الفارس

تصادف وجودي عند صديقي “أبو أسعد”، في ذاك النهار المشؤوم، كنا لم نتقابل منذ فترة طويلة مضت إلّا لماما، وكنت خارجاً لتوي من العزاء بموت والدي، وما أن رآني حتى حذف كلماته في وجهي مثل لوح صبار:

ـ لقد توفي المناضل تيسير قبعة… جاءتني رسالة على هاتفي تؤكد ذلك…

قلت:

ـ أنا لم أسمع الخبر من أيٍ من وسائل الإعلام…

قال:

ـ لم يعلنوا الأمر بعد…

وكان قد بدأ يُجهز صور الشهيد تمهيداً للعزاء، وقال من جديد:

ـ إنه يستحق الوفاء…أستأتي؟

قلت:

ـ نعم… ربما مجيئي من مدينتي البعيدة في يوم العزاء هو جزء من وفاء أيضاً، وفاء له ولهذه المدرسة التي قادها الحكيم وأبوعلي مصطفى، والشهيد أحد أعمدتها.

كل ما أعرفه عن هذا الشهيد، أنه لم يكن سوى “بلدوزر” عمل، لا يهدأ ولا يستكين، وكان يظل في حالة من الحركة الدائمة، في حياته ومكتبه وحتى بيته، الذي كان يعج بالناس عديمي الحيلة، الذين يبحثون عمن يساعدهم ويساندهم في حل مشكلاتهم المتعددة، خاصة بعد أن جاءت السلطة وزادت من همومهم ومشاكلهم على نحو ملحوظ.

ظل الشهيد “فارساً” يمتطي صهوة جواده ويقاتل، لم يترجل يوما أو يرتاح، لم يهن أمام عدو  ظل يتربص به على مدى عمره كاملاً، ولم يحنِ رأسه خوفاً من موت قادم مع العواصف التي ظلت تشتد على مدى عمر الثورة كلها، حتى مسألة موته لم تكن ،برأيي، إلا غدراً، فالموت لم يأته وجهاً لوجه، جاءه متخفياً غدّاراً، طعنه في قلبةأثناء لحظة نوم عميقة مسروقة، بعدأن تكالب عليه تعب الأيام والسنين، وأغرته لحظات نعاس لعوب، فنام، لحظتها فقط انقض الموت حاملاً جُبنه وغدره وسكاكينه، لينهي حياة زاخرة بالعمل والعطاء والتضحية والمرض، حياة ميزتها الأساسية رفض الخنوع ممن كان ومن أيٍ كان.

حتى قبل أن يتوصل حزبه إلى صياغة شعار “الإعتراف خيانة”، وجسّده بدماء أعضاءه وكادراته، في نهاية السبعينات، كان هو قد طبق الأمر قبل ذلك بعقد كامل ويزيد، عندما رفض الإعتراف حتى بإسمه في زنازين الإحتلال، حينما تسلل عائدا إلى الداخل وتم إلقاء القبض عليه، قبل أن يتم نفيه مجدداً خارج الوطن بعد أن أمضى فترة محكوميته، وهذه الحالة، حالة عدم الإعتراف حتى بالإسم لم تتكرر، كما أعرف، إلّا مرة أخرى من قائد وطني كبير ومناضل رائع شرفني لقاءه والتعلم منه في المعتقل الإداري في النقب، والذي لم يعترف حتى بإسمه، وأمضى أطول فترة حكم إداري في تاريخ الحركة الأسيرة كاملة، وكانت تهمته أنه قائد في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إنه المناضل الكبير والمفكر العربي أحمد قطامش. تُرى أهذه مجرد صدفة، أم معدن أصيل صقلته التجربة والمبدئية ونكران الذات لدى الإثنان؟!!!

وبجدارة، تبوأ الشهيد، المناصب في حزبه، وفي مؤسسات منظمة التحرير وفي المؤسسات العالمية. وبعد أن استجلبوا أوسلو قاطعين الخط على الإنتفاضة الأولى كي لا تصل إلى تحقيق حلم الدولة الفلسطينية التي صارت أقرب إلى الواقع، وبعد تشكيل السلطة، رويداً رويدا تحولت الى أداة في يد المحتل، وصار التنسيق الأمني سيفاً مسلطاً على أعناق البلاد والعباد، وفتحت السجون للمناضلين، وصارت السلطة للمنتفعين والمارقين والفاسدين والمفسدين، وكان هو نائب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، وكانوا غير قادرين على إبعاده أو تغييره إلا بعقد جلسة لم يريدونها للمجلس الوطني، وظل يناضل لإعلاء كلمة قضيته الوطنية في أي جبهة أو محفل في الخارج، ويلاحق كل من حاول تقزيم القضية الوطنية الفلسطينية، خاصة في إجتماعات منبثقة عن الجامعة العربية واتحاد البرلمانيين العرب، المختصة بهذا الشأن، وظلت كلماته ومتابعاته سكاكين تلاحق الرجعيين العرب، وتقف لتنازلاتهم بالمرصاد.

