الخبّاز

الحكاية تكالب عليها المخصيون وعشرات السنين سيدي القاضي، ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، ورغم ذلك لم تشخ ولم تمت، ظلت حية إلى يومنا هذا، وهذا هو المهم في الأمر كله، والله وحده يعرف إلى متى ستعيش. لكن المؤكد أنها ستظل تُجدد نفسها من تلقاء نفسها، إن قسى عليها أصحابها أو بخلوا عليها أو حتى تقاعسوا عن نسج حكاياها من جديد، دون أن يُعيدوا لها تاريخها الذي توقف منذ ذلك التاريخ.

قيل عنها الكثير سيدي القاضي ومازال، قيل أنها ثابتة ثبات أشجار التين والزيتون، تمتد جذورها عميقاً في أمعاء الأرض، تتشابكان وتتحدان في لحن رياني مثير، راسخة رسوخ الجبال لا تتنازل عن مكانها التي منحته لها الجغرافيا وخصها التاريخ به، لا تبدله أو تغيره، وتحافظ على كل ما لها من رمل وحجر وبشر وأشجار، تحتضنهم حتى لو كانوا جثثاً هامدة، تضمهم في أعماقها ليكون لثمار التين معنى بعد أن تزرع فيه عصارتهم وتمنح روحه طعم الشهد.

كان جدي في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر، يُعمّر الفرن وسيجارة الهيشي المقتلعة من “تتن” الحاكورة تتدلى من بين شفتيه، ويداه تُذري كوماً من الجفت كما تذريان في الخلاء زهور القمح، يدخله الفرن ويضعه فوق بواقي الجمر الذي غفا في ليلته الماضية مخلفاً بعض رماد دون أن يتنازل عن جمراته، فيتحول  كل “الجفت”إلى جمر أحمر يبث حرارته في الأرجاء كلها، ناثراً عبق الزيتون في كل رغيف خبز يدخل بين أحضانه ليتحمص قليلاً. ولما يتعب في آخر النهار يصعد فوق الفرن محتضناً الجفت متمرغاً في حرارته التي طالما شبهها بحرارة حضن جدتي، يرتاح فوقه ساعة أو بضع ساعة، متدثراً بالدفء الذي ينفثه كوم “الجفت” في الهواء المشبع بزيت الزيتون، لكنه يظل معظم الوقت يخبز للقرية كلها دون أجر نقدي، لكن أهل قريتنا لا يأكلون حق أحد، كانوا يعوضونه بالبيض والدجاج والفواكه والخضار، رغم أننا كنا نملك منها الكثير.

كانت حكاياته لا تنقطع ولا تنتهي، والمرحوم والدي يتشرب الصنعة والحكايات منه كما الإسفنجة تتشرب الماء، ويجعل من كل شيء داخل ذاكرته حكاية، من تجاربه المتراكمة هناك في دولاب الذاكرة، من قصص الناس وتجارب القرية يصنع الحكمة، وأبي يُخزن تلك الحكايات ويستلهم الحِكَم ليتلوها علي فيما بعد، كما تتلو آيات من الذكر الحكيم، فصرت أشعر أن جذوري تمتد عميقاً في باطن الأرض لتعانق جذور التاريخ هناك، وتناغي الفرن الذي بناه جدي في تلك القرية التي تكاد تلتقطها العين من الجنوب اللبناني، بناه بيديه وبمساعدة طفيفة من إخوته الكبار، فأنا في ذلك الوقت لم أكن موجوداً، لم أُخلق بعد، جئت بعد أن إقتلعونا من جذورنا من قريتنا في الشمال، أين ومتى وكيف، يمكنني الجزم أنني مثل الكثيرين الذين جاؤوا وحسب، لا يهم كيف ولا أين، المهم انهم جاؤوا بجذور مقطعة وأوصال ممزقة، والله وحده يعلم كيف استطاعوا شبك جذورهم من جديد رغم طول المسافة ومرور الزمن.

منذ ذلك الزمن صرنا لاجئين، وبنى والدي فرنه في مخيم عين الحلوه في لبنان، وصار يعجن ويخبز ويطعم المخيم كله، وفي المساء يجلس في ركن من أركان غرفتنا يعاتب الرب أحياناً ويستعطفه أحياناً أخرى، وكنت أحس دمعاته وأنا في فرشتي، دون أن أملك الجرأة عن الإفصاح عن سهر حاسة السمع عندي إلى تلك الساعة، لكن الأكيد أن الله لم يستمع له في كل تلك السنين.

كان محترفاً إلى حد الذهول، يُلاعب العجين على أصابعه مثل “الجني”، لا تكاد ترى حركة أصابعه، وفي مرات كثيرة كان يحذف بالرغيف في زاوية الفرن البعيدة دون حاجة للمزلاج، لكنه لم ينسَ يوماً ذكرياته في قرية الشجرة التي هجّروه منها ، مُنتزعينه من وسط كرم الدوالي وأشجارالتين والزيتون، لذلك ظلت قرية الشجرة في رأسه ولم تفارقه يوماً، وكلما تقادم الزمن كلما زادت شموخاً في رأسه، كالنبيذ المعتق سيدي القاضي، وزادت أقاصيصه لي عنها، وصارت أمنيته أن يختطف حزمة ضوء  من سمائها بين جفنيه قبل أن يموت، لكنه بعد زمن مات دون أن يختطف تلك الحزمة التي تمنى أو أراد.

وصرت أنا الخبَّاز الجديد سيدي القاضي، كنت أعمل في مكان أبي، في مخيم عين الحلوه قبل أن أنتقل مع القادمين الجدد الى هذه الأرض، التي إعتقدتها ستوصلني لاحقاً إلى قرية الشجرة، قريتي وقرية والدي وجدي الذي لم يسعفهما الزمن ولم تساعدهما القوة في أن يقطفا من حقول سمائها ضمة ورد من ضياء ويموتان. ماتا قبل أن يريا قريتنا، قرية الشجرة، لعلك سمعت بها سيدي؟!!!

ـ ماذا ؟ لم تسمع بها، ليس مهماً على أي حال، إنها هناك في الشمال، أبعد من صفد التي تخلى عنها سيادته وسيادتهم، قالوا أنها لا تهمهم، ومن لا تهمه صفد وحيفا ويافا أتعتقد أنه يمكن أن تهمه قرية الشجرة؟ “مجنون يحكي وعاقل يستمع” سيدي القاضي.

كنت أقف طوال نهاري على قدميّ دون “آه” واحدة، دون ملل أو ضجر، أو حتى حالة تأفف، لأنني ببساطة شديدة كنت أحب عملي، هل قلت كنتُ؟ لا بل ومازلت أحبه، فأنا في متاهات تفاصيله منذ الصغر، لم أترك كبيرة أم صغيرة دون أن أتعلمها حين كنت مساعداً للمرحوم والدي، وبقيت كذلك حتى غيبه الموت وأنا ما أزال طفلاً.

لن تصدق أبداً أنه مات جوعاً والخبز بين يديه، قالوا فقر دم وقالوا هزالاً وقالوا “أنيميا”، لكن النتيجة واحدة وهي نتاج الجوع، أتصدق أن خبازا يموت جوعاً؟ مات هناك مكانه في الحفرة المقابلة للفرن تماماً، تكوم على نفسه ولفظ بقية أنفاسه فارغ الجفنين رغم أن كل ما أراده حزمة ضوء يشم منها تاريخاً حاولوا سلبه، معتقدين أن الأكاذيب يمكن أن تصنع لهم تاريخاً، ما أسخفهم، وهل يُصنع التاريخ بالأكاذيب؟!!!.

كان رحمه الله خبازاً محترفاً سيدي القاضي، لم يترك رغيفاً واحداً طوال حياته يحترق، فبالنسبة إليه الرغيف المحروق وصمة عار في جبين خبّازه لن تُمحى أبداً، لأنك إن صنعت شيئاً عليك أن تصنعه جيداً أو أن تختفي خلف جهلك وتعانق المقهى وألعاب الورق…

حاضر سيدي القاضي، سأتكلم عن نفسي فقط وأوجز، أعرف أن ليس لديك وقتاً تضيعه على أمثالي.

مات واستلمت أنا مهنته، كنت قد تعلمتها وعشقتها، حتى قبل أن أكبر وتستطيع عيناي أن ترى ما بداخل الفرن، كنت قد وضعت كرسياً في حفرة الفرن بجانب المرحوم ليزيد من طولي قليلاً، ورغم أن المرحوم كان يتعثر به إلا أنه لم ينهرني من حواف قدميه.

وكبرت، وكنت أقطع من العجين كتلة صماء فأخلق منها رغيفاً ساخناً يتطاير منه البخار فخوراً مختالاً نحو السماء، أفرش تحتها بعض حبيبات الطحين وكذلك فوقها كي أمنع محاولات إلتصاقها، أضغط الكتلة بأصابع يدي الثمانية، وأقلبها وأحملها وأناغيها وأدللها، فتنفرد أمامي وتتمدد كعاشقة عارية تنتظر حبيبها لتضمه بين أحضانها لعله يُخفف قليلاً من ألم الجوى، أُلقيها في الهواء، فتطير متضاحكة وترتفع دائرة حول نفسها مثل عروس ترقص في يوم زفافها، قبل أن تتهاوى وتنزل بين كفي، تستدير وتتمدد وتظل كما هي وكأنني رسمتها رسما على سطح ورقة، لم تُثقب ولم تتمزق يوماً ولم يختلف شكلها ولم يتعكر صفو حوافها، ثم أضعها على المزلاج الخشبي الذي أمامي رغيفاً من عجين، فأضعه بعيداً على حافة الفرن المقابلة للنار، فقربه من النار يحرقه، وبعده عنها يجففه ويسبغه بلون الموت، يجب أن يظل على مسافة مناسبة… لا ليس وسطياً سيدي، بل في مكان مناسب، فالوسطية لا تصنع رغيفاً من الخبز بمذاق جيد. ثم أبدأ بتحريكه وهو في مكانه، أجعله يدور حول نفسه كمخمور، ليبدأ يكتسي لوناً جديداً، وكم كنت أتمتع وأنا أراه ينتقخ وينتفخ ويبدأ بالإحمرار، فأحركه من جديد لتصل النار ألى كامل سطحه، ويتساوى عليه لون النار دون فروق، المساواة ضرورية حتى للخبز كي لا يكون طرفاً ناضجاً وآخر غير ناضج، ثم أخرجه قبل أن تهزمه النار ويتفجر من أحد أطرافه الضعيفة ويكون البخار مازال يتصاعد عن وجهه كما يتصاعد الدخان من مصباح علاء الدين قبل صعود الجني وتحرره منه . ولا أضع الخبز واحداً على ظهر أخيه قبل أن يبرده الهواء قليلاً، كيلا يتحول البخار الى حبيبات ماء تفسد الرغيف وتفسد أكله، ففي مهنتنا، مثل كل مهنة، هناك أسرار بدونها لن تصل لدرجة خباز محترف كما كان المرحوم والدي وقبله جدي.

وهكذا كنت، أعمل من الفجر الى آخر النهار، وكان معظم المخيم يشتري خبزه مني رغم وجود أفراناً أخرى، ترى رجاله ونساءه مصطفين ليشتروا الخبز الذي تصنعه يداي، نعم سيدي… قبل أن يُحرّموا الإختلاط ويُحرّموا المرأة جسداً وروحاً، وقبل أن تخرج الفتاوى بلفلفتها وبرقعتها وسجنها بين طناجر الطعام وعلى “فرشات” الجنس البارد، بعد أن كانت قد بدأت تقبض على البندقية.

وجاءني جنابه وقتها، نعم في يوم صيفي قائظ، وأنا في الحفرة أواجه النار، وأتصدى لجحيم الطبيعة الذي فجّر ينبوع نهر من العرق يسيل من رأسي حتى تحت خاصري، وطلب مني أن آتيه في يوم الجمعة اللاحق، حيث كان يوم عطلتي.

ذهبت لمقابلته، وسألني:

ـ كم يعطيك، أبو خليل،  مالك الفرن أجرة في الشهر؟

وقلت له بصدق المبلغ والذي لم أعد أذكره، فقال:

ـ كيف إستطعت أن تعمل عنده بعد أن قتل أباك؟

كان يريد أن يزرع الفتنة بينيوبين أبي خليل، وهي مقدمة لفتنة بين أبناء المخيم الواحد!

أنظر إليه، هاهو يضحك من خلفك سيدي القاضي، إن كنت أكذب فليقاطعني، كيف يمكن أن يكون خلفكم أنتم القضاة أيضاً؟ عقلي سيتفجر سيدي القاضي، أجده خلف القضاة وخلف الوزارات وخلف الوزراء والمؤسسات!!! بل صار بديلاً عن كل شيء سيدي القاضي، كيف يتم ذلك؟ كيق وصل تأثيره ألى كل شيء؟.

أعرف سيدي القاضي أنه ليس من شأني، لكنه مجرد فضول…قلت:

ـ مات والدي قضاء وقدراً، فالأعمار بيد الله.

قال:

ـ الأعمار بيد الله لكنه كان المتسبب.

وسكت هنيهة وكأنه يريد أن تدخل الكلمات ثنايا رأسي وتستقر فيه، وقال:

ـ لو كنت مكانك لقتلته… على كل حال ليس هذا موضوعنا، موضوعي أنني رأيت مهارتك، واستشرت القيادة التي وافقت على تسليمك فرناً تخبز به للثوار، للفدائيين، هل تقبل أن تستلم فرن الثورة وتقوده، وتترك أبا خليل، وبهذا تثأر من قاتل والدك؟

لم أعلق على جملته الأخيرة سيدي القاضي، لكنني قلت متسائلاً:

ـ فرن الثورة؟ كيف لا؟ ومن يرفض هذا الشرف؟

لم أكن أعرف أن للثورة فرنها الخاص، وأن للثوار فرنهم وخبازهم الذي يختلف عن فرن المخيم وخبازه، ولم أتردد في الإلتحاق به، فأعطيت أبا خليل مهلة ليجد عني بديلاً، والتحقت للعمل في فرن الثورة، وكان جنابه، ربنا الله، قد زاد معاشي عشرين ليرة لبنانية كاملة، ووضع بجانبي مساعداً أيضاً، لأن عملي لن يستطيع إنجازه شخص واحد أبداً، وصرت أعمل مثلما كنت أعمل هناك، لكن بزيادة طفيفة، قدر ساعة أو ساعة ونصف الساعة في اليوم الواحد، كي نستطيع أن نؤدي عملنا على أكمل وجه، ولا نترك الفدائيين يتضورون جوعاً.

جنابه لم يقصر معي أبداً، دفع أجرتي قبل أن يجف عرقي، ربنا الله، وأحياناً عندما يزيد الخبز عن أكل الفدائيين كان يُحمّلني بضعة أرغفة لبيتي دون أن يأخذ ثمنه إلا آخر الشهر، يخصم ثلاثة أرباع سعرها وليس سعرها كاملاً، لأنها تكون قد فقدت سخنوتها، أو ظلت الى اليوم التالي نائمة في مكان ما. وكونه هو في الأصل محاسباً، دخل الثورة ليضبط حساباتها، واستطاع ضبطها ولملمة تبعثرها لكن لتتوجه إلى جيبه، وكان واضحاً منذ البدء، حدد بوصلته جيداً، البوصلة هي المال العام والمكان هو جيبه كما قال الكثيرون. كان يأتي لي بفواتير يومية أوقعها عن عدد الأرغفة وسعرها… وكانت هذه الأرغفة بعدد ثابت كل يوم، وكان العدد ألف رغيف في اليوم الواحد، لم تزد يوماً ولا تقل، وأنا كنت أعتقد أنه عدّها أو على الأقل قدرها بشكل تقريبي، حتى جاء يوم واستدعاني أحد المسؤولين الكبار عن مخابز الثورة، وأراني أحد الفواتير بتوقيعي وبصمتي أيضاً، فرأيت بأم عيني أن العدد لم يكن ألفاً في أية فاتورة، بل تم تكبير الأصفار وتحريكها لتصبح أرقاما كبيرة، كان جنابه قد حركها بلمساته السحرية الخفيفة، فجعلت من الأرقام الصماء الميتة فوق الأوراق جبالاً من النقود في جيبه، ومن يستطيع أن يفعل ذلك غير محاسب محترف كان قد دخل الثورة لضبط حساباتها؟!!!

ولك أن تعد سيدي القاضي كم ألف من الأرغفة سُحبت من فم الفدائيين لتتحول للنهر المنساب  مالاً قي جيبه كل شهر، دون أن يفرد بأصابعه الناعمة حتى لو رغيفاً واحداً، ودون أن تلفحه نيران الفرن ولو ساعة واحدة، ولا حتى أن بنام ساعة واحدة في “جفت” الزيتون الذي ما زال يحتفظ لنفسه بحصة من الزيت، وحينها تذكرت كلمات المرحوم والدي ناقلاً المأثور الشعبي ” المال السايب يعلم السرقة” ليس هذا فحسب، بل هو يسرق وأنا المتهم وأنا من يُحاسب، فهل يحق لمثله أن يكون خلفكم أنتم القضاة في قضية المتهم فيها غريمه سيدي القاضي؟

ـ حاضر، “سأسد نيعي” مادام الأمر ليس شأني.

لم أعلم شيئاً عن الأمر في مخيمنا اللبناني، وأخذني بمعيته لما رحلنا إلى تونس لأتابع إطعام الفدائيين هناك، وكان قد سافر الى هناك قبل الجميع، فهو لم يكن من أنصار البندقية الفدائية سيدي الرئيس، بل من أنصار تلك البنادق التي بحوزة الأنظمة، البنادق التي تُطلق للخلف سيدي القاضي، لذلك رحل قبلنا جميعاً، وكان يتحدث كثيراً عن السياسة والدبلوماسية والتكتيك، وكان يحب كثيراً “أنصار السلام” عندهم سيدي القاضي ويلتقيهم ويأكلون اللحوم فقط دون خبز المخيم.

أنا لم أعرف شيئاً عن كل ذلك سيدي القاضي، أنا رجل بسيط إلا في فن الخبز أمام  الفرن، فأنا “داهية” ولن أكون متواضعاً ، وأبي وأنا من صححا المأثور الشعبي القائل:”فلان لا يضحك للرغيف الساخن”، بحيث جعلنا “فلاناً” يضحك له رغم أنفه، بل ويقهقه عندما يراه، لكنني فيما عدا ذلك أقر بما يقولون عني، أنني على باب الله، وأنني على نياتي، وأن القطة تأكل عشاي، لكن البعض ممن كانوا يعرفون بالأمر وشمّوا رائحته التي تزكم الأنوف، أوصلوا الأمر للقائد الكبير رحمه الله، والقائد الكبير كان يحب مثل جناب المحاسب ويُقربهم منه، لأنه كما قال بعض المخيم يستطيع أن يقودهم، بعد ذلك، كالأنعام سيدي القاضي، فبعد أن يمسك عليهم المماسك، يهز الأوراق الممسك بها عليهم أمام وجوههم الصلفاء، يشتمهم ويُهزأهم ويقل قيمتهم “بعيدا عن جنابك” وهم لا يجرؤن على الرد، بل يخرون له ساجدين، لأن جلودهم تكون قد تعودت على الشتائم ووجوههم على البصاق وضرب النعال دون أن يرف لهم جفن. وقال القائد الكبير رحمه الله لمن أوصله الخبر بلهجة مصرية:

ـ ده حرامي وشبع حجبلكوا واحد جديد يبتدي من الصفر؟ اعمل ليكو إيه؟ ده قدركم بقه.

وأبقاه محاسباً مؤتمناً كما كان، بل علّا من شأنه أيضاً لأنه زاد بصماً بحافريه كما قال الكثيرون، وأكد البعض أنه فرك له أذنه واستعجله ليعرف نتائج لقاءاته مع “مشجعي السلام ” من الطرف الآخر.

كان هذا قبل أن تنمو له مخالباً وتكبر، قبل أن ننتقل إلى هذه الأرض من حمّام الشط، وقبل أن يبدأ بمد يده إلى ما تحت يد القائد الكبير، ليرثه ويركب فوق ظهورنا نحن العامة، حيث ظل يعتبر نفسه أحد الأسباب الذي أوصلنا لما نحن فيه من هيبة وعنفوان وازدهار!!! وأننا لولاه لما كنا في مثل هذا العز الذي “نتمرغ” في خيره ونرعى كالإبل.

ـ أنا لا أستهزئ سيدي القاضي… حاضر لن أتكلم في السياسة، فهي التي أوصلتني للوقوف هذه الوقفة بين أيديكم.

بعد أن كبر وانتشر خلف كل شيء في البلاد، صار كل ريع الخبز يذهب إلى جيبه وليس الفرن الذي أعمل به فقط، ولم يعد يحاسبه أحد على ذلك، بل سمعت أنه يأخذ الكثير من الأموال من “معسكر السلام” القريب والبعيد، ولم يعد بحاجة إلى هذا الفتات، لكنه رغم ذلك أعطاه لبعض أقاربه كي لا يتسرب هذا المصدر إلى آخرين.

ـ “ما علينا” سيدي القاضي، أنا لن أتنازل عن حقي، والمخيم كله إلّا البعض القليل، كلهم يدعمني ويقف في صفي، تعرف سيدي القاضي أن المسحجين والمطبلين يتواجدون عند كل الشعوب وفي كل الأوقات، لكنني قررت أن لا يستحمرني أحد من جديد…

ـ نعم حقي سيدي القاضي، كيف لا؟ أنا لا أريد مالاً، أنا أريده أن يشرح لسيادتكم وهو الموظف من أين له كل هذه الثروة؟ ومن أين لأولاده وأحفاده كل هذه القصور والعقارات والشركات والأملاك وأنا الذي إشتغلت وتعبت وليس هو، إحسبوا دخله على مدار العمر لتعرفوا بأنفسكم أنه لو عاش مائة حياة لن يكون لديه كل هذه الأموال، التي حول إتجاهها ويتهمني بها، وأنا لا أملك كيس طحين واحد في بيتي.

ربما عمل بأشياءٍ أخرى، إحسبوها له، لكن عليه أن يُرجع ما سرقه من أموال خبز الفدائيين، وأموال خبز أهاليهم الذين كانوا يتلقون جحيم الطائرات في المخيم في كل وقت، وهو سيدي القاضي لم يكن في المخيم ولم يعش فيه يوماً واحداً، حتى أنه لم يمر فيه إلّا ليحادثني وأمثالي من البسطاء الذين يوقعون على الفواتير دون سؤال، أما ماعدا ذلك فلا شأن له بالفقراء…

إسألوه كيف إستجمع كل هذه القوة بين يديه؟ ليس بالمال وحده بالتأكيد، وليس بالتسحيج والتطبيل والتزمير فقط، فعلو النباح لا يجلب القوة ولا يُسنن النيوب ويُنمي المخالب ، إسألوه كيف أحرق كل بنادق الفدائيين الذين أطعمتهم خبزاً من صنع يدي؟ ومن الذي زوده ببنادق الأنظمة هذه التي لا يربطها رابط ببنادق المخيم.

لا أعرف لماذا لا توقفون إبتساماته المتتالية من خلف ظهوركم سيدي القاضي، أإلى هذه الدرجة فرد نفوذه وصار يمسك بكل مفاصل البلد؟

أتعرف سيدي القاضي، لو كان يتعامل معهم كما يتعامل معنا بنفس الطريقة والحدة ما كنت غضبت، لكنه هناك يستجدي ويركع ويسجد بين الأقدام، لا يجرؤ أن يرفع عينه في عيونهم وكأنهم يمسكون عليه المماسك وأوراق الإذلال، وتراه عندنا يمشي مثل طاووس، قلت طاووساً وليس نسراً سيدي القاضي، فمثله لم يكن نسراً يوماً ولن يكون، لا يعرف ولا يستطيع، فللنسور صفاتها وميزاتها التي لن تتوفر به يوماً، النسور شامخة حتى في إحتضارها، وهو ذليل حتى في عز قوته وغناه.

هذه صفات سيدي القاضي وليس قدحاً وذماً، وإن لم تصدقني ضعه أمام التجربة، أمام المواجهة مهما كانت طفيفة وبسيطة، ستجده في الهريبة “كالغزال”. كما تريد، أتعتقد أن الغريق يخاف من البلل؟ سجل تهماً جديدة إن أردت، فأنا “تحت المزراب” سيدي القاضي ولن تُخيفني أمطار الشتاء.

لا يعنيني من يكون ومن وراءه، المهم أصل الفتى، صفاته، معدنه، “سألوا الحمار من أبوك فقال خالي الحصان”، أتعتقد سيدي القاضي أن خاله الحصان كان قادراً على تغيير ماهيتة؟!!! ظل الحمار حماراً وإن إدّعى بأن الحصان خاله، ومهما “طلع أو نزل” سيظل حماراً، “حاشاك” سيدي القاضي.

لا أعرف لماذا تظل تقاطعني سيدي القاضي، فأنا إنسان بسيط وعلى “باب الله”، كلما قاطعتني نسيت ما أريد قوله، وكما ترى فلا محامي لدي يدافع عني وعن حقوقي، كما أنني سمعت أن المحامين في بلدنا لا يستطيعون “حماية مؤخراتهم”، كما أكدت أمي رحمها الله ذات يوم، وأنتم القضاة كما سمعت صرتم تحاكمون الشهداء وتقتصون من الفدائيين، أصحيح هذا أيها القاضي؟

سأقول لك سيدي إن نفيت هذه الأقاويل، إن كان ما سمعته كذباً وتشويهاً، سأقول سيدي وتاج رأسي أيضاً، وإلا فلن تكون سيدي أبداً بل وستسقط من عيني إلى تحت حذائي ولن يرفعك أحد أبداً، تماماً كمن سقط من يقف وراءك، وها هو يقدم لك أقاصيص أوراق تملؤها الكلمات.

ـ لا سيدي لن أكون خبازهم، يستطيع إكتشاف صلة قرابته معهم كما يشاء وكيفما يشاء، “أبناء عمومة” فليكن بالنسبة له، لكنهم بالنسبة لي هم قتلة أبي الحقيقيين… نعم هم، فلولا تهجيرهم لما مات أبي الخباز جائعاً تنخره الأمراض، ولما تيتمت أنا وترملت أمي، لما كنا متهمين في العالم كله وكلٌ يركلنا بقدمه، لما كنت أنا هنا أقف أمام سيادتكم في قفص الأتهام، ولما كنت وقعت على فواتير أحد لأملأ جيوبه مالاً، وكلما إمتلأت جيوبه مالاً كلما جاع الفدائيون الذين جئت خصيصاً لأطعمهم خبزي. لكنت مازلت في قريتي الشجرة، لكنت عشت حياة طبيعية بين أبي وأمي، لما مات والدي في حفرة أمام فرن في الغربة، لما جاع وبين يديه “حاكورة” البيت وزيتونات الحقل وزعتر الجبل وأرغفة الفرن التي يتماوج فوق وجوهها لون النار الذي أعطاها طعمه ، كما أنني لا أريد أن أكون “خباز السلام”، أرفض عرضكم لسحب التهمة عني مقابل ذلك، أريد أن أظل خباز الفدائيين، خباز المخيم وما يحيط به من قرى ومدن…

ـ ماذا؟ لم يعد هناك فداييون!، ليس مهماً، ما تبقّى منهم، مهما كانوا أقلة لن أتركهم يجوعون، “عاقل يتكلم ومجنون يستمع”، أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، أتستدرجني لتعرف أماكنهم؟ سيعرفون هم مكاني إن لم أعرف أنا مكانهم، سيأتون هم عندي لأطعمهم خبزي.

ـ نعم أقولها بصوتٍ عال، وبكل ثقة أيضاً، أنا لن أتركهم يموتون جوعاً، كما لن أترك مهنتي تموت وأصابع يدي يضخ إليها القلب دماً، فمهنتي مرتبطة بهم، بإشباعهم بعد أن جوّعوهم وأفقروهم وسحبوا منهم قوّتهم ورحّلوهم من المخيم إلى حمام الشط مبعدينهم عن حدود الوطن، كي لا يعودوا يشمون راحة صفد والجليل وقرية الشجرة، كي يموتون غيظاً وجوعاً وإختناقاً، نعم، لقد إختنقوا بعد أن صاروا غير قادرين عل التنفس بهواء الجليل الذي صار بعيداً.

