لم أجد أفضل من التلفاز لأجالسه في ذلك اليوم، ولك أن تعرف مدى الألم الذي كان يحيط بي، وأنا، من عادتي مجالسة التلفاز في الأيام العصيبة فقط، ربما كي لا أفكر بأشيائي، بهمومي ومشاغل رأسي، وربما للهروب منها مختبئاً في تفاهات التلفاز من مسلسلات وأفلام وأكاذيب وتلفيقات على مدار الساعة. ولا أدري لأي سبب فتحت على قناة إخبارية على غير عادتي، فعادة ما أتخفى خلف الأفلام والمسلسلات، لكن ماذا دهاني وغير عاداتي في ذلك اليوم، فأنا لم أعد أعلم أو أتذكّر.
كان غضبي في ذلك اليوم منصباً على آل سعود، هؤلاء القوم الذي ما تختفي فضيحة من فضائحهم، وتكاد تنتهي روائحها النتنة، حتى تفوح من جديد، بشكل وطريقة تزكم الأنوف، فضيحة أو فضائح جديدة أو متجددة، فأعود أغضب وأشتم وأتساءل عن عمق النذالة فيهم، وكيفية إحتواء أجسادهم تلك، كل هذا القدر من الذل والمهانة والخصي والتأزم والأمراض النفسية والجهل والتخلف، بطريقة لن تجدها مجتمعة أبداً عند سواهم، لأتأكد من جديد أنني أمام حالة مريض ميؤوس منه، لا شفاء له، ولا مكان لطهارته، وما زال أمامي وأمامك وقتاً، وإن كان ليس طويلاً، حتى يموت ونستطيع دفنه، وعندها فقط تصير رائحة نذالته وعفونته من الماضي، وتأخذ تتبخر في البعيد من الأيام.
طرق بابي ودخل الحاج أبو إبراهيم كعادته في معظم الأيام، فحرمني من وحدتي، وقطع للحظات تواصلي مع التلفاز، وما أن جلس في مكانه المعتاد على الكنبة نفسها، حتى كانت تلك المحطة تعيد لقاءها مع سفير آل سعود في الأمم المتحدة، يرد فيه على سؤال صحفي يسأله:
ـ ” لماذا ما تزال دولتكم تقصف دولة اليمن؟”
فيجيب السفير “الذكي النجيب”:
ـ”إنني أشبه قصف بلادي لليمن بالرجل الذي يضرب زوجته”
ويضحك “سعادته”، يضحك طويلاً، ربما لأنه يَشْتَمّ رائحة دماء اليمنيين بين يديه، من نساء وأطفال وشيوخ، فهو كما قادته تثيرهم وتغريهم وترسم البسمة، بل الضحكة، فوق شفاههم، الدماء، وكلما كانت طاهرة زكية، كلّما أثارتهم أكثر وأكثر، لكن سعادة السفير لا يعرف أو يعلم، وربما، على الأرجح، لا يفهم، أنه لا يوجد في الكون رجلاً “مخصياً” أكثر من رجل يضرب إمرأة، فما بالك بزوجته كما يفعل ويفعلون، وأن من يلجأ لضرب الزوجة، إنما يعبر عن خمول ذهني وجفاف فكري وانحطاط بشري، وهو في كل الأحوال إنما يُعبر عن نقص في الرجولة، الرجولة بمعناها الإنساني بالطبع، فأن تفيض رجولك لضرب زوجك بدلا من الميدان ليس من الرجولة في شي،لأن هذه الثقافة، أينما وُجدت فهي بالأساس ثقافة الجهل والتخلف وإغلاق الأفق والعقل، يعني وبإختصار ثقافة بول البعير.