أخرج “أبو أسعد” مجموعة من الرسائل ، منها رسالة إحتجاج قوية على حالة الإنقسام، تحت عنوان “كفــــــــــــــــــــــى”، ورسالة للرئيس، منذ عام 2012، إلى عدد من المؤسسات الفلسظينية، تحمل قرارات مبنية على شكاوى أصحاب الجلالة والسمو، والسادة الرؤساء ووزراء خارجيتهم، بحق “المشاغب” الفلسطيني تيسير قبعة، وازدادت الشكاوى منهم للقيادة الفلسطينية، فكيف يمكن أن يتحدث شخص عن دعم القضية، بالمال والسلاح، في هذا الزمن؟ كيف يمكن أن يقف في وجوه “مدمري الأوطان” العربية خاصة آل سعود؟ آل سعود أنفسهم أصحاب الحل والربط والعلف لمن يرغب بأن يكون نذلاً؟ كيف يمكن أن تقاوم النذالة ياتيسير؟ النذالة المخلوطة بالعلف وببول البعير الذي تحتسيه سلطتك، ويشرب منه الإخوان المسلمين الأنخاب مع دويلة قطر ومملكة آل سعود،  وتحلف بحياتهم، بعد أن دعمهم الإخوان بالحثالات البشرية، مقابل المال،  التي دمرت أوطاننا؟

وبشيء من التفصيل، كان الشهيد “حاداً” مع هؤلاء العربان، ومع “أصحاب القرار” الفلسطيني في غزة أو الضفة، وأطلق صرخته المعروفة في وجوههم، “كفــــــــــــــــــــــى”، كفى تقسيماً للشعب والوطن، كفى إختزالاً للشعب في فصيلين، كفى تمزيقاً للوطن لخدمة مشاريع الكيان بأيدٍ عربية، كفى خدمة لمشروع الصهيونية العربية، فالقضية الوطنية أكبر منكما ومن خلفكما كل الرجعيات القابضة على أكياس المال التي تعبدون، كفاكم عبثاً، كفاكم استهتاراً بالوطن والقضية، فقضييتنا لا يمكن التساهل فيها، كما لا يمكن المجاملة على حسابها.

قامت الدنيا ولم تقعد وراء الكواليس، وصار لزاماً أن تدفع ثمن صرختك في وجه قادة الإنقسام، وصرختك في وجه ممثلي انظمة الصهاينة العرب بقيادة آل سعود، فاستدعى آل سعود وجوقة العربان سفراء فلسطين محتجين على هذا “المشاغب” الذي يحاول إفشال مشروعهم، وطرحوا عليهم السؤال الكبير:

ـ كيف يمكن أن يكون ما يزال لديكم، أنتم الفلسطينيون أناسا بكرامة؟!!! كيف يمكن أن تكون لديهم العزة والشموخ والأمل؟!!!كيف يمكن أن يكون هناك من يحاول توحيد الشعب الفلسطيني الذي فعلنا كل ما بإستطاعتنا لنوصله لما هو عليه الآن؟كيف يمكن أن لا يكون اليأس الذي تسرّب إلى كل النفوس، لم يصلهم بعد؟ بعد كل ما قدمناه من “علف” وجهد في سبيل ذلك؟ كيف يمكن أن لا يعيش العرب أذلّاء حقراء بعد كل هذا التدمير والخراب في البشر والحجر والنفوس؟

وصرخوا في أصحاب القرار الوطني الفلسطيني:

ـ ألم نقل لكم أعلفوهم؟

وجاء الرد الفلسطيني “المستقل”:

ـ هؤلاء يرفضون العلف، طال عمرك، لقد حاول معهم ومنذ إنطلاقتهم كل أصحاب الجلالة والسيادة والسمو، وهم “والعياذ بالله” يكفرون بالسلطان وأصحاب الجلالة والسيادة والسمو وأولي الأمر، وبهم ملحدون طال عمرك، شموخ الأنوف لا ينحنون أبداً “لمخلاة” السلطان ولا لسيفه ولا لأوامره، حتى لو كان السلطان من آل سعود، طال عمرك.

فكر حينها صاحب الجلالة، وقال:

ـ جوعوهم إذن، جوعوهم…

فقال القرار الفلسطيني “المستقل”، بعد أن إنحنى أكثر بقليل، كعادته، عند مخاطبة أصحاب السعادة والسيادة والسمو:

ـ لقد فعلنا طال عمرك، مرات ومرات، لكنهم شدوا الأحزمة وأكملوا الطريق بعد أن زادهم الجوع ثورة.

فقال صاحب الجلالة:

ـ إذن لاحقوهم، أفلتوا عليهم كلابكم، هؤلاء خطرٌ عليكم وعلينا، وسنوصي بهم حلفاءنا من “آل موسى” ليستأصلوهم من الحياة.

كرر القرار الوطني لفلسطيني”المستقل” مجدداً:

ـ لقد فاضت بهم السجون لدينا ولدى “آل موسى”، وكما تعلم طال عمرك، هل تنسيقنا الأمني إلا لمثل هؤلاء “المارقون المتطرفون”، الذين يرفضون الخنوع والذل والإنحناء؟!!!

واقترب القرار الفلسطيني “المستقل” من عباءة صاحب الجلالة، قبّل ذيلها المذهب، انحنى أكثر، وأكمل:

ـ هؤلاء، طال عمرك، أصحاب شعار “وراء العدو في كل مكان”، والعدو عندهم كما تعرف هو أنتم وحليفنا الجديد وحليفكم القديم، وهذا “التيسير” الذي نشكون منه جميعاً، هو من كان يقود فرعهم الخارجي في العالم كله، أعني إنه “وديع حداد” بصورة سياسية، ومن يدري إن كان فقط بصورة سياسية؟ فربما كان أحد روافده وروافد بندقيتهم أيضاً!!!

صرخ صاحب الجلالة غاضباً:

ـ هذا يعني أنه ما زال لديكم رجال بكرامة وعزة نفس وإباء وشموخ!!!

قال القرار الفلسطيني المستقل:

ـ للأسف نعم يا صاحب الجلالة، لكننا نعدكم….

قاطعه صاحب الجلالة قائلاً:

ـ هذا يعني أن حربنا لم تنتهِ بعد، وأننا وحلفاؤنا لسنا في مأمن، إنكم تعرفون ما يجب عليكم فعله…

وغادر يقطر قطرات غضب ونتانة قائلاً:

ـ أمعقول أنه لم يزل هناك بشر لا يفضلون سماع المطرب “موشي إلياهو”؟ ولا يفتشون حقائب طلاب المدارس عن سكاكين؟ أمعقول هذا بعد كل هذا العلف؟!!!

ومد يده في حزام نقوده، أخذ حفنة من علف، وضعها في مخلاة القرار الفلسطيني “المستقل”، جزء في غزة وآخر في رام الله، ليزداد استقلال القرارين استقلالاً، فيزداد انتفاخ رصيد البعض، وتتعمق الهوة بينهما وتزداد اتساعاً، فزاد رأس القرار “المستقل” في الجانبين إنحناءً، وعضّا على لسانهما خوف أن تصدر كلمة تُغضب صاحب الجلالة، لا سمح الله، فيوقف البرسيم والعلف، وقال البعض أنه قد تغير صوتهما ولم بعودا يتكلمان مثل البشر أبداً.

وعملاً بمشورة صاحب الجلالة ،أطال الله في عمره، وتوجيهاته، جاء قرار الإخوان المسلمين في غزة، بتغيير اسم مدرسة الشهيد غسان كنفاني، أبرز الكتاب الفلسطينيين والعرب، الذي “كتب بدمه لفلسطين”، ومن   أبرز الشهداء ، بإسم مدرسة أبو حُذيفة!!! كي يمحو الأصل والجذر والذاكرة والتاريخ، وترافق ذلك برسالة “عبد ربه منصور هادي” الفلسطيني، الرئيس منتهي الولاية ومنتهي “الصلاحية”،قرار رئيس السلطة نفسه، عباس بشحمه وعظمه، بتوقيف راتبك الذي تأكل منه وتعيش، وأنت لست مثله ومثل أولاده وأحفاده، ولا حتى مثل حاشيته من لاعقي الأحذية المسحجين، لم “يفتح” عليك الله بالملايين لتستغني عن معاشك، أن يُقطع عنك المعاش؟ “ومن مهازل المرحلة أن عميل المخابرات الصهيوني الذي أتى بالأثاث الذي كان مزروعاً في مكتب الرئيس عرفات في تونس، وأدى لمعرفة أسرار المنظمة وقتل الكثير من قيادتها، ما زال معاشه غير مقطوع حتى هذه  اللحظة؟!!!”

وأكمل الرئيس المنتهية “صلاحيته”أوامره، بسحب أرقام سيارتك، وبوقف علاجك وإغلاق مكتبك، “مكتبك الذي ذهبت ودُسته مع أمر الرئيس بحذاء قدمك لتفتحه، فهكذا أوامر لا تستحق إلا حذاء لتُداس به، وحتى حذاءك يشرفها”، تخيل رئيس إنتهت مدة رئاسته وانتهت مدة “صلاحيته” يتحكم في حيوات مناضلي شعبنا؟!!! فهو لا يستطيع أن يتخيل بعد، أن هناك من لم ينحنِ لأسياده من أعراب جهلة ودول مانحة، وأن هناك يداً وعيناً يمكنها أن تجابه المخرز، وأن سياسة التذليل والتجويع والتسحيج والحمرنة، لم تعمم كما أرادوها، وأنه ما زال هناك بشراً ترفض العلف وترفض أن تكون قطيعاً.

هذه الجوقة التي ظلت، كلما وصل العلف تُسحج، وكلما تأخر وصول العلف، تُسحج مذكرة بنفسها وبخنوعها وركوعها، وكلما تناقصت كميته في “مخاليهم”، سحجوا وازدادوا إنحناءٍ، كي لا يفهم تسحيجهم خطأ من أولي الأمر، هاتفين بأنهم دون شرف أو كرامة أو ضمير، وأنهم أزلام السلطان وأذناب أصحاب الجلالة والسمو، وأنهم يستحقون مخلاة العلف بكل جدارة، مذكرين أنهم منذ ما قبل أوسلو كانوا أصحاب السبق في لقاءات الصهاينة، أيام كان ذلك في باب “التكتيك” وليس “الإستراتيجيا” كما هو عليه الأمر الآن.

قالوا أنك خالفت أوامر الرئيس، ولم يفهم هؤلاء كيف أنك لم “تُدجن” على مدى ربع قرن من استدخال الهزائم والتطبيع والنذالة؟ وكيف ترفض العلف منهم ومن أولي الأمر، وكيف أنك ما زلت لا ترى في الرئيس”الحاكم بأمر الله” إلا مشروع تصفوي فاشل، رغم أنهم يؤمنون بأنه “وحي يوحى”، وكلما رش العلف عليهم أو ملأ “مخاليهم” بالبرسيم، كلما تيقنوا من “نبوءته”، ومن الوحي الذي مازال عليه ينزل، هل معقول أن يكون في هذه الدنيا من يرفض “النعمة”؟ ورفضت نعمتهم، وبقيت تطالب بإصلاح المنظمة وبقيادة جماعية وتتحدث عن الثورة وعن حتمية الإنتصار، وتحدثهم عن دماء الشهداء والجرحى والأسرى وأنّات اليتامى والأرامل، أمعقول هذا؟ أمعقول التحدث بمثل هذه “الأحاجي والطلاسم”؟ أمعقول التمسك “بالأساطير” في زمن الردة والعهر والتدمير؟!!! أمعقول أيها الفارس أن تظل فارساً بعد أن ترجل معظم الفرسان؟ بعد أن باعوا أحصنتهم في سوق النخاسة المملوك لآل سعود، وسلموا سيوفهم؟

صدقني أيها الشهيد الوفي، إنهم فرحين بوفاتك، ويتمنون لو أن الأمر تم قبل ذلك بسنوات، من حاول مسح اسم غسان كنفاني كان يريد قتلك، ومن يشرفه أن يكون من “حريم السلطان أو غلمانه” كان يتمنى قتلك، ومن يعتقل المناضلين تحت أي حجة أو مُسمى كان يتمنى قتلك، ومن أنغرس في الفتنة ليدمر أوطاننا ويهجر مخيماتنا أراد قتلك، ومن أوقف مرتبك كان يقصد قتلك، ومن أعطى أمراً بوقف علاجك كان يقصد قتلك، ومن أغلق مكتبك كان يقصد إغتيالك في منتصف النهار حياً، لأنه يعرف أن الموت عندك أفضل ألف مرة من أن تقف متفرجاً، رغم كل ما سيقولونه في التعزية من المديح والتغني بالوحدة الوطنية، فوحدتهم الوطنية تعني الفساد والإفساد والتحكم بصندوق المال للتدجين وامتلاك القرار، وكي يسلبوا بندقية آخر الفرسان، ليسلموها للمحتل.

لقد عشت فارساً يا أبا فارس، ومت فارساً، لم تنحنِ يوماً لا لعاصفة ولا لهبة ريح، فهنيئاً لك كل ما قدمت من عطاء، وهنيئاً لشعبك بك، شعبك الذي سجلك في سجل الخالدين، ورمى الحثالات أحياء في مزابل التاريخ.

محمد النجار