره هنا أو هناك؟

قفزت ابتسامة من بين شفتي دون رغبة مني، ووجدتني أضحك وتسيل دمعات عيني، وقلت من بين ضحكاتي:

ـ قاتلك الله يا رجل… مالك وما للجبير، أنا أتكلم عن العبيد وليس عن عبيد العبيد!!!

فقال دون أن يغير من طريقة جلوسه، وما زال ينفث الدخان من بين شفتيه:

ـ نعم، إنني أفهم ما تقول، لكن كل الأمر يعتمد على هذا الغلام…إنه غلام الملك الحالي والقادم، لماذا تستخف به ولا تعرف مقدار حجمه؟!!!

قلت بعد أن توقفت عن الضحك:

ـ هذا غلام الملك، و”مشعل” يتمنى أن يكون من حريم “السلطان العثماني”، ما الذي يجري في هذا الزمن؟ ما لي أراهم يميلون نحو “التخنيث”؟ “أيبسطهم” الأمر إلى هذا الحد؟ أم أن الأمر لا يعدو عن صيغة منحطة من صيغ التزلف والتملق وتقبيل الأقدام؟!!!

فقال الحاج معترضاً:

ـ أرأيت؟ عندما لا تعرف أقدار الناس تصل إلى ما وصلت إليه، تدخل في التفاصيل وتبتعد عن الجوهر، ما الذي لا يعجبك في هذا الغلام الأجرد الأحلس الأملس الأعزب؟

فقلت مجارياً الحاج فيما يريد، رغم أن أشد ما يغيظني فيه، أنه يتحكم في ضحكاته، حتى تخاله في قمة جديته، فلا تعد تعرف إن كان جاداً أم هزلاً:

ـ وما هو هذا الجوهر ياحاج؟

فقال بسرعة بديهته وسرعتها:

الجوهر أن على هذا “الغلام” تتوقف مصائر دول ومصائر شعوب، في يده الحرب والسلم والحل والربط… تسأل وكأنك تجهل الأمر، أتستطيع أن تخبرني كيف سنعرف مصير “الرئيس الأسد” إن ظل الجبير مُختفياً؟!!!

وأطلقت ضحكة من جديد، وبدأت إبتسامة الحاج تتفلت من بين شفتيه وتتسع، وتخرج مع دخان سيجارته واضحة ساطعة رغم كثافة الدخان…قلت:

ـ صحيح صحيح، “نسيت أن البعوضة تُدمي مقلة الأسد” ، فكيف إن كانت تلك البعوضة بحجم غلام كالجبير؟!!!   فقال وقد أخذ يستحضر ما تختزنه ذاكرته من أشعار:

ترى الرجل النحيف فتزدريه       وفي أثوابه أسد هصور

فقلت وقد كدت أعانق المصطبة من شدة الضحكات:

ـ آه… نعم…لا تنسى “الأسد” الآخر، وزير خارجية الشيخة موزة “حماها الله”، فكلاهما كاسر مفترس…              فقال الحاج معترضاً:

ـ لا يا أبا علي، هذا من مشيخة “النعاج” حسب فلسفة رئيس وزرائه واعترافه.                                          فقلت موضحاً بدوري:

ـ نعم صدقت، ولك أن تتخيل أن هذه “النعاج” تتطاول على “الأسود”!!!مشيخة موزة تتدخل في سوريا والعراق وليبيا ومصر وتونس، تقسم السودان لقسمين!!! فعلاً المشكلة أن مثل هؤلاء هم من يقودون المرحلة، وبيدهم يتم تدمير الأوطان، مجموعة من “التُفّه” يتحكمون بوطن كامل من المحيط الى الخليج، بترابه وشعبه وخيراته… أتصدق ذلك؟!!!

وتناقشنا وضحكنا ووقفنا أمام تساؤلات الحاج ابو إبراهيم، عن سر غياب الجبير كل هذه المدة، التي ظل يحقق فيها الجيش السوري والجيش والحشد الشعبي العراقيين، وجيش اليمن ولجانه الشعبية، إنتصاراتهم المتتالية،  وتساءلنا إن كان يعتقد جهلاء آل سعود أنهم بتغييبه إنما يُغطون إنتصارات شعوبنا …

محمد النجار

ما بين حلب وجنين

لم أكن أظن يوماً أو أتوقع، أن يهوي بصوته الخشن على رأسي، وأنا في هذا العمق من النوم، ذلك النوم الذي ينقلك من عالم إلى عالم آخر، من عالم العمل والتعب إلى عامل الراحة والخمول، هوى بصوته فوق رأسي، وأنا على فراشٍ من نومٍ ناعم هادئ، أسبح في بحر عميق من ريش نعام، أتمسك بأطراف أحلام تناورني متمسكة بأطراف ثوبي متفلتة، تدخل رأسي كسحابات غيم صيفية هادئة، بيضاء كنتف من ثمرات قطن نضجن فجأة وتطايرن مع هبوب نسمات هواء قاسية، وصرن يتلاعبن فوق موجات النسيم، في فجر يوم صيفي هادئ، ترك حبات نداه تتساقط على أوراق شجيراتها، قال:

