الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار

“ديموقراطية” السيد الرئيس

كنا عائدَين من جنازة الشهيد أيمن، متجهيَن لبيتينا المتجاورين في طرف القرية الشرقي، قبل أن نعود، في المساء، للمشاركة بأخذ العزاء، ففي قريتنا، الجميع يتبنى الشهداء، فالشهيد إبن القرية جميعها، من رجال ونساء وأشجار وجبال ووديان، يتزاحم الجميع فيها لأخذ العزاء، محاولين مجاورة أهله وذويه، متنازعين في دعوتهم، لطعام الغداء أو العشاء. كنا نترحم على روح الشهيد، نتذكر مواصفاته الشجاعة، مقداميته وشجاعته، رغم أننا لم نكن نعرف الكثير عنه، فالجيل غبر الجيل، فهو في أول سني شبابه، ونحن فارقنا شبابنا بالأمس القريب أو البعيد، يعتمد الأمر كيف ينظر كل منا على يوم أمس.

كنت أتفادى الرجوع معه، فهو لا يحب المشي في طريق “مستقيم”، فبدلاً من السير فوق الطريق الأسفلتي المتمدد مثل أفعى أكملت لتوها إبتلاع دابة دفعة واحدة، ومازالت تتقلص وتتمدد عضلات جسدها، فهو يسحبك بجانبه من طرق جبلية، بين الحجارة و”النتش” والزعتر البري وشجيرات الميرمية، متعربشاً السلاسل الحجرية مثل قط بري، كما لو كان في مقتبل العمر وليس في خواتيمه، متوقفاً بين أغصان الزيتون وكأنه يراها للمرة الأولى، مُزيلاً بأنامله الخشنة ما جف من وُريقات أو أغصان رفيعة، كانت ما تزال متعلقة بأطراف أمها، مستمعاً لتغاريد “حسون” جميل تنساب في الأذن نحو الدم مباشرة، لتجعلك في حالة جاهزة للدبكة والعتابا والميجنا والرقصات الشعبية، متسلقاً من جديد السلاسل الحجرية مُتقافزاً فوقها، كطائر الدوري، بقفزات قصيرة واثقة، يبتسم من تحت شاربيه، ويقول:

ـ ما الشباب إلّا شباب القلب…

ولم تكن كلماته تلك مجرد شعار فارغ، مثلما يطلقها من كلمات “شيخ عجوز” على مشارف الموت، خصاه الزمن أو العمر أو عدم تمسكه بمواقف الرجال، وصار يُطلق شعارات فارغة كاذبة، فارشاً أرضاً لزواج مُقبل مع فتاة بعمر إبنته أو أقل قليلاً، بل كان يمارس شعاره هذا على أرض الواقع، في كافة نواحي الحياة، وفي هذا الزمن، من النادر أن ترى من يمارس شعاراته في الواقع وأرضه، لتكون محراثاً يترك آثاره في الرؤوس والقلوب، من يلتزم بكلماته ويمارسها عملياً في الحياة، بنفسه وعلى نفسه أولاً وقبل كل شيء. وكان هو، أبو أحمد الصادق، صادقاً مثل إسمه، وفياً وشهماً، تراه في كل يوم، يمارس “شباب قلبه”، فيلاحق جفاف الأشجار فوق الصخور، في بطون الجبال، يزرع شتلات الزيتون في مساحات الأرض الجرداء، “يُقنب” و”يرقع” ويفلح ويقلع ويزرع الحياة، فيُلبس الأرض رداءً يتزايد إخضراراً يوماً بعد آخر، وفي هذا الزمن، الوفاء والرجولة والصدق أصبحت عند المخصيين تهمة، فكان أن تنصل منها الكثيرون، لكن ليس أبو أحمد الصادق، الذي لم يتنازل قيد أنملة عن هذه الصفات التي تؤدي إلى التهلكة في زمن الردة هذا، وكثيراً ما كنت تراه يُجالس الأرض يتحدث معها، يداعب الأشجار، ينصت إليها ويهدهدها، حتى تخاله مجنوناً أو فقد عقله، أرأيت كثيراً من الناس يتحدث للأرض والأشجار ويفهمها وتفهمه؟!!!وكان يظل يؤكد أن الأرض والإنسان كلاً واحدا متكاملاً، لا تستطيع فصلهما أو التعامل معهما كإثنين منفصلين، وإن فعلت فأنت جاهل بهموم الأرض، بأخلاقها وطبعها وطبيعتها، وعليك التعلم لمعرفة صفاتها ومواصفاتها وإلا فإنك لا تستحق ركوبها ولا التظلل تحت ظلال أشجارها.

ظل أبو أحمد الصادق يزرع ويفلح ويسقي ويُعشّب الأرض، ولم تمر ولو سنة واحدة دون أن يزرع شتلات الخضار او الفاكهة الموسمية، التي أكل منها كل من رغب من سكان القرية، وكما كان يتعامل مع الأرض في الحقل يتعامل مع الإنسان، ومع أترابه من فلاحي الحقول، كلمته لم تكن يوماً تقبل القسمة على أكثر من واحد، كلمة واحدة لا تُجامل أو تتغير في قول الحق أو تأييده والوقوف معه وبجانبه، مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك، كلمات لا تخلو من السخرية اللاذعة التي تبدو أنها تُقزم الحدث، لكنها تلاحقك وتظل تدور في شعاب رأسك وطرقاته، فتُدوره وتُشغّله وتحرك خلاياه، لتكتشف أنها مارد من كلمات قاسية، يجبرك أن تصير فاعلاً حتى لو كنت كتلة من صخر، الأمر الذي خلق له مشاكل غير قليلة مع الكثيرين في مراحل حياته المتلاحقة، لكنها، في ذات الوقت، رسخت وثبتت في أعماق البشر جميعاً مصداقية رجل لا تُنازع، ممن عارضوه أو أيدوه، وصار إسمه “الصادق” يطلق عليه كصفة دالة عليه دون غيره.

الطريق من بين أشجار الزيتون، طريق جبلي أكل منا ثلاثة أضعاف الزمن الذي يأكله الطريق الإسفلتي السهل، لكنه الزمن الذي نملكه كلنا في القرية، ولا يُنازعنا أحد فيه وعليه، زمن يتساقط عن أجسادنا كحبات العرق، لكنه يأخذ غير مجراه مع أبو أحمد الصادق، فيتحول إلى زمن مُحبب للنفس سرعان ما ينفذ دون أن تدري، ودون أن تحس به، كان يُزيل بعض أوراق جافة عن أحد الغصون، يزيلها واحدة واحدة بكلتا يديه، خوفاً من أن يجرح الغصن أو يُعرّي أطرافه ويزيد آلامه، فترى أبو أحمد الصادق يتألم بآلامه، وكأنه تقطع أحد أصابعه،قلت:

ـ أرأيت يا أبا أحمد، كيف توصل العلماء إلى إمكانية الإنجاب دون إمرأة؟!!!

لا أدري ما الذي ذكرني بالأمر، لكنني ربما قلته من باب فتح موضوع للحوار، فقال أبو أحمد ساخراً في أول الأمر:

ـ أتقصد علماء المسلمين؟ بارك الله فيهم من علماء…

ضحكت بدوري بصوت يكاد يكون مرتفعاً، وقلت:

ـ نعم، بارك الله بهم، لكن ليكفونا شرهم فقط!!!

فقال بدوره:

ـ لا تخف عليهم، سيجدون له فتوى في البخاري، وربما أتحفونا بفتاوى ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، أو سيجدون لنا شيئاً لدى القرضاوي أو العريفي أو أي من “علماء” مملكة آل سعود “طال عمرهم”، وذلك أضعف الإيمان…

وسكتنا، وتقدمنا ببطء، وظل هو يبحث بعينيه الضيقتين عن ما يزعج الأشجار، بتأني وروية ودقة، ثم قلت:

ـ ألم تلاحظ أن المحتل يمنع رفع الآذان في مآذن قدسنا، ولا تسمع منهم أيما إعتراض؟

فقال مؤكداً ذاهباً أبعد مما ذهبت إليه:

ـ لا إعتراض منهم ولا من حكامهم أيضاً، فأنت ترى بأم عينك “أمير المؤمنين” العثماني، لم يعترض، بل كافأ بني صهيون، فزاد، مثل حكامنا، من علاقاته الإستراتيجية مع الكيان!!! منظمة اليونسكو تقر وتجزم بإسلامية القدس وأن لا مكان لليهود فيها، وهو يؤكد لصحف بني صهيون أنها مدينة لكل الأديان، يهدي مدننا كما يشاء دون إعتراض أو همسة عتاب لا من “سلطتنا” ولا من “علماء سُنتنا”، قادة تيار الدين السياسي من “إخوان مسلمين” وغيرهم….

قلت مازحاً:

ـ لا تبالغ يا أبا أحمد، أعط كل ذي حق حقه يارجل، ها هي السلطة تكتشف أن “إسرائيل” تتحدى المجتمع الدولي برفضها المبادرة الفرنسية!!!

عاد أبو أحمد الصادق لسخريته وقال:

ـ يا عزة الله!!! أتقول الصدق؟ أإكتشفوا الأمر بهذه السرعة؟ إكتشفوه بعد مرور سبعين عاماً فقط ،إكتشفوا أنها تتحدى المجتمع الدولي ولا تقيم له وزناً؟ لقد طمأنتني بأنهم بالكثير بعد ثلاثة أو أربعة قرون سيكتشفون أن مفاوضاتهم معهم ليست أكثر من “ولا تؤاخذني” “ظراط عَ البلاط”، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه…

وعقب وكأنه مع نفسه:

ـ وكأن في المبادرة الفرنسيةشيئاً يفيد شعبنا!!!

وسرعان ما إلتقط أبو أحمد بضعة صرارات من حول ساق شتلة زيتون ما زال طرياً، لم يقو عوده بعد ليواجه قسوة الطبيعة، وضعها ركيزة تحت حجارة سلسلة حجرية قريبة، وسألني كأنه يرجمني بحجر:

ـ ما رأيك بديقراطية السيد الرئيس؟

لم يبتسم أي منا رغم كوميدية المشهد، لأنه لم يكن سوى “كوميديا سوداء” كما يقول المثقفون، قلت:

ـ ديمقراطية التحكم بالقرار السياسي وصندوق المال!!! ألم ترَ قوة “مخالي” التِبْن والعلف في مؤتمر السيد الرئيس؟!!! أهؤلاء من كانوا حتى الأمس القريب يحملون البندقية؟!!! لقد إنتقاهم سيادته”على المفرزة”، انتقاهم واحداً واحداً مثل “بعرة الجمل المنتقاة” كما يقول قدماؤنا، مَنْ صعب على الرئيس إبعاده تكفل المحتل بذلك، إعتقالاً أو مَنعاً من الوصول… أرأيت كيف يُسحّجون ويهتفون؟ بمجرد أن يُخرج الرئيس…يُسحجون!!!

قاطعني وسأل مُستغرباً مُستهجناً ساخراً:

ـ ماذا قلت؟ كلما يُخرج الرئيس؟!!!

ـ نعم، كلما يُخرج بضع كلمات من فمه، يزداد التصفيق والتسحيج… وغلّابة!!!

قلت قبل أن يأخذ يقود من جديد دفة الحوار، فقال:

ـ شكراً أنك أوضحت ماذا أخرج الرئيس من فمه، لأنني كدت أفهمك بشكل خاطئ، لكنني أظن أنهم ما زالوا يحملون البندقية، لكنهم غيروا أهدافها فقط، غيروا إتجاهها، صارت، كبنادق الآخرين من مشيخات وممالك ورئاسات، تُطلق للخلف، تغير نوعها من “بندقية عز وفخر” الى بندقية ّذل وإذلال وهوان”، ألم تتساءل يوماً كيف لبندقية سلمها لك المحتل أن يكون إتجاه رصاصاتها؟!!! و”غلّابة” التي يقصدون صحيحة، لكن غلاّبة على مَنْ؟  هذا هو السؤال؟

ثم تابع حديثه، وما زال ينظر إلى الأشجار وكأنه يراها للمرة الأولى، أو لا يراها أبداً:

ـ ألم تر “ديمقراطيته” عندما ابتدأ مؤتمره بتثبيت نفسه رئيساً؟ رئيساً دون سؤال أو محاسبة أو تقييم لما أوصلنا إليه، دون حتى مجرد نقد، رئيس دون برنامج عمل أو حتى خطوط عريضة، فقط بأن المفاوضات خيار استراتيجي، يعني أبقانا عُراة أمامهم أكثر مما كنا، أتتخيل أن يكون مثل هذا الرجل عاملاً مشتركاً للجميع؟ يعني هو “وجه البُكسة” كما يُقال، أتتخيل كيف يفخر بكونه هو مَنْ وقع “أوسلو”؟وكأنه جاء لنا بتحرير الأرض؟ أتستطيع أن تتخيل إلى أي حضيض وإنحطاط وصلنا؟ وتراه يقف بكل صلافة و”عنجهية” متحدياً أن يكون تنازل عن الثوابت الفلسطينية!!! فتقسيم المحتل من لما أُحتِل منذ العام سبع وستين ين غزة وضفة، ودوره وحصته بذلك، من الثوابت الفلسطينية، وتقزيم الوطن إلى 18% والحبل على الجرّار من الثوابت الفلسطينية، كما ورفضه شخصياً حق العودة، ووثيقة عبد ربه ـ بيلين التي تمت بإشرافه من الثوابت الفلسطينية، والمفاوضات العبثية المفتوحة على احتمالات التفريط والتنازل عن كل شيء من الثوابت الوطنية، وتجهيز جيش الحراسة الفلسطيني، على مدار الساعة، لدولة بني صهيون من الثوابت الفلسطينية، والوقوف على أبواب الحرب الأهلية الفلسطينية من الثوابت الفلسطينية، وتقسيم مدن الضفة وقراها ومخيماتها إلى “غيتوات” هو من لب الثوابت الفلسطينية، وتراخيه وهوانه أمام بناء المستوطنات من الثوابت الفلسطينية، وربط إقتصادنا الوطني بإقتصاد الإحتلال من الثوابت الفلسطينية، فتح السجون والتنسيق الأمني مع الإحتلال لقتل واعتقال ما تبقى من رجال هو من الثوابت الفلسطينية… والنجاح الأبرز في مؤتمر السيد الرئيس، أنه عمل لعزل أي قائد رفضه المحتل وأبقى له من أراد، من باب “المجاملة” وليس الخضوع كما يتوهم الكثيرون …

داعب غصن شجرة براحة يده، كأنه يمررها على رأس طفل ليُهدئ بعض آلامه، وأكمل دون أن يلتفت إليّ:

ـ  ديمقراطية الرجل تشمل كل ما سبق، كما تشمل كل ما فعله من أجل “إنهاء” ظاهرة الإفساد والمفسدين داخل سلطته وقيادته!! كما “التخلص” من كل العملاء الذين أورثهم لنا الإحتلال، و”الإصلاح” اليومي والمتتالي داخل أجهزة منظمة التحرير ومؤسساتها،  و”الإلتزام” الصارم بمقررات المجلس المركزي الفلسطيني بحذافيرها، الأمر الذي أكد جماعية القيادة وعدم فرديتها والتزامها بالهم الوطني الجمعي، وليس بالمصالح الفردية الأنانية، كما ولم يترك شهيداً إلا وزار أهله وواساهم، ولا أسيراً إلا وعمل على تحريره، ولم يترك مؤسسة دولية إلا وطرق بابها ليحاكم جزاري الإحتلال، ولم يشارك بجنازات قادة الإحتلال ولم يرسل من يواسيهم، ولم يقمع تظاهرة ولم يعتدي على صاحب رأي أو فكرة، ولم يورث مالاً لأبنائه وأحفاده سوى ما زاد من معاشه الشهري، ولم يُحول السلطة ومرابحها إلى مؤسسة خاصة له ثم له ثم له ثم لحاشيته، وبالتالي لم يكن الشعب هو الخاسر الأبرز والوحيد في هذه السلطة، وطبق على نفسه أولاً ثم على الحاشية الكريمة ثانياً قانون “من أين لك هذا؟”، الأمر الذي جعل “قضاة” “المحكمة الدستورية” رعاهم الله، يكلفونه بكل ثقة بأن يُقيل أي عضو في المجلس التشريعي إن خالف أمره أو إحتج على سياساته!!! يعني لا يهم أن الشعب الذي إختار ذلك العضو، فسلطة الرئيس فوق الشعب وسلطته، وهل يصح أن يكون للشعب سلطة بوجود الرئيس؟!!!وبالتالي من حق الشعب أن ينتخب مَنْ يريد، لكن من حق الرئيس أن يُقيل من يريد أيضاً، أرأيت الديمقراطية التي يتمتع بها؟ أسمعته، ولو مرة واحدة، يقول أن الشعب لا يحق له الإنتخاب أو التظاهر أو لا يحق له حرية التعبير لا سمح الله ولا قدّر؟ بالطبع لا، لكن الشعب يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الرئيس، فمن حق الرئيس أيضاً أن يعتقل المتظاهر وأن يسجن المناضل أو حتى يقتله، ومن حقه قمع الأصوات “الشواذ”التي لا تروقه….

قطعت عليه حبل أفكاره المتسلسل، وقفت في وسط الطريق، أمسكته من ذراعه، قلت:

ـ كفى أرجوك، كفى هداك الله، أتعتقدني بليد إلى درجة أستطيع أن أسمع كل ذلك وأبقى صامتاً؟!!! كفى يارجل، فوالله ورغم معرفتي بكل ما تقول وأكثر، إلا أنني لا أستطيع أن أسمع المزيد… لقدجعل منا هو وأمثاله قطيعاً من الأغنام، ويعاملنا بنفس طريقة القطيع، ألم ترهم كيف يتصرفون، كلما أكل القطيع شيئاً من التبن والعلف كلما تساقط في الحوض غيرها من الفتات، وهؤلاء، كلما ارتفع حجم التسحيج وتعالت أصوات الهتاف الباصمة، كلما فتح لهم الرئيس المعلف لتنزل حبات الشعير، ألم ترهم شاخصي العيون فاغري الأفواه مشرئبي الأعناق، تُبح حناجرهم تُسحج أكفهم منتظرين أن تُعلق مخالي الشعير في رقابهم؟ وكلما ارتفع الهتاف وعلا التسحيج كلما اقتربت من أعناقهم المخالي أكثر؟والطامة الكبرى أنهم ما زالوا يتغنون بالوطنية والشموخ الوطني، وهم لا يخرجون عن أهداف المحتل قيد أنملة… …كفى يا أبا أحمد الصادق…كل مرة أقسم أن لا آتي معك من هذا الطريق، وأن لا أرافقك، كيلا تذكرني بمخازينا وعهر قادتنا، لكنني سرعان ما أنقض وعدي لنفسي وأفعل العكس، وكأن تسلق هذه الطرق الوعرة تَسْهُل بمرافقتك، وكأن حفيف أوراق أشجار الزيتون تدق في رأسي مثل قرع الأجراس، فتجدني أتبعك مثل حمل صغير يتبع أمه، كفى يارجل،  لنكف عن الكلام ولنذهب لأخذ العزاء بالشهيد، فيبدو أن ما في هذا الوطن من شهداء، ما به من أنين جرحى، ونهر الأسرى الذي مازال يتدفق كنبع الماء الطاهر من أعلى الجبل، هي الشيء الوحيد الصادق الذي ظل يحمي هذا الوطن…

محمد النجار

إن لم تستحِ فافعل ما شئت

أكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أن روايته حقيقية، لا تشوبها شائبة، وأن المتشكك أو الملتبس عليه البحث في كتب التاريخ، القديم منه والحديث، متنوراً متبصراً ليعرف ويتأكد من ذلك بنفسه، وأكد أن من الصحيح القول أن النار تخلف رماداً إن لم تسقها بالمزيد من العمل والحطب والبنادق والأفكار، لذلك لا تستغربوا أن يكون الرماد أحياناً ميتاً خالٍ حتى من بعض الشرارات، حيث الأمل مفقود، والنار محاصرة معزولة محبوسة، لذلك فالإبن اللص لا يشبه أبيه الأمين بشيء حتى لو كان من نفس دمه، بل يكاد يُخرج أباه من قبره، محتجاً غاضباً صارخاً به، أن يتوقف عن النذالة والحقارة والعبث، لذا فشتّان بين الأب والإبن، في كثير من الأحيان كما شتان بين الثرى والثرية.

وأضاف الراوي أن الأمر ينطبق على معظم رموز سلطة بني كنعان، منذ نشأتها وحتى تتهاوى على رؤوسهم، من أعلى الهرم، رأسهم ورئيسهم، و”خليفتهم”حتى وإن لم يصم أو يصلي، ولا حتى يقوم الليل إلا لتفقد تكاثر المال في الحسابات والبنوك، مروراً بحاشيته التي باعت وطنيتها وضميرها واستعاضت عنهما النفاق والكذب والتبعية، التي تساعدها في تكديس المال ودفن الكرامة والمروءة والأخلاق.

وأضاف الراوي، معطياً مثالاً على ذلك:

أن هناك من الأسماء ما يتناقض مع أفعال صاحبه، فحين تقول “الطيب”، يمكن أن يعني الخبيث، وأن “الطيب” في “الطيب عبد الرحيم”، هو اسم وليس صفة، وخلافاً لأبيه، فمن أبرز صفات صاحبه، الكذب والنفاق واللعب على الحبال من أجل حفنة مال، ومثال ذلك أن الرجل كان من أكثر الناس إلتصاقاً برئيسه السابق ياسر عرفات، وكان يدافع عنه ب”الباع والذراع”، وخاصة أمام خصمه اللدود المدعوم أمريكياً، والمقبول من الصهاينة العرب كما الصهاينة الأصليين، السيد عباس، وتخال “الطيب” أحياناً قائداً وطنياً صلباً ، يرفض وصول عباس للسلطة على حساب عرفات، أو حتى أخذ جزء من صلاحياته، ويعتبره مؤامرة على الوطن والقضية، وخطوة على طريق تصفيتها، لكن ما أن توفى الله عرفات وجاء خليفة سلطة أوسلو الجديد، حتى صار “الطيب” من أهم أعمدة “الخليفة” الجديد، ويعلم الله أنه لو جاء أي رئيس آخر بما في ذلك “الدحلان” الذي يعاديه اليوم هذا “الطيب”، لانقلب على نفسه وصار من أقرب المقربين له، مقابل الإحتفاظ بمركزه المالي والإقتصادي، وقوته وتأثيره السياسي ، ويقول البعض أن الله وحده يعلم كيف تتم الإنقلابات داخل كيانات هؤلاء البشر، فيصبحون اليوم نقضاء الأمس، ويدافعون اليوم عمّا حاربوه بالأمس. لكن ومن باب نقل الأمانة كما هي يؤكد الراوي، أن الرجل كان رجل ثقة عند رئيسه الأول وولي نعمته الذي علمه وجعله سفيراً ووزره وأعطاه المناصب والمراكز العليا على طول الطريق، وما يؤكد الأمر تسلم الرجل مسؤولية رئاسة اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد ومحاربته، منذ أواسط التسعينات، وحقق الرجل ما تعجز عنه مؤسسات بأكملها وعدتها وعديدها، الأمر الذي “نظّف” البيت الكنعاني برمته من الفساد والفاسدين، ومن “عواهر” السياسة، ومن الطفيليات البشرية والمنافقين، ولم يبق به لا إنتهازيين، ولا متملقين، ولا طفيليين، لذا وصلنا لما وصلنا إليه الآن، بعد مرور عشرين عاماً كاملة على تشكيل تلك اللجنة، وهذا غيض من فيض من إنجازات الرجل، كي لا نتحدث عن إنجازاته في لجنة الحوار مع المعارضة الفلسطينية، أو في داخل الخارجية الفلسطينية وسفاراتها التي لن تجد فيها ولو سفارة واحدة ولا سفير واحد تنخر بهما مخابرات العالم وسفلته، ولن تجد منهم فاسداً واحداً، أو سفيراً غير مؤهل أو لصاً أو عابثاً أو سكيراً أو حتى تاجراً، تماماً كما أعضاء المجلس الوطني الذي هو أحد أعضاءه، والذي يرفع يده به أوتوماتيكياً ويهز برأسه كلما سمع صوت ولي نعمته، وكذلك لا يمكن نسيان دوره، في تعميق الديمقراطية في مؤسسات السلطة وداخل حركة فتح نفسها، وداخل مؤسسة الرئاسة في السلطة، والأهم حفاظه ومن معه من قيادة “رعاها الله” حفاظاً مستميتاً على القرار الوطني المستقل لبني كنعان، لدرجة أصبح كل من هب ودب، بما في ذلك الإمارات “بلا صغرة” تحاول فرض رئيساً علينا!!!…

ويضيف الراوي، أن ما ذكّره بهذا الأمر الآن وفي هذا الوقت بالذات، ما قاله وصرح به هذا الرجل من أكاذيب وقلب للحقائق، عندما صرّح باسم الرئاسة وبإسم الرئيس شخصياً، أنه يدين بشدة قصف أنصار الله والجيش اليمني لمكة المكرمة، رغم أن كل العالم أقر بأن القصف كان لمطار عسكري في جدة “غير المكرمة” وليس ل”مكة المكرمة”، وهو ومن حوله يعلمون ذلك، ثم و”ما دمتم تقولون أنكم حياديون، فلماذا لم تستنكروا ولو مرة واحدة وبنفس الطريقة والقياس، وحتى لو من باب رفع العتب، أو التساوي في الإدانات، المجازر ضد المدنيين التي يقوم بها آل سعود، لهذا الشعب الذي قدم للقضية الغالي والنفيس، وكان دوماً في مقدمة الشعوب الداعمة لها وبالدم؟ وإن كان لديكم حرج في موضوع اليمن، فلماذا لم تحتجوا على إعتقال “خالد العمير” الذي حكمت عليه محاكم آل سعود بثماني سنوات من السجن الفعلي لا لشيء إلّا لأنه استنكر حرب بني صهيون وقصفهم لقطاع غزة؟ ألا يستحق الرجل منكم ولو كلمة تضامن واحدة معه ؟وإن كنتم لا تهتمون بالبشر بل بالأماكن المقدسة، فلماذا لم تستنكرون ما قصفه آل سعود من مساجد داخل اليمن؟ ولماذا لم تستنكروا تدمير الكعبة من آل سعود على رأس الثائر جهيمان العتيبي وجماعته؟ أو لماذا لم تستنكروا يوماً تدمير المقابر والمساجد التاريخية، ولا حتى قبور الصحابة أنفسهم على يد الوهابيين في مملكة العهر والظلام؟ وما دمتم بهذا الوضوح وهذه الصلابة مع آل سعود، لمبدئيتكم طبعاً وليس خوفاً وطمعاً، فلماذا لا نرى منكم خطوة عملية واحدة على قتل الصهاينة لأبنائنا؟ أم لأنهم أبناؤنا وليسوا أبناءكم؟ فأبناؤكم يتسوحون ويتعلمون ويتاجرون في بلاد العم سام!!! ولماذا لم ترفعوا صوتكم مرة واحدة وتتقدمون حتى لو بشكوى ضد الإحتلال عل ما فعله بأقصانا وصخرتنا وكنائسنا ومقابرنا إلى محكمة الجنايات الدولية حتى لو من باب إغلاق أفواهنا؟”

ويضيف الراوي قائلاً، فعلاً “إن لم تستحِ فافعل ما شئت”، فإن المذكور ومن حوله من قيادة مهترئة متصدعة، لم يعودوا يستحون، لذلك سرعان ما رفضوا مبادرة السيد رمضان عبدالله شلح، لرأب الصدع في ساحة “بني كنعان”، وأن الأمر كان متوقعاً ولا توجد به مفاجآت، كونهم يأتمرون بأوامر “الفرنجة” و”بني صهيون” و”الأعراب الأشد كفراً ونفاقاً” من آل سعود وأشباههم، ولم يكن يوماً أمرهم من رأسهم أو بيدهم، كما أنهم لن يقبلوا أن يتخلوا عن السلطة أو أن يتقاسموها مع أي أحد آخر، فمن هو، من وجهةنظرهم، ذلك الأحمق الذي يترك من يده “بقرة” حلوب أو “دجاجة” تبيض ذهباً، ويتقاسم حليبها أو ذهبها مع الآخرين؟ وبجانب الخسارة الإقتصادية هذه، سيقل عدد المسحجين والأنتهازيين والطفيليات من حولهم، الأمر الذي يمكن أن يؤدي لفقدانهم القرار الوطني “المستقل” لبني كنعان جميعاً، وينعكس سلباً على قضيتهم كلها!!!

كما أن الموافقة على برنامج الرجل يعني، إعادة تثوير المنظمة، ورفع رايات بنادقها، وهم، وبعد أن تكرشوا وتعودوا رفاهية العيش وبذخه، لا يستطيعون ترك حياة الفنادق الفاخرة “v i p” والتعود على حياة الخنادق، ويعلم الله أنهم كم يودون فعل ذلك لو استطاعوا، لكنهم لا يستطيعون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لذلك فهم يفضلون البقاء كما هم، “كعاهرات الليل”، يقتاتون على فتات بني صهيون من عرب وغير عرب، على أن يغامروا مغامرات تفقدهم حتى هذا الفتات…

لذلك، يؤكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أنهم، وبمناسبة الذكرى التاسعة والتسعين لوعد بلفور، أناس واقعيون، غير مغامرين، مدركون أن لكل شيء في هذا الوجود ثمنه، وأنهم منذ اللحظة التي خُيِّروا فيها بين “السلة والذلة” إختاروا بكل صدق واقتناع، الذلة ثم الذلة ثم الذلة، كثمن لا طريق غيره لتحقيق الذات، وأن الناس ستعتاد على ما يبثونه بينهم من سموم في الصحافة والإعلام، وسيرتدعون من خلال الملاحقات البوليسية والقتل والسجون، تماماً كما اعتادوا على قرار 242 و على ال”لعم” الشهيرة، وعلى التنازل عن الميثاق الوطني، والتنازل في الأمم المتحدة عن أن “اسرائيل” دولة عنصرية، من كل “التكتيكات” التي قاموا بها، وأن “آل عباس” وسلطته وأبناؤه وحاشيته، تدرك أن التكتيك يجب أن يخدم الإستراتيجية، وأنهم يجزمون أن تكتيكاتهم تخدم الإستراتيجية، لكن إستراتيجية بني صهيون، والتي صارت استراتيجيتهم جزء لا يتجزأ منها، وتخدم مشاريعهم وأهدافهم المشتركة، كما أن هذه التكتيكات تدر عليهم الملايين، وبالنسبة إليهم، فإن الكرامة مهما علت وكبرت ووسعت واتسعت فإنها لا تستطيع أن تملأ جيباً واحداً بالدراهم، عِوضاً عن الملايين، حتى أن بعضهم يسخر قائلاً أن الكرامة لا تجلب إلا الفقر، بل هي والفقر متلازمتان…ومهما قيل، فإن الخنادق لا تجلب غير الكرامة، والكرامة وعزة النفس لا تستقيمان دون تضحية، وللتضحية أخطار وطريق طويل متعب خطر ممل، وفي أحسن أحواله لا يجلب المال، لذلك سنوا القوانين “الديمقراطية”، وسمحوا للمواطنين بالتظاهر لتأييد الرئاسة، وبمشاهدة سيادته خطيباً مفوهاً على شاشات التلفاز، وبقراءة الصحف التي تخضع للرقابة، وحرّموا استخدام السكاكين في المطابخ والشوارع والأسواق، ولما استخدم بنو كنعان أسنانهم في تقشير البرتقال لأكله، اقتلعوا أنيابهم حفاظاً على الأمن العام، وسمحوا للشعب بأسره، ولكل من أراد منه أن يتحول إلى “أنعام”، ومن رفض حاولوا إقناعه بالحسنى أو بالسوط ، أن “يضع رأسه بين الرؤوس ويقول يا قطاع الرؤوس”، وصاروا ينشرون السلام بدل الكره الذي كان سائداً في البلاد لصهيون وبنيه، وظلوا يقنعون الناس “أن يسامحوا بحقوقهم لأن “المسامح كريم”، وأن جزاءهم في الآخرة “خير وأبقى”، وقرروا أن يصمدوا بوجه بني صهيون حاملين الرايات البيضاء بكل عز وشموخ، وأن يظلوا يطالبون “بالمرحاض” الذي حشروهم به دون سيادة، بعد أن أخرجوهم من غرف البيت وساحاته الخضراء.           لذلك كان كلما ضربهم المحتل بحذائه على خدهم الأيمن أداروا له الأيسر، ولما ضربهم على الخدين معاً، وب”الشلاليط” أيضاً على أماكن أخرى، تتحسسوا أماكن الألم وتعايشوا معه في بادئ الأمر، ولما تكرر الأمر وتكاثر ترداده تعودوا عليه، ولم يعودوا يحسون به، واختفت آلامه لاحقاً، وابتدأت تداعياته، فأخذوا يثبتون حسن نواياهم، فقاموا وما يزالون بخطف “المخربين” وسجنهم وقتل بعضهم، واعتقال “المشاغبين”، وملاحقة الأقلام “الجارحة” لتكسيرها، وإغلاق الأفواه وكتم الأنفاس، من باب الإلتزام بالمواثيق الموقعة مع بني صهيون، وتابعوا باقتحام المخيمات والقرى والمدن التي ما تزال تفرخ المتظاهرين، لتخريب كل ما تم انجازه حتى اللحظة من أمن وسلام وتطبيع ومحبة، وصاروا يؤمنون بالله وآل سعود وبني صهيون، ويؤمنون بأن البقاء للأقوى كما أكد القائد نتنياهو، لغيرهم وليس لهم، وأما هم فقوتهم تكمن في شدة بطشهم للمشاغبين المارقين المغامرين من بني كنعان، وبشدة ضعفهم أمام بني صهيون، وأما نتنياهو وإن ضربهم بالنعال، فإن نعاله يملؤها “سلام الشجعان” وتُغلفها الأعلاف، وسكوتهم عما يفعله آل سعود وغيرهم، رغم معرفتهم “أن السكوت عن الحق شيطان أخرس”، لكنه أخرس غني وأفضل من متحدث فقير. وكما يضربهم نتنياهو بحذائه هم يضربون الشعب بالأحذية والرصاص، ليثبتوا له وللقاصي والداني جديتهم في محاربة رافضي الخضوع لهم والخنوع لأسيادهم من بني صهيون عرباً وعجم.     ويؤكد الراوي بأنه لا يستطيع فتح ملفاتهم مجتمعين، بل فرادى وبالتقسيط، لأن رائحة ملفاتهم وسيرتهم تزكم الأنوف وتعمي العيون، وأن كمية العفن والفساد والسقوط واللصوصية، يستحيل وجودها بهذا الكم في بقعة جغرافية صغيرة “كمرحاض” أرض كنعان حيث يقطنون، بعد أن تنازلوا عن المنزل وحديقة البيت، الأمر الذي ربما يؤدي لعكس ما يريده من وراء هذه الكلمات، لذا سيكتفي بهذا القدر فقط في هذا اليوم… والله من وراء القصد.

محمد النجار

الأستاذ خميس

عاد إلينا الأستاذ خميس بعد أيام على إعتقاله من أجهزة الأمن الفلسطينية، التي تعودت على “إستضافته” بين فترة وأخرى، “إستضافة” إجبارية غير مرحب بها من جانبه، ومن جانبهم ضرورية لتذكيره بعدم تجاوز حدوده، لكنه لم يتعلم بعد أن يكون “رقيباً ذاتياً” على كلماته ونفسه وتصرفاته كما فعل الكثيرون، كما أنهم لم يأتوا لبيته هذه المرة، بل حملوه من الشارع، من وسط المتظاهرين المحتجين على عزاء السلطة ورئيسها وزباينته في جنازة “المجرم” بيريس…

كنا نحن طلاب الصف الثاني عشر، نحبه لدماثته وحسن خلقه، حتى مَنْ عارضه في السياسة، أحبه مثل البقية، فهو يقول ما لديه بكل شفافية ووضوح، بغض النظر عمن يتواجد أمامه، بل إنه، وبالضبط، عندما يتواجد خصمه في الأفكار والمواقف، يقول ما يريد بوضوح ليس بعده وضوح.

ظل الأستاذ خميس يخاطب طلابه ب”أولادي”، رغم أنه لم يتجاوز الأربعين بكثير، ويتحدث كرجل في الستين، بهدوء وروية لا تخلو من الحِكَم، كما ظلت كلماته دوماً تنحض بالأمل في قالب من الفكاهة، وكنا عندما يبدأ بذلك نفهمه مباشرة، ونسايره عارفين أن الحصة هذه ستذهب أدراج الرياح، وأننا لن نتعلم شيئاً جديداً من قواعد اللغة أو نصوصها العربية، وستتحول “حصتنا” إلى عرض لوجهات نظر سياسية لا تخلو من مناكفات أحياناً.

قال الأستاذ خميس بمجرد أن دخل الفصل، ممسكاً ب”طبشورة” بين أصابعه، في نفس اللحظة التي كتب بها:

ـ أعرب الجملة التالية: أفتى “الهباش” كذباً…

ونحن الذين نعرف أن ليس المقصود الدرس بل الخبر نفسه، سأل أحدنا الأستاذ خميس:

ـ وبماذا أفتى الهباش يا أستاذ؟

فقال:

ـ لا أعرف بالضبط أأفتى الرجل أم أفسى، على رأي الشاعر أحمد فؤاد نجم، لكنه أفتى بتخوين معظم الشعب وفصائله وقياداته الرافضة لنهج أوسلو، وبتعبير أدق، لكل من خالف رئيسه بأي شيء، أفتى بتخوينه وبشره بجهنم وبئس المصير، والمصيبة أنه يصرخ ويؤشر بإصبعه مهدداً، ويستحمرنا ويستخف بعقولنا، وكأننا لا نعلم أن معاش آخر الشهر هو من يتكلم بلسانه… أرأيتم عبثاً أكثر من ذلك؟ بماذا يختلف هذا عن الدواعش وأخواتهم؟ أليسوا جميعاً يستغلون الدين ويشوهونه لخدمة مآربهم ومصالحهم؟                                                               لم يكن أي منا ليدافع عن “الهباش” أو عن فتاويه، فكلنا يعلم أن الرخيص رخيصاً مهما قال أو “زايد” أو انفعل، كما أكد صادقاً الأستاذ خميس، وقال عامر الذي كثيراً ما “لحّن” للأستاذ خميس ليستمر في “غنائه”، مكملاً ومساعداً كي تذهب حصة القواعد العربي للجحيم:

ـ يبدو أن غيابك يا استاذ قد حجب عنك آخر ما فعل…

فقال الأستاذ خميس:

ـ هات ما عندك يابني… أتحفني بجواهره… إضربني بأخباره لا سُد فوك…

وكانت ضحكاتنا مسموعة دون تعليق من الأستاذ خميس، وأكمل عامر:

ـ لقد التقى مجموعة من “الحاخامات” الصهاينة، ثم مع رئيس الكيان العبري… من أجل “السلام” كما تعلم يا أستاذ…                                                                                                                               فقال الأستاذ مُستهزئاً:

ـ آه… طبعاً كما أعرف… وكما تعرفون أنتم أيضاً، وكيف لي أن لا أعرف أن كل شيء من أجل “السلام”؟

وسكت قليلاً وكأنه يأخذ موقعاً خلف بندقية في معركة تدور بضراوة على الأرض:

ـ لكن الشيء الذي لا أعرفه، كيف يمكن أن يكون المرء بهذ النذالة؟ كيف يرتضي ذلك؟ إنني حتى لا أستطيع أن أتخيل ذلك، فحتى عدوك يحتقرك عندما تكون عميلاً، ألم يقرأ هؤلاء أو يسمعوا عن معاملة الكيان لعملاءه في فلسطين أو جنوب لبنان؟!!! ألا يكفيهم كيف يتعامل هؤلاء الأعداء مع رئيسهم نفسه، الذي يرقص عارياً أمامهم كالبهلوان في السيرك؟ كيف يكون شعورهم عندما يتحدثون مع الصهاينة والدماء تملأ الشوارع والأزقة؟ ورصاص “سلامهم” يفجر جماجم النساء؟ وهراواتهم تحطم عظام الأطفال؟ كيف يستطيعون التحدث عراة غير قادرين على إخفاء عوراتهم؟

وسكت هنيهة من جديد وتساءل الأستاذ خميس قائلاً:

ـ كيف يستطيع هؤلاء أن يقبلوا أن يساقون كالبهائم أمام المال؟!!! ألم يتعلموا بعد أن البدلات ورباطات العنق، مهما كانت ثمينة، لا تستطيع حجب نهر الذل المتدفق من وجوههم البائسة؟

كنا قد توقفنا عن الكلام تقريباً أمام سياط أسئلته، ولما توقف قال زميلنا سمير مخاطباً الفصل كله:

ـ ألا تتذكرون كلمات الرئيس عباس الشهيرة، وهو يقول، “لو خرجت مظاهرة من عشرة أشخاص ضدي سأستقيل، سأستقيل حتى قبل أن تخرج، لأن هذا يعني أن نهجي ضد نهج الشعب، وأنا لا أقبل أن أعمل ضد نهج شعبي”…

وهنا صفق الأستاذ خميس بيديه، صفق دون أن يبتسم، وقال:

ـ أظن أن الرئيس قد صدق، فهو قد حدد عدد المتظاهرين بعشرة، أما الذين خرجوا ضده في كل مرة فأكثر من عشرة، حتى في الإحتجاج الأخير، لذلك أوعز بقمعهم، كما أنه لم يستقل…

فقال سمير من جديد:

ـ يقولون يا أستاذ أن مظاهرة من “فتح” تصدت لمظاهرة المحتجين، وأن السلطة لا شأن لها بذلك…

فقال الأستاذ خميس، وكأنه خرج عن سياق الموضوع:

ـ أترى يابني عندما يحارب الجيش السوري الإرهابيين كيف تكون شراسة المعارك؟

ولم ينتظر جواباً وتابع:

ـ لكن عندما دخل “الأتراك” بذريعة محاربتهم لم تُطلق رصاصة واحدة، بل يؤكد الكثيرون أن “الدواعش” خلعوا لباس داعش وارتدوا ثياب “الجيش الحر”، وهكذا هؤلاء، يقومون بالأمر نفسه، خلعت شرطتهم لباس الشرطة ولبست ملابس “فتح”، وهذا لا يعني أن ليس بينهم “فتح”، فبالمال يمكن شراء الكثيرين من فتح ومن خارجها أيضاً، وبغض النظر عن لباسهم يابني، إن كان لباس شرطة أو لباس مدني، نعم، بغض النظر عن نوع لباسهم، هناك حقيقة واحدة ساطعة، أنهم عراة لبسوا أو لم يلبسوا، إنهم عراة مخصيين يستثيرون النقمة حيناً والشفقة أحيانا أخرى…

انقضوا على المتظاهرين المحتجين، كما جاءت الشرطة بملابس مدنية أيضاً، وضربوا وقمعوا وفتكوا، لقد كانت أدوات السلطة القمعية أكثر من عدد المتظاهرين، فهربن الصبايا وهرب الشباب، ورغم كوني غير مشارك في المظاهرة إلا أنني تبعت شرطتهم التي كانت بملابس مدنية، لما رأيتهم يتبعون الشباب والصبايا في الشوارع الفرعية، ربما بدافع الفضول، لأعرف الى أي درجة من الحضيض وصلوا، فالخيانة تبدأ بخطوة بسيطة أول الأمر، لكنها تضحي بئراً عميقاً ليس له قرار، فرأيتهم بأم عيني كبف يضربون الجميع، وأثارني التحرش بالفتيات، هؤلاء الفتيات اللواتي في معظمهن بنات شهداء وجرحى وأسرى، يتحرشون بهن ليذلونهن، تماماً كما فعل الأخوان مع الفتيات اللواتي تظاهروا ضدهم في أكثر من بلد عربي، واعتبرونهن خرجن كي يُتحرش بهن!!! ربما يعتقدون أنهم بذلك يثبتون رجولتهم المفقودة. تصوروا، رجال مدججين بالأسلحة والهراوات، يضربون مجموعة صبية وفتيات ويتحرشون بهن، تماماً مثل رجل مخصي يضرب زوجته ليثبت لها رجولته المفقودة، لكن الخلل ليس بهم وحدهم، الخلل الأكبر بمن وراء المظاهرة من قيادات أيضاً، لو كان هؤلاء رجالاً لما تجرأت على مؤيديهم السلطة وأدواتها، إنني أتذكر قبل سنوات خلت، كيف كانت قيادات السلطة نفسها، تقبل الأيادي معتذرة عن أي تجاوز مهما كان بسيطاً كي لا يُرد لهم الصاع صاعان، أما وقد غدت الكثير من هذه القيادات تتساوق مع السلطة”خوفاً أو طمعاً أو الإثنين معاً”، فسنرى أكثر بكثير مما نراه الآن…قلت لهم:

ـ هذه “إسرائيل” في دواخلكم، انفضوها خارجاً إن كان لديكم شيئاً من مروءة أو بقايا رجولة، كي لا أقول اطردوها عن أبواب غرف نومكم، من يراكم يحسبكم تضربون أعداء الوطن، وأن الكرامة والعزة تسيل مثل ينبوع من جنباتكم، وأنتم لا كرامة ولا مروءة ولا عزة ولا شهامة، تقمعوننا هنا، ولدى الأعداء تحاولون إظهار “حضارتكم”، من خلال حضور جنائز فاشييهم وفي لقاءاتكم معهم، لا تتعبوا أنفسكم، فإذلالكم تم ويتم على أياديهم، فهم يعرفون بؤسكم، وبدلاتكم هذه يمزقونها متى أرادوا، ويأخذونها منكم متى أرادوا… هل تجرؤون حضور جنازة أي شهيد؟ هل تستطيعون رفض أي أمر لهم؟ هلّا تمنعتم عن ضرب الأسرى والمحامين والمحررين والمناضلين؟

اعتقلوني مع آخرين، وأثناء التحقيق أرادوا إقناعي بأنهم سلطة وطنية، فقلت لهم:

ـ “أقنعوا أنفسكم أولاً ثم تعالوا لإقناع الغير”، فأي وطنية في سلطة تقمع شعبها وتأسر مناضليه وتتتآمر على تصفية مقاتليه؟ لو ما زال هناك قوى جذرية في ساحتنا الفلسطينية، لما تركتكم تفعلون ما تفعلون ضد الشعب وبإسمه في آن، ولكانت أدركت أن هذه المرحلة تتطلب العودة للعمل تحت الأرض، العودة للعمل السري وكأنها في عهد الإحتلال نفسه، بل أكثر من ذلك، فهذه القوى وهذا الشعب أمام إحتلالين، إحتلال الصهاينة ويده الضاربة الثانية، سلطة أوسلو

قال لي أحدهم:

ـ نحن طليعة حركة التحرر العربية…

قلت:

ـ معاذ الله، فعلى حركة التحرر الوطني “السلام” في مثل هذه الحال، أنتم لم تستطيعوا أن تدينوا مجزرة بحجم مجزرة الكرادة في العراق أو الصالة الكبرى في اليمن، كي لا تُغضبوا آل سعود، والعراق واليمن هما من أكبر “الخزّانات البشرية” لقضيتنا الوطنية، فهل من يخاف على حفنة مال يمكن أن يكون قائداً أو مؤتمناً لحركة تحرر وطني عربية؟ أنتم لم تعودوا جزءً من حركة التحرر الوطني لا العربية ولا الفلسطينية، منذ اليوم الذي وضعتم أيديكم بيد الصهاينة…

وأكملت:

ـ من يرمي البندقية الوطنية من يده ويستبدلها ببندقية من الإحتلال، لن يكون جزءً من حركة التحرر الوطني العربية أبداً

قال الضابط:

ـ أنتم لا تدركون المخاطر التي تمر بها قضيتنا، إنهم يتآمرون على الرئيس، يريدون المجيء ب”الدحلان” بديلاً عنه…

قلت له، ودق الجرس معلناً إنتهاء الزمن المحدد للحصة، لكن أي منا لم يغادر مقعده، وأكمل الأستاذ خميس لما رآنا في أماكننا:

ـ ألم تدركوا بعد أن القضية تختلف عن الرئيس؟ ثم أنهم هم أنفسهم الذين تآمروا مع الرئيس الحالي على سلفه، يتآمرون مع “الدحلان” عليه الآن…

وانتهى الحوار، فكلانا يتحدث بلغة مختلفة، لغة لا يفهمها الآخر، وأقول لكم الآن، فأنتم المستقبل في كل الأحوال: ـ المُخَطِط نفسه والسياسة نفسها والأدوات الرخيصة نفسها، حتى لو تغيرت الوجوه والأسماء، فالتابع، مهما علا شأنه وبدا لك علو هامته، يظل ذليلاً، ومن الذليل لا تُرجى عزة نفس أو كرامة…

قال زميلنا عزمي والذي لم يكن مقتنعاً بكل ما يقال عن الرئيس:

ـ يبدو لي أن هناك مبالغة في كل هذا الحديث عن الرئيس، مبالغة كبيرة، فالرئيس أكثر من يعرف معنى الحرية والديمقراطية وتأذى منهما…

فقال عامر:

ـ كما اليهود، بقولون أنهم أكثر مَنْ عانى من المجازر الهتلرية، انظر ماذا يفعلون بنا الآن؟

قال سمير وقدبدأنا نتهيأ للمغادرة، كون حصة القواعد العربية كانت آخر الحصص لهذا النهار:

ـ آخر أخبار الرئيس تقول، إن ديمقراطية الرئيس ووطنيته تطالبان بملاحقة الناشطين الفلسطينيين على “الفيس بوك”، والرئيس يستعين بالإسرائيليين من أجل ذلك…

ـ إنه رجل ديمقراطي فعلاً…

ابتسم البعض منا، وخرجنا والأستاذ خميس في وسطنا، وكنت أسمع من بعيد نتفاً من أحاديثه وهو يقول:

ـ نعم حددوا لي محكمة لتطاولي على المقامات العليا…

محمد النجار

آخر أيام الرئيس…

استلمت على بريدي الإلكتروني هذه الرسالة، لأخذ رأيي الأدبي والسياسي فيها، رغم أن الكاتب لم يُذيِّل رسالته سوى بحرفين بدلاً من الإسم، ويعطيني الحق بنشرها إذا رأيتها تناسب النشر… وجاء في هذه الرسالة: ” عزيزي السيد محمد النجار المحترم، أرسل إليك هذه المسرحية، لعلها تكون مناسبة للنشر، رغم معرفتي المسبقة أنك لم تكتب يوماً مسرحية، ولا أعلمك ناقداً أدبياً، وأن ما تكتب يزخر بالأخطاء الإملائية والقواعدية، لكني رأيت نفسي أرسلها لك، لا تسألني لماذا، لأنك لن تحظى بالإجابة الشافية، كوني أصلاً لا أعرفها، لذا لندخل إلى صلب الموضوع:

بصراحة لا أعرف إن كانت هذه مسرحية فعلاً، أو قصةقصيرة، أو حتى أحلام يقظة، أو هلوسات يائس، ربما عليك أن تحدد ذلك بعد قراءتها… من جانبي أعتبرها مسرحية والباقي لا يهم…

قبل البدء، يجدر الإشارة ألى أن هذه المسرحية هي عمل متخيل فقط، لا يوجد إلا في عقل كاتبه، وليس له أي علاقة بالواقع، لا من قريب ولا بعيد، حيث وكما أعتقد، لا يمكن أن يوجد لها هناك سنداً أو مُسوغاً حقيقيا، لا في الوقائع ولا الأماكن ولا الأحداث ولا الشخوص، حيث، بالعقل وبالمنطق، لا يمكن أن تجد أنذالاً وحقراءاً وأذلّاء، ولا فاقدين للرجولة والوطنية والحياء داخل أي شعب، ولا قيادة بهذا “الخصاء”، بالشكل الوارد أدناه في المسرحية، فما بالك على رأس شعب كشعب فلسطين أو داعميه من شعوب عربية، وعليه، فإن أي تشابه في الأسماء والأماكن أو الأحداث أو الشخوص، ما هو إلّا بمحض الصدفة، الصدفة فقط، وليس مقصود بأي حال من الأحوال، وبالتالي فإن الكاتب أو الناشر أو حتى القارئ، لا يتحملون أي مسؤولية قانونية أو أخلاقية أو مادية، لذا وجب التوضيح…

“مسرحية من فصل واحد

آخر أيام الرئيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــس

تُفتح الستارة، ليظهر حقل واسع ممتد، بؤر وكتل رملية متفرقة، متقاربة ومتباعدة، بها ما يشبه آبار البترول، قطعان من الإبل والخراف والماعز وجموع من الخيول، محاطة بطائرات حربية ودبابات وأسلحة ثقيلة، وفي وسط هذه الكتلة توجد منطقة تتركز فيها آلات الحرب، وفيها كتلتين بشريتين مفصولين عن بعضهما البعض، وقطعان من الخراف والماعز والخيول، وفوق كل كتلة منهما يتربع بضعة أشخاص، بعضهم بعمامات فوق الرؤوس وبعضهم ببدلات ورباطات عنق، يأكلون المناسف، وقد “شمروا أياديهم إلى ما فوق الكوع”، ويبدوا أنهم يفضلون اللحم على الأرز، ويأسفون على حبيبات الأرز المتساقطة فوق رؤوس العوام، وكان الناس المركوبين عاجزين عن الحركة على ما يبدو أو خائفين، كي لا يزعجون الراكبين، وفي أحيان كثيرة إذا تحرك شخص ما، يتم لكمه ممن يركبه، وأحياناً يتم وضعه دخل سجن بدون إضاءة ولا طعام ولا ماء، الهدف منه إضعاف الأيادي وإخراس الألسنة، يتم إطفاء الأضواء عن المسرح كله، إلا الجزء الأمامي منه، حيث ينتهي أولئك لابسوا البدلات ورباطات العنق من الأكل، لكنهم لا ينزلون عن أكتاف الناس، ولا عن ظهر القطيع، يتم تكبير المشهد أكثر وأكثر، فتصبح وجوه الأكَّالين واضحة وتختفي صور المركوبين، فيظهر تكتل من شخوص بأسماء مختلفة، لا نستطيع أن نكتب أسماءهم حسب الظهور على خشبة المسرح، لأن ظهورهم يكون دفعة واحدة، فتظهر الشخوص المتخيلة بالأسماء التالية:  الرئيس محمود عباس، كبير المفاوضين صائب عريقات، يحيى رباح، عزام الأحمد، الهباش، جبريل الرجوب، محمد الدحلان، الرئيس عبدالفتاح السيسي بجانب قدمه أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، يطل من شباك في بناية مجاورة،  والملك سلمان أمام قصر خلف الجميع، ونتنياهو وآخرون أقرب ما يكون من عباس ومن معه، في مراقبة للمشهد كله…

يقول الرئيس محمود عباس، بعد أن غسل يديه، وبدأ يمسحهما بمنشفة:

ـ الحمد لله… الفاتحة على روح المرحوم بيريس…

يقرأ المجتمعون الفاتحة، ويضيف عباس:

ـ لا تلقوا بقايا الطعام في سلة المهملات، حرام، أعطوه للكلاب، أغسلوا الأطباق وضعوه أمامها، كما لا تنسونهم من العظم… وزّع “السادة” يا عزام…

يقول صائب عريقات، حينما بدأ عزام بتوزيع القهوة السادة:

ـ حاضر يا سيادة الرئيس، هكذا نفعل دائماً بالفتات والعظام…

الرئيس:                                                                                                                               ـ هكذا تقول في كل مرة، لأكتشف أنك تعطيهم العظام بعد أن “تمصمصها” كاملة وتجردها من الدسم، إترك شيئاً لغيرك يا صائب…”الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته”

يقول صائب مفتعلاً الغضب، وكأنه ضحية أو مظلوم:

ـ حاضر سيدي الرئيس، لكن الأمور ليست كما وصلتك

الهباش متألماً:

ـ ما يقوله سيادة الرئيس صحيحاً، حتى أن بعض الكلاب لم تر العظام منذ شهور، لكنها صابرة من أجل عيون الرئيس… “اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، اللهم زد من حسناته وأقلل من سيئاته، اللهم اجمعنا معه في جناتك…”

يقول الرجوب موضحاً للرئيس ومعقباً على دعوات الهباش:

ـ ربما لولا خدمتنا لصاحب الجلالة الملك سليمان طال عمره، لأصبحنا نحن أيضاً مثل بقية الكلاب الضالة… ، وأنت يا هباش “قل بعد عمر طويل يا أخي… لا يجوز…”

يظهر الإمتعاض على الرئيس، ويأتي صوت الدحلان من مكان بعيد:

ـ نعم صحيح، والرئيس السيسي لم يُقصِّر أيضاً…

يرد يحيى رباح ليشعر الرئيس أنه الأقرب اليه حتى من صائب نفسه:

ـ لا تزيدوا هم الرئيس أكثر، فالرئيس لا يستطيع إطعام كل الكلاب، الضالة وغير الضالة، “يادوب يقوم بنا”، مهامه تتعدى مجرد رعاية بعض الكلاب…

يسكته الرئيس بحركة من يده ويسأل:

ـ ما هي آخر المستجدات يا صائب؟

صائب:

ـ كل شيء كما تريد ياسيادة الرئيس، لكن الأمر لا يخلو من منغصات هنا وهناك، فمثلاً لم يشعر أحد بإهانتك عندما رفض كيري وضع يده في يدك، لكن البعض إلتقط الصورة، وأنزلها على وسائل التواصل الإجتماعي…

الرئيس:

ـ أوقفوا وسائل التواصل الإجتماعي إذن…

عزام الأحمد “مُتأتئاً مُتفتفاً”:

ـ لا نستطيع سيدي الرئيس، لكن من الأفضل أن نقول لمعترضي “فتح” أنك ذهبت لجنازة المرحوم بيريس باسم السلطة وليس بإسم “فتح”، ونقول للبقية بأنك ذهبت باسم “فتح” وليس السلطة… كما كنا نُعمل سابقاً، ونحمل كل شيء على ظهر “المرحومة”منظمة التحرير … قبل أن ندفنها…هه هه هه

الرئيس مبتعداً بوجهه عن الأحمد، كي يبتعد عن بصاقه الخارج مع كلماته:

ـ كم مرة قلت لك أن لا تتحدث في وجي؟ أدر وجهك على الجانب الآخر ياأخي، ماذا بك؟ أمعتقد فعلاً أنك فيلسوف؟ تُعيد هذه الجملة في كل مرة وكأنك إكتشفت الماء، غير وبدل ياأخي، وابتعد بفمك عن وجهي، أنا أسأل لماذا لا نستطيع وقف وسائل التواصل الإجتماعي؟

يقطع الهباش غضب الرئيس ثم يقول:

ـ إنه يتحدث بإرتياح سيدي الرئيس، فكل مناقصات السلطة بين يديه، ماذا يهمه؟

يجيب جبريل مبتسماً على سؤال الرئيس، متخطياً كلمات الهباش:

ـ لأن الأمر بيد إسرائيل، ونحن كما تعلم سلطة بالإسم، يعني أشبه بروابط القرى، يعني كما تعلم سيدي الرئيس، أنك ورغم كونك رئيساً، إلّا أنك وكما يقول المأثور الشعبي “زي الدجاج ـ بلا مؤاخذة ـ لا تستطيع التحكم حتى ببيضاتك”…

الرئيس غاضباً:

ـ “الملافظ سعد يا جبريل، حسِّن ملافظك”..

صوت الدحلان من نفس المكان:

ـ إنه يقصد إهانتك يا سيادة الرئيس…

الرجوب:

ـ أنت تخرس ولا تتدخل بيني وبين الرئيس

الرئيس للمكان الذي أتى منه صوت الدحلان:

ـ كل الناس تحكي أما أنت فاسكت، كلنا نعرف تبعيتك لمن، فاسرائيل من وراءك وأمريكا من جانبك والسيسي وسلمان مغطيين كل حركاتك…

يتنحنح السيسي والملك سلمان كل من مكانهما، فيعتذر الرئيس قائلاً:

ـ والله “بكسر الهاء” أنني لم أقصد إغضابكما، فأنا كما تعلمان بدونكما “لا أساوي ملات أذني نخالة”، فأنا أعرف قدري طال عمركما، و”رحم الله إمرء عرف قدر نفسه”.

صوت الدحلان غاضباً، وكأنه صار بينهم، ويبدو غير راغب بتمرير شيء للرئيس:

ـ وما الفرق بيننا يا سيادة الرئيس؟  كما يقول المثل” لا تعايرني ولا أعايرك، الهم طايلني وطايلك”، فنحن الإثنان محاطان بأمريكا وإسرائيل وبقية من ذكرت، وأنت تقدمت بتصريح وانتظرت ليسمحوا لك بحضور جنازة المرحوم بيريس، لكنهم دعوني ورفضت كي لا أحرجك، كما أنني أكثر منك جرأة، ولدي إستعداد على التوقيع مباشرة على ما يريدون، أما أنت فتريد التأجيل قليلاً…

صوت الملك سلمان ومن خلفه السيسي:

ـ اتركوا الدحلان ويكفي تجاوزات، “الزلمة زلمتنا وزلمة حبايبنا”، واللي ما عملته أنت سيعمله هو”، اتركوه أم نوقف العلف؟

يقول الهباش هامساً في أذن الرئيس:

ـ المسامح كريم يا سيادة الرئيس، والصلح خير… وأنت تعرف محبتي لك وإخلاصي، فقد وضعتك في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شبهته بك، لكن كيف بربك هذه الفتوى، والله لم تخطر على بال إنس ولا جان، “لو كان النبي محمد موجود لذهب لجنازة بيريس”كيف ياسيادة الرئيس؟ ألا أستحق علاوة مالية على هذه الفتوى؟…

فقال صائب للهباش متخوفاً غيوراً:

ـ ولو كان الدحلان أو أيٍ كان لفعلت الأمر نفسه، فأنت دائماً مع الواقف، ولا تعتقدن أن تملقك يمر على الرئيس، ثم أنك بفتواك هذه مجدت بيريس وليس الرئيس.

فقال الهباش مدافعاً عن نفسه:

الله وحده يعلم ما في القلوب، و”نيال مظلوم وعند الله بريء”، الله يسامحك يا صائب، رغم أنك لم تكن يوماً “صائباً” في شيء

صائب غاضباً من كلمات المفتي:

ـ يسامحني أنا؟ أنا أقوم بكل أوامر الرئيس ومن هم خلف الرئيس أيضاً، أما أنت فتُحمِّل الرئيس “جميلة”على مجرد فتوى واحدة أخذت ثمنها منذ سنين!!! لو كنت مكانك لفتوت كل يوم فتوى لصالح الرئيس، أقلة ما “تهبش” من الرئيس ياهبّاش؟ يا رجل خاف ربك، فأنت تقبض بالدولار!!!

الهباش:

ـ من يسمعك يظنك تعمل متطوعاً!!! أنا لا آخذ أربعين ألف دولاراً في الشهر الواحد مثلك…

صائب:

ـ الله أكبر الله أكبر من عينك الحاسدة، عين الحسود فيها عود، من شر حاسد إذا حسد، وهل هذا المبلغ يكفي؟يعلم الله أنه لا يكفي حتى منتصف الشهر، إسألوا اولاد الرئيس، والله لولا ما أتقاضاه من “مصاريف البروتوكولات” وتجارة الأراضي من تبديل بين b و c مع “الأخوة اليهود”، لما استطعت أن آكل الخبز ، كما أنني أقبل بحكم أبناء الرئيس، إن كان يكفيهم أربعين ألفاً مصاريف شهرية، فإنني سأضع حذاءً في فمي وأخرس…

فهم الرئيس رسالة “صائب”، قال له هامساً:

ـ إخرس الآن ولا تفضحنا أكثر، سأردفك بعشرة آلاف أخرى من هذا الشهر، لكن اسكت الآن..

صائب عريقات مبسوطاً لكنه أكثر طمعاً:

ـ لا تكفي ياسيادة الرئيس، إجعلها عشرين…

يبدأ الرئيس بالغضب، وينظر لصائب الذي “إختصر” وكف عن الحديث بالأمر، يقول الرئيس:

ـ آه يا صائب، أخبرني عن ردات الفعل على مشاركتي جنازة المرحوم…

يجيب صائب:

ـ على الصعيد الدولي جيدة يا سيادة الرئيس، أما على الصعيد العربي فممتازة…

يقترب من أذن الرئيس ويقول:

ـ وصلتك مكافأة على ذلك “مخلاة علف” من تاج رؤوسنا ملوك وأمراء “آل سعود” و”سطل” عظم من مملكات ومشيخات أخرى…

ومن بعيد بانت نيوب الملك سلمان ضاحكاً، وقال الرئيس السيسي غاضباً لأبي الغيط:

ـ ألم نكن نحن أبدى بالعلف والعظم؟!!!

يقول الرئيس سائلاً:

ـ وكيف هي الأمور على الصعيد المحلي؟

صائب مجيباً مبتعداً عن الموضوع:

ـ لا جديد سيادة الرئيس… كما هي دائماً…

الرئيس:

ـ فسّر يا صائب، فصّل…

صائب شارحاً:

ـ قوى اليسار جميعها تشجذب وتستنكر…

الرئيس:

ـ أوقفوا مخصصاتهم المالية فوراً، وأدخلوا قياداتهم التي لا تريد السكوت السجن…

صائب مكملاً:

ـ حاضر سيدي الرئيس، وكل فصائل الإسلام السياسي أيضاً، بإختصار سيدي الرئيس، كل فصائل العمل الوطني تستنكر…

الرئيس مكابراً:

ـ لا يهمني شيئاً ما دامت “فتح” خلفي…

صائب:

ـ حتى فتح ليست كما في الماضي سيدي الرئيس، معظمهم صار لا يريدك… نحن فقط وبعض الآخرين الذين ما زلنا مؤمنين بك وبقيادتك، نحن فقط المخلصون، نحن ســ…

الرئيس مقاطعاً:

ـ أعلفوهم…

صائب:

ـ معظمهم لا يُعلفون سيدي الرئيس، كما أنه لا يوجد علف لكل هذه “الأمة”، فكما يقول المأثور الشعبي:”قالوا عند الغولة عرس، قالوا يدوب يكفيها ويكفي أولادها” ، يعني إذا علفناهم لن يتبقى علف لا لك ولا لنا سيدي الرئيس…

الرئيس متعثراً بصوته مستعملاً يده لتوضيح كلمته:

ـ إذن فالبنادق والهراوات… ما فائدة البنادق إن كنا لا نستعملها، خاصة بنادقنا المصممة خصيصاً للإطلاق للخلف؟

يتدخل الرجوب شارحاً مقاطعا :

ـ هذا هو الصحيح، كيف تكون رئيساً مهيوباً، إن كنت ستسمح للرعاع أن يعترضوا على قراراتك؟!!! أظن أنهم متحالفون مع جماعة “الماري كريسمس” سيدي الرئيس…

الرئيس لصائب، متجاوزاً كلمات الرجوب:

أكمل يا صائب…

يحيى رباح مقاطعاً:

ـ ألم أقل لك سيدي الرئيس “أن ثلثي الشعب الفلسطيني حثالات”؟

صائب مكملاً وغير معلقاً على تصريح يحيى رباح:

ـ هناك بعض الضباط الذين أعلنوا معارضتهم على الملأ سيدي الرئيس…

الرئيس:

ـ إفصلوهم من وظائفهم…

صائب:

ـ فعلنا سيدي الرئيس، وهناك قادة طلابيين أيضا…

الرئيس:

ـ استبدلوهم، فعلاً كلهم حثالات….

صائب:

ـ إستبدلناهم سيدي، لكن خرجت بعض المخيمات أيضاً….

الرئيس:

ـ أخرجوا “السحيجة” مقابلهم إلى الشوارع، ألم تعلموا بعد أن “السحيجة” نصف السلطة؟…

يهمس عزام الأحمد، متلعثماً ومتفتفتاً من بين كلماته مجدداً، للرئيس:

ـ هؤلاء يسحجون لمن “يعلف” أكثر، ومنذ فترة ليست بقصيرة، لم يُقدم لهم  سوى القليل من “العلف” سيدي الرئيس…

الرئيس مبتعداً بوجهه عن فم الأحمد، قائلاً:

ـ الله لا يشبعكم، أكلتم “أعلاف” السحيجة أيضاً؟!!! لا تُوفرون شيئاً، تأكلون الأخضر واليابس؟!!!

يبدأ كرسي الرئيس بالتحرك من تحته، وكأن الناس تريد إسقاطه من على أكتافهم، عندما تبدأ الأصوات تصل إلى أذنيه من الأسفل، حيث لا تُسلط عليهم الأضواء، ولا يعلم الرئيس من أين تتساقط الكلمات في أذنيه:

ـ جردوا جالب العار هذا من فلسطينيته، ضموه لجوقة الصف الطويل الذاهب بقدميه الى مزبلة التاريخ، لكل من فقدوا عروبتهم وصاروا جزءا من سيف الإحتلال…

ـ لقد باع وزمرته الوطن ودمروا القضية، وسلموا رقابنا للإحتلال، ربما لأنهم يعرفونه جيداً لم يقترب منه أحد رغم إغتيالهم لمعظم قادة المنظمة، رغم وجوده في نفس المنطقة في تونس…

قبر “السيد المسيح” يتحرك ويصرخ ألماً، اطردوا “يهوذا الأسخريوطي” الجديد، الذي يريد تسليم رأس “مسيحنا”، من جديد، لأعداء الإنسانية.

ـ أبعدوا هذا “الرجس” عن ظهر الشعب الصابر، أبعدوا هذه “النتانة” عن هذه الأرض الطاهرة.

ـ أبعدوا هذه “العاهرة” التي تريد الرقص طرباً، حاملة رأس يوحنا المعمدان…

يظهر الغضب الحاقد على وجه نتنياهو، والأصوات ما تزال تتعالى منطلقة نحو السماء، فيرى الجمهور نتنياهو، مرة بجانب السيسي الذي يشدد في إغلاق “معبراً” بين يديه، ومرة بجانب الملك سلمان الغاضب، وهو يلوح ب”مخلاة علف” في الهواء، وسط الأصوات القادمة في غير مكان من أوساط العتمة:

ـ هؤلاء لم يكونوا يوماً عرباً، من دمر وطناً ليس بعربي، ومن يحاصر شعباً ليس بعربي، ومن يتعاون مع محتله ضد شعبه ليس بعربي…أكنسوهم الى المزابل…

فقاعات ضوء كأنما نبع ماء ضعيف، يبدأ بالظهور من أوساط الناس المركوبة” منذ سنين، تبدأ الإحتجاجات، الهتافات في غير منطقة وشارع ومدينة ومخيم، في كثير من الأرياف التي أغتصبت أرضها وأشجارها من بيريس ومن تربوا على يديه، وعباس الذي بدأ يشعر أن كرسيه قد بدأ يهتز، وأنه ربما يسقط من على ظهور الناس لتحت أقدامهم، قال مستعيناً بالمرحوم بيريس:

ـ رحمك الله يا بيريس، لا يبقى غير وجه الله والعمل الصالح، ومن أكثر منك أصلاً عمل صالحاً وساعدنا؟!!!

ثم عاد للحديث معاتباً:

ـ ألم تقولوا أنكم “إستحمرتم” الشعب؟ ما هذه الأصوات التي أسمعها إذن؟

الهباش:

ـ هناك من ما زال يرفض “الإستحمار” سيدي الرئيس، لكن لا يهمنك شيء، سأجد لك فتوى جديدة “تُدجنهم” من جديد…

يصرخ الملك سلمان من بعيد:

ـ إهتزاز “كرسيك” يعني إهتزاز عروشنا أيضاً… القطيع يجب أن يظل قطيعاً، ألم أقل لك عليك بثقافة “بول البعير”؟

عليك الآن بالعصا، “العصا لمن عصا”…

الرئيس مقرراً:

ـ إقمعوا رجالهم واغتصبوا نساءهم ليعرفوا ان السلطة خط أحمر، وليعلم القاصي والداني أن الخروج عن “القطيع” يؤدي الى الذبح…

يهتز كرسي الملك سلمان قليلاً وكرسي السيسي أيضاً، وتستنفر قوى الأمن في بلادهما، يقول السيسي لأبي الغيط:

ـ  وهل وضعتك على رأس الجامعة العربية بغير فائدة؟إعمل “حاجة”

يستدعي أبو الغيط الجامعة العربية التي تتداعى بنفس اللحظة لدورة على مستوى القمة، لتنقذ القضية الفلسطينية من “مغامرات” شعبها غير المحسوبة، شعبها الذي يرفض “التدجين”، ويرفض أن يظل “قطيعاً”…

يستدعي عباس حليفه “جيش الدفاع الإسرائيلي”، من خلال لجان التنسيق الأمنية، ويأمر جيشه بتجهيز البنادق، نفس البنادق التي لا تُطلق إلاّ للخلف، فتلك الأصوات خطيرة وتهدد الأمن العام، وتجعل السلطة في مهب “ريح التطرف”.

ومن بعيد، يكون راكبي أكتاف البشر، من أصحاب “العمائم”، ولابسي اللباس الأفغاني هذه المرة، يلحسون أصابعهم من بقايا اللحم العالقة بها، ينظرون الى الرئيس ويضحكون، ويرسلون فروض الطاعة للملك سلمان وبعض جاراته من مشايخ وإمارات، ويتجاذبون أطراف الحديث، عن الطريقة الأمثل ليظل “القطيع قطيعا” في مناطقهم المحاصرة…

تمت

م .ن

”   عزيزي السيد م . ن المحترم:

قرأت ما أسميته أنت مسرحية من فصل واحد، والتي كما تقول أنت لا علاقة لها بالواقع، وأنها من نسج خيالك، وإليك تعليقي:

  • إن مقطوعتك هذه لا علاقه لها لا بالأدب ولا بالشعر ولا  بالزجل ولا بالنظم ولا بالنثر ولا بأي نوع من أنواع الفنون.

  • إنها كالخمر “ملعون كاتبها وناشرها وساردها”، وتودي بصاحبها وقارئها إلى طريق لا يعلم غير الله أين يمكن أن ترمي به، وأنا رجل، طوال حياتي، أمشي بجانب الحائط طالباً السترة من الله وجده.

*وأنا الذي لا أعرفك، وابتليتني بهذه الأمانه لأقرأها وأعلق عليها وأنشرها، حاصداً شرها دون خيرها، حيث لا توجد لها غنائم أو فوائد، لا أريد حتى أن أعرفك ولا أن أقرأك ولا أريدك أن تراسلني بعد الآن، وأنا بريء منك ومن كتاباتك إلى يوم الدين، و”حدّ الله” ما بيني وبينك.

  • وكوني لا أعرف كيف أعيد إليك رسالتك بعد أن أغلقت حسابك الإلكتروني، وعملاً برد الأمانة إلى أصحابها، أنشر لك رسالتك، كما هي دون تعليق ولا حتى إبداء رأي، والساتر هو الله…

محمد النجار

الخل أخو الخردل!!!

كنا، ومنذ الصغر، أنا وعاهد على طرفي نقيض، نختلف في كل الأشياء التي لا يختلف عليها اثنان، كنا هكذا بدءاً من المدرسة الإبتدائية فالإعدادية فالثانوية، وبقينا نتحين الفرص لينقض أحدنا على الآخر ليحرجه أمام الآخرين، حتى كان لكل منا “شلته” التي يمشي ويلهو ويقضي وقته معها بعيداً عن الآخر، لكن وكما تعلم فهذا الأمر لا يستقيم في داخل قرية صغيرة محدودة، فما بالك في “خربة” جُل سكانها فرعين لنفس العائلة، يجتمعا في الأفراح والأتراح، في الأعياد وفي أماسي الأيام الرمضانية في المساجد والبيوت، وفي ديواني فرعي العائلة المتقابلين كندين في “خربتنا” الصغيرة، كما أننا كبرنا مع مرور الأيام والسنوات، ولم تظل الأمور على ماهي عليه من حِدّة، رغم بقاء بعدنا أحدنا عن الآخر، وجفاء كل منا نحو الآخر، خاصة جفائي أنا نحوه.

لطالما، كنت دائماً ما أرى نفسي عليه، وبفرع عائلتي على عائلته، من كافة الأبواب والنواحي، فنحن، منا، أصحاب الأرض الأكبر في “الخربة”، ولنا معظم أشجار الزيتون، وكل أشجار التين إلا ثلاثة، ونصف أشجار الفاكهة، ولدينا بضعة آبار صخرية لتجميع مياه الأمطار وهم لا يملكون سوى بئر واحد، ومنا أساتذة ثلاثة يُدرّسون في مدرسة القرية التي ننتمي إليها، مع عدد من “الخِرَب”المماثلة والمشابهة “لخربتنا”، كما أنني طالب في السنة الثانية لجامعة محلية وهو مجرد فلاح بائس، يعمل وحماره بشكل متساوٍ، يرتاحان سوياً ويأكلان في ذات الوقت، وربما يتجاذبان أطراف الحديث أيضاً!! يصفرّ وجهه ويضمحل بعد أن يتداخل بطنه ويلتصق بظهره إذا ما تأخر المطر أياماً، مثل شجرة تيبست لكنها ما تزال واقفة، لأن الجوع ملتصق وملازم له، ورغم ذلك لم ير نفسه يوماً بحجمه الطبيعي، ظل يضع رأسه برأسي ورأس أمثالي، دون أن يعير الفوارق الطبقية والإجتماعية بيننا أي إعتبار، بل أحياناً كان يكاد يقنعني أنا نفسي بأن هذه ميزة لصالحه وليست لصالحي، وكان أكثر ما يضايقني أن له من فرع عائلتي أنصاراً أكثر مني.

قال لي أحد أصدقائي، عبد العزيز، حين سألته عن سبب حب الناس واحترامهم له:

ـ إنه يقرأ كتباً لا يعلم أحد كيف أو مِنْ أين يحصل عليها، ويجزم الكثيرون أنه يقرأ أكثر منك ومن أساتذة “خربتنا ” كلهم مجتمعين، وكأنه هو من سيُمتحن وليس أنت!!! ويقول الناس أنه لهذا السبب بالذات لديه حججاً مقنعة لأهل خربتنا.

ثم تابع معلقاً:

ـ لم أكن أعرف أن الأجوبة جميعها تسكن وتقيم في بطن الكتب، وأن من يريد استجلابها، ما عليه سوى زيارة سريعة لتلك الكتب، ليصير من الجهابذة…

لم أعلق على أقواله، فعبد العزيز أحياناً لا يفترق كثيراً في حديثه عن المعاتيه، كما أنه أحياناً تخاله من الفلاسفة الذين أدرس عنهم في الجامعة…

نظر إلي عبد العزيز، وكأنه يريد أن يقول لي شيئاً أكثر مما قال، أو أن يُفهمني بكلماته تلك أكثر مما تحتمل، وتابع:

ـ كما أنه من أجرأ أبناء قريتنا وأكثرهم شجاعة، كما تعلم، رغم أنه يقول أحياناً كلمات لا يفهمها الكثيرون، مثل “أنه ورغم أهمية التعليم إلا أنه لا يساوي شيئاً أمام الثقافه، وأن الكثيرين من المثقفين غير المتعلمين تركوا بصمات وتأثيرات في العالم لم يتركها معظم المتعلمين”، و”أنك إن أردت أن يكون لك شأناً، عليك ترك توافه الأمور، خالقاً لنفسك شخصية تليق بك، فأنت أولا وأخيرا لن تأخذ من هذه الدنيا شيئاً، وستُنسى بعد أيام من مواراتك التراب مثل من سبقك، وإن أردت أن تبقي لك ذكرىً طيبة، عليك ترك أفعالاً تخلد ذكراك، يحبها ويتناقلها الناس”.

وتابع معلقاً:

ـ إنه يتحدث مثل رجل ستيني وليس كشاب من جيلنا، ألا تتذكر لقاءنا الأخير؟ كيف كان يتحدث في كل الأمور ويحللها ويعطيك نتائج تحليلاته وكأنه قد أنهى جامعة منذ سنوات؟!!!

وتذكرنا سوياً أحداث الأيام الماضية وحوارنا معه في المسافة الواقعة بين ديواني فرعي العائلة، قبل بضعة أيام من هذه اللحظة، وكأننا على أرض محايدة، حيث كان الحديث عن المصالحة الفتحاويةـ الفتحاوية، بين الرئيس والدحلان، حيث تفرع الحديث لا يعلم أحد لماذا ولا كيف، عندما قال:

ـ إنظروا من يضغط من أجل هذه المصالحة، إنها مصر والأردن والإمارات على وجه التحديد، ومن خلفهم آل سعود، فلو كان الأمر حرصاً على قضيتنا، لفتح نظام مصر المعبر الذي يخنق به، مع المحتل، شعبنا، أو لما قال وزير خارجيتهم أن قصف أطفالنا ونساءنا بقنابل الموت الصهيونية لا يمكن إعتبارها إرهاباً، أو على الأقل لأوقف نظامهم محاولات تشويه الوعي العربي ليس في الإعلام فحسب بل في مناهجهم الدراسية، حيث”صارت إسرائيل دولة صديقة، وليست عدواً، وأن كثرة الحديث عن صلاح الدين وتحرير القدس يعتبر تحريضا على الإرهاب”!!! أتتخيلون إلى أين وصلت بهم الأمور؟!!

ولما سكت قليلاً أضاف محمد، والذي صار مثل ظله في الفترة الأخيرة، وكأنه يُكمل ما قاله عاهد:

ـ وكأن مصر “الولّادة” صارت عاقراً في ظل هذه الأنظمة، ولم تعد تنجب سوى “المخصيين”، انظروا من رأّست للجامعة العربية!!!، أبو الغيط، ربما أكثر شخصاً في حكومات المخلوع مبارك خساسة وذلاً واستسلاما، أبو الغيط هذا، وكما كانت تزعجه المقاومة وانجازاتها، يقلقه الآن تسوية الدولة السورية مع مسلحي “داريا”، لأنه يخاف من التغيرات الديموغرافية!!!، وليس خوفا من انتصارات الجيش السوري التي تشي بانهيارات قادمة لأكلة أكباد البشر وقاطعي رؤوسهم!!! الأمر الذي يُفشل مخططات أسياده، وكأن الناس متوزعون في سكناهم هناك على أسس طائفية!!! لكنه لم يقلق من قمع نظامه للشباب الثوري المصري الذي ابتدأ الثورة المسروقة بعد اسقاط مبارك، ولا لإعتقال الصحفيين ولاا لإعتقال أصحاب الرأي والعقول، ولا لمنع التظاهرات، ولا لبيع الجزر المصرية لآل سعود، وبيع كل مصر للبنك الدولي والصهاينة من عرب وغير عرب، لم يقلقه أي شيء من هذا كله، لكنه قلق لأن المصالحة تمت بعيداً عن أعين أمريكا وأدواتها!!!

وأمام صمت “شلتنا” المطبق، قال علي، ابن عمي أخو أبي، والذي كنت أعتقد أنه من أوفى أوفياء جماعتي، متوافقاً مع ما ذهب إليه عاهد، وكأن صلة القرابة تجمعه به وليس بي أنا:

ـ أما الأردن، الذي أوجد من أجل حماية “إسرائيل” لن يخرج عن سياقه، فدعمه لمسلحي سوريا هي في ذات السياق، ودعمه لجماعات الإخوان المسلمين المتصالحين مع كل أعداء الأمة، والمعادين لقواها الوطنية هي في ذات السياق، وتكميم الأفواه هناك واعتقال المبدعين تخدم الهدف نفسه. والإمارات رهنت نفسها لآل سعود، بضغط أمريكي، في اليمن، وآل سعود الذين دمروا دولنا وحضارتنا، لم يكن تاريخهم كله سوى لخدمة أعداءنا، من لحظة التبرع بفلسطين “للمساكين اليهود”، مروراً بتوظيف النفط لخدمة المصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة، وصولاً لإستباحة أراضي نجد والحجاز وتحويلها الى قواعد عسكرية لأعداء أمتنا، ولو أرادوا دعم القضية لفعلوا ذلك منذ زمن، فالقضية والشعب تنزفان منذ عقود، ولم يقدموا لها بندقية واحدة، بل تآمروا لإسقاط بندقيتها، وها هم بعد أن حاولوا فاشلين، تدمير شعبنا في اليمن،  يتحفوننا بتبريراتهم ، بأن سبب هروب جنودهم في اليمن، وانهيارهم أمام قوى الثورة اليمنية، ليس الخوف والجبن لا قدر الله، ولا كون جيشهم لم يُنشأ إلا لقمع الشعب وليس لحروب خارجية، بل لأن اليمنيين “سحروهم”…

وسكت قليلاً وكأنه يريد أن نفهم كلمته تماماً كما هي، كي ندرك مدى عجز وتخلف هذا النظام الذي يقود تدمير بلادنا باسم الدين، كما يحلو له أن يقول دائماً…وتابع:

ـ نعم كما سمعتم، سحروهم، يعني سخرّوا الجِن ضدهم وعملوا لهم “الأحجبة”، وجعلوا الشمس مسلطة في وجوههم، لذلك فروا هائمين على وجوههم أمام الجيش اليمني واللجان الشعبية، ولذلك تتفاجأ القيادة السعودية، حيث تذهب لتقصف طائراتها المناطق العسكرية ، فإذا بهذه الأهداف تتحول بفعل “السحر” الى أهداف مدنية، وليس أي أهداف، بل مدارس ومستشفيات ومساجد وأسواق ونساء وأطفال….

ضحك الجميع على ما سمع، وقال طارق، الذي كان جالساً على الأرض ويرسم أشياء على التراب بغصن زيتون مكسور، وما زال ينظر الى نفس النقطة التي أمامه:

ـ هؤلاء الكسالى الذين يريدون الحرب بدبابات مكيفة؟!!!

وضحكنا جميعاً، حين أخذ عاهد زمام المبادرة بالحديث، وعاد به الى نقطة البدء، قال:

ـ إن ضغط هؤلاء لمشروع المصالحة بين عباس ودحلان ليس مشروعاً بريئاً، تماماً مثل محافظتهم على الدحلان ودعمه طوال هذه الفترة، ألم يكن “دحلان هذا” جاهزاً في “عريش” مصر أثناء الحرب الأخيرة بجنود وعتاد، ليدخل على أنقاض المقاومة، بعد توقعاتهم بهزيمتها في غزة؟!!! ثم على ماذا هما مختلفان، أقصد عباس والدحلان؟ “فالخل أخو الخردل” كما يقول المأثور الشعبي، فلا خلاف على برنامج ولا على سياسة، ولم يكن الدحلان الجنرال جياب كما لم يكن عباس جيفارا عصره…

استفزني الحديث، واستفزني أكثر موافقة معظم الجالسين على أقواله، فهذا البائس لا يترك مناسبة دون التهجم على الرئيس وباقي القيادة، قلت:

ـ كعادتك، المبالغة في كل شيء والتهجم على قيادات الشعب، تُفلسف الأمور كي تخدم وجهة نظرك، لا يُحركك سوى الحقد، هراء، كل ما تقوله هراء…

نظر نحوي وكأنه يشفق على عقلي، وتابع وكأنه لم يسمع كلمة واحدة مما قلته، وكأنني مجرد صدى صوت وصل  من مكان بعيد دون أن يعني أي أحد، وتابع حديثه قائلاً:

ـ انهم ببساطة شديدة، يريدون خليفة للرئيس الهرِم، يريدون ترئيسنا شخصاً أكثر سمعاً وطاعةً وبصماً لكل ما يريده الأعداء، وأكثر قمعاً للشعب وملاحقة لمناضليه، كما وأكثر تسامحاً مع “أبناء العمومة”، يعني نسخة أكثر تشويهاً ومسخاً وخضوعاً، وشباباً في نفس الوقت من الرئيس الحالي، حتى يضمنوا أن يظل الحذاء فوق رأس شعبنا أطول فترة ممكنة، كون الأعداء يدركون أن أي منهما لن يكون مشروعاً ثورياً أبداً…

قلت بغضب على حديثه، مُخفياً غضبي على تجاهله لي، محاولاً احراجه في نفس الوقت:

ـ إذا كان حتى الرئيس، رأس الهرم، لا يعجبك؟ ما الذي تريدونه من هذا الشعب أكثر؟ ألا يكفي كل ما تعرض له؟ ألا يحق له أن يعيش بسلام؟ ثم انني لا أعرف من أين لك هذه المعلومات وأنت طوال نهارك تسير خلف حمارك لحرث الأرض، أنا … أنا نفسي ابن الجامعة، لم أسمع بمثل هذه التحاليل التي تتفوه بها…

نظر نحوي طويلاً، ونظر الجميع نحونا، وعلى غير توقعي، تابع حديثه مبتسماً متجاهلاً لوجودي ولحديثي ولكياني كله مرة جديدة، وقال:

ـ وسوف نسمع المسحجين والمستفيدين يباركون، ويعتبرون الأمر وكأنه لا يعدو عن كونه لخدمة وحدة الحركة، وسنستمع الى التبريرات من نفس الشخوص الذين اتهموا دحلان بالخيانة يدافعون عنه الآن، لأنه كما الرئيس، “قائداً مغواراً”، فتح عليه الله ب”العقل المستنير”، فأراه “الحق حقاً ورزقه اتباعاً وأراه الباطل باطلاً ورزقه إجتناباً”، وربما حاولوا إقناعنا وبقية الشعب بأنهما “مبشران بالجنة” أيضاً، وسيبررون لنا ،نحن القطيع، كيف فتح الله لهما باب رزقه بالملايين لهما ولأولادهما وعائلاتهما وللمسحجين والمطبلين لهما، ويسّر لهما الدول والمخابرات المختلفة لدعمهما، ولتفتح لهما صناديق مالها لتغرف منه ما تشاء، ما دامت تسبح بحمد أمريكا وبني صهيون وممالك ومشايخ العربان وعلى رأسهم آل سعود، فكما ترون صار مجتمعنا يتدعشن بفعل سياستهم وبفعل ثقافة الدين السياسي، فصار حتى اسم المرأة عورة، وصاروا يفرضون حتى على المرشحات أن يخفين أسماءهن، ولولا نظام “الكوتا” لترشيح المرأة، ربما لما رأينا مرشحة واحدة، وصار “الأخ اللدود” للدحلان، اللواء الرجوب، والذي لم يعرف أحد كيف صار لواءاً، ربما بعد تسليمه قادة الفصائل المقاومة و تعذيبهم و ملاحقتهم! مثله مثل آلاف الموظفين المماثلين، يُسمي مسيحيينا ب”الماري كريسمس”، ربما لأن ثقافة الرجل أجنبية، فبعد سنوات القمع للمناضلين في جهاز أمنه الوقائي، على امتداد سنوات وسنوات، جاء ليتحفنا الآن بخفة ظله وتهكماته المتخلفة، منتقداً تصويتهم لحماس في عام 2006، متجنباً الخوض أنهم بذلك قد تجاوزوا التعصب الديني والمذهبية والطائفية المقيتة، التي تحاول كل الأنظمة التي فتحت لهم خزائن المال زرعها في مجتمعنا، ودون أن يذكر سبب تصويت معظم الشعب لحماس آنذاك كحركة مقاومة أولا، وحين أدرك الناس أن السلطة ما هي الّا جهاز قمع، وصارت جزءاً من مشروع أمريكا ـ اسرائيل في المنطقة، وغدت سلطته سلطة فساد وإفساد وقمع وتجهيل وكذب ورياء وشراء ذمم، كما هي عليه الآن، وهل يمكنه تفسير لماذا ما زال قائداً هو والدحلان وعباس وأمثالهم حتى الآن، ولماذا كل هذا الإصرار على عدم إصلاح المنظمة والإمعان في فسادها وإفسادها، في الوقت الذي يدفع الشعب دمه وسنين عمره في سجونهم وسجون الإحتلال، كضريبة يومية للتخلص من الإحتلال الذي صار من أهم مموليهم؟ أليس من أجل بقائهم في قيادة الشعب والسلطة؟

قال أحمد معلقاً من وسط الجمع:

ـ صار هؤلاء الإنتهازيون كثيرون داخل السلطة، بل يشكلون معظم قيادتها ممن ينطبق عليهم القول:

” وكم رجل يعد بألف رجل                         وكم ألف يمر بلا عداد”…

قال عبد العزيز مؤكداً على نفس الكلمات:

ـ فعلاً… وكم ألفاً يمر بلا عداد…

فقال طارق معلقاً على ثرائهم الفاحش:

ـ من أين لهم كل هذه الأموال؟ لقد كان هؤلاء حفاة عراة قبل السلطة ومناصبها، وقبل أن يصيروا قادة لهذا الشعب، ولا يعرف أحد كيف؟ فهم ليسوا الأفضل وليسوا الأشجع وليسوا الأكثر عطاءً ولا الأكثر ثقافة، بل على عكس ذلك كله…

علق صديقي وابن عمي خالداً، والذي أنبني بعد ذلك لمحاولاتي الطفولية في إهانة عاهد ناظراً نحوي:

ـ لأنهم عكس كل تلك الصفات التي ذكرت صاروا قيادة، وفعلاً لقد كان هؤلاء لا يملكون ثمن رغيف خبز قبل أن يصيروا قادة،  وينطبق عليهم قول الشاعر:

أتذكر إذ لحافك جلد شاة                       وإذ نعلاك من جلد البعير                                                        فسبحان الذي أعطاك ملكاً                    وعلمك الجلوس غلى السرير

قام من جانبي، طبطب على ظهر عاهد كما لم يفعل من قبل، وقال:

ـ هيا لأوصلك في طريقي، نراكم في مساء الغد ياشباب، تصبحون على خير…

أمسك عاهداً من ذراعه وسارا وليل القرية “الخربة”، وبدأ الجمع يتفرق واحداً بعد الآخر مثل مسبحة قُطع خيطها وانهارت حبيباتها، وبقيت وحدي، ونظرت الى السماء، وبدا لى أنها، هي أيضاً، لا تريد البقاء بجانبي، ورأيتها كيف بدأت تغلق عيونها بعد أن انتهى الصخب في “خربتنا”، وأخذت تغفو في حضن القمر، متمددة على سواحل النجوم، متخفية خلف غيوم الصيف السابحة تحتها، غير آبهة بها، تلك الغيوم المتباعدة المتجولة فوق خربتنا، الغارقة في النوم تحت حفيف أغصان أشجار الزيتون…

محمد النجار

قبل حزيران بقليل

كنا ملتفين حول التلفاز في تلك اللحظة، وكنت قد أنهيت آخر إمتحان لدي قبل أيام ثلاثة من وصول أواخر أيار الى أوائل حزيران، ليسلّمه أمانة متابعة الطريق، مُحمله كيس الأيام على كتفيه ليمضي بها ويسير. قمت متاخراً من النوم كعادتي في أيام العطل المدرسية، شربت الشاي مع أمي وجدتي، فبقية أخوتي لم ينهوا عامهم الدراسي مثلي بعد، وللحق، فإنني بالقدر الذي أحب فيه الجلوس مع أمي، كنت بذات القدر لا أحب الجلوس مع جدتي، لكنني كنت أحاول التغطية على الأمر كي لا تغضب أمي.

أمي امرأة دائمة الحركة، ليست إلا نحلة تتنقل من مكان إلى آخر، تكاد لا تجلس أبداً، وفي معظم الأحيان لا تتناول طعام الإفطار معنا، وبالكاد تشرب الشاي، وبالتالي لا يشغلنها شيء سوى عمل البيت ، فمن غسيل الملابس والأطباق، لكيِّ الملابس لجميع أفراد البيت، لتهيئة الطعام ليكون جاهزاً مع موعد قدوم أبي من العمل، لتنظيف البيت وغسله، كما إنجاز متطلبات البيت ومشترياته… الامر الذي يجعلها لا تهتم ، أو لا تستطيع، متابعة التلفاز وبرامجه، كما تفعل جدتي، ومصيبة جدتي أنها لا تتفرج على أفلام أو مسلسلات أو موسيقى، بل شغلها الشاغل متابعة الأخبار، والأخبار فقط، ومن هنا تبتدئ القصة وتنتهي أيضاً ، فلولا عادتها هذه لما كانت هناك لا بداية ولا نهاية ولا كان هناك قصة أصلاً، وما تم ما تم.

تسكن عائلتنا في عمارة من طابقين إثنين، نقيم نحن في الطابق الثاني من شارع وادي التفاح في مدينة الخليل، فرندة البيت الأمامية تطل على الشارع الرئيس، وحمام البيت الخلفي يطل شباكه على شارعيين فرعيين في المنطقة، وجدتي التي تجلس في صالون البيت لا تفعل أكثر من تقليب صفحات التلفاز من محطة إلى أخرى، على نشرات الأخبار دون كللٍ أو ملل، نفس الأخبار التي ما فتئت سمعتها منذ لحظات.

كان الشارع الرئيس ممتلئاً بالناس على عادته في كل يوم، أناس يحاولون التصدي للمستوطنين الذين يملؤون المدينة، ويسيرون يستفزون الناس بعد أن سرقوا بيوتهم بمساعدة الجيش وأسلحتهم، بعد أن سرقوا الحرم الإبراهيمي وقسّموه، والناس الذين لا يملكون سوى سواعدهم وبضع حجارة من حجارة الجبل، ظلّوا يدافعون عن المدينة والكرامة، رغم الثمن الذي ظلوا يدفعونه بشكل يومي، وكان طلاب المدارس قد أنهوا يومهم وخرجوا للشارع، أطفال من جيلي، أكبر أو أصغر قليلاً، صاروا يقذفون الجيش المتسكع الذي يحمي مستوطنيه، والجيش الذي كان يُطلق قنابل الغاز والرصاص على صدورهم، كان ما يزال يطلق النار دون توقف.

وكوني لا أحب الأخبار ولا سماعها، أمسكت بهاتفي الخلوي وقمت إلى الفرندة وأخذت أُصوّر مشهد الجيش وراشقي الحجارة، كمخرج من الملل، كوني لا أستطيع أن أشاهد فيلما أو مسلسلاً لأن جدتي إحتلت شاشة التلفاز في صالون البيت، وشدني مشهد الجيش عندما ألقى القبض على “هيثم”، و”هيثم” هو أحد أبناء مدرستي الذي يصغرني بقبضة سنين، وجارنا ، في الوقت نفسه، القاطن في بيت مجاور، كان قد عاد لتوه من المدرسة، بعد أن أنهى إمتحاناته اليوم بالذات، متوجهاً إلى بيته، وأخذت أُصوّره متخيلاً كيف ستكون ردة فعله وانقباضات وجهه، عندما يطلقون سراحه وأريه “الفيلم” الذي وثّقت به إعتقاله وضربه، لكن الأمور لا تسير دائماً كما نشتهي أو نحب، فقد أخذ الجنود “هيثم”، أركبوه مقدمة الدورية العسكرية ليحميهم من حجارة الطفال، درع بشري كما يقولون، وتوجوا به إلى الشوارع الخلفية، حيث يمكنهم ضربه وإهانته دون متابعة وملاحقة من عيون الشهود.                                                                                                                      لاحقت فكرتي، وانتقلت من “الفرندة” إلى حمام البيت لأكمل التصوير، ومررت من أمام جدتي التي كانت ما تزال تتفرج على مشهد على الشاشة، وترغي وتزبد وتعلق وتقول، فسحبت كلماتها فضول عينيّ إلى الشاشة أثناء مروري…

  •     *       *

كان يحتل الشاشة تقريراً يظهر فيه الرئيس مرة وبعضاً من حاشيته مرة أخرى، يتحدثون عن السلام وما جلبه من أمن وأمان للبلاد والعباد، و”أننا نحن الفلسطينيون لن نوقف التنسيق الأمني مهما كثر الرافضون له، فنحن أعرف بمصالأح شعبنا من كل المزايدين”.

وعلقت جدّتي من بين بواقي أسنانها:

ـ طبعاً، أنتم الآلهة والشعب مجرد أصنام، وهل للأصنام كلام إذا ما تحدثت الآلهة؟!!! فمنذ قدومكم و”مصالح”       شعبنا محفوظة ومُصانه والحمد لله…

وأكمل المتحدث، ذو الصلعة الواسعة مثل طريق أسفلتي واسع في غابة هزيلة،حديثه:

ـ وسنعمل على ان يكون هناك تطبيعاً شاملاً من الدول العربية والإسلاميه، كما أكد سيادة الرئيس، إذا ما وافقت حكومتهم على “السلام”…

وعلقت جدتي من جديد:

ـ آه طبعاً، هذا “فوق البيعة”… يعني بالعربي “زيادة البياع”… فعلاً “الشحادة عادة”…و”وين ما ضربت الأقرع يسيل دمه، هذا إذا كان عنده دماً”

وأكمل المتحدث ذو الصلعة الواسعة التي تكاد تُغطي مساحة رأسه، متابعاً ومدافعاً عن مقترح الرئيس:

ـ تطبيع يخدمهم ويخدمنا ويخدم السلام، وأننا ،كإثبات حسن نية، نوافق على تبادل أراضٍ معهم…

فعلقت جدتي وكأنها مصرة على الرد على كل ما يقولونه، متوجهة بكلامها إلى شاشة التلفاز:

ـ ما هي قصتكم؟ تكذبون الكذبة وتصدقونها… تتحدث عن مبادلة الأراضي وكأنها أرض أبوك، ولا تخص هذا الشعب المسكين…صدق من قال” لا تاخذ من الأقرع نصيحة، لو ربك بحبو لجعل راسه صحيحة”

وسرعان ما قال شخص آخر، أظهره التقرير، غير الأول، لكن من الحاشية نفسها، يُكمل ما قاله صاحبه، لكن بصورة  تُظهره وكأنه متمايز عنه:

ـ أنا لا أتفق مع هذا الرأي، التنسيق الأمني لا يجب أن يكون هكذا، عليهم أن يطلبوا منا ما يريدون ونحن من يقوم بالتنفيذ، وليس أن يقتحموا هم بأنفسهم مناطق السلطة ليعتقلوا ويحاصروا ويقتلوا…

وضعت جدتي يدها عل خدها وقالت ترد على ما سمعت:

ـ شوفي ياأختي “جاء ليكحلها… عماها”، فعلاً كما قال المثل” لا تشمتي ياخدّوجة، أنا عورة وأنت عوجة”… لماذا “يستحمرنا” هؤلاء إلى هذه الدرجة؟!!! فعلاً”قال له مَن فرعنك يافرعون قال له لم أجد من يوقفني عند حدي”…

ثم أن جدتي بدا وكأنها لم تعد تسمع كل كلامهم، فكلامهم متشابه ومكرر ومعاد، لكنها ظلت تعلق على ما ترى وتسمع أحياناً، خاصة عندما كان الرجل “الأقرع” في حذاء أحدهم، والذي لم يكن من حاشية الرئيس، وكان يلبس عباءة سوداء كليل شتاء هذا العام ، يحيط بكامل طرفها خطاً ذهبياً يعطي العباءة ثمناً وهيبة، وبدا أنه قد جاء لتوه من الصحراء فاغتسل ولبس واحتل موقعه أمام شاشة التلفاز ليدلي بتصريحه، وظل يردد عبارة واحدة ويكررها ويلف حولها، ” نحن نوافق على ما يوافق عليه الأخوة الفلسطينيين، نحن مع السلام الدائم والعادل…. إيــــــــــــــه”، ولما سأله صحفي عن أي فلسطينيين يتحدث؟ ف”أغلب الفلسطينيين يرفضون أوسلو ومجراه”، قال:

ـ نحن نتحدث عن قيادة الفلسطينيين الحقيقية،  ولا نتحدث عن المغامرين والمتطرفين….

وهنا ثارت ثائرة جدتي، فصارت تتحدث وكأن هؤلاء جميعهم أمامها في الواقع وليسوا في التلفاز، وتريد بكلامها أن تضع لهم حداً:

ـ ظلوا هكذا أيها الأنذال، دافعوا عن سلامهم ومذلتنا، ولتعلموا أننا نحن “المغامرون” في هذا الوطن العربي و “متطرفيه”، الحائل الوحيد بينهم وبين غرف نومكم. ها أنتم خلعتم كل ملابسكم، صرتم عراة كما جئتم لهذه الدنيا أمامهم، قدمتم لهم كل ما طلبوا ولم يطلبوا، ماذا أخذتم مقابل ذلك غير العار؟!! عار لفكم كأشخاص ودول وأشباه دول وممالك وحارات، لماذا لم تكونوا بهذه الحصافة والإنسانية في العراق وسوريا وليبيا واليمن؟!!! لماذا لم تكونوا هناك أيضاَ رجالات سلام؟!!! … نعم، نحن المغامرون الطريق الوحيد لمسح ما جلبتموه لأمتنا من عار، إصمتوا على ذبحنا، وشاركوا في تدمير أوطاننا واستحمار شعوبنا، لكنكم لا أنت ولا هم، تستطيعون وقف تقدمنا أو قتل إرادتنا، أو مسح ما إستجلبتموه من  ذبح وذل وعار، وسندفنه معكم في غياهب صحرائكم…

  •      *        *

كنت قد غادرت الصالون ،إلى الحمام، من أمام جدتي، وكل كلماتها تتساقط في أذني كلمة بعد أخرى، ووقفت على المرحاض لأستطيع إكمال تصوير “هيثم”، الذي أخذه الجنود إلى الشوارع الخلفية شبه الفارغة ليكملوا حلقات التمتع بضربه، وفي ذهني كشف تصويره هذا لأقرابي وأصدقائي، لنضحك عليه ومعه، والتلفاز مازالت الأصوات المتحدثة به تصل لأذني مثل نباح كلب، لا يعرف السكوت، وأدخلت “هيثم” في عدسة تصوير هاتفي، وأكملت التصوير، والرئيس من التلفاز يصرخ غاضباً ويقول:

ـ أنا لست ضد الكفاح المسلح فقط، أنا ضد كل أشكال العنف أيضاً…

فردت عليه جدتي بحنق:

ـ لماذا تترأس شعباً يريد ذلك إذن؟ يا أخي “حل عن ظهرنا”، مدة رئاستك “خلصت، فارقنا”…

لقد قيدوا أيدي هيثم خلف ظهره، وشنطة كتبه معلقة فوق كتفيه، وسرعان ما غمّموا عينيه بشريطة متسخة بيضاء، وألقوا به أرضاً، إقترب منهم أحد المستعربين ،الذي كان قبل قليل ملثماً وبين راشقي الحجارة، بعد أن خلع لثامه المُزيف، وصورته بلثامه ودون لثام، همس في أذن الضابط بكلمات لم أستطع فك طلاسمها لبعدها عن أذني ولكونها، ربما، بلغة لا أعرفها، أمر الضابط جنوده، فرفعوا هيثم عن الأرض التي ألقوه فوقها عند وصولهم للشارع الخلفي، وتوجهوا به إلى الدورية العسكرية ليضعوه في داخلها.

كانت حرارة شمس نهاية أيار قد اندلقت في الشوارع وفوق رؤوس الناس، وكنت أرى بنفسي كيف تفجرت أشعة الشمس ينابيع عرق من على رأس “هيثم” مارّة بعروق رقبته الضعيفة إلى كل أنحاء جسده، وما أن وقف به الجنود مقيداً مغمّى العينين على باب الدورية العسكرية، حتى علا صوت الجهاز في يد الضابط، فتقدم في تلك اللحظة المستعرب وقد تناول مسدسه المختبئ خلف ظهره، وقال الرئيس في تلك اللحظة بالذات مُصرحاً، في جهاز التلفاز الذي تسمعه جدتي، وكلامه يتدفق في أذني رصاصات قاسية صلبة:

ـ أنا ضد الإنتفاضة أيضاً… الإنتفاضة دمرتنا…

وانطلقت رصاصة واحدة من مسدس الضابط المستعرب، بعد أن نظر يميناً وشمالاً، ليتأكد من أن الشارع لا يضم الكثير من الشهود،  ولمّا ظن أن أحداً لا يوثق ما يفعله، وضع رأس المسدس في رأس هيثم، وأطلق طلقة واحدة، طلقة واحدة فقط وكلمات الرئيس الصارخة” الإنتفاضة دمرتنا”، إخترقتا جمجمة “هيثم” الذي إعتلى شهيداً لتوه درجات السماء نحو الشمس. وجدّتي ترد صارخة، تخاطبه وكأنه أمامها:

ـ نسيتَ ان تقول أن المفاوضات أحيتنا، وأوسلو نهض بشعبنا، والتنسيق الأمني حرر أسرانا وحمى شبابنا وأطفالنا من القتل…

واحتضن هيثم الأرض بوجهه، ولثم ترابها وكأنه يُقبّل أمه، واختلط دمه مع التراب بشكل غريب، كأنه أراد أن يجبل التراب بدمه مع سابق إصرار، وكان جدول الدم يسيل ويسيل، ولم أكن لأصدق يوماً ان جسد الشهيد يمكن أن يحوي كل هذا القدر من الدماء، وكأن هذه الدماء تتزايد خصيصاً لتروي تراب الأرض، لتصير كما كانت تقول جدتي دوماً متسائلة بإستنكار وإصرار، عندما يعلو ويرتقي أي شهيد، بعد أن تسقي دماؤه الأرض:

ـ ماذا كنتم تعتقدون؟!!! أم” من أين للزيتون كل هذا الزيت؟”…

  •         *          *

كنت قد بقيت مشدوها جراء ما رأيت، لم أكن مصدقاً عيناي، بل إعتقدت للحظة أنني ما رأيت سوى كابوس، وأن عيناي تكذب عليّ كما تكذب عينا تائه عطش في سراب الصحراء، وبقيت أنظر من شباك الحمام وهاتفي الخلوي في يدي، ومددت جسدي للخارج أكثر وكأنني أريد أن أثبت لنفسي كذب بؤبؤي عيني، وفي تلك اللحظة بالذات رأوني، لم يرتبكوا كثيراً، فستدافع عنهم دولتهم وقضاءهم كما في كل مرة، لكنهم قرروا اخذ الهاتف كي لا أستطيع نشر ما رأيت، والتفّوا إلى الشارع الرئيس ليجدوني ويصادروا هاتفي.

نزلت من على المرحاض، وصرخت:

ـ لقد رأوني يا”ستي”، لقد رأوني وسيحضرون لمصادرة الهاتف…

ولم أفكر للحظة في مجيئهم لإعتقالي، لكنني أجبت على الأسئلة التي كانت تتوالى من عيني جدتي دون كلام، وأكملت:

ـ لقد قتلوا “هيثم” ياجدتي… قتلوه

ولم تسأل جدتي عمّن يكون “هيثم”، فللشهداء نفس الصورة والقيمة في صدرها وقلبها، وأنا لم أكن أعلم قبل ذلك أن جدتي، هذه العجوز المعمّرة، يمكن أن تفهم ما أريد قوله وبهذه السرعة، وأكثر من ذلك أنني لم أتصور يوماً أن جدتي “الحادة” مثل سكين، يمكن أن تكون ببرودة الأعصاب هذه، في وقت الشدة، قالت بهدوء ووضوح، وقد مدت يدها لأسقط فيها هاتفي:

ـ إياك أن تعترف بما فعلت… سيعتقلونك ويعذبونك، سيسألونك عنه، وأشارت بيدها لتريني عما تتحدث، هذه فرصتك لتكون رجلاً، لا تُفرّط بهذه الفرصة التي لا تتكرر كثيراً إلّا للرجال، إجلس الآن وتفرج على التلفاز وكأن شيئاً لم يكن….

وخرجت إلى الغرفة الأخرى، عرفت لاحقاً أنها أعطت الهاتف لأمي وأخرجتها من المنزل لتعطيه لبعض الجيران البعيدين عن بيتنا، وسرعان ما داهم الجنود البيت، وقابلتهم جدتي، وسألتهم وكأنها من باب التحدي ليس أكثر:

ـ ما الذي تريدونه؟ “هي وكالة من غير بواب؟”البيوت لها حرمتها…

وأخذت تدافعهم على الباب، تحاول منعهم بكل السبل، وكأنها تريد تحويل الأمر الذي جاؤوا من اجله وتغيير هدفه، لكنهم دفعوها ودخلوا، فعضلاتهم أقوى من عظام شيخوختها، لكنها ما أن دخل آخرهم حتى دفعته بكل ما استطاعت من قوة، فتدعثر بقدميه وأسقط واحداً من الجنود الذين كانوا أمامه، فارتفعت حالة الخوف لتتحول إلى جبن داخلهم، كما قال أبي، وهوت على رأس من أسقطته ب”بابوج” قدمها البلاستيكي، واخذت تضرب به رأسه ووجهه، وفي مثل هذ الحالات” يتصاعد الجبن داخل الخائف ويكبر، فما بالك بالجبان من الأصل؟”، والسلاح كما أكد أبي، “في يد الجبان يجرح”، فما بالك إن كان هذا الجبان عدواً؟”، وعندما صار الخوف يتصاعد من ضربات بابوج جدتي، وارتفع منسوب الجبن المجبول بالحقد والكره، وصل الجبن إلى أقصاه ومنتهاه، أخذ الضابط بندقيته الرشاش من على كتفه، وافرغ في جسد جدتي مخزناً كاملاً من الرصاص، فانفجرت ينابيع الدم القاني من جسد جدتي، وسال مدراراً على بلاط البيت، وبابوجها ما زال يهوي على رأس الجندي المتمدد أمامها …

قال لي أبي ونحن نستقبل العزاء المشترك، محتفلين ونوزع الحلوى لإستشهاد جدتي وإستشهاد “هيثم”، قبل إعتفالي بيوم واحد فقط:

ـ حتى وإن إستشهدت جدتك في البيت، وسالت دماؤها على “المصطبة”، فإن دمها قد روى الأرض، فلدماء الشهداء طريقتها في الوصول للأرض لترويها، أم من أين تعتقد أن للزيتون كل هذا الزيت؟!!!

محمد النجار