رغم بساطتي فإنني أعرف جيداً كيف حول سعادته كل معظم مَنْ أتي بهم إلى موظفين ومسحجين ومطبلين ينتظرون “مخالي العلف” في آخر الشهر، بعد أن إقتلع نيوبهم وقصقص أجنحتهم فلم يعودوا يحسنوا فن الطيران، ومن ليس لديه أجنحة لن يستطيع التحليق ليرى القدس وعكا وطبريا ونتانيا وصفد والجليل، لن يستطيع السباحة في بحر يافا، ولن يعرف يوماً كيف تنتظرنا الناصرة وكفر قاسم عرائس بلباسها الأبيض.

أما أنا فسأجعل من العجين لآلئ من خبز، ومن الخبز أنواعاً، سأزيد من حجمه ووزنه، وسأضيف إليه “الملاتيت” وأرشها بالسكر،سأصنع لهم أقراص الزعتر والسبانخ وكافة أنواع المعجنات، وإن توافرت في جيوبي نقوداً سأشتري لهم اللحوم وأقطعها بنفسي وأصنع لهم “الصفيحة” ليستعيدوا قوتهم، المهم أن لا يجوعوا، وكما تلاحظ فالأساس هو الخبز، فبدون الخبز سيدي القاضي ما فائدة زيت الزيتون والزعتر؟ ما فائدة الميرامية وابريق الشاي؟ إنها تفقد قيمتها ولا يبقى لوجودها معنى.

أمّا أنا سأظل أعجن وأخبز لأطعم الفدائيين ولن أتنازل أبداً عن هذا الشرف، هدّد كما تريد، فلن “يقطع الرأس إلّا من ركّبها”، أعيد مجدداً أنني لن أكون خباز “السلام”، فأي سلام دون أن أعود لقريتي “الشجرة” وتعود لي، دون أن يلعب أولادي في أزقتها وطرقاتها، دون أن أزرع حكورتها وأدهن خبزي بزيت زيتونها؟!!!

أعرف أنكم جميعاً كما الدجاح “لا تتحكمون حتى في بيضاتكم”، وأن روحكم في يده، وتفتت ضميركم وتبعثر ولن تستطيعوا إسترجاعه أبداً ولا حتى لملمته.

إحكم كما تريد فلن يتذوق خبزي إلا من يستحق، الفدايون، وفقط الفدايون، إفعلوا ما تريدون، فلن تثنوني عن قراري هذا أبداً.

محمد النجار

 

هنية

عندما سمعت الزغاريد تسبح في الفضاء منطلقة من بيتنا، ويطغى عليها صوت أمي، يتعالى ويرتفع ويتبعثر حبات أرز فوق الرؤوس، أيقنت أن عرساً لأحد أبناء الجيران أو الأقارب أو بناتهما قد اكتمل، ورأيت ،لما إقتربت، حركة غريبة غير معتادة أمام باب منزلنا، وأياد توزع الحلوى أمام الباب، أدركت أن أمراً جللاً قد حصل، ولما رأيت بعض الوجوم على الوجوه وظلت زغاريد أمي تصدح وتتماوج راكبة نسمة هواء داهمت الشارع على حين غرة، وتكسرت على أبواب أذنيّ، مؤكدة أنني لا أتخيل الأمر، بل إنه أمر واقع لا جدال فيه، أيقنت صحة ما توقعت.

كنت عائداً من عملي في ذلك اليوم الصيفي الحارق، أحمل شنطة زوادتي الفارغة، وأحث الخطى في الطريق الطويل الموصل إلى منزلي، وكان الباص الذي قذف بي على رأس الشارع قد أكمل طريقه إلى المحطة الرئيسية في مركز القرية، حيث يلتف حول شجرة التين العملاقة، يستريح من تعب الطريق قليلاً ثم يعود، وأنا طالما رأيت في طول الطريق الترابي هذا، الذي يفصل بيتنا القابع في أعلى التلة عن المحطة في أسفل الوادي، “سراطاً مستقيماً” طويلاً لا يكاد ينتهي، خاصة بعد يوم عمل طويل، أستحث الخطى فيه لأصل إلى منزلي، أستظل بداليتها قبل أن تطل زوجتي “هنية” بوجهها المشرق الباسم، بيدها كأساً من الماء البارد وفي فمها بضع كلمات تعيدهن على مسمعي كل يوم، بعد أن تكون قد أنهت عملها بدورها، في نشاطها التطوعي لمحو أمية مَنْ لم يستطع “فك الخط”، من قريتنا، لهذا السبب أو ذاك.

ـ أوصلت؟!!!

ودون ان تنتظر جواباً تكمل:

ـ الله يعطيك العافية، هيا ارتح قليلاً وقم لتغسل يديك ووجهك، فأكون قد حضّرت لك الطعام.

كانت زوجتي “هنية” حاملاً في شهرها السابع، وكان خوف أمي عليها يكاد يربكني، فلم أعد أستطيع أن “أأمرها” أو أُطالبها بأيما شيء، حيث تتصدى لي أمي وكأنها حماة وليست أماً، ولطالما استفزيتها بعبارتي المتكررة عندما كانت تقف في صف “هنية”، أميل عليها، وقلبي يتدفق فرحاً، وأقول:

ـ لا تنسي يا أمي أنني أنا ابنك وليست “هنية”، خففي عني قليلاً ولو من باب صلة الدم…

وكانت تنهرني وتبتسم، وتظل على موقفها، وتقول أحياناً:

ـ عليك أن تشكر ربك صباح مساء، الذي رزقك بمثل هذه الجوهرة، فليست كل النساء نساء، فمنهن من تفوقن على الشيطان نفسه، لكن هذه المسكينة ملاك متخفي في ثوب إنسان، وها هي لم تبخل عليك فوهبتك إستمرارية الحياة؟

ويحتضن كفها بطن “هنية”، وتأخذ تحركه حركة دائرية، وأرد بدوري:

ـ أنت من وهبتني الحياة ياأمي، و”هنية” زوجتي وليست أمي.

ـ أعرف أنني من وهبتك الحياة ياولد، لكنها وهبتك إمكانية إستمراريتها، فردت أمامك بساط العمر سنوات إضافية إلى الأمام.

تسكت وكأنها عاتبة على قلة فهمي، كي لا أقول غبائي، وتكمل:

ـ الحياة، عند الكثيرين، ليست سوى كم من السنين تمضي مع الأيام وتختفي مع الزمن، تبدأ وتنتهي مثل زهرة، تبرعم وتكبر وتتفتح ثم تذبل وتموت، لكنها تحافظ على البذور لتستمر وتعيش وتنعم بالحياة أكثر، لتنشر رحيق عودها فوق غصون الأشجار، على رؤوس البشر في البيوت والحقول وتحت ظلال الدوالي، البذرة يابني التي تصنع جذراً يغوص في قلب الأرض مثل نصل الفأس الحاد، وينتزع من أحشائها غذاء الغصن والأوراق، وينفخ في الساق عنفوان إقتحام السماء، نعم الأصل هي البذور، والمهم نوع البذرة نفسها، فالبذرة الفاسدة تنغص عليك يومك تماماً كالبيضة الفاسدة، لا تستطيع التخلص من نتانتها بسهولة، أما الجيدة فهي التي ترسل أغصان شجرها مراسيلاً جميلة متهادية نحو النجوم، ألم تسمع بهذه البذور التي طالما علت برأسها نحو الشمس؟!!! فالحياة في نهاية المطاف حرب ضروس متشابكة متتالية، إن لم تحافظ على بذرتها الجيدة فقدتها مرة وإلى الأبد، ورغم ذلك هي شيء واستمراريتها شيء آخر، وإستمرارية الأشياء، دائماً وأبداً هي مَنْ تجعل لها معنى.

كنت أبتسم، أهز برأسي يميناً وشمالاً لأوهمها بعدم قناعتي ب”فلسفتها”، أغادر وأنا أقول على مسامعهما:

ـ لا عجب أن تسميك القرية بالحكيمة، فأحياناً أشعر أنني أمام فيلسوف ولست أمامك ياأمي، ولا أعرف أبسبب التعب  أم بسبب صغر عقلي وجهالته لا أفهمك أحياناً، النتيجة أنك تحرضينها علي ياأمي، من يراك يعتقد أنك لم تحبلين ولم تلدين دستة من الأطفال! ما هكذا تفعل الأمهات!!!

فترد قبل أن أدخل غرفتي المجاورة لغرفتها في بيتنا الريفي:

ـ لهذا السبب بالضبط قلت لك ما قلته، ثم مَنْ قال لك أن الأمهات لا يُخطئن أحياناً؟

وكانت تعني الأخريات وليس نفسها في هذا الأمر على وجه التحديد، وكي أكون صادقاً، فإنني لطالما إعتقدت جازماً أنه لم يجانبها الصواب، فمعظم تعليقاتي لم تكن جادة، بل من باب إستفزازها والمزاح.

“هنية” زوجتي فتاة ريفية بسيطة، مجبولة بالطيبة والعطف والحنان، ترى الحب يشع من عينيها السوداوين، نبع الحنان يتدفق جداول من كل أطرافها ليشكل نهراً يكفي القرية كلها، لم تخالف “أمراً” أو طلباً أو رجاء من أبويّ أو إخوتي حتى الصغير منهم، لا لتتزلف أو تستميل أحداً، بل هكذا هي حتى مع أهل القرية دون تمييز، فصارت بسرعة قياسية إبنة في البيت وصديقة قريبة للجميع، وصرت محسوداً على “هنية”، ولطالما سمعت أدعية العجائز على مسمعي:”الله يبارك له على هيك زوجة ويطرح له البركة”، وهي في ذات الوقت خلية نحل متكاملة، تراها تتقافز بخفة غزال وتتطاير بجمال يمامة وخفتها وسرعتها وهي تتحرك متنقلة من عمل لآخر، لم تأمر أحداً يوماً، كانت تبادر فيتبعنها أخواتي وأخوتي بكل أمور البيت، وكثيراً ما استدعنها بعض الجارات لتساعدهن في بعض الأشياء، فتترك ما بيدها وتستأذن أمي وتذهب، وسرعان ما تعود لتكمل ما كانت تقوم به، وكان يجن جنونها إن رأت أمي تجهد نفسها، فتأخذ من يدها العمل وتنهاها عن التعب، وتقول:

ـ ألا يكفي كل ما تعبت في حياتك؟ ألم يحن الوقت كي ترتاحي قليلاً؟ ألا تريننا “مصفطين مثل أباريق الجامع”؟ لا بورك فينا إن تركناك تعملين ونحن جالسين ننظر بعيوننا إلى تعبك المتواصل.

حتى حديقة المنزل كانت تسقي شجيرات الخضار فيها، لم تنس يوماً أن تفعل ذلك، لكن ظل على رأس أولوياتها، وردة الجوري الحمراء التي كانت تعتني بها أكثر من بقية الشجيرات الأخرى.

“هنية” ظلت تحب الورد والأطفال والخضرة والحياة، وأهم ما يميزها ابتسامتها التي لم تتنازل عنها يوماً، ولم تنسها مرة خلفها، ولا تعبت من حملها فوق شفتيها، بل ظلت تحملها في كل حركاتها وتنقلاتها وعملها، تفردها على صفحة وجهها منذ سويعات الصباح، فما أن تتفتح عينها مع شروق شمس الصباح حتى تتفتح ابتسامتها مع تفتح وردات الجوري التي تفرد أوراقها عرايا تحت شعاعات الشمس، بعد أن تكون قد أكملت إغتسالها في بحر من حبيبات الندى، فتنشر رحيقها حباً وسعادة وحياة في البيت كله، وتُبقي عطرها سابحاً مخيماً في مساحات البيت، تجول وتتطاير مع أبتسامة وحركات زوجتي “هنية” حتى ينام البيت كله، ولا أذكر مرة واحدة نامت فيها “هنية” قبل أن ينام البيت قبل هذا اليوم.

ما أثار فضولي أنني لم أسمع زغرودتها هي أيضاً، وأنا ما زلت أمشي صاعدا الطريق الجبلي نحو البيت، واستهجنت زغاريد أمي دون “هنية”، واستغربت أكثر عندما لم أرها تتأبط ذراعها في مثل هذا العرس، حتى أنني لم أفكر لحظة بأن أبواي لم يخبراني بزفاف أي من إخوتي أو اخواتي أو أقاربي وجيراني، فما هكذا يتزوج الشباب، ولا هكذا ترتفع رايات الأعراس في القرية، وظل عقلي سارحا في شتى الأحتمالات حتى بدأ الناس يداهمون عقلي ويغتصبون يدي قائلين:

ـ شكر الله سعيكم!!!

ورددت دون وعي:

ـ عظم الله أجركم

وكدت أسأل:

ـ بمن؟!!!

وقال بعضهم معزياً:

ـ اللي خلف ما مات.

وعلى حد علمي أنني لم “أخلف” بعد، وأنا الوحيد المتزوج من كل إخوتي وأخواتي، وأبواي كبرا على ذلك، وكنت أنتظر بفارغ الصبر جريان الأيام كي تُفرج “هنية” عما في أحشائها وتجعلني أباً.

ورغم ذلك أسكتتني كلمات الناس، كادت أن تشل قدماي للتقدم نحو البيت خطوة إضافية واحدة، وسرعان ما صرت أرى أفراد أسرتي واحداً بعد الآخر يخرجون من عتبة البيت المشرع  نحوي، تتقدمهم أمي بدموع ثلجية متجمدة ظلت واقفة في حضنيّ جفنيها عازفة على الإنزلاق، رغم زغاريد حنجرتها التي غطت الجبل والبيوت والحقول.

لم يمر على الحدث أكثر من بضع ساعات، كانت دورية لجيش الإحتلال قد إخترقت متاريس القرية الحجرية المتفرقة، حاملة ثلة من المسعربين بثياب عربية، وأقسم شباب قريتنا أن بعضهم من قوات الأمن الفلسطينية الذين ظلوا يمارسون التنسيق الأمني على الأرض، بعد أن قاموا بدور الرقابة بدلاً من جنود الإحتلال على بيت أبو علي، الذي استعصى على الإعتقال أو القتل منذ فترة مطاردته للإحتلال والسلطة، وكان أبو علي يمتاز بحدسه الأمني العالي، غادر بيته، عندما اشتمّ رائحة مكيدة تلتف حول حياته في المكان، تماماً في اللحظات الأخيرة، فغادر بيته صاعداً أعلى الجبل، واختار طريق بيتنا ليختفي عن الأنظار، ولاحقه الجنود والمستعربين وبنادقهم ومسدساتهم في أيديهم، وكان أبو علي أقرب إليهم من مسافة رصاصة في جوف مسدس، ورأتهم أمي وزوجتي هنية وقد اكتشفوا اكتشافه مؤامرتهم، وخرجن ليعطلن خطوات هؤلاء الغرباء، غرباء السلطة وغرباء الإحتلال، ليمنحن المزيد من الزمن لأبي علي للمراوغة، ولقدميه لشد الخطى والإبتعاد عن عيون سلاحهم، فاعترضتا الجنود، وأمسكتا ببعضهم، وصرختا، فخرجن بعض الجارات أيضاً، وفعلن مثلهما، وكأنهن حافظات درس تعلمنه مرة واحدة واستعصى على النسيان، فرجال القرية في الحقول والأعمال، وأطفال القرية في المدرسة اليتيمة التي لم تلفظهم نحو بيوتهم بعد، وصارت المسؤولية كلها على بضعة نساء، وصار التعارك بالأيدي من مسافة صفر، وأبو علي يصعد أعلى وأعلى نحو قمة الجبل، وأمسك أحد المستعربين مسدسه ووجهه إلى قلب أمي التي عبثاً حاول التخلص من قبضات يديها، ورأته زوجتي “هنية”، فهاجمته وأبعدته عن أمي، وكادت تنتزع قوته من بين يديه، سلاحه الذي به يمتلك جرأته، والجندي الذي يحتمي خلف مسدسه أطلق رصاصته إلى صدر زوجتي “هنية” العزلاء، ليثبت أنه من الجيش الذي لا يُقهر، فرمتها وجنينها تماماً في حضن أمي.

إخترقت الرصاصة صدر “هنية”، لكنها لم تمت، بل شعرت بسكين متوهج الحرارة، أنزلوه لتوهم من على جمر النار، ينغمس في صدرها، يغوص عميقاً مفتتاً صدرها الجميل نتفاً، ولما رأت نفسها في حضن أمي أمسكت كف أمي واقتربت بها من بطنها، وأتمنتها عليه، وبصعوبة تلفظت ببضع كلمات:

ـ ديري بالك عليها ياأمي…

وكأنها تعرف جنس مافي بطنها، وأمام تدفق نهر الدم من الثقب الذي أحدثته الرصاصة المتفجرة في صدرها، أخذت تحث الخطى نحو السماء إلى جنات الله، لتعانق الرب وترتمي على صدره الدافئ، خاصة أنه تعلم أن هذا النوع من الرصاص صنعوه خصيصاً للفلسطينيين.

لم تخاطب “هنية” أمي يوماً بحماتي أو عمتي أو إمرأة عمي، فقط بكلمة “أمي”، منذ اللحظة التي خطت عتبة بيتنا إلى اليوم الذي إختارت فراقنا، الأمر الذي جعلها أقرب لقلب أمي من “كِنّة” مطيعة، بل كانت أقرب لبنت من بنات “بطنها” كما كانت تقول، ولمّا حاول الجنود منع نقل جسد “هنية” إلى المشفى في المدينة، حينها بالضبط انهالت كميات من الحجارة فوق رؤوس الجنود والمستعربين لم يعرف أحد كيف أو من أين، صارت سماء القرية تمطر حجارة من الحقول والمدرسة والطرقات، لكن الموقف لم تكن تكفي فيه قوة الحجارة وحدها، فجاءت رصاصات من أعلى الجبل، وانهالت على رؤوس الجنود والمستعربين، وسنت أسنانها المناجل و”صهلت” قادمة من الحقول كخيول عربية أصيلة لا تثنيها الصعاب ولا توقفها أشواك الطريق، وهذا الجيش الذي كان لا يقهر أمام نساء قريتنا وأطفالها العزل، صار يتقافز إلى أسفل الوادي هارباً من أصوات رصاصات أبي علي ومن عيون المناجل وحجارة الأطفال، ولم تتوقف، رغم ذلك، الرصاصات، وظلت تلاحق خطواتهم الجبانة الفارّة، فأدركت القرية أن الجيش الذي كان لا يُقهر صار سرعان ما يُقهر أمام إرادة صلبة وحفنة رصاص، وفي الأعلى، هرّبوا جسد هنية، على الأكتاف، إلى قرية قريبة، ثم إلى مشفى المدينة، وهناك انتزعوا الطفلة من بين طيات الموت التي كانت تتزايد حول عنقها، وحينها فقط ابتسمت هنية وأمالت رأسها باتجاه الشمس وغادرت نحو السماء.

قطعت أمي عهداً على نفسها بأن لا تسمح بأن يناديها أحد بغير “أم هنية”، وأقامت الأحتفالات ووزعت الحلوى إحتفاءً بإرتقاء هنية أبواب السماء، وظلت تقول أن ليس بالإمكان لأي كان الوصول لتلك الأبواب، أو العلو والسمو إلى هذه المنزلة والمهابة ومعانقة الرب، فالرب في الوقت الذي يسعد بإستقبال الشجعان فهو لا يحترم الجبناء، وأكثر ما يغضبه الحشرات عندما تحمل سلاحاً تتمادى به على الأنقياء من خلقه، لذلك كانت زفّة هنية أجمل بكثير من يوم زفافنا، علت فيه صوت الزغاريد وتصاعدت نحو السماء، متمازجة متماوجة مع أصوات العتابا والميجنا ونهر دموع كان قد إنهار من عيون القرية ساقياً الحقل كله، كما يسقيه نبع القرية القادم من أعلى الجبل .

عادت أمي بال”هنيتين” إلى القرية، إنتظروني حتى نزرع إحداهما سوياً في مركز القرية، تحت شجرة الزيتون الرومية المعمرة، فشجر الزيتون تتجدد أغصانه وتزداد إخضراراً أوراقه كلما ارتوى من دماء الشهداء، و”هنية” المولودة الجديدة التي أسمتها أمي على اسم أمها، تبتسم وتتراقص كما يليق بزفة أمها، وأقسم بعض سكان قريتنا، الذين حضروا ولادتها، أن هذه المولودة قديسة في ثياب مولود رغم ولادتها القيسرية “المبتسرة”، ورغم عدم إكتمال شهور حملها، وأنهم شاهدوها بأعينهم، التي سيأكلها الدود، تكاد تمشي على قدميها، وأقسم البعض على سماعها تتحدث وتحث الناس على اللحاق بأبي علي، على صعود الجبال مساكن النسور،  والإقتراب أكثر من حدود السماء، هناك على شواطئ الشمس وضفاف النجوم، وحذرتهم من أن يظلوا كالحشرات التي تختبئ جبنا تحت قشرة الأرض، وأنها أعادت مرات بيت شعر لأبي القاسم الشابي يقول فيه:

“ومن لا يحب صعود الجبال    يعش أبد الدهر بين الحفر”

وأن لا يهابوا الموت كما قال أبو الطيب المتنبي:

“فطعم الموت في أمر حقير   كطعم الموت في أمر عظيم”

وذهب البعض أبعد من ذلك ليؤكدوا أنهم خالوها أو رأوها بأم أعينهم وهي تتأبط سلاحاً بين ذراعيها، وأنهم شاهدوها تتحدث مع أبي علي ويخططان لشيء ما، وأن “هنية” الجديدة التي سرعان ما ستصبح صبية بهية جميلة قوية، كما هي بنت أمها الشهيدة وجدتها الحكيمة، فهي في ذات الوقت بنت جدها القابع في سجون “بني صهيون” منذ ما يزيد عن عقد كامل، وأن من قال بأن “فرخ البط عوام” لم يكذب أبداً.

غرسنا “هنية مثلما نغرس شجرة زيتون في قلب الأرض، ووضعت وردة جورية حمراء على قبر “هنية” إنتزعتها من شجيرتها الجورية، ونهرتني أمي قائلة:

ـ عليك أن تزرع شجرة لتنبت ورداً لا أن تقطف وردة من حضن أمها، إتركها لتنجب بذوراً لتستمر بها حياتها.

قلت:

ـ هنا؟ أأزرع جورية تحت شجرة الزيتون ياأمي؟

قالت:

ـ لا، فهنا ستبرعم “هنية” وتزهر ورداً لم تره قريتنا من قبل، إزرع في أي مكان، ف”هنية” تحب الورد الجوري محمولاً متباهياً فخوراً بين يدي أمه، إزرع واملأ المساحات وردا وقمحا وأملاً وحبا ورصاصاً وزيتون، هكذا فقط تثأر لدماء هنية.

في اليوم التالي، نظرت في عيون “هنية”، كانت عيوناً سوداء بلون الأرض، وبشرة رقيقة جميلة بلون القمح، وبدت لي أنها تريد أن تقول شيئاً، فوجدتني أمسك فأساً في يدي، وصرت أدق قلب الأرض، أنتزع شيئاً من أحشائها لأغرس جورية فيه، أزرع شجيرة هنا وأخرى هناك، لتملأ القرية بعطرها الفواح، و”هنية” تنظر إلي وتبتسم من الأرض ومن السماء.                                                                                                                                         محمد النجار

 

عندما يستعيد الثلج لونه

استقبلني عامر، كعادته، في بيته إستقبالاً يفيض ترحاباً، كمن يرى إنساناً عزيزاً عليه بعد زمن من الإنقطاع والإشتياق، كيف لا ونحن الإثنان كنا رفاق درب وسجن وحزب ومسيرة مليئة بالمد والجزر والفرح والحزن، وكلانا حمى الآخر بكل ما فيه من قوة في زمن الزنازين المقاوم، عندما كانت الفكرة شعلة، والقابض على الفكرة قابض على الشعلة، التي حتماً ستصل لنهاياتها الظافرة، عندما كانت الفكرة شعلة وبرنامج عمل ومنارة تضيء الطريق، مبدأ لا مجال للتشكيك في الإيمان به، إنه القول الفصل والمذهب الذي لا يختلف عليه إثنان، عندما لم يكن للعذاب ولا الموت كبير إعتبار أمام الإصرار على نشر تلك المبادئ والأفكار.

وفرقتنا الطريق بعد أن جاء “أوسلو” محملاً على ظهور القيادة مربوطاً بجيدها مثل “رسن”، كما يحب أن يقول، إفترقنا عندما “شرعنت” قيادتنا بدورها الدخول لمؤسسات “السلطة” القيادية، ووجدت الكثير منها أماكن عمل لها بوظائف “مدراء” بفروعها المختلفة:”ا و ب و ج “، مبررة أنها ستعفي الحزب من إلتزاماته المالية نحوها، وارتفع صوته المندد بالخطوة، المحذر من الإنزلاق في نفق “أوسلو” بغض النظر عن التبريرات، متهماً من وافق على تلك الوظائف بأنهم في خطوتهم الأولى لخيانة الأمانة التي وضعها الناس في أعناقهم، وأن الأمر لا يعدو سوى الخطوة الأولى للمهادنة والدخول في القفص، فطعم المال يُغري بالمزيد، وقال:

ـ إن العبيد وحدهم الذين يدخلون القفص بأقدامهم، ومن دخل القفص يكون قد ودع الطيران إلى غير رجعة، ولن يعود قادراً على التحليق نحو السماء حتى إن حمل زوجاً من الأجنحة بحجم أجنحة طائر الفينيق، ثم ما فائدة الأجنحة إن لم تكن قادرة على حمل صاحبها فوق أجنحة الرياح ومطباته وطرقاته المُتعرجة بإتجاه  الشمس؟!!

وتابع بكل مافيه من غضب وقال:

ـ أنتم تجردوننا من أحلامنا، تدفنوها في مزابل التاريخ وخلف الزمن، إنكم تضللوننا وتخدعوننا عن سبق إصرار، فضوء القمر هذا الذي تشيرون نحوه خادع كاذب، ليس سوى إنعكاس لحظي عن الأصيل عند بعض لحظات غيابه، الأصل هو ضوء الشمس الذي تُغيِّبون وتتجاهلون.

ولمّا سأله البعض عن ماهية العمل في مثل هذه الظروف قال:

ـ “إن أبغض الحلال عند الله الطلاق”، لم يعد يربطنا بهم رابط، والمنظمة ثمنها دماء الشهداء وأنات الجرحى والأسرى، لم يرثوها عن آبائهم، إنها حق من لا يخون دماء الشهداء، إن كنتم ترون بأنفسكم أهلاً لذلك استعيدوها، وإلاّ فسيكون أي كلام أو احاديث مجرد كلام، لا يستحق التوقف عنده.

أجاب بعض القادة حينئذٍ مُتجنبين النظر في أعماق عينيه:

ـ الطلاق؟ إنه مجرد عمل، إنها حقوقنا من منظمة التحرير.

فقال وقد تشابك عنده الغضب مع العتب:

ـ ياحيف على الرجال ياحيف، أتستحمرونني وتستهينون بقدراتي العقلية إلى هذه الدرجة؟ عن أي منظمة تتحدثون؟ وهل بعد هذا تبقَّى شيء من منظمة التحرير؟ في أيام العز كانت قيادة المنظمة المهترئة الفاسدة المفسدة، تمنع حصصنا المالية عند كل منعطف، ولو لم تكن كذلك لما ركبت قطار “أوسلو” أصلاً، أتريدونها بعد هذه الردة وهذا الإنحدار أن تعطي للفصائل المعارضة حقوقها؟!!!

سكت قليلاً ثم أضاف:

ـ كي أسهل عليكم الأمر، أنا أوافق على أمر الوظائف ضمن قانونين اثنين، الأول أن يكون الأمر مؤقتاً بشهور عدة ولا تزيد عن سنة، ويتم تداوره بين الرفاق، كل بضعة شهور يُعطى لرفيق غير الذي كان، والثاني، أن يأخذ صاحب المنصب قدر التفرغ الحزبي فقط ويُحوِّل ما يزيد عن ذلك لمالية الحزب.

طبعاً لم يوافق أحد عل إقتراحه، فزاد نقده لهم، لنفس رفاقه الذين طالما حماهم داخل الزنازين وحموه، قال:

ـ إنها الخطوة الأولى لتبتلعوا ألسنتكم، ومن يبتلع لسانه سيلجم فعله لا محالة، ولن تُلعلع رصاصاته سوى في الأعراس.

وتابع حديثه المتلاحق في كل مناسبة:

ـ إنكم لن تجرؤوا على إصطياد عصفور، فما بالكم بجندي أو مستوطن؟!!! بل لن تجرؤوا على تأييد من يفعل ذلك، هذا إن لم تتبرأوا منه أصلاً، هذا هو ثمن الوظائف تلك، وأمام أي موقف ستقارنون بين الفرق في دخلكم وحياتكم الماضية والحاضرة، وستنحازون إلى الراحة والبذخ، وليس لسنوات المطاردة والسجون والمواجهة، إنها سنن الحياة التي إخترتمونها.