ـ قم أيها الكسول… أما زلت نائماً؟ وهل ينام أحد في مثل هذا اليوم؟

وأنا الذي طالت وتطاولت أذناي، فركت عيني بباطن يدي، وأخذت أتطلع وأرى كيف تنساب كلماته في أذنيّ، متدفقة سلسة هادئة مثل نبع، فترى أذناي كلماته وتقرأهن وتفهمهن، وعيناي لا يستطعن أن يتحررن بعد من جفون أطبقت عليهما منذ ليل أمس، مشددة الحصار فوقهما مطبقة عليهما سلاسل النوم التي لم أستطع فكاكهما بعد، نعم لقد كنت أرى بأذنيّ، ف “الأذن ترى مثل العين أحياناً”، وأحياناً أفضل منها بكثير… وكرر إعادة كلماته:

ـ هل هناك من ينام في مثل هذه الأوقات؟ ألا تعرف ماذا أضعت بعد؟ أما زلت نائماً؟ هيا يارجل هيا…

أسندت ظهري على روسية السرير، أخذت أفتح عيني رويداً رويداً، لأرى بهما بجانب أذناي، ونظرت نحوه، وصرت أرى شفتاه تتقلص وتتمدد، وتطلق الكلمات وكأنها ترمي بأوراق ورد، وتطلق الضحكات التي لم تنته:

ـ لقد أنتصرنا يارجل… انتصرنا…

قال وهو ينتظر أن أفتح عيني، وأنا الذي لم أتحرر من بقايا النعاس كله كادت أن تربكني الكلمات، فسألت مثل الأبله:

ـ إنتصرنا؟!!! أين ؟!!! كيف؟!!! على من؟!!! أتحررت فلسطين؟!!! أغادر الصهاينة؟!!!

فقال واثقاً:

ـ نعم… غادر جيش الصهاينة لكن من حلب، وهذا أول الغيث…

قلت بعد أن عدت إلى ارتخائي السابق:

ـ يارجل إعتفدت أنك تتحدث عن فلسطين…

ففال وكأنه يرى الأمور بعينين تختلف عن عيني:

ـ وهل ما جرى ويجري إلّا بسبب فلسطين؟ كان المشروع كله من أجل تقسبم المنطقة إلى دويلات هشة طائفية متقاتلة بشكل دائم، وتسيد الصهاينة وتهويد فلسطين بعد طرد ما تبقى من عرب فيها، ما يجعل شعوبنا عبيداً في مشروع موت طويل لقرون قادمة، وهذا يعني ذبول فلسطين وجفاف ورقتها لتسقط ميتة إلى غير رجعة، وكل ذلك بأيدي حثالات بشرية ارتضت قياداتها أن تكون جيشاً أمريكياً اسرائيلياً رجعياً، باسم الدين، وبدمنا نحن أولا وقبل كل شيء، ثم بيدي مسلمين آخرين مضللين أو مشترين أو جهلة أميين، وهل أجهل ممن يقتل بيدية أناساً أبرياء ويترك عدو المنطقة بأسرها دون أن يطلق علية ولو طلقة واحدة ولو عن طريق الخطأ؟!!!

كان يعرف أنني ضد كل الحرب القائمة في المنطقة، ولكنني ضد تفسيره المرتبط بقضية فلسطين، كما بأسباب أخرى أقل أهمية بالنسبة لي، مثل قضية خطوط أنابيب الغاز القطرية البديلة عن الخطوط الروسية، وما تحوي بحور المنطقة وأراضيها من خيرات… قلت:

ـ أما زلت تبالغ؟ وما علاقة فلسطين في كل ما يجري؟

فقال وكأنه يعرف ما أريد قوله:

ـ إتجاه البوصلة يا عزيزي، إنه إتجاه البوصلة، البوصلة التي لا تشير إلى فلسطين هي مشبوهة وجب كسرها، فما بالك عندما تكون فلسطين الخاسر الأكبر واسرائيل الرابح الأكبر من كل ذلك؟ أم تعتقد أن الصهاينة عالجوا جرحى هذه الحثالات البشرية في مشافيهم دون مقابل؟ ومشاركة ضباطهم مع الأمريكان والأتراك وعبيد أمريكا “آل سعود ومشيخة موزة” لسواد أعين الإسلام والمسلمين؟ أم قصفهم المتتالي للجيش السوري لتمهيد الطريق أمامهم لمهاجمتة كانت لوجه الله؟ منذ اللحظة التي رأينا دعم أمريكا لهم، ورفع وتبني شعاراتهم الطائفية في منطقتنا المليئة بالطوائف والمذاهب المتعايشة المتفاهمة عبر آلاف السنين، كان علينا أن نتساءل مَنْ هؤلاء وماذا يريدون؟ أمريكا والدول الغربية كلها، تؤكد دولة المواطنة وتحاسب أي كان إذا أخل بذلك مهما كانت طائفته أو دينه، لكنها تثير كل ما يخطر ببال شياطين الأرض من أمراض الطائفية عندنا، وتضع لنا الدساتير الطائفية والعشائرية، وتمنعنا وبالقوة من بناء دولة المواطنة، ألا يثير ذلك تساؤلات عندك؟ رئيس أمريكا يأسف لخروج البعض من الإتحاد الأوروبي، مختلف القوميات متعددها، متعدد اللغات، ويعتبر أن وحدته من أعظم انجازات القرن، لكنه يريد تفتيت بلادنا التي تحوي قوميات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة أغلبيتها الساحقة قوميتنا العربية ذات اللغة الواحدة والهموم المشتركة والعادات والتقاليد الواحدة؟ ألا يثير الأمر الشكوك عندك؟

سكت قليلاً وكأنه أراد لملمة أفكاره المبعثرة، وتابع:

ـ ثم كيف لثورة وثوار أن يدمروا مخيماتنا ويُهجروا أهلنا ولمصلحة مَنْ؟ كيف لها أن تستجدي كيان الإحتلال لمساعدتها متبرعة له بالجولان المحتل ثمناً وبالصداقة الدائمة تكملة لهذا الثمن؟، كيف لها أن تتغاضى عن غزو العثماني الجديد لبلادها وتساعده في ذلك؟ متنازلة له عن حلب والموصل وكركوك وشريط حدودي على طوال الحدود مع بلاده، ومنطقة لحماية الجولان المحتل؟ بل وتدعوه والكيان لمساعدتهم مقابل التنازل عن نصف سوريا؟ والمشكلة أن لا إحتجاج من دويلات عربية أو غربية، ولا حتى من الأخوان المسلمين أو من “حماس”في بلادنا!!! التي يبدو أنها تبيع الأمة كلها، مقابل مصالح الإخوان المرتبطة منذ النشأة بالإستعمار…

كنت قد قمت من سريري، غليت فنجانين من القهوة لمّا لم أجد زوجتي، قدمت له أحداها  وأخذت أرتشف شيئاً من الفنجان الذي أمامي، قبل أن أرشق وجهي بحفنة ماء، عندما دخلت زوجتي بعد عودتها من شراء خضار لطبخة اليوم من دكان أبو سليم في وسط المخيم، وكما علمت أنها أدخلته ليوقظني مع مغادرتها للبيت، فقالت معقبة على كلماته التي سمعتها لتوها:

ـ أفهمه أرجوك، لأنه لم بفهم بعد كل هذا الدم وهذا الدمار… لو كان النظام كما يدّعون، كيف له أن يصمد أمام معظم شعبه وجيشه وكل تلك القوى الشريرة، كل هذه السنين؟ ثم والأهم من هذا، أي مصلحة لنا في كل ما يجري؟ فكيف لثورة أن تقتل أبناءها بغض النظر عن ماهية طائفتهم؟كيف لها أن تدمر أولاً وقبل كل شيء منظومة الدفاع الجوي لبلادها، ولمصلحة مَنْ، وبماذا يخدم ذلك الثورة وتوجهاتها؟ كيف لها أن تقتل علماءها وأسانذة جامعاتها؟ كيف لها أن تُدمر تراثها وتاريخها وتسرقه وتبيعه في بلدان العالم وخاصة للصهاينة؟ كيف لها أن تسرق ثروات بلادها من نفط وغيره وتصدرها عبر السلطان العثماني للصهاينة؟

وقبل أن يختطف الكلمات منها قالت مُضيفة:

ـ إن أردت تبسبط الأمر، فبإمكانك التساؤل الذي يُعد من الأبجديات، هل هناك ثورة في التاريخ دعمتها أم تدعمها قوى  معادية للثورة؟ وبالتالي لو كان ما يجري في سوريا ثورة، أكانت تدعمها أمريكا ودول الغرب الإستعماري وإسرائيل وأعتى الرجعيات العربية، حتى لو تحزموا بكل ديانات السماء؟!!!أي ثورة هذه التي تجعل من الأطفال والنساء ضحيتها الأولى والمرتزقة أداتها؟أي ثورة تجعل من المرأة والوطن ضحاياها فتحجز وتحبس نصف المجتمع وتقنعه وتبرقعه ولا ترى فيه إلا متعة وشهوانية حيوانية مريضة، وتلغي إنسانيته، وتدمر الوطن تدميراً ممنهجا مدروساً بدولته ومؤسساساته وبنيته التحتية، وتحول بشره إلى طوائف ممزقة متحاربة تائهة ضائعة؟                 قالت مالديها وخرجت وكأنها جاءت خصيصاً لأجل ذلك، وتابع هو من جديد:

ـ سترى أن ما قبل حلب ليس كما ما بعده، هذا الزلزال الذي حاول الغرب شيطنة الدولة السورية وحلفائها كي لا يتم، قد تم وأنجز رغم أنفهم جميعاً، هذا كان ورقتهم الأخيرة في زعزعة سوريا وتفتيت شعبها وتوزيعه على بقاع العالم وتقسيم أراضيها، الأكيد أن الحرب العالمية هذه على بلادنا لم تنته بعد، وسنرى فصولاً جديدة منها، لكن الأكيد أيضاً أن مشروعهم قد بدأ يتهاوى وتتساقط جدرانه، سيحاولون استنزاف الوطن، كي يُصعبوا نهوضنا من جديد، لكننا سننهض وسنجعل مما جرى بروفة الإنتصار الكبير في اليمن والعراق وفلسطين، وسيكون البداية في تحقيق وحدة بلادنا وأمتنا كلها.