هكذا علّقت على المشهد الذي أمامي على غير عادتي، مثل مثقف حفظ شيئاً، من كتاب، عن ظهر قلب وصار يردده، وتابعت دون تعليق من الحاج أبو إبراهيم، بعد أن صرت أتوجه بالكلام إليه وكأنني أخاطبه:
ـ وهذه العادة المتوارثة لدى آل سعود، يحاولون توريثها بشتى السبل لكامل حدود المملكة وخارجها أيضاً، ولطالما أظهرت، عادتهم هذه، مدى خصي هذه القيادات البائسة، المريضة نفسياً، المتخلفة، والمتعجرفة المغرورة في الوقت نفسه، فهذه القيادات التي تقصف اليمن بكل جنون العنجهية والغرور، محاولة تقسيمه إلى طوائف ومذاهب وقبائل وأقاليم، رغم التداخل والتزاوج والتسامح بين كل الأ،طياف، هي مَنْ دعمت حثالات الأرض وجمعتهم في سوريا، وعملت جاهدة على تكريس الفتنة في العراق بين مكوناته الطائفية والمذهبية، وقدمت كل الدعم العسكري والمالي ل”سنته”، هي نفسها التي تحارب “سنة” فلسطين وتعرقل مشروعهم الكفاحي، وتعمل جاهدة لتفرض عليهم تسويات تقتل مشروعهم الوطني بكامله، لكنها وفي نفس الوقت تتبرع لرجل “السلم” نتنياهو بثمانين مليون من الدولارات لتساعده في النجاح في الإنتخابات، وتتبرع لكيانه بمائة مليون لبناء الملاجئ التي تحميهم من حرائق الغابات اليوم، ومن صواريخ حزب الله في حرب قادمة، وتدعم “التكاثر” السكاني للمستوطنات ببضعة مئات من الملايين!!!
قال الحاج أبو إبراهيم مُعلقاً، داخلاً كعادته، في صلب الموضوع دون مقدمات، وبدعاباته المعهودة:
ـ لا لا لا، لا تظلم القوم يا أبا علي، يقول البعض أن ذلك تم بالخطأ، تماماً كأخطاء قيادات “بني أمريكا”، الذين قصفوا الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي والجيش السوري وقتلوا مئات المدنيين بدل أن يقصفوا الدواعش والقاعدة عن طريق الخطأ، وفقط عن طريق الخطأ، وآل سعود أخطأوا أيضاً ظانين أن كل مساعداتهم تلك تذهب الى غزة، لكنها وبقدرة قادر ذهبت في إتجاه غير الإتجاه، وفي نهاية الأمر “جل من لا يُخطئ” يارجل….صححني إن كنت مُخطئاً.
وتابع وقد بدأ يلف سيجارة من علبته المعدنية قائلاً:
ـ كل شيء كان على ما يرام، عندما كان “الجبير” يتصدر شاشات التلفاز!!! لكنهم يبدو أنهم أضاعوه وأضاعوا البوصلة من بعده، فلم يعودوا يتحدثون عن ضرورة “مغادرة الأسد” بالقوة إن لم يغادر بالسياسة، ولم يعودوا يهددوا مصالح روسيا أو رشوتها بعرضهم عليها مائة مليار مقابل التخلي عن سوريا… إن شيئاً ما قد حصل منذ إختفاء الرجل، اللهم اجعل العواقب سليمة، تُرى أتعرف كيف اختفى أو أين ولماذا؟!!!
وأمام وجومي وبلاهتي، وعدم سرعة بديهتي وإدراكي لمزاحه وعبثه، وفي نفس الوقت توهاني بين حروف كلماته دون أن أعلم ماذا يريد بنقلي هذه النقلة، وما علاقة “الجبير” بما أقول، أكمل حتى دون أن ينظر باتجاهي:
ـ على كل حال “حجة الغائب معه”، لكنني سمعت أنهم سيرسلون منادياً يبحث عنه في عمق الصحراء منادياً قائلاً: “ياسامعين الصوت صلّوا على محمد، مَنْ رأى منكن “الجبير” أو من يُشبهه، حياً، ميتاً، أو ما بين بين، عليه ابلاغ السلطات وله “نصفه”، أو بدل “الحسنة” أضعافها”، عملة ورقية أمريكية، واضحة الترقيم جديدة الأوراق لمّاعة، من البنك المركزي تسير الى جيوب الرابح، كزرافات عاريات مختالات، والله على ما نقول شهيد…
وابتسمت رغم امتعاضي وعدم فهمي في أول الأمر، فكلمات الحاج عادة ما تُشعرني بالغبطة والسرور، لكنه المذيع من جديد، وكأنه لا يريدني إلا غاضباً، أو كأنه لا يوجد في الكون سوى آل سعود، فابتدأ في الوصف والتحليل، وكان يُلخص ما قاله:
ـ بعد انتخاب “ترامب”، و”عداؤه” لآل سعود، كونه يريدهم أن يدفعوا أكثر، استجلب هؤلاء رئيسة وزراء بريطانيا لإجتماع مجلس التعاون الخليجي، وعقدوا معها صفقات أسلحة بالمليارات، لتحمي عروشهم، ليسعيضوا عمّن ضربهم بحذاه، وعقدوا معها صفقات تدريب وتعليم لجيشهم…
فقلت معلقاً وكأنني أتحدث مع التلفاز:
ماذا سيعلمونهم؟ على رأي المثل” علّم في المتبلم يُصبح ناسي”، أليس هذا الجيش من يُطالب بالدبابات المُكيَّفة؟!!! أليسوا هؤلاء من يهرب من وجه حفاة اليمن في نجران وعسير وجيزان؟
لكن المذيع لم يتوقف، وعلق الحاج أبو ابراهيم من جديد:
ـ يبدو أنهم يريدون حليفاً جديداً، لأن رئيس أمريكا المنتخب يُلوح لهم بعصاته… لكن ياتُرى أين إختفى الجبير؟!!! منذ فترة طويلة لم نرَ وجهه السمح على شاشات التلفاز.
قلت، ونظرت إلى تقاسيم وجهه العابس، ورأيته يُحاول الأمساك بإبتسامة تتفلت من تحت شاربيه:
ـ كلا ياحاج، كلا، هؤلاء ما تعودوا أن يكونوا حلفاء لأحد، هؤلاء توابع، عبيد، وبعد أن تم تجميد أموالهم من سيدهم الأمريكي، من خلال قانون “جاستا”، صاروا يبحثون عن سيد جديد لهم، دافعين “ما فوقهم وما تحتهم” ليجدوه، فهؤلاء مهما حاولوا التطاول يظلوا مجرد أقزام، ومهما حاولوا التسيد يبقوا عبيداً، لكن ليس أي نوع من العبيد، إنهم من ذلك النوع الذي لا يرى نفسه إلا عبداً، لا يعرف ولا يقبل أن يكون حراً، فبعد طردهم من تحت العباءة الأمريكية مسلوبة ثروتهم، لم يحتجوا أو يُجادلوا أو يغضبوا لفقدان تلك الثروة، بل على فقدان سيدهم، وسرعان ما صاروا يبحثون عن سيد آخر، وبحذاء ثقيل أيضاً، فاهتدوا إلى الحليف المؤسس لمملكتهم، بريطانيا العظمى، دافعين ما تبقى في مملكتهم الظلامية من زيت وغاز، مشترين سيداً جديداً ليتملكهم…أرأيت أكثر من هذا الذل ذلاً!!!
فقال الحاج أبو إبراهيم، وقد ابتلع كومة من الدخان من ذيل سيجارته، وصار ينفثها في الهواء مغيراً من نوع الهواء وتماسكه:
ـ نعم صدقت، إنهم يريدون شراء سيداً جديداً، لكن ليس هذا ما يشغل بالي، إنما أين ذهب الجبير؟ ألم تره هنا أو هناك؟
قفزت ابتسامة من بين شفتي دون رغبة مني، ووجدتني أضحك وتسيل دمعات عيني، وقلت من بين ضحكاتي:
ـ قاتلك الله يا رجل… مالك وما للجبير، أنا أتكلم عن العبيد وليس عن عبيد العبيد!!!
فقال دون أن يغير من طريقة جلوسه، وما زال ينفث الدخان من بين شفتيه:
ـ نعم، إنني أفهم ما تقول، لكن كل الأمر يعتمد على هذا الغلام…إنه غلام الملك الحالي والقادم، لماذا تستخف به ولا تعرف مقدار حجمه؟!!!
قلت بعد أن توقفت عن الضحك:
ـ هذا غلام الملك، و”مشعل” يتمنى أن يكون من حريم “السلطان العثماني”، ما الذي يجري في هذا الزمن؟ ما لي أراهم يميلون نحو “التخنيث”؟ “أيبسطهم” الأمر إلى هذا الحد؟ أم أن الأمر لا يعدو عن صيغة منحطة من صيغ التزلف والتملق وتقبيل الأقدام؟!!!
فقال الحاج معترضاً:
ـ أرأيت؟ عندما لا تعرف أقدار الناس تصل إلى ما وصلت إليه، تدخل في التفاصيل وتبتعد عن الجوهر، ما الذي لا يعجبك في هذا الغلام الأجرد الأحلس الأملس الأعزب؟
فقلت مجارياً الحاج فيما يريد، رغم أن أشد ما يغيظني فيه، أنه يتحكم في ضحكاته، حتى تخاله في قمة جديته، فلا تعد تعرف إن كان جاداً أم هزلاً:
ـ وما هو هذا الجوهر ياحاج؟
فقال بسرعة بديهته وسرعتها:
الجوهر أن على هذا “الغلام” تتوقف مصائر دول ومصائر شعوب، في يده الحرب والسلم والحل والربط… تسأل وكأنك تجهل الأمر، أتستطيع أن تخبرني كيف سنعرف مصير “الرئيس الأسد” إن ظل الجبير مُختفياً؟!!!
وأطلقت ضحكة من جديد، وبدأت إبتسامة الحاج تتفلت من بين شفتيه وتتسع، وتخرج مع دخان سيجارته واضحة ساطعة رغم كثافة الدخان…قلت:
ـ صحيح صحيح، “نسيت أن البعوضة تُدمي مقلة الأسد” ، فكيف إن كانت تلك البعوضة بحجم غلام كالجبير؟!!! فقال وقد أخذ يستحضر ما تختزنه ذاكرته من أشعار:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
فقلت وقد كدت أعانق المصطبة من شدة الضحكات:
ـ آه… نعم…لا تنسى “الأسد” الآخر، وزير خارجية الشيخة موزة “حماها الله”، فكلاهما كاسر مفترس… فقال الحاج معترضاً:
ـ لا يا أبا علي، هذا من مشيخة “النعاج” حسب فلسفة رئيس وزرائه واعترافه. فقلت موضحاً بدوري:
ـ نعم صدقت، ولك أن تتخيل أن هذه “النعاج” تتطاول على “الأسود”!!!مشيخة موزة تتدخل في سوريا والعراق وليبيا ومصر وتونس، تقسم السودان لقسمين!!! فعلاً المشكلة أن مثل هؤلاء هم من يقودون المرحلة، وبيدهم يتم تدمير الأوطان، مجموعة من “التُفّه” يتحكمون بوطن كامل من المحيط الى الخليج، بترابه وشعبه وخيراته… أتصدق ذلك؟!!!
وتناقشنا وضحكنا ووقفنا أمام تساؤلات الحاج ابو إبراهيم، عن سر غياب الجبير كل هذه المدة، التي ظل يحقق فيها الجيش السوري والجيش والحشد الشعبي العراقيين، وجيش اليمن ولجانه الشعبية، إنتصاراتهم المتتالية، وتساءلنا إن كان يعتقد جهلاء آل سعود أنهم بتغييبه إنما يُغطون إنتصارات شعوبنا …
محمد النجار