وارتفع صوته وعلا، وتراجع حضوره أو قَلَّ بينهم، وغاب أو غُيِّب لا فرق فالنتيجة واحدة، ثم انفصل أو فُصل أو لم يعد أحد يتصل به، سيّان، وقلنا أنه تساقط في الطريق، وبررنا بأن الطريق الطويل متعب وشاق، وليس كل من يسير به يصل لنهايته، وأن هذه سنن النضال والحياة، وأن من الناس من يتحول لذاتي بعد تعبه أو فشله لئلا يعترف بعجزه، والبعض يتحول لجزء من جمهور المتفرجين، وحللنا وتفلسفنا واخترعنا النظريات، وظل هو يُعتقل عند سلطة أوسلو بسبب “طول لسانه”، لكنه بدل أن يصمت تصاعدت إنتقاداته وعلا صوته، وظل يعلو ويعلو، وصرنا نحن رفاقه السابقين الأشد تعرضاً لإنتقاداته، نحن و”حلفاء إسرائيل الجدد” كما سمّاهم، الأمر الذي جعل الرفاق ينتدبونني لأضع له حداً، أو لأخجِّله، لأذكِّره بماضيه الذي يحاول تناسيه ورميه بعيداً خلف جدران الوهم التي تحوم في رأسه، وكأن ذاك الماضي ليس منه ولا هو من صنع يديه، في جزء يسيرٍ منه على الأقل، ولأقول له أن مَنْ لا ماضي له ليس له مستقبل تحت هذه الشمس.

أخذت أستعيد الماضي معه ونحن نحتسي شاينا “الباذخ” الغارق برائحة النعناع حتى حدود “البطر”، وصحني الزيت والزعتر أمامنا، نغمس بهما قطعاً من خبز الطابون ليصل الزيت حتى نهاية عقلة السبابة والوسطى والإبهام، ونسكب خلفه جرعات من الشاي المُحلّى، فطعم الزعتر وزيت الزيتون المجبول بحلاوة الشاي لا يضاهيها شيء في هذا العالم.

فصار يتحدث وكأنه يترنم بمعزوفة موسيقية، وقال وهو يلوك الطعام ويصوغ العبارات، مذكرني بتلك الفترة التي كدت أنساها:

  •           *          *

في تلك الليلة الخريفية الباردة، أمّنت ظهري لصخرة في بطن الجبل، وشددت السماء المرصّع بالنجوم، بعيني، لحافاً، لكنه لم يحمني من برد ليل أواخر الخريف، كانت من بين ثقوب النجوم تتسلل حبيبات الهواء الباردة وتتكاثف جداول من برد ينخر جسدي من كل الأماكن، ولم ينفعني معطفي الهزيل في التصدي لها، فصرت ألتَّف بجلدي منتظراً قدوم شمس الصباح، التي تأخرت كثيراً عن موعدها، كأنها تتآمر مع الليل على جسدي البارد، ولم تأتِ قط.

في تلك الليلة قررت أن لا أعود لحضن الجبل مرة أخرى قبل إختفاء البرد، مع يقيني أنه لن يفعل مادام الفصل القادم يقف متحفزاً بالمرصاد للدخول من كل الأماكن والأبواب والمساحات المشرعة دون رابط، لكن ليس للأمر علاقة بالرغبات، فالقرار كان واضحاً، كما تعلم، لا لبس فيه : ” لا تُسلِّموا أنفسكم للعدو كالخراف”، وفي نفس الرسالة :” الوطن بحاجة لكل الطاقات، لا تهدرونها في الزنازين وخلف القضبان”، فتوجب علي أن أجد البديل.

كنت أنت جديداً على الحزب، ولم تكن علاقتنا بهذا العمق، وكنت أنا قد أمضيت الكثير من الليالي موزعاً نفسي عند بعض الأصدقاء، فارضاً نفسي بشكل لا يخلو من بعض الوقاحة أحياناً، وأحياناً مستغلاً باب الصداقة أو طيبة الآخرين، لكنني في معظم الأحيان لم أمكث أكثر من ليلة أو بضع ليال، لأعود أسعى في مناكبها باحثاً عن مكان للمبيت، وفي مثل هذا الحال ينقضي الوقت في البحث ويغيب الوطن عن جدول الأعمال، فيصبح الأمر “وكأنك يابو زيد ما غزيت”، فما الأهمية لوجودي إن لم أكن قادراً على متابعة المهام؟ لكن حملة الإعتقالات الأخيرة تلك لم تُبق لدي الكثير من الخيارات.

منذ دخول الفصل البارد القادم من وراء البحار سماء البلاد، تغير وجه المدينة بالكامل، كانت الغيوم تأتي متكاثفة متجمعة، وسرعان ما تُبطئ المسير لتهيل ما في أحشائها من مياه، وما أن تصطدم ببرد الهواء حتى تتحول إلى ثلوج قطنية بيضاء، ثمار القطن الذي نضج بفعل حرارة الصيف الذي مضى تراها تتطاير في فضاء هذا الشتاء دون رياح، تتراقص متحررة من الغيم الداكن لتفترش مساحات الحقول، وما أن تجد لها مكاناً على سطح الأرض، حتى تبدأ بالتراكم ثمرة فوق أخرى، وتنمو وتكبر وتتسع مدى، حشائش بيضاء مترامية تغطي السهل كله، مخفية أسطح المنازل و العمارات والطرقات والسيارات المتوقفة على رصيف الشوارع في لحظات، تعتلي أغصان أشجار التين والزيتون، تغطي أشجار السرو واللوز والمشمش، وتظل السماء حبلى بالغيوم، والغيوم حبلى بالثلوج كما كانت قبل الولادة الأخيرة، مستعدة لإنجاب التوائم الثلجية المتعددة، مليئة كما جاءت، كأنما لم تكتفِ بما جادت، ولا تنوي المغادرة بعد، وأنا تحملني وتسير بي قدماي، مُهشِّمة وجه الثلج الأبيض المتراكم، غائصة به إلى ما فوق الرسغ، أسير لاهثاً كأنني في رمال الصحراء، ممتلئة قدماي بالثلج المتحول لمياه ثلجية ما أن تَتلامَس مع حرارة قدماي، ماشياً متنقلاً بين أطراف المدينة مبتعداً عن عيون دوريات الجيش، كي أجد لي لحافاً غير السماء.

كنت مطلوباً منذ مايزيد عن عام كامل، كان “جيش الدفاع” قد داهم مرات عدة كما في هذه المرة أيضاً، منزلي بعشرات الجنود، كأنه في معركة حامية الوطيس، حاصر البيت من كافة جوانبه قبل أن يقتحمه مفجراً بابه متعمداً زرع الرعب والخوف في البيت كله، ووسط صراخ أطفالي المرعوبين من الجند وصوت الإنفجار راح يكسر المقاعد والخزانة الواقفة بصمت بجانب الحائط، يمزق الفراش ويهيل مافي “البراد” من طعام، ومن باب الإحتياط، كان يسكب حليب طفلي الرضيع على الأرض، ليتأكد أن عبوة الحليب لا تُخفي قنابل أو رصاص أو متفجرات، والغريب، قالت زوجتي، أنه يفعل هذا الأمر بالحليب في كل مداهمة، وكأنه يؤكد كرهه للأطفال أو خوفه منهم، وربما يرى فيهم خطراً مستقبلياً يمسح كل ماضي كيانه وكل حاضره الفاشي، وكنت أنا قد أخذت إحتياطي وغبت عن الأنظار قبل ذلك بكثير، لأنهم يعتقلون كل شيء وأي شيء، فهم لا يستطيعون إستيعاب ولا فهم كيف يجرؤ هؤلاء “الأغيار” على التمرد عليهم هم الأسياد؟ ألم يخلق الله العالمين جميعاً لخدمتهم؟ ألم يُسخر البشر جميعاً لخدمة شعب “يهوه” المختار؟

تجمع البرد والثلج والضربات الأمنية المتتالية في أجواء المدينة وسائر الوطن، وسقىت دماء مصطفى العكاوي أرض الزنازين، فارتقى شهيداً إلى السماء، فبكت مدينة القدس حباً وورداً وقمحاً وحياة، فتحولت مدينة رام الله الوادعة الجميلة إلى مدينة غريبة لا يكاد يعرفها المرء، وصارت أسطح عماراتها عيوناً متلصصة على الطرقات بعد أن إغتصب الجنود أسطحها، وخلف عماراتها أشباح وكمائن صيد متنقلة من دوريات الجيش، وأضحت الشوارع البيضاء ملتبسة غامضة، والجنود المشاة إستغلوا فقر الشوارع بالمشاة ليوقفوا ما طاب لهم من أُناس متلذذين بتعذيبهم بدعوى الأمن، ومن مكان مسيري الحذر الموازي لشوارع مركز المدينة، كنت أرى دورية من الجيش، وقد أوقفت عائلة بدعوى التفتيش والتدقيق، فلعل الأب أو الأم أو أحد الطفلتين مطلوبون، فرادى أو جماعة، لقوات الأمن، وبعد أن جاء الرد بالنفي عبر جهاز اللاسلكي، طلبوا من الأب الشاب أن يعانق الأرض الغارقة بالثلج والماء المتجمد ويداه خلف ظهره، مرة على بطنه ومرة على ظهرة ليفتشوا جيوبه الأمامية والخلفية، فهم لا يستطيعون تفتيشه واقفاً، وبين المرتين دقائق تمر وبكاء طفلتين ما بين  الخامسة والثامنة لا ينقطع وجسد ممدد فوق الثلج مرتعش، من البرد أو الخوف ربما، أو الأمرين معاً، وتفكك لحبيبات الثلج لتتحول إلى ماء مثقل بالبرودة والمرض ينغرس سكاكيناً حادة في جسد الأب الراجف، فلم يعد ل” وجعلنا من الماء كل شيء حياً” مكان، وصار الماء عدواً قاتلاً دون جدال، وصار الجسد الممدد فوق الأرض يمتص الماء مجبراً، فيرتج ويرتجف كأوراق شجرة داهمتها رياح عاتية مباغتة ودون رحمة فانهالت متهاوية من علِ، قبل أن يُعيدوا له ولزوجته بطاقتيهما، ويسمحوا للعائلة بالمغادرة، وأنا أقف على حافة الخطر أُراكم الحقد في داخلي ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، أسناني تصطك مع بعضها البعض، والبرد ينخر عظامي ويلتهمها دون رحمة، فيصير السجن رحمة، ويصبح الإعتقال أمنية، والوصول إلى بيت الرفيق المتوجه أنا إليه، في تلك اللحظات بالذات، هدف سامي، والحلم بكوب من الشاي، حتى دون الزيت والزعتر وخبز الطابون، من مواصفات الجنة.

هذا الرفيق الذي كنت متوجهاً لبيته كان أنت، وإتفقنا في إجتماعنا، إنْ كنت مازلت تذكر، على مباغتة دوريات الجيش بقنابلنا البدائية الحارقة، وظلت تتزاحم بين جفون عينيّ دماء الشهيد مصطفى الطاهرة تسيل، وصورة الرجل الذي يرتجف برداً وعذاباً دون ذنب، وأصوات بكاء الطفلتين تسيل في أذني حديداً مصهوراً، وكانت تتراءى لي بصاطيرهم وهي تعبث تكسيراً في خزائن بيتي، وتداخل صوت بكاء الطفلتين الخائف ببكاء أطفالي المرعوب، وكدت أرى أيديهم تسكب حليب أطفالي فوق ركام البيت مستهزئة مستهينة منتشية، فبدى لي أن الزجاجة الحارقة يجب أن تكون قنبلة، وألقيتها فوق دورية الجيش المارة متسللة في ليل المدينة، وألقيت أنت زجاجتك أيضاً، وكنا نرى دورية الجيش تحترق، وبدى لي أن الجنود هم أنفسهم الذين قتلوا الشهيد في الزنازين، وهم الذين إقتحموا بيتي، وهم من عبث بأثاثه، وهم أنفسهم من أبكوا الطفلتين الصغيرتين وعذّبوا أبويهما، وهم الذين قتلوا عمي وأجبروا أبي عندما كان صبياً وبقية القرية الوادعة على مغادرة بيوتهم، وأنهم يتكررون نسخة كربونية لا تجديد فيها سوى في فن القتل والذبح والعنصرية المتأصلة، وكدت أظل أتفرج على النار المشتعلة فيها، وبدى لي أن الدفء صار يتدفق إلى جسدي، ولم تعد أسناني تصطك ببعضها برداً، وأن قدمي قد جفّا واختفى الورم والتضخم من أصابعهما، وبدى لي أن الثلج قد بدأ يستعيد بياضه ولونه، واستعاد حيويته فازداد ضرع الغيوم عطاءً، وكبر حجم ندفه وتكاثف ليشكل لنا باب حماية للإختفاء، وكان لون الثلج أبيضاً، لكن ليس ذلك الأبيض الذي خبرناه منذ مجيء أوسلو، لم يكن أبيضاً مُزيفاً، كان ناصع الوجه نقياً غير متسخ وغير مُشوّه، فعادت مدينة رام الله جميلة كما أعرفها، وعادت لها الحياة، واستعادت الأسواق المغلقة رونقها، والشوارع حركتها، والمساجد والكنائس رحيقها، فارتفع الآذان وقرع الأجراس عزفاً متلألئاً في الأجواء، وتداخلت أصوات الباعة وزعيق الأطفال، وتعالت أصوات العتابا والميجنا والدحية، وارتفعت الدلعونا وحضر “زريف الطول”، ومن مكان قريب هلّت “زفة” لعريس جديد، وتجمعن الصبايا في ليلة حناء لعروس واقفة على أبواب المدينة ماتزال تبتسم، وأمام وقوفي العبثي متفرجاً، كانت يدك تشدني وتهزني بعنف:

ـ هيا بسرعة، أتريدهم أن يقتلوننا؟

وغادرنا المكان وسط بكاء رصاصهم المتفجر خلفنا، تماماً في أعقابنا دون أن يصلنا أو تصيبنا شظاياه، وفي كل مكان واتجاه، واحتوتنا شوارع المدينة التي لم تعد غريبة، وغطت إنسحابنا كاملاً من المكان، وكأنها توجهنا إلى طرق الحقول، وكانت أصوات إعلانهم لمنع التجوال في المدينة المرافقة لأصوات الرصاص لم تهدأ بعد، ونحن نصعد الجبل مبتعدين عن المكان.

في ركن بعيد في ثنايا ذاكرتي وخباياها، استحضرت بعض كلمات أبي قبل أن يغادرنا مبكراً إلى ربه يقول:

ـ “إقضِ على البرد بالحركة، السكون هو الموت بعينه، ورؤية النار، حتى البعيدة منها، تجعلك تشعر بالدفء”.

  •            *            *

أعاد لي عامر بقصته ذكريات وشجون، قلت قاطعاً حبل ذكرياته المتدفقة نبعاً من عمق جبل:

ـ ليس هذا ما أتى بي إليك، إنه شيء آخر، لسانك السليط علينا، لماذا كل هذا الحقد؟ أفقدت كل احترام لهذا التاريخ الذي تستعيده.

انزلقت قطعة الخبز من بين أصابعه إلى صحن الزعتر، كفت أسنانه عن المضغ، سكت طويلاً قبل أن يسكب في فمه ما تبقى من كاسة شايه ليسهل لها طريق الوصول لمعدته وقال:

ـ الحقد؟!!! أنا أحقد عليكم؟وهل هناك من يحقد على نفسه؟ على أمله؟ ولماذا؟ ربما كان الأجدر بك أن تقول الحب وليس الحقد، فأنتم الأمل الأخير إن إستطعتم استئصال أوراكم السرطانية، إن أخرجتم المستفيدين الذين استطابوا الراحة في الزمن الصعب، إن إستطعتم العمل، كما سبق، تحت الأرض، كنا بإحتلال ونعمل سراً، فما بالك عندما صار للإحتلال أعواناً وعيوناً ومنسقين أمنيين؟!!! صار له أذرعاً طويلة تلاحق وتعتقل وتُخبر وترشد وتكمم الأفواه وتقتل؟ أرأيت قيادة وطنية تُحاكم شهيداً وأسيراً؟

سكت قليلاً وكاد يغتصب إبتسامة فخاف أن تبدو حمقاء كاذبة فعدل، وقال:

ـ قال المرحوم والدي:” أُحب من أبكاني وبكى علي وليس من أضحكني وضحك علي”.

قلت ومازلت مصراً على إيصال رسالة الرفاق له:

ـ على الأقل انتقدهم هم، هم الذين فرطوا وليس نحن.

قال:

ـ “الضرب في الميت حرام” كما تعلم، رغم أن لساني لم يستثنهم أبداً، لكن وكما تقول هم فرطوا لكن ما الذي فعلتموه أنتم؟ ماذا فعلتم لوقف هذا التفريط أو إستمراره في الربع قرن الأخير؟ إنكم صرتم “مؤدبين” أكثر مما يجب، لا أعلم أخوفاً عل جرح مشاعرهم أم للحفاظ على مصالح بعض أفراد القيادة؟!!!وفي الحالتين النتيجة واحدة، وأنتم، في مثل هذه الحال، لا تستحقون غير الشفقة.

كنا نتحث بلغتين مختلفتين، وكان قد أخرج من علبة سجائره واحدة وأشعلها، وتابع مفصلاً:

ـ هناك تفريط يومي لدى قيادات “أوسلو” كما تعرف، فلماذا معارضتكم خجولة هزيلة إلى هذه الدرجة؟ ثم ما هي العوامل المشتركة التي ظلت تجمعكم بهم؟ لماذا مازلتم متشبثين بمواقعكم في مؤسسات السلطة القيادية؟ ما سر هذا “الحب العذري” معهم؟ ألم تتعلموا بعد أن الذي يخجل من عروسته لا يُنجب أطفالاً؟ لماذا لا ترفعوا صوتكم عالياً في وجههم؟ لماذا لا ترفعون صوت أفعالكم أعلى في وجه مَنْ يخدمون؟ لماذا لم تؤدبوا ولو مرة واحدة مسؤولاً أمنياً ممن يُنسقون مع آل صهيون؟ من الذين يشون برفاقكم ويعتقلونهم ويعذبون؟ ما الذي جرى لكم؟ ألا تنظرون أين صرتم والى اين وصلتم؟ أرفضتم المشاركة في إنتخابات البلديات كي تتمسكون في مفرزات “أوسلو”؟ لماذا لم تُكملوا ما عاهدتم الناس عليه من تصعيد الموقف وعدم الوقوف عند مجرد رفض المشاركة في إنتخابات بلدية؟ ألا تعتقد أن ذلك هروباً للأمام وتغطية على عجزكم؟!!!

سحب من رأس سيجارته نفساً عميقاً، اقترب مني، وأطلق سهمين من عينيه لتخترقني وقال:

ـ ما فعل هؤلاء القادة المتمسكون بهذه العلاقة أمام إعتقال رفاقهم في سجون السلطة؟ ماذا فعلوا ليحمونهم من أجهزة أمنهم وسجونهم؟ أهذا هو الحزب أو الفصيل الذي كانوا يرتعدون منه ويحسبون له ألف حساب؟ أهذا هو الحزب الذي ظل على الدوام حامياً ومدافعاً عن الوطن والرفاق والناس والقضية؟

عدل من جلسته وتابع سحب الأنفاس من رأس سيجارته وقال:

ـ ترى مَنْ الذي عليه إعادة النظر في مفرداته الوطنية؟!!!

ودون مقدمات، وكأنه يريد الخروج من الموضوع أو الإبتعاد عنه، قال:

ـ لقد قاطعتني دون أن أكمل لك القصة.

وأكمل دون أن يسمع لي رداً:

ـ لقد كان هواء الجبل البارد نقياً، كان عطراً برائحة الميرمية والشيح والزعتر إن كنت مازلت تذكر، وكان يبتلع برده المتجمد كأنما يريد حمايتنا من مرض كامن في أزقة الهواء، يزيله ويخفيه بعيداً في أعماق الأرض، أو ينثره بعيداً فوق مساحات السحاب، وكان لون الجبل أبيضاً ناصعاً كأجنحة ملائكة الجنة، إستعاده الجبل بعد مرور سنوات على ذلك، لون أبيض لا علاقة له بالرايات البيض، تخاله يشبه الرايات الحمر في زمن الحرب، أو بلون حشائش الأرض الربيعية الخضراء الممتدة على طول السهول، وربما بلون الأرض الأسود الممدة على ظهرها بإنتظار الإخصاب، لكنها لا تتخصب من ثلج خصي مزيَّف اللون عاجز، بل من ثلوج ناصعة بيضاء استعادت لونها الأصيل الشامخ، مشرئب العنق مرفوع الجبين ويحتضن الجبل والسهل كله، كأنه يحميهما من رصاصهم المتطاير حقداً وعنفاً وانتقاماً وسفور، وظل يطاردنا ونحن نصعد عالياً عالياً من صخرة إلى أخرى، متسلقين السلاسل الحجرية محاذين أشجار الزيتون الراقصة بنا فرحاً، وحينه فقط أدركت طريقي إلى الدفء…. أأدركته أنت؟

قلت مغلوباً على أمري:

ـ يعني ما في فايدة؟

قال:

ـ بلى، عندما يستعيد الثلج لونه الأبيض، ويصير كالراية الحمراء وحشائش السهل الربيعية الخضراء ولون الأرض الأسود المستعدة للإخصاب.

محمد النجار

 

 

 

الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار

أم الشهيد

  • عندما نظرت إلى صورة الشهيدة سهام نمر، يتقدمها إبنها الشهيد مصطفى نمر، رأيت الشهيد ينظر في أعماق عيني ويقول، ” إن لنا عليك حقاً”، فخجلت وأخفضت عينيّ، وكتبت هذه السطور:

*إلى روح الشهيدة سهام راتب نمر، والدة الشهيد مصطفى نمر، وكل الأمهات اللواتي قدمن أبناءهن شهداء وجرحى ومعتقلين، وكن شهيدات حتى لو بقين يمشين على الأرض.

 

قامت من النوم مبتسمة كحالها في الأشهر الأخيرة، ورغم تيقنها الأكيد من نومها العميق، إلّا أنها تكاد تجزم أنها كانت مستيقظة متيقظة رغم ظلام الليل الذي دثر البيت بعتمته، وأن ما رأته كله حقيقة، حقيقة ساطعة كشمس النهار التي، بشعرها الذهبي، غطت بيوت المخيم كله، ولا شأن له نهائياً بالأحلام.

هذه الإبتسامة المعلقة الثابتة فوق شفتيها، مثل فانوس مستقر في وسط السماء، كان مثار حيرة في البيت كله، خاصة أنها صارت بهذا الوضوح بعد استشهاد ابنها، وفسّر الجميع الأمر بسبب اشتياقها له وافتقادها لرؤيته يشرب من كاسة شايه مستعجلا الوصول لعمله،  قبل أن يسرقه الزمن ويُغيبه النهار بعيداً دون أن يحس أو يشعر، ويجد نفسه عائداً خالي اليدين من رغيف المساء، فكان إتفاق ضمني من الجميع بتجاهل الأمر حتى يمر الزمن، والزمن قادر على فعل المعجزات.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة كما يبدو، فاستشهاده لا يجعلها قليلة التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الحلم والواقع، فهي تراه في كل ليلة ولا يغيب عن سهول عقلها في أي نهار، فارس يعتلي صهوة نهاره ويجوب في طرقات رأسها، يروح ويجيء ويحرث الأرض، يدق عنق التربة “ليخرج من الأرض ماءاً”، ثم يأتي إليها مُتحزماً بتاج العز، متلفعاً بالشهادة، تراه وتحتضنه وتقبل جبينه بعد أن يحتضن كفيها ويقبل يديها كل مساء، تجلسه في حضنها وتناغيه كما لو كان صغيراً، تدلعه وتلاعبه وتقبله وتتركه ليلعب على باب بيتها في المخيم، كما كان طفلاً، فباب بيتها كان يمكن أن يكون آمناً مثل كل المخيم، لولا أولئك الغرباء الذين بسببهم بُني المخيم، وهي تعلم علم اليقين أن المخيم ليس أَبَدِيّ، وأنها ستمسك ابنها، ذات يوم، من يده ويعودا سوياً تتبعهما الأُسرة كلها، والمخيم كله، إلى قريتها وبقية القرى المُنْتَظِرة منذ سبعة عقود، دون يأس أو وهن أو فقدان أمل، يعودوا ليطردوا اللصوص الذين قتّلوهم وهجّروهم وطردوهم واستولوا على بيوتهم بقوة الحديد، ولولا الحديد الذي بأيديهم ما كانوا ليجرؤوا على الإقتراب من باب بيتها، وأن الحديد لو كان متوفراً في أيدي رجال القرية ونسائها لما تجرأ أحد على القرية وسكانها، وأن الناس لو تُركت لتدافع عن نفسها دون تدخل أصحاب القصور من “ذوي القربى”، لكان شهيدها يجوب طرقات القرية وفأس الأرض على كتفه، لذلك كانت تعلم علم اليقين أنه بالحديد فقط سترجع بيتها المسروق، فكانت، لذلك ربما، ترضع وليدها أسرار القرية، جغرافيتها، تاريخها الذي طالما حاولوا،فاشلين، محيه أو إلغاءه، طرقها، مُغُر الجبال في أراضيها، حكايات نسائها ورجالها، أولادها وبناتها، جرحاها وأسراها وشهدائها على طول طريق السبعين عاماً، منذ خروجهم الدامي ملاحقين بالرصاص والموت وخيانات الملوك، قصص زيتونها ودواليها وسلاسلها وبيوتها، وشجرتي التين المعمرتين “العسالي والخروبي”، الواقفتان على مدخل القرية مثل حارسين ساهرين، تشرح له مع كل قطرة حليب تنزلها في فمه قصص البيدر والغلة والأرض والجيران والأعراس والزفة وليلة الحنة والعتابا والميجنا، وكيف حاول اللصوص تجريدهم من الذكريات بتفجير الرؤوس وفصل الرقاب، لكنهم رفضوا التنازل عن ذكرياتهم، فحملوها وهرّبوها وغامروا بحيواتهم لينقذوها، واحتفظوا بها في تلافيف الدماغ وطيات مُخَيِّخاتهم، لذلك هي ليست مستغربة أن ابنها ذهب لعمله شاباً يانعاَ يافعاَ، وعاد شهيداً كما يليق بالرجال، وليست مستغربة كيف نشأ وأترابه يحبون اللعب في الحديد لدرجة الهوس به، وأنهم منذ صغرهم يصنعون البنادق والصواريخ من الأسلاك، فكان من الطبيعي أن يعودوا شهداء واحداً تلو الآخر كما عاد إبنها، ملفوفاً بالعلم محمولاً فوق أعناق الرجال، لكنها لم تكن تتخيل أن يترك خلفه كل هذا الفراغ المرعب، كل هذا الصمت المدوي، وأن يكف من بعده البيت عن الإبتسام، وكأن الإبتسامات حُرّمت من الله دفعة واحدة ودون سابق إنذار، وأكثر ما أزعجها أنها لن تمسك بيده، أو تتعكز على ذراعه،  ويعودا سوياً الى قريتهم التي ظلت تتباعد، تتعقد طرقاتها، ويملؤها الشوك والرصاص وخذلان أنظمة العهر مع مرور الزمن.

رغم ذلك كانت متأكدة أنهم سيسترجعونها، وأن المسافات الطويلة هي سبباً لشحذ الهمم ومتابعة الخطوات، وتأكدت من حتمية الأمر عندما رأت ابنها شهيداً، فهي خير من تعرف أن الشهداء هم جسر العودة الأكيد في هذه الطرق والمسالك الخطرة، وأدركت أن حليب ثديها لم يذهب هدراً، لم يكن ماء آسناً قذراً، كما لم يكن مُزيفا ملوناً كاذباً مشتبهاً، وكانت تظل ساهرة مع وحدتها وظلام الليل، تتمنى من الليل أن يستر سرها، أن يغلق عنها قلوب العائلة النائمة كما عيونهم، لتظل تحاكيه وتقبل حجارة يديه التي ظل يُطل بها عليها صغيراً ومراهقاً وشاباً، عرفاناً منه بجميلها المبكر في وصوله للشهادة، عندما تربى على حملها ورشق دوريات الجيش بها، لتكون “بروفته” للوصول الى ما وصل إليه، ولتظل، هي أمه، تمسح جرحه النازف الذي ظل ينز دماً ومسكاً.

وسرعان ما صار، مع تقالب الأيام، يُضاعف زياراته لها، يأتي لها من طرقات الجنة، من بين ورد الياسمين والقرنفل وشقائق النعمان، من حدائق النرجس والإقحوان والسوسن والطيَّون، من تحت الأشجار المثمرة المليئة بالخيرات،يلوك شيئاً من فاكهتها في فمه، مُتقافزاً على شُجيراتها، متعطراً بعطر الزعتر البري والميرامية التي خص الله بها جنته برائحتيهما الفواحة، تحط بلابلها على كتفيه مغردة، يمر من تحت نبع معلق في نهايات السماء، ينساب برويَّة وارتخاء، وخرير مائه وحفيف أجنحة العصافير تملأ الجنة غناء، تراه قادماً متعلقاً على حبال خيوط الفجر، محمولاً فوق حبات الندى، متقافزاً على درجات الغيوم ناصعة البياض، لابساً بدلة عرسه التي لم يلبسها قبل استشهاده، والتي طرزت له عليها بيدها مفتاح بيتهم الحديدي الكبير، الذي يمكن أن يكون سلاحاً في غياب السلاح، ألم يحاكموا إبن مخيمهم علاء عندما وجدوا المفتاح المشابه لمفتاحهم مُخبأً في جيبه، متهمينه بإمتلاك سلاح قاتل؟ يأتيها وبعض بقع الدم تُزين بدلة عرسه، تنز من مكان الرصاصات التي إخترقت جسده اليانع وقلبه الشاب، تعطيه جرأة فوق الجرأة وشرفاً فوق الشرف، وترفعه من شاب يانع من على مقعد سيارته، التي أفرغوا فيه وفيها حقدهم، إلي أعلى صنوف البشر مرتبة، له مهابة الشهداء وشهامة الأبطال، وتفوح منه رائحة المسك وتغطي البيت كله، تلك الرائحة العطرة التي ظلت متخوفة أن تكشف سرها، وترميه بعيداً وراء الدار.

كانت تحتضنه مباشرة، تُخبئه عن عيون دورية عسكرية تبحث عن الشهداء لتعيد قتلهم، أو دورية “الأقربين” التي تبحث عنهم لتحاكمهم، وترمي بالمناضلين في غياهب سجونها، لتسلمهم بعد ذلك لإعادة قتلهم، فالأمر المخيف المرعب الممنوع لدى كلاهما، أن تُمارس الشهادة، أو أن تجرؤ على التفكير بها، مستبدلاً اليأس والقهر والظلم منهما بالشهادة، بإعادة رسم الطريق، بإعادة توضيح المسالك، بمحاولة رفع الرصاص والأشواك لئلا تختفي المعالم وتضل الطريق.

تُجلسه في “حجرها”، وتخبره عن أخبار المخيم، عن أسراه وجرحاه، عن شهدائه الذي ظل يؤكد لها أنه رآهم عند الأنبياء والصالحين، الذين يحسدونهم على شهادتهم هذه، التي جعلتهم أقرب منزلة منهم إلى الله، فالله يفضل الشهداء على كل شيء وأي شيء، بما في ذلك الأنبياء، لذلك كم ود الأنبياء أن يكونوا شهداء، وتكاد تسمعه يقول بأعلى صوته، “إن أنبياء هذا العصر ياأمي هم الشهداء، رجال كانوا أو نساء، كلهم عند الله سواء”.

كانت تسمعه وتحدثه وتتعطر بمسك جرحه النازف، لكنها لم تُرد يوماً أن تزعجه بقصص “الخانعين” في المخيم، ولا بسياسة التسحيج والتبعية ولعق الأحذية التي تتعمق أكثر عند بعض المخيم، ، ولا ببعض السفلة والأنذال الذين لا يسكنون المخيم، ومازالوا يبنون القصور من ثمن دمه ودماء رفاقه، والتي ليس لها مفاتيحاً كمفتاح بيتها هناك، ولا كمفتاح علاء الذي مازال يحتضنه السجن، لكن الأمر الذي طمأنها، أنهما كلاهما، لم يُخْطئا إتجاه البوصلة أبداً، التي كانت تُشير للقرية بهذا الوضوح.

شيء واحد فقط كانت تود فعله، واحد فقط لا غير، أن تعود معه إلى قريتها، وينتزعاها من لصوص الأاراضي والبيوت، من الغرباء الذين حللوا القتل والذبح وبقر بطون الحوامل، الذين ظلوا يتفننون بقتل النساء والأطفال والشيوخ والرضع، لكنهم رغم كل سلاحهم لم يثبتوا في الميدان أمام الرجال، وكانت تظن أنها ستفعل الأمر معه، سيعودان سوية، رغم أنها لم تفاتحه بالأمر أبداً، كما أنه لم يفاتحها أيضاً، لكن وكما للعيون كلمات واضحة، فللقلوب لغة لا تُخطئها الأم، فكانا يتحدثان بقلوبهما، يتناقشان ويتأملان ويخططان، لكنه استعجل الشهادة، خاف أن تمر في موعدها ولا تجده أو تُخطئه، ويصير عليه الإنتظار من جديد، والإنتظار أي كان نوعه، نذل جبان خانع، وهو لن يرتهن له، لن يضع مصير شهادته بين يديه، سيلحق الدورية العسكرية بنفسه، سيرجمها كما يرجم المؤمنون إبليس، سيحاول كسر زجاجها، ليصير حجره قادراً على الإيذاء، وداهم الدورية العسكرية، وصار يصب غضبه عليها من خلال حجارة يديه، وكانت الشِباك الحديدية تحمي زجاجها، فلم يكن الجنود في خطر، لكنهم خافوا مخالفة الأوامر، خافوا أن ينسوا مهنة القتل حتى لو لدقائق، وسرعان ما فكر بعمل أكثر نجاعة، عندما رآهم يتهيأون للقتل، وهو لا يملك غير حجارة يديه وسيارة بمحرك نائم، فركب سيارته وإحدى يديه قابضة على بعض الحجارة، ليكون للعمل معنى أعمق وتأثير أشد، ليجابه موتهم الذي يحيط به إلى مجابهة بالقليل الذي يملك، وكان الوقت يتسارع بين رصاصهم المنسكب ومحرك سيارته النائم، لكنهم كانوا أسرع منه، ورصاصاتهم أسرع من عجلات سيارته، أمطروه رصاصات في القلب والرقبة والرأس، فضعفت نبضات قلبه ووهنت قوة ذراعيه، لكن قبضته لم تتراخَ عن حجارتها، ووقع بصدره المدمي على مقود سيارته معاتباً، لماذا لم يكونا أسرع منهم؟ فالمسافة بينهما لم تكن سوى يقظة المحرك النائم كبداية لتحرك العجلات، مجرد ثوانٍ خانته فيها تقديرات الزمن في معركة غير متكافئة، فهو لم يكن يوماً عسكرياً، ولوكان لأنتصر على جبن رصاصهم وحماقات سلاحهم، وبعدها، ربما، كان سيكون للشهادة طعم أجمل، وربما أجمل بكثير.

كانت، ما تزال، أصابعه القوية تعتصر حجارته، تشد عليها بعنف، وفضلت روحه أن تصطحبها معها للسماء، أن تُحوِّط بها ورود الحنون، فذهب للسماء دون أن يذهب معها لقريته، الأمر الذي أثقل قلبها وأدماه، لكنها عندما فكرت ملياً في الأمر، وصلت إلى استنتاجات أخرى، استنتاجات إنسان مؤمن، مدرك لرحمة الله ولطفه، يلبي دعوة الشهيد ورغبته، وقدرت أنها لو استشهدت هي أيضاً، فربما جعلها الله تستند على يدي ابنها وتذهب معه للقرية لتراها، لكن الأمر سرعان ما أربكها وكاد يشل حركتها، عندما تساءلت أما نفسها قائلة: “وهل أنا أريد الذهاب زائرة؟!!!”، وأكدت أنها تريد استعادة القرية وليس زيارتها، صلَّت بضع ركعات لله، طلبت غفرانه، ذكّرته بصبرها على شهادة ابنها، وهل هناك صبر كصبر أم تستقبل إبنها الشهيد بالزغاريد، ودموع عينيها تتسابق على خديها المكلومين؟ أن تجعل من جنازته عرساً؟ أن تزفه إلى التراب كأنما لليلة عرسه؟ أن تُوزع الحلوى بدل القهوة السادة؟ رفعت عينيها لتنظرا في عيني السماء الخجلة أمام عينيها، وطلبت من الله أن يحقق لها رغبتها…

قامت من بين يدي الله، كنست بيتها ونظفته، كي يستقبل البيت “المهنئين” بصورة تليق بهم، كي لا يقول البعض أنها استشهدت وتركت بيتها وسخاً، أربكها الأمر، فنظفته كما لم تنظفه من قبل أبداً، طبخت لزوجها وبقية أطفالها، أطعمتهم وأشبعتهم مما قسم الله، قبّلتهم للمرة الأخيرة، وعضت عل دمعاتها بجفني عينيها كي لا تخدعانها وتبللان المكان، ووسط دهشتهم التي لم يعرفوا لها سبباً، أسالت نبعاً من الإبتسامات كي لا تترك في رؤوسهم مُتسعاً لشك، توجهت لمطبخها لتختار أكبر سكيناً، وضعته في “عِبِّها” لتخفيه عن العيون، أوصت الجميع بالحفاظ على مفتاح بيت قريتها المسروقة، وغادرت مدعية الذهاب لزيارة بيت أختها، واستقلت أول سيارة توصلها إلى باب العامود في القدس.

كان الجنود يحيطون بمدخل الباب كالجراد، يُغطيهم السلاح مُدَججين به، وكانت الأم تتقدم منهم بخطوات واثقة، تتحسس سِكّينها المختفي في طيات ثوبها، وتحاول أن تعرف بحكمة عينيها أيهم أكثر شأناً، ليكون صيدها ذا أهمية وشأن، وكانت تحس بأن كل خطوة من خطواتها تتسارع للقاء إبنها الشهيد، ودون أن يرف لها جفن أو تهتز لها قناة، رفعت سكينها وألقت بكامل قوتها على صدره، وانطلقت رصاصات من جنود يختبئون خلف البنادق، وكأنهم في ثكنة عسكرية، جنود يطلقون على النساء من الخلف لأنهم يخشون العيون ويرتعبون من نظرات البشر، فاخترقت الرصاصات جسدها الهزيل، وتهاوى الجسد ووقع على الأرض ليعانقها العناق الأخير، وتمدد الجسد فوق أرض القدس، ليقربها خطوة أخرى من إنتزاع قريتها من براثنهم، وعيناها مفتحتان ناظرتان نحو قريتها القريبة، وصعدت الروح الى السماء والجسد مازال يعانق الأرض، لتجد ابنها الشهيد واقفاً مع الشهداء والأنبياء مستقبلين على باب الجنة، وكانت تستمع إلى أصوات المنشدين الآتية من خلف السماء، يام الشهيد وزغردي …كل الشباب ولادكي…

محمد النجار

 

 

 

إن قتل القنصل… إعدموه

التقينا على فنجان من القهوة في بلاد بعيدة في الغربة، وصرنا نقلّب صفحات الماضي، كعادتنا في تلك البلدان، ربما من باب التملص أو رفع العتب عن الذات، لاننا لا نستطيع جلدها بشكل دائم، وربما من باب الشعور أن وراءنا ماض نعتز به، وربما نوعاً من الهروب للأمام بأننا كان لنا ماضٍ، وكنا ذات يوم مناضلين وكان لنا شأن…

لا أريد أن أقحم نفسي في الموضوع بهذا الشكل المباشر الفج، فأنا لم أكن مثل صديقي “كامل”، فهو من كان السجن بيته وليس أنا، وهو الذي كان يأكل “العصي” كما يقولون، ومثلي لم يستطع حتى عدّها، لكن لكل منا دوره في هذه الحياة، وأن تفعل شيئاً مهما كان بسيطاً، أفضل بكثير من أن تقيد يديك وتحملق في سقف الغرفة، وكما ترون أنا الذي أخط شيئاً من كلماته لتعرفونها، فهو يعتبر قصصه هذه لا تعني الشيء الكثير، ولكنني أراها تعني ولو القليل، ولهذا سأخطها كما هي، دون زيادات تجميلية، بل من باب أمانة النقل وليس فلسفته، قال لي:

ـ ربما لا تعرف والدي…لك أن تتخيل رجلاً عاش ما يقارب القرن، لكنه لم يُسئ يوماً لأحدٍ في حياته!!!لم يُغضب أحداً!!! كان يقسو علينا إن أسأنا بقدر حنو أب وعطف أم وحنانها ويزيد، ولا يستطيع فهم إنسان لديه قدرة على أن يُغضب أحداً ويكون قادراً على أن يغلق، في ظلمات الليل، عينيه وينام…

وتابع وهو ينظر في اللاشيء، وكأنه يرى والده أمامه:

ـ إنه إنسان بسيط، بسيط طيب إلى درجة السذاجة في عيون البعض، لكنه رجل حكيم في رأيي أنا، ربما لأنه والدي! وربما لأنني أُصنّف نفسي بسيطاً مثله، فأرى في كلماته حِكَمَاً، لذلك بالنسبة لي فالأمر لا يخضع لنقاش أو جدال…

كان الوقت عصراً عندما التقينا، والمقاهي في هذه البلدان مكتظة بالناس، والغيوم في هذا الوقت من السنة تكون منفلتة سارحة في فضاءات السماء مثل قطيع خراف، وصل لتوه من الصحراء الى حقول خضراء معشوشبة دون نهايات، فانطلق في كل الأماكن متبعثراً في أماكن متجمعاً في أخرى، متحركاً في كل الأماكن والإتجاهات على غير هدى، هدّه التعب لكن الجوع اكثر، فصار يقطع بأسنانه العشب مسرعاً متخوفاً من انتهائه قبل أن يسد جوعه، وكن النساء في المقهى يحتسين كاسات النبيذ أو الجعة وقد نزعن حِمْل الملابس الثقيل من فوق أذرعهن العارية أو نصف العارية، معلنات، دون ضجيج، عن درجات حرارة النهار المرتفعة في ذلك النهار الربيعي، الذي يسير، دون توقف، إلى نهايته الأكيدة، يقابلهن حبيباً أو صديقاً أو زوجاً أو رفيق، تعلو قليلاً أو تهبط ثرثراتهم، و”كامل” وأنا، نشرب القهوة على طاولة منزوية بعيدة في أقصى المقهى، وكلماته تنز من حلقه، ليقذف بها لسانه مباشرة في أذنيّ، وعقلي يسجلها بقلم مخبئ في ثناياه دون أن يراه “كامل” الذي ظل يتابع، عندما رآني أنظر إليه بإهتمام دون أن أقاطعه:

ـ كان المرحوم أبي يظل يحدثني عن “بيت عفّا”، قريتنا المنسية في جنوب فلسطين، مؤكد أنك لم تسمع بها، “تُحيط بها العديد من القرى والمدن الفلسطينية، مثل عراق السويدان وعبدس وبربرة وحمامة وجولس والسوافير والجلدية وبيت داراس، وكرتيا  وعشرات من القرى الأخرى، وكانت على مرمى العصا من المجدل والفالوجة، وأصوات الرصاص تُسمع من بعيد، والثوار يتجمعون ليدفعوا العصابات بعيداً عن أراضيهم، تلك العصابات التي أتت من بعيد بمساعدة الإنجليز، فلجأ الثوار لبيع “ذهبات” نسائهم ليشتروا حفنة رصاص أو بندقية عتيقة ما زال بها بقية حياة، فالناس كانوا مُوَحَدين متضامنين، قلوبهم على قلوب بعض”، قال والدي وأكمل:

ـ هل هناك ما يمكن أن يوحدهم أكثر من الدفاع عن قراهم؟!!!

قال “كامل” وتابع، و”أكمل والدي الحديث متأثراً بما سيقول، وكأن تأثير ما سيقوله يداهمه بشكل مسبق”:

ـ حاولوا اقتحام القرية أكثر من مرة، لكن الرجال يابني لا يُفرطون في شرفهم، وهل هناك شرف يطغى على شرف القرية؟ حتى عندما احتلوها من أيدي الثوار، حررها الرجال من جديد، ولما عادوا لإحتلالها بصعوبة كبيرة في المرة الثانية، حررها الرجال مرة أخرى، دفعوا مقابل ذلك دماً وأسرى ذبحتهم عصاباتهم كالخراف، كان يمكن تلخيص الرجل آنذاك بالجرأة، فمن لم يكن مقداماً مواجهاً شجاعاً لم يكن يُعد من بين صفوف الرجال، ولما عادوا واستقدموا المئات من رجال عصاباتهم وسلاحهم الجديد واحتلوها، حررها رجال مصر هذه المرة، رغم السلاح الفاسد الذي ورّدوه لهم، عندما كان المرحوم عبد الناصر يقود غرفة عملياته ويقاتل في المجدل، مُدركاً أن إحتلال فلسطين مقدمة لإحتلال مصر والعالم العربي كله، وأن فلسطين لم تكن أبداً الهدف الوحيد، بل هي العنوان الذي يُغطي الأهداف الحقيقية المُخبأة في أدراج السياسة، لذلك ظل يقاتل ويرفض الأوامر القادمة من خلف جدران القصور…

وكان والدي يتابع:

ـ كان لنا هناك بضعة دونمات يابني، وصيتكم بها، لا تتركونها في أيدي هؤلاء، عملنا أنا وجدك وشقينا لشرائها، سجلنا بعضها باسم أعمامك الذين كانوا صغاراً حينئذٍ، وسجلنا القليل منها باسمي واسم جدك، لم يكن أحد يفرق بين نفسه وبين أخيه أو عائلته…

ثم استدار بوجهه نحوي وكأن كلمات الملكية هذه لم تكن إلا مقدمة ضرورية لما سيقول:

ـ احفظ ما سأقوله لك…

وصار يُسمي لي المناطق التي اشترى منها، جعلني أسجل أسماء الناس الذي اشترى منهم، رغم أن بعضهم صاروا في “دنيا الحق”، وتابع:

ـ عليكم الرجوع إلى هناك، مهما كانت الصعوبة عليكم الرجوع، أعرف أن الطريق صعب وطويل، لكن “لا يحرث الأرض غير عجولها”، مدوا أياديكم واقتلعوهم من أرضنا، من لا أرض له لن يجد مكاناً لتقف عليه قدميه في هذا العالم، تظل وقفته خاوية ضعيفة معرضة لتطيح بها حفنة من رياح، تشبثوا بها واحضنوا أشجار المكان لئلاّ تنتزعكم العواصف، من لديه جذوراً سابحة في طيات التراب ليس من السهل إنتزاعه، وإن انتزعوه برعمت جذوره من جديد، أعرف انهم لم يُبقوا غير بضع شجرات من الجميز والصبار، وأنهم اقتلعوا البيوت وحدائق المنازل والعمران كله ، وأهالوا التراب في بئر الماء الوحيد بعد أن سمموا مياهه كي لا نعود، معتقدين أنهم مسحوا آثارنا، لكن تلك الشجيرات نحن من زرعها وسقاها وكبرها، هي شهادة لنا، فبصمات أيدينا مازالت على كل غصن ووريقة منها، لذلك يابني وصيتكم بيت عفّا…أتفهم بيت عفّا…لأننا سنبنيها من جديد…

فقلت له:

ـ كنت أعتقد أنك ستقول لي “وصيتك فلسطين يا أبي وليس بيت عفّا…”

لم أره يلبسه الغضب إلى هذه الدرجة، قال:

ـ وهل تكتمل فلسطين دون بيت عفّا ياولد؟ ألم أُعَلِّمك أن من يفرط في بيت عفّا يفرط بفلسطين؟ لا تصدق أحداً مهما علا شأنه يُفرط ببيته مدعياً أنه يريد تحرير فلسطين بدلاً عنه، مَنْ لا خير منه لبيته، لبلدته، لقريته، لمدينته، لا خير يرجى منه لفلسطين، ومن لا خير منه لأهله لا خير منه للآخرين، أفهمت الآن؟!!!…

قبلت رأسه كعلامة إعتذار، وقبل إعتذاري بقلبه الواسع بصعوبة، علّه أراد أن لا أنسى هذا الدرس أبداً، وكما ترى فأنا لم أنسه.

وسكت كامل عن الحديث، فقلت كي لا أظل صامتاً مثل أخرس:

ـ وما الذي ذكرك به الآن؟

قال بتأكيد شديد:

ـ لعلني لم أنسه أبداً ، خاصة عندما أكون محتاجاً لحِكَمه، وأكاد أجزم أنه يحضر هو بذاته ليعلمني درسا جديدا في كل مرة…لكني تذكرت الآن أمراً مما استوجب حضوره من جديد.

ـ ما هو؟

سألت وقد راودني الفضول، فقال:

ـ كنت في التحقيق بعدما أنهيت سنوات دراستي، وكان التحقيق جاداً، كونهم، كما استخلصت، كان لديهم أسباباً تستدعي سجني في عرف دولتهم…

وضحك “كامل” ورسم بشاهديه علامة قوسين، وكأنه أراد أن يخبرني بجملة معترضة وسط كلامه وقال:

ـ لعلني يجب أن أخبرك أن أبي يعرف كلمة “القنصل”، وربما لا يعرف معناها بالضبط، كما لا يعرف عمل أو وظيفة القنصل، لكنه يجزم بينه وبين نفسه أنها الوظيفة الأرفع في التاريخ، ومَنْ يصل إليها يكون قد أتم كل شيء، ويكون قد وصل إلى درجة الكمال، يعني “ختم العلم” كما نقول نحن المثقفون هازئين…

واتسعت ابتسامته التي ظلت متشبثة بشفتيه رافضة النزول، وأكمل:

ـ ولما استعصيت عليهم في التحقيق، واقتنعوا أن الصخرة التي بين يديهم لن تنز ماء أبداً، قرروا أن يلجأوا لوسائل ضغط علي، فأحضروا والدي…

كان “كامل” يسحب أنفاساً من سيجارته وينظر إلى السماء، وكأن والده ينظر الينا من علوّه هناك مناشداً ابنه التمسك بالحقيقة فقط، وتابع:

ـ أجلسه ضابط التحقيق مقابله، وبدأ بإقناعه أن يحدثني ويقنعني بالتجاوب معهم، وقال له:

ـ إن لنا عند ولدك دين ياحاج، وجاء الوقت لسداده، فإنْ أبى التسديد حاكمناه وسجناه، وإن سدد تجده في بيتك قبل أن تصل له، هذا إذا لم تأخذه بيدك وأنت مغادر من هنا…

اقترب أبي بكرسيه من الضابط وسأل، بكل ما فيه من غضب، بإستهزاء:

ـ وهل تأكدتم أن ابني هو مَنْ قتل “القنصل”؟

كان استغراب الضابط كبيراً، فسأل أبي يريد أن يعرف أكثر، واعتقد أن هناك صيد ثمين، مادام الحديث يجري عن عملية قتل، فقال:

ـ القنصل؟! عن أي قنصل تتحدث ياحاج؟

فقال أبي مؤكداً:

ـ القنصل… وكم قنصل في هذه البلد؟

ـ آه أفهم، قل أنت لأتذكر، لا بأس مادمت تريد تسديد دينه…قل…

قال ليجعل والدي يتحدث عن عملية “القتل”، ورن على جرس من تحت مكتبه حتى إذا جاء أحد الجنود طلب كأسين من الشاي، وتابع:

ـ قل كل ما تعرف، وليقدرني الله على عمل الخير لإخراج إبنك من محنته…

استغرب الحاج هذه اللغة الناعمة، لكنه لم يفكر بالأمر كثيراً، فهو رجل بسيط كما تعلم، لكن ذهنه ظل مشدودا لما يريد قوله فقط، فقال:

ـ أنا الذي يعرف؟ أنتم تدّعون المعرفة، وأنا أقول لكم إن كان ابني قد قتل “القنصل” إعدموه…

دخل الجندي بكأسي شاي ووضعهما على الطاولة، وقدم الضابط الشاي بنفسه لأبي، فأرجعها والدي من أمامه للخلف كمن يرجع بكفه فاحشة تتقرب منه، وكان قد تذكر كلماتي، برفض التعاطي مع رجال المخابرات لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بأي شيء آخر، فظل متذكراً المبدأ لكنه نسي الأسباب والمبررات، وقال:

ـ عندي السكر… لا أشرب الشاي… ولا غيره

قال جملته الأخيرة كي لا يعود الضابط ليعزمه على مشروب آخر، وقال الضابط الحانق مفتعلاً الهدوء:

ـ كما أخبرتك ياحاج، عليك مساعدتنا بإسترجاع دَينَنا، أرأيت مديوناً طليقاً دون أن يسدد دينه؟

فقال والدي جازماً:

ـ طبعاً رأيت ، ألم تسرقوا “بيت عفّا” ولم ترجعوها بعد؟

ـ “بيت” مَنْ؟… عفّا؟ وما هذه ال”بيت عفّا”؟!!!

فقال والدي معتقداً أن الضابط  يستهزئ به:

ـ أنسيت بيت عفّا الآن؟ “بطلت” تعرفها؟ قريتي في الثمانية واربعين، أم نسيت هذه أيضاً؟!!!

وضرب صدره بكفه ليأكد أنها قريته، ووقف على قدميه وقال:

ـ هيا أرونيه كي أخبره أن لا ينسى “بيت عفّا” التي سرقتموها ولم ترجعوها بعد، وما دام الأمر يتعلق بالديون لنرى مَنْ لديه عند الآخر ديناً!!! وكيف سيتم تسديده…

فاستدعى الضابط الجندي غاضباً، صارخاً أن يوصلوه مباشرة للباب الخارجي، قائلاً:

” ألم تنسوا بعد كل هذه السنين؟”أخرجوا هذا المجنون برّه…بــــــرّه

وأخرجوه، وهو يسأل:

ـ ننسى؟ أننسى ماذا؟ربما تقصد بيت عفّا؟ ماذا تقول أيها المجنون؟

وأخرجوه ختى باب السجن الخارجي، وبقيت جاهلاً بالأمر ولا أعلم عنه شيئاً حتى خروجي من التحقيق…

وظل ينظر كامل في حقول السماء، الى الغيمات المبعثرة على أطرافه كقطيع خراف متفلّت متبعثر، وقلت له لمّا رأيت ضجيج سكوته يسيطر في المكان:

ـ أتذكر خالد؟

ودون أن أنتظر إجابة، أكملت، حيث أن خالد صديق لكل أفراد العائلة:

ـ صديق عائلتكم، أخبرني ذات يوم أنه كلما رأى والدك كان يرى فيه رجل تلك اللوحة، لوحة سليمان منصور، جمل المحامل، الذي يحمل فيها القدس على ظهره…

لم ينظر نحوي لئلا أرى دمعتي عينيه المترقرقتين، فيخجل او يشعر بالحرج، لكنه قال:

ـ لعله كذلك… رحمه الله…

وظل يتابع بعينيه خراف السماء

محمد النجار

هذيان…

وُلِدَت، “عائشة” في ليلة ظلماء حالكة، كان الليل خينئذٍ قد إندلق واستحكم في الأشياء، فاقتحمت الظلمة البيوت والطرقات وأشجار الحقول، وكانت الشمس بالكاد تسترق لحظات من طول النهار، وما تكاد تظهر حتى يهاجمها الليل والظلمة وقطاع الطريق، في تلك اللحظات ولدت عائشة، ولدت من رحم الأرض، تحت دالية مجاورة لتينة عتيقة وشجرة زيتون لم يتعدى عمرها الألف عام بعد، ولدت هزيلة ضعيفة بالكاد تستطيع الحركة، مكبلة بقيود من سلاسل صحراوية قاسية، من وهم ووهن وذل وخنوع، خطواتها قصيرة قليلة ضعيفة مترنحة مرتجفة، تمشي بحكم إرادتها وإصرارها فقط، رغم السياط التي تنهال على جسدها الضعيف الرضيع من غير إتجاه، باسم الدين تارة والعادات والتقاليد تارة أخرى، أو بإسم القانون الذكوري الأبوي الحاكم المتحكم بحركات الفتيات في كامل العشيرة والعشائر المجاورة.

هناك ولدت وأسموها “عائشة”، أملا أن تعيش هذه المرة، بعد كل حالات الموت التي أصابت مثيلاتها، أسموها “عائشة” أملا في أن تعيش، صلّوا من أجلها، إمتنعوا عن الأكل وأطعموها، دون أن يعلموا شيئا عن معجزاتها.

كانت “عائشة” من أيامها الأولى تزحف على أربع، على يديها وقدميها، وبالكاد يستطيعان حمل جسدها الضعيف، لكنها، وهذه معجزتها الأولى، وُلدت قادرة على الحركة، قادرة على الزحف على أربع، ورغم ظلام الليل، فقد كانت قادرة على الرؤية، إذا لم يكن ببصرها فببصيرتها، وجاءت للحياة باسمة ضاحكة دون بكاء ولو بدمعة واحدة على عادة المواليد، وهذه معجزتها الثانية، طفلة بريئة نقية جميلة متفائلة، وعلى غير توقع، ورغم كونها فتاة أنثى وليست ولداً ذكراً، جلبت البسمة والفرح لأهلها وعائلتها وعشيرتها جميعاً، وخلقت كمعظم الأطفال حياة وحركة وفرحة داخل البيت رغم هشاشة عظامها، وفقر دمها الذي ولدت به، وعضلاتها الصغيرة الضعيفة.

الغريب أن هذه الطفلة “عائشة” كانت توحي بأشياء غير مألوفة في محيط المنزل والعشيرة كلها، وكانت، ربما الطفلة الوحيدة، التي تولد من رحمٍ رغم خصوبته، إلاّ أنه مُحاط بالخوف والجوع والأمراض، بفقر الدم والسرطان ، وبأرحام هزيلة مريضة عاجزة، يتحكم فيها شيوخ القبيلة وصديقهم الأبيض ذو العينين الزرقاوين، داخل قبائل متخصصة بولادة الأولاد دون البنات، وإذا ما ولدت فتاة كانوا يتحون المآتم ويسكبون الدموع، رغم أن أولادهم كانوا  بقلوب قطط مرتعدة خائفة من الأيام ومن المجهول، أولاد لا يحبون المغامرة، يصلون لله ولزعماء العشيرة وشيوخها مرّات، وربما من باب الأدب والأخلاق والدين، لا يخرجون على رأي الزعيم وطاعته حتى لو كان ظالماً، ويخافون، مثل شيوخ العشائر وزعمائها، من غضب قادم من أرحام النساء، التي ربما تُفاجأهم وتلد ما يردعهم ويضع حداً لذكوريتهم المفرطة، دون علمهم أو في غفلة منهم، الأمر الذي يخافون منه ويهابونه، أو من ولادة قد تُثمر زرعاً غير زرعهم، ونسلاً يعاند نسلهم، فيصير المولود مارداً يُنغص عليهم حياتهم ولا يراعي حرمة لصديقهم الأبيض ذو العينان الأزرقين.

إنتفض زعماء العشائر كلها لمّا علموا بالولادة “الشاذة” من خلف عيون زعماء العشار، إستصرخوا واسعانوا واستدعوا زعيم عشائر الصحراء الذي كان في قيلولة عميقة، صدى شخيره يتردد فوق الرمال، عيناه تائهتان في حلم يتنقل فيه بين نسائه الأثنتان وعشرين، رغم نشاز بعضهن، وكان يود، لو ساعده الحظ قليلاً لجعلهن أربعين أو خمسين، لكن رفض إحداهن وتحريضها ومقاومتها له ولصديقه الأبيض، حرمه من هذا الأمل ومن تحقيق هذا الهدف، كان يحلم حائراً عند أيهن يبيت ليلته القادمة، ويده تناغي خصيتيه اللتين زينهما بالجواهر واللآلئ، وعطّرهما بأجود أنواع الطيب والمسك، وبخّرهما بالبخور الهندي وقرأ عليهما خوفاً من العين والحسد ، تداعبهما يده وتسقيهما من زيت الصحراء، خصيتاه اللتان طالما قرح بهما وكانتا عنوان فخره، فظل يزداد حرصاً عليهما ويود تقبيلهما لتقديم الشكر والعرفان لهما، هو خير من يعرف أن “الذكر” لا يساوي شياً دون خصيتيه، وأنهما عنوان عزته وكرامته وفخره وكبريائه، لذلك عليه حفظ كرامتهما وحفظ الجميل لهما، ولذلك أيضاً نادراً ما كان يتركهما وحيدتين في ظلام الليل، بل يتفقدهما ويداعبهما ويُزينهما ويسقيهما زيت الصحراء بدل الماء إعترافا بجميلهما. كان يحلم مفكراً بفتيات “الفرنجة” اللواتي أحضرهن صديقه الأبيض ذو العينين الأزرقين، هدية خالصة صافية لا يريد لها رد جزاء، أيقظوه من أحلامه الجميلة تلك، رفعوا يده عن خصيتيه ليعاود عقله العمل، أخبروه بالمصيبة التي يمكن أن تحل بالعشائر  كلها نتجة لميلاد طفلة في بلاد التين والزيتون، على أطراف الصحراء البعيدة، باسمة ضاحكة تحب الحياة ، هناك حيث الكلأ والماء والأشجار ونسائم الهواء.

أفهموه بأن البسمة والضحك يجلب الفرح والبهجة، وهذا مسموح للزعماء ممنوع على العامة، كي لا يغويهم الشيطان ويبعدهم عن شرع الله، فيصبحوا متعلقين بالحياة الدنيا الزائلة، فيطالبوا بنصيب من مال زعماء العشائر أو يتشبهوا بهم، وهذا مخالف لدين الله وشرعه وتعاليم شيوخ الإسلام وعلى رأسهم ابن تيمية وتلامذته وصولاً لمحمد ابن عبد الوهاب رضي الله عنهم جميعاً، والله سبحانه يقول “والآخرة خير وأبقى”، فأقلقوا منامه وقطعوا أحلامه، فارجفت خصيتاه وارتعدتا، فشاط  واستشاط وعنّف، وفتى لهم وأمر برقابة تلك الطفلة، حتّى الإمساك بها ووأدها حية تحت تراب الأرض وطينها، فتصير عبرة لمن إعتبر ولمن أرادت أن تولد باسمة ضاحكة ومحبة للحياة، ولمّا ذكّروه بقول الله “وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت” أمر “طال عمره” بحذف هذه الآية من القرآن قبل أن يعود ليناغي خصيتيه مدللاً معتذرا.

ورغم كون الطفلة وحيدة، أو، على الأقل، لم يُبلّغ عن ولادات أخرى مُشابهة، في عشيرة تتفجر أرحام نسائها بالأجنة، حيث كان رجال عشائر الصحراء وصديقهم الأبيض يقتلونهن في الأرحام، أو يُفجرون الأرحام كيلا يفاجأهم حمل أو ولادة لفتاة، تخوفاً من عار يجلبنه للعشيرة، إذا ما كبرن وبان حسنهن ونضجت براعمهن وأثمرت جمالا وحبا وحياة، فتتبدل وتتغير ملامح العشائر الجادة المُهابة بين الناس وبقية عشائر الكون، فيحل الفرح محل الغم والتفاؤل مكان التشاؤم والنور بدل الظلمة والحياة محل الموت، وينتشر هذا المرض المعدي، في المجتمع وبين الناس، كما النار في الهشيم، لذلك يرفض كل زعيم ” أن ينام في القبور كي لا يرى أحلاماً مزعجة”، ويُفضّلوا “إقتلاع الضرس للتخلص من ألامه” .

كان شيوخ العشائر يعتبرون أن الفتيات على وجه التحديد، يُشكلن خطراً على مصالحهم ومصالح المجتمع برمته، فدائماً ما تيقّنوا أنهن يجلبن العار والفتنة، يستقطبن شباب العشيرة و”يُخربن” أخلاقهم، فيُبعدونهم عن ذكر الله فيهجرون بيوته، فشباب العشيرة، كمعظم الشباب وأي شباب، دائماً ما استهوتهم الفتيات الحسان الجميلات، خاصة عندما يكن حاسرات سافرات، فيلحق الشباب جمالهن ويُعجبون به، ثم يقعون فريسة عشقه الذي ينمو ويكبر في الصدور، ولا يستطيع أحد السيطرة عليه بعد ذلك، وهذا وحده كفيل بتعميم ثقافة الحب والعشق والحياة بين الناس، بدلاُ من ثقافة الكره وعذاب القبر وبول البعير، الأمر الذي كان يُخيف شيوخ القبيلة وزعماء العشيرة ويُرعبهم فوجب  الإحتياط منه، الأمر الذي فرض سياسة وأد المولودات في الأرحام، حتى قبل أن يولدن، ليقضون على “المرض” قبل وصوله، ويظلوا في مأمن منه.

أحد لم يعرف كيف إستطاع هذا الرحم إخفاْء الجنين طوال فترة الحمل، كيف تغلّب على حواجز تفتيشهم، أو غلى مداهمة الأرحام المفاجئة، رغم أن عيونهم جمعاء لم تكن لتفارق مراقبة أبوابه، وما أن ينتهي أحد الزعماء من الرقابة أو المداهمة أو التفتيش، حتى يكون هناك من يحل محله، فهذا الرحم، على وجه الدقة، رحم مشاغب متمرد، وكانت لديه محاولات متتالية للولادة، بعضه قتلوه في مهده وبعضه قبل ولادته أو بعدها بقليل أو كثير، لكنه طالما كان ينجح في الولادة، وطالما كانوا هم أيضاً ينجحون بوأد المولود بعد ولادته مباشرة، وأحد أسباب تخوف شيوخ العشائر وزعمائها، وكذلك صديقهم الأبيض ذو العينين الزرقاوين، أن المولودة لا تُشبههم، وترفض أن تُشبههم بشيء، ولا تريد التشبه بهم، وهي عنيدة مخالفة وعصية غلى الكسر، الأمر الذي يجبرهم على المضي بسياسة الوأد في الرحم أو بعد خروجه، دون أن يتركوا أمامها متسعاً من وقت لتعيش أو تكبر، وها هي ترفض أن يكون لها أبٌ ممن يُقررونه لها، وتُفضل أن تظل يتيمة على ذلك، كما أنهم لا يمكنهم التساهل فيما يخص أمر الله، فهم لا يقبلون تجاوزاً أو حتى مجرد حوار في مثل هذا الأمر، ف”المرأة ناقصة عقل ودين” و”لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة”، وهذه الطفلة ستكبر وربما نفضت عن نفسها غبار الماضي وألم السنين وقررت فجأة أن تمسك بيدها قرارها؟!!! فما العمل حينئذٍ؟!!! ويؤكد زعماء العشيرة وشيوخها، أنهم لن يمانعوا لو أن لديهم ضمان واحد، واحد فقط مهما كان صغيراً، لو أنها تقبل أن تكون نسخة عنهم، أو أن تتشبه بهم، أو بالرجل الذي يرتضونه لها أباً، بل وسيساعدونها أيضا بالمال والزيت والرمل والعلف وبول البعير وأبوال الشيوخ، وربما وجدوا لها عريسا من زعماء العشيرة، لأنهم  مؤمنون دوماً بأن “مَنْ شابه أباه ما ظلم”، لكن كل المؤشرات تشير إلى أنها ترفض كل خيوط التشابه مع زعماء العشائر وشيوخها جميعاً، وراحت تتشبه بالرعاع من فقراء العشيرة  و”أرذال” القبيلة وصعاليكها، وهنا مربط الفرس.

لقد ولدت هذه الطفلة وفي جعبتها الكثير من المفاجآت، لا يدري أحد كيف ومن أين أتت بهن، لكن الجميع كان يرى هذه المفاجآت بعد أن تتم، ففجأة ودون سابق إنذار، لا يعرف حتى الآن أحد، رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن على ولادتها، كيف إستطاعت في تلك اللحظة وذاك العمر الغض، أن تقطع القيد الحديدي وتمزقه إرباً إرباً وترميه بعيداً خلف الصحراء، حيث يسكن أصحابه في قصور من رمل هناك، وصارت حرة طليقة لم يعد باليسر والسهولة على أحد ترويضها.

وكيف إستطاعت أن تشب وتكبر وتنضج بين عشية وضحاها، وتصير صبية جميله فارعة الطول والحسن ولا ينقصها المنطق، وكيف كسرت قيد العشائر كلها، كيف قوي واشتد عودها وقست عظام ساعدها بهذه السرعة، رغم تكالب زعماء العشيرة وصراخهم على تجاوزها لقوانين القبيلة ودوسها عليها بأرجلها الجميلة و”بصطارها” الثقيل ولباسها المرقط، وعلى هيبة الزعماء والأمراء ورؤساء العشائر كلها، وبخروجها على عادات القبيلة وتقاليدها التي جنحت للسلم منذ قرون، فتنادوا جميعاً لحماية شرف العشائر التي تهتكه وتنتهكه هذه البنت الشاذة العاقّة كل يوم في كل الميادين، خاصة بعد أن صار شبان القبيلة يمتدحون جمالها وحسنها، ويتغزلون بقوامها وصدرها وحسن وجهها، واصبحوا مفتونين بها وعلى خطواتها أراد معظمهم السير، بل إنها صارت فتنة للرجال من خارج القبيلة، وصارت القبائل البعيدة تحسدها على هذا الجمال الفتّان، إلا القليل منها.

وقيل أن الزعيم الأكبر للعشائر كلها، أكد أن هذه البنت العاق صارت تنافس جمال بنات العشائر كلها، اللواتي كن مكسوّات بالذهب والجواهر من رؤوسهن حتى أخمص أقدامهن، وأنها بأثوابها البسيطة المرقطة وأنوثتها الطاغية جلبت الأنظار إليها ومنعته عن مثيلاتها المذهبات والمتجوهرات، واستقطبت كل نساء العشائر ورجالها من العامة، وفرضت دون كلمة واحدة منها قانون الجمال الطبيعي الذي لا يفوقه جمال، حتى لو ترصع بالذهب والفضة، الأمر الذي يفرض عليه كزعيم أن يقف في صف حماة الذهب والفضة الذي تحاول تلك الفتاة إخفاءه والتقليل من شأنه، وأن يمنع تأثيرات جمالها ونسائم عطرها الفوّاح عن عشيرته وكل العشائر الأخرى المتفرقة، حتى لو كان بقتلها واغتيالها رغم تحريم الله ذلك إلا بالحق، وهو بالحق سيفعل ذلك ويقتلها، لكنه قبل ذلك قرر إغلاق أبواب البيوت ونوافذها، وقيّد رجالها وغمّى عيونهم كيلا يروا ما يغضب الله مما تفعله هذه الفتاة، وغطى آذانهم كي لا تسمع، وأمر بحشر النساء كالإبل في المزارع والبيوت، لأنهن أكثر خطرا وأشد فتنة، فهن يُثرثرن ويحِضن ويلدن،  واستحضر شيوخه المحرمات جميعها وألقوهن على رؤوس النساء، وحرموهن من الجنة إن هن خالفن بعولهن أو رددن له طلبا، وإن حرضنه على ولي الأمر، ثم أمروا بلفلفتهن وبرقعتهن وضربهن ومنعهن من الخروج من بيوتهن إلّا للقبر، لكن الزعيم الأكبر كرجل حسّاس مؤمن بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، يؤمن أيضا بالشورى والديمقراطية كما يقولون، وعملاً بالآية الكريمة “وشاورهم في الأمر” و”وجادلهم بالتي هي أحسن”، فهو سيشاور نُظرائه، حتى لو كان لا يعترف بنظير له، ويجادلهم ويحاورهم ويستمع لأقوالهم جميعاً وأحاديثهم، لكنه سيفعل ما برأسه، رغم قناعبه، وبحمد الله، أنه لن يجد من يخالفه رأيه أو يخرج عن طوعه.

رأى زعيم العشائر وشيخها الهوان والمذلة والإنكسار في عيون سادة القوم جميعهم، كانوا متخوفين جميعاً من العار الذي يمكن أن تجلبه لهم هذه المصيبة التي حلت فوق رؤوس الجميع، والعصيان الذي بدأ يدخله ويمارسه شباب العشائر، وحالة العشق المتفجر التي أصابتهم وما زالت يوماً بعد آخر،  بإغوائها لهم وفتنتها، بجمال مشيتها الأخاذ أثناء إستعراضها للباسها المرقط و”بصطار”رجليها الكبير، الذي لا يعرف أحد سر أو مكمن الجمال فيهما!!!      إقترح بعض الزعماء أن يتركوها مؤقتاً، ويفرضوا حصاراً على الأرحام في بطون النسوة في بقية العشائر الأخرى، خاصة وأن هناك رياح تحمل في طياتها حملاً يلوح بالأفق، حمل ربما يأتي بمعجزات أكثر من المعجزات التي جاءت بها هذه الطفلة، ومن يدري، فربما تكون أكثر جمالاً وأكثر فتنة أيضاً!!! لذلك لا بد من مهاجمة البطون والأرحام، والإستمرار بحجب آذان النسوة عن السمع وعيونهن عن البصر،  كي لا “يَغرن” منها ويفعلن ما فعلت، فالمأثور الشعبي يقول “لولا الغيرة ما حبلت النسوان”، وأن يجعلوا الزعماء يقاطعوا فروج نسائهم ويتوجهوا لغزو فروج الفرنجة، من بلاد بعيدة وقريبة، كي يضمنوا عدم الحمل وإنجاب ما يشبه تلك الفتاة التي نمت رغم أنوفهم جميعاً، لكن البعض قد رد بوضوح مُشككاً بهذه الأقوال، رغم أنهم على أي حال يؤيدون غزو فروج نساء الفرنجة، عملاً بقول رسول الله صلى الله عيه وسلم “غربوا النكاح”، ويقنِّنون الإقتراب من فروج نسائهم منذ زمن، لأنهن صرن مثل أخواتهم، ولا أحد يعرف لماذا،  لكن السر الذي كشفته “عرافة” الشيخ الكبير، زعيم قبيلة رمال الصحراء، هو أنهم مهما أنجبوا لن يستطيعوا أن يورِّثوا مثل هذا الإنجاب، ولا حتى ما يشبهه، فهم لن يُنجبوا سوى أشباههم، الذين لا يجلبون لعشائرهم وقبائلهم سوى العزة والإباء والشموخ والإكبار، فهم ليسوا مثل بقية “خلق الله” وخاصة الرعاع منهم، وذكرتهم بقول الشاعر الحطيئة الفقير لكنه رغم ذلك نطق بكلمة الحق حيث قال:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم                  ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا.

كانت الطفلة قد صارت فتاة تزداد جمالاً مع تقادم الزمن، وكلما مر الزمن فوق جسدها، كلما صقله وجمّله وزاده حسناً، وطالما كانت تلك الفتاة تسير، كانت تزداد محاولات القبيلة التخلص منها لينتهي عارها، لكن امر محاولات قتلها لم يعد سراً أمام شباب القبيلة، الذين صاروا يُحذّرونها، يلتفون حولها، ويسمعونها غزلهم الرقيق بها، وإعجابهم بجمالها الساحر، متمنين عليها أن تبعث بنسائم عطرها ليصل، شبابهم في عشائرهم البعيدة، رحيقة، ليخترق الحصار المفروض على الحدود والفضاء ونسائم الهواء ورمال الصحاري.

وصار الكثير منهم  يزورها ويلبس لباسها، خاصة بعد أن صارت نداً ولو ضعيفا لبنت الرجل الأبيض، صديق الشيخ زعيم قبائل الصحراء والرمال وأتباعه، ذو العينين الزرقاوين، يتحدثون كما تتحدث، ويفتتنون بما يسمعون منها من كلمات وأحاديث، وتحولوا لعاشقين لكل ما تفعل، فالعشق إذا ما دخل قلباً حوّله إلى قمر مشع مضيء، يفرد أنواره عل كل الأشياء، مَن دخل العشق قلبه حسن في عينيه ما ترياه، وفي أذنيه ما تسمعاه وفي أيديه ما تفعله، من يعشق يظل يمارس عشقه بطريقته، ورغم عذابه فهو يرفض أن يتوب.

صار الجميع من علية القوم يرون فيها خطراً أكبر مما ظنوا، وأدركوا أن وجودهم مرهون بوأدها وقبرها دون أن يعلم أحد أو يحس ، فحتى قتلها بطريقة فجة ستجعلهم في مرمى سهام شباب القبيلة، فصارت محاولاتهم متكررة متعددة، لكن الفتاة كانت تشع ذكاء بجانب حسنها، فما فائدة الحسن إذا لم يكتمل بالذكاء؟!!! ما أهميته إن كان مرتعاً للعيون الحاقدة الحاسدة والأيدي الطويلة المتحرشة، إذا لم يكن عقلاً يتدبر التعامل مع الأحداث جميعاً، وأيدٍ قوية تحرسه، يكون مثل وردة ضعيفة هزيلة “تتناتشها” الأيدي العبثية المارة وتعبث بها الأصابع القذرة، وفي حالتها، حيث حالات الولادة صعبة ونادرة و مراقبة وملاحقة، فالحفاظ على الذات أمر في سلم الأولويات،  من أهم الأسس لتنمو وتكبر وتُثمر وتنضج وتعطي الحياة، وكانت دائماً ما تقارن نفسها بشجرة زيتون على بعد نظرة عين واحده، تظل تعطي وتعطي دون كلل أو ملل، دون شكوى أو عتاب، لكنها تدرك أن عطاءها مرتبط بصحة الجذور داخل حبيبات الأرض وبين طيات الصخور، بأوراقها اللواتي إن تنازلت عنهن ولو مرة واحدة سيجف الساق وتنتحر الجذور، فهذه الفتاة كانت تحمل حكمتها، تمتصها من الطبيعة والأرض والهواء وأشجار الزيتون، من حركتها في الليل والنهار، من “بصطارها” وملابسها المرقطة وسواعدها، من مشقات الطريق.

رأى قادة العشائر أنهم عاجزون عن وأدها واغتيال الحياة فيها، وربما هي عصية على ذلك، فقرروا تغيير الأساليب ويظل الهدف نفسه واحد، “واحد لا شريك له”، القتل مع سبق الإصرار والترصد، لكن كيف وبيد مَنْ؟

كان زعيم القبيلة، الشيخ الكبير لا يخفي عن صديقه الأبيض الذكي ذو العينين الزرقاوين سراً، وشريك له في بعض تجارة، ويأتمنه على نفسه وماله كما لم يأتمن أحداً من أبناء عشيرته، حتى أنه يُخزّن هناك في خزائنه أموال العشيرة كلها، مطمئناً عليها أكثر من إطمئنانه لو كانت بين يديه، وكانا يجلسان يتسامران بين فينة وأخرى، يشكو فيها زعيم العشيرة الكبير ما ينغص عليه لصديقه الأبيض، يستمع منه لنصائحه ويقوم بتنفيذها وكأنها أوامر من الله رب العباد سبحانه، لأنه خير من يعلم أنه لا يريد به وبعشيرته إلّا خيراً، فرد عليه صديقه قائلاً:

ـ ألم أحذرك من هذا الخطر منذ سنوات؟ ليس أمامك سوى أن تضع يدك بيد إبنتنا، فهي جميلة وأكثر حسناً وأكثر ذكاء، وذات حسب ونسب، وفي الوقت نفسه أغرقها بالمال!!!

لكنه هذه المرة لم يكن مقتنعا بهذه النصيحة، بل أجابه زعيم العشيرة:

ـ نحن لم نقصر بحق إبنتك الحسناء، أما بما يخص تلك الفتاة، فيقولون إن “المال قوة”، هل تريدني أن أزيدها قوة فوق قوتها، كي تقوى عظامها وتقسى ويشتد ساعدها أكثر، ولا يعود بالإمكان ترويضها؟”

فقال له بثقة كما يفعل دائماً:

ـ الملابس المرقطة والمال لا يجتمعان، فإما أن تلبس “البصطار” والبدلات المرقطة، وإما أن تمتلك المال، فالمال يشبه الماء، إن أردت أن تقتل أحداً أغرقه بالمال، فما أن يصل إلى فوق رأسه حتى يغرق ويموت…

وهز رأسه إلى الأعلى والأسفل، كعلامة للتأكيد على أقواله، فقال الزعيم:

ـ لكنها ستنقذ نفسها لمّا تراها في خطر…

كان صديق الزعيم، الرجل الأبيض ذو العينين الزرقاوين يُعبئ غليونه بنوع من “التتن” الفواح، أخذه من ظرف بلاستيكي أزرق، مكتوب عليه شيء أو مرسوم، فالشيخ زعيم القبيلة لا يجيد القراءة ولا يعرف من الرسوم  غير رسم النوق، ولكن وكون الرسم حرام، فهو لا يقترب من الحرام إلّا إذا كان مضطراً، وكان صديقه يأخذ حبات من التتن بين إصبعيه ويحشو بها فتحة الغليون، ثم يدكّها بقطعة معدنية فبل أن يشعلها بولاعتة ذات الشعلة الطويلة، واستغرب زعيم القبيلة لماذا لا يتركه ليُحضر أحد الخدامين أو العبيد ليحشو له غليونه، وظن أنه لا يريد أن يكشف غليونه على عبيد القصر، وقال صديقه مراجعا نفسه ناقدا:

ـ لا لا لا، المال ليس كالماء، مَنْ يُغرقه المال لا نجاة له…

ونفث دخان غليونه في وجه الشيخ زعيم قبيلة رمال الصحراء، فامتلأ صدر الشيخ بما يشبه البخور، ورغم عدم قناعته إلا أنه لا يرفض طلبا لصديقه الأبيض، وبدأ يُغدق المال على أهل “الفتاة”، ومنذ ذلك اليوم صاروا يسمونها ب”العروس”، وصارت تكتب عن “العروس” الأقلام وتتحدث الأفواه، وانتشر ، عملاً بنصيحة صديق الشيخ، الأمن في البلاد، وصاروا يصطادون من حمد أو شكر الله لسماعه شيئاً من الفتاة أو عنها، أو صفق لجمالها الأخاذ، أو لم يستبدل إسمها بالعروس، وفتحوا باب التبرع بالمال لها، فصار المال نهر جار على أهلها وأصحابها وعشاقها، وبذلك إتضح لأمن العشيرة المؤيدين “للعروس”، فصار يتلقطهم ويودعهم سجون الصحراء “جزاء بما كانوا يفعلون”، وكانت تُهمهم جاهزة ” الخروج عما هو معروف من الدين بالضرورة” وهو “الخروج على الحاكم حتى لو كان ظالماً”، فما بالك والحاكم عادل كالفاروق؟!!! وطبقوا بحق البعض منهم الحد بالقتل ذبحا بحد السيف، أو رمياً من طائرة عمودية في وسط الصحراء، أو داخل فرش من الباطون تحت عمارة من عشر طوابق.

ابتلت ملابس العروس، حيث كان المال يتدفق فوق رأسها مثل الماء، وصار لا بد من تغيير الملابس المرقطة التي صارت تذوب تدريجياً ألوانها، فتشوّه شكلها ولم يعد جمالها أخّاذاً كما كان، فغيروها واستبدلوها بأخرى تليق بالعروس، فألبسوها الفساتين البيضاء، بدلا للبدلات المرقطة، وحذّروها من أن تبان عورتها، وعلموها أنها كلها عورة من رأسها حتى اخمص قدميها، ثم بدأوا بتجميل العروس، مادامت عروساً، بطريقتهم، بالمكياج المستورد عن طريق بلاد صديق الزعيم، فكيف ستكون عروساً دون مكياج، ولم ينفع كل تمنعها كي لا يغيروا ملابسها ويصبغوا وجهها، فأمرها صار بأمر ولي أمرها، وتكثّفت طبقات المكياج الثقيلة غلى وجهها، فلم يعد يتنفس، وامتلأ بالبثور والحبوب، وصار يفقد جماله الطبيعي يوماً بعد يوم، وزال الترقيط وذاب نهائياً عن ملابسها، وتحول “بصطارها” الكبير إلى حذاء جلدي بكعب عال، لا تستطيع به صعود الجبال ولا مجرد السير، وتكاثرت عليها أشياء تشبه الحشرات، بل صارت كالمستنقع الذي يفيض بها، وتكاثرت فوق جسدها الطفيليات، وصار لها الكثير من الآباء بعد أن صار للأبوة مكاسب، وأزاغت قوة المال الأبصار، و تجرأ رجال العشيرة وأصدقاؤهم وصاروا يغتصبون الفتاة، وقدموها هدية لصديق الزعيم لينتقم لنفسه ولإبنته التي أزعجها جمالها، وزادت حالات الإغتصاب تحت أسماء مختلفة، بعضها باسم الدين وأخرى باسم التحضر، وبأسماء لم يسمع بها أحد من قبل.

ظلوا معتقدين أن رحم الفتاة يمكن أن يحمل، فحاولوا إنتزاع الرحم من جسدها ورميه بعيداً، لكنهم فشلوا، فبعض أعضائها كانت متمسكة به، مراهنة ربما على حمل جديد، ورغم أنهم قيدوها ليسهل إغتصابها، فقد كان بعض أعضائها ما يزال يتمرد رافضاً، حاولوا تغيير الرحم، إستبداله برحم يشبههم، أن يحمل بأشباههم، لكن الرحم كان عنيداً غاضباً رغم القيد وحالات الإغتصاب المتكررة، فتمزق وتهاوت جدرانه، ورغم ذلك أدرك الزعيم وعلية القوم كلهم، أنهم مهما كبروا وامتلكوا وتملكوا وتمادوا واحتكموا وتحكموا، ومهما تزاوجوا واغتصبوا وانجبوا وكبروا، فإنهم كان لديهم إحساس وشعور وحتى تيقن أنهم لن يستطيعوا استيلاد ولو طفل صغير واحد بمستوى أي صغير يخرج من رحمها، لذلك قرروا إحراق الرحم في جسدها الحي، كي لا تفكر عائشة مجدداً أن تخلق حياة.

كانت “عائشة” كلما كبرت كلما زادت حسناً وجمالاً، فصارت الآن تزداد ضعفاً وتشويهاً وحتى قبحاً، لكنها لم تفقد كل لمسات الجمال بعد، وظلت تزداد ضعفاً خاصة بعد أن أحرقوا رحمها ، وظل يضمحل جسدها وعضلات بدنها، وكان من إدّعى أبوتها يشارك الآخرين إغتصابها، وصار الزعيم وصديقه الأبيض ذو العينين الأزرقين وابنته، يتضاحكون ويشربون الأنخاب على إقتراب موت “عائشة”، ومن مكان قريب من رأسها، شمال الرأس تماما، كانت قد أطلت مولودة جديدة تمشي، وتلبس “البصطار والملابس المرقطة”، في غفلة من أمرهم جميعاً ورغماً عنهم، وكانت حسناء جميلة ذكية، استجلبت من جديد شباب العشائر جميعاً وإعجابهم، فعاد في رحم “عائشة”، في مكان منزو وفي قلب الرماد قلب ينبض بخفوت من جديد، يعارك من أجل الحياة، كان يغيب عن الوعي طويلاً، لتبدأ دقاته من جديد، كان قلباً غريباً، يأخذ مواصفات أمه، بدأ يرفرف بجناحين كبيرين، وصار يتعلم الطيران في رحم”عائشة” بعيداً عن عيون زعماء القبيلة كلهم وأصدقاؤهم، وهمس صوت من مكان فقير…إنه طائر الفنيق…

صحوت من نومي، وأمسكت بأطراف حلمي كي لا يغادرني كما في كل صباح، حمدت الله على أنه كابوساً وليس حقيقة، لكنني شاهدت سيوف القبيلة مشرعة فوق جثة عائشة الممزقة الممدة أمامي، يصرخون لقتل هذه الفتاة الداعرة، وسمعت صوت قلب ينبض، يكاد يغطي على صهيل السيوف.

محمد النجار

“ديموقراطية” السيد الرئيس

كنا عائدَين من جنازة الشهيد أيمن، متجهيَن لبيتينا المتجاورين في طرف القرية الشرقي، قبل أن نعود، في المساء، للمشاركة بأخذ العزاء، ففي قريتنا، الجميع يتبنى الشهداء، فالشهيد إبن القرية جميعها، من رجال ونساء وأشجار وجبال ووديان، يتزاحم الجميع فيها لأخذ العزاء، محاولين مجاورة أهله وذويه، متنازعين في دعوتهم، لطعام الغداء أو العشاء. كنا نترحم على روح الشهيد، نتذكر مواصفاته الشجاعة، مقداميته وشجاعته، رغم أننا لم نكن نعرف الكثير عنه، فالجيل غبر الجيل، فهو في أول سني شبابه، ونحن فارقنا شبابنا بالأمس القريب أو البعيد، يعتمد الأمر كيف ينظر كل منا على يوم أمس.

كنت أتفادى الرجوع معه، فهو لا يحب المشي في طريق “مستقيم”، فبدلاً من السير فوق الطريق الأسفلتي المتمدد مثل أفعى أكملت لتوها إبتلاع دابة دفعة واحدة، ومازالت تتقلص وتتمدد عضلات جسدها، فهو يسحبك بجانبه من طرق جبلية، بين الحجارة و”النتش” والزعتر البري وشجيرات الميرمية، متعربشاً السلاسل الحجرية مثل قط بري، كما لو كان في مقتبل العمر وليس في خواتيمه، متوقفاً بين أغصان الزيتون وكأنه يراها للمرة الأولى، مُزيلاً بأنامله الخشنة ما جف من وُريقات أو أغصان رفيعة، كانت ما تزال متعلقة بأطراف أمها، مستمعاً لتغاريد “حسون” جميل تنساب في الأذن نحو الدم مباشرة، لتجعلك في حالة جاهزة للدبكة والعتابا والميجنا والرقصات الشعبية، متسلقاً من جديد السلاسل الحجرية مُتقافزاً فوقها، كطائر الدوري، بقفزات قصيرة واثقة، يبتسم من تحت شاربيه، ويقول:

ـ ما الشباب إلّا شباب القلب…

ولم تكن كلماته تلك مجرد شعار فارغ، مثلما يطلقها من كلمات “شيخ عجوز” على مشارف الموت، خصاه الزمن أو العمر أو عدم تمسكه بمواقف الرجال، وصار يُطلق شعارات فارغة كاذبة، فارشاً أرضاً لزواج مُقبل مع فتاة بعمر إبنته أو أقل قليلاً، بل كان يمارس شعاره هذا على أرض الواقع، في كافة نواحي الحياة، وفي هذا الزمن، من النادر أن ترى من يمارس شعاراته في الواقع وأرضه، لتكون محراثاً يترك آثاره في الرؤوس والقلوب، من يلتزم بكلماته ويمارسها عملياً في الحياة، بنفسه وعلى نفسه أولاً وقبل كل شيء. وكان هو، أبو أحمد الصادق، صادقاً مثل إسمه، وفياً وشهماً، تراه في كل يوم، يمارس “شباب قلبه”، فيلاحق جفاف الأشجار فوق الصخور، في بطون الجبال، يزرع شتلات الزيتون في مساحات الأرض الجرداء، “يُقنب” و”يرقع” ويفلح ويقلع ويزرع الحياة، فيُلبس الأرض رداءً يتزايد إخضراراً يوماً بعد آخر، وفي هذا الزمن، الوفاء والرجولة والصدق أصبحت عند المخصيين تهمة، فكان أن تنصل منها الكثيرون، لكن ليس أبو أحمد الصادق، الذي لم يتنازل قيد أنملة عن هذه الصفات التي تؤدي إلى التهلكة في زمن الردة هذا، وكثيراً ما كنت تراه يُجالس الأرض يتحدث معها، يداعب الأشجار، ينصت إليها ويهدهدها، حتى تخاله مجنوناً أو فقد عقله، أرأيت كثيراً من الناس يتحدث للأرض والأشجار ويفهمها وتفهمه؟!!!وكان يظل يؤكد أن الأرض والإنسان كلاً واحدا متكاملاً، لا تستطيع فصلهما أو التعامل معهما كإثنين منفصلين، وإن فعلت فأنت جاهل بهموم الأرض، بأخلاقها وطبعها وطبيعتها، وعليك التعلم لمعرفة صفاتها ومواصفاتها وإلا فإنك لا تستحق ركوبها ولا التظلل تحت ظلال أشجارها.

ظل أبو أحمد الصادق يزرع ويفلح ويسقي ويُعشّب الأرض، ولم تمر ولو سنة واحدة دون أن يزرع شتلات الخضار او الفاكهة الموسمية، التي أكل منها كل من رغب من سكان القرية، وكما كان يتعامل مع الأرض في الحقل يتعامل مع الإنسان، ومع أترابه من فلاحي الحقول، كلمته لم تكن يوماً تقبل القسمة على أكثر من واحد، كلمة واحدة لا تُجامل أو تتغير في قول الحق أو تأييده والوقوف معه وبجانبه، مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك، كلمات لا تخلو من السخرية اللاذعة التي تبدو أنها تُقزم الحدث، لكنها تلاحقك وتظل تدور في شعاب رأسك وطرقاته، فتُدوره وتُشغّله وتحرك خلاياه، لتكتشف أنها مارد من كلمات قاسية، يجبرك أن تصير فاعلاً حتى لو كنت كتلة من صخر، الأمر الذي خلق له مشاكل غير قليلة مع الكثيرين في مراحل حياته المتلاحقة، لكنها، في ذات الوقت، رسخت وثبتت في أعماق البشر جميعاً مصداقية رجل لا تُنازع، ممن عارضوه أو أيدوه، وصار إسمه “الصادق” يطلق عليه كصفة دالة عليه دون غيره.

الطريق من بين أشجار الزيتون، طريق جبلي أكل منا ثلاثة أضعاف الزمن الذي يأكله الطريق الإسفلتي السهل، لكنه الزمن الذي نملكه كلنا في القرية، ولا يُنازعنا أحد فيه وعليه، زمن يتساقط عن أجسادنا كحبات العرق، لكنه يأخذ غير مجراه مع أبو أحمد الصادق، فيتحول إلى زمن مُحبب للنفس سرعان ما ينفذ دون أن تدري، ودون أن تحس به، كان يُزيل بعض أوراق جافة عن أحد الغصون، يزيلها واحدة واحدة بكلتا يديه، خوفاً من أن يجرح الغصن أو يُعرّي أطرافه ويزيد آلامه، فترى أبو أحمد الصادق يتألم بآلامه، وكأنه تقطع أحد أصابعه،قلت:

ـ أرأيت يا أبا أحمد، كيف توصل العلماء إلى إمكانية الإنجاب دون إمرأة؟!!!

لا أدري ما الذي ذكرني بالأمر، لكنني ربما قلته من باب فتح موضوع للحوار، فقال أبو أحمد ساخراً في أول الأمر:

ـ أتقصد علماء المسلمين؟ بارك الله فيهم من علماء…

ضحكت بدوري بصوت يكاد يكون مرتفعاً، وقلت:

ـ نعم، بارك الله بهم، لكن ليكفونا شرهم فقط!!!

فقال بدوره:

ـ لا تخف عليهم، سيجدون له فتوى في البخاري، وربما أتحفونا بفتاوى ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، أو سيجدون لنا شيئاً لدى القرضاوي أو العريفي أو أي من “علماء” مملكة آل سعود “طال عمرهم”، وذلك أضعف الإيمان…

وسكتنا، وتقدمنا ببطء، وظل هو يبحث بعينيه الضيقتين عن ما يزعج الأشجار، بتأني وروية ودقة، ثم قلت:

ـ ألم تلاحظ أن المحتل يمنع رفع الآذان في مآذن قدسنا، ولا تسمع منهم أيما إعتراض؟

فقال مؤكداً ذاهباً أبعد مما ذهبت إليه:

ـ لا إعتراض منهم ولا من حكامهم أيضاً، فأنت ترى بأم عينك “أمير المؤمنين” العثماني، لم يعترض، بل كافأ بني صهيون، فزاد، مثل حكامنا، من علاقاته الإستراتيجية مع الكيان!!! منظمة اليونسكو تقر وتجزم بإسلامية القدس وأن لا مكان لليهود فيها، وهو يؤكد لصحف بني صهيون أنها مدينة لكل الأديان، يهدي مدننا كما يشاء دون إعتراض أو همسة عتاب لا من “سلطتنا” ولا من “علماء سُنتنا”، قادة تيار الدين السياسي من “إخوان مسلمين” وغيرهم….

قلت مازحاً:

ـ لا تبالغ يا أبا أحمد، أعط كل ذي حق حقه يارجل، ها هي السلطة تكتشف أن “إسرائيل” تتحدى المجتمع الدولي برفضها المبادرة الفرنسية!!!

عاد أبو أحمد الصادق لسخريته وقال:

ـ يا عزة الله!!! أتقول الصدق؟ أإكتشفوا الأمر بهذه السرعة؟ إكتشفوه بعد مرور سبعين عاماً فقط ،إكتشفوا أنها تتحدى المجتمع الدولي ولا تقيم له وزناً؟ لقد طمأنتني بأنهم بالكثير بعد ثلاثة أو أربعة قرون سيكتشفون أن مفاوضاتهم معهم ليست أكثر من “ولا تؤاخذني” “ظراط عَ البلاط”، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه…

وعقب وكأنه مع نفسه:

ـ وكأن في المبادرة الفرنسيةشيئاً يفيد شعبنا!!!

وسرعان ما إلتقط أبو أحمد بضعة صرارات من حول ساق شتلة زيتون ما زال طرياً، لم يقو عوده بعد ليواجه قسوة الطبيعة، وضعها ركيزة تحت حجارة سلسلة حجرية قريبة، وسألني كأنه يرجمني بحجر:

ـ ما رأيك بديقراطية السيد الرئيس؟

لم يبتسم أي منا رغم كوميدية المشهد، لأنه لم يكن سوى “كوميديا سوداء” كما يقول المثقفون، قلت:

ـ ديمقراطية التحكم بالقرار السياسي وصندوق المال!!! ألم ترَ قوة “مخالي” التِبْن والعلف في مؤتمر السيد الرئيس؟!!! أهؤلاء من كانوا حتى الأمس القريب يحملون البندقية؟!!! لقد إنتقاهم سيادته”على المفرزة”، انتقاهم واحداً واحداً مثل “بعرة الجمل المنتقاة” كما يقول قدماؤنا، مَنْ صعب على الرئيس إبعاده تكفل المحتل بذلك، إعتقالاً أو مَنعاً من الوصول… أرأيت كيف يُسحّجون ويهتفون؟ بمجرد أن يُخرج الرئيس…يُسحجون!!!

قاطعني وسأل مُستغرباً مُستهجناً ساخراً:

ـ ماذا قلت؟ كلما يُخرج الرئيس؟!!!

ـ نعم، كلما يُخرج بضع كلمات من فمه، يزداد التصفيق والتسحيج… وغلّابة!!!

قلت قبل أن يأخذ يقود من جديد دفة الحوار، فقال:

ـ شكراً أنك أوضحت ماذا أخرج الرئيس من فمه، لأنني كدت أفهمك بشكل خاطئ، لكنني أظن أنهم ما زالوا يحملون البندقية، لكنهم غيروا أهدافها فقط، غيروا إتجاهها، صارت، كبنادق الآخرين من مشيخات وممالك ورئاسات، تُطلق للخلف، تغير نوعها من “بندقية عز وفخر” الى بندقية ّذل وإذلال وهوان”، ألم تتساءل يوماً كيف لبندقية سلمها لك المحتل أن يكون إتجاه رصاصاتها؟!!! و”غلّابة” التي يقصدون صحيحة، لكن غلاّبة على مَنْ؟  هذا هو السؤال؟

ثم تابع حديثه، وما زال ينظر إلى الأشجار وكأنه يراها للمرة الأولى، أو لا يراها أبداً:

ـ ألم تر “ديمقراطيته” عندما ابتدأ مؤتمره بتثبيت نفسه رئيساً؟ رئيساً دون سؤال أو محاسبة أو تقييم لما أوصلنا إليه، دون حتى مجرد نقد، رئيس دون برنامج عمل أو حتى خطوط عريضة، فقط بأن المفاوضات خيار استراتيجي، يعني أبقانا عُراة أمامهم أكثر مما كنا، أتتخيل أن يكون مثل هذا الرجل عاملاً مشتركاً للجميع؟ يعني هو “وجه البُكسة” كما يُقال، أتتخيل كيف يفخر بكونه هو مَنْ وقع “أوسلو”؟وكأنه جاء لنا بتحرير الأرض؟ أتستطيع أن تتخيل إلى أي حضيض وإنحطاط وصلنا؟ وتراه يقف بكل صلافة و”عنجهية” متحدياً أن يكون تنازل عن الثوابت الفلسطينية!!! فتقسيم المحتل من لما أُحتِل منذ العام سبع وستين ين غزة وضفة، ودوره وحصته بذلك، من الثوابت الفلسطينية، وتقزيم الوطن إلى 18% والحبل على الجرّار من الثوابت الفلسطينية، كما ورفضه شخصياً حق العودة، ووثيقة عبد ربه ـ بيلين التي تمت بإشرافه من الثوابت الفلسطينية، والمفاوضات العبثية المفتوحة على احتمالات التفريط والتنازل عن كل شيء من الثوابت الوطنية، وتجهيز جيش الحراسة الفلسطيني، على مدار الساعة، لدولة بني صهيون من الثوابت الفلسطينية، والوقوف على أبواب الحرب الأهلية الفلسطينية من الثوابت الفلسطينية، وتقسيم مدن الضفة وقراها ومخيماتها إلى “غيتوات” هو من لب الثوابت الفلسطينية، وتراخيه وهوانه أمام بناء المستوطنات من الثوابت الفلسطينية، وربط إقتصادنا الوطني بإقتصاد الإحتلال من الثوابت الفلسطينية، فتح السجون والتنسيق الأمني مع الإحتلال لقتل واعتقال ما تبقى من رجال هو من الثوابت الفلسطينية… والنجاح الأبرز في مؤتمر السيد الرئيس، أنه عمل لعزل أي قائد رفضه المحتل وأبقى له من أراد، من باب “المجاملة” وليس الخضوع كما يتوهم الكثيرون …

داعب غصن شجرة براحة يده، كأنه يمررها على رأس طفل ليُهدئ بعض آلامه، وأكمل دون أن يلتفت إليّ:

ـ  ديمقراطية الرجل تشمل كل ما سبق، كما تشمل كل ما فعله من أجل “إنهاء” ظاهرة الإفساد والمفسدين داخل سلطته وقيادته!! كما “التخلص” من كل العملاء الذين أورثهم لنا الإحتلال، و”الإصلاح” اليومي والمتتالي داخل أجهزة منظمة التحرير ومؤسساتها،  و”الإلتزام” الصارم بمقررات المجلس المركزي الفلسطيني بحذافيرها، الأمر الذي أكد جماعية القيادة وعدم فرديتها والتزامها بالهم الوطني الجمعي، وليس بالمصالح الفردية الأنانية، كما ولم يترك شهيداً إلا وزار أهله وواساهم، ولا أسيراً إلا وعمل على تحريره، ولم يترك مؤسسة دولية إلا وطرق بابها ليحاكم جزاري الإحتلال، ولم يشارك بجنازات قادة الإحتلال ولم يرسل من يواسيهم، ولم يقمع تظاهرة ولم يعتدي على صاحب رأي أو فكرة، ولم يورث مالاً لأبنائه وأحفاده سوى ما زاد من معاشه الشهري، ولم يُحول السلطة ومرابحها إلى مؤسسة خاصة له ثم له ثم له ثم لحاشيته، وبالتالي لم يكن الشعب هو الخاسر الأبرز والوحيد في هذه السلطة، وطبق على نفسه أولاً ثم على الحاشية الكريمة ثانياً قانون “من أين لك هذا؟”، الأمر الذي جعل “قضاة” “المحكمة الدستورية” رعاهم الله، يكلفونه بكل ثقة بأن يُقيل أي عضو في المجلس التشريعي إن خالف أمره أو إحتج على سياساته!!! يعني لا يهم أن الشعب الذي إختار ذلك العضو، فسلطة الرئيس فوق الشعب وسلطته، وهل يصح أن يكون للشعب سلطة بوجود الرئيس؟!!!وبالتالي من حق الشعب أن ينتخب مَنْ يريد، لكن من حق الرئيس أن يُقيل من يريد أيضاً، أرأيت الديمقراطية التي يتمتع بها؟ أسمعته، ولو مرة واحدة، يقول أن الشعب لا يحق له الإنتخاب أو التظاهر أو لا يحق له حرية التعبير لا سمح الله ولا قدّر؟ بالطبع لا، لكن الشعب يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الرئيس، فمن حق الرئيس أيضاً أن يعتقل المتظاهر وأن يسجن المناضل أو حتى يقتله، ومن حقه قمع الأصوات “الشواذ”التي لا تروقه….

قطعت عليه حبل أفكاره المتسلسل، وقفت في وسط الطريق، أمسكته من ذراعه، قلت:

ـ كفى أرجوك، كفى هداك الله، أتعتقدني بليد إلى درجة أستطيع أن أسمع كل ذلك وأبقى صامتاً؟!!! كفى يارجل، فوالله ورغم معرفتي بكل ما تقول وأكثر، إلا أنني لا أستطيع أن أسمع المزيد… لقدجعل منا هو وأمثاله قطيعاً من الأغنام، ويعاملنا بنفس طريقة القطيع، ألم ترهم كيف يتصرفون، كلما أكل القطيع شيئاً من التبن والعلف كلما تساقط في الحوض غيرها من الفتات، وهؤلاء، كلما ارتفع حجم التسحيج وتعالت أصوات الهتاف الباصمة، كلما فتح لهم الرئيس المعلف لتنزل حبات الشعير، ألم ترهم شاخصي العيون فاغري الأفواه مشرئبي الأعناق، تُبح حناجرهم تُسحج أكفهم منتظرين أن تُعلق مخالي الشعير في رقابهم؟ وكلما ارتفع الهتاف وعلا التسحيج كلما اقتربت من أعناقهم المخالي أكثر؟والطامة الكبرى أنهم ما زالوا يتغنون بالوطنية والشموخ الوطني، وهم لا يخرجون عن أهداف المحتل قيد أنملة… …كفى يا أبا أحمد الصادق…كل مرة أقسم أن لا آتي معك من هذا الطريق، وأن لا أرافقك، كيلا تذكرني بمخازينا وعهر قادتنا، لكنني سرعان ما أنقض وعدي لنفسي وأفعل العكس، وكأن تسلق هذه الطرق الوعرة تَسْهُل بمرافقتك، وكأن حفيف أوراق أشجار الزيتون تدق في رأسي مثل قرع الأجراس، فتجدني أتبعك مثل حمل صغير يتبع أمه، كفى يارجل،  لنكف عن الكلام ولنذهب لأخذ العزاء بالشهيد، فيبدو أن ما في هذا الوطن من شهداء، ما به من أنين جرحى، ونهر الأسرى الذي مازال يتدفق كنبع الماء الطاهر من أعلى الجبل، هي الشيء الوحيد الصادق الذي ظل يحمي هذا الوطن…

محمد النجار

النصفين

لطالما كنت أعرف ان مجموع النصفين يساوي واحد صحيح، لكن حالتي وحالة النصف الآخر خطأت هذه النظرية وقلبت الأمر بأكمله رأساً على عقب، بل مزقتها ورمتها في وسط الرياح، لتحملها بدورها بعيداً وتنثرها في فضاء السماء، لنبقى كلانا مجرد نصفين غير مكتملين، مهما تجمعنا ونحن على حالنا هذا، فإننا لن نستطيع أن نساوي واحد صحيح، رغم مرور كل هذا الزمان.

يؤكد البعض أنه، رغم أنفي ورغم نفيي، لم يكن يوماً سوى نصفي الآخر، وسيظل كذلك أبد الدهر، وأنني وإن كنت أكبره بالكثير من السنوات، وأكرهه كما يكرهني، كل هذا الكره، فهذا لن يغير من الأمر شيئاً.

أعني عندما كنت في عز شبابي، مزهواً بنفسي، فخوراً بقدرة عضلاتي، لم يكن هو قد ولد بعد، حيث كنت حينها لا أتجول إلّا وبندقيتي فوق كتفي، قدماي تدق صدر الأرض، ورأسي يجول متباهياً فخوراً في مساحات السماء، مُتحزماً بحزام العز والشرف والكرامة كما كنت أظن، اُجابه الوحوش وحدي، وأعيش على ملح الأرض وثمار أشجارها، أدافع عن الجميع بكلتا يديّ، يمينها ويسارها، في الوقت الذي تركني فيه كل الأهل والأقارب وحيداً عارياً مطارداً، أعارك الحر والبرد والوحوش الكاسرة في ذات الوقت، قبل أن أعرف، أنهم كانوا جزءاً ممن يطاردونني سراً، في لاحق السنين.

منذ عقود طويلة، كانت قبائل العمائم الدينية مَنْ تبنى النصف الآخر، أبوه وأمه وأقاربه الحقيقيون، وهم أنفسهم مَنْ كانوا يقدمون له كل ما لذ وطاب، ليبقى كما هو، مسالماً متردداً، لابساً لباس الدين وعباءته الفضفاضة داعياً إليه، محرضاً الناس مبعدهم عن هموم الدنيا، مؤكداً أن للفقراء والمنبوذين والمضطهدين الجنة، وما عليهم سوى الصلاة والصوم والخضوع والسمع والطاعة والعبادة والدعاء، مذكراً بالآية القائلة “وما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون”، ولم يخلقهم لأي سبب آخر، في ذات الوقت الذي ظلّ والأقارب يتهمونني بالتطرف والمغامرة وجر الناس إلى التهلكة تارة، وبالمجون والجنون والكفر والإلحاد تارة أخرى، خاصة وأن جسدي يضم زوجاً من الأيدي، اليد اليسرى بجانب اليمنى، وليس اليد اليمنى فقط.

كان نصفي ذاك يسوق المبررات، ويقود خطب الجوامع للتحريض عليّ، مُحاولاً إبعاد الناس عني لأظل وحيداً ضعيفاً، أو لأتحول لمهزوم مشرد بائس مثله، مُتجاوباً لقوانين الخضوع الأبدي، حيث “العين لا تُجابه المخرز”، و”الإنحناء أمام العواصف” و”السمع والطاعة” لولي الأمر، كيلا أتميّز عنه، حيث كان يسمع ويرى كيف كان جسده يتهالك ويضعف وينهار، وجسدي يزداد قوة وجمالاً وإعجاباً من كل أولئك الفقراء، الذي يحرضهم في كل صلاة، وظل، رغم ذلك، يسوق الآيات والأحاديث لتبرير عجزه أو جبنه أو حتى هجومه غير المبرر عليّ، على ذراعيّ تحديداً، ويسارها بشكل خاص، متهمها بالزندقة والكفر والإلحاد، صارخاً بأعلى صوته، “كفاك جنوناً، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”، وكنت أسمع صراخه لكنني كنت أظل أسير إلى الأمام، ومن يسير للأمام لا يسمع الأصوات الناشزة، وإن سمعها لا يعيرها انتباهاً، فحركته تفرض عليه الإنتباه لقوانين الطبيعة، كي لا تنهشه الوحوش وصخور الجبال والأشواك، فللجبال قوانينها، وللسهول مفرداتها، ودون أن تتقن لغة الأرض لا تستطيع أن تكسب عطفها، ولا أن تُطوعها وتركب ظهرها، فالأرض فرس أصيلة جامحة شامخة، ترمي الخائف الراجف المتردد، ولا ترتضي غير الفرسان لتعتلي ظهور منصاتها، لتحملها إلى بر الأمان في أعالي رؤوس جبالها الشاهقة، خاصة إن كان جل همه المسير والتقدم وصعود الجبال .

نعم، في ذلك الوقت، كنت ما أزال في ريعان شبابي، كنت أرى الدنيا كلها محصورة في فوهة بندقيتي، وكنت رغم زحف السنون على كتفي أزداد شاباً، وكلما تزايدت سنوات عمري كلما نمت عضلات جسدي وكبرت وقويت، وصرت عصياً على الكسر أكثر، لا أعرف الآن السر في ذلك، لكن المؤكد أن بندقيتي تلك، حتى عندما كانت بندقية عجوزاً صدئة مهترئة، كانت تظل تحافظ على شباب جسدي، وتسقيه الشهامة والرجولة والعنفوان، وتشعرني أنني نجمة سابحة في مساحات السماء، ورغم مطارداتهم ، طوال الوقت، لي، الغرباء والأقارب، إلّا أنهم كانوا يخافونني ويرتعبون من سماع صوتي، الذي تشابه مع صهيل الخيول الجامحة، لمجرد أنهم يعرفون أن البندقية كانت ما تزال في قبضة يديّ، وحينها لم أكن أعرف أسرار البنادق، ولم يخطر ببالي لحظة واحدة أن البنادق نوعان، بندقية الفخر والعز وبندقية الذل والهوان، كوني لم أحمل بيدي يوماً بندقية الذل الهوان، ولأن شيئاً كان يهمس في أذني منبهاً لنوعية بنادق الأقارب التي لا تعرف سوى الإطلاق للوراء، مقارناً بين الإثنتين، لكنني كنت لا آبه كثيراً للأمر، وكأن الأمر لا يعنيني البتة.

لقد كنت شغوفاً بصعود الجبال، كنت لا أكاد أنظر إلى أي إتجاه آخر إلاّ من باب الحيطة والحذر، ألاحق الوحوش الكاسرة التي غزت جبالنا على حين غرة، لمّا كنا في غفلة من أمرنا، وحوش لا يعلم إلا الله كيف جاءت ولا حتى من أين، بألوان وأشكال ومخالب ونيوب متنوعة ومختلفة، كانت رغم إختلاف مشاربها مُجمعة على هدف واحد، على إقتلاعنا من جبالنا وأراضينا لتتسيد عليها، لتحتل كهوفنا ومُغُرُنا الغارقة في التاريخ وبطون الجبال، وتأكل خيراتنا وثمار أرضنا بعد أن تطردنا بعيداً في غياهب الصحراء، لتصير تسرح وتمرح وتصول وتجول أنّا شاءت وكيفما أرادت.

في كثير من الأزمان، كنت أسمع أصوات تأتي من الصحراء، ترشقني بالزيت وترميني بالمال، تسمعني أجمل الأشعار، تتغزل بقوامي ورشاقتي وفروسيتي، وتغدق علي أجود أنواع الطعام، وكان الأمر يُشعرني بالنشوة، ويخفف عني ثقل الوحدة التي طالما شعرت بها، ولم أكن أعلم أنها كانت تبعث لي، في الليل، عواصف الرمل وأسراب الجراد .

في البدء كانوا يضعون المال في طريقي، وكنت أراهم أو يُرونني أنفسهم، لم أعد أذكر بالضبط، وكنت آخذه لأستخدمه فيما خصني من ضروريات، وكنت حينها قليل المتطلبات، بضع حبات من الزيتون ورغيف من خبز الطابون، صحن زيت زيتون وزعتر، خاصة من ذاك الزعتر البري التي تظل جذوره متمسكة في بطن صخور الجبال، أو حتى إبريق شاي بالميرمية أو النعناع البلدي مع رغيف من ذات الخبز يجعلني مثل الحصان، وللحق، لم تخلُ وجبة لي آنذاك من زيت الزيتون، وكانت دائماً زجاجته تحت حزامي، وإن كنت أذكر جيداً، فهذا كان ملاصقاً لي كبندقيتي، حتى إن فقدت الخبز جرعت جرعة منه فتكفيني، فهذا كان من طبيعة الأشياء بالنسبة لي آنذاك، أهناك فارس لم يتجرع زيت الزيتون؟!!! أهناك بندقية صالحة لم ترتوي أعضاؤها بزيت الزيتون؟!!! حتى أنني كنت أمسح يداي وعضلات جسدي به إن توافرت كميته أكثر، وكنت قاسي الملامح والعضلات كأنني شَبَه البندقية، كأننا توأمان، أو كأنني جزء منها، تسهل حركتي بعده وتتضاعف سرعة حركة يداي، وكأن الأرض تصير أكثر ليونة وسلاسة وتعاطفاً ومحبة، عندما تشم فيّ رائحة البندقية وزيت الزيتون، حتى أشواك الصبار تصير أكثر ليونة ولا تعود عدائية…

نعم، كنت أقول أنهم كانوا يضعون المال في طريقي، ثم زادوا كمية المال حتى أخذ يتراكم بين يدي، فلم أعد قادراً على حمل المال والبندقية في ذات الوقت، فيداي لا تتسع لكليهما معاً، فصرت أسند بندقيتي بجانبي، أتركها تحت أشعة الشمس الحارقة، وأحياناً تحت المطر لأستطيع حمل المال ونقله وتخزينه، فأوراق المال لا تتحمل البرد والقيظ كالبندقية، وحمايتها تتطلب التضحية بالوقت والبندقية في بعض الأحيان، وعلى أثر ذلك صرت أفكر بهمومي الذاتية، وبعد سنوات عدة، ومع تزايد كمية المال بين يدي،  صرت أتجاهل الوحوش التي تمددت أكثر في مساحات الجبال وأفكر في نفسي أكثر، ثم صرت أفكر في العروس التي سأتزوج وفي أولادي وشيخوختي، فثقلتت البندقية على كتفي، وصرت أضعها جانباً وأحلم بالبيت والعروس وحديقة المنزل، وصرت أنسى أو أتناسى وأتكاسل عن رعايتها وسقايتها بزيت الزيتون، وكففت أنا نفسي عن أكل خبز الطابون المُغمس بزيت الزيتون، وكففت عن شرب الشاي الغارق بالميرمية، وصرت أفضل “النسكافية” على “العدنية”، والأجبان المستوردة على حبات الزيتون وزيته والزعتر، واستطعمت “الفيليب مورس” على “تتن” الحاكورة وسيجارة “الهيشي”، وصرت أفضل النوم بجانب المال لحراسته على تركه وإكمال المسير، أو على حمله وصعود الجبال، خاصة أن كَنْز المال لا يتناسب أبداً مع صعود الجبال.

سرعان ما صرت وبندقيتي ننام أكثر وأكثر، وصرت ألحظ أن البندقية التي ترافق المال تأخذ مواصفات أخرى وتبدأ بالتغير، وأول ما يغزوها مرض عمى البصيرة، فالبندقية بعينين كبيرتين ساهرتين على مر الزمن، وإن كانتا متخفيتين تصعب رؤيتهما، وهذا النوع من الأمراض لا يعمي عينيها بل يضعفهما رويداً رويداً ويخلط فيهما الألوان، فلا تعودا قادرتين على التمييز بين العدو والصديق، وعندئذٍ تنحرف بوصلتها إلى غير الإتجاه، قبل أن تصير تميل إلى الراحة والكسل، ويؤثر عليها وفيها عوامل الطقس ومؤثرات الراحة على طول الزمن، كأنها تتأقلم مع واقع جديد، فيلين حديدها، يتجوف، ومع الأيام تتقلص عضلاتها وتضمر، وتصير أشبه بعودٍ من تبن. وكما “الفرس من خيالها”، ف”البندقية من قائدها”، “من موجهها”، تماماً مثلنا نحن البشر، القارئ  والأميّ، كلما كانت تعرف طريقها، وعلى ظهرها من يقودها ومَنْ يوجهها، فارس يعانق رأسه وجه السماء، حينها تعرف كيف وأين ومتى تفرغ ما في صدرها من غضب، أما إن كانت عمياء البصر والبصيرة فيمكنها أن ترتد إلى صاحبها وتقتله. لذلك وبعد سنوات تقلصت عضلاتنا، وصار صعود الجبال مشقة أحياناً وترف حيناً آخر، وصارت بندقيتي تفضل النوم على اليقظة، تستمرئ الراحة، وكلما نامت بندقيتي أكثر كانوا يزيدون رمياتهم بالأموال لي، فصاروا يتفننون بقذفي بها، مرة كالسهام ومرات في صناديق مقفلة أو حتى أكياس مغلقة، ومع كل حزمة مال كان مرض العمى يزداد ويتعمق في عيني بندقيتي، وصارت غير قادرة على الفعل والتأثير، ثم أضحت عبئاً ثقيلاً على جسدي، فخبأتها وأخذت أجمع المال، لأنني في قرارة نفسي كنت مدركاً أن السر يكمن في البندقية، لكنني لم أكن أعلم أن حديد البندقية يمكن أن يصدأ ويتلف إذا لم تستخدمها، وعندما يأكلها الصدأ لا تعود ذات فائدة، وتصبح كالعصا التي أكلها السوس من الداخل، فجوّفها وأضعفها وجعلها غير ذي فائدة.

صار المال من حولي تلالاً، يكاد يحجب الهواء عني، وأشعر أحياناً أنه يكاد يخنقني ويقتلني، ولم أفكر لحظة أن كثرة المال في بعض الأحيان تقتل أصحابها، فأقوم راكضاً نحو زجاجة زيت الزيتون لأشم رحيق زيتها، وكنت أشعر أول الأمر أنها تجلب الهواء والحياة لي، لكنها كفت لاحقاً عن فعل ذلك، وكأنها تريد أن تقول لي أنها دون البندقية لا فائدة كبيرة ترجى منها، وأنها والبندقية متلازمتان، فقذفت بها بعيداً، فانسكب زيتها على التراب والصخور وسار كأنه جدول، حتى وصل البندقية المخبأة في بطن الأرض ونام في حضنها، وكأنهما ينتظران مَنْ يسقي البندقية ويمسح عنها صدأ الأيام. وصرت أنا أخرج رأسي بين وقت وآخر من بين فتحات المال، لأقتنص كمية من الهواء كلما شعرت بضيق نفس، واستعضت عن استنشاق زيت الزيتون بزجاجات عطور غربية، وصارت رائحة الزيت تصدع رأسي، فابتعدت عنه وعن البندقية وتمسكت بالمال وروائح العطور.

مع تزايد كميات المال تحولت أحلامي في بيت، لأحلام في قصور، وصرت أستخدم بدوري المال  للضغط على الآخرين ليسمعوا كلامي ويحذوا حذوي، وأشتري به أهل بيتي وبعض الجيران، وصرت أسمع المديح والغزل والأشعار فيّ وفي ذكائي وقوتي كما لم أسمعها من قبل أبداً، ولم أعد آنذاك وحيداً كما كنت سابقاً، أو هكذا تهيأ لي، ولم يعد صعود الجبال يستهويني، ولم أعد أجهد نفسي في التفكير في الوحوش كثيراً، رغم تمددها في المراعي كافة، واستيلائها على المُغُر والكهوف والسهول والجبال، بل وتمددها في السماء كله، وبدأت أدرك حينها تلك القوة الهائلة الغريبة الكامنة بين طيات المال وأوراقه، ولم أكن أشك لحظة واحدة بأنه يمكن أن يكون غدّاراً قاتلاً، ولا أن لمعته ليست إلا لمعة فسفورية سريعة خدّاعة، وأنه يمكن أن يقتل صاحبه، كما كان يظل يتراءى لي في بعض الليالي القاسية.

ظلت تلك الأصوات الصحراوية تتقرب مني وتطعمني وتسقيني، لأنها لم تكن تعرف أين خبأت بندقيتي، وربما لأنهم يهابونني ما دمت أملك ذلك النوع من البنادق، أو لأنها لم تتحول بعد لنوع بنادقهم، لذا بالغوا وزادوا في إطعامي خاصة في الليل، وأنا الذي كنت “أتعشى وأتمشى” عملاً بوصية الأجداد، صرت أتعشى وأزيد السهر سهراً، وأنام حتى ساعات الظهر، فازدادت الشحوم حول جسدي، وثقلت حركتي، فأخذ يهجرني شبابي، وصرت مثل كافة العوام، كلما أكبر أكثر كلما أشيخ أكثر.

صارت هجمات الوحوش تتزايد دون أن أتمكن من صدّها كما كنت في الخوالي من الأيام، حيث ركبني الخمول من تراكم الأموال، وتضخمت وتكرشت، وصرت أتجنب مواجهة الوحوش، ثم صرت أهابها، وانتهى بي الأمر على عدم مواجهتها، وصرت أفرض ما أريد على من هم تحت عباءتي بالمال وليس بالمنطق وحسن القول والإقناع، ولمّا يخالفني أعضاء جسدي أحرمهم من المال والطعام، وأحرض عليهم أبناء الصحراء، الذين تجرؤوا لمّا رأوني أقف في صفهم، على كلتا يديّ، خاصة يدي اليسار، وكأنهم يريدون خنقها أو إنتزاعها من جسدي، تحت سمعي وبصري، ولم أفكر حينها بأنها جزء مني، وأن إقتلاعها سيضعف جسدي، وربما كان إثر ذلك نزيفاً قتلني، وعلى أثر ذلك، تكرّر نهش الوحوش لها بدعم من أعراب الصحراء، تفردوا بها وهاجموها بقسوة، شتتوا جسدها وعضلاتها بين السجن والقتل والمطاردة، لأنها ظلت تعاديهم وتعادي كل أموال الصحراء، ففترت قوة بعض عضلاتها، وتجاوبت بعض أصابعها لمرض حب المال المُعدي، فغزى المرض بعض أصابعها، ورغم معرفتها بالداء والدواء، إلاّ أنها لم تعالج المرض من بدايته، وربما لم تستطع ذلك، ولم تقدم العلاج اللازم لتنقذ عضلاتها، فصارت تتقلص وتتمزق وتتقزم حتى أضحت قليلة التأثير والحيلة والحركة، رغم محاولات الكثير من أصابع يدها، إعادة الحياة لعضلاتها.

تكدس المال من حولي وبين يدي، وصرت أحارب بقوة المال وليس بقوة السلاح، وتحولت حربي التي كانت ضد الوحوش إلى حرب مع أجزاء جسدي، من بقايا عضلات وأطراف متورمة متمزقة ضعيفة، واكتشفت لاحقاً أنني أحارب نفسي، أحارب جسدي ويديّ، وصار رأسي مسكوناً بما يعيدونه علي صباح مساء، بأن أقابل “الضيوف” وأستمع إليهم، وأن “الوحوش” التي تتراءى داخل رأسي ما هي إلا هواجس وكوابيس داخل رأسي فقط، وأن “الوحوش” ليست سوى أناس متحضرة، وليسوا سوى “ضيوفاً” قدموا لبلادنا، وما علينا سوى استضافتهم وإكرامهم وحسن معاملتهم، وذكّروني بحاتم الطائي، كرمه ودماثته وحسن أخلاقه، وما علي سوى التشبه به، وصدقتهم لأنني أردت تصديقهم، وكنت أستمتع وهم ملتفون حولي ويصرخون بي في وقت واحد، بيت شعر جرير قائلين:

ألستم خير من ركب المطايا             وأندى العالمين بطون راحِ

وللحظة خلت نفسي مروان بن عبد الملك الذي قيلت فيه القصيدة، لكن متابعتهم للحديث أعادتني إلى حيث كنت، وكان حديثهم يتتابع جملاً متلاحقة في أذني:

ـ “إن “الضيوف” الذين أسميتهم وحوشاً، وما بهم من الصفات الشرسة، ما هي إلّا من عند الله، حباها بها لتدافع عن نفسها أمام الطبيعة القاسية والضواري القاتلة، وأن عليك أن تفهم مرة وإلى الأبد “أن لا إعتراض على الله، لا في خلقه ولا في أمره ولا في إرادته”، “لأن لله في خلقه شؤون”، وأن عليك الإيمان بذلك دون تردد أو تفكير ولا حتى سؤال، وما عليك سوى الإهتمام بعقلك وجسدك وتطويعهما وضبطهما، فالعقل أو الجسد المتمرد، مثل الطفل العاق، “بيجيب لأهله الشتيمة والمسبة”، ويجب إعادة تربيته، بالسّوت على وجه التحديد، لأن “العصا لمن عصا”، وإن خالفك عقلك إقمعه ليعود إلى جادة الصواب، وإن خالفك أحد أطرافك إبتره واقتلعه وارمي به للكلاب، لتأخذ بقية الأطراف عبرة ودروساً، وإن لم تفعل وتروضهما، ربما يأتيانك بما لا تُحمد عقباه، حيث يرميان بك إلى التهلكة، وتعود ” يارب كما خلقتني” دون مال ودون أقارب”…

ونزولاً عند رغبة أقاربي، وكي أكون صادقاً، أمام مفعول مالهم الذي “هذّبني وشذّبني وعقّلني” وجعلني إنساناً آخراً، لدرجة أنني لم أعد أعرف نفسي، رأيتني أقابل “الضيوف”، أحاورهم وأساهرهم وأتحدث معهم، ووجدتهم نِعْمَ “الضيوف والجيران والأصدقاء”، ثم دعوتهم لمائدتي، وقبلت دعواتهم لمائدتهم، ليصير بيننا “عيش وملح”، وتعاهدنا عهد الله أن لا نخون بعضنا بعضاً، وأشهدنا الله والجيران والأقارب على ذلك، وأكدت أن الخائن منّا سيخونه الله ورسله وملائكته وكتبه، وتواعدنا وأكدنا “أن وعد الحر عليه دين” يجب الوفاء به، وتزاوجت بنسائهم دون عقود، لتعميق أواصر الصداقة وترسيخها، عملاً بالمأثور الشعبي القائل “كن نسيباً خيراً من أن تكون قريباً”.

تسارُع الأمور هذا بهذه الطريقة فجر ثورة في جسدي، فانتفضت يداي يمينها ويسارها، لكني أسْكَّتُ يميني “برش” المال والمزيد من المال، وفردت لها المشارب والمعالف، ونثرت لها البرسيم والشعير فوق رؤوسها ، وقمت بتعليق “المخالي” على الطرقات لمن يريد من عضلاتها وأصابعها أن يصير “خروفاً”، وكان عجبي كبيراً لما رأيت كيف علا التسحيج والهتاف، وغطت مأمأة “الخراف” على كافة الأصوات الأخرى التي عارضتني، وارتفعت البنادق لتدافع عني وعن طريقي الجديد، لكنها بنادق من نوع مختلف، وليست مثل بندقيتي القديمة تلك، كما أنني أجهضت “يساري “بتجفيف المال عنها، وبالمزيد من التجفيف، إلا عن بعض الأصابع المنتفخة، فأسكتهم الجوع، وأعمت التخمة الأصابع المتضخمة، وفرضت إرادتي وإرادة الأقارب و”الضيوف” على جسدي وأطرافي وعضلاتي، التي رويداً رويداً “ويا للعجب”صارت مترهلة راعشة، رغم كل المال الذي يغمرني.

قبل تلك المرحلة بالضبط وُلد النصف الآخر، بالضبط عندما كنت ما أزال شباباً، ومرور الزمن يزيدني عنفواناً وقوة، وبندقيتي تلك في قبضة يداي، وزجاجة زيت الزيتون في حزام رصاصاتي، أي قبل أن ألتقي “الضيوف” وأعقد معهم الصفقات من تحت الطاولة ومن فوقها، أعني قبل أن أتحول إلى رجل أعمال ناجح بلباس مُرقّط، بل في المرحلة التي كنت ما أزال أرى فيها “الضيوف” وحوشاً غريبة، وعدواً يجب كسر أنيابه وتحطيم مخالبه، لأجبره على العودة من المكان الذي جاء منه، في مرحلة “الخداع البصري” تلك، التي شوهت رؤيتي وقلبت الحقائق في رأسي، وأرتني الأمور على عكس حقائقها، في مرحلة مفاهيمي المشوهة التي لم أفرق فيها بين “الضيف” وبين الوحش، قبل أن يصير قراري من رأسي وأمتلك “قراري المُستقل” الذي أمتلكه الآن، وبشهادة الأقارب من أعراب الصحراء!!!.

في ذلك الوقت وُلِد ذلك النصف بعد معاناة ومشقة وآلام طويلة، وكدت أجزم مراراً أن ولادته كانت قيصرية بامتياز، وأنها تتم ليكون بديلاً عني، ومنذ ولادته، لم يكن ليوافق على شيء أقوله أو أفعله أو أقوم به، رغم أنني لم أكن قد وصلت لقراراتي الهامة تلك باعتار الوحوش “ضيوفاً”، وبدى لي أنه وُلد ليزاحمني ويصل قبلي الى المكان الذي وصلت إليه، ومددت له يدي الإثنتان، يمينها ويسارها، فرفضهما بإصرار غريب، ولم يشأ أن نتعاون يوماً في أي شيء، واختط طريقاً مختلفاً لنفسه، وظل يشوه صورتي في كل المناسبات، ويتهمني بالفساد والإفساد وشراء الذمم، ويزندقني ويكفرني ويكيل لي من الإتهامات أبغضها وأكثرها بؤساً، ويكرهني ويحقد عليّ وكأنني “قاتل لأبيه” كما يُقال، وبدى أن كل ما كان يريده إلى جانب ذلك هو منافستي ومقارعتي وتشويه صورتي المشرقة، وكي أكون منصفاً، فبعض ما قاله لم يجانب الصواب، لكن، ورغم ذلك، كان بالإمكان أن نسير سوياً، فالطريق يتسع لإثنينا معاً، وجبال الله واسعة وتتسع لنا جميعاً.

وسرعان ما أضاف هدفاً آخراً إلى جدول أعماله، وهو الإبداع في تحويل رجال الدين إلى تجار دين، واستخدمهم في تنفيذ أهدافه ومآربه، وابتدأ في إسترجاع مجتمعنا الذكوري وعودته إلى نفسه، بعد أن أُهينت كرامته وأُذل، وطأطأ رجاله رؤوسهم ومُسحت الأرض بكرامتهم، وذلك بعد أن تمادت المرأة فيه وعليه، وصارت تسرح وتمرح وتذهب وتجيء دون إذن أو رقيب، وصارت ” والعياذ بالله تتشبه بالرجال”، وتَزايد خروجها للعمل والتمشي والتسكع والتمايع والتدلل في وسط الطريق، وتُماشي الرجال من غير “المحرمين”، وتجالسهم مجالسهم في المقاهي والمطاعم والبيوت وفي أماكن العمل، فجعل من المرأة أعلى سلمة أهدافه، خاصة بعد أن أصبحت النساء تتظاهر وترمي الحجارة وتتنظم وتستشهد وتعتقل، وذراعي اليسار شاهد على ذلك، وأعلن أن إنكفاء النساء في بيوتها ضرورة، لنرجع لديننا الحنيف، و لتعود الطبيعة الى نفسها والأرض إلى مجراها، ومن هنا كانت البداية لسيادة ثقافة العمامات اللواتي تدعي إستملاك الدين وتدعوا لعبادة الفرج وتكفير الآخر، فصار أخوة الوطن “صليبيين”، وطوائفه كافرة ومذاهبه فاجرة، واستملكوا الجنة وسجلوها حصرياً باسم طائفتهم، فنصبهم النصف الآخر وسيطاً  “نزيهاً” بين البشر وبين الله، فصاروا يُصورون الله بأنه لا يقبل صلاة أو توبة أو عبادة أو تواصل دون المرور بهم أو من غير وساطتهم وحتى موافقتهم، فاستملكوا بذلك مفاتيح الجنة، التي صارت لا تفتح أبوابها لأحد دون موافقتهم أو صك غفران منهم.

وصار يحشو في العقول مواصفاته للمرأة الصالحة، وصار شيوخه ومُفتييه، في المساجد، يحددون كيفيتها، فقالوا أن وجه المرأة عورة ويداها عورة وعيناها عورة وصوتها عورة وكل ما فيها عورة، وعليها أن تُغطي عوراتها جميعاً عن الرجال وعن النساء في المجتمع برمته، فلا تُظهر منها شيئاً، وكل ما يظهر سيحرقه الله في نار جهنم! وطوّروا الأمر ليطالبونها بإخفاء عوراتها عن الأقارب من عم وخال، ثم عن أب وإبن، إلّا عن الزوج وحده، وكأن الشيطان من خلق جسد المرأة وليس الله، وكأن الله لو كان رائداً لعورنتها بهذه الطريقة وهذا الشكل ما كان قادراً على تغطية جسدها بطريقتة هو، أو أن ينزل نصوصاً صريحة واضحة بهذا الشأن، فحددوا لله كيفية المرأة التي يريدون، فصارت المرأة رجس ونجاسة، وتحولت إلى بئرٍ لا ينبض من الجنس، فأفتوا بالزواج من القاصرات، وبعضهن في سن الطفولة المبكرة، وحشروا الشرف بين فخذي المرأة، وجعلوا منها متعةً للرجل فقط، وأفتى البعض بأن الرجل يمكنه رمايتها كالنفايات إن كبرت أو مرضت لأنها لم تعد متعة له، وسرعان ما نقلوا المتعة للسماء أيضاً، فصارت الحوريات جزءً من متعة الرجل، فصار “أجرة” الشهيد سبعين حورية، ليمارس معهن الجنس في جنات الله، وكل ممارسة جنسية تمتد لسبعين سنة، ثم تستدعيه حورية ثانية لسبعين سنة أخرى وهكذا حتى ينهي السبعين ثم ينتقل بعدها لسبعين وصيفة للحوريات السبعين، فحولوا جنة الله إلى وكر بغاء، فألغوا بفتاويهم المرأة من المجتمع، وحوّلوها من إنسانٍ إلى مجرد شيْ. بعد تشييئهم للمرأة وضعوا للشهداء أجرة، وكأن الشهداء يتحركون بغرائزهم الجنسية وليس بشرفهم وعزة أنفسهم وإيمانهم بعدالة ما يدافعون عنه، فصوروا أن جُل ما يبغيه الشهيد مقابلة الحواري الحسان في الجنة، وكأنه يستشهد من أجل ذلك، وفقط من أجل ذلك، محاولين تغيير مفهومنا ومعرفتنا المتراكمة عن الشهداء، بأنهم في الأصل ذووا شهامة وكرامة وعزة  وإباء، كبارٌ لا يرضون الضيم ولا الذل ولا الهوان، ما دفعهم للثورة على كل  مَنْ يُمثّل الظلم وعلى كل مَنْ يطغى ويتجبر، حاملين رايات العدالة والحرية والمساواة، فكرّمهم الله بالشهادة ليزيدنهم عزة وكرامة ورفعة وإباء، وليرفع من منزلتهم في الجنة كما رفع من قدرهم في الأرض، رجالاً كانوا أو نساء، ومن أي طائفة كانوا أو ملّة أو دين.

ابتدأ النصف الآخر بتطبيق مشروعه، مبتدئاً بملاحقة النساء “الحاسرات السافرات”، متهمهن بالفسق والكفر والزندقة والمجون، وصار يدعو لتأديبهن بالأحاديث والفتاوى والبيض الفاسد، وبعصا الوالد والأخ وحتى الإبن، ليَتُبن ويتهذبن ويتأدبن ويَعُدن إلى ناصية الصواب، إلى طاعة الله وتنفيذ أوامره كما حددها ورسم خطوطها شيوخهم ومفتييهم، وبدأ يفرضها على أرض الواقع، فسرعان ما أخذ يفرض “الحجاب والنقاب” شيئاً فشيئاً، وجعل من كل محجبة أو منقبة قديسة ومن كل حاسرة عاهر، ولم يقل أن المتحجبة أو المتنقبة يسهل عليهما خلع حجابهما إن أرادتا ذلك، أو أن الحجاب والنقاب يمكنهما أن يحجبا الكثير من الموبيقات وأن يكونا ستراً لهن، الأمر الذي كاد أن يؤدي لحرب بيني وبينه، خاصة بعد أن تصدى له يساري ليوقفه عند حده، لكن حرص يساري على وحدتنا و”ستر الله” وحدهما أنقذانا من الحرب،  وهدّآ الأمور وأوقفاها، لكن ذلك النصف ظل كذلك وتمادى ولم يتوقف، وازداد ملاحقة للنساء بعد أن يبس عوده واشتد، حتى أعاد نصف المجتمع كله إلى حظيرة البيت، ورغم ذلك صرنا نسمع عن حالات التحرش الجنسي تتزايد وتتسع، بعد أن كان هذا الأمر نادر الوجود، وما زلنا وبعد كل هذه السنين، نستمع إلى سرحان خيالاتهم الجنسية في بيوت الله، وكأن القرآن خلا إلّا من سورة يوسف، وانتهت المواضيع والهموم إلّا من موضوع المرأة.

نعم، وكي أكون صادقاً، ما أن مرت بضع سنوات على ولادته، أعني وهو ما زال طفلاً، بدأ يهاجم الوحوش بدوره، كان يهاجمها بقسوة وقوة وعنفوان، بعد أن كانت يداي اليسرى واليمنى تتفردا بذلك، قبل أن أقمع معظم عضلات جسدي، وبعد فشلي في وقف بعض عضلات يساري اللواتي تفلتن وتمردن علي وعلى أصابعها المنتفخة نفسها، فما كان مني إلّا أن أطلب العون على أطرافي من “ضيوفي”، الذين سرعان ما لبّوا النداء، وأودعوهم السجن والملاحقة كي لا تتعكر صورتي، فليس جميع الناس تجلّت لهم الصورة واتضحت كما تجلت واتضحت لي، واستمر هو، ذلك النصف في هجوماته المتكررة على الوحوش متمرداً عليّ وعلى الأقارب مُتفلتاً من بين أصابع الجميع، وأخذ يزيد من هجوماته أكثر وأكثر، فصارت موجعة ومميزة وأكثر إيلاماً، وكنت ما زلت أحاول لملمة يمناي حولي وحول مشروع طريقي، مشروع “مصالحتي الشجاعة مع “الضيوف”، في ظل رفض قاطع لكل عضلات من يسراي، التي ظلت تهاجم الوحوش بجرأتها المعهودة، لكن ذلك النصف تفوق عليها وعلى الجميع.

كنت ما أزال في ذلك الوقت أتحاور مع “الضيوف” على التفاصيل، بعد أن كنا قد اتفقنا على المشهد العام، وما أن وضعت يدي في أيديهم، حتى أخذ يعارضني من جديد ويواجه خطواتي، فتنصَّلَت مني يسراي، ونبذتني أمعائي، وصار ذلك النصف مع بقاياي يتصدون للوحوش في الليل والنهار وكل الأوقات لإفشال خطواتي مع “ضيوفي”، فصرت أضعُف ويزداد قوة، وصارت تتقلص عضلات جسدي، فاستخدمت المال “عكاكيزاً” تساعدني في تجاوز ما بدأت من طريق، واستخدمت الكثيرين من القراء والكتاب أحذية للدخول في المستنقع بعد أن أغرقتهم أعلافاً وتبناً وشعيراً، وفجأة ودون سابق إنذار، صارت علائم الشيخوخة تتمدد فوق وجهي، حيث غزته التجاعيد دفعة واحدة، وضعف بصري وتشوهت رؤياي، وصرت أرى الأشياء مكبرة كما في أحلامي، لكن الطبيب أكد لي أن علاجي الوحيد هو بالتعكز على تلك البندقية دون المال، لكن تعودي على المال منعني من العودة للبندقية، ثم احتلت أذناي حساسية غريبة، فصارت لا تسمع إلّا أصوات المديح وأصوات الصحراء المغموسة بالمال، الأمر الذي زاد الهوة مع أعضاء جسدي، وصرت أشيخ وأشيخ، وكانوا يزدادون شباباً وشموخاً، وساندتهم يدي اليسرى وبعض عضلات يميني، فظل يشمخ ويكبر ويكر ويفر، وأنا أهرم وأشيخ وأتقزم، الأمر الذي جعلني أزيد إلتصاقاً ب”الضيوف”، وأربط مصيري بمصيرهم، ومستقبلي بمستقلهم إلى غير رجعة، وأحارب معهم بعض أعضاء جسدي من إخوة الأمس ورفاقه، وصار السلاح الذي في يدي ليس إلّا بإتجاه واحد، نفس نوعية سلاح “الذل والهوان” كما يسميه البعض، وإتجاه رصاصاته هو صدور الرجال وليس الوحوش، نعم صدور من يحاول سلب ما تبقى من قوتي ومن مالي، ومن يطالبني بتغيير اتجاه بوصلتي وتحالفاتي الجديدة، وماداموا يصفون سلاحي بهذا الشكل، وصفت، بدوري، سلاحهم بالسلاح “العبثي”، واستمرت القطيعة بيننا إلى الآن.

صار أعراب الصحراء يمتدحون خطواتي، ويشجعون توجهاتي، وفي أحيان كثيرة يوجهونني خوفاً من أن أخطئ أو أتعثر أثناء حركتي، يدفعونني دفعاً للتقدم في طريقي الجديد، والأهم وكي لا أحن إلى ماضيّ الذي صار يبتعد نحو الشمس، تاركني وحدي مع ظلمات الليل وبرودته العفنة، وربما خوفاً من أن أشفق على أعضاء جسدي، خاصة يساري وبقايا يميني، اللذين كانا حتى وقت قريب جزءً لا يتجزأ من جسدي، قبل أن أقلعهما وأرميهما بعيداً متبرئاً منهما مرة وإلى الأبد، أغدقوا علي المال حتى لم يبق أمامي مجال لتردد أو لتراخي، وصاروا هم يداي وقدماي ورأسي وعقلي وأهلي وناسي، وبعد أن وقع “الفاس في الراس” كما يقول المأثور الشعبي، أخذوا يقلصون رش الأموال ويقلصون عدد المعالف ومخالي الشعير، وصاروا يأمرونني بعد أن كانوا يترجونني ويتمنون علي ويطلبون ودي، ولما أدركت أنهم كانوا سبباً من أسباب توريطي، وعماء بصيرتي، كان قد “دخل السبت…” كما يقول المأثور الشعي، وصرت لا أرى طريقاً غير هذا الطريق، ولا درباً غير هذا الدرب، وكلما تعودت على الراحة أكثر كرهت أكثر تسلق الصخور وصعود الجبال، فأخذت أستجمع قواي وأشحذ عقلي، لأجد المبررات المؤكدة على صحة خياري، وللإستمرار في ذات النهج ونفس الطريق….

وبعد كل هذه السنين اللواتي بقينا فيها نصفين مفترقين، صار ذلك النصف يفعل الأمر نفسه الذي أوصلني لما أنا فيه الآن، يسير رويداً رويداً في ذات الطريق، وكأنه لم يفهم بعد أن الذي يسير على رمال متحركة سيغرق بها لا محالة، وأن الذي يدخل المستنقع ستأكله الحشرات حتى قبل أن يغرق في المياه الآسن العفن، وأنا أراه كيف يتغنى بالبندقية ويتعلق بالمال، تماماً كما فعلت أنا عند دخولي النفق، بل وأكثر من ذلك، فبمجرد سماعه لنداء الصحراء، يترك العشب والكلأ والماء، وتشرئب أذناه للصوت الممزوج بالعلف والمال، ناسياً مثلي أن المال هو الطريق الأكيد نحو المصيدة، وأن التغني بالبندقية لا يعني أبداً حملها وصيانتها واستعمالها، وأن الثمن الذي سيدفعه مَنْ يتخلّى عن ماضيه، لن يكون أقل من ضرب مستقبله بيديه، يعني كمن يطعن نفسه بنفسه، أو كمن يُسلّم سلاحه ليقتله عدوه به.

وفكرت، إنْ كان ذلك النصف يسير بذات الإتجاه المجرب الذي سرت فيه، لماذا ما يزال يرفض وضع يده في يدي؟! فها هو يستجيب لنداء الصحراء، يجمع المال ويشرب بول البعير، ويحشر شرف الرجال في فروج النساء، ثم ذهب بعيداً بعيدا، فزرع القنابل في بيوت بعض الأهل الذين إحتضنوه وآوه من الحر والبرد والوحوش الضارية، حين رفضته أعراب الصحراء وتبرأت منه ذكور النوق، زرعها باسم الله وباسم الدين في أمعائنا وأمعاء أهلنا، فقتل أهلنا ودمر “يرموكنا”، ليرضى عنه أعراب الصحراء ويزيدون له مخالي العلف، فتفجرت أمعاء الجميع ، وضاع “جمع شملنا” الذي كنا نحافظ عليه ونكدسه للحظات عودة قادمة، ولم يكتف بذلك، فسرعان ما بايع سلطاناً عثمانباً من غير دمنا ولا جلدتنا، ويُشكل جزءاً، بل اليد الطولى، لكل أنواع الوحوش التي تعادينا معاً وتشكل الداعم الأكبر لكافة وحوش المنطقة، وحَكَمَنا أهله مئات السنين، قتّلونا وجهلّونا وسلبوا خيرات بلادنا، استخدموا دماء رجالنا وقوداً لغزو الآخرين، دمّروا حضارتنا وأبادوا ثقافتنا وقتّلوا الأقليات وهجروها ، ودمروا مدننا ومدنهم، ولم يبنوا لنا مدرسة أو مصنعاً أو جامعة، وسلبونا أطفالنا ليصيروا جيشهم المقبل، وسبوا نساءنا وانتهكوا حرماتنا، وبعد كل ذلك سلّمونا بأيديهم لوحوش وضواري جاءت من البعيد، وما زال سلطانهم الجديد يضع يده بأيدي هذه الوحوش، على حد وصفهم، يتغزل بها ويشرب الأنخاب معها، يتاجر معها ويزودها ب”زيت”نا المنهوب، ويدمر بلادنا ومدننا، دون أن  يعترض النصف الآخر أو يحتج أو يعاتب أو يجف له جفن، على إفتراسهم المتتالي لأعضاء أجساد أطفالنا ونسائنا، ولا على دمنا المسكوب الذي ما زال ينزف، بل ويطلب من الله أن يجعله أحد “حريم” السلطان، وهو ذاته، نفس سلطانه العثماني، ما زال يحاول سلب سهولنا وجبالنا وبحرنا وسمائنا بعد أن ضم أجداده “إسكندروننا”، مُدخلاً إليها عشرات الآلاف من المرتزقة من الحثالات البشرية من غير دمنا باسم الدين والديمقراطية، الديمقراطية التي يعتبرها في بلاده “بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”، لذلك إعتقل المعارضة وأغلق الأفواه وأغلق المنابر الصحفية وإعتقل الجنود والضباط ورمج العمال ولم يُبق أحداً يعتب على “ديمقراطيته”، متعاوناً مع مَنْ ما زال يسميهم النصف الآخر نفسه، الوحوش، ولمصلحتهم، دون شجب أو إعتراض، من النصف الآخر، أو حتى عتاب، رامياً، ذلك النصف، صخرة في البئر الذي شرب منه، مُديراً، ظهره بذلك، للذي أطعمه وأسقاه ودربه وسلحه، مغازلاً بذلك ملوك الرمال، مُحتسين سوياً، بول البعير والإبل كافة، حتى الثمالة .

مازال ذلك النصف مثلي، تماماً كما كنت، يعتبر المال الذي تغدقه عليه الصحراء مالاً نظيفاً خالياً من الأثمان، ورغم تحذيرات الكثيرين له، أنه ليس إلا مجبولاً بالدم والذل والعار، إلّا أنه مازال يُصرّ، مثلي، مُعتقداً أنه بذلك يُغيِّر من الحقائق، مازال يظن أنه إن فقأ عينيه ستتغير الحقيقة، ويعتبر هذا التذاكي لا يعرفه أحد غيره، متناسياً أنني كنت أتذاكى بنفس طريقته وربما أفضل، وأنني كنت أملك من وسائل القوة أكثر منه، لكنني وصلت إلى المكان الذي أراده لي أعراب الصحراء، وأنه إن ظل كذلك، سيصل إلى ذات المكان وسيجدني بانتظاره…

ما أردت قوله، مادام ذاك النصف، لا يريد أن يضع يمينه في يميني، ولا يريد أن يمحو الصورة القاتمة في رأسه، التي تريه الحق باطلاً، ومادام يرى في “الضيوف” وحوشاً، ومادام لم يتنازل عن سلاحه “العبثي” ويصر على عدم تحويله إلى نوع سلاحي، وما دام يطالبني بإصلاح ذاتي وإعادة القوة لذراعيَ وعضلات جسدي، كي يُفك الوثاق الذي عقدته مع “ضيوفي”، كي أصير عرضة لسهام أعراب الصحراء، فأخسر ماضي وحاضري، وأغامر في أيام مستقبلي، فأصير كمن لم يحصل على “عنب الشام ولا بلح اليمن”، فإننا سنظل نصفين متباعدين، نسير في خطين متوازيين لا نلتقي أبداً، ولن نشكل يوماً، واحداً صحيحاً أبداً، لكنني في الوقت ذاته أُطمئنه وأنصحه، بأنني كنت مثله، تذاكيت وتكتكت وكذبت، وفتحت يداي لأعلاف الصحراء ومالها، ومن يفتح ذراعيه لأموال الصحراء سيصل حتماً إلى حيث وصلت لا محالة، طال الزمن أو قصر، وكما يُقال أن “أول الرقص حنجلة”، يبدأ بالسكوت عن قول الحق، ثم بالتغاضي وافتعال عدم المعرفة، وكلما زادت كمية المال والأعلاف سيؤيد الباطل وينصره على الحق، ثم سيعلن ولاءه للباطل ويبرره باسم الوطن تارة وباسم الدين تارة أخرى، ومرات باسمهما معاً، وسيبدأ بتنفيذ سياسات أصحاب المال، و سيركن سلاحه أول الأمر جانباً، ثم لن يستطيع أن يحمل السلاح والمال معاً، وسيختار المال ويترك السلاح، وسيحاول إقناع نفسه بأنه سيشتري سلاحاً أكثر جودة في مرحلة لاحقة، وإن حَمَلَه سيستخدمه في خدمة أصحاب المال والعلف، وهكذا يكون قد بدأ يغير اتجاه رصاصاته، فيتغير لاحقاً إتجاه البوصلة، ويتغير، حينئذٍ، نوع السلاح من سلاح “الفخر والعز” إلى سلاح “الذل والهوان” كما يحلو للبعض تسميته، وستجف عضلات يديه وجسده، وسيصبح يؤمر وينفذ، ولن يستطيع بعدها أن يقول كلمة “لا” “إلّا في تشهده    لولا التشهد كانت لاؤه نعم”، كما قال الشاعر الفرزدق يوماً، وستصير “هزة رأسه” بالإيجاب من علاماته الفارقة، وسيصل إلى حيث أنا… نعم إلى مكاني هذا بالذات، هنا حيث أقف الآن… وعندها، عندها فقط، سيدرك أنه قد نسي مثلي، أن الأعلاف، حتى لو كانت من أجود أنواع الشعير، فإنها تظل طعاماً للبهائم…

محمد النجار

إن لم تستحِ فافعل ما شئت

أكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أن روايته حقيقية، لا تشوبها شائبة، وأن المتشكك أو الملتبس عليه البحث في كتب التاريخ، القديم منه والحديث، متنوراً متبصراً ليعرف ويتأكد من ذلك بنفسه، وأكد أن من الصحيح القول أن النار تخلف رماداً إن لم تسقها بالمزيد من العمل والحطب والبنادق والأفكار، لذلك لا تستغربوا أن يكون الرماد أحياناً ميتاً خالٍ حتى من بعض الشرارات، حيث الأمل مفقود، والنار محاصرة معزولة محبوسة، لذلك فالإبن اللص لا يشبه أبيه الأمين بشيء حتى لو كان من نفس دمه، بل يكاد يُخرج أباه من قبره، محتجاً غاضباً صارخاً به، أن يتوقف عن النذالة والحقارة والعبث، لذا فشتّان بين الأب والإبن، في كثير من الأحيان كما شتان بين الثرى والثرية.

وأضاف الراوي أن الأمر ينطبق على معظم رموز سلطة بني كنعان، منذ نشأتها وحتى تتهاوى على رؤوسهم، من أعلى الهرم، رأسهم ورئيسهم، و”خليفتهم”حتى وإن لم يصم أو يصلي، ولا حتى يقوم الليل إلا لتفقد تكاثر المال في الحسابات والبنوك، مروراً بحاشيته التي باعت وطنيتها وضميرها واستعاضت عنهما النفاق والكذب والتبعية، التي تساعدها في تكديس المال ودفن الكرامة والمروءة والأخلاق.

وأضاف الراوي، معطياً مثالاً على ذلك:

أن هناك من الأسماء ما يتناقض مع أفعال صاحبه، فحين تقول “الطيب”، يمكن أن يعني الخبيث، وأن “الطيب” في “الطيب عبد الرحيم”، هو اسم وليس صفة، وخلافاً لأبيه، فمن أبرز صفات صاحبه، الكذب والنفاق واللعب على الحبال من أجل حفنة مال، ومثال ذلك أن الرجل كان من أكثر الناس إلتصاقاً برئيسه السابق ياسر عرفات، وكان يدافع عنه ب”الباع والذراع”، وخاصة أمام خصمه اللدود المدعوم أمريكياً، والمقبول من الصهاينة العرب كما الصهاينة الأصليين، السيد عباس، وتخال “الطيب” أحياناً قائداً وطنياً صلباً ، يرفض وصول عباس للسلطة على حساب عرفات، أو حتى أخذ جزء من صلاحياته، ويعتبره مؤامرة على الوطن والقضية، وخطوة على طريق تصفيتها، لكن ما أن توفى الله عرفات وجاء خليفة سلطة أوسلو الجديد، حتى صار “الطيب” من أهم أعمدة “الخليفة” الجديد، ويعلم الله أنه لو جاء أي رئيس آخر بما في ذلك “الدحلان” الذي يعاديه اليوم هذا “الطيب”، لانقلب على نفسه وصار من أقرب المقربين له، مقابل الإحتفاظ بمركزه المالي والإقتصادي، وقوته وتأثيره السياسي ، ويقول البعض أن الله وحده يعلم كيف تتم الإنقلابات داخل كيانات هؤلاء البشر، فيصبحون اليوم نقضاء الأمس، ويدافعون اليوم عمّا حاربوه بالأمس. لكن ومن باب نقل الأمانة كما هي يؤكد الراوي، أن الرجل كان رجل ثقة عند رئيسه الأول وولي نعمته الذي علمه وجعله سفيراً ووزره وأعطاه المناصب والمراكز العليا على طول الطريق، وما يؤكد الأمر تسلم الرجل مسؤولية رئاسة اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد ومحاربته، منذ أواسط التسعينات، وحقق الرجل ما تعجز عنه مؤسسات بأكملها وعدتها وعديدها، الأمر الذي “نظّف” البيت الكنعاني برمته من الفساد والفاسدين، ومن “عواهر” السياسة، ومن الطفيليات البشرية والمنافقين، ولم يبق به لا إنتهازيين، ولا متملقين، ولا طفيليين، لذا وصلنا لما وصلنا إليه الآن، بعد مرور عشرين عاماً كاملة على تشكيل تلك اللجنة، وهذا غيض من فيض من إنجازات الرجل، كي لا نتحدث عن إنجازاته في لجنة الحوار مع المعارضة الفلسطينية، أو في داخل الخارجية الفلسطينية وسفاراتها التي لن تجد فيها ولو سفارة واحدة ولا سفير واحد تنخر بهما مخابرات العالم وسفلته، ولن تجد منهم فاسداً واحداً، أو سفيراً غير مؤهل أو لصاً أو عابثاً أو سكيراً أو حتى تاجراً، تماماً كما أعضاء المجلس الوطني الذي هو أحد أعضاءه، والذي يرفع يده به أوتوماتيكياً ويهز برأسه كلما سمع صوت ولي نعمته، وكذلك لا يمكن نسيان دوره، في تعميق الديمقراطية في مؤسسات السلطة وداخل حركة فتح نفسها، وداخل مؤسسة الرئاسة في السلطة، والأهم حفاظه ومن معه من قيادة “رعاها الله” حفاظاً مستميتاً على القرار الوطني المستقل لبني كنعان، لدرجة أصبح كل من هب ودب، بما في ذلك الإمارات “بلا صغرة” تحاول فرض رئيساً علينا!!!…

ويضيف الراوي، أن ما ذكّره بهذا الأمر الآن وفي هذا الوقت بالذات، ما قاله وصرح به هذا الرجل من أكاذيب وقلب للحقائق، عندما صرّح باسم الرئاسة وبإسم الرئيس شخصياً، أنه يدين بشدة قصف أنصار الله والجيش اليمني لمكة المكرمة، رغم أن كل العالم أقر بأن القصف كان لمطار عسكري في جدة “غير المكرمة” وليس ل”مكة المكرمة”، وهو ومن حوله يعلمون ذلك، ثم و”ما دمتم تقولون أنكم حياديون، فلماذا لم تستنكروا ولو مرة واحدة وبنفس الطريقة والقياس، وحتى لو من باب رفع العتب، أو التساوي في الإدانات، المجازر ضد المدنيين التي يقوم بها آل سعود، لهذا الشعب الذي قدم للقضية الغالي والنفيس، وكان دوماً في مقدمة الشعوب الداعمة لها وبالدم؟ وإن كان لديكم حرج في موضوع اليمن، فلماذا لم تحتجوا على إعتقال “خالد العمير” الذي حكمت عليه محاكم آل سعود بثماني سنوات من السجن الفعلي لا لشيء إلّا لأنه استنكر حرب بني صهيون وقصفهم لقطاع غزة؟ ألا يستحق الرجل منكم ولو كلمة تضامن واحدة معه ؟وإن كنتم لا تهتمون بالبشر بل بالأماكن المقدسة، فلماذا لم تستنكرون ما قصفه آل سعود من مساجد داخل اليمن؟ ولماذا لم تستنكروا تدمير الكعبة من آل سعود على رأس الثائر جهيمان العتيبي وجماعته؟ أو لماذا لم تستنكروا يوماً تدمير المقابر والمساجد التاريخية، ولا حتى قبور الصحابة أنفسهم على يد الوهابيين في مملكة العهر والظلام؟ وما دمتم بهذا الوضوح وهذه الصلابة مع آل سعود، لمبدئيتكم طبعاً وليس خوفاً وطمعاً، فلماذا لا نرى منكم خطوة عملية واحدة على قتل الصهاينة لأبنائنا؟ أم لأنهم أبناؤنا وليسوا أبناءكم؟ فأبناؤكم يتسوحون ويتعلمون ويتاجرون في بلاد العم سام!!! ولماذا لم ترفعوا صوتكم مرة واحدة وتتقدمون حتى لو بشكوى ضد الإحتلال عل ما فعله بأقصانا وصخرتنا وكنائسنا ومقابرنا إلى محكمة الجنايات الدولية حتى لو من باب إغلاق أفواهنا؟”

ويضيف الراوي قائلاً، فعلاً “إن لم تستحِ فافعل ما شئت”، فإن المذكور ومن حوله من قيادة مهترئة متصدعة، لم يعودوا يستحون، لذلك سرعان ما رفضوا مبادرة السيد رمضان عبدالله شلح، لرأب الصدع في ساحة “بني كنعان”، وأن الأمر كان متوقعاً ولا توجد به مفاجآت، كونهم يأتمرون بأوامر “الفرنجة” و”بني صهيون” و”الأعراب الأشد كفراً ونفاقاً” من آل سعود وأشباههم، ولم يكن يوماً أمرهم من رأسهم أو بيدهم، كما أنهم لن يقبلوا أن يتخلوا عن السلطة أو أن يتقاسموها مع أي أحد آخر، فمن هو، من وجهةنظرهم، ذلك الأحمق الذي يترك من يده “بقرة” حلوب أو “دجاجة” تبيض ذهباً، ويتقاسم حليبها أو ذهبها مع الآخرين؟ وبجانب الخسارة الإقتصادية هذه، سيقل عدد المسحجين والأنتهازيين والطفيليات من حولهم، الأمر الذي يمكن أن يؤدي لفقدانهم القرار الوطني “المستقل” لبني كنعان جميعاً، وينعكس سلباً على قضيتهم كلها!!!

كما أن الموافقة على برنامج الرجل يعني، إعادة تثوير المنظمة، ورفع رايات بنادقها، وهم، وبعد أن تكرشوا وتعودوا رفاهية العيش وبذخه، لا يستطيعون ترك حياة الفنادق الفاخرة “v i p” والتعود على حياة الخنادق، ويعلم الله أنهم كم يودون فعل ذلك لو استطاعوا، لكنهم لا يستطيعون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لذلك فهم يفضلون البقاء كما هم، “كعاهرات الليل”، يقتاتون على فتات بني صهيون من عرب وغير عرب، على أن يغامروا مغامرات تفقدهم حتى هذا الفتات…

لذلك، يؤكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أنهم، وبمناسبة الذكرى التاسعة والتسعين لوعد بلفور، أناس واقعيون، غير مغامرين، مدركون أن لكل شيء في هذا الوجود ثمنه، وأنهم منذ اللحظة التي خُيِّروا فيها بين “السلة والذلة” إختاروا بكل صدق واقتناع، الذلة ثم الذلة ثم الذلة، كثمن لا طريق غيره لتحقيق الذات، وأن الناس ستعتاد على ما يبثونه بينهم من سموم في الصحافة والإعلام، وسيرتدعون من خلال الملاحقات البوليسية والقتل والسجون، تماماً كما اعتادوا على قرار 242 و على ال”لعم” الشهيرة، وعلى التنازل عن الميثاق الوطني، والتنازل في الأمم المتحدة عن أن “اسرائيل” دولة عنصرية، من كل “التكتيكات” التي قاموا بها، وأن “آل عباس” وسلطته وأبناؤه وحاشيته، تدرك أن التكتيك يجب أن يخدم الإستراتيجية، وأنهم يجزمون أن تكتيكاتهم تخدم الإستراتيجية، لكن إستراتيجية بني صهيون، والتي صارت استراتيجيتهم جزء لا يتجزأ منها، وتخدم مشاريعهم وأهدافهم المشتركة، كما أن هذه التكتيكات تدر عليهم الملايين، وبالنسبة إليهم، فإن الكرامة مهما علت وكبرت ووسعت واتسعت فإنها لا تستطيع أن تملأ جيباً واحداً بالدراهم، عِوضاً عن الملايين، حتى أن بعضهم يسخر قائلاً أن الكرامة لا تجلب إلا الفقر، بل هي والفقر متلازمتان…ومهما قيل، فإن الخنادق لا تجلب غير الكرامة، والكرامة وعزة النفس لا تستقيمان دون تضحية، وللتضحية أخطار وطريق طويل متعب خطر ممل، وفي أحسن أحواله لا يجلب المال، لذلك سنوا القوانين “الديمقراطية”، وسمحوا للمواطنين بالتظاهر لتأييد الرئاسة، وبمشاهدة سيادته خطيباً مفوهاً على شاشات التلفاز، وبقراءة الصحف التي تخضع للرقابة، وحرّموا استخدام السكاكين في المطابخ والشوارع والأسواق، ولما استخدم بنو كنعان أسنانهم في تقشير البرتقال لأكله، اقتلعوا أنيابهم حفاظاً على الأمن العام، وسمحوا للشعب بأسره، ولكل من أراد منه أن يتحول إلى “أنعام”، ومن رفض حاولوا إقناعه بالحسنى أو بالسوط ، أن “يضع رأسه بين الرؤوس ويقول يا قطاع الرؤوس”، وصاروا ينشرون السلام بدل الكره الذي كان سائداً في البلاد لصهيون وبنيه، وظلوا يقنعون الناس “أن يسامحوا بحقوقهم لأن “المسامح كريم”، وأن جزاءهم في الآخرة “خير وأبقى”، وقرروا أن يصمدوا بوجه بني صهيون حاملين الرايات البيضاء بكل عز وشموخ، وأن يظلوا يطالبون “بالمرحاض” الذي حشروهم به دون سيادة، بعد أن أخرجوهم من غرف البيت وساحاته الخضراء.           لذلك كان كلما ضربهم المحتل بحذائه على خدهم الأيمن أداروا له الأيسر، ولما ضربهم على الخدين معاً، وب”الشلاليط” أيضاً على أماكن أخرى، تتحسسوا أماكن الألم وتعايشوا معه في بادئ الأمر، ولما تكرر الأمر وتكاثر ترداده تعودوا عليه، ولم يعودوا يحسون به، واختفت آلامه لاحقاً، وابتدأت تداعياته، فأخذوا يثبتون حسن نواياهم، فقاموا وما يزالون بخطف “المخربين” وسجنهم وقتل بعضهم، واعتقال “المشاغبين”، وملاحقة الأقلام “الجارحة” لتكسيرها، وإغلاق الأفواه وكتم الأنفاس، من باب الإلتزام بالمواثيق الموقعة مع بني صهيون، وتابعوا باقتحام المخيمات والقرى والمدن التي ما تزال تفرخ المتظاهرين، لتخريب كل ما تم انجازه حتى اللحظة من أمن وسلام وتطبيع ومحبة، وصاروا يؤمنون بالله وآل سعود وبني صهيون، ويؤمنون بأن البقاء للأقوى كما أكد القائد نتنياهو، لغيرهم وليس لهم، وأما هم فقوتهم تكمن في شدة بطشهم للمشاغبين المارقين المغامرين من بني كنعان، وبشدة ضعفهم أمام بني صهيون، وأما نتنياهو وإن ضربهم بالنعال، فإن نعاله يملؤها “سلام الشجعان” وتُغلفها الأعلاف، وسكوتهم عما يفعله آل سعود وغيرهم، رغم معرفتهم “أن السكوت عن الحق شيطان أخرس”، لكنه أخرس غني وأفضل من متحدث فقير. وكما يضربهم نتنياهو بحذائه هم يضربون الشعب بالأحذية والرصاص، ليثبتوا له وللقاصي والداني جديتهم في محاربة رافضي الخضوع لهم والخنوع لأسيادهم من بني صهيون عرباً وعجم.     ويؤكد الراوي بأنه لا يستطيع فتح ملفاتهم مجتمعين، بل فرادى وبالتقسيط، لأن رائحة ملفاتهم وسيرتهم تزكم الأنوف وتعمي العيون، وأن كمية العفن والفساد والسقوط واللصوصية، يستحيل وجودها بهذا الكم في بقعة جغرافية صغيرة “كمرحاض” أرض كنعان حيث يقطنون، بعد أن تنازلوا عن المنزل وحديقة البيت، الأمر الذي ربما يؤدي لعكس ما يريده من وراء هذه الكلمات، لذا سيكتفي بهذا القدر فقط في هذا اليوم… والله من وراء القصد.

محمد النجار