الخبّاز

الحكاية تكالب عليها المخصيون وعشرات السنين سيدي القاضي، ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، ورغم ذلك لم تشخ ولم تمت، ظلت حية إلى يومنا هذا، وهذا هو المهم في الأمر كله، والله وحده يعرف إلى متى ستعيش. لكن المؤكد أنها ستظل تُجدد نفسها من تلقاء نفسها، إن قسى عليها أصحابها أو بخلوا عليها أو حتى تقاعسوا عن نسج حكاياها من جديد، دون أن يُعيدوا لها تاريخها الذي توقف منذ ذلك التاريخ.

قيل عنها الكثير سيدي القاضي ومازال، قيل أنها ثابتة ثبات أشجار التين والزيتون، تمتد جذورها عميقاً في أمعاء الأرض، تتشابكان وتتحدان في لحن رياني مثير، راسخة رسوخ الجبال لا تتنازل عن مكانها التي منحته لها الجغرافيا وخصها التاريخ به، لا تبدله أو تغيره، وتحافظ على كل ما لها من رمل وحجر وبشر وأشجار، تحتضنهم حتى لو كانوا جثثاً هامدة، تضمهم في أعماقها ليكون لثمار التين معنى بعد أن تزرع فيه عصارتهم وتمنح روحه طعم الشهد.

كان جدي في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر، يُعمّر الفرن وسيجارة الهيشي المقتلعة من “تتن” الحاكورة تتدلى من بين شفتيه، ويداه تُذري كوماً من الجفت كما تذريان في الخلاء زهور القمح، يدخله الفرن ويضعه فوق بواقي الجمر الذي غفا في ليلته الماضية مخلفاً بعض رماد دون أن يتنازل عن جمراته، فيتحول  كل “الجفت”إلى جمر أحمر يبث حرارته في الأرجاء كلها، ناثراً عبق الزيتون في كل رغيف خبز يدخل بين أحضانه ليتحمص قليلاً. ولما يتعب في آخر النهار يصعد فوق الفرن محتضناً الجفت متمرغاً في حرارته التي طالما شبهها بحرارة حضن جدتي، يرتاح فوقه ساعة أو بضع ساعة، متدثراً بالدفء الذي ينفثه كوم “الجفت” في الهواء المشبع بزيت الزيتون، لكنه يظل معظم الوقت يخبز للقرية كلها دون أجر نقدي، لكن أهل قريتنا لا يأكلون حق أحد، كانوا يعوضونه بالبيض والدجاج والفواكه والخضار، رغم أننا كنا نملك منها الكثير.

كانت حكاياته لا تنقطع ولا تنتهي، والمرحوم والدي يتشرب الصنعة والحكايات منه كما الإسفنجة تتشرب الماء، ويجعل من كل شيء داخل ذاكرته حكاية، من تجاربه المتراكمة هناك في دولاب الذاكرة، من قصص الناس وتجارب القرية يصنع الحكمة، وأبي يُخزن تلك الحكايات ويستلهم الحِكَم ليتلوها علي فيما بعد، كما تتلو آيات من الذكر الحكيم، فصرت أشعر أن جذوري تمتد عميقاً في باطن الأرض لتعانق جذور التاريخ هناك، وتناغي الفرن الذي بناه جدي في تلك القرية التي تكاد تلتقطها العين من الجنوب اللبناني، بناه بيديه وبمساعدة طفيفة من إخوته الكبار، فأنا في ذلك الوقت لم أكن موجوداً، لم أُخلق بعد، جئت بعد أن إقتلعونا من جذورنا من قريتنا في الشمال، أين ومتى وكيف، يمكنني الجزم أنني مثل الكثيرين الذين جاؤوا وحسب، لا يهم كيف ولا أين، المهم انهم جاؤوا بجذور مقطعة وأوصال ممزقة، والله وحده يعلم كيف استطاعوا شبك جذورهم من جديد رغم طول المسافة ومرور الزمن.

منذ ذلك الزمن صرنا لاجئين، وبنى والدي فرنه في مخيم عين الحلوه في لبنان، وصار يعجن ويخبز ويطعم المخيم كله، وفي المساء يجلس في ركن من أركان غرفتنا يعاتب الرب أحياناً ويستعطفه أحياناً أخرى، وكنت أحس دمعاته وأنا في فرشتي، دون أن أملك الجرأة عن الإفصاح عن سهر حاسة السمع عندي إلى تلك الساعة، لكن الأكيد أن الله لم يستمع له في كل تلك السنين.

كان محترفاً إلى حد الذهول، يُلاعب العجين على أصابعه مثل “الجني”، لا تكاد ترى حركة أصابعه، وفي مرات كثيرة كان يحذف بالرغيف في زاوية الفرن البعيدة دون حاