الخبّاز

الحكاية تكالب عليها المخصيون وعشرات السنين سيدي القاضي، ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، ورغم ذلك لم تشخ ولم تمت، ظلت حية إلى يومنا هذا، وهذا هو المهم في الأمر كله، والله وحده يعرف إلى متى ستعيش. لكن المؤكد أنها ستظل تُجدد نفسها من تلقاء نفسها، إن قسى عليها أصحابها أو بخلوا عليها أو حتى تقاعسوا عن نسج حكاياها من جديد، دون أن يُعيدوا لها تاريخها الذي توقف منذ ذلك التاريخ.

قيل عنها الكثير سيدي القاضي ومازال، قيل أنها ثابتة ثبات أشجار التين والزيتون، تمتد جذورها عميقاً في أمعاء الأرض، تتشابكان وتتحدان في لحن رياني مثير، راسخة رسوخ الجبال لا تتنازل عن مكانها التي منحته لها الجغرافيا وخصها التاريخ به، لا تبدله أو تغيره، وتحافظ على كل ما لها من رمل وحجر وبشر وأشجار، تحتضنهم حتى لو كانوا جثثاً هامدة، تضمهم في أعماقها ليكون لثمار التين معنى بعد أن تزرع فيه عصارتهم وتمنح روحه طعم الشهد.

كان جدي في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر، يُعمّر الفرن وسيجارة الهيشي المقتلعة من “تتن” الحاكورة تتدلى من بين شفتيه، ويداه تُذري كوماً من الجفت كما تذريان في الخلاء زهور القمح، يدخله الفرن ويضعه فوق بواقي الجمر الذي غفا في ليلته الماضية مخلفاً بعض رماد دون أن يتنازل عن جمراته، فيتحول  كل “الجفت”إلى جمر أحمر يبث حرارته في الأرجاء كلها، ناثراً عبق الزيتون في كل رغيف خبز يدخل بين أحضانه ليتحمص قليلاً. ولما يتعب في آخر النهار يصعد فوق الفرن محتضناً الجفت متمرغاً في حرارته التي طالما شبهها بحرارة حضن جدتي، يرتاح فوقه ساعة أو بضع ساعة، متدثراً بالدفء الذي ينفثه كوم “الجفت” في الهواء المشبع بزيت الزيتون، لكنه يظل معظم الوقت يخبز للقرية كلها دون أجر نقدي، لكن أهل قريتنا لا يأكلون حق أحد، كانوا يعوضونه بالبيض والدجاج والفواكه والخضار، رغم أننا كنا نملك منها الكثير.

كانت حكاياته لا تنقطع ولا تنتهي، والمرحوم والدي يتشرب الصنعة والحكايات منه كما الإسفنجة تتشرب الماء، ويجعل من كل شيء داخل ذاكرته حكاية، من تجاربه المتراكمة هناك في دولاب الذاكرة، من قصص الناس وتجارب القرية يصنع الحكمة، وأبي يُخزن تلك الحكايات ويستلهم الحِكَم ليتلوها علي فيما بعد، كما تتلو آيات من الذكر الحكيم، فصرت أشعر أن جذوري تمتد عميقاً في باطن الأرض لتعانق جذور التاريخ هناك، وتناغي الفرن الذي بناه جدي في تلك القرية التي تكاد تلتقطها العين من الجنوب اللبناني، بناه بيديه وبمساعدة طفيفة من إخوته الكبار، فأنا في ذلك الوقت لم أكن موجوداً، لم أُخلق بعد، جئت بعد أن إقتلعونا من جذورنا من قريتنا في الشمال، أين ومتى وكيف، يمكنني الجزم أنني مثل الكثيرين الذين جاؤوا وحسب، لا يهم كيف ولا أين، المهم انهم جاؤوا بجذور مقطعة وأوصال ممزقة، والله وحده يعلم كيف استطاعوا شبك جذورهم من جديد رغم طول المسافة ومرور الزمن.

منذ ذلك الزمن صرنا لاجئين، وبنى والدي فرنه في مخيم عين الحلوه في لبنان، وصار يعجن ويخبز ويطعم المخيم كله، وفي المساء يجلس في ركن من أركان غرفتنا يعاتب الرب أحياناً ويستعطفه أحياناً أخرى، وكنت أحس دمعاته وأنا في فرشتي، دون أن أملك الجرأة عن الإفصاح عن سهر حاسة السمع عندي إلى تلك الساعة، لكن الأكيد أن الله لم يستمع له في كل تلك السنين.

كان محترفاً إلى حد الذهول، يُلاعب العجين على أصابعه مثل “الجني”، لا تكاد ترى حركة أصابعه، وفي مرات كثيرة كان يحذف بالرغيف في زاوية الفرن البعيدة دون حاجة للمزلاج، لكنه لم ينسَ يوماً ذكرياته في قرية الشجرة التي هجّروه منها ، مُنتزعينه من وسط كرم الدوالي وأشجارالتين والزيتون، لذلك ظلت قرية الشجرة في رأسه ولم تفارقه يوماً، وكلما تقادم الزمن كلما زادت شموخاً في رأسه، كالنبيذ المعتق سيدي القاضي، وزادت أقاصيصه لي عنها، وصارت أمنيته أن يختطف حزمة ضوء  من سمائها بين جفنيه قبل أن يموت، لكنه بعد زمن مات دون أن يختطف تلك الحزمة التي تمنى أو أراد.

وصرت أنا الخبَّاز الجديد سيدي القاضي، كنت أعمل في مكان أبي، في مخيم عين الحلوه قبل أن أنتقل مع القادمين الجدد الى هذه الأرض، التي إعتقدتها ستوصلني لاحقاً إلى قرية الشجرة، قريتي وقرية والدي وجدي الذي لم يسعفهما الزمن ولم تساعدهما القوة في أن يقطفا من حقول سمائها ضمة ورد من ضياء ويموتان. ماتا قبل أن يريا قريتنا، قرية الشجرة، لعلك سمعت بها سيدي؟!!!

ـ ماذا ؟ لم تسمع بها، ليس مهماً على أي حال، إنها هناك في الشمال، أبعد من صفد التي تخلى عنها سيادته وسيادتهم، قالوا أنها لا تهمهم، ومن لا تهمه صفد وحيفا ويافا أتعتقد أنه يمكن أن تهمه قرية الشجرة؟ “مجنون يحكي وعاقل يستمع” سيدي القاضي.

كنت أقف طوال نهاري على قدميّ دون “آه” واحدة، دون ملل أو ضجر، أو حتى حالة تأفف، لأنني ببساطة شديدة كنت أحب عملي، هل قلت كنتُ؟ لا بل ومازلت أحبه، فأنا في متاهات تفاصيله منذ الصغر، لم أترك كبيرة أم صغيرة دون أن أتعلمها حين كنت مساعداً للمرحوم والدي، وبقيت كذلك حتى غيبه الموت وأنا ما أزال طفلاً.

لن تصدق أبداً أنه مات جوعاً والخبز بين يديه، قالوا فقر دم وقالوا هزالاً وقالوا “أنيميا”، لكن النتيجة واحدة وهي نتاج الجوع، أتصدق أن خبازا يموت جوعاً؟ مات هناك مكانه في الحفرة المقابلة للفرن تماماً، تكوم على نفسه ولفظ بقية أنفاسه فارغ الجفنين رغم أن كل ما أراده حزمة ضوء يشم منها تاريخاً حاولوا سلبه، معتقدين أن الأكاذيب يمكن أن تصنع لهم تاريخاً، ما أسخفهم، وهل يُصنع التاريخ بالأكاذيب؟!!!.

كان رحمه الله خبازاً محترفاً سيدي القاضي، لم يترك رغيفاً واحداً طوال حياته يحترق، فبالنسبة إليه الرغيف المحروق وصمة عار في جبين خبّازه لن تُمحى أبداً، لأنك إن صنعت شيئاً عليك أن تصنعه جيداً أو أن تختفي خلف جهلك وتعانق المقهى وألعاب الورق…

حاضر سيدي القاضي، سأتكلم عن نفسي فقط وأوجز، أعرف أن ليس لديك وقتاً تضيعه على أمثالي.

مات واستلمت أنا مهنته، كنت قد تعلمتها وعشقتها، حتى قبل أن أكبر وتستطيع عيناي أن ترى ما بداخل الفرن، كنت قد وضعت كرسياً في حفرة الفرن بجانب المرحوم ليزيد من طولي قليلاً، ورغم أن المرحوم كان يتعثر به إلا أنه لم ينهرني من حواف قدميه.

وكبرت، وكنت أقطع من العجين كتلة صماء فأخلق منها رغيفاً ساخناً يتطاير منه البخار فخوراً مختالاً نحو السماء، أفرش تحتها بعض حبيبات الطحين وكذلك فوقها كي أمنع محاولات إلتصاقها، أضغط الكتلة بأصابع يدي الثمانية، وأقلبها وأحملها وأناغيها وأدللها، فتنفرد أمامي وتتمدد كعاشقة عارية تنتظر حبيبها لتضمه بين أحضانها لعله يُخفف قليلاً من ألم الجوى، أُلقيها في الهواء، فتطير متضاحكة وترتفع دائرة حول نفسها مثل عروس ترقص في يوم زفافها، قبل أن تتهاوى وتنزل بين كفي، تستدير وتتمدد وتظل كما هي وكأنني رسمتها رسما على سطح ورقة، لم تُثقب ولم تتمزق يوماً ولم يختلف شكلها ولم يتعكر صفو حوافها، ثم أضعها على المزلاج الخشبي الذي أمامي رغيفاً من عجين، فأضعه بعيداً على حافة الفرن المقابلة للنار، فقربه من النار يحرقه، وبعده عنها يجففه ويسبغه بلون الموت، يجب أن يظل على مسافة مناسبة… لا ليس وسطياً سيدي، بل في مكان مناسب، فالوسطية لا تصنع رغيفاً من الخبز بمذاق جيد. ثم أبدأ بتحريكه وهو في مكانه، أجعله يدور حول نفسه كمخمور، ليبدأ يكتسي لوناً جديداً، وكم كنت أتمتع وأنا أراه ينتقخ وينتفخ ويبدأ بالإحمرار، فأحركه من جديد لتصل النار ألى كامل سطحه، ويتساوى عليه لون النار دون فروق، المساواة ضرورية حتى للخبز كي لا يكون طرفاً ناضجاً وآخر غير ناضج، ثم أخرجه قبل أن تهزمه النار ويتفجر من أحد أطرافه الضعيفة ويكون البخار مازال يتصاعد عن وجهه كما يتصاعد الدخان من مصباح علاء الدين قبل صعود الجني وتحرره منه . ولا أضع الخبز واحداً على ظهر أخيه قبل أن يبرده الهواء قليلاً، كيلا يتحول البخار الى حبيبات ماء تفسد الرغيف وتفسد أكله، ففي مهنتنا، مثل كل مهنة، هناك أسرار بدونها لن تصل لدرجة خباز محترف كما كان المرحوم والدي وقبله جدي.

وهكذا كنت، أعمل من الفجر الى آخر النهار، وكان معظم المخيم يشتري خبزه مني رغم وجود أفراناً أخرى، ترى رجاله ونساءه مصطفين ليشتروا الخبز الذي تصنعه يداي، نعم سيدي… قبل أن يُحرّموا الإختلاط ويُحرّموا المرأة جسداً وروحاً، وقبل أن تخرج الفتاوى بلفلفتها وبرقعتها وسجنها بين طناجر الطعام وعلى “فرشات” الجنس البارد، بعد أن كانت قد بدأت تقبض على البندقية.

وجاءني جنابه وقتها، نعم في يوم صيفي قائظ، وأنا في الحفرة أواجه النار، وأتصدى لجحيم الطبيعة الذي فجّر ينبوع نهر من العرق يسيل من رأسي حتى تحت خاصري، وطلب مني أن آتيه في يوم الجمعة اللاحق، حيث كان يوم عطلتي.

ذهبت لمقابلته، وسألني:

ـ كم يعطيك، أبو خليل،  مالك الفرن أجرة في الشهر؟

وقلت له بصدق المبلغ والذي لم أعد أذكره، فقال:

ـ كيف إستطعت أن تعمل عنده بعد أن قتل أباك؟

كان يريد أن يزرع الفتنة بينيوبين أبي خليل، وهي مقدمة لفتنة بين أبناء المخيم الواحد!

أنظر إليه، هاهو يضحك من خلفك سيدي القاضي، إن كنت أكذب فليقاطعني، كيف يمكن أن يكون خلفكم أنتم القضاة أيضاً؟ عقلي سيتفجر سيدي القاضي، أجده خلف القضاة وخلف الوزارات وخلف الوزراء والمؤسسات!!! بل صار بديلاً عن كل شيء سيدي القاضي، كيف يتم ذلك؟ كيق وصل تأثيره ألى كل شيء؟.

أعرف سيدي القاضي أنه ليس من شأني، لكنه مجرد فضول…قلت:

ـ مات والدي قضاء وقدراً، فالأعمار بيد الله.

قال:

ـ الأعمار بيد الله لكنه كان المتسبب.

وسكت هنيهة وكأنه يريد أن تدخل الكلمات ثنايا رأسي وتستقر فيه، وقال:

ـ لو كنت مكانك لقتلته… على كل حال ليس هذا موضوعنا، موضوعي أنني رأيت مهارتك، واستشرت القيادة التي وافقت على تسليمك فرناً تخبز به للثوار، للفدائيين، هل تقبل أن تستلم فرن الثورة وتقوده، وتترك أبا خليل، وبهذا تثأر من قاتل والدك؟

لم أعلق على جملته الأخيرة سيدي القاضي، لكنني قلت متسائلاً:

ـ فرن الثورة؟ كيف لا؟ ومن يرفض هذا الشرف؟

لم أكن أعرف أن للثورة فرنها الخاص، وأن للثوار فرنهم وخبازهم الذي يختلف عن فرن المخيم وخبازه، ولم أتردد في الإلتحاق به، فأعطيت أبا خليل مهلة ليجد عني بديلاً، والتحقت للعمل في فرن الثورة، وكان جنابه، ربنا الله، قد زاد معاشي عشرين ليرة لبنانية كاملة، ووضع بجانبي مساعداً أيضاً، لأن عملي لن يستطيع إنجازه شخص واحد أبداً، وصرت أعمل مثلما كنت أعمل هناك، لكن بزيادة طفيفة، قدر ساعة أو ساعة ونصف الساعة في اليوم الواحد، كي نستطيع أن نؤدي عملنا على أكمل وجه، ولا نترك الفدائيين يتضورون جوعاً.

جنابه لم يقصر معي أبداً، دفع أجرتي قبل أن يجف عرقي، ربنا الله، وأحياناً عندما يزيد الخبز عن أكل الفدائيين كان يُحمّلني بضعة أرغفة لبيتي دون أن يأخذ ثمنه إلا آخر الشهر، يخصم ثلاثة أرباع سعرها وليس سعرها كاملاً، لأنها تكون قد فقدت سخنوتها، أو ظلت الى اليوم التالي نائمة في مكان ما. وكونه هو في الأصل محاسباً، دخل الثورة ليضبط حساباتها، واستطاع ضبطها ولملمة تبعثرها لكن لتتوجه إلى جيبه، وكان واضحاً منذ البدء، حدد بوصلته جيداً، البوصلة هي المال العام والمكان هو جيبه كما قال الكثيرون. كان يأتي لي بفواتير يومية أوقعها عن عدد الأرغفة وسعرها… وكانت هذه الأرغفة بعدد ثابت كل يوم، وكان العدد ألف رغيف في اليوم الواحد، لم تزد يوماً ولا تقل، وأنا كنت أعتقد أنه عدّها أو على الأقل قدرها بشكل تقريبي، حتى جاء يوم واستدعاني أحد المسؤولين الكبار عن مخابز الثورة، وأراني أحد الفواتير بتوقيعي وبصمتي أيضاً، فرأيت بأم عيني أن العدد لم يكن ألفاً في أية فاتورة، بل تم تكبير الأصفار وتحريكها لتصبح أرقاما كبيرة، كان جنابه قد حركها بلمساته السحرية الخفيفة، فجعلت من الأرقام الصماء الميتة فوق الأوراق جبالاً من النقود في جيبه، ومن يستطيع أن يفعل ذلك غير محاسب محترف كان قد دخل الثورة لضبط حساباتها؟!!!

ولك أن تعد سيدي القاضي كم ألف من الأرغفة سُحبت من فم الفدائيين لتتحول للنهر المنساب  مالاً قي جيبه كل شهر، دون أن يفرد بأصابعه الناعمة حتى لو رغيفاً واحداً، ودون أن تلفحه نيران الفرن ولو ساعة واحدة، ولا حتى أن بنام ساعة واحدة في “جفت” الزيتون الذي ما زال يحتفظ لنفسه بحصة من الزيت، وحينها تذكرت كلمات المرحوم والدي ناقلاً المأثور الشعبي ” المال السايب يعلم السرقة” ليس هذا فحسب، بل هو يسرق وأنا المتهم وأنا من يُحاسب، فهل يحق لمثله أن يكون خلفكم أنتم القضاة في قضية المتهم فيها غريمه سيدي القاضي؟

ـ حاضر، “سأسد نيعي” مادام الأمر ليس شأني.

لم أعلم شيئاً عن الأمر في مخيمنا اللبناني، وأخذني بمعيته لما رحلنا إلى تونس لأتابع إطعام الفدائيين هناك، وكان قد سافر الى هناك قبل الجميع، فهو لم يكن من أنصار البندقية الفدائية سيدي الرئيس، بل من أنصار تلك البنادق التي بحوزة الأنظمة، البنادق التي تُطلق للخلف سيدي القاضي، لذلك رحل قبلنا جميعاً، وكان يتحدث كثيراً عن السياسة والدبلوماسية والتكتيك، وكان يحب كثيراً “أنصار السلام” عندهم سيدي القاضي ويلتقيهم ويأكلون اللحوم فقط دون خبز المخيم.

أنا لم أعرف شيئاً عن كل ذلك سيدي القاضي، أنا رجل بسيط إلا في فن الخبز أمام  الفرن، فأنا “داهية” ولن أكون متواضعاً ، وأبي وأنا من صححا المأثور الشعبي القائل:”فلان لا يضحك للرغيف الساخن”، بحيث جعلنا “فلاناً” يضحك له رغم أنفه، بل ويقهقه عندما يراه، لكنني فيما عدا ذلك أقر بما يقولون عني، أنني على باب الله، وأنني على نياتي، وأن القطة تأكل عشاي، لكن البعض ممن كانوا يعرفون بالأمر وشمّوا رائحته التي تزكم الأنوف، أوصلوا الأمر للقائد الكبير رحمه الله، والقائد الكبير كان يحب مثل جناب المحاسب ويُقربهم منه، لأنه كما قال بعض المخيم يستطيع أن يقودهم، بعد ذلك، كالأنعام سيدي القاضي، فبعد أن يمسك عليهم المماسك، يهز الأوراق الممسك بها عليهم أمام وجوههم الصلفاء، يشتمهم ويُهزأهم ويقل قيمتهم “بعيدا عن جنابك” وهم لا يجرؤن على الرد، بل يخرون له ساجدين، لأن جلودهم تكون قد تعودت على الشتائم ووجوههم على البصاق وضرب النعال دون أن يرف لهم جفن. وقال القائد الكبير رحمه الله لمن أوصله الخبر بلهجة مصرية:

ـ ده حرامي وشبع حجبلكوا واحد جديد يبتدي من الصفر؟ اعمل ليكو إيه؟ ده قدركم بقه.

وأبقاه محاسباً مؤتمناً كما كان، بل علّا من شأنه أيضاً لأنه زاد بصماً بحافريه كما قال الكثيرون، وأكد البعض أنه فرك له أذنه واستعجله ليعرف نتائج لقاءاته مع “مشجعي السلام ” من الطرف الآخر.

كان هذا قبل أن تنمو له مخالباً وتكبر، قبل أن ننتقل إلى هذه الأرض من حمّام الشط، وقبل أن يبدأ بمد يده إلى ما تحت يد القائد الكبير، ليرثه ويركب فوق ظهورنا نحن العامة، حيث ظل يعتبر نفسه أحد الأسباب الذي أوصلنا لما نحن فيه من هيبة وعنفوان وازدهار!!! وأننا لولاه لما كنا في مثل هذا العز الذي “نتمرغ” في خيره ونرعى كالإبل.

ـ أنا لا أستهزئ سيدي القاضي… حاضر لن أتكلم في السياسة، فهي التي أوصلتني للوقوف هذه الوقفة بين أيديكم.

بعد أن كبر وانتشر خلف كل شيء في البلاد، صار كل ريع الخبز يذهب إلى جيبه وليس الفرن الذي أعمل به فقط، ولم يعد يحاسبه أحد على ذلك، بل سمعت أنه يأخذ الكثير من الأموال من “معسكر السلام” القريب والبعيد، ولم يعد بحاجة إلى هذا الفتات، لكنه رغم ذلك أعطاه لبعض أقاربه كي لا يتسرب هذا المصدر إلى آخرين.

ـ “ما علينا” سيدي القاضي، أنا لن أتنازل عن حقي، والمخيم كله إلّا البعض القليل، كلهم يدعمني ويقف في صفي، تعرف سيدي القاضي أن المسحجين والمطبلين يتواجدون عند كل الشعوب وفي كل الأوقات، لكنني قررت أن لا يستحمرني أحد من جديد…

ـ نعم حقي سيدي القاضي، كيف لا؟ أنا لا أريد مالاً، أنا أريده أن يشرح لسيادتكم وهو الموظف من أين له كل هذه الثروة؟ ومن أين لأولاده وأحفاده كل هذه القصور والعقارات والشركات والأملاك وأنا الذي إشتغلت وتعبت وليس هو، إحسبوا دخله على مدار العمر لتعرفوا بأنفسكم أنه لو عاش مائة حياة لن يكون لديه كل هذه الأموال، التي حول إتجاهها ويتهمني بها، وأنا لا أملك كيس طحين واحد في بيتي.

ربما عمل بأشياءٍ أخرى، إحسبوها له، لكن عليه أن يُرجع ما سرقه من أموال خبز الفدائيين، وأموال خبز أهاليهم الذين كانوا يتلقون جحيم الطائرات في المخيم في كل وقت، وهو سيدي القاضي لم يكن في المخيم ولم يعش فيه يوماً واحداً، حتى أنه لم يمر فيه إلّا ليحادثني وأمثالي من البسطاء الذين يوقعون على الفواتير دون سؤال، أما ماعدا ذلك فلا شأن له بالفقراء…

إسألوه كيف إستجمع كل هذه القوة بين يديه؟ ليس بالمال وحده بالتأكيد، وليس بالتسحيج والتطبيل والتزمير فقط، فعلو النباح لا يجلب القوة ولا يُسنن النيوب ويُنمي المخالب ، إسألوه كيف أحرق كل بنادق الفدائيين الذين أطعمتهم خبزاً من صنع يدي؟ ومن الذي زوده ببنادق الأنظمة هذه التي لا يربطها رابط ببنادق المخيم.

لا أعرف لماذا لا توقفون إبتساماته المتتالية من خلف ظهوركم سيدي القاضي، أإلى هذه الدرجة فرد نفوذه وصار يمسك بكل مفاصل البلد؟

أتعرف سيدي القاضي، لو كان يتعامل معهم كما يتعامل معنا بنفس الطريقة والحدة ما كنت غضبت، لكنه هناك يستجدي ويركع ويسجد بين الأقدام، لا يجرؤ أن يرفع عينه في عيونهم وكأنهم يمسكون عليه المماسك وأوراق الإذلال، وتراه عندنا يمشي مثل طاووس، قلت طاووساً وليس نسراً سيدي القاضي، فمثله لم يكن نسراً يوماً ولن يكون، لا يعرف ولا يستطيع، فللنسور صفاتها وميزاتها التي لن تتوفر به يوماً، النسور شامخة حتى في إحتضارها، وهو ذليل حتى في عز قوته وغناه.

هذه صفات سيدي القاضي وليس قدحاً وذماً، وإن لم تصدقني ضعه أمام التجربة، أمام المواجهة مهما كانت طفيفة وبسيطة، ستجده في الهريبة “كالغزال”. كما تريد، أتعتقد أن الغريق يخاف من البلل؟ سجل تهماً جديدة إن أردت، فأنا “تحت المزراب” سيدي القاضي ولن تُخيفني أمطار الشتاء.

لا يعنيني من يكون ومن وراءه، المهم أصل الفتى، صفاته، معدنه، “سألوا الحمار من أبوك فقال خالي الحصان”، أتعتقد سيدي القاضي أن خاله الحصان كان قادراً على تغيير ماهيتة؟!!! ظل الحمار حماراً وإن إدّعى بأن الحصان خاله، ومهما “طلع أو نزل” سيظل حماراً، “حاشاك” سيدي القاضي.

لا أعرف لماذا تظل تقاطعني سيدي القاضي، فأنا إنسان بسيط وعلى “باب الله”، كلما قاطعتني نسيت ما أريد قوله، وكما ترى فلا محامي لدي يدافع عني وعن حقوقي، كما أنني سمعت أن المحامين في بلدنا لا يستطيعون “حماية مؤخراتهم”، كما أكدت أمي رحمها الله ذات يوم، وأنتم القضاة كما سمعت صرتم تحاكمون الشهداء وتقتصون من الفدائيين، أصحيح هذا أيها القاضي؟

سأقول لك سيدي إن نفيت هذه الأقاويل، إن كان ما سمعته كذباً وتشويهاً، سأقول سيدي وتاج رأسي أيضاً، وإلا فلن تكون سيدي أبداً بل وستسقط من عيني إلى تحت حذائي ولن يرفعك أحد أبداً، تماماً كمن سقط من يقف وراءك، وها هو يقدم لك أقاصيص أوراق تملؤها الكلمات.

ـ لا سيدي لن أكون خبازهم، يستطيع إكتشاف صلة قرابته معهم كما يشاء وكيفما يشاء، “أبناء عمومة” فليكن بالنسبة له، لكنهم بالنسبة لي هم قتلة أبي الحقيقيين… نعم هم، فلولا تهجيرهم لما مات أبي الخباز جائعاً تنخره الأمراض، ولما تيتمت أنا وترملت أمي، لما كنا متهمين في العالم كله وكلٌ يركلنا بقدمه، لما كنت أنا هنا أقف أمام سيادتكم في قفص الأتهام، ولما كنت وقعت على فواتير أحد لأملأ جيوبه مالاً، وكلما إمتلأت جيوبه مالاً كلما جاع الفدائيون الذين جئت خصيصاً لأطعمهم خبزي. لكنت مازلت في قريتي الشجرة، لكنت عشت حياة طبيعية بين أبي وأمي، لما مات والدي في حفرة أمام فرن في الغربة، لما جاع وبين يديه “حاكورة” البيت وزيتونات الحقل وزعتر الجبل وأرغفة الفرن التي يتماوج فوق وجوهها لون النار الذي أعطاها طعمه ، كما أنني لا أريد أن أكون “خباز السلام”، أرفض عرضكم لسحب التهمة عني مقابل ذلك، أريد أن أظل خباز الفدائيين، خباز المخيم وما يحيط به من قرى ومدن…

ـ ماذا؟ لم يعد هناك فداييون!، ليس مهماً، ما تبقّى منهم، مهما كانوا أقلة لن أتركهم يجوعون، “عاقل يتكلم ومجنون يستمع”، أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، أتستدرجني لتعرف أماكنهم؟ سيعرفون هم مكاني إن لم أعرف أنا مكانهم، سيأتون هم عندي لأطعمهم خبزي.

ـ نعم أقولها بصوتٍ عال، وبكل ثقة أيضاً، أنا لن أتركهم يموتون جوعاً، كما لن أترك مهنتي تموت وأصابع يدي يضخ إليها القلب دماً، فمهنتي مرتبطة بهم، بإشباعهم بعد أن جوّعوهم وأفقروهم وسحبوا منهم قوّتهم ورحّلوهم من المخيم إلى حمام الشط مبعدينهم عن حدود الوطن، كي لا يعودوا يشمون راحة صفد والجليل وقرية الشجرة، كي يموتون غيظاً وجوعاً وإختناقاً، نعم، لقد إختنقوا بعد أن صاروا غير قادرين عل التنفس بهواء الجليل الذي صار بعيداً.

رغم بساطتي فإنني أعرف جيداً كيف حول سعادته كل معظم مَنْ أتي بهم إلى موظفين ومسحجين ومطبلين ينتظرون “مخالي العلف” في آخر الشهر، بعد أن إقتلع نيوبهم وقصقص أجنحتهم فلم يعودوا يحسنوا فن الطيران، ومن ليس لديه أجنحة لن يستطيع التحليق ليرى القدس وعكا وطبريا ونتانيا وصفد والجليل، لن يستطيع السباحة في بحر يافا، ولن يعرف يوماً كيف تنتظرنا الناصرة وكفر قاسم عرائس بلباسها الأبيض.

أما أنا فسأجعل من العجين لآلئ من خبز، ومن الخبز أنواعاً، سأزيد من حجمه ووزنه، وسأضيف إليه “الملاتيت” وأرشها بالسكر،سأصنع لهم أقراص الزعتر والسبانخ وكافة أنواع المعجنات، وإن توافرت في جيوبي نقوداً سأشتري لهم اللحوم وأقطعها بنفسي وأصنع لهم “الصفيحة” ليستعيدوا قوتهم، المهم أن لا يجوعوا، وكما تلاحظ فالأساس هو الخبز، فبدون الخبز سيدي القاضي ما فائدة زيت الزيتون والزعتر؟ ما فائدة الميرامية وابريق الشاي؟ إنها تفقد قيمتها ولا يبقى لوجودها معنى.

أمّا أنا سأظل أعجن وأخبز لأطعم الفدائيين ولن أتنازل أبداً عن هذا الشرف، هدّد كما تريد، فلن “يقطع الرأس إلّا من ركّبها”، أعيد مجدداً أنني لن أكون خباز “السلام”، فأي سلام دون أن أعود لقريتي “الشجرة” وتعود لي، دون أن يلعب أولادي في أزقتها وطرقاتها، دون أن أزرع حكورتها وأدهن خبزي بزيت زيتونها؟!!!

أعرف أنكم جميعاً كما الدجاح “لا تتحكمون حتى في بيضاتكم”، وأن روحكم في يده، وتفتت ضميركم وتبعثر ولن تستطيعوا إسترجاعه أبداً ولا حتى لملمته.

إحكم كما تريد فلن يتذوق خبزي إلا من يستحق، الفدايون، وفقط الفدايون، إفعلوا ما تريدون، فلن تثنوني عن قراري هذا أبداً.

محمد النجار

 

هنية

عندما سمعت الزغاريد تسبح في الفضاء منطلقة من بيتنا، ويطغى عليها صوت أمي، يتعالى ويرتفع ويتبعثر حبات أرز فوق الرؤوس، أيقنت أن عرساً لأحد أبناء الجيران أو الأقارب أو بناتهما قد اكتمل، ورأيت ،لما إقتربت، حركة غريبة غير معتادة أمام باب منزلنا، وأياد توزع الحلوى أمام الباب، أدركت أن أمراً جللاً قد حصل، ولما رأيت بعض الوجوم على الوجوه وظلت زغاريد أمي تصدح وتتماوج راكبة نسمة هواء داهمت الشارع على حين غرة، وتكسرت على أبواب أذنيّ، مؤكدة أنني لا أتخيل الأمر، بل إنه أمر واقع لا جدال فيه، أيقنت صحة ما توقعت.

كنت عائداً من عملي في ذلك اليوم الصيفي الحارق، أحمل شنطة زوادتي الفارغة، وأحث الخطى في الطريق الطويل الموصل إلى منزلي، وكان الباص الذي قذف بي على رأس الشارع قد أكمل طريقه إلى المحطة الرئيسية في مركز القرية، حيث يلتف حول شجرة التين العملاقة، يستريح من تعب الطريق قليلاً ثم يعود، وأنا طالما رأيت في طول الطريق الترابي هذا، الذي يفصل بيتنا القابع في أعلى التلة عن المحطة في أسفل الوادي، “سراطاً مستقيماً” طويلاً لا يكاد ينتهي، خاصة بعد يوم عمل طويل، أستحث الخطى فيه لأصل إلى منزلي، أستظل بداليتها قبل أن تطل زوجتي “هنية” بوجهها المشرق الباسم، بيدها كأساً من الماء البارد وفي فمها بضع كلمات تعيدهن على مسمعي كل يوم، بعد أن تكون قد أنهت عملها بدورها، في نشاطها التطوعي لمحو أمية مَنْ لم يستطع “فك الخط”، من قريتنا، لهذا السبب أو ذاك.

ـ أوصلت؟!!!

ودون ان تنتظر جواباً تكمل:

ـ الله يعطيك العافية، هيا ارتح قليلاً وقم لتغسل يديك ووجهك، فأكون قد حضّرت لك الطعام.

كانت زوجتي “هنية” حاملاً في شهرها السابع، وكان خوف أمي عليها يكاد يربكني، فلم أعد أستطيع أن “أأمرها” أو أُطالبها بأيما شيء، حيث تتصدى لي أمي وكأنها حماة وليست أماً، ولطالما استفزيتها بعبارتي المتكررة عندما كانت تقف في صف “هنية”، أميل عليها، وقلبي يتدفق فرحاً، وأقول:

ـ لا تنسي يا أمي أنني أنا ابنك وليست “هنية”، خففي عني قليلاً ولو من باب صلة الدم…

وكانت تنهرني وتبتسم، وتظل على موقفها، وتقول أحياناً:

ـ عليك أن تشكر ربك صباح مساء، الذي رزقك بمثل هذه الجوهرة، فليست كل النساء نساء، فمنهن من تفوقن على الشيطان نفسه، لكن هذه المسكينة ملاك متخفي في ثوب إنسان، وها هي لم تبخل عليك فوهبتك إستمرارية الحياة؟

ويحتضن كفها بطن “هنية”، وتأخذ تحركه حركة دائرية، وأرد بدوري:

ـ أنت من وهبتني الحياة ياأمي، و”هنية” زوجتي وليست أمي.

ـ أعرف أنني من وهبتك الحياة ياولد، لكنها وهبتك إمكانية إستمراريتها، فردت أمامك بساط العمر سنوات إضافية إلى الأمام.

تسكت وكأنها عاتبة على قلة فهمي، كي لا أقول غبائي، وتكمل:

ـ الحياة، عند الكثيرين، ليست سوى كم من السنين تمضي مع الأيام وتختفي مع الزمن، تبدأ وتنتهي مثل زهرة، تبرعم وتكبر وتتفتح ثم تذبل وتموت، لكنها تحافظ على البذور لتستمر وتعيش وتنعم بالحياة أكثر، لتنشر رحيق عودها فوق غصون الأشجار، على رؤوس البشر في البيوت والحقول وتحت ظلال الدوالي، البذرة يابني التي تصنع جذراً يغوص في قلب الأرض مثل نصل الفأس الحاد، وينتزع من أحشائها غذاء الغصن والأوراق، وينفخ في الساق عنفوان إقتحام السماء، نعم الأصل هي البذور، والمهم نوع البذرة نفسها، فالبذرة الفاسدة تنغص عليك يومك تماماً كالبيضة الفاسدة، لا تستطيع التخلص من نتانتها بسهولة، أما الجيدة فهي التي ترسل أغصان شجرها مراسيلاً جميلة متهادية نحو النجوم، ألم تسمع بهذه البذور التي طالما علت برأسها نحو الشمس؟!!! فالحياة في نهاية المطاف حرب ضروس متشابكة متتالية، إن لم تحافظ على بذرتها الجيدة فقدتها مرة وإلى الأبد، ورغم ذلك هي شيء واستمراريتها شيء آخر، وإستمرارية الأشياء، دائماً وأبداً هي مَنْ تجعل لها معنى.

كنت أبتسم، أهز برأسي يميناً وشمالاً لأوهمها بعدم قناعتي ب”فلسفتها”، أغادر وأنا أقول على مسامعهما:

ـ لا عجب أن تسميك القرية بالحكيمة، فأحياناً أشعر أنني أمام فيلسوف ولست أمامك ياأمي، ولا أعرف أبسبب التعب  أم بسبب صغر عقلي وجهالته لا أفهمك أحياناً، النتيجة أنك تحرضينها علي ياأمي، من يراك يعتقد أنك لم تحبلين ولم تلدين دستة من الأطفال! ما هكذا تفعل الأمهات!!!

فترد قبل أن أدخل غرفتي المجاورة لغرفتها في بيتنا الريفي:

ـ لهذا السبب بالضبط قلت لك ما قلته، ثم مَنْ قال لك أن الأمهات لا يُخطئن أحياناً؟

وكانت تعني الأخريات وليس نفسها في هذا الأمر على وجه التحديد، وكي أكون صادقاً، فإنني لطالما إعتقدت جازماً أنه لم يجانبها الصواب، فمعظم تعليقاتي لم تكن جادة، بل من باب إستفزازها والمزاح.

“هنية” زوجتي فتاة ريفية بسيطة، مجبولة بالطيبة والعطف والحنان، ترى الحب يشع من عينيها السوداوين، نبع الحنان يتدفق جداول من كل أطرافها ليشكل نهراً يكفي القرية كلها، لم تخالف “أمراً” أو طلباً أو رجاء من أبويّ أو إخوتي حتى الصغير منهم، لا لتتزلف أو تستميل أحداً، بل هكذا هي حتى مع أهل القرية دون تمييز، فصارت بسرعة قياسية إبنة في البيت وصديقة قريبة للجميع، وصرت محسوداً على “هنية”، ولطالما سمعت أدعية العجائز على مسمعي:”الله يبارك له على هيك زوجة ويطرح له البركة”، وهي في ذات الوقت خلية نحل متكاملة، تراها تتقافز بخفة غزال وتتطاير بجمال يمامة وخفتها وسرعتها وهي تتحرك متنقلة من عمل لآخر، لم تأمر أحداً يوماً، كانت تبادر فيتبعنها أخواتي وأخوتي بكل أمور البيت، وكثيراً ما استدعنها بعض الجارات لتساعدهن في بعض الأشياء، فتترك ما بيدها وتستأذن أمي وتذهب، وسرعان ما تعود لتكمل ما كانت تقوم به، وكان يجن جنونها إن رأت أمي تجهد نفسها، فتأخذ من يدها العمل وتنهاها عن التعب، وتقول:

ـ ألا يكفي كل ما تعبت في حياتك؟ ألم يحن الوقت كي ترتاحي قليلاً؟ ألا تريننا “مصفطين مثل أباريق الجامع”؟ لا بورك فينا إن تركناك تعملين ونحن جالسين ننظر بعيوننا إلى تعبك المتواصل.

حتى حديقة المنزل كانت تسقي شجيرات الخضار فيها، لم تنس يوماً أن تفعل ذلك، لكن ظل على رأس أولوياتها، وردة الجوري الحمراء التي كانت تعتني بها أكثر من بقية الشجيرات الأخرى.

“هنية” ظلت تحب الورد والأطفال والخضرة والحياة، وأهم ما يميزها ابتسامتها التي لم تتنازل عنها يوماً، ولم تنسها مرة خلفها، ولا تعبت من حملها فوق شفتيها، بل ظلت تحملها في كل حركاتها وتنقلاتها وعملها، تفردها على صفحة وجهها منذ سويعات الصباح، فما أن تتفتح عينها مع شروق شمس الصباح حتى تتفتح ابتسامتها مع تفتح وردات الجوري التي تفرد أوراقها عرايا تحت شعاعات الشمس، بعد أن تكون قد أكملت إغتسالها في بحر من حبيبات الندى، فتنشر رحيقها حباً وسعادة وحياة في البيت كله، وتُبقي عطرها سابحاً مخيماً في مساحات البيت، تجول وتتطاير مع أبتسامة وحركات زوجتي “هنية” حتى ينام البيت كله، ولا أذكر مرة واحدة نامت فيها “هنية” قبل أن ينام البيت قبل هذا اليوم.

ما أثار فضولي أنني لم أسمع زغرودتها هي أيضاً، وأنا ما زلت أمشي صاعدا الطريق الجبلي نحو البيت، واستهجنت زغاريد أمي دون “هنية”، واستغربت أكثر عندما لم أرها تتأبط ذراعها في مثل هذا العرس، حتى أنني لم أفكر لحظة بأن أبواي لم يخبراني بزفاف أي من إخوتي أو اخواتي أو أقاربي وجيراني، فما هكذا يتزوج الشباب، ولا هكذا ترتفع رايات الأعراس في القرية، وظل عقلي سارحا في شتى الأحتمالات حتى بدأ الناس يداهمون عقلي ويغتصبون يدي قائلين:

ـ شكر الله سعيكم!!!

ورددت دون وعي:

ـ عظم الله أجركم

وكدت أسأل:

ـ بمن؟!!!

وقال بعضهم معزياً:

ـ اللي خلف ما مات.

وعلى حد علمي أنني لم “أخلف” بعد، وأنا الوحيد المتزوج من كل إخوتي وأخواتي، وأبواي كبرا على ذلك، وكنت أنتظر بفارغ الصبر جريان الأيام كي تُفرج “هنية” عما في أحشائها وتجعلني أباً.

ورغم ذلك أسكتتني كلمات الناس، كادت أن تشل قدماي للتقدم نحو البيت خطوة إضافية واحدة، وسرعان ما صرت أرى أفراد أسرتي واحداً بعد الآخر يخرجون من عتبة البيت المشرع  نحوي، تتقدمهم أمي بدموع ثلجية متجمدة ظلت واقفة في حضنيّ جفنيها عازفة على الإنزلاق، رغم زغاريد حنجرتها التي غطت الجبل والبيوت والحقول.

لم يمر على الحدث أكثر من بضع ساعات، كانت دورية لجيش الإحتلال قد إخترقت متاريس القرية الحجرية المتفرقة، حاملة ثلة من المسعربين بثياب عربية، وأقسم شباب قريتنا أن بعضهم من قوات الأمن الفلسطينية الذين ظلوا يمارسون التنسيق الأمني على الأرض، بعد أن قاموا بدور الرقابة بدلاً من جنود الإحتلال على بيت أبو علي، الذي استعصى على الإعتقال أو القتل منذ فترة مطاردته للإحتلال والسلطة، وكان أبو علي يمتاز بحدسه الأمني العالي، غادر بيته، عندما اشتمّ رائحة مكيدة تلتف حول حياته في المكان، تماماً في اللحظات الأخيرة، فغادر بيته صاعداً أعلى الجبل، واختار طريق بيتنا ليختفي عن الأنظار، ولاحقه الجنود والمستعربين وبنادقهم ومسدساتهم في أيديهم، وكان أبو علي أقرب إليهم من مسافة رصاصة في جوف مسدس، ورأتهم أمي وزوجتي هنية وقد اكتشفوا اكتشافه مؤامرتهم، وخرجن ليعطلن خطوات هؤلاء الغرباء، غرباء السلطة وغرباء الإحتلال، ليمنحن المزيد من الزمن لأبي علي للمراوغة، ولقدميه لشد الخطى والإبتعاد عن عيون سلاحهم، فاعترضتا الجنود، وأمسكتا ببعضهم، وصرختا، فخرجن بعض الجارات أيضاً، وفعلن مثلهما، وكأنهن حافظات درس تعلمنه مرة واحدة واستعصى على النسيان، فرجال القرية في الحقول والأعمال، وأطفال القرية في المدرسة اليتيمة التي لم تلفظهم نحو بيوتهم بعد، وصارت المسؤولية كلها على بضعة نساء، وصار التعارك بالأيدي من مسافة صفر، وأبو علي يصعد أعلى وأعلى نحو قمة الجبل، وأمسك أحد المستعربين مسدسه ووجهه إلى قلب أمي التي عبثاً حاول التخلص من قبضات يديها، ورأته زوجتي “هنية”، فهاجمته وأبعدته عن أمي، وكادت تنتزع قوته من بين يديه، سلاحه الذي به يمتلك جرأته، والجندي الذي يحتمي خلف مسدسه أطلق رصاصته إلى صدر زوجتي “هنية” العزلاء، ليثبت أنه من الجيش الذي لا يُقهر، فرمتها وجنينها تماماً في حضن أمي.

إخترقت الرصاصة صدر “هنية”، لكنها لم تمت، بل شعرت بسكين متوهج الحرارة، أنزلوه لتوهم من على جمر النار، ينغمس في صدرها، يغوص عميقاً مفتتاً صدرها الجميل نتفاً، ولما رأت نفسها في حضن أمي أمسكت كف أمي واقتربت بها من بطنها، وأتمنتها عليه، وبصعوبة تلفظت ببضع كلمات:

ـ ديري بالك عليها ياأمي…

وكأنها تعرف جنس مافي بطنها، وأمام تدفق نهر الدم من الثقب الذي أحدثته الرصاصة المتفجرة في صدرها، أخذت تحث الخطى نحو السماء إلى جنات الله، لتعانق الرب وترتمي على صدره الدافئ، خاصة أنه تعلم أن هذا النوع من الرصاص صنعوه خصيصاً للفلسطينيين.

لم تخاطب “هنية” أمي يوماً بحماتي أو عمتي أو إمرأة عمي، فقط بكلمة “أمي”، منذ اللحظة التي خطت عتبة بيتنا إلى اليوم الذي إختارت فراقنا، الأمر الذي جعلها أقرب لقلب أمي من “كِنّة” مطيعة، بل كانت أقرب لبنت من بنات “بطنها” كما كانت تقول، ولمّا حاول الجنود منع نقل جسد “هنية” إلى المشفى في المدينة، حينها بالضبط انهالت كميات من الحجارة فوق رؤوس الجنود والمستعربين لم يعرف أحد كيف أو من أين، صارت سماء القرية تمطر حجارة من الحقول والمدرسة والطرقات، لكن الموقف لم تكن تكفي فيه قوة الحجارة وحدها، فجاءت رصاصات من أعلى الجبل، وانهالت على رؤوس الجنود والمستعربين، وسنت أسنانها المناجل و”صهلت” قادمة من الحقول كخيول عربية أصيلة لا تثنيها الصعاب ولا توقفها أشواك الطريق، وهذا الجيش الذي كان لا يقهر أمام نساء قريتنا وأطفالها العزل، صار يتقافز إلى أسفل الوادي هارباً من أصوات رصاصات أبي علي ومن عيون المناجل وحجارة الأطفال، ولم تتوقف، رغم ذلك، الرصاصات، وظلت تلاحق خطواتهم الجبانة الفارّة، فأدركت القرية أن الجيش الذي كان لا يُقهر صار سرعان ما يُقهر أمام إرادة صلبة وحفنة رصاص، وفي الأعلى، هرّبوا جسد هنية، على الأكتاف، إلى قرية قريبة، ثم إلى مشفى المدينة، وهناك انتزعوا الطفلة من بين طيات الموت التي كانت تتزايد حول عنقها، وحينها فقط ابتسمت هنية وأمالت رأسها باتجاه الشمس وغادرت نحو السماء.

قطعت أمي عهداً على نفسها بأن لا تسمح بأن يناديها أحد بغير “أم هنية”، وأقامت الأحتفالات ووزعت الحلوى إحتفاءً بإرتقاء هنية أبواب السماء، وظلت تقول أن ليس بالإمكان لأي كان الوصول لتلك الأبواب، أو العلو والسمو إلى هذه المنزلة والمهابة ومعانقة الرب، فالرب في الوقت الذي يسعد بإستقبال الشجعان فهو لا يحترم الجبناء، وأكثر ما يغضبه الحشرات عندما تحمل سلاحاً تتمادى به على الأنقياء من خلقه، لذلك كانت زفّة هنية أجمل بكثير من يوم زفافنا، علت فيه صوت الزغاريد وتصاعدت نحو السماء، متمازجة متماوجة مع أصوات العتابا والميجنا ونهر دموع كان قد إنهار من عيون القرية ساقياً الحقل كله، كما يسقيه نبع القرية القادم من أعلى الجبل .

عادت أمي بال”هنيتين” إلى القرية، إنتظروني حتى نزرع إحداهما سوياً في مركز القرية، تحت شجرة الزيتون الرومية المعمرة، فشجر الزيتون تتجدد أغصانه وتزداد إخضراراً أوراقه كلما ارتوى من دماء الشهداء، و”هنية” المولودة الجديدة التي أسمتها أمي على اسم أمها، تبتسم وتتراقص كما يليق بزفة أمها، وأقسم بعض سكان قريتنا، الذين حضروا ولادتها، أن هذه المولودة قديسة في ثياب مولود رغم ولادتها القيسرية “المبتسرة”، ورغم عدم إكتمال شهور حملها، وأنهم شاهدوها بأعينهم، التي سيأكلها الدود، تكاد تمشي على قدميها، وأقسم البعض على سماعها تتحدث وتحث الناس على اللحاق بأبي علي، على صعود الجبال مساكن النسور،  والإقتراب أكثر من حدود السماء، هناك على شواطئ الشمس وضفاف النجوم، وحذرتهم من أن يظلوا كالحشرات التي تختبئ جبنا تحت قشرة الأرض، وأنها أعادت مرات بيت شعر لأبي القاسم الشابي يقول فيه:

“ومن لا يحب صعود الجبال    يعش أبد الدهر بين الحفر”

وأن لا يهابوا الموت كما قال أبو الطيب المتنبي:

“فطعم الموت في أمر حقير   كطعم الموت في أمر عظيم”

وذهب البعض أبعد من ذلك ليؤكدوا أنهم خالوها أو رأوها بأم أعينهم وهي تتأبط سلاحاً بين ذراعيها، وأنهم شاهدوها تتحدث مع أبي علي ويخططان لشيء ما، وأن “هنية” الجديدة التي سرعان ما ستصبح صبية بهية جميلة قوية، كما هي بنت أمها الشهيدة وجدتها الحكيمة، فهي في ذات الوقت بنت جدها القابع في سجون “بني صهيون” منذ ما يزيد عن عقد كامل، وأن من قال بأن “فرخ البط عوام” لم يكذب أبداً.

غرسنا “هنية مثلما نغرس شجرة زيتون في قلب الأرض، ووضعت وردة جورية حمراء على قبر “هنية” إنتزعتها من شجيرتها الجورية، ونهرتني أمي قائلة:

ـ عليك أن تزرع شجرة لتنبت ورداً لا أن تقطف وردة من حضن أمها، إتركها لتنجب بذوراً لتستمر بها حياتها.

قلت:

ـ هنا؟ أأزرع جورية تحت شجرة الزيتون ياأمي؟

قالت:

ـ لا، فهنا ستبرعم “هنية” وتزهر ورداً لم تره قريتنا من قبل، إزرع في أي مكان، ف”هنية” تحب الورد الجوري محمولاً متباهياً فخوراً بين يدي أمه، إزرع واملأ المساحات وردا وقمحا وأملاً وحبا ورصاصاً وزيتون، هكذا فقط تثأر لدماء هنية.

في اليوم التالي، نظرت في عيون “هنية”، كانت عيوناً سوداء بلون الأرض، وبشرة رقيقة جميلة بلون القمح، وبدت لي أنها تريد أن تقول شيئاً، فوجدتني أمسك فأساً في يدي، وصرت أدق قلب الأرض، أنتزع شيئاً من أحشائها لأغرس جورية فيه، أزرع شجيرة هنا وأخرى هناك، لتملأ القرية بعطرها الفواح، و”هنية” تنظر إلي وتبتسم من الأرض ومن السماء.                                                                                                                                         محمد النجار

 

بعض العشق قد يشفي

ظل حنا يجادلني طوال سنوات، بل يدافع عن هجوماتي المتتالية على ” دينه المُحرّف”، يغضب أحياناً ويحزن أياماً ويصمت معظم الأوقات، كان يأتي بالحجج متهادياً مفسراً مؤكداً على صحة معتقداته في أول الأمر، مثلي تماماً وربما أكثر، وكنت عندما تضغطني حججه وتقيدني تفسيراته أقذفه بحديث نبوي من صحيح البخاري أو صحيح مسلم يفقده توازنه ويعيد الأمور إلى بداياتها، وسط ضحكات صديقنا عاهد، ذلك اليساري الذي لم يشارك أينا رأيه أو حججه يوماً، والذي طالما رمى بوجهينا عباراته الناهية، لتضع حداً لعنادنا، وتوقف عباراتنا قبل أن تتحول إلى كريات من كُرْه، تنمو وتكبر ككريات الثلج عندما تتدحرج، فيضحي الكُرْه سيفاً للذبح بيد الدين، ويصير الدين أداة بيد الأعداء، وطريقاً لهم لإختراق جدران البيوت وتفتيت الإخوّة وتقسيمها، ونكون نحن الوسيلة، كذئاب حيناً وخراف حيناً آخر كما قال.

قال لنا ذات يوم:

ـ أنا لا أفهمكما، ماذا يهمكما بماذا يعتقد الآخر، سواء أكان مصيباً أو مخطئاً؟ ماذا يزعجكما في الأمر مادمتما تعتقدان أن الله مَنْ سيبُت بالأمر وليس أيكما؟ ولماذا يؤرقكما الأمر إلى هذه الدرجة؟ ألا تستطيعان النوم وأنتما مختلفان؟

ويتابع بعد أن يسحب نفساً من سيجارته المتقدة إشتعالاً من طرفها البعيد عن فمه:

ـ ألم تتساءلا يوماً كيف تعايش أجدادنا طوال القرون الفائتة؟ كيف جمعهم الحب والوئام والتزاوج وصلات الرحم والقربى؟ ولماذا لم يقم أحد بطرح مثل هذه الخلافات حتى الأمس القريب؟ لماذا بقينا قريبين من بعضنا رغم إختلاف مذاهبنا وطوائفنا وأدياننا ومعتقداتنا؟ لماذا كان ما يجمعنا أضعاف ما يفرقنا؟ ثم من المستفيد من تسعير هذا الخلاف بيننا؟ بل لماذا ممنوع في بلاد من يُحرضوننا، المس بمعتقدات الآخرين مهما كانت، ومطلوب وضروري في بلادنا تسعير هذا الخلاف؟

كنت أرد عليه كعادتي:

ـ أنت يساري ولا تؤمن بما نؤمن، فاتركنا نتحاور في أمور دينينا.

إجاباته كانت حاضرة دائماً، كأنه رتب كلماتها منذ ليال بعد معرفة مسبقة بأقوالي واسئلتي، فكان يقول:

ـ ألا تلاحظان وكأنكما تأتيان من أجل المناكفة فقط؟ لم نعد نتحدث عن أمور أخرى، ولا أدري بماذا يهمك أو يقلكك بماذا يعتقد الآخر؟!!!

كان يجمعنا سوياً عند توجيه ملاحظاته، رغم معرفتنا جميعاً أنني أنا مَنْ كان يلح على مثل تلك الحوارات والأحاديث، يسكت قليلاً ويتابع وكأنه إلتقط فكرة داهمته فجأة كما يلتقط زهرة، ويتابع:

ـ تتغنيان، أنتما الإثنان، بإبداع الله في خلقه، بتنوع هذا الخلق وجمال ألوانه، لكنكما تصران، في ذات الوقت، على فرضية اللون الواحد!!! ألم تدركا بعد أن الله لو اراد الكون لوناً واحداً لكان الأمر عليه أيسر وأسهل؟ لكنه آثر خلق الكون ألواناً متعددة وتضاريس مختلفة وفصول عديدة، فخلق من الحيوانات الآلاف ومن النباتات الملايين وكذلك الحشرات، حتى البشر خلق منهم الأبيض والأسود والأصفر والأحمر وما بينها، والأمر نفسه بالنسبة للديانات، فلو أراد ديناً واحداً لكان له ما أراد، ولجعل منا نسخة كربونية وأنهى الأمر، لكنه أراد ديانات وأفكار ونظريات عديدة ومختلفة.

قلت وقد استفزني حديثه:

ـ لكنك لا تؤمن بكل ذلك، ناهيك عن الإيمان بالله، وأنا لم أرك يوماً تمارس الطقوس الدينية والعبادات.

قال بكل هدوء، وكأن ما قلته لم يستفز شيئاً فيه:

ـ ليس من شأنك بماذا أؤمن أو بمن، وأنا لا أعرف من أعطاك الحق بمراقبة قلوب البشر والحكم عليها أيضاً، والأكيد أن الله لن يُميزك عني كونك تُصلي وأنا لا، فكما أعلم أن الدين معاملة، أليس كذلك؟ ورغم ذلك عليك أن تعرف أن اليساريين لا خلاف لهم مع الله، خلافهم مع مَنْ يستغل الله ويجعل منه أداة استرزاق، مادة يضحك بها على بسطاء الناس، فيحول الخالق من عادل إلى تاجر، خلافهم مع مَنْ يجعل المظلوم يرتاح لظلمه، يستأنس بعبوديته ويستسلم لها، وبدلاً من أن يستنهض الثورة فيه يربطه بحبل الخنوع والإستزلام والذل، منتظراً الموت ليدخل الجنة، ليأكل ويشرب ويمارس الجنس وينام، ليعوض ما ينقصه في الدنيا، بدلاً من أن تكون الجنة مكان الثوار البررة، الذين لم يقبلوا الذل ولا المهانة، الثائرين أول الأمر على “أولي الأمر”، من حكام الظلم والجهالة والفساد، فتكون لهم الجنة ليرتاح الجسد وتهنأ الروح.

الأمر الآخر وكأنك ياصديقي تتناسى أننا، نحن اليساريون، أبناء هذا المجتمع، بإيجابياته وسلبياته، تاريخنا من تاريخه ومستقبلنا من مستقبله، لذلك لطالما روت دماؤنا أرضه، وظل لحمنا على جدران زنازينه، وكنا السباقين في الحوض عن كرامته، فهل تُنكر؟

حواراتنا تلك جردت علاقة صداقتنا من قوتها، فوهن عودها وضعفت أوراقها وتساقطت ويبس ساقها، وصارت لا تحتاج إلّا لمن يهز جذرها ويقتلعها من جذورها، فتباعدت لقاءاتنا وصارت تعتمد على المصادفات، وسرعان ما صرنا نتجنب حتى تلك المصادفات كي لا نحرج أنفسنا، الأمر الذي جعلني أعيد الأمور برأسي مجدداً، فوجدت أنني أنا من كان يختلق الحوارات، وأن حنّا كان في معظم أوقاته مدافعاً وليس مهاجماً، ورأيتني أخال نفسي كرجل مدجج بالسلاح يهاجم إنساناً أعزلاً، ورغم كل محاولات تبريراتي رأيتني لا أستطيع الإجابة على سؤال عاهد الجوهري:

ـ ما الذي يقلقني ويريبكني ويضج مضجعي في إيمان حنا ودينه، سواء أكان صحيحاً أم لا؟ وكيف استطعت التدخل في صلاحيات الخالق؟ ومن الذي أعطاني هذا الحق؟

لكن وكما يقول المأثور الشعبي أن ” الكُفْر عناد”، فإنني رأيت في تراجعي ضعفاً وفي إعتذاري هواناً، وفضلت بتر العلاقة على الإعتراف بذنبي، وعليه قررت مع نفسي أن لا أتراجع قيد أُنملة حتى لو افترقت طرقنا وتشظت علاقتنا في الهواء نتفاً.

أحداث واقعنا ظلت كالعادة تجعل للطرق المتباعدة تقاطعات لا يعرف أحد كيف جاءت ولا من أين، وصرت أشاهدهما سوياً جيئة وذهاباً، وكنت أعلم أن سر قربهما أنهما لا يتناقشان ولا يتجادلان في المعتقدات، أو المحرمات كما أسماها عاهد، تماماً كما كنا سابقاً قبل أن تقتحمني مشاعر الكُرْه التي لم أعهد لها مثيلاً في حياتي أبداً، أو مشاعر “عشق اللون الواحد” كما سماها عاهد، وأضاف:

ـ حتى أنك لم تحسن إختيار اللون، فاخترت الأسود الدامي الذي لا شفاء منه دون نفي الآخر والقضاء عليه، وصولاً للقضاء على الذات أيضاً.

كنت أذهب للصلاة في الأقصى عندما أغلقه “بني صهيون” في وجوه المصلين، وكنت أرى نفسي كالأعراب “أشد كفراً ونفاقاً” لو لم أفعل ذلك، ولم أتخيل مسلماً مؤمناً لا يحوض عن أحد أقدس المقدسات الإسلامية، المسجد الأقصى، وكان الجند يمنعوننا ويهاجموننا بكل ما لديهم من عدوان وكراهية، فكنا نتجمع ونصلي على أبواب البلدة القديمة، على باب الأسباط وباب الخليل وباب الساهرة، وعلى مدخل باب العامود ودرجاته، وفي طرقات القدس القديمة القريبة من ساحات المسجد الأقصى، وأحياناً على باب كنيسة القيامة نفسها، والجند يحيطون بنا من كل جانب، وكنا نتكاثر على أبواب كل صلاة، بل ودون مواعيد الصلوات، ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم، وكلما زادت أعدادنا تصاعدت في دواخلنا طاقات لم نعهدها من قبل، وتزايدت قناعتنا بحتمية إنتصارنا، الأمر الذي كان يمدنا بطاقة جديدة متجددة لم نعهدها من قبل، فكنت أحمد الله على “نعمة الإسلام” التي أنعم بها علينا، وتجليها بهذه الزيادة البشرية المستمرة، حيث الناس نهر متدفق متتابع، يزداد في كل لحظة وكأن أمطار الدنيا تصب في مجراه وحده، وتوسع نبعه وتدفقت مياهه لتغطي ساحات القدس جميعها وشورعها وأزقتها.

كنت قد تهيأت للصلاة في باب الأسباط، بعد أن وصلت متأخراً قليلاً بسبب حواجز قوات الإحتلال، وتفاجأت بهما الإثنان، حنا وعاهد، يصطفان مع بقية المصلين، حنا يحمل صليبه وكتابه المقدس، يقوم بشعائره وسط صفوف المسلمين، يقرأ في سره من الكتاب وتقوم يداه بالتصليب، وعاهد يسجد ويركع ويصلي كالبقية، كدت أكذب نفسي، وأتهم عيني بالعمى، وخجلت لأعيد النظر مرة أخرى نحوهما، وصليت وركعت وسجدت وأنا مشغول البال سارح الذهن، ولا أعرف إن كان الله سيقبل صلاتي تلك أم يرفضها لكثرة ما تشابكت في رأسي التساؤلات والأفكار، ولم ينقذني من أفكار رأسي سوى قنبلة غاز انفجرت بين يدي وأنا أهم للسجود، فأوقفتْ سجودي وأفكاري وأغرقتْني في بحر من السعال حتى الإغماء، أفقت بعدها بوقت لا أعرف مدته على بصلة فلقها عاهد بيديه القويتين ووضعها على أبواب أنفي، وأنا أريح رأسي بين يدي حنّا، لا أعرف الشعور الذي داهمني، كانت تتدفق دموعي كينبوع، ليس بفعل الغاز وحده الذي داهمهما قبل حين، ومرت حواراتي العقيمة كلها دفعة واحدة أمام وجهي، أليس هذا الذي عاديته بسبب دينه؟ أليس ذلك الذي قاطعته بسبب معتقداته؟ وما هي ميزتي عنهما؟ ومن يعلم إن كنت أقرب منهما إلى الله؟ وقلت سائلاً:

ـ أنتما؟!!!

قال أحدهما، ولم أميز صوت مَنْ منهما بالضبط:

ـ أكنت تعتقد أن الوطن لك وحدك؟ دينك ومعتقدك لك، لكن الوطن لنا جميعاً.

ولا أعرف ما الذي ذكرني ببعض كلمات عاهد البعيدة، عندما كان يكرر:

ـ إن العشق ياعزيزي إله، إله واسع الأفق ورب كبير، يحب القمح والربيع والألوان والزهور على إختلاف ألوانها، وأكثر من ذلك يمنح الحياة، ولمّا تستعصي قدماك عن حمل سنوات عمرك أكثر، وتتيبس العروق في جسدك، وتضيق على دمك الطرق والأزقة ليصل لكامل أنحاء جسدك، فيبهت الجسد ويصفر لونه كأوراق شجرة في طريقها إلى الإنتحار، يمنحك السكينة والهدوء والطمأنينة، ويحملك على أكتافه ليمنحك حياة متجددة أخرى.

كان يتحدث سارحاً بعيداً متأملاً في ملكوته الخاص، عيناه تنظران وراء الأفق، ويتابع قائلاً:

ـ كل ذلك مشروط بأن تكون عاشقاً… فهل تفعل؟

وسرعان ما صحح له حنا:

ـ تقصد فهل تقدر؟

حملاني إلى خارج الإزدحام، ابتعدا عن دوريات الجيش التي ظلت تعتقل الجرحى وتنهال بالعصي على كبار السن كونهم لا يستطيعون ذلك مع الشباب الذي ظل يزداد تصميماً، وحجارته تهزم رصاصاتهم، وكنت أتساءل دون صوت، كم من هؤلاء لا أعرفهم بين جموع المصلين لا يحملون إنجيلاً ولا يبوحون بمعتقدات؟ وكيف استطعت الحكم على هؤلاء الناس ومعاداتهم؟ وأدركت حينه بالذات أن الله أنعم على كل منا بدينه أو بمعتقده أو بمذهبه، بغض النظر عن ماهيته، لكن ظل سؤال متمرد يقف أمامي مثل مارد متحدياً:

ـ هل كنت سأدافع عن “كنيسة حنّا” لو تعرضت للخطر؟!!! وهل كنا سنفتح مساجدنا ليقرعوا منها أجراسهم كما فتحوا لنا أبواب كنائسهم للآذان وإقامة صلواتنا وطقوسنا الدينية؟

ولاحقتني الأسئلة وتابعتني، ووجدتني لا أستطيع التخلص منها وهي تدق جدران جمجمتي، ووقف أمام عيني السؤال الأكثر خطراً ومباشرة ينتظر جواباً:

ـ هل كنت أستطيع حمل السلاح في وجه صديقيّ حنا وعاهد، بسبب دين أحدهما ومعتقدات الآخر، في ظرف مختلف؟

أربكني الأمر إلى درجة الشلل، فعجز لساني عن النطق، وكبّلتْ عقلي أصفاداً من حديد، ولأول مرة أشعر بثقل القيد على العقل واللسان، وحاولت مطاردة السؤال وإبعاده الى الجحيم بعيداً، لكنه ظل يزنّ في تلافيف رأسي مثل ذبابة لا تهدأ، تغيب وتغيب لتعود وتحط على ذات المكان، ولأول مرة أفشل في طرد سؤال يلاحقني ويطاردني مثل بضعة جنود، مدججين بالسلاح، يحيطون بي من كل جانب ومكان، في تلك اللحظة بالذات أدركت كم أنا بحاجة لبعض العشق، وأن بعض العشق قد يشفي.

إلتقينا بعد ذلك، كنت قد بدأت أعود إلى ذاتي، ويعود إليّ صوابي، ووجدتني أقتحم عليهما وحدتهما، أعبث بخلوتهما وأرميها بعيداً، تماماً كما كان يفعل كل منا من قبل، ولم أتركهما اثنين قط، بل زرعت نفسي معهما لنصير ثلاثة، مدركاً أنه حتى “الموت مع الجماعة رحمة”، وأن الجمع مهما كان قليلاً يبقى جمعاً، وهو، في معظم الحالات، خير من المثنى وربما أجمل.

محمد النجار

عندما يستعيد الثلج لونه

استقبلني عامر، كعادته، في بيته إستقبالاً يفيض ترحاباً، كمن يرى إنساناً عزيزاً عليه بعد زمن من الإنقطاع والإشتياق، كيف لا ونحن الإثنان كنا رفاق درب وسجن وحزب ومسيرة مليئة بالمد والجزر والفرح والحزن، وكلانا حمى الآخر بكل ما فيه من قوة في زمن الزنازين المقاوم، عندما كانت الفكرة شعلة، والقابض على الفكرة قابض على الشعلة، التي حتماً ستصل لنهاياتها الظافرة، عندما كانت الفكرة شعلة وبرنامج عمل ومنارة تضيء الطريق، مبدأ لا مجال للتشكيك في الإيمان به، إنه القول الفصل والمذهب الذي لا يختلف عليه إثنان، عندما لم يكن للعذاب ولا الموت كبير إعتبار أمام الإصرار على نشر تلك المبادئ والأفكار.

وفرقتنا الطريق بعد أن جاء “أوسلو” محملاً على ظهور القيادة مربوطاً بجيدها مثل “رسن”، كما يحب أن يقول، إفترقنا عندما “شرعنت” قيادتنا بدورها الدخول لمؤسسات “السلطة” القيادية، ووجدت الكثير منها أماكن عمل لها بوظائف “مدراء” بفروعها المختلفة:”ا و ب و ج “، مبررة أنها ستعفي الحزب من إلتزاماته المالية نحوها، وارتفع صوته المندد بالخطوة، المحذر من الإنزلاق في نفق “أوسلو” بغض النظر عن التبريرات، متهماً من وافق على تلك الوظائف بأنهم في خطوتهم الأولى لخيانة الأمانة التي وضعها الناس في أعناقهم، وأن الأمر لا يعدو سوى الخطوة الأولى للمهادنة والدخول في القفص، فطعم المال يُغري بالمزيد، وقال:

ـ إن العبيد وحدهم الذين يدخلون القفص بأقدامهم، ومن دخل القفص يكون قد ودع الطيران إلى غير رجعة، ولن يعود قادراً على التحليق نحو السماء حتى إن حمل زوجاً من الأجنحة بحجم أجنحة طائر الفينيق، ثم ما فائدة الأجنحة إن لم تكن قادرة على حمل صاحبها فوق أجنحة الرياح ومطباته وطرقاته المُتعرجة بإتجاه  الشمس؟!!

وتابع بكل مافيه من غضب وقال:

ـ أنتم تجردوننا من أحلامنا، تدفنوها في مزابل التاريخ وخلف الزمن، إنكم تضللوننا وتخدعوننا عن سبق إصرار، فضوء القمر هذا الذي تشيرون نحوه خادع كاذب، ليس سوى إنعكاس لحظي عن الأصيل عند بعض لحظات غيابه، الأصل هو ضوء الشمس الذي تُغيِّبون وتتجاهلون.

ولمّا سأله البعض عن ماهية العمل في مثل هذه الظروف قال:

ـ “إن أبغض الحلال عند الله الطلاق”، لم يعد يربطنا بهم رابط، والمنظمة ثمنها دماء الشهداء وأنات الجرحى والأسرى، لم يرثوها عن آبائهم، إنها حق من لا يخون دماء الشهداء، إن كنتم ترون بأنفسكم أهلاً لذلك استعيدوها، وإلاّ فسيكون أي كلام أو احاديث مجرد كلام، لا يستحق التوقف عنده.

أجاب بعض القادة حينئذٍ مُتجنبين النظر في أعماق عينيه:

ـ الطلاق؟ إنه مجرد عمل، إنها حقوقنا من منظمة التحرير.

فقال وقد تشابك عنده الغضب مع العتب:

ـ ياحيف على الرجال ياحيف، أتستحمرونني وتستهينون بقدراتي العقلية إلى هذه الدرجة؟ عن أي منظمة تتحدثون؟ وهل بعد هذا تبقَّى شيء من منظمة التحرير؟ في أيام العز كانت قيادة المنظمة المهترئة الفاسدة المفسدة، تمنع حصصنا المالية عند كل منعطف، ولو لم تكن كذلك لما ركبت قطار “أوسلو” أصلاً، أتريدونها بعد هذه الردة وهذا الإنحدار أن تعطي للفصائل المعارضة حقوقها؟!!!

سكت قليلاً ثم أضاف:

ـ كي أسهل عليكم الأمر، أنا أوافق على أمر الوظائف ضمن قانونين اثنين، الأول أن يكون الأمر مؤقتاً بشهور عدة ولا تزيد عن سنة، ويتم تداوره بين الرفاق، كل بضعة شهور يُعطى لرفيق غير الذي كان، والثاني، أن يأخذ صاحب المنصب قدر التفرغ الحزبي فقط ويُحوِّل ما يزيد عن ذلك لمالية الحزب.

طبعاً لم يوافق أحد عل إقتراحه، فزاد نقده لهم، لنفس رفاقه الذين طالما حماهم داخل الزنازين وحموه، قال:

ـ إنها الخطوة الأولى لتبتلعوا ألسنتكم، ومن يبتلع لسانه سيلجم فعله لا محالة، ولن تُلعلع رصاصاته سوى في الأعراس.

وتابع حديثه المتلاحق في كل مناسبة:

ـ إنكم لن تجرؤوا على إصطياد عصفور، فما بالكم بجندي أو مستوطن؟!!! بل لن تجرؤوا على تأييد من يفعل ذلك، هذا إن لم تتبرأوا منه أصلاً، هذا هو ثمن الوظائف تلك، وأمام أي موقف ستقارنون بين الفرق في دخلكم وحياتكم الماضية والحاضرة، وستنحازون إلى الراحة والبذخ، وليس لسنوات المطاردة والسجون والمواجهة، إنها سنن الحياة التي إخترتمونها.

وارتفع صوته وعلا، وتراجع حضوره أو قَلَّ بينهم، وغاب أو غُيِّب لا فرق فالنتيجة واحدة، ثم انفصل أو فُصل أو لم يعد أحد يتصل به، سيّان، وقلنا أنه تساقط في الطريق، وبررنا بأن الطريق الطويل متعب وشاق، وليس كل من يسير به يصل لنهايته، وأن هذه سنن النضال والحياة، وأن من الناس من يتحول لذاتي بعد تعبه أو فشله لئلا يعترف بعجزه، والبعض يتحول لجزء من جمهور المتفرجين، وحللنا وتفلسفنا واخترعنا النظريات، وظل هو يُعتقل عند سلطة أوسلو بسبب “طول لسانه”، لكنه بدل أن يصمت تصاعدت إنتقاداته وعلا صوته، وظل يعلو ويعلو، وصرنا نحن رفاقه السابقين الأشد تعرضاً لإنتقاداته، نحن و”حلفاء إسرائيل الجدد” كما سمّاهم، الأمر الذي جعل الرفاق ينتدبونني لأضع له حداً، أو لأخجِّله، لأذكِّره بماضيه الذي يحاول تناسيه ورميه بعيداً خلف جدران الوهم التي تحوم في رأسه، وكأن ذاك الماضي ليس منه ولا هو من صنع يديه، في جزء يسيرٍ منه على الأقل، ولأقول له أن مَنْ لا ماضي له ليس له مستقبل تحت هذه الشمس.

أخذت أستعيد الماضي معه ونحن نحتسي شاينا “الباذخ” الغارق برائحة النعناع حتى حدود “البطر”، وصحني الزيت والزعتر أمامنا، نغمس بهما قطعاً من خبز الطابون ليصل الزيت حتى نهاية عقلة السبابة والوسطى والإبهام، ونسكب خلفه جرعات من الشاي المُحلّى، فطعم الزعتر وزيت الزيتون المجبول بحلاوة الشاي لا يضاهيها شيء في هذا العالم.

فصار يتحدث وكأنه يترنم بمعزوفة موسيقية، وقال وهو يلوك الطعام ويصوغ العبارات، مذكرني بتلك الفترة التي كدت أنساها:

  •           *          *

في تلك الليلة الخريفية الباردة، أمّنت ظهري لصخرة في بطن الجبل، وشددت السماء المرصّع بالنجوم، بعيني، لحافاً، لكنه لم يحمني من برد ليل أواخر الخريف، كانت من بين ثقوب النجوم تتسلل حبيبات الهواء الباردة وتتكاثف جداول من برد ينخر جسدي من كل الأماكن، ولم ينفعني معطفي الهزيل في التصدي لها، فصرت ألتَّف بجلدي منتظراً قدوم شمس الصباح، التي تأخرت كثيراً عن موعدها، كأنها تتآمر مع الليل على جسدي البارد، ولم تأتِ قط.

في تلك الليلة قررت أن لا أعود لحضن الجبل مرة أخرى قبل إختفاء البرد، مع يقيني أنه لن يفعل مادام الفصل القادم يقف متحفزاً بالمرصاد للدخول من كل الأماكن والأبواب والمساحات المشرعة دون رابط، لكن ليس للأمر علاقة بالرغبات، فالقرار كان واضحاً، كما تعلم، لا لبس فيه : ” لا تُسلِّموا أنفسكم للعدو كالخراف”، وفي نفس الرسالة :” الوطن بحاجة لكل الطاقات، لا تهدرونها في الزنازين وخلف القضبان”، فتوجب علي أن أجد البديل.

كنت أنت جديداً على الحزب، ولم تكن علاقتنا بهذا العمق، وكنت أنا قد أمضيت الكثير من الليالي موزعاً نفسي عند بعض الأصدقاء، فارضاً نفسي بشكل لا يخلو من بعض الوقاحة أحياناً، وأحياناً مستغلاً باب الصداقة أو طيبة الآخرين، لكنني في معظم الأحيان لم أمكث أكثر من ليلة أو بضع ليال، لأعود أسعى في مناكبها باحثاً عن مكان للمبيت، وفي مثل هذا الحال ينقضي الوقت في البحث ويغيب الوطن عن جدول الأعمال، فيصبح الأمر “وكأنك يابو زيد ما غزيت”، فما الأهمية لوجودي إن لم أكن قادراً على متابعة المهام؟ لكن حملة الإعتقالات الأخيرة تلك لم تُبق لدي الكثير من الخيارات.

منذ دخول الفصل البارد القادم من وراء البحار سماء البلاد، تغير وجه المدينة بالكامل، كانت الغيوم تأتي متكاثفة متجمعة، وسرعان ما تُبطئ المسير لتهيل ما في أحشائها من مياه، وما أن تصطدم ببرد الهواء حتى تتحول إلى ثلوج قطنية بيضاء، ثمار القطن الذي نضج بفعل حرارة الصيف الذي مضى تراها تتطاير في فضاء هذا الشتاء دون رياح، تتراقص متحررة من الغيم الداكن لتفترش مساحات الحقول، وما أن تجد لها مكاناً على سطح الأرض، حتى تبدأ بالتراكم ثمرة فوق أخرى، وتنمو وتكبر وتتسع مدى، حشائش بيضاء مترامية تغطي السهل كله، مخفية أسطح المنازل و العمارات والطرقات والسيارات المتوقفة على رصيف الشوارع في لحظات، تعتلي أغصان أشجار التين والزيتون، تغطي أشجار السرو واللوز والمشمش، وتظل السماء حبلى بالغيوم، والغيوم حبلى بالثلوج كما كانت قبل الولادة الأخيرة، مستعدة لإنجاب التوائم الثلجية المتعددة، مليئة كما جاءت، كأنما لم تكتفِ بما جادت، ولا تنوي المغادرة بعد، وأنا تحملني وتسير بي قدماي، مُهشِّمة وجه الثلج الأبيض المتراكم، غائصة به إلى ما فوق الرسغ، أسير لاهثاً كأنني في رمال الصحراء، ممتلئة قدماي بالثلج المتحول لمياه ثلجية ما أن تَتلامَس مع حرارة قدماي، ماشياً متنقلاً بين أطراف المدينة مبتعداً عن عيون دوريات الجيش، كي أجد لي لحافاً غير السماء.

كنت مطلوباً منذ مايزيد عن عام كامل، كان “جيش الدفاع” قد داهم مرات عدة كما في هذه المرة أيضاً، منزلي بعشرات الجنود، كأنه في معركة حامية الوطيس، حاصر البيت من كافة جوانبه قبل أن يقتحمه مفجراً بابه متعمداً زرع الرعب والخوف في البيت كله، ووسط صراخ أطفالي المرعوبين من الجند وصوت الإنفجار راح يكسر المقاعد والخزانة الواقفة بصمت بجانب الحائط، يمزق الفراش ويهيل مافي “البراد” من طعام، ومن باب الإحتياط، كان يسكب حليب طفلي الرضيع على الأرض، ليتأكد أن عبوة الحليب لا تُخفي قنابل أو رصاص أو متفجرات، والغريب، قالت زوجتي، أنه يفعل هذا الأمر بالحليب في كل مداهمة، وكأنه يؤكد كرهه للأطفال أو خوفه منهم، وربما يرى فيهم خطراً مستقبلياً يمسح كل ماضي كيانه وكل حاضره الفاشي، وكنت أنا قد أخذت إحتياطي وغبت عن الأنظار قبل ذلك بكثير، لأنهم يعتقلون كل شيء وأي شيء، فهم لا يستطيعون إستيعاب ولا فهم كيف يجرؤ هؤلاء “الأغيار” على التمرد عليهم هم الأسياد؟ ألم يخلق الله العالمين جميعاً لخدمتهم؟ ألم يُسخر البشر جميعاً لخدمة شعب “يهوه” المختار؟

تجمع البرد والثلج والضربات الأمنية المتتالية في أجواء المدينة وسائر الوطن، وسقىت دماء مصطفى العكاوي أرض الزنازين، فارتقى شهيداً إلى السماء، فبكت مدينة القدس حباً وورداً وقمحاً وحياة، فتحولت مدينة رام الله الوادعة الجميلة إلى مدينة غريبة لا يكاد يعرفها المرء، وصارت أسطح عماراتها عيوناً متلصصة على الطرقات بعد أن إغتصب الجنود أسطحها، وخلف عماراتها أشباح وكمائن صيد متنقلة من دوريات الجيش، وأضحت الشوارع البيضاء ملتبسة غامضة، والجنود المشاة إستغلوا فقر الشوارع بالمشاة ليوقفوا ما طاب لهم من أُناس متلذذين بتعذيبهم بدعوى الأمن، ومن مكان مسيري الحذر الموازي لشوارع مركز المدينة، كنت أرى دورية من الجيش، وقد أوقفت عائلة بدعوى التفتيش والتدقيق، فلعل الأب أو الأم أو أحد الطفلتين مطلوبون، فرادى أو جماعة، لقوات الأمن، وبعد أن جاء الرد بالنفي عبر جهاز اللاسلكي، طلبوا من الأب الشاب أن يعانق الأرض الغارقة بالثلج والماء المتجمد ويداه خلف ظهره، مرة على بطنه ومرة على ظهرة ليفتشوا جيوبه الأمامية والخلفية، فهم لا يستطيعون تفتيشه واقفاً، وبين المرتين دقائق تمر وبكاء طفلتين ما بين  الخامسة والثامنة لا ينقطع وجسد ممدد فوق الثلج مرتعش، من البرد أو الخوف ربما، أو الأمرين معاً، وتفكك لحبيبات الثلج لتتحول إلى ماء مثقل بالبرودة والمرض ينغرس سكاكيناً حادة في جسد الأب الراجف، فلم يعد ل” وجعلنا من الماء كل شيء حياً” مكان، وصار الماء عدواً قاتلاً دون جدال، وصار الجسد الممدد فوق الأرض يمتص الماء مجبراً، فيرتج ويرتجف كأوراق شجرة داهمتها رياح عاتية مباغتة ودون رحمة فانهالت متهاوية من علِ، قبل أن يُعيدوا له ولزوجته بطاقتيهما، ويسمحوا للعائلة بالمغادرة، وأنا أقف على حافة الخطر أُراكم الحقد في داخلي ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، أسناني تصطك مع بعضها البعض، والبرد ينخر عظامي ويلتهمها دون رحمة، فيصير السجن رحمة، ويصبح الإعتقال أمنية، والوصول إلى بيت الرفيق المتوجه أنا إليه، في تلك اللحظات بالذات، هدف سامي، والحلم بكوب من الشاي، حتى دون الزيت والزعتر وخبز الطابون، من مواصفات الجنة.

هذا الرفيق الذي كنت متوجهاً لبيته كان أنت، وإتفقنا في إجتماعنا، إنْ كنت مازلت تذكر، على مباغتة دوريات الجيش بقنابلنا البدائية الحارقة، وظلت تتزاحم بين جفون عينيّ دماء الشهيد مصطفى الطاهرة تسيل، وصورة الرجل الذي يرتجف برداً وعذاباً دون ذنب، وأصوات بكاء الطفلتين تسيل في أذني حديداً مصهوراً، وكانت تتراءى لي بصاطيرهم وهي تعبث تكسيراً في خزائن بيتي، وتداخل صوت بكاء الطفلتين الخائف ببكاء أطفالي المرعوب، وكدت أرى أيديهم تسكب حليب أطفالي فوق ركام البيت مستهزئة مستهينة منتشية، فبدى لي أن الزجاجة الحارقة يجب أن تكون قنبلة، وألقيتها فوق دورية الجيش المارة متسللة في ليل المدينة، وألقيت أنت زجاجتك أيضاً، وكنا نرى دورية الجيش تحترق، وبدى لي أن الجنود هم أنفسهم الذين قتلوا الشهيد في الزنازين، وهم الذين إقتحموا بيتي، وهم من عبث بأثاثه، وهم أنفسهم من أبكوا الطفلتين الصغيرتين وعذّبوا أبويهما، وهم الذين قتلوا عمي وأجبروا أبي عندما كان صبياً وبقية القرية الوادعة على مغادرة بيوتهم، وأنهم يتكررون نسخة كربونية لا تجديد فيها سوى في فن القتل والذبح والعنصرية المتأصلة، وكدت أظل أتفرج على النار المشتعلة فيها، وبدى لي أن الدفء صار يتدفق إلى جسدي، ولم تعد أسناني تصطك ببعضها برداً، وأن قدمي قد جفّا واختفى الورم والتضخم من أصابعهما، وبدى لي أن الثلج قد بدأ يستعيد بياضه ولونه، واستعاد حيويته فازداد ضرع الغيوم عطاءً، وكبر حجم ندفه وتكاثف ليشكل لنا باب حماية للإختفاء، وكان لون الثلج أبيضاً، لكن ليس ذلك الأبيض الذي خبرناه منذ مجيء أوسلو، لم يكن أبيضاً مُزيفاً، كان ناصع الوجه نقياً غير متسخ وغير مُشوّه، فعادت مدينة رام الله جميلة كما أعرفها، وعادت لها الحياة، واستعادت الأسواق المغلقة رونقها، والشوارع حركتها، والمساجد والكنائس رحيقها، فارتفع الآذان وقرع الأجراس عزفاً متلألئاً في الأجواء، وتداخلت أصوات الباعة وزعيق الأطفال، وتعالت أصوات العتابا والميجنا والدحية، وارتفعت الدلعونا وحضر “زريف الطول”، ومن مكان قريب هلّت “زفة” لعريس جديد، وتجمعن الصبايا في ليلة حناء لعروس واقفة على أبواب المدينة ماتزال تبتسم، وأمام وقوفي العبثي متفرجاً، كانت يدك تشدني وتهزني بعنف:

ـ هيا بسرعة، أتريدهم أن يقتلوننا؟

وغادرنا المكان وسط بكاء رصاصهم المتفجر خلفنا، تماماً في أعقابنا دون أن يصلنا أو تصيبنا شظاياه، وفي كل مكان واتجاه، واحتوتنا شوارع المدينة التي لم تعد غريبة، وغطت إنسحابنا كاملاً من المكان، وكأنها توجهنا إلى طرق الحقول، وكانت أصوات إعلانهم لمنع التجوال في المدينة المرافقة لأصوات الرصاص لم تهدأ بعد، ونحن نصعد الجبل مبتعدين عن المكان.

في ركن بعيد في ثنايا ذاكرتي وخباياها، استحضرت بعض كلمات أبي قبل أن يغادرنا مبكراً إلى ربه يقول:

ـ “إقضِ على البرد بالحركة، السكون هو الموت بعينه، ورؤية النار، حتى البعيدة منها، تجعلك تشعر بالدفء”.

  •            *            *

أعاد لي عامر بقصته ذكريات وشجون، قلت قاطعاً حبل ذكرياته المتدفقة نبعاً من عمق جبل:

ـ ليس هذا ما أتى بي إليك، إنه شيء آخر، لسانك السليط علينا، لماذا كل هذا الحقد؟ أفقدت كل احترام لهذا التاريخ الذي تستعيده.

انزلقت قطعة الخبز من بين أصابعه إلى صحن الزعتر، كفت أسنانه عن المضغ، سكت طويلاً قبل أن يسكب في فمه ما تبقى من كاسة شايه ليسهل لها طريق الوصول لمعدته وقال:

ـ الحقد؟!!! أنا أحقد عليكم؟وهل هناك من يحقد على نفسه؟ على أمله؟ ولماذا؟ ربما كان الأجدر بك أن تقول الحب وليس الحقد، فأنتم الأمل الأخير إن إستطعتم استئصال أوراكم السرطانية، إن أخرجتم المستفيدين الذين استطابوا الراحة في الزمن الصعب، إن إستطعتم العمل، كما سبق، تحت الأرض، كنا بإحتلال ونعمل سراً، فما بالك عندما صار للإحتلال أعواناً وعيوناً ومنسقين أمنيين؟!!! صار له أذرعاً طويلة تلاحق وتعتقل وتُخبر وترشد وتكمم الأفواه وتقتل؟ أرأيت قيادة وطنية تُحاكم شهيداً وأسيراً؟

سكت قليلاً وكاد يغتصب إبتسامة فخاف أن تبدو حمقاء كاذبة فعدل، وقال:

ـ قال المرحوم والدي:” أُحب من أبكاني وبكى علي وليس من أضحكني وضحك علي”.

قلت ومازلت مصراً على إيصال رسالة الرفاق له:

ـ على الأقل انتقدهم هم، هم الذين فرطوا وليس نحن.

قال:

ـ “الضرب في الميت حرام” كما تعلم، رغم أن لساني لم يستثنهم أبداً، لكن وكما تقول هم فرطوا لكن ما الذي فعلتموه أنتم؟ ماذا فعلتم لوقف هذا التفريط أو إستمراره في الربع قرن الأخير؟ إنكم صرتم “مؤدبين” أكثر مما يجب، لا أعلم أخوفاً عل جرح مشاعرهم أم للحفاظ على مصالح بعض أفراد القيادة؟!!!وفي الحالتين النتيجة واحدة، وأنتم، في مثل هذه الحال، لا تستحقون غير الشفقة.

كنا نتحث بلغتين مختلفتين، وكان قد أخرج من علبة سجائره واحدة وأشعلها، وتابع مفصلاً:

ـ هناك تفريط يومي لدى قيادات “أوسلو” كما تعرف، فلماذا معارضتكم خجولة هزيلة إلى هذه الدرجة؟ ثم ما هي العوامل المشتركة التي ظلت تجمعكم بهم؟ لماذا مازلتم متشبثين بمواقعكم في مؤسسات السلطة القيادية؟ ما سر هذا “الحب العذري” معهم؟ ألم تتعلموا بعد أن الذي يخجل من عروسته لا يُنجب أطفالاً؟ لماذا لا ترفعوا صوتكم عالياً في وجههم؟ لماذا لا ترفعون صوت أفعالكم أعلى في وجه مَنْ يخدمون؟ لماذا لم تؤدبوا ولو مرة واحدة مسؤولاً أمنياً ممن يُنسقون مع آل صهيون؟ من الذين يشون برفاقكم ويعتقلونهم ويعذبون؟ ما الذي جرى لكم؟ ألا تنظرون أين صرتم والى اين وصلتم؟ أرفضتم المشاركة في إنتخابات البلديات كي تتمسكون في مفرزات “أوسلو”؟ لماذا لم تُكملوا ما عاهدتم الناس عليه من تصعيد الموقف وعدم الوقوف عند مجرد رفض المشاركة في إنتخابات بلدية؟ ألا تعتقد أن ذلك هروباً للأمام وتغطية على عجزكم؟!!!

سحب من رأس سيجارته نفساً عميقاً، اقترب مني، وأطلق سهمين من عينيه لتخترقني وقال:

ـ ما فعل هؤلاء القادة المتمسكون بهذه العلاقة أمام إعتقال رفاقهم في سجون السلطة؟ ماذا فعلوا ليحمونهم من أجهزة أمنهم وسجونهم؟ أهذا هو الحزب أو الفصيل الذي كانوا يرتعدون منه ويحسبون له ألف حساب؟ أهذا هو الحزب الذي ظل على الدوام حامياً ومدافعاً عن الوطن والرفاق والناس والقضية؟

عدل من جلسته وتابع سحب الأنفاس من رأس سيجارته وقال:

ـ ترى مَنْ الذي عليه إعادة النظر في مفرداته الوطنية؟!!!

ودون مقدمات، وكأنه يريد الخروج من الموضوع أو الإبتعاد عنه، قال:

ـ لقد قاطعتني دون أن أكمل لك القصة.

وأكمل دون أن يسمع لي رداً:

ـ لقد كان هواء الجبل البارد نقياً، كان عطراً برائحة الميرمية والشيح والزعتر إن كنت مازلت تذكر، وكان يبتلع برده المتجمد كأنما يريد حمايتنا من مرض كامن في أزقة الهواء، يزيله ويخفيه بعيداً في أعماق الأرض، أو ينثره بعيداً فوق مساحات السحاب، وكان لون الجبل أبيضاً ناصعاً كأجنحة ملائكة الجنة، إستعاده الجبل بعد مرور سنوات على ذلك، لون أبيض لا علاقة له بالرايات البيض، تخاله يشبه الرايات الحمر في زمن الحرب، أو بلون حشائش الأرض الربيعية الخضراء الممتدة على طول السهول، وربما بلون الأرض الأسود الممدة على ظهرها بإنتظار الإخصاب، لكنها لا تتخصب من ثلج خصي مزيَّف اللون عاجز، بل من ثلوج ناصعة بيضاء استعادت لونها الأصيل الشامخ، مشرئب العنق مرفوع الجبين ويحتضن الجبل والسهل كله، كأنه يحميهما من رصاصهم المتطاير حقداً وعنفاً وانتقاماً وسفور، وظل يطاردنا ونحن نصعد عالياً عالياً من صخرة إلى أخرى، متسلقين السلاسل الحجرية محاذين أشجار الزيتون الراقصة بنا فرحاً، وحينه فقط أدركت طريقي إلى الدفء…. أأدركته أنت؟

قلت مغلوباً على أمري:

ـ يعني ما في فايدة؟

قال:

ـ بلى، عندما يستعيد الثلج لونه الأبيض، ويصير كالراية الحمراء وحشائش السهل الربيعية الخضراء ولون الأرض الأسود المستعدة للإخصاب.

محمد النجار

 

 

 

الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار

أم الشهيد

  • عندما نظرت إلى صورة الشهيدة سهام نمر، يتقدمها إبنها الشهيد مصطفى نمر، رأيت الشهيد ينظر في أعماق عيني ويقول، ” إن لنا عليك حقاً”، فخجلت وأخفضت عينيّ، وكتبت هذه السطور:

*إلى روح الشهيدة سهام راتب نمر، والدة الشهيد مصطفى نمر، وكل الأمهات اللواتي قدمن أبناءهن شهداء وجرحى ومعتقلين، وكن شهيدات حتى لو بقين يمشين على الأرض.

 

قامت من النوم مبتسمة كحالها في الأشهر الأخيرة، ورغم تيقنها الأكيد من نومها العميق، إلّا أنها تكاد تجزم أنها كانت مستيقظة متيقظة رغم ظلام الليل الذي دثر البيت بعتمته، وأن ما رأته كله حقيقة، حقيقة ساطعة كشمس النهار التي، بشعرها الذهبي، غطت بيوت المخيم كله، ولا شأن له نهائياً بالأحلام.

هذه الإبتسامة المعلقة الثابتة فوق شفتيها، مثل فانوس مستقر في وسط السماء، كان مثار حيرة في البيت كله، خاصة أنها صارت بهذا الوضوح بعد استشهاد ابنها، وفسّر الجميع الأمر بسبب اشتياقها له وافتقادها لرؤيته يشرب من كاسة شايه مستعجلا الوصول لعمله،  قبل أن يسرقه الزمن ويُغيبه النهار بعيداً دون أن يحس أو يشعر، ويجد نفسه عائداً خالي اليدين من رغيف المساء، فكان إتفاق ضمني من الجميع بتجاهل الأمر حتى يمر الزمن، والزمن قادر على فعل المعجزات.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة كما يبدو، فاستشهاده لا يجعلها قليلة التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الحلم والواقع، فهي تراه في كل ليلة ولا يغيب عن سهول عقلها في أي نهار، فارس يعتلي صهوة نهاره ويجوب في طرقات رأسها، يروح ويجيء ويحرث الأرض، يدق عنق التربة “ليخرج من الأرض ماءاً”، ثم يأتي إليها مُتحزماً بتاج العز، متلفعاً بالشهادة، تراه وتحتضنه وتقبل جبينه بعد أن يحتضن كفيها ويقبل يديها كل مساء، تجلسه في حضنها وتناغيه كما لو كان صغيراً، تدلعه وتلاعبه وتقبله وتتركه ليلعب على باب بيتها في المخيم، كما كان طفلاً، فباب بيتها كان يمكن أن يكون آمناً مثل كل المخيم، لولا أولئك الغرباء الذين بسببهم بُني المخيم، وهي تعلم علم اليقين أن المخيم ليس أَبَدِيّ، وأنها ستمسك ابنها، ذات يوم، من يده ويعودا سوياً تتبعهما الأُسرة كلها، والمخيم كله، إلى قريتها وبقية القرى المُنْتَظِرة منذ سبعة عقود، دون يأس أو وهن أو فقدان أمل، يعودوا ليطردوا اللصوص الذين قتّلوهم وهجّروهم وطردوهم واستولوا على بيوتهم بقوة الحديد، ولولا الحديد الذي بأيديهم ما كانوا ليجرؤوا على الإقتراب من باب بيتها، وأن الحديد لو كان متوفراً في أيدي رجال القرية ونسائها لما تجرأ أحد على القرية وسكانها، وأن الناس لو تُركت لتدافع عن نفسها دون تدخل أصحاب القصور من “ذوي القربى”، لكان شهيدها يجوب طرقات القرية وفأس الأرض على كتفه، لذلك كانت تعلم علم اليقين أنه بالحديد فقط سترجع بيتها المسروق، فكانت، لذلك ربما، ترضع وليدها أسرار القرية، جغرافيتها، تاريخها الذي طالما حاولوا،فاشلين، محيه أو إلغاءه، طرقها، مُغُر الجبال في أراضيها، حكايات نسائها ورجالها، أولادها وبناتها، جرحاها وأسراها وشهدائها على طول طريق السبعين عاماً، منذ خروجهم الدامي ملاحقين بالرصاص والموت وخيانات الملوك، قصص زيتونها ودواليها وسلاسلها وبيوتها، وشجرتي التين المعمرتين “العسالي والخروبي”، الواقفتان على مدخل القرية مثل حارسين ساهرين، تشرح له مع كل قطرة حليب تنزلها في فمه قصص البيدر والغلة والأرض والجيران والأعراس والزفة وليلة الحنة والعتابا والميجنا، وكيف حاول اللصوص تجريدهم من الذكريات بتفجير الرؤوس وفصل الرقاب، لكنهم رفضوا التنازل عن ذكرياتهم، فحملوها وهرّبوها وغامروا بحيواتهم لينقذوها، واحتفظوا بها في تلافيف الدماغ وطيات مُخَيِّخاتهم، لذلك هي ليست مستغربة أن ابنها ذهب لعمله شاباً يانعاَ يافعاَ، وعاد شهيداً كما يليق بالرجال، وليست مستغربة كيف نشأ وأترابه يحبون اللعب في الحديد لدرجة الهوس به، وأنهم منذ صغرهم يصنعون البنادق والصواريخ من الأسلاك، فكان من الطبيعي أن يعودوا شهداء واحداً تلو الآخر كما عاد إبنها، ملفوفاً بالعلم محمولاً فوق أعناق الرجال، لكنها لم تكن تتخيل أن يترك خلفه كل هذا الفراغ المرعب، كل هذا الصمت المدوي، وأن يكف من بعده البيت عن الإبتسام، وكأن الإبتسامات حُرّمت من الله دفعة واحدة ودون سابق إنذار، وأكثر ما أزعجها أنها لن تمسك بيده، أو تتعكز على ذراعه،  ويعودا سوياً الى قريتهم التي ظلت تتباعد، تتعقد طرقاتها، ويملؤها الشوك والرصاص وخذلان أنظمة العهر مع مرور الزمن.

رغم ذلك كانت متأكدة أنهم سيسترجعونها، وأن المسافات الطويلة هي سبباً لشحذ الهمم ومتابعة الخطوات، وتأكدت من حتمية الأمر عندما رأت ابنها شهيداً، فهي خير من تعرف أن الشهداء هم جسر العودة الأكيد في هذه الطرق والمسالك الخطرة، وأدركت أن حليب ثديها لم يذهب هدراً، لم يكن ماء آسناً قذراً، كما لم يكن مُزيفا ملوناً كاذباً مشتبهاً، وكانت تظل ساهرة مع وحدتها وظلام الليل، تتمنى من الليل أن يستر سرها، أن يغلق عنها قلوب العائلة النائمة كما عيونهم، لتظل تحاكيه وتقبل حجارة يديه التي ظل يُطل بها عليها صغيراً ومراهقاً وشاباً، عرفاناً منه بجميلها المبكر في وصوله للشهادة، عندما تربى على حملها ورشق دوريات الجيش بها، لتكون “بروفته” للوصول الى ما وصل إليه، ولتظل، هي أمه، تمسح جرحه النازف الذي ظل ينز دماً ومسكاً.

وسرعان ما صار، مع تقالب الأيام، يُضاعف زياراته لها، يأتي لها من طرقات الجنة، من بين ورد الياسمين والقرنفل وشقائق النعمان، من حدائق النرجس والإقحوان والسوسن والطيَّون، من تحت الأشجار المثمرة المليئة بالخيرات،يلوك شيئاً من فاكهتها في فمه، مُتقافزاً على شُجيراتها، متعطراً بعطر الزعتر البري والميرامية التي خص الله بها جنته برائحتيهما الفواحة، تحط بلابلها على كتفيه مغردة، يمر من تحت نبع معلق في نهايات السماء، ينساب برويَّة وارتخاء، وخرير مائه وحفيف أجنحة العصافير تملأ الجنة غناء، تراه قادماً متعلقاً على حبال خيوط الفجر، محمولاً فوق حبات الندى، متقافزاً على درجات الغيوم ناصعة البياض، لابساً بدلة عرسه التي لم يلبسها قبل استشهاده، والتي طرزت له عليها بيدها مفتاح بيتهم الحديدي الكبير، الذي يمكن أن يكون سلاحاً في غياب السلاح، ألم يحاكموا إبن مخيمهم علاء عندما وجدوا المفتاح المشابه لمفتاحهم مُخبأً في جيبه، متهمينه بإمتلاك سلاح قاتل؟ يأتيها وبعض بقع الدم تُزين بدلة عرسه، تنز من مكان الرصاصات التي إخترقت جسده اليانع وقلبه الشاب، تعطيه جرأة فوق الجرأة وشرفاً فوق الشرف، وترفعه من شاب يانع من على مقعد سيارته، التي أفرغوا فيه وفيها حقدهم، إلي أعلى صنوف البشر مرتبة، له مهابة الشهداء وشهامة الأبطال، وتفوح منه رائحة المسك وتغطي البيت كله، تلك الرائحة العطرة التي ظلت متخوفة أن تكشف سرها، وترميه بعيداً وراء الدار.

كانت تحتضنه مباشرة، تُخبئه عن عيون دورية عسكرية تبحث عن الشهداء لتعيد قتلهم، أو دورية “الأقربين” التي تبحث عنهم لتحاكمهم، وترمي بالمناضلين في غياهب سجونها، لتسلمهم بعد ذلك لإعادة قتلهم، فالأمر المخيف المرعب الممنوع لدى كلاهما، أن تُمارس الشهادة، أو أن تجرؤ على التفكير بها، مستبدلاً اليأس والقهر والظلم منهما بالشهادة، بإعادة رسم الطريق، بإعادة توضيح المسالك، بمحاولة رفع الرصاص والأشواك لئلا تختفي المعالم وتضل الطريق.

تُجلسه في “حجرها”، وتخبره عن أخبار المخيم، عن أسراه وجرحاه، عن شهدائه الذي ظل يؤكد لها أنه رآهم عند الأنبياء والصالحين، الذين يحسدونهم على شهادتهم هذه، التي جعلتهم أقرب منزلة منهم إلى الله، فالله يفضل الشهداء على كل شيء وأي شيء، بما في ذلك الأنبياء، لذلك كم ود الأنبياء أن يكونوا شهداء، وتكاد تسمعه يقول بأعلى صوته، “إن أنبياء هذا العصر ياأمي هم الشهداء، رجال كانوا أو نساء، كلهم عند الله سواء”.

كانت تسمعه وتحدثه وتتعطر بمسك جرحه النازف، لكنها لم تُرد يوماً أن تزعجه بقصص “الخانعين” في المخيم، ولا بسياسة التسحيج والتبعية ولعق الأحذية التي تتعمق أكثر عند بعض المخيم، ، ولا ببعض السفلة والأنذال الذين لا يسكنون المخيم، ومازالوا يبنون القصور من ثمن دمه ودماء رفاقه، والتي ليس لها مفاتيحاً كمفتاح بيتها هناك، ولا كمفتاح علاء الذي مازال يحتضنه السجن، لكن الأمر الذي طمأنها، أنهما كلاهما، لم يُخْطئا إتجاه البوصلة أبداً، التي كانت تُشير للقرية بهذا الوضوح.

شيء واحد فقط كانت تود فعله، واحد فقط لا غير، أن تعود معه إلى قريتها، وينتزعاها من لصوص الأاراضي والبيوت، من الغرباء الذين حللوا القتل والذبح وبقر بطون الحوامل، الذين ظلوا يتفننون بقتل النساء والأطفال والشيوخ والرضع، لكنهم رغم كل سلاحهم لم يثبتوا في الميدان أمام الرجال، وكانت تظن أنها ستفعل الأمر معه، سيعودان سوية، رغم أنها لم تفاتحه بالأمر أبداً، كما أنه لم يفاتحها أيضاً، لكن وكما للعيون كلمات واضحة، فللقلوب لغة لا تُخطئها الأم، فكانا يتحدثان بقلوبهما، يتناقشان ويتأملان ويخططان، لكنه استعجل الشهادة، خاف أن تمر في موعدها ولا تجده أو تُخطئه، ويصير عليه الإنتظار من جديد، والإنتظار أي كان نوعه، نذل جبان خانع، وهو لن يرتهن له، لن يضع مصير شهادته بين يديه، سيلحق الدورية العسكرية بنفسه، سيرجمها كما يرجم المؤمنون إبليس، سيحاول كسر زجاجها، ليصير حجره قادراً على الإيذاء، وداهم الدورية العسكرية، وصار يصب غضبه عليها من خلال حجارة يديه، وكانت الشِباك الحديدية تحمي زجاجها، فلم يكن الجنود في خطر، لكنهم خافوا مخالفة الأوامر، خافوا أن ينسوا مهنة القتل حتى لو لدقائق، وسرعان ما فكر بعمل أكثر نجاعة، عندما رآهم يتهيأون للقتل، وهو لا يملك غير حجارة يديه وسيارة بمحرك نائم، فركب سيارته وإحدى يديه قابضة على بعض الحجارة، ليكون للعمل معنى أعمق وتأثير أشد، ليجابه موتهم الذي يحيط به إلى مجابهة بالقليل الذي يملك، وكان الوقت يتسارع بين رصاصهم المنسكب ومحرك سيارته النائم، لكنهم كانوا أسرع منه، ورصاصاتهم أسرع من عجلات سيارته، أمطروه رصاصات في القلب والرقبة والرأس، فضعفت نبضات قلبه ووهنت قوة ذراعيه، لكن قبضته لم تتراخَ عن حجارتها، ووقع بصدره المدمي على مقود سيارته معاتباً، لماذا لم يكونا أسرع منهم؟ فالمسافة بينهما لم تكن سوى يقظة المحرك النائم كبداية لتحرك العجلات، مجرد ثوانٍ خانته فيها تقديرات الزمن في معركة غير متكافئة، فهو لم يكن يوماً عسكرياً، ولوكان لأنتصر على جبن رصاصهم وحماقات سلاحهم، وبعدها، ربما، كان سيكون للشهادة طعم أجمل، وربما أجمل بكثير.

كانت، ما تزال، أصابعه القوية تعتصر حجارته، تشد عليها بعنف، وفضلت روحه أن تصطحبها معها للسماء، أن تُحوِّط بها ورود الحنون، فذهب للسماء دون أن يذهب معها لقريته، الأمر الذي أثقل قلبها وأدماه، لكنها عندما فكرت ملياً في الأمر، وصلت إلى استنتاجات أخرى، استنتاجات إنسان مؤمن، مدرك لرحمة الله ولطفه، يلبي دعوة الشهيد ورغبته، وقدرت أنها لو استشهدت هي أيضاً، فربما جعلها الله تستند على يدي ابنها وتذهب معه للقرية لتراها، لكن الأمر سرعان ما أربكها وكاد يشل حركتها، عندما تساءلت أما نفسها قائلة: “وهل أنا أريد الذهاب زائرة؟!!!”، وأكدت أنها تريد استعادة القرية وليس زيارتها، صلَّت بضع ركعات لله، طلبت غفرانه، ذكّرته بصبرها على شهادة ابنها، وهل هناك صبر كصبر أم تستقبل إبنها الشهيد بالزغاريد، ودموع عينيها تتسابق على خديها المكلومين؟ أن تجعل من جنازته عرساً؟ أن تزفه إلى التراب كأنما لليلة عرسه؟ أن تُوزع الحلوى بدل القهوة السادة؟ رفعت عينيها لتنظرا في عيني السماء الخجلة أمام عينيها، وطلبت من الله أن يحقق لها رغبتها…

قامت من بين يدي الله، كنست بيتها ونظفته، كي يستقبل البيت “المهنئين” بصورة تليق بهم، كي لا يقول البعض أنها استشهدت وتركت بيتها وسخاً، أربكها الأمر، فنظفته كما لم تنظفه من قبل أبداً، طبخت لزوجها وبقية أطفالها، أطعمتهم وأشبعتهم مما قسم الله، قبّلتهم للمرة الأخيرة، وعضت عل دمعاتها بجفني عينيها كي لا تخدعانها وتبللان المكان، ووسط دهشتهم التي لم يعرفوا لها سبباً، أسالت نبعاً من الإبتسامات كي لا تترك في رؤوسهم مُتسعاً لشك، توجهت لمطبخها لتختار أكبر سكيناً، وضعته في “عِبِّها” لتخفيه عن العيون، أوصت الجميع بالحفاظ على مفتاح بيت قريتها المسروقة، وغادرت مدعية الذهاب لزيارة بيت أختها، واستقلت أول سيارة توصلها إلى باب العامود في القدس.

كان الجنود يحيطون بمدخل الباب كالجراد، يُغطيهم السلاح مُدَججين به، وكانت الأم تتقدم منهم بخطوات واثقة، تتحسس سِكّينها المختفي في طيات ثوبها، وتحاول أن تعرف بحكمة عينيها أيهم أكثر شأناً، ليكون صيدها ذا أهمية وشأن، وكانت تحس بأن كل خطوة من خطواتها تتسارع للقاء إبنها الشهيد، ودون أن يرف لها جفن أو تهتز لها قناة، رفعت سكينها وألقت بكامل قوتها على صدره، وانطلقت رصاصات من جنود يختبئون خلف البنادق، وكأنهم في ثكنة عسكرية، جنود يطلقون على النساء من الخلف لأنهم يخشون العيون ويرتعبون من نظرات البشر، فاخترقت الرصاصات جسدها الهزيل، وتهاوى الجسد ووقع على الأرض ليعانقها العناق الأخير، وتمدد الجسد فوق أرض القدس، ليقربها خطوة أخرى من إنتزاع قريتها من براثنهم، وعيناها مفتحتان ناظرتان نحو قريتها القريبة، وصعدت الروح الى السماء والجسد مازال يعانق الأرض، لتجد ابنها الشهيد واقفاً مع الشهداء والأنبياء مستقبلين على باب الجنة، وكانت تستمع إلى أصوات المنشدين الآتية من خلف السماء، يام الشهيد وزغردي …كل الشباب ولادكي…

محمد النجار

 

 

 

إن قتل القنصل… إعدموه

التقينا على فنجان من القهوة في بلاد بعيدة في الغربة، وصرنا نقلّب صفحات الماضي، كعادتنا في تلك البلدان، ربما من باب التملص أو رفع العتب عن الذات، لاننا لا نستطيع جلدها بشكل دائم، وربما من باب الشعور أن وراءنا ماض نعتز به، وربما نوعاً من الهروب للأمام بأننا كان لنا ماضٍ، وكنا ذات يوم مناضلين وكان لنا شأن…

لا أريد أن أقحم نفسي في الموضوع بهذا الشكل المباشر الفج، فأنا لم أكن مثل صديقي “كامل”، فهو من كان السجن بيته وليس أنا، وهو الذي كان يأكل “العصي” كما يقولون، ومثلي لم يستطع حتى عدّها، لكن لكل منا دوره في هذه الحياة، وأن تفعل شيئاً مهما كان بسيطاً، أفضل بكثير من أن تقيد يديك وتحملق في سقف الغرفة، وكما ترون أنا الذي أخط شيئاً من كلماته لتعرفونها، فهو يعتبر قصصه هذه لا تعني الشيء الكثير، ولكنني أراها تعني ولو القليل، ولهذا سأخطها كما هي، دون زيادات تجميلية، بل من باب أمانة النقل وليس فلسفته، قال لي:

ـ ربما لا تعرف والدي…لك أن تتخيل رجلاً عاش ما يقارب القرن، لكنه لم يُسئ يوماً لأحدٍ في حياته!!!لم يُغضب أحداً!!! كان يقسو علينا إن أسأنا بقدر حنو أب وعطف أم وحنانها ويزيد، ولا يستطيع فهم إنسان لديه قدرة على أن يُغضب أحداً ويكون قادراً على أن يغلق، في ظلمات الليل، عينيه وينام…

وتابع وهو ينظر في اللاشيء، وكأنه يرى والده أمامه:

ـ إنه إنسان بسيط، بسيط طيب إلى درجة السذاجة في عيون البعض، لكنه رجل حكيم في رأيي أنا، ربما لأنه والدي! وربما لأنني أُصنّف نفسي بسيطاً مثله، فأرى في كلماته حِكَمَاً، لذلك بالنسبة لي فالأمر لا يخضع لنقاش أو جدال…

كان الوقت عصراً عندما التقينا، والمقاهي في هذه البلدان مكتظة بالناس، والغيوم في هذا الوقت من السنة تكون منفلتة سارحة في فضاءات السماء مثل قطيع خراف، وصل لتوه من الصحراء الى حقول خضراء معشوشبة دون نهايات، فانطلق في كل الأماكن متبعثراً في أماكن متجمعاً في أخرى، متحركاً في كل الأماكن والإتجاهات على غير هدى، هدّه التعب لكن الجوع اكثر، فصار يقطع بأسنانه العشب مسرعاً متخوفاً من انتهائه قبل أن يسد جوعه، وكن النساء في المقهى يحتسين كاسات النبيذ أو الجعة وقد نزعن حِمْل الملابس الثقيل من فوق أذرعهن العارية أو نصف العارية، معلنات، دون ضجيج، عن درجات حرارة النهار المرتفعة في ذلك النهار الربيعي، الذي يسير، دون توقف، إلى نهايته الأكيدة، يقابلهن حبيباً أو صديقاً أو زوجاً أو رفيق، تعلو قليلاً أو تهبط ثرثراتهم، و”كامل” وأنا، نشرب القهوة على طاولة منزوية بعيدة في أقصى المقهى، وكلماته تنز من حلقه، ليقذف بها لسانه مباشرة في أذنيّ، وعقلي يسجلها بقلم مخبئ في ثناياه دون أن يراه “كامل” الذي ظل يتابع، عندما رآني أنظر إليه بإهتمام دون أن أقاطعه:

ـ كان المرحوم أبي يظل يحدثني عن “بيت عفّا”، قريتنا المنسية في جنوب فلسطين، مؤكد أنك لم تسمع بها، “تُحيط بها العديد من القرى والمدن الفلسطينية، مثل عراق السويدان وعبدس وبربرة وحمامة وجولس والسوافير والجلدية وبيت داراس، وكرتيا  وعشرات من القرى الأخرى، وكانت على مرمى العصا من المجدل والفالوجة، وأصوات الرصاص تُسمع من بعيد، والثوار يتجمعون ليدفعوا العصابات بعيداً عن أراضيهم، تلك العصابات التي أتت من بعيد بمساعدة الإنجليز، فلجأ الثوار لبيع “ذهبات” نسائهم ليشتروا حفنة رصاص أو بندقية عتيقة ما زال بها بقية حياة، فالناس كانوا مُوَحَدين متضامنين، قلوبهم على قلوب بعض”، قال والدي وأكمل:

ـ هل هناك ما يمكن أن يوحدهم أكثر من الدفاع عن قراهم؟!!!

قال “كامل” وتابع، و”أكمل والدي الحديث متأثراً بما سيقول، وكأن تأثير ما سيقوله يداهمه بشكل مسبق”:

ـ حاولوا اقتحام القرية أكثر من مرة، لكن الرجال يابني لا يُفرطون في شرفهم، وهل هناك شرف يطغى على شرف القرية؟ حتى عندما احتلوها من أيدي الثوار، حررها الرجال من جديد، ولما عادوا لإحتلالها بصعوبة كبيرة في المرة الثانية، حررها الرجال مرة أخرى، دفعوا مقابل ذلك دماً وأسرى ذبحتهم عصاباتهم كالخراف، كان يمكن تلخيص الرجل آنذاك بالجرأة، فمن لم يكن مقداماً مواجهاً شجاعاً لم يكن يُعد من بين صفوف الرجال، ولما عادوا واستقدموا المئات من رجال عصاباتهم وسلاحهم الجديد واحتلوها، حررها رجال مصر هذه المرة، رغم السلاح الفاسد الذي ورّدوه لهم، عندما كان المرحوم عبد الناصر يقود غرفة عملياته ويقاتل في المجدل، مُدركاً أن إحتلال فلسطين مقدمة لإحتلال مصر والعالم العربي كله، وأن فلسطين لم تكن أبداً الهدف الوحيد، بل هي العنوان الذي يُغطي الأهداف الحقيقية المُخبأة في أدراج السياسة، لذلك ظل يقاتل ويرفض الأوامر القادمة من خلف جدران القصور…

وكان والدي يتابع:

ـ كان لنا هناك بضعة دونمات يابني، وصيتكم بها، لا تتركونها في أيدي هؤلاء، عملنا أنا وجدك وشقينا لشرائها، سجلنا بعضها باسم أعمامك الذين كانوا صغاراً حينئذٍ، وسجلنا القليل منها باسمي واسم جدك، لم يكن أحد يفرق بين نفسه وبين أخيه أو عائلته…

ثم استدار بوجهه نحوي وكأن كلمات الملكية هذه لم تكن إلا مقدمة ضرورية لما سيقول:

ـ احفظ ما سأقوله لك…

وصار يُسمي لي المناطق التي اشترى منها، جعلني أسجل أسماء الناس الذي اشترى منهم، رغم أن بعضهم صاروا في “دنيا الحق”، وتابع:

ـ عليكم الرجوع إلى هناك، مهما كانت الصعوبة عليكم الرجوع، أعرف أن الطريق صعب وطويل، لكن “لا يحرث الأرض غير عجولها”، مدوا أياديكم واقتلعوهم من أرضنا، من لا أرض له لن يجد مكاناً لتقف عليه قدميه في هذا العالم، تظل وقفته خاوية ضعيفة معرضة لتطيح بها حفنة من رياح، تشبثوا بها واحضنوا أشجار المكان لئلاّ تنتزعكم العواصف، من لديه جذوراً سابحة في طيات التراب ليس من السهل إنتزاعه، وإن انتزعوه برعمت جذوره من جديد، أعرف انهم لم يُبقوا غير بضع شجرات من الجميز والصبار، وأنهم اقتلعوا البيوت وحدائق المنازل والعمران كله ، وأهالوا التراب في بئر الماء الوحيد بعد أن سمموا مياهه كي لا نعود، معتقدين أنهم مسحوا آثارنا، لكن تلك الشجيرات نحن من زرعها وسقاها وكبرها، هي شهادة لنا، فبصمات أيدينا مازالت على كل غصن ووريقة منها، لذلك يابني وصيتكم بيت عفّا…أتفهم بيت عفّا…لأننا سنبنيها من جديد…

فقلت له:

ـ كنت أعتقد أنك ستقول لي “وصيتك فلسطين يا أبي وليس بيت عفّا…”

لم أره يلبسه الغضب إلى هذه الدرجة، قال:

ـ وهل تكتمل فلسطين دون بيت عفّا ياولد؟ ألم أُعَلِّمك أن من يفرط في بيت عفّا يفرط بفلسطين؟ لا تصدق أحداً مهما علا شأنه يُفرط ببيته مدعياً أنه يريد تحرير فلسطين بدلاً عنه، مَنْ لا خير منه لبيته، لبلدته، لقريته، لمدينته، لا خير يرجى منه لفلسطين، ومن لا خير منه لأهله لا خير منه للآخرين، أفهمت الآن؟!!!…

قبلت رأسه كعلامة إعتذار، وقبل إعتذاري بقلبه الواسع بصعوبة، علّه أراد أن لا أنسى هذا الدرس أبداً، وكما ترى فأنا لم أنسه.

وسكت كامل عن الحديث، فقلت كي لا أظل صامتاً مثل أخرس:

ـ وما الذي ذكرك به الآن؟

قال بتأكيد شديد:

ـ لعلني لم أنسه أبداً ، خاصة عندما أكون محتاجاً لحِكَمه، وأكاد أجزم أنه يحضر هو بذاته ليعلمني درسا جديدا في كل مرة…لكني تذكرت الآن أمراً مما استوجب حضوره من جديد.

ـ ما هو؟

سألت وقد راودني الفضول، فقال:

ـ كنت في التحقيق بعدما أنهيت سنوات دراستي، وكان التحقيق جاداً، كونهم، كما استخلصت، كان لديهم أسباباً تستدعي سجني في عرف دولتهم…

وضحك “كامل” ورسم بشاهديه علامة قوسين، وكأنه أراد أن يخبرني بجملة معترضة وسط كلامه وقال:

ـ لعلني يجب أن أخبرك أن أبي يعرف كلمة “القنصل”، وربما لا يعرف معناها بالضبط، كما لا يعرف عمل أو وظيفة القنصل، لكنه يجزم بينه وبين نفسه أنها الوظيفة الأرفع في التاريخ، ومَنْ يصل إليها يكون قد أتم كل شيء، ويكون قد وصل إلى درجة الكمال، يعني “ختم العلم” كما نقول نحن المثقفون هازئين…

واتسعت ابتسامته التي ظلت متشبثة بشفتيه رافضة النزول، وأكمل:

ـ ولما استعصيت عليهم في التحقيق، واقتنعوا أن الصخرة التي بين يديهم لن تنز ماء أبداً، قرروا أن يلجأوا لوسائل ضغط علي، فأحضروا والدي…

كان “كامل” يسحب أنفاساً من سيجارته وينظر إلى السماء، وكأن والده ينظر الينا من علوّه هناك مناشداً ابنه التمسك بالحقيقة فقط، وتابع:

ـ أجلسه ضابط التحقيق مقابله، وبدأ بإقناعه أن يحدثني ويقنعني بالتجاوب معهم، وقال له:

ـ إن لنا عند ولدك دين ياحاج، وجاء الوقت لسداده، فإنْ أبى التسديد حاكمناه وسجناه، وإن سدد تجده في بيتك قبل أن تصل له، هذا إذا لم تأخذه بيدك وأنت مغادر من هنا…

اقترب أبي بكرسيه من الضابط وسأل، بكل ما فيه من غضب، بإستهزاء:

ـ وهل تأكدتم أن ابني هو مَنْ قتل “القنصل”؟

كان استغراب الضابط كبيراً، فسأل أبي يريد أن يعرف أكثر، واعتقد أن هناك صيد ثمين، مادام الحديث يجري عن عملية قتل، فقال:

ـ القنصل؟! عن أي قنصل تتحدث ياحاج؟

فقال أبي مؤكداً:

ـ القنصل… وكم قنصل في هذه البلد؟

ـ آه أفهم، قل أنت لأتذكر، لا بأس مادمت تريد تسديد دينه…قل…

قال ليجعل والدي يتحدث عن عملية “القتل”، ورن على جرس من تحت مكتبه حتى إذا جاء أحد الجنود طلب كأسين من الشاي، وتابع:

ـ قل كل ما تعرف، وليقدرني الله على عمل الخير لإخراج إبنك من محنته…

استغرب الحاج هذه اللغة الناعمة، لكنه لم يفكر بالأمر كثيراً، فهو رجل بسيط كما تعلم، لكن ذهنه ظل مشدودا لما يريد قوله فقط، فقال:

ـ أنا الذي يعرف؟ أنتم تدّعون المعرفة، وأنا أقول لكم إن كان ابني قد قتل “القنصل” إعدموه…

دخل الجندي بكأسي شاي ووضعهما على الطاولة، وقدم الضابط الشاي بنفسه لأبي، فأرجعها والدي من أمامه للخلف كمن يرجع بكفه فاحشة تتقرب منه، وكان قد تذكر كلماتي، برفض التعاطي مع رجال المخابرات لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بأي شيء آخر، فظل متذكراً المبدأ لكنه نسي الأسباب والمبررات، وقال:

ـ عندي السكر… لا أشرب الشاي… ولا غيره

قال جملته الأخيرة كي لا يعود الضابط ليعزمه على مشروب آخر، وقال الضابط الحانق مفتعلاً الهدوء:

ـ كما أخبرتك ياحاج، عليك مساعدتنا بإسترجاع دَينَنا، أرأيت مديوناً طليقاً دون أن يسدد دينه؟

فقال والدي جازماً:

ـ طبعاً رأيت ، ألم تسرقوا “بيت عفّا” ولم ترجعوها بعد؟

ـ “بيت” مَنْ؟… عفّا؟ وما هذه ال”بيت عفّا”؟!!!

فقال والدي معتقداً أن الضابط  يستهزئ به:

ـ أنسيت بيت عفّا الآن؟ “بطلت” تعرفها؟ قريتي في الثمانية واربعين، أم نسيت هذه أيضاً؟!!!

وضرب صدره بكفه ليأكد أنها قريته، ووقف على قدميه وقال:

ـ هيا أرونيه كي أخبره أن لا ينسى “بيت عفّا” التي سرقتموها ولم ترجعوها بعد، وما دام الأمر يتعلق بالديون لنرى مَنْ لديه عند الآخر ديناً!!! وكيف سيتم تسديده…

فاستدعى الضابط الجندي غاضباً، صارخاً أن يوصلوه مباشرة للباب الخارجي، قائلاً:

” ألم تنسوا بعد كل هذه السنين؟”أخرجوا هذا المجنون برّه…بــــــرّه

وأخرجوه، وهو يسأل:

ـ ننسى؟ أننسى ماذا؟ربما تقصد بيت عفّا؟ ماذا تقول أيها المجنون؟

وأخرجوه ختى باب السجن الخارجي، وبقيت جاهلاً بالأمر ولا أعلم عنه شيئاً حتى خروجي من التحقيق…

وظل ينظر كامل في حقول السماء، الى الغيمات المبعثرة على أطرافه كقطيع خراف متفلّت متبعثر، وقلت له لمّا رأيت ضجيج سكوته يسيطر في المكان:

ـ أتذكر خالد؟

ودون أن أنتظر إجابة، أكملت، حيث أن خالد صديق لكل أفراد العائلة:

ـ صديق عائلتكم، أخبرني ذات يوم أنه كلما رأى والدك كان يرى فيه رجل تلك اللوحة، لوحة سليمان منصور، جمل المحامل، الذي يحمل فيها القدس على ظهره…

لم ينظر نحوي لئلا أرى دمعتي عينيه المترقرقتين، فيخجل او يشعر بالحرج، لكنه قال:

ـ لعله كذلك… رحمه الله…

وظل يتابع بعينيه خراف السماء

محمد النجار

هذيان…

وُلِدَت، “عائشة” في ليلة ظلماء حالكة، كان الليل خينئذٍ قد إندلق واستحكم في الأشياء، فاقتحمت الظلمة البيوت والطرقات وأشجار الحقول، وكانت الشمس بالكاد تسترق لحظات من طول النهار، وما تكاد تظهر حتى يهاجمها الليل والظلمة وقطاع الطريق، في تلك اللحظات ولدت عائشة، ولدت من رحم الأرض، تحت دالية مجاورة لتينة عتيقة وشجرة زيتون لم يتعدى عمرها الألف عام بعد، ولدت هزيلة ضعيفة بالكاد تستطيع الحركة، مكبلة بقيود من سلاسل صحراوية قاسية، من وهم ووهن وذل وخنوع، خطواتها قصيرة قليلة ضعيفة مترنحة مرتجفة، تمشي بحكم إرادتها وإصرارها فقط، رغم السياط التي تنهال على جسدها الضعيف الرضيع من غير إتجاه، باسم الدين تارة والعادات والتقاليد تارة أخرى، أو بإسم القانون الذكوري الأبوي الحاكم المتحكم بحركات الفتيات في كامل العشيرة والعشائر المجاورة.

هناك ولدت وأسموها “عائشة”، أملا أن تعيش هذه المرة، بعد كل حالات الموت التي أصابت مثيلاتها، أسموها “عائشة” أملا في أن تعيش، صلّوا من أجلها، إمتنعوا عن الأكل وأطعموها، دون أن يعلموا شيئا عن معجزاتها.

كانت “عائشة” من أيامها الأولى تزحف على أربع، على يديها وقدميها، وبالكاد يستطيعان حمل جسدها الضعيف، لكنها، وهذه معجزتها الأولى، وُلدت قادرة على الحركة، قادرة على الزحف على أربع، ورغم ظلام الليل، فقد كانت قادرة على الرؤية، إذا لم يكن ببصرها فببصيرتها، وجاءت للحياة باسمة ضاحكة دون بكاء ولو بدمعة واحدة على عادة المواليد، وهذه معجزتها الثانية، طفلة بريئة نقية جميلة متفائلة، وعلى غير توقع، ورغم كونها فتاة أنثى وليست ولداً ذكراً، جلبت البسمة والفرح لأهلها وعائلتها وعشيرتها جميعاً، وخلقت كمعظم الأطفال حياة وحركة وفرحة داخل البيت رغم هشاشة عظامها، وفقر دمها الذي ولدت به، وعضلاتها الصغيرة الضعيفة.

الغريب أن هذه الطفلة “عائشة” كانت توحي بأشياء غير مألوفة في محيط المنزل والعشيرة كلها، وكانت، ربما الطفلة الوحيدة، التي تولد من رحمٍ رغم خصوبته، إلاّ أنه مُحاط بالخوف والجوع والأمراض، بفقر الدم والسرطان ، وبأرحام هزيلة مريضة عاجزة، يتحكم فيها شيوخ القبيلة وصديقهم الأبيض ذو العينين الزرقاوين، داخل قبائل متخصصة بولادة الأولاد دون البنات، وإذا ما ولدت فتاة كانوا يتحون المآتم ويسكبون الدموع، رغم أن أولادهم كانوا  بقلوب قطط مرتعدة خائفة من الأيام ومن المجهول، أولاد لا يحبون المغامرة، يصلون لله ولزعماء العشيرة وشيوخها مرّات، وربما من باب الأدب والأخلاق والدين، لا يخرجون على رأي الزعيم وطاعته حتى لو كان ظالماً، ويخافون، مثل شيوخ العشائر وزعمائها، من غضب قادم من أرحام النساء، التي ربما تُفاجأهم وتلد ما يردعهم ويضع حداً لذكوريتهم المفرطة، دون علمهم أو في غفلة منهم، الأمر الذي يخافون منه ويهابونه، أو من ولادة قد تُثمر زرعاً غير زرعهم، ونسلاً يعاند نسلهم، فيصير المولود مارداً يُنغص عليهم حياتهم ولا يراعي حرمة لصديقهم الأبيض ذو العينان الأزرقين.

إنتفض زعماء العشائر كلها لمّا علموا بالولادة “الشاذة” من خلف عيون زعماء العشار، إستصرخوا واسعانوا واستدعوا زعيم عشائر الصحراء الذي كان في قيلولة عميقة، صدى شخيره يتردد فوق الرمال، عيناه تائهتان في حلم يتنقل فيه بين نسائه الأثنتان وعشرين، رغم نشاز بعضهن، وكان يود، لو ساعده الحظ قليلاً لجعلهن أربعين أو خمسين، لكن رفض إحداهن وتحريضها ومقاومتها له ولصديقه الأبيض، حرمه من هذا الأمل ومن تحقيق هذا الهدف، كان يحلم حائراً عند أيهن يبيت ليلته القادمة، ويده تناغي خصيتيه اللتين زينهما بالجواهر واللآلئ، وعطّرهما بأجود أنواع الطيب والمسك، وبخّرهما بالبخور الهندي وقرأ عليهما خوفاً من العين والحسد ، تداعبهما يده وتسقيهما من زيت الصحراء، خصيتاه اللتان طالما قرح بهما وكانتا عنوان فخره، فظل يزداد حرصاً عليهما ويود تقبيلهما لتقديم الشكر والعرفان لهما، هو خير من يعرف أن “الذكر” لا يساوي شياً دون خصيتيه، وأنهما عنوان عزته وكرامته وفخره وكبريائه، لذلك عليه حفظ كرامتهما وحفظ الجميل لهما، ولذلك أيضاً نادراً ما كان يتركهما وحيدتين في ظلام الليل، بل يتفقدهما ويداعبهما ويُزينهما ويسقيهما زيت الصحراء بدل الماء إعترافا بجميلهما. كان يحلم مفكراً بفتيات “الفرنجة” اللواتي أحضرهن صديقه الأبيض ذو العينين الأزرقين، هدية خالصة صافية لا يريد لها رد جزاء، أيقظوه من أحلامه الجميلة تلك، رفعوا يده عن خصيتيه ليعاود عقله العمل، أخبروه بالمصيبة التي يمكن أن تحل بالعشائر  كلها نتجة لميلاد طفلة في بلاد التين والزيتون، على أطراف الصحراء البعيدة، باسمة ضاحكة تحب الحياة ، هناك حيث الكلأ والماء والأشجار ونسائم الهواء.

أفهموه بأن البسمة والضحك يجلب الفرح والبهجة، وهذا مسموح للزعماء ممنوع على العامة، كي لا يغويهم الشيطان ويبعدهم عن شرع الله، فيصبحوا متعلقين بالحياة الدنيا الزائلة، فيطالبوا بنصيب من مال زعماء العشائر أو يتشبهوا بهم، وهذا مخالف لدين الله وشرعه وتعاليم شيوخ الإسلام وعلى رأسهم ابن تيمية وتلامذته وصولاً لمحمد ابن عبد الوهاب رضي الله عنهم جميعاً، والله سبحانه يقول “والآخرة خير وأبقى”، فأقلقوا منامه وقطعوا أحلامه، فارجفت خصيتاه وارتعدتا، فشاط  واستشاط وعنّف، وفتى لهم وأمر برقابة تلك الطفلة، حتّى الإمساك بها ووأدها حية تحت تراب الأرض وطينها، فتصير عبرة لمن إعتبر ولمن أرادت أن تولد باسمة ضاحكة ومحبة للحياة، ولمّا ذكّروه بقول الله “وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت” أمر “طال عمره” بحذف هذه الآية من القرآن قبل أن يعود ليناغي خصيتيه مدللاً معتذرا.

ورغم كون الطفلة وحيدة، أو، على الأقل، لم يُبلّغ عن ولادات أخرى مُشابهة، في عشيرة تتفجر أرحام نسائها بالأجنة، حيث كان رجال عشائر الصحراء وصديقهم الأبيض يقتلونهن في الأرحام، أو يُفجرون الأرحام كيلا يفاجأهم حمل أو ولادة لفتاة، تخوفاً من عار يجلبنه للعشيرة، إذا ما كبرن وبان حسنهن ونضجت براعمهن وأثمرت جمالا وحبا وحياة، فتتبدل وتتغير ملامح العشائر الجادة المُهابة بين الناس وبقية عشائر الكون، فيحل الفرح محل الغم والتفاؤل مكان التشاؤم والنور بدل الظلمة والحياة محل الموت، وينتشر هذا المرض المعدي، في المجتمع وبين الناس، كما النار في الهشيم، لذلك يرفض كل زعيم ” أن ينام في القبور كي لا يرى أحلاماً مزعجة”، ويُفضّلوا “إقتلاع الضرس للتخلص من ألامه” .

كان شيوخ العشائر يعتبرون أن الفتيات على وجه التحديد، يُشكلن خطراً على مصالحهم ومصالح المجتمع برمته، فدائماً ما تيقّنوا أنهن يجلبن العار والفتنة، يستقطبن شباب العشيرة و”يُخربن” أخلاقهم، فيُبعدونهم عن ذكر الله فيهجرون بيوته، فشباب العشيرة، كمعظم الشباب وأي شباب، دائماً ما استهوتهم الفتيات الحسان الجميلات، خاصة عندما يكن حاسرات سافرات، فيلحق الشباب جمالهن ويُعجبون به، ثم يقعون فريسة عشقه الذي ينمو ويكبر في الصدور، ولا يستطيع أحد السيطرة عليه بعد ذلك، وهذا وحده كفيل بتعميم ثقافة الحب والعشق والحياة بين الناس، بدلاُ من ثقافة الكره وعذاب القبر وبول البعير، الأمر الذي كان يُخيف شيوخ القبيلة وزعماء العشيرة ويُرعبهم فوجب  الإحتياط منه، الأمر الذي فرض سياسة وأد المولودات في الأرحام، حتى قبل أن يولدن، ليقضون على “المرض” قبل وصوله، ويظلوا في مأمن منه.

أحد لم يعرف كيف إستطاع هذا الرحم إخفاْء الجنين طوال فترة الحمل، كيف تغلّب على حواجز تفتيشهم، أو غلى مداهمة الأرحام المفاجئة، رغم أن عيونهم جمعاء لم تكن لتفارق مراقبة أبوابه، وما أن ينتهي أحد الزعماء من الرقابة أو المداهمة أو التفتيش، حتى يكون هناك من يحل محله، فهذا الرحم، على وجه الدقة، رحم مشاغب متمرد، وكانت لديه محاولات متتالية للولادة، بعضه قتلوه في مهده وبعضه قبل ولادته أو بعدها بقليل أو كثير، لكنه طالما كان ينجح في الولادة، وطالما كانوا هم أيضاً ينجحون بوأد المولود بعد ولادته مباشرة، وأحد أسباب تخوف شيوخ العشائر وزعمائها، وكذلك صديقهم الأبيض ذو العينين الزرقاوين، أن المولودة لا تُشبههم، وترفض أن تُشبههم بشيء، ولا تريد التشبه بهم، وهي عنيدة مخالفة وعصية غلى الكسر، الأمر الذي يجبرهم على المضي بسياسة الوأد في الرحم أو بعد خروجه، دون أن يتركوا أمامها متسعاً من وقت لتعيش أو تكبر، وها هي ترفض أن يكون لها أبٌ ممن يُقررونه لها، وتُفضل أن تظل يتيمة على ذلك، كما أنهم لا يمكنهم التساهل فيما يخص أمر الله، فهم لا يقبلون تجاوزاً أو حتى مجرد حوار في مثل هذا الأمر، ف”المرأة ناقصة عقل ودين” و”لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة”، وهذه الطفلة ستكبر وربما نفضت عن نفسها غبار الماضي وألم السنين وقررت فجأة أن تمسك بيدها قرارها؟!!! فما العمل حينئذٍ؟!!! ويؤكد زعماء العشيرة وشيوخها، أنهم لن يمانعوا لو أن لديهم ضمان واحد، واحد فقط مهما كان صغيراً، لو أنها تقبل أن تكون نسخة عنهم، أو أن تتشبه بهم، أو بالرجل الذي يرتضونه لها أباً، بل وسيساعدونها أيضا بالمال والزيت والرمل والعلف وبول البعير وأبوال الشيوخ، وربما وجدوا لها عريسا من زعماء العشيرة، لأنهم  مؤمنون دوماً بأن “مَنْ شابه أباه ما ظلم”، لكن كل المؤشرات تشير إلى أنها ترفض كل خيوط التشابه مع زعماء العشائر وشيوخها جميعاً، وراحت تتشبه بالرعاع من فقراء العشيرة  و”أرذال” القبيلة وصعاليكها، وهنا مربط الفرس.

لقد ولدت هذه الطفلة وفي جعبتها الكثير من المفاجآت، لا يدري أحد كيف ومن أين أتت بهن، لكن الجميع كان يرى هذه المفاجآت بعد أن تتم، ففجأة ودون سابق إنذار، لا يعرف حتى الآن أحد، رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن على ولادتها، كيف إستطاعت في تلك اللحظة وذاك العمر الغض، أن تقطع القيد الحديدي وتمزقه إرباً إرباً وترميه بعيداً خلف الصحراء، حيث يسكن أصحابه في قصور من رمل هناك، وصارت حرة طليقة لم يعد باليسر والسهولة على أحد ترويضها.

وكيف إستطاعت أن تشب وتكبر وتنضج بين عشية وضحاها، وتصير صبية جميله فارعة الطول والحسن ولا ينقصها المنطق، وكيف كسرت قيد العشائر كلها، كيف قوي واشتد عودها وقست عظام ساعدها بهذه السرعة، رغم تكالب زعماء العشيرة وصراخهم على تجاوزها لقوانين القبيلة ودوسها عليها بأرجلها الجميلة و”بصطارها” الثقيل ولباسها المرقط، وعلى هيبة الزعماء والأمراء ورؤساء العشائر كلها، وبخروجها على عادات القبيلة وتقاليدها التي جنحت للسلم منذ قرون، فتنادوا جميعاً لحماية شرف العشائر التي تهتكه وتنتهكه هذه البنت الشاذة العاقّة كل يوم في كل الميادين، خاصة بعد أن صار شبان القبيلة يمتدحون جمالها وحسنها، ويتغزلون بقوامها وصدرها وحسن وجهها، واصبحوا مفتونين بها وعلى خطواتها أراد معظمهم السير، بل إنها صارت فتنة للرجال من خارج القبيلة، وصارت القبائل البعيدة تحسدها على هذا الجمال الفتّان، إلا القليل منها.

وقيل أن الزعيم الأكبر للعشائر كلها، أكد أن هذه البنت العاق صارت تنافس جمال بنات العشائر كلها، اللواتي كن مكسوّات بالذهب والجواهر من رؤوسهن حتى أخمص أقدامهن، وأنها بأثوابها البسيطة المرقطة وأنوثتها الطاغية جلبت الأنظار إليها ومنعته عن مثيلاتها المذهبات والمتجوهرات، واستقطبت كل نساء العشائر ورجالها من العامة، وفرضت دون كلمة واحدة منها قانون الجمال الطبيعي الذي لا يفوقه جمال، حتى لو ترصع بالذهب والفضة، الأمر الذي يفرض عليه كزعيم أن يقف في صف حماة الذهب والفضة الذي تحاول تلك الفتاة إخفاءه والتقليل من شأنه، وأن يمنع تأثيرات جمالها ونسائم عطرها الفوّاح عن عشيرته وكل العشائر الأخرى المتفرقة، حتى لو كان بقتلها واغتيالها رغم تحريم الله ذلك إلا بالحق، وهو بالحق سيفعل ذلك ويقتلها، لكنه قبل ذلك قرر إغلاق أبواب البيوت ونوافذها، وقيّد رجالها وغمّى عيونهم كيلا يروا ما يغضب الله مما تفعله هذه الفتاة، وغطى آذانهم كي لا تسمع، وأمر بحشر النساء كالإبل في المزارع والبيوت، لأنهن أكثر خطرا وأشد فتنة، فهن يُثرثرن ويحِضن ويلدن،  واستحضر شيوخه المحرمات جميعها وألقوهن على رؤوس النساء، وحرموهن من الجنة إن هن خالفن بعولهن أو رددن له طلبا، وإن حرضنه على ولي الأمر، ثم أمروا بلفلفتهن وبرقعتهن وضربهن ومنعهن من الخروج من بيوتهن إلّا للقبر، لكن الزعيم الأكبر كرجل حسّاس مؤمن بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، يؤمن أيضا بالشورى والديمقراطية كما يقولون، وعملاً بالآية الكريمة “وشاورهم في الأمر” و”وجادلهم بالتي هي أحسن”، فهو سيشاور نُظرائه، حتى لو كان لا يعترف بنظير له، ويجادلهم ويحاورهم ويستمع لأقوالهم جميعاً وأحاديثهم، لكنه سيفعل ما برأسه، رغم قناعبه، وبحمد الله، أنه لن يجد من يخالفه رأيه أو يخرج عن طوعه.

رأى زعيم العشائر وشيخها الهوان والمذلة والإنكسار في عيون سادة القوم جميعهم، كانوا متخوفين جميعاً من العار الذي يمكن أن تجلبه لهم هذه المصيبة التي حلت فوق رؤوس الجميع، والعصيان الذي بدأ يدخله ويمارسه شباب العشائر، وحالة العشق المتفجر التي أصابتهم وما زالت يوماً بعد آخر،  بإغوائها لهم وفتنتها، بجمال مشيتها الأخاذ أثناء إستعراضها للباسها المرقط و”بصطار”رجليها الكبير، الذي لا يعرف أحد سر أو مكمن الجمال فيهما!!!      إقترح بعض الزعماء أن يتركوها مؤقتاً، ويفرضوا حصاراً على الأرحام في بطون النسوة في بقية العشائر الأخرى، خاصة وأن هناك رياح تحمل في طياتها حملاً يلوح بالأفق، حمل ربما يأتي بمعجزات أكثر من المعجزات التي جاءت بها هذه الطفلة، ومن يدري، فربما تكون أكثر جمالاً وأكثر فتنة أيضاً!!! لذلك لا بد من مهاجمة البطون والأرحام، والإستمرار بحجب آذان النسوة عن السمع وعيونهن عن البصر،  كي لا “يَغرن” منها ويفعلن ما فعلت، فالمأثور الشعبي يقول “لولا الغيرة ما حبلت النسوان”، وأن يجعلوا الزعماء يقاطعوا فروج نسائهم ويتوجهوا لغزو فروج الفرنجة، من بلاد بعيدة وقريبة، كي يضمنوا عدم الحمل وإنجاب ما يشبه تلك الفتاة التي نمت رغم أنوفهم جميعاً، لكن البعض قد رد بوضوح مُشككاً بهذه الأقوال، رغم أنهم على أي حال يؤيدون غزو فروج نساء الفرنجة، عملاً بقول رسول الله صلى الله عيه وسلم “غربوا النكاح”، ويقنِّنون الإقتراب من فروج نسائهم منذ زمن، لأنهن صرن مثل أخواتهم، ولا أحد يعرف لماذا،  لكن السر الذي كشفته “عرافة” الشيخ الكبير، زعيم قبيلة رمال الصحراء، هو أنهم مهما أنجبوا لن يستطيعوا أن يورِّثوا مثل هذا الإنجاب، ولا حتى ما يشبهه، فهم لن يُنجبوا سوى أشباههم، الذين لا يجلبون لعشائرهم وقبائلهم سوى العزة والإباء والشموخ والإكبار، فهم ليسوا مثل بقية “خلق الله” وخاصة الرعاع منهم، وذكرتهم بقول الشاعر الحطيئة الفقير لكنه رغم ذلك نطق بكلمة الحق حيث قال:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم                  ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا.

كانت الطفلة قد صارت فتاة تزداد جمالاً مع تقادم الزمن، وكلما مر الزمن فوق جسدها، كلما صقله وجمّله وزاده حسناً، وطالما كانت تلك الفتاة تسير، كانت تزداد محاولات القبيلة التخلص منها لينتهي عارها، لكن امر محاولات قتلها لم يعد سراً أمام شباب القبيلة، الذين صاروا يُحذّرونها، يلتفون حولها، ويسمعونها غزلهم الرقيق بها، وإعجابهم بجمالها الساحر، متمنين عليها أن تبعث بنسائم عطرها ليصل، شبابهم في عشائرهم البعيدة، رحيقة، ليخترق الحصار المفروض على الحدود والفضاء ونسائم الهواء ورمال الصحاري.

وصار الكثير منهم  يزورها ويلبس لباسها، خاصة بعد أن صارت نداً ولو ضعيفا لبنت الرجل الأبيض، صديق الشيخ زعيم قبائل الصحراء والرمال وأتباعه، ذو العينين الزرقاوين، يتحدثون كما تتحدث، ويفتتنون بما يسمعون منها من كلمات وأحاديث، وتحولوا لعاشقين لكل ما تفعل، فالعشق إذا ما دخل قلباً حوّله إلى قمر مشع مضيء، يفرد أنواره عل كل الأشياء، مَن دخل العشق قلبه حسن في عينيه ما ترياه، وفي أذنيه ما تسمعاه وفي أيديه ما تفعله، من يعشق يظل يمارس عشقه بطريقته، ورغم عذابه فهو يرفض أن يتوب.

صار الجميع من علية القوم يرون فيها خطراً أكبر مما ظنوا، وأدركوا أن وجودهم مرهون بوأدها وقبرها دون أن يعلم أحد أو يحس ، فحتى قتلها بطريقة فجة ستجعلهم في مرمى سهام شباب القبيلة، فصارت محاولاتهم متكررة متعددة، لكن الفتاة كانت تشع ذكاء بجانب حسنها، فما فائدة الحسن إذا لم يكتمل بالذكاء؟!!! ما أهميته إن كان مرتعاً للعيون الحاقدة الحاسدة والأيدي الطويلة المتحرشة، إذا لم يكن عقلاً يتدبر التعامل مع الأحداث جميعاً، وأيدٍ قوية تحرسه، يكون مثل وردة ضعيفة هزيلة “تتناتشها” الأيدي العبثية المارة وتعبث بها الأصابع القذرة، وفي حالتها، حيث حالات الولادة صعبة ونادرة و مراقبة وملاحقة، فالحفاظ على الذات أمر في سلم الأولويات،  من أهم الأسس لتنمو وتكبر وتُثمر وتنضج وتعطي الحياة، وكانت دائماً ما تقارن نفسها بشجرة زيتون على بعد نظرة عين واحده، تظل تعطي وتعطي دون كلل أو ملل، دون شكوى أو عتاب، لكنها تدرك أن عطاءها مرتبط بصحة الجذور داخل حبيبات الأرض وبين طيات الصخور، بأوراقها اللواتي إن تنازلت عنهن ولو مرة واحدة سيجف الساق وتنتحر الجذور، فهذه الفتاة كانت تحمل حكمتها، تمتصها من الطبيعة والأرض والهواء وأشجار الزيتون، من حركتها في الليل والنهار، من “بصطارها” وملابسها المرقطة وسواعدها، من مشقات الطريق.

رأى قادة العشائر أنهم عاجزون عن وأدها واغتيال الحياة فيها، وربما هي عصية على ذلك، فقرروا تغيير الأساليب ويظل الهدف نفسه واحد، “واحد لا شريك له”، القتل مع سبق الإصرار والترصد، لكن كيف وبيد مَنْ؟

كان زعيم القبيلة، الشيخ الكبير لا يخفي عن صديقه الأبيض الذكي ذو العينين الزرقاوين سراً، وشريك له في بعض تجارة، ويأتمنه على نفسه وماله كما لم يأتمن أحداً من أبناء عشيرته، حتى أنه يُخزّن هناك في خزائنه أموال العشيرة كلها، مطمئناً عليها أكثر من إطمئنانه لو كانت بين يديه، وكانا يجلسان يتسامران بين فينة وأخرى، يشكو فيها زعيم العشيرة الكبير ما ينغص عليه لصديقه الأبيض، يستمع منه لنصائحه ويقوم بتنفيذها وكأنها أوامر من الله رب العباد سبحانه، لأنه خير من يعلم أنه لا يريد به وبعشيرته إلّا خيراً، فرد عليه صديقه قائلاً:

ـ ألم أحذرك من هذا الخطر منذ سنوات؟ ليس أمامك سوى أن تضع يدك بيد إبنتنا، فهي جميلة وأكثر حسناً وأكثر ذكاء، وذات حسب ونسب، وفي الوقت نفسه أغرقها بالمال!!!

لكنه هذه المرة لم يكن مقتنعا بهذه النصيحة، بل أجابه زعيم العشيرة:

ـ نحن لم نقصر بحق إبنتك الحسناء، أما بما يخص تلك الفتاة، فيقولون إن “المال قوة”، هل تريدني أن أزيدها قوة فوق قوتها، كي تقوى عظامها وتقسى ويشتد ساعدها أكثر، ولا يعود بالإمكان ترويضها؟”

فقال له بثقة كما يفعل دائماً:

ـ الملابس المرقطة والمال لا يجتمعان، فإما أن تلبس “البصطار” والبدلات المرقطة، وإما أن تمتلك المال، فالمال يشبه الماء، إن أردت أن تقتل أحداً أغرقه بالمال، فما أن يصل إلى فوق رأسه حتى يغرق ويموت…

وهز رأسه إلى الأعلى والأسفل، كعلامة للتأكيد على أقواله، فقال الزعيم:

ـ لكنها ستنقذ نفسها لمّا تراها في خطر…

كان صديق الزعيم، الرجل الأبيض ذو العينين الزرقاوين يُعبئ غليونه بنوع من “التتن” الفواح، أخذه من ظرف بلاستيكي أزرق، مكتوب عليه شيء أو مرسوم، فالشيخ زعيم القبيلة لا يجيد القراءة ولا يعرف من الرسوم  غير رسم النوق، ولكن وكون الرسم حرام، فهو لا يقترب من الحرام إلّا إذا كان مضطراً، وكان صديقه يأخذ حبات من التتن بين إصبعيه ويحشو بها فتحة الغليون، ثم يدكّها بقطعة معدنية فبل أن يشعلها بولاعتة ذات الشعلة الطويلة، واستغرب زعيم القبيلة لماذا لا يتركه ليُحضر أحد الخدامين أو العبيد ليحشو له غليونه، وظن أنه لا يريد أن يكشف غليونه على عبيد القصر، وقال صديقه مراجعا نفسه ناقدا:

ـ لا لا لا، المال ليس كالماء، مَنْ يُغرقه المال لا نجاة له…

ونفث دخان غليونه في وجه الشيخ زعيم قبيلة رمال الصحراء، فامتلأ صدر الشيخ بما يشبه البخور، ورغم عدم قناعته إلا أنه لا يرفض طلبا لصديقه الأبيض، وبدأ يُغدق المال على أهل “الفتاة”، ومنذ ذلك اليوم صاروا يسمونها ب”العروس”، وصارت تكتب عن “العروس” الأقلام وتتحدث الأفواه، وانتشر ، عملاً بنصيحة صديق الشيخ، الأمن في البلاد، وصاروا يصطادون من حمد أو شكر الله لسماعه شيئاً من الفتاة أو عنها، أو صفق لجمالها الأخاذ، أو لم يستبدل إسمها بالعروس، وفتحوا باب التبرع بالمال لها، فصار المال نهر جار على أهلها وأصحابها وعشاقها، وبذلك إتضح لأمن العشيرة المؤيدين “للعروس”، فصار يتلقطهم ويودعهم سجون الصحراء “جزاء بما كانوا يفعلون”، وكانت تُهمهم جاهزة ” الخروج عما هو معروف من الدين بالضرورة” وهو “الخروج على الحاكم حتى لو كان ظالماً”، فما بالك والحاكم عادل كالفاروق؟!!! وطبقوا بحق البعض منهم الحد بالقتل ذبحا بحد السيف، أو رمياً من طائرة عمودية في وسط الصحراء، أو داخل فرش من الباطون تحت عمارة من عشر طوابق.

ابتلت ملابس العروس، حيث كان المال يتدفق فوق رأسها مثل الماء، وصار لا بد من تغيير الملابس المرقطة التي صارت تذوب تدريجياً ألوانها، فتشوّه شكلها ولم يعد جمالها أخّاذاً كما كان، فغيروها واستبدلوها بأخرى تليق بالعروس، فألبسوها الفساتين البيضاء، بدلا للبدلات المرقطة، وحذّروها من أن تبان عورتها، وعلموها أنها كلها عورة من رأسها حتى اخمص قدميها، ثم بدأوا بتجميل العروس، مادامت عروساً، بطريقتهم، بالمكياج المستورد عن طريق بلاد صديق الزعيم، فكيف ستكون عروساً دون مكياج، ولم ينفع كل تمنعها كي لا يغيروا ملابسها ويصبغوا وجهها، فأمرها صار بأمر ولي أمرها، وتكثّفت طبقات المكياج الثقيلة غلى وجهها، فلم يعد يتنفس، وامتلأ بالبثور والحبوب، وصار يفقد جماله الطبيعي يوماً بعد يوم، وزال الترقيط وذاب نهائياً عن ملابسها، وتحول “بصطارها” الكبير إلى حذاء جلدي بكعب عال، لا تستطيع به صعود الجبال ولا مجرد السير، وتكاثرت عليها أشياء تشبه الحشرات، بل صارت كالمستنقع الذي يفيض بها، وتكاثرت فوق جسدها الطفيليات، وصار لها الكثير من الآباء بعد أن صار للأبوة مكاسب، وأزاغت قوة المال الأبصار، و تجرأ رجال العشيرة وأصدقاؤهم وصاروا يغتصبون الفتاة، وقدموها هدية لصديق الزعيم لينتقم لنفسه ولإبنته التي أزعجها جمالها، وزادت حالات الإغتصاب تحت أسماء مختلفة، بعضها باسم الدين وأخرى باسم التحضر، وبأسماء لم يسمع بها أحد من قبل.

ظلوا معتقدين أن رحم الفتاة يمكن أن يحمل، فحاولوا إنتزاع الرحم من جسدها ورميه بعيداً، لكنهم فشلوا، فبعض أعضائها كانت متمسكة به، مراهنة ربما على حمل جديد، ورغم أنهم قيدوها ليسهل إغتصابها، فقد كان بعض أعضائها ما يزال يتمرد رافضاً، حاولوا تغيير الرحم، إستبداله برحم يشبههم، أن يحمل بأشباههم، لكن الرحم كان عنيداً غاضباً رغم القيد وحالات الإغتصاب المتكررة، فتمزق وتهاوت جدرانه، ورغم ذلك أدرك الزعيم وعلية القوم كلهم، أنهم مهما كبروا وامتلكوا وتملكوا وتمادوا واحتكموا وتحكموا، ومهما تزاوجوا واغتصبوا وانجبوا وكبروا، فإنهم كان لديهم إحساس وشعور وحتى تيقن أنهم لن يستطيعوا استيلاد ولو طفل صغير واحد بمستوى أي صغير يخرج من رحمها، لذلك قرروا إحراق الرحم في جسدها الحي، كي لا تفكر عائشة مجدداً أن تخلق حياة.

كانت “عائشة” كلما كبرت كلما زادت حسناً وجمالاً، فصارت الآن تزداد ضعفاً وتشويهاً وحتى قبحاً، لكنها لم تفقد كل لمسات الجمال بعد، وظلت تزداد ضعفاً خاصة بعد أن أحرقوا رحمها ، وظل يضمحل جسدها وعضلات بدنها، وكان من إدّعى أبوتها يشارك الآخرين إغتصابها، وصار الزعيم وصديقه الأبيض ذو العينين الأزرقين وابنته، يتضاحكون ويشربون الأنخاب على إقتراب موت “عائشة”، ومن مكان قريب من رأسها، شمال الرأس تماما، كانت قد أطلت مولودة جديدة تمشي، وتلبس “البصطار والملابس المرقطة”، في غفلة من أمرهم جميعاً ورغماً عنهم، وكانت حسناء جميلة ذكية، استجلبت من جديد شباب العشائر جميعاً وإعجابهم، فعاد في رحم “عائشة”، في مكان منزو وفي قلب الرماد قلب ينبض بخفوت من جديد، يعارك من أجل الحياة، كان يغيب عن الوعي طويلاً، لتبدأ دقاته من جديد، كان قلباً غريباً، يأخذ مواصفات أمه، بدأ يرفرف بجناحين كبيرين، وصار يتعلم الطيران في رحم”عائشة” بعيداً عن عيون زعماء القبيلة كلهم وأصدقاؤهم، وهمس صوت من مكان فقير…إنه طائر الفنيق…

صحوت من نومي، وأمسكت بأطراف حلمي كي لا يغادرني كما في كل صباح، حمدت الله على أنه كابوساً وليس حقيقة، لكنني شاهدت سيوف القبيلة مشرعة فوق جثة عائشة الممزقة الممدة أمامي، يصرخون لقتل هذه الفتاة الداعرة، وسمعت صوت قلب ينبض، يكاد يغطي على صهيل السيوف.

محمد النجار

ألا تسكن في بتاح تكفا؟

إلتقينا بعد ما يقل قليلاً عن العشرين عاماً، جيل كامل فصل آخر لقاء لنا، أو “عُمْر” كما قال هو، أتتخيل أن تلتقي وشخصاً تعرفه بعد عشرين عاماً؟ أو مع شخصٍ تحبه، بل ربما تحسده، بعد هذا العمر؟ أعرف أن الأمر ليس بمعجزة، لكن أن تكون في نفس المدينة ولا تراه؟ أعتقد أن لا علاقة للأمر بالصدفة فقط، بل بقرار قد إتخذه أحدنا أو كلانا.

إحتضنني وشدني نحوه، كأنه كان يفتقدني طوال هذه الفترة، ولم تسنح له ظروفه بلقائي، وجاملته بالطبع، ولما أخذت حريتي من بين يديه بعدما أطلق سراحي، رأيت كيف مر العمر بهذه السرعة، رأيت كِبَري في وجهه، من خلال التجاعيد التي حفرها الدهر كطريق غير معبد تناثرت حجارته، من خلال الشيب المتسلل إلى ليالي رأسه، فكوني قد اعتدت على رؤية نفسي ولم ألحظ هذه التغيرات، لا يعني البتة أنها غير موجودة، وربما تفاجأ هو أيضاً لما رآها مرسومة بوضوح، على صفحة وجهي، بعد كل هذه السنين.

إلتقينا آنذاك في زنازين المسكوبية في القدس، أدخلوه على زنزانتنا بعد أيام من وجودنا هناك، كان التحقيق قد إنتهى معنا، وكان هو قادم من جولةالتحقيق الأخيرة له، فهذه الزنزانة والزنزانة المقابلة لمن إنتهى التحقيق معه عادة، قبل أن ينزلونا إلى الغرفة، أو يشحنوننا كل إلى سجن…

تعارفنا حينها، كنا طبيبين وثالثنا مهدس في الزنزانة المقابلة، وأدخلوه عندنا نحن وليس في تلك الزنزانة حيث البرش الفارغ، وكان التحقيق قدانتهى معنا منذ أيام، حيث قدمنا إعترافنا وننتظر لائحة إتهامنا، وكان هو عاملاً يعمل في إحدى المستوطنات، يتحدث قليلاً وبروية، يكاد يُشعرنا أنه يلتقط كلماته عندما علم أننا في هذا المستوى العلمي، وكانت مفاجأته التي حاول إخفاءها عندما عرف أننا معترفين، وتفاجأنا نحن أكثر لما علمنا أننا كلنا مجتمعون، لا نساوي رجولته، أو لو أننا جمعنا رجولتنا مجتمعة لرجحت رجولته عليها، وصرنا نبرر لأنفسنا، في دواخلنا، “أن لكل جواد كبوة”، وأن كبوتنا هذه ليست بتلك الكبوة الكبيرة، لأننا لم نعترف إلا على أنفسنا.

بقي معنا أياماً متتالية، نقلوا زميليّ وبقينا نحن الإثنان معاً، وفي الزنازين تتحدث بكل شيء إلّا الممنوعات، والممنوعات هي الشئون الوطنية، فلا كلام في الخصوصيات الحزبية والتنظيمية، فأنت أولاً وأخيراً تجهل كل شيء عن زميلك في الزنزانة، فربما يكون اي شيء، مناضلاً أو نصف مناضل أو عميلاً، وربما إنساناً عادياً رمته الصدفة أو القليل من شجاعة مؤقتة أو ردة فعل، فلم نتحدث بشئء ذا معنى طوالا أيام…

علمت أنها لم تكن تجربته الأولى في الزنازين، بل إنه من روّادها، وكان كما هو الآن، لم يُسجل إعترافاً ولو مرة واحدة، قال لي، ربما، من باب الحيطة والحذر، ” أنا لست بطلاً، أنا ليس عندي ما أعترف به”، وسكت، ولما أخبرته أنني إعترفت على نفسي من شدة التعذيب، أهال في عينيّ جمرات من عتب غاضب صامت، وكدت أسمع صرخته دون كلام “أنصف خيانة تعني؟ أم أن خيانة الذات أقل تكلفة؟” وسألني:

ـ  كم كان قد مضى عليك في التحقيق؟

قلت:

ـ خمس وأربعون يوماً

قال:

ـ لو عضضت لسانك بضعة أيام أخرى لكنت اليوم في بيتك…

قلت:

ـ لم أتحمل التعذيب أكثر، صار التعذيب أقسى من أيامه الأول…

قال:

ـ إنها كالولادة، كلما زاد الطلق كلما إقتربت نهاية الألم

كدت أضحك في سري على كلماته، وأخبره بأنني”أنا الطبيب وليس أنت”، فأوقفني خجلي، ولما ترك نظراته تسرح في ثنايا رأسي، قال مستدركاً:

ـ هناك أشياء تعرفها من الحياة، وهي ليست بحاجة لتوصيف طبيب.

لطالما كنت أمقت “المتفلسفين” أو “المُفتين” دون علم، لكن هذا الرجل كان يقول الأشياء دون تكلف، تسيل الكلمات من فمه كأنها جدول صغير يتمشى بين أشجار الحقول، متناغماً بخريره مع نسمات الغسق، ليعزفان سوية نغمات ناعمات على ضفاف المساء.

ثم أكمل شعراً كلمات للشاعر مظفر النواب مترنماً:

ـ أنا يقتلني نصف الدفء

ونصف الموقف أكثر

لم أعلق، لكنني بقيت أفكر في كلماته، فأنا ،قبل ذلك، لم أفكر بهذ الطريقة أبداً، وربما لو فكرت كذلك لإنعكست النتيجة وانقلبت رأساً على عقب، وبصراحةأكبر، فإن ما فاجأني أن هذه الكلمات بدت وكأنها تخرج عن مثقف، وصرت أتساءل مع نفسي “أيكون هذا الرجل منهم؟ وأنا الطبيب لست سوى رجلاً متعلماً، يعرف صنعته، مثل نجار أو حداد يعرفان دواخل صنعتيهما!!!”وتأكد صحة ما ذهبت إليه مع توالي الأيام التي عشناها سوياً في تلك الزنزانة،  وفي زنازين مدينة رام الله لاحقاً، قبل أن يسلموني بيدي ورقة بالعبرية تتضمن لائحة إتهامي، وينقلونني من الزنازين إلى غرف السجن.

بقينا ما يزيد قليلاً على إسبوعين كاملين، وفي الزنازين للوقت ثمن، فالوقت مارد يتربص، فتكون في حالة من التوتر الدائم، الخوف من إعتراف جديد، من العودة للشبح والقيد والتحقيق، ومن داخل توترك يقودك حدسك، وعليه، بدل العينين، أن يرشدك، يوجّهك، يوازن لك ما بين العقل وبين القلب، ومن داخل هذا التوتر ذاته تتعمق صداقات لا تكاد تتخيلها، وتبدو مستحيلة في الخارج، وبالعادة صداقات ثابتة تتعمق مع كل لحظة تمر، وتصير ، مع توالي الأيام، مغروسةفي القلوب، تتمدد جذوراً تسير مع الشرايين، وجسوراً متتابعة متواصلة بين البشر، أو هكذا تبدّا لي في تلك الأيام.

صاروا يأخذوننا من الزنزانة لتناول وجبات الطعام في غرفة تابعة لمطبخ السجن، وصرنا نلتقي ببقية السجناء الأمنيين القادمين من غرفة الإنتظار، المتراكمين فيها لتوزيعهم على السجون المختلفة، وصرت أرى إحترام الناس له، معرفتهم به، وعلمت أنه وصل لهذه الزنازين بعد جولة واسعة في زنازين مختلفة في أكثر من مدينة، ولما جاءنا كان قد مر عليه مثلما مر علي من مدة زمنية، وكان يتوقع أن لا ينتهي التحقيق بهذه البساطة، لكنهم وعلى غير توقع، أوقفوا التحقيق معه وبعد أيام على ذلك نقلوه من زنازين سجن نابلس المركزي إلى زنازين المسكوبية.

كان يظل يقول أن جولة التحقيق هذه معه كانت شرسةلكنها سريعة، فهو في معظم جولاته السابقة كانت لا تقل مدة الواحدة منها عن ثلاثة شهور سوى أيام عدة، لكنها المرة الأولى التي إختُزلت ودفعة واحدة إلى النصف، وكان هذا الموضوع يشغل تفكيره أحياناً، لكن بشكل لا يخلو من إستغراب، وكنت أصحو من النوم أحياناً لأجده يكتم ضحكات متفجرة يحاول أن يطفئها جاهداً دون نجاح، قبل أن تنتشر في مساحة الزنزانة المغلقة، فتوقظني شظاياها، وكنت أستيقظ بسبب توتري، كما بسبب غبائي، وأحياناً كنت أفتعل النوم وعيناي تحملقان في سقف الزنزانة المضاءة بضوء أصفر باهت، سيؤدي حتماً للتأثير على البصر في قادم السنوات، وأضرب رأسي بأسئلة تزيد حنقي على نفسي، وتكشف لي غبائي المتأصل: “كيف إستطاعو إقناعي، وأنا الطبيب المتعلم، أن إعترافي سينقذ جلدي؟!!! لو لم أكن ضعيفاً لما صدقتهم، لو لم تكن لدي الرغبة بالإعتراف لما إعترفت”، وكنت أخلُص إلى النتيجة التالية في كل مرة، “أنني كنت أبحث عن مخرج لضعفي، عن مبرر أتكئ عليه، يُشكل لي حاملاً أو حتى “عكازاً” ضعيفاً متهلهلاً يحمل تبريراتي، ولو بصورة مؤقتة بين الناس، أتخطى به عجزي وضعفي وأجد بذلك ما يبرر خيانتي لنفسي، ومرات كنت أتساءل: أليس من السهل على مَنْ يخون نفسه أن يخون الآخرين؟” وأصل إلى النتيجة المؤلمة التي طالما هربت منها، “ربما، لو استمروا بضغطهم وتعذيبهم”، وللحق ومن باب الإنصاف، كان الأمر يربكني ويذهلني، فأحاول كبت تفكيري وأوقفه عن الجريان…وكان هو لا ينتبه ولا يعرف ما يدور برأسي، فلديه، في معظم لياليه على الأغلب، ما يضحكه، وبالتالي ما يبعده عن خلايا رأسي وتلافيفه، ولم أزعجه بدوري بسؤاله عما يُضحكه، يضحكه إلى درجة إنفجار ينابيع الدموع، فتتدفق وتكاد تكشف أسرار قلبه، وصار الأمر من طرفي مساومة مع نفسي، “أتركه أنا مع ضحكاته ليتركني هو مع آلامي وهمومي”.

بقي الأمر كذلك، حتى نقلونا سوياً إلى زنازين مدينة رام الله، وهناك، بقينا في الزنزانة رقم خمسة سوياً، مع ثلاثة من المعتقلين، ولما فرغ مكاناً في السجن نتيجة لحركة التنقلات الدائمة، ودعته قبل نزولي الى السجن، وتفاجأت بعد أيام من أحد “القادمين الجدد”، أن “حسّان” قد خرج إلى بيته…

عشرون عاماً مضت، ولا أدري لماذا كان طيفه يمر من فوق رأسي بين حين وآخر، وأنا في البيت أو أثناء دوامي في عيادتي الخاصة، وأحياناً وأنا أتمشى مع زوجتي في شوارع المدينة الفاجرة.

وها هو ينقض عليّ، يعانقني ويقبلني، كأنه رأى أخاً له، وأنا ،من باب رفع العتب، أضرب بكفي على كتفه، فتلك الأيام ماتت منذ زمن، بالنسبة لي على الأقل، ربما لأنني أريد أن أخفي تلك المرحلة من عمري، أن أقبرها وأهيل فوقها التراب، فما زلت أعتقد أن تلك التجربة لم تشرّفني، وأنها مرآة تريني رغم أنفي، هشاشتي وزيفي، والآن صرت متأكداً أن طيفه ظل يلاحقني ليريني أن أنصاف المواقف لا تليق بالرجال.

أصر على إصطحابي إلى مقهى مجاور، حيث تقابلنا لنشرب الشاي، وسألني عن أحوالي وعملي، إن كنت قد تزوجت وعدد أطفالي، ورأيتني أخبره كما في الأيام الخوالي، ونسيت تحفظي عليه أمام نفسي، وإختبائي خلف ضعفي، وصارت الكلمات تسيل من فمي بتأني، كانت تنز بأحرف متقطعة في أول الأمر، وتحدثنا طويلاً، وطلبنا الشاي مرةأخرى، وسألته بدوري، وعلمت أنه أعتقل أكثر من مرة من سلطة “أوسلو”، ومن ثم أعتقل إدارياً، وأن ذلك تم بتنسيق ما بين السلطتين، وقال أننا الآن في زمن آخر، زمن تحالف “إخوة الأمس مع أعداء كل يوم”، وفي هذا الزمن أنت تُراقَب بأربع عيون وليس بإثنتين فط، وتُسجن في سجنين بتحالف من سجَّانَين، وتُقتل برصاصتين، رصاصة من كان لك أخاً ورصاصة عدوكالدائم، وفي النهاية، الخير في “العربان” وزيتهم، الذين يدفعون بسخاء ليغطوا مصاريف الرصاص والسجون والتدجين والعلف…

كنت أعرف كل يقول، أو بالأصح كنت أراه، لكن كل ما خطر في ذهني في تلك اللحظات، شيء آخر مختلف عن كل ما يقول، بل إنني كنت لا أسمع ما يقول وأنا أحاول صياغة سؤالي بطريقة مناسبة، وألبسه بدلة ورباطة عنق كيلا يكون فجاً ومحرجاً، وكي لا أبدو وكأنني كنت أتجسس عل حركاته في تلك الليالي، قلت:

ـ في تلك المرحلة، كما تعلم، كنت أكاد لا أنام

قال:

ـ كنت أحس بك في الكثير من الأيام

قلت:

ـ كانت ضحكاتك تتفجر ينابيعاً، فتذيب الصمت المتوتر من على جوانب أذني، فأسمعها رغم أنفي…

عاد، رأيت ذلك بأم عيني، عاد إلى تلك المرحلة، وسرعان ما بدأ يضحك من جديد، وقال:

ـ هل أزعجتك ضحكاتي؟ هل أقلقت منامك؟

قلت:

ـ بالعكس، كنت أكبت أنفاسي وأعض على كلماتي، وأبقيت فضولي حبيس أدراج صدري كي لا أسألك لماذا تضحك؟

قال متداركاً:

ـ وتريد أن تعرف الآن سر ذلك؟

وأمام إبتسامته، رأيتني أهز رأسي بالإيجاب، فقال:

ـ في تلك الفترة الزمنية، وقبل إعتقالي بشهور، كنت أعمل مع مقاول عربي في الداخل الفلسطيني، وكان لديه عقداً بترميم بضعة بيوت في مدينة “ملبس” الفلسطينية التي أسموها “بتاح تكفا”، وهناك في شارع فرعي بإسم “يافو” كنت أقوم بتركيب الحوائط الجبسية، وكان صاحب البيت يروح ويجيء بين وقت وآخر، يحضر للمقاول ما يحتاجه من مواد البناء.

شرب شيئاً من كاسة شايه، وابتسامته معلقة كمصباح تحت شاربيه وتابع:

ـ حتى هذه اللحظة فالقصة عادية وطبيعية، وفي الأيام الأولى لوجودي في زنازين المسكوبية، كان أحد أفراد مخابراتهم يتعمد ضربي وإهانتي، كان دوره هو دور “الذئب” معي، فكان لا يترك لحظة إلاّ واستغلها في ضربي، خاصة أمام الآخرين، ليثبت لهم حسن أدائه، كما أن الأمر محمود لديهم مادام المتهم عربي، وكان هذا الرجل هو نفسه صاحب البيت الذي عملت فيه، أتتخيل الصدفة؟! لكنه لم يتذكرني، حتى أنه لم يفكر في ذلك، فهؤلاء من الغرور لدرجة لا يقيمون لنا وزناً، كما أنني في تلك الفترة لم أتعامل معه لا من بعيد ولا قريب، ولما كان يضربني في أحد اليام، وكنت مقيداً أمامه في الكرسي من يدي وقدمي، قفزت فكرة أمام عيني وشكلت سؤالاً صار يتفلت من على لساني، وقررت أن أرمي به في وجهه، وتذكرت والدتي عندما كانت ترمي بقتصتها هذه في وجه أيٍ كان في ظروف مشابهة، عندما كانت تُردد وتقول” قال الله للقرد أريد أن أسخطك، فقال القرد: أأكثر من ذلك يالله، إنني قرد وطيزي حمراء”، وقلت في نفسي “نعم …أكثر من القرد لن يخلق الله”، فحملت كلماتي ورميتها في وجهه وقلت:

سكب ما تبقّى من الشاي في حلقه مباشرة، كأنه يرمي بعيداً بما يُربك إكمال قصته وإتمامها، وتابع قائلاً، قلت للضابط بجدية كاملة:

ـ أتعتقد أنني لا أعرفك؟ أتعتقد أنك بعيد عن أيدينا؟ لقد صار إسمك وعنوانك في الخارج أيها الغبي، وقفت عيناه عن التحرك، وتسمرت يمناه، وبالكاد فتح فمه سائلاً:

ـ ماذا تقول؟ أتحادثني أنا؟

ـ أيوجد أحد غيرك في الغرفة معي؟

قلت مؤكداً وتابعت هامساً:

ـ ألست من بتاح تكفا؟ألا تسكن في شارع “يافو” رقم تسعة؟!!!

عادت يده إلى جنبه، تحول لون وجهه إلى لون الموت، كأنه، دفعة واحدة، فقد كل قطرات الدم منه، أو كأن الدم لم يعد قادراً على الصعود بعد أن إغلقت ابواب الشرايين أمامه، ولسانه الذي كان إلى قبل لحظات يتفنن بلسعي وجَلدي بكل ألوان الشتم، قد شل أو أنتزع من مكانه، وصار ينظر حواليه، وقال بصوت هامس راجف جبان:

ـ أرجوك… لدي زوجةوأطفال، إنني أقوم بعملي فقط…أرجوك

كان يتلفت مذهولاً مرعوباً، يقطر الجبن منه كما يرشح الماء من زجاجة مثقوبة، وقال من جديد:

ـ لن أمسك بعد الآن، وأنت إبق على ما أنت عليه، لا تعترف، وسأعمل على أن ينتهي التحقيق معك بأسرع وقت، ثق بي أرجوك…

ودون أن أنطق بكلمة، أكمل:

ـ إعتبر الموضوع منتهياً…

وصار أثناء شبحي يأتي ليخفف من ضغط القيود على يدي، وكان يُغرق زنزانتي بالسجائر، ولم تمر إلا أيام قليلة ورأيت نفسي بينكم في الزنازين، وكان التحقيق قد انتهى كما رأيت…

وأكمل مستغرباً:

ـ لم أكن أتوقع هشاشة هؤلاء الأوباش، لقد قلت ما قلت من باب الإستفزاز والإرباك، لكن للجبن قوانينه، كما للشجاعة قوانينها، ومهما عظمت القوة في يد الجبان وتضخمت، تكون مثل البالون فقط، فعماد القوة الشجاعة، وعماد الشجاعة الإصرار عل نيل الحق…

وتحدثنا وضحكنا، وعبثاً حاولت أن استضيفه في بيتي، لكن وقع كلماتي كان عليه جميل، وصرت أفكر بكلماته وأجلد نفسي، ” كيف استسلمت أمام مثل هؤلاء الجبناء؟ كيف استطاعوا هزيمتي، ولاحقاً دعوت الله ليساعدني في رد إعتباري لنفسي، وكنت متيقناً أن هذا لن يتم إلا بجولة جديدة من التحقيق.

محمد النجار

إحذروا الإخوان والسلطان… فشيمتهما الغدر

كنت أراه مراراً جالساً على مقعد صغير على باب بيته، بحطته الفلسطينية القديمة وعقاله الأسود، كأنه تمثال حجري قديم لا يتزحزح، يجالس، في أغلب أوقاته، الطريق، هادئاً صامتاً ثابتاً عابساً راسخاً كصخرة جبلية لا تحركها ريح ولا تهزها عاصفة، ولا تستطيع قوة، مهما عظمت، تحريك شفتيه المطبقتين على حفنات من الكلمات، اللواتي يمكنها تفسير حالته وشرح مأساته. نادراً ما ذهب وجاء إلى أي مكان، يغادر مكانه في أوقات معينة فقط، هي على الأغلب أوقات الطعام في بيته، الذي يقذفه خارجه كل صباح ويُجلسه أمامه، حتى يأتي أحد أفراد أسرته، ليأخذ بيده ويدخله لداخل البيت، وكنت أثناء مروري، من ذات الطريق، إلى بيتي، ولا أجده جالساً، أشعر بعرْي المكان، بفراغ الطريق وموته، كأن شيئاً ناقصاً، وكأن الطريق قد فقط سمته وخصوصيته، وإلى حد كبير فقد الحياة، التي طالما ميّزته عن باقي طرقات المخيم وجعلته حيّاً، إذا إستثنينا لعب أطفاله الكثر كما بقية أزقة المخيم وطرقاته المبعثرة، كما وبتاريخه الذي ما يزال حياً بوجود هذا الرجل ـ التمثال، وأمثاله، في وسطه، فرغم صمت هذا الرجل إلا أنك تستطيع تلمس عبق التاريخ وشموخ الوطن، أصله وفصله من تاريخ مكتوب ومحفوظ وصامت، أو مسكوت عنه ومُغيّب، أو حتى تائه بقصد في زحمة الأحداث ومخططات التزوير والتقسيم ومسح الذاكرة.

كان لا يتحدث مع أحد، ولا يُزعج أحداً بمتطلباتٍ مهما كانت صغيرة، يرد التحية على من يلقي بها عليه بما يشبه الصمت، ثم يعود إلى نفسه وأفكاره وهمومه التي لا يعرفها أحد البتَّة في المخيم كله. تراه أحياناً ساكتاً ساكناً مثل صخرة، وأوقاتاً قليلة يتحدث مع نفسه، لكن أحداً لم يظن يوماً أنه مجنون أو معتوه، وفي أكثر المبالغات في وصفه، كان يقول البعض “أنه رجل على باب الله”، لكن ما تبقى من قُدامى من جيله، ممن عاصروه وعرفوا قصته، كانوا في كثير من الأحيان يذهبون بكراسيهم ويجالسوه، رغم سكوته الدائم، متناقشين متحاورين في شتى الأمور، خاصة حول ما يجري في بلداننا التي ما زالت تأكلها النيران، وتحاول تفتيتها “الجراذين” بمختلف المسميات، يُدلي كل منهم بأسهمه، يختلفون ويتفقون، يتناقشون على مسمعه دون أي ردة فعل منه، لا بالأخذ ولا بالرد، حتى تأتي مواعيد مغادرتهم، يسلمون عليه ثم يغادرون، ويظل هو في مكانه على كرسيه نفسه، ثابتاً، مثل صنم حجري، لا يتحرك.

منذ ما يقرب من ربع قرن والرجل ـ التمثال، على حاله هذا، بعد أن كان عَلَماً من أعلام المخيم، منذ أن قيل له: ” جد لك عملاً آخراً… لم يعد لدينا لك مكان…كما أن ميزانيتنا لا تسمح ببقائك متفرغاً”، منذ ذلك التاريخ وجد نفسه دون أي قيمة ولا كيان، رجلاً لا لزوم له ولا مكان، فهو لم يطلب أن يكون متفرغاً، بل هم من طالبوه بذلك قبل عقدين من ذلك الزمن، عندما كان القابض على مبادئه كالقابض على الجمر، حينما عز الرجال في الزمن الصعب، والتزم ووافق تاركاً عمله لمصلحة العمل الوطني، واعتقل مرات لم يعدقادراً على عدّها، ولم يعترف يوماً على أحد رغم وصوله حد الموت مرات ومرات، وأصيب في ذراعه ورفض الذهاب للمشفى، كيلا يمنحهم فرصة الضغط عليه من خلال جرحه، والله وحده الذي ستر ذراعه من البتر، عندما مزقت الرصاصة عضلاته دون العظم، وبعد استبعاده حاول العمل، لكن شبابه كان قد خدعه وغادر، لا يدري هو متى أو أين، وكيف بهذه السرعة وعلى حين غرة، دون إذن أو إعلان، وعمل وعمل بما تبقى لديه من عضلات، من بقايا قوة ظلت متشبثة في العظام، ولما تعذّر الأمر ارتضى بالقليل، وظل أحد أبرز شخوص المخيم الوطنية، ورجل إصلاحها الأول، وكاد يمر فوق الأمر بهدوء لولا ما تم بعد إعتقاله الأخير.

عام كامل ظل في سجنه الإداري، لم يُقدم له رفاقه محامياً ولم يصله منهم مؤونة ولا غذاء، إلاّ من زوجه التي لم تكن قادرة على إطعام أطفاله، ولولا عمل إبنه البكر أحمد، إبن السابعة عشر عاماً تاركاً صفوف دراسته، لما لقيت العائلة ما يسد رمقها، كما ان “جماعته” “كما سمّاهم دائماً بسبب التحبب وشدة القرب”، لم يتفقدوا عائلته يوماً أثناء سجنه ذاك، ورغم كل ذلك تخطى الأمر وتجاوزه، لكن أن يخرج من السجن ويزوره الناس جميعاً إلّا “جماعته”، فكانت الضربة الأكبر له.

كان ينتظر أن يأتوه، أن يفرحوا به، أن يُهنئوه بسلامة خروجه، أن يخجلوا قليلاً ويعتذروا على تقصيرهم معه، وكان سيسامحهم لو فعلوا وينسى كل الإساءات والتقصير، لكنه لم ينتظر إلّا الهواء، فصار يخرج إلى باب داره حاملاً كرسياً من القش، ويجلس على باب بيته منتظراً، لعل وعسى، وظل يفكر لماذا، فهو لم يُقصر يوماً بعمل ولم يتهرب أو يتقاعس، كما لم يخن أحداً لا في حياته ولا سجنه المتكرر، بل بالعكس، فلطالما أوقف إعتراف الآخرين بصموده، فكان الحائط الذي لم يمروا منه أبداً، وظل يحاول إيجاد سبباً مفقوداً لم يجده إلى يومنا هذا، فصار يشعر بإغتراب لم يعشه أبداً، وقال كلمته تلك لولده الذي ظل يتذكرها رغم سنه المبكر، قال ” أن تكون غريباً بين جماعتك… بين أبناء بلدك… هي الطامة الكبرى، الإغتراب يابني أقسى من السجن والزنازين والتعذيب، بل حتى من الغربة نفسها، أقصى بكثير…” وسكت، ولم يتحدث بعد ذلك أبداً، ابتلع كل الصمت الجاثم في فضاء المخيم كله، وتحولت عيناه الى زوج من الكريات الزجاجية، وماتت البسمة التي كانت تميزه، وسرعان ما صار يتحول لون بشرته إلى لون الموت، وصارت تتراجع حركات جسده، فصار يتحول كل الجسد إلى عصب صخري ثقيل، يكاد لا يربطه رابط باللحم والدم الآدميين، وفي تلك المرحلة بالذات، داهم المخيم والمدينة وكل القرى المجاورة، بركان أقسى بكثير من بركان النكبة، بركان اجتث الأخضر واليابس، فأعاد خلط الأوراق والألوان والأقلام، فصار أخ الأمس عدو اليوم وعدو الأمس رفيق اليوم، ورفعت أغصان الزيتون على دوريات الجيش الذي كانت، بقايا دماء النساء والأطفال، عالقة بها مُتشبثة ترفض النزول، كشاهد على جرائم ترفض الإندثار رغم مرورها في دهاليز الزمن وجريانها مع مزاريب التاريخ، ومع تفجر بركان “أوسلو” المدمر ذاك ومرور الأيام، صارت حالة التمثال تتقدم على حالته الإنسانية، فصارت تتراجع روحه، أو ربما الأصح أن روحه صارت تتغطى بالتراكم الصخري وتفقد حياتها شيئاً فشيئاً، ولم يعرف أحد أبداً، أن ما حدث لأبي حاتم كان بسبب البركان أم بسبب الإغتراب، أم بسبب الإثنتين معاً، أو لأسباب أخرى لا يعرفها أحد.

هذه قصة أبو حاتم التي عرفتها في “سجنتي” الإدارية الأخيرة، فسلطتنا لا تستطيع أن تحمي نفسها ناهيك أن تحمي شعبها، وجنود الإحتلال يسرحون ويمرحون ويداهمون ويعتقلون ويُصيبون ويقتلون دون مواجهة أو دفاع ولا حتى رفض أو إعتراض، فداهموا المخيم واعتقلوني وآخرين، وحولوننا للإعتقال الإداري، وهناك التقيت “أبا إبراهيم” الذي حدثني عن “أبي حاتم” ،الذي صارت قصته تتراجع وتتقلص في العقول، وتضمر وتغور بعيداً في النسيان. لذلك وبعد خروجي ذهبت لعنده، جلست مقابله على باب بيته، حاولت محادثته، إغتصاب نظرة، حركة، بسمة، دون نجاح، لكنني، رغم ذلك، بقيت أتردد عليه بين وقت وآخر، ربما من باب الشفقة أو الإحترام أو العرفان لهؤلاء الذين لا يموتون إلّا واقفين، جذورهم مغروسة في قلب الأرض ورؤوسهم عالية في حضن الشمس، وصرت أحدثه عن قصص السجناء ومآسيهم التي خلقت كل هذا العنفوان لديهم، تلك القصص التي ما أن صارت جزءاً من الماضي حتى أصبحت مجالاً لأكثر حالات التندر، مدركاً أنه جزء منها، ممن نحتوا قصصها في فضاء الوطن كله، بعد حفرها عميقاً في خلايا جسده، ثم حدثته عن “أبي إبراهيم”، ونقلت له سلاماته وتحياته، الأمر الذي خلق لدي إنطباعاً بأنه فوجئ لأن هناك مَنْ ما زال يتذكره، وأن تاريخه لم يتم نسيانه، لم يمت بعد، بل ما زال حياً عند جزء من الناس على أقل تقدير، فأكثرت من الحديث عنه، وبالغت في نقل أخباره، لكن دون أن تصدر عنه أي إشارة على أنه يسمعني، بل ظلت عيناه الزجاجيتين زجاجيتان، ولون الموت الأبيض الصخري يغطي وجهه، ولم يلتفت لي أو يُغير من طبيعة جلسته أبداً.

لكنني ولسبب ما واصلت زياراتي ومجالستي له، وصرت أنقل له الأخبار اليومية ورأيي بها، خاصة ما يجري من تدمير لأوطاننا، وللحق لا أعرف حتى الآن لماذا كنت أفعل ذلك، ولطالما كنت أتمنى لو كان والدي مثله، والدي الذي ظل يعتبر نفسه مُحايداً أو حتى غير معني بكل مل يتم في مخيمنا أو خارجه، وأكثر ما فعله في حياته هو الدعاء على “اليهود” والدعاء لأمة المسلمين، كنوع من الهروب من المسؤولية، لكن الله وكأنه لا يريد الإستماع له أو لمن لا “يعقل ويتوكل”.

تردادي المتكرر لاقى استغراب الكثيرين من سكان الشارع، بما في ذلك أبناؤه، لكن أولاده سرعان ما استحسنوا الأمر، وصاروا يأتون لي بكأس شاي أو فنجان من القهوة كلما وقعت قدماي في المكان، وسرعان ما تحول وجودي لعادة أو شئ مألوف فيما تلى ذلك من أيام…

قلت له في مجالساتي المتتالية له، أشياء يعرفها أفضل مما أعرفها، وأشياء ربما لم يسمعها أو يعرفها منذ فترة مرضه أو إغترابه هذا الذي لم يخرج منه، وكان جل هدفي أن أحدثه، أن أرى منه كلمة أو إشارة أو حركة، قلت:    ـ منذ زمن قسّموا القضية، بعد أن رموا بنا خلف العصر ووراء التاريخ، فكان التاريخ العثماني وبال علينا، فبعد محاولات تتريكنا وسلب خيرات بلادنا، سلخوا لهم جزءاً من أرضنا، وأعطوا الباقي “لسايكس وبيكو”،وسرعان ما صار “بلفور” يوزع بلادنا كوطن قومي لللآخرين…

وسكت قليلاً، ثم أضفت:

وها هم أنفسهم، العثمانيون، مع ورثة “سايكس وبيكو” يدمرون بلادنا لتقسيمها واقتسامها، ليجعلوا من أحفاد “بلفور” البلد الأكبر والأقوى والأكثر تماسكاً، وربما الأكبر عدداً كما الأكثر عدة، أتتخيل لو استطاعوا تقسيمنا بين مذاهب وطوائف ماذا كان يمكن أن يحل بنا؟ستكون أكبر دولة أصغر من كيان بني صهيون!!!                             ولم يكن ليتطلع إلي في أي يوم، ورغم كل ما سمعته عنه وعرفته، إلاّ أنني بقيت أنظر له على أنه من الجيل الثائر وليس الجيل المهزوم، وهذا ما يميزه عن والدي الذي ما زال يدعو الله دون نتيجة، دون أن يكل أو يمل، وفي يوم آخر قلت له:

ـ ما زال “الأتراك” لديهم معسكرات “لداعش والنصرة”، يتدربون فيها على فنون قتلنا وتذبيحنا في الشوارع، بقيادة ضباط من “أصحاب الوطن القومي” والأمريكان والأتراك وآل سعود، لذلك عندما احتجزت لهم داعش فريقهم الدبلوماسي في الموصل، أطلقوا سراحهم دون أن يمسوا منهم أحداً “حفظاً للجميل”، تسع وأربعون دبلوماسياً لم يُجرح أو يهان أو يوبخ أو يقتل أحد منهم…. أتتخيل مدى العلاقات…

في كل ترددي ظل موضوع الغزو التركي ومحاولته تقسيم أوطاننا، ما يشغل بالي وما أقوله وأكرره على مسمعه، وصرت كمن يتحدث إلى نفسه دون أن يتلقى جواباً، لكنني أنا الذي ظل والدي يلقبني ب”العجول” على مدار حياتي، كنت طويل البال، وأتحدث مع أبي حاتم وكأنني أتحدث مع إنسان كامل الإنسانية وليس مع رجل تحوّل إلى صنم أو تمثال، رجل تحول اللحم والدم فيه إلى حجارة وصخور، وكنت أجلس بالساعات أحياناً ولا أكف عن الحديث، وقلت في يوم آخر:

ـ “السلطان العثماني الجديد”، يرفض أن يقترب أحد من حدوده، يعتبره مُهَدِدَاً لأمنه القومي، لكنه يتدخل في بلادنا، ويطالب صراحة بإسترجاع ما سلبته دولته العثمانية، يريد حلب والموصل وسنجار وكركوك ودابق وإعزاز، وبكل صفاقة يتدخل بمن يحق له في بلادنا محاربة الإرهاب ومَنْ غير المسموح له بذلك، وبعد أن إنهمكت جيوش سوريا والعراق في حربيهما، صار يرسل الدواعش بطائراته لكركوك ليعيقوا تقدم الجيش العراقي ويبعث بضباطه لتلعفر والموصل ليحاربوا بأنفسهم هناك، وليفتحوا الطريق للدواعش ليهربوا الى الرقة السورية عبر أراضيه، ويفعل كل هذا مُدعياً محاربة الإرهاب.

سكت حينئذٍ قليلاً ثم تابعت شارحاً كي لا أكف عن الكلام، وقلت:

ـ ها هو قد أدخل قواته لجرابلس ودابق، في الشمال السوري، دون أن تُطلق ولو رصاصة واحدة بينه وبين الدواعش، ليس هذا فحسب بل كل ما في الأمر أن الدواعش غيروا أعلامهم بأعلام “الجيش السوري الحر” التابع للأتراك، فصار الأتراك محاربين للإرهاب!!! أتتخيل كيف يمكن أن تستقيم الأمور؟ أن يكون جيشاً سورياً وحراً وهو تابع للأتراك والأمريكان، ويتدرب على يدهم ويد آل سعود وبني صهيون!!! والأمرّ من كل ذلك وأدهى أن هذا “السلطان العثماني الجديد”، يقود دولة علمانية، لكنه يريدنا أن نقتسم إلى طوائف ومذاهب وأديان!!! وهو نفسه، حامل لواء السلطنة والخلافة والإسلام،  أمر أخيراً محاكم بلاده بإسقاط ملاحقتها للصهاينة المجرمين الذين قتلوا أبناء شعبه التركي في سفينة مرمرة!!!!

ظل الأمر على حاله مع أبي حاتم، وبقيت أشرح له، أو الأصح أنقل له آخر الأخبار والتطورات في سوريا والعراق، وآخر أخبار اليمن السعيد الذي يحاول آل سعود أن يحرقوا سعادته، ودور الإخوان المسلمين المتواطئ مع السلطان العثماني، ودورهم في استجلاب كل حثالات البشر لقتل شعبنا العربي ومحاولة تقسيمه في غير مكان، تماماً كما فعلوا بإرسال أبنائنا لحرب الروس في أفغانستان لمصلحة الأمريكان، في قضية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وها أنت ترى أفغانستان بعد عشرات السنين من حكمهم الإسلامي، كإحدى أوائل الدول الفاشلة في العالم، بعد أن كانت على أبواب الحضارة والتقدم، هؤلاء الإخوان أنفسهم لم يستجلبوا ولو فرداً واحداً لمحاربة الإحتلال منذ سبعين عاماً، وحاربوا كل من حاول محاربته وتحالفوا مع من صادقه…

وقدمت له خلاصة الأمر على لسان موشيه آرنس أحد وزراء حرب كيان إسرائيل، وأحد أكبر باحثيه الإستراتيجيين، والذي أكد أخيراً، “أن كيانه فشل في الرهان على تنظيم القاعدة وداعش، لتحقيق ما عجز عنه جيشهم في ضرب المقاومة عام ألفين وستة”، ولم أكن أنتظر أي رد كعادتي، وقبل أن أقوم، وضعت ركبته في باطن يدي، وقلت:

ـ سآتي بعد يومين لأراك، يوم الجمعة يا أبا حاتم…                                                                           وأنا الذي لم أُناده ولا مرة حتى الآن بلقبه هذا، وجدت سيلاً من الدمع يأخذ له مجرى في أخاديد وجهه، أخاديد كان الزمن وسنوات عمره قد تآمرا عليه وخطوهما مثل سكة حراث في أرض بور، دمع متدفق وكأنه نبع قد تفجر لتوه واندلق، ولم يئن أو يتلوى أو يتألم أبو حاتم هذا، أو على الأقل لم أشعر أنا بذلك، وتفادياً للحرج، قمت وخرجت وتركته في مكانه وكأنه تمثال، بقدرة قادر، ينزف دموعاً لا تتوقف، تسير في أخاديدها مثل جدول…

كان حينها الوقت وقت غروب، تتمايل الشمس فيه متثاقلة نحو المبيت، كطفل يقاوم النوم ولا يستطيع رده، جلست على كنبة في صالون بيتي، وفتحت التلفاز دون أن أسمع ما يقول، وكنت ما زلت أفكر في دمعات ذلك الرجل العجوز المنهارة من إرتفاع عينيه إلى ما تحت ذقنه شبه الحليق، وكأنها تريد الإنتحار ولم تستطع، فظلت معلقة في أطراف ذقنه، تتراخى أيديها، غير قادرة على الثبات ولا على الإنهيار، فلا ذقنه شبه الحليق أمتصها، ولا تراخت يديها لدرجة الإنهيار، لكنه سرعان ما إحتضنها بباطن يده، وكأنه يريد أن يخفي جرماً قد إقترفه.

كانت الظلمة قد بدأت تفرد أجنحتها فوق المنزل والمخيم، وربما فوق المدينة نفسها، عندما تسلل إلى أذني صوت طرق هامس على باب بيتي، طرق متراتب هادئ، كأن الطارق يخاف أن يجرح حديد الباب، لكن لرجل سياسي مثلي، عرفت أن القادم أحد رفاقي الذي أراد أن لا يلفت الإنتباه إليه، وقدرت أن في الأمر شيء جلل، وبهدوء قمت وفتحت باب بيتي، لكن المفاجأة جاءتني حادة قاطعة كنصل سكين واضح لا لبس فيه، لقد كان أبو حاتم واقف على بابي متلفتاً ميمنة وميسرة، كأنه يقوم بعمل سري لا يريد أن يلفت الإنتباه إليه، كما في الخوالي من الأيام، رحبت به وأدخلته وأجلسته مكاني وجلست مقابله، وقبل أن أبدأ بالحديث كعادتي قال هو هذه المرة:

ـ ظننت أن من المفيد أن لا أنتظر ليوم الجمعة كي نلتقي، فبعض القضايا لا تحتمل التأجيل ويوم الجمعة ما زال بعيداً، ومن هم في مثل سني لا ضمانة عندهم ليعيشوا أبعد من يومهم، فما بالك بأيام حتى يجيء يوم الجمعة…

فقلت:

ـ خير يا عمي أبا حاتم…أُأْمرني…

فقال:

ـ عليك الذهاب إلى سوريا…

قلت:

ـ لكنني كما تعلم ممنوع من السفر، لكن لماذا؟

سكت قليلاً وكأنه يفكر في حل لهذا اللغز وقال:

ـ إذن إبعث من تثق به لهناك، إبعثه للقيادة السورية ليقل لهم وعلى لساني أنا أبو حاتم المهدي، الذي كان له ماض مشرف، أن لا يثقوا يوماً لا بالسلطان العثماني ولا بالإخوان المسلمين، فالغدر من شيمهما، بل هو ما يميزهما…

وقام من مكانه متوجهاً إلى الباب، وغادر قائلاً:

ـ اللهم اشهد فإني قد بلّغت… سأذهب حتى تستطيع تدبير أمورك بسرعة…

وغادر، وبقيت وحدي، وفكرت في كلماته، وكنت كلما فكرت في الأمر وبأي إتجاهٍ، وجدتني أصل لنفس خلاصته، فالغدر من شيم هؤلاء الناس، كانت الإنتهازية والتجارة بالدين والكذب والنفاق من ميزاتهم، ونادراً ما تجد مبدئياً واحداً في هذه الأوساط، وفكرت بأن القيادة السورية وبعد تجربتها الطويلة الدامية معهم، لا بد أنها توصلت لنفس خلاصة أبو حاتم المهدي…

إنتظرت يوم الجمعة بفارغ الصبر، وما أن إبتدأت الشمس تشق لنفسها طريقاً فوق الغيوم، بين نجوم السماء المتخفية في متاهات الدروب هروباً من عيني النهار، حتى وجدتني أحتضن كرسياً من القش وأتوجه مباشرة إلى الطريق، حيث أبو حاتم يجلس كالعادة على كرسيه، إقتربت منه حاملاً ابتسامتي فوق شفتي، وما أن جلست حتى نظر نحوي وبيده كوباً من الشاي على غير العادة، هززت له رأسي بالإيجاب وكأنني نفذت نصيحته، رأيت محاولة ابتسامة نصر تحاول الولادة المُيسرة من تحت شاربيه، لم يقل أبو حاتم المهدي شيئاً، ولم ينبس ببنت شفة، لكنه نظر إليّ طويلاً ثم ناولني كوب شايه لأشربه.

محمد النجار