قال “من أين لك هذا”…

كنت أرتشف كاسة الشاي التي أحضرها لي نادل المقهى الواقف على باب المدينة منذ زمن، حيث أردت الإرتياح من ” مشوار” الطريق، حين دخلا إلى نفس المقهى وجلسا متقابلين على طاولة مقابلة لي مجاورة، أخرج أحدهما من كيسٍ ورقيٍ “سندويشين” من الفلافل، يبدو أنه قد اشتراها من مطعم قريب، أعطى أحدهما لمُقابِلُه، وبدأ يقضم الآخر بأسنانه ناظراً الى النادل ليحضر لهما الشاي الذي طلباه، ويبدو أنهما تابعا حديثاً وحواراً كانا قد ابتدآه في مكان ما خارج المقهى، فقال أحدهما والذي عرفت لاحقاً أن اسمه عمر، بصوت خفيض لكنه مسموع لإنسان على مسافة قريبة، وليس له شريك يلهي أذنيه بأحاديث أخرى مثلي:

ـ يا صديقي، يا أحمد، ليس من المنطق أن تدافع عن اعتقال هذا البروفيسور*، لا لسبب إلّا لأنه يمتلك وجهة نطر أخرى مُخالفة…

حين رد عليه أحمد وما زال يمضغ لقمته، دالقاً فوقها جرعة من الشاي لتساعدها على الإنزلاق:

ـ انني لا أدافع عن اعتقاله لإمتلاكه وجهة نظر مخالفة، انني….

فقال عمر معلقاً مازحاً ومبتسماً:

ـ أنت تدافع عن إعتقاله كونه قال هذا الرأي وأخرجه إلى الملأ ، وليس لأنه يمتلكه فقط….

ـ لا ليس صحيحاً، أنا ضد الإعتقال على أساس الرأي، لكن الجميع يُحمِّل الرئيس مسؤولية هذا الإعتقال، وهذا به من الإجحاف الكثير…

قال وقد توقف للحظات عن القضم، ثم جرع جرعة من كاس شايه، حين قال عمر:

ـ يعني أزعجك كون الرئيس متهماً كما قيادة سلطته، ولم يزعجك أن الرجل معتقلاً؟!!!

أربك السؤال أحمد قليلاً، وأكمل متابعاً:

ـ تتحدث عن الرئيس وكأنه “حمامة مكة”، وهو ليس كذلك، أو كأنه يختلف عن من هم حوالية، والأمر ليس كذلك أيضاً، ثم إن كان من حوله بهذا السوء فهو رأسهم وإلّا لما استطاع التعايش معهم… إنه ربُّ البيت كما يُقال، وكما يقول الشاعر :

إذا كان رب البيت للطبل ضارباً                                   فشيمة أهل الدار كلهم الطبل”

فقال أحمد مقاطعاً لكن بشيء من الغضب:

ـ قصدت القول أن الإعتقال ليس سياسياً كما أوضحت السلطة…

ـ وصدّقتها؟ إذن لماذا الإعتقال؟ ربما لتعاطيه المخدرات أو لتجارته بها؟ وربما لتحرشات جنسية؟ وما يدرينا فربما كان الرجل قد شكل عصابات سطو مسلحة….

قال عمر بنفس طريقته المستهزئة لكن المتألمة أيضاً، وتابع:

ـ ومن يدري فربما يتهمونه بتقديم معلومات للعدو!!!

وسرعان ما عدّل عبارته الأخيرة قائلاً:

ـ أسحب عبارتي الأخيرة كون السلطة لا تتعرض للعملاء ولمن يقدم معلومات للعملاء…

كانت عبارته قاسية لكنها صادقة، كانت تصب مباشرة في أذني أحمد، الذي كان التوتر بادياً على ملامحه، فأخرج سيجارة من علبته التي كان قد وضعها أمامه بعدما جلس على الكرسي مباشرة، وقال:

ـ لا تُكبِّر الأمر كثيراً، فالأمر ليس بهذا الحجم ولا بهذا الشكل أيضاً، وربما لا يستحق كل هذا النقاش…

فقال عمر من جديد:

ـ جيد، لنأخذ الأمر ببساطة أكثر، رجل بهذا السن، تاريخه مشهود له بوطنيته، يحمل أفكاراً وطنية وله اقتراحات موحِدة، يُعتقل وكأنه خطر على الوضع الوطني العام، وتثور ثائرتك عندما أُحمِّل السلطة ورئيسها المسؤولية، ألا تشعر بأنك تستخف بعقلي؟!!!

قال أحمد وكأنه يدافع عن نفسه وما زالت سيجارته تأكل نفسها بين أصابع كفه:

ـ لا تفهم من حديثي أنني مع إعتقاله، لكني لا أرى في الأمر ذاك الخطر الذي تراه…

فرد عمر وقد صار صوته أعلى قليلاً من السابق:

ـ طبعاً، لذلك لم تعترض على أي إعتقال لأي مناضل حتى قبل هذا الإعتقال، فبرأيك لا يوجد معتقل يستحق حتى مجرد مثل هذا الحوار …

سكت فليلاً، وبدا أنه لم يكتفِ بما قاله، فأكمل ما بين الغضب والإستغراب:

ـ أتعرف ما أستغربه؟ لماذا لا يغضبون على حالات القتل اليومي من الكيان الصهيوني كما يغضبون على رجل من أبناء جلدتهم يقول رأياً حتى وإن كان مخالفاً؟ على الأقل فهو لم يحمل في وجههم بندقية! لماذا لا يغضبون على إرهاب “نتنياهو” وتقتيله وإعتقالاته كما يغضبون على أبناء شعبهم؟ ولماذا لا يتعاملون مع شعبهم بنفس “اللين والطيبة والتسامح والود” كما يتعاملون مع أعداء هذا الشعب من جيش ومستوطنين وقيادة؟ إن أكثر ما يثير استغرابي أنهم يحتملون “بصاطير” الإحتلال أكثر بكثيرٍ من احتمالهم لمجرد رأي من أي كان من أبناء شعبهم…

كان أحمد يستمع صامتاً غاضباً وكأن الحديث لا يعنيه، وعمر يتابع حديثه وكأنه لا يعنيه رأي أحمد أيضاً:

ـ كم تمنيت لو أوقفوا الإحتلال يوماً عن الوصول إلى غرف نومهم باحثاً عن مناضل يحاول الإختباء من رصاصاته التي تلاحقه ليستطيع مهاجمة جنودهم من جديد!!! لكنهم يعاتبون المحتل على عدم قتل هذا “الإرهابي الفار”، وكيف استطاع الفرار ليصل إلى قصورهم؟!!! ألا تريد أن تفتح عينيك يوماً لترى أن كل ما يتعلق بالإحتلال “مقدساً” بالنسبة لهم، وكل ما يتعلق بشعبهم وحقوقه يمكن البحث فيه والمساومة عليه والتنازل عنه؟!!! ألم يُثِر فضولك الأمر يوماً؟ وتظل تصرخ وكأنك بلا عقل ” ليس للرئيس علاقة”، ورئيسك يثور خارجاً عن طوره وكأنه “معمولٌ” له عمل، أو كمن “ركبه الجن” كما يقول شيوخ العصر أو المشعوذين، عندما يسمع عن مجموعات مسلحة أو سلاح غير “شرعي” كما يسميه أوحتى عن تظاهرة سلمية!!!، وتقول لي الرئيس لا يعلم؟!!! السمكة ياعزيزي تتعفن من رأسها أولاً، وهؤلاء يا عزيزي مخصيون، نعم مخصيون سياسياً، لم يعد فيهم أي أمل، “نَجَبَ”فيهم الخصاء واكتمل، وإخفاء هذه الحقبقة لا يغير ولا يبدل في كونها حقيقة، يعني كونك تُغمض عينيك نهاراً لا يعني أن الظلام قد حل واحتل الأفق…

كان أحمد ينظر بإندهاش الى عمر، وكان يعرف أن حواراته المتعددة مع صديقه عمر، كانت تنتهي بأن يُحرج نفسه ولا يستطيع الدفاع عن آرائه “الآيلة للسقوط” كما وصفها ذات يوم صديق مشترك لهما، لكنه قال رغم ذلك:

ـ والله يا أخي أنك تظلم الرئيس، صحيح أن جزءاً مما قلته صحيح، لكن ليس كله، حتى أنني سمعت أنه يريد أن يبدأ تحقيقاً مع رجالات السلطة عن أموالهم التي تتكدس في حساباتهم مسروقة أو مدفوعة من دول في المنطقة بما فيها “اسرائيل”، فالرجل ليس تماماً كما تصفه….

فقال عمر وكأنه لا يريد أن يترك له رأياً صائباً:

ـ فليسأل أبناءه أولاً، فالأقربون أولى بالمعروف، كي لا أقول فليسأل نفسه…

فقال أحمد مباشرة وكأنه حقق انتصاراً:

ـ لقد سأل

ـ سأل مَنْ؟

قال عمر سائلاً مستغرباً حين رد أحمد:

ـ سأل أحد أبنائه…

ـ ماذا سأله؟                                                                                                                    سأل عمر بتفس النبرة المستهجنة، حين أجابه أحمد:

ـ سأله “مِنْ أين لك هذا”؟

ـ وبماذا أجابه؟

سأل عمر من جديد وقد اقترب برأسه أكثر من أحمد وكأنه يريد أن يستمع بكل حواسه، فأجاب أحمد:

ـ أجابه “هذا من فضل ربي”

وسكت أحمد في الوقت الذي كان ينتظر عمر أن يكمل أحمد “تخيلاته”، وأمام سكوته المستمر سأل مجدداً:

ـ آه … وبعدين ؟

فقال أحمد:

ـ ولا قبلين…. أردت القول أن الرجل لا يترك الأمور على عواهنها، إنه يسأل ولا يسكت أبداً …

فقال عمر مُسْتَفَزّاً:

ـ تريد أن تقول أنه إكتفى بإجابة إبنه

ـ نعم… وهل هناك إجابة أوفى من ذلك؟!!! ” هذا من فضل ربي”…..

ـ إجابة “مُفحمةٌ” فعلاً… لقد سأل وتلقى الإجابة الوافية… أتعرف؟ أنا أستاهل الضرب بالحذاء لأنني أجلس مع أمثالك…

استفزني الحديث كما استفزت عمر الإجابة، إستفزني كما لم أُستفز من قبل، لدرجة أنني لم أستمع لبقية تعليق عمر، ناديت النادل وأعطيته ثمن كاسة الشاي التي طلبتها، وكنت قد استرحت من مشوار الطريق بعد أن أنزلني “باص الصليب ” إلى مركز المدينة، حيث جلست لأستريح قليلاً في هذا المقهى بعد أن عدت من زيارة لإبني القابع في سجن الإحتلال منذ سنوات ، وأدركت حينها أكثر من أي وقت مضى، أن مثل هؤلاء لا يستطيعون تحرير دجاجة من قفصها وليس آلاف السجناء، فقمت مُخاطباً إبني بأعلى صوتي وكأنه يقف أمامي ويسمعني:

ـ لكم الله يا بُني… إعتمدوا على زنودكم وزنود مَنْ هم على شاكلتكم فقط، فالمخصي يظل مخصياً و”ما بيجيب ولاد” ، يعني ليس لديه بذوراً لأطفال، “ففاقد الشيء لا يُعطيه”، وكلما كان أكثر خصاءاً كلما حاول أن يُظهر فحولته المفقودة أكثر على أبناء شعبه، وهؤلاء يابني كما قال الشاعر ذات يوم: “أسدٌ علي وفي الحروب نعامة”….

وأكملت طريقي مستعيناً بعكازتي وبمصابيح الطريق لأصل بيتنا في المخيم القريب، الواقف على باب المدينة  منتظراً العودة منذ عقود…

  • المقصود إعتقال البرفيسور الدكتور عبد الستار قاسم

محمد النجار