سكت قليلاً وقال وكأنه تذكر شيئا، وقال:

ـ كي تستطيع التمييز بين المرتزقة المنبوذين شعبياً، والمناضلين المدعومين من شعبهم، سأعطيك مقارنة بسيطة بين معركتين، معركة هؤلاء في حلب الشرقية، ومعركة مخيم جنين، حيث كان في مخيم جنين مائتي مقاتل فلسطيني من كافة أذرع المقاومة، في مساحة كيلو متر مربع واحد، وهؤلاء في أقل التقديرات عشرة آلاف مقاتل، يعني خمسون ضعف مناضلوا المخيم، بمساحة أرض تساوي ست وأربعين ضعف مساحة المخيم، ولدى هؤلاء مؤونة مُخزنة”حرموا السكان منها”، ومخازن أسلحة من صواريخ ومدافع وقنابل ومتفجرات وألغام وأموال منقولة، ودبابات ومدرعات وسيارات رباعية الدفع ورشاشات ثقيلة، ما يكفيهم للقتال خمس سنوات كاملة في أكثر التقديرات تواضعاً، ومناضلوا مخيم جنين لم يمتلكوا سوى البنادق محدودة الطلقات وبعض العبوات الناسفة محلية الصنع، وصمد مخيم جنين مدة خمسة عشر يوماً وهؤلاء لم يصمدوا أحد عشر يوماً!!! وكانت اسرائيل قد استخدمت في حربها على المخيم أربعمائة دبابة، عشر أضعاف ما استخدمه الجيش السوري، ومائة وخمس وعشرين جرافة يعني سبع أضعاف ما استخدمه الجيش السوري، وخمسون طائرة يعني مثل ما استخدمه الجيش الروسي والسوري معاً، وخمسة آلاف جندي صهيوني، يعني خمس وعشرين ضعفاً لعدد المقاومين، حين استخدم الجيش السوري أربعة أضعاف عدد تلك الحثالات… والنتيجة أمامك واضحة، بين المناضل وبين المرتزق، ففي المخيم لم يستسلم أحداً كما فعل هؤلاء، ورغم تدمير المخيم بالكامل من منازل ومساجد وحوائط ومراحيض، على رؤوس سكانه، بشكل جدي حقيقي وليس دعائي كما في حالة حلب، ولم نسمع صراخ أمريكا والدول الغربية واسرائيل المتباكية على “الحالات الإنسانية”، ولم تفعله في جرائم “اسرائيل” في لبنان وغزة وكامل فلسطين، كما لم تفعل وتتألم على حصار العراق وقتل ما يزيد على مليون طفل عراقي، ولا على شعب اليمن الذي يموت منه طفلاً كل عشر دقائق حسب مؤسساتهم، دون حساب الشهداء من المدنيين نتائج قصفهم وقصف حلفائهم بالقنابل العنقودية والأسلحة المحرمة دولياً كما تفعل الآن، ألا يثير الأمر استهجانك أو استغرابك؟ ألا تتساءل لماذا لا يطالبون بفك حصار ثوار “القاعدة وداعش” عن المدن التي تحاصرها منذ سنوات، كما في داريا والفوعة ودير الزور والحسكة والقنيطرة وغيرها الكثير؟ وكيف لأشد الناس عداءً وإستغلالاً للبشر أن يكونوا بهذه الإنسانية مع هؤلاء “الثوار”؟ ألأنهم ثوار فعلاً، أم كونهم جيشهم غير المعلن لتفتيتنا وتقسيم أوطاننا لتحقيق مصالحهم؟ ألم يستغلونهم أنفسهم لمحاربة السوفييت لخدمة أغراضهم دون أن يخسروا مالاً ولا بشراً؟ تماماً كما وظفوا “ثوار الكونتراس” ضد الشعب النيكاراغوي بعد انتصار ثورته الساندينية وباسم الدين المسيحي؟

قم يارجل ، انفض عن رأسك غبار النوم، قم لنحتفل، لننشر الخبر لمن لم يسمعه مثلك بعد، فوالله ورغم كل هذا التدمير الذي تراه، أننا سنعيد بناه بأيدينا، وسيكون لنا هذا الخراب درساً، وأنه ومهما بنينا وارتقينا وعملنا، فلن يكون لنا مستقبل على هذه الأرض مادام هذا السرطان في بلادنا، ومادام آل سعود يتربعون حول جدار الكعبة.

قمت، طردت النعاس والكسل وبواقي النعاس بحمام ماء ساخن، وتساءلت مع نفسي إن كان هذا “درسنا في التخريب” لرد “فوضاهم الخلاقة” التي أرادوها لبلادنا؟ وسرعان ما تذكرت قول الشاعر الكبير مظفر النواب محقاً عندما أنشد قائلاً ” هذي الأمة يجب أن تأخذ درساً في التخريب”…

محمد النجار

“ديموقراطية” السيد الرئيس

كنا عائدَين من جنازة الشهيد أيمن، متجهيَن لبيتينا المتجاورين في طرف القرية الشرقي، قبل أن نعود، في المساء، للمشاركة بأخذ العزاء، ففي قريتنا، الجميع يتبنى الشهداء، فالشهيد إبن القرية جميعها، من رجال ونساء وأشجار وجبال ووديان، يتزاحم الجميع فيها لأخذ العزاء، محاولين مجاورة أهله وذويه، متنازعين في دعوتهم، لطعام الغداء أو العشاء. كنا نترحم على روح الشهيد، نتذكر مواصفاته الشجاعة، مقداميته وشجاعته، رغم أننا لم نكن نعرف الكثير عنه، فالجيل غبر الجيل، فهو في أول سني شبابه، ونحن فارقنا شبابنا بالأمس القريب أو البعيد، يعتمد الأمر كيف ينظر كل منا على يوم أمس.

كنت أتفادى الرجوع معه، فهو لا يحب المشي في طريق “مستقيم”، فبدلاً من السير فوق الطريق الأسفلتي المتمدد مثل أفعى أكملت لتوها إبتلاع دابة دفعة واحدة، ومازالت تتقلص وتتمدد عضلات جسدها، فهو يسحبك بجانبه من طرق جبلية، بين الحجارة و”النتش” والزعتر البري وشجيرات الميرمية، متعربشاً السلاسل الحجرية مثل قط بري، كما لو كان في مقتبل العمر وليس في خواتيمه، متوقفاً بين أغصان الزيتون وكأنه يراها للمرة الأولى، مُزيلاً بأنامله الخشنة ما جف من وُريقات أو أغصان رفيعة، كانت ما تزال متعلقة بأطراف أمها، مستمعاً لتغاريد “حسون” جميل تنساب في الأذن نحو الدم مباشرة، لتجعلك في حالة جاهزة للدبكة والعتابا والميجنا والرقصات الشعبية، متسلقاً من جديد السلاسل الحجرية مُتقافزاً فوقها، كطائر الدوري، بقفزات قصيرة واثقة، يبتسم من تحت شاربيه، ويقول:

ـ ما الشباب إلّا شباب القلب…

ولم تكن كلماته تلك مجرد شعار فارغ، مثلما يطلقها من كلمات “شيخ عجوز” على مشارف الموت، خصاه الزمن أو العمر أو عدم تمسكه بمواقف الرجال، وصار يُطلق شعارات فارغة كاذبة، فارشاً أرضاً لزواج مُقبل مع فتاة بعمر إبنته أو أقل قليلاً، بل كان يمارس شعاره هذا على أرض الواقع، في كافة نواحي الحياة، وفي هذا الزمن، من النادر أن ترى من يمارس شعاراته في الواقع وأرضه، لتكون محراثاً يترك آثاره في الرؤوس والقلوب، من يلتزم بكلماته ويمارسها عملياً في الحياة، بنفسه وعلى نفسه أولاً وقبل كل شيء. وكان هو، أبو أحمد الصادق، صادقاً مثل إسمه، وفياً وشهماً، تراه في كل يوم، يمارس “شباب قلبه”، فيلاحق جفاف الأشجار فوق الصخور، في بطون الجبال، يزرع شتلات الزيتون في مساحات الأرض الجرداء، “يُقنب” و”يرقع” ويفلح ويقلع ويزرع الحياة، فيُلبس الأرض رداءً يتزايد إخضراراً يوماً بعد آخر، وفي هذا الزمن، الوفاء والرجولة والصدق أصبحت عند المخصيين تهمة، فكان أن تنصل منها الكثيرون، لكن ليس أبو أحمد الصادق، الذي لم يتنازل قيد أنملة عن هذه الصفات التي تؤدي إلى التهلكة في زمن الردة هذا، وكثيراً ما كنت تراه يُجالس الأرض يتحدث معها، يداعب الأشجار، ينصت إليها ويهدهدها، حتى تخاله مجنوناً أو فقد عقله، أرأيت كثيراً من الناس يتحدث للأرض والأشجار ويفهمها وتفهمه؟!!!وكان يظل يؤكد أن الأرض والإنسان كلاً واحدا متكاملاً، لا تستطيع فصلهما أو التعامل معهما كإثنين منفصلين، وإن فعلت فأنت جاهل بهموم الأرض، بأخلاقها وطبعها وطبيعتها، وعليك التعلم لمعرفة صفاتها ومواصفاتها وإلا فإنك لا تستحق ركوبها ولا التظلل تحت ظلال أشجارها.

ظل أبو أحمد الصادق يزرع ويفلح ويسقي ويُعشّب الأرض، ولم تمر ولو سنة واحدة دون أن يزرع شتلات الخضار او الفاكهة الموسمية، التي أكل منها كل من رغب من سكان القرية، وكما كان يتعامل مع الأرض في الحقل يتعامل مع الإنسان، ومع أترابه من فلاحي الحقول، كلمته لم تكن يوماً تقبل القسمة على أكثر من واحد، كلمة واحدة لا تُجامل أو تتغير في قول الحق أو تأييده والوقوف معه وبجانبه، مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك، كلمات لا تخلو من السخرية اللاذعة التي تبدو أنها تُقزم الحدث، لكنها تلاحقك وتظل تدور في شعاب رأسك وطرقاته، فتُدوره وتُشغّله وتحرك خلاياه، لتكتشف أنها مارد من كلمات قاسية، يجبرك أن تصير فاعلاً حتى لو كنت كتلة من صخر، الأمر الذي خلق له مشاكل غير قليلة مع الكثيرين في مراحل حياته المتلاحقة، لكنها، في ذات الوقت، رسخت وثبتت في أعماق البشر جميعاً مصداقية رجل لا تُنازع، ممن عارضوه أو أيدوه، وصار إسمه “الصادق” يطلق عليه كصفة دالة عليه دون غيره.

الطريق من بين أشجار الزيتون، طريق جبلي أكل منا ثلاثة أضعاف الزمن الذي يأكله الطريق الإسفلتي السهل، لكنه الزمن الذي نملكه كلنا في القرية، ولا يُنازعنا أحد فيه وعليه، زمن يتساقط عن أجسادنا كحبات العرق، لكنه يأخذ غير مجراه مع أبو أحمد الصادق، فيتحول إلى زمن مُحبب للنفس سرعان ما ينفذ دون أن تدري، ودون أن تحس به، كان يُزيل بعض أوراق جافة عن أحد الغصون، يزيلها واحدة واحدة بكلتا يديه، خوفاً من أن يجرح الغصن أو يُعرّي أطرافه ويزيد آلامه، فترى أبو أحمد الصادق يتألم بآلامه، وكأنه تقطع أحد أصابعه،قلت:

ـ أرأيت يا أبا أحمد، كيف توصل العلماء إلى إمكانية الإنجاب دون إمرأة؟!!!

لا أدري ما الذي ذكرني بالأمر، لكنني ربما قلته من باب فتح موضوع للحوار، فقال أبو أحمد ساخراً في أول الأمر:

ـ أتقصد علماء المسلمين؟ بارك الله فيهم من علماء…

ضحكت بدوري بصوت يكاد يكون مرتفعاً، وقلت:

ـ نعم، بارك الله بهم، لكن ليكفونا شرهم فقط!!!

فقال بدوره:

ـ لا تخف عليهم، سيجدون له فتوى في البخاري، وربما أتحفونا بفتاوى ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، أو سيجدون لنا شيئاً لدى القرضاوي أو العريفي أو أي من “علماء” مملكة آل سعود “طال عمرهم”، وذلك أضعف الإيمان…

وسكتنا، وتقدمنا ببطء، وظل هو يبحث بعينيه الضيقتين عن ما يزعج الأشجار، بتأني وروية ودقة، ثم قلت:

ـ ألم تلاحظ أن المحتل يمنع رفع الآذان في مآذن قدسنا، ولا تسمع منهم أيما إعتراض؟

فقال مؤكداً ذاهباً أبعد مما ذهبت إليه:

ـ لا إعتراض منهم ولا من حكامهم أيضاً، فأنت ترى بأم عينك “أمير المؤمنين” العثماني، لم يعترض، بل كافأ بني صهيون، فزاد، مثل حكامنا، من علاقاته الإستراتيجية مع الكيان!!! منظمة اليونسكو تقر وتجزم بإسلامية القدس وأن لا مكان لليهود فيها، وهو يؤكد لصحف بني صهيون أنها مدينة لكل الأديان، يهدي مدننا كما يشاء دون إعتراض أو همسة عتاب لا من “سلطتنا” ولا من “علماء سُنتنا”، قادة تيار الدين السياسي من “إخوان مسلمين” وغيرهم….

قلت مازحاً:

ـ لا تبالغ يا أبا أحمد، أعط كل ذي حق حقه يارجل، ها هي السلطة تكتشف أن “إسرائيل” تتحدى المجتمع الدولي برفضها المبادرة الفرنسية!!!

عاد أبو أحمد الصادق لسخريته وقال:

ـ يا عزة الله!!! أتقول الصدق؟ أإكتشفوا الأمر بهذه السرعة؟ إكتشفوه بعد مرور سبعين عاماً فقط ،إكتشفوا أنها تتحدى المجتمع الدولي ولا تقيم له وزناً؟ لقد طمأنتني بأنهم بالكثير بعد ثلاثة أو أربعة قرون سيكتشفون أن مفاوضاتهم معهم ليست أكثر من “ولا تؤاخذني” “ظراط عَ البلاط”، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه…

وعقب وكأنه مع نفسه:

ـ وكأن في المبادرة الفرنسيةشيئاً يفيد شعبنا!!!

وسرعان ما إلتقط أبو أحمد بضعة صرارات من حول ساق شتلة زيتون ما زال طرياً، لم يقو عوده بعد ليواجه قسوة الطبيعة، وضعها ركيزة تحت حجارة سلسلة حجرية قريبة، وسألني كأنه يرجمني بحجر:

ـ ما رأيك بديقراطية السيد الرئيس؟

لم يبتسم أي منا رغم كوميدية المشهد، لأنه لم يكن سوى “كوميديا سوداء” كما يقول المثقفون، قلت:

ـ ديمقراطية التحكم بالقرار السياسي وصندوق المال!!! ألم ترَ قوة “مخالي” التِبْن والعلف في مؤتمر السيد الرئيس؟!!! أهؤلاء من كانوا حتى الأمس القريب يحملون البندقية؟!!! لقد إنتقاهم سيادته”على المفرزة”، انتقاهم واحداً واحداً مثل “بعرة الجمل المنتقاة” كما يقول قدماؤنا، مَنْ صعب على الرئيس إبعاده تكفل المحتل بذلك، إعتقالاً أو مَنعاً من الوصول… أرأيت كيف يُسحّجون ويهتفون؟ بمجرد أن يُخرج الرئيس…يُسحجون!!!

قاطعني وسأل مُستغرباً مُستهجناً ساخراً:

ـ ماذا قلت؟ كلما يُخرج الرئيس؟!!!

ـ نعم، كلما يُخرج بضع كلمات من فمه، يزداد التصفيق والتسحيج… وغلّابة!!!

قلت قبل أن يأخذ يقود من جديد دفة الحوار، فقال:

ـ شكراً أنك أوضحت ماذا أخرج الرئيس من فمه، لأنني كدت أفهمك بشكل خاطئ، لكنني أظن أنهم ما زالوا يحملون البندقية، لكنهم غيروا أهدافها فقط، غيروا إتجاهها، صارت، كبنادق الآخرين من مشيخات وممالك ورئاسات، تُطلق للخلف، تغير نوعها من “بندقية عز وفخر” الى بندقية ّذل وإذلال وهوان”، ألم تتساءل يوماً كيف لبندقية سلمها لك المحتل أن يكون إتجاه رصاصاتها؟!!! و”غلّابة” التي يقصدون صحيحة، لكن غلاّبة على مَنْ؟  هذا هو السؤال؟

ثم تابع حديثه، وما زال ينظر إلى الأشجار وكأنه يراها للمرة الأولى، أو لا يراها أبداً:

ـ ألم تر “ديمقراطيته” عندما ابتدأ مؤتمره بتثبيت نفسه رئيساً؟ رئيساً دون سؤال أو محاسبة أو تقييم لما أوصلنا إليه، دون حتى مجرد نقد، رئيس دون برنامج عمل أو حتى خطوط عريضة، فقط بأن المفاوضات خيار استراتيجي، يعني أبقانا عُراة أمامهم أكثر مما كنا، أتتخيل أن يكون مثل هذا الرجل عاملاً مشتركاً للجميع؟ يعني هو “وجه البُكسة” كما يُقال، أتتخيل كيف يفخر بكونه هو مَنْ وقع “أوسلو”؟وكأنه جاء لنا بتحرير الأرض؟ أتستطيع أن تتخيل إلى أي حضيض وإنحطاط وصلنا؟ وتراه يقف بكل صلافة و”عنجهية” متحدياً أن يكون تنازل عن الثوابت الفلسطينية!!! فتقسيم المحتل من لما أُحتِل منذ العام سبع وستين ين غزة وضفة، ودوره وحصته بذلك، من الثوابت الفلسطينية، وتقزيم الوطن إلى 18% والحبل على الجرّار من الثوابت الفلسطينية، كما ورفضه شخصياً حق العودة، ووثيقة عبد ربه ـ بيلين التي تمت بإشرافه من الثوابت الفلسطينية، والمفاوضات العبثية المفتوحة على احتمالات التفريط والتنازل عن كل شيء من الثوابت الوطنية، وتجهيز جيش الحراسة الفلسطيني، على مدار الساعة، لدولة بني صهيون من الثوابت الفلسطينية، والوقوف على أبواب الحرب الأهلية الفلسطينية من الثوابت الفلسطينية، وتقسيم مدن الضفة وقراها ومخيماتها إلى “غيتوات” هو من لب الثوابت الفلسطينية، وتراخيه وهوانه أمام بناء المستوطنات من الثوابت الفلسطينية، وربط إقتصادنا الوطني بإقتصاد الإحتلال من الثوابت الفلسطينية، فتح السجون والتنسيق الأمني مع الإحتلال لقتل واعتقال ما تبقى من رجال هو من الثوابت الفلسطينية… والنجاح الأبرز في مؤتمر السيد الرئيس، أنه عمل لعزل أي قائد رفضه المحتل وأبقى له من أراد، من باب “المجاملة” وليس الخضوع كما يتوهم الكثيرون …

داعب غصن شجرة براحة يده، كأنه يمررها على رأس طفل ليُهدئ بعض آلامه، وأكمل دون أن يلتفت إليّ:

ـ  ديمقراطية الرجل تشمل كل ما سبق، كما تشمل كل ما فعله من أجل “إنهاء” ظاهرة الإفساد والمفسدين داخل سلطته وقيادته!! كما “التخلص” من كل العملاء الذين أورثهم لنا الإحتلال، و”الإصلاح” اليومي والمتتالي داخل أجهزة منظمة التحرير ومؤسساتها،  و”الإلتزام” الصارم بمقررات المجلس المركزي الفلسطيني بحذافيرها، الأمر الذي أكد جماعية القيادة وعدم فرديتها والتزامها بالهم الوطني الجمعي، وليس بالمصالح الفردية الأنانية، كما ولم يترك شهيداً إلا وزار أهله وواساهم، ولا أسيراً إلا وعمل على تحريره، ولم يترك مؤسسة دولية إلا وطرق بابها ليحاكم جزاري الإحتلال، ولم يشارك بجنازات قادة الإحتلال ولم يرسل من يواسيهم، ولم يقمع تظاهرة ولم يعتدي على صاحب رأي أو فكرة، ولم يورث مالاً لأبنائه وأحفاده سوى ما زاد من معاشه الشهري، ولم يُحول السلطة ومرابحها إلى مؤسسة خاصة له ثم له ثم له ثم لحاشيته، وبالتالي لم يكن الشعب هو الخاسر الأبرز والوحيد في هذه السلطة، وطبق على نفسه أولاً ثم على الحاشية الكريمة ثانياً قانون “من أين لك هذا؟”، الأمر الذي جعل “قضاة” “المحكمة الدستورية” رعاهم الله، يكلفونه بكل ثقة بأن يُقيل أي عضو في المجلس التشريعي إن خالف أمره أو إحتج على سياساته!!! يعني لا يهم أن الشعب الذي إختار ذلك العضو، فسلطة الرئيس فوق الشعب وسلطته، وهل يصح أن يكون للشعب سلطة بوجود الرئيس؟!!!وبالتالي من حق الشعب أن ينتخب مَنْ يريد، لكن من حق الرئيس أن يُقيل من يريد أيضاً، أرأيت الديمقراطية التي يتمتع بها؟ أسمعته، ولو مرة واحدة، يقول أن الشعب لا يحق له الإنتخاب أو التظاهر أو لا يحق له حرية التعبير لا سمح الله ولا قدّر؟ بالطبع لا، لكن الشعب يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الرئيس، فمن حق الرئيس أيضاً أن يعتقل المتظاهر وأن يسجن المناضل أو حتى يقتله، ومن حقه قمع الأصوات “الشواذ”التي لا تروقه….

قطعت عليه حبل أفكاره المتسلسل، وقفت في وسط الطريق، أمسكته من ذراعه، قلت:

ـ كفى أرجوك، كفى هداك الله، أتعتقدني بليد إلى درجة أستطيع أن أسمع كل ذلك وأبقى صامتاً؟!!! كفى يارجل، فوالله ورغم معرفتي بكل ما تقول وأكثر، إلا أنني لا أستطيع أن أسمع المزيد… لقدجعل منا هو وأمثاله قطيعاً من الأغنام، ويعاملنا بنفس طريقة القطيع، ألم ترهم كيف يتصرفون، كلما أكل القطيع شيئاً من التبن والعلف كلما تساقط في الحوض غيرها من الفتات، وهؤلاء، كلما ارتفع حجم التسحيج وتعالت أصوات الهتاف الباصمة، كلما فتح لهم الرئيس المعلف لتنزل حبات الشعير، ألم ترهم شاخصي العيون فاغري الأفواه مشرئبي الأعناق، تُبح حناجرهم تُسحج أكفهم منتظرين أن تُعلق مخالي الشعير في رقابهم؟ وكلما ارتفع الهتاف وعلا التسحيج كلما اقتربت من أعناقهم المخالي أكثر؟والطامة الكبرى أنهم ما زالوا يتغنون بالوطنية والشموخ الوطني، وهم لا يخرجون عن أهداف المحتل قيد أنملة… …كفى يا أبا أحمد الصادق…كل مرة أقسم أن لا آتي معك من هذا الطريق، وأن لا أرافقك، كيلا تذكرني بمخازينا وعهر قادتنا، لكنني سرعان ما أنقض وعدي لنفسي وأفعل العكس، وكأن تسلق هذه الطرق الوعرة تَسْهُل بمرافقتك، وكأن حفيف أوراق أشجار الزيتون تدق في رأسي مثل قرع الأجراس، فتجدني أتبعك مثل حمل صغير يتبع أمه، كفى يارجل،  لنكف عن الكلام ولنذهب لأخذ العزاء بالشهيد، فيبدو أن ما في هذا الوطن من شهداء، ما به من أنين جرحى، ونهر الأسرى الذي مازال يتدفق كنبع الماء الطاهر من أعلى الجبل، هي الشيء الوحيد الصادق الذي ظل يحمي هذا الوطن…

محمد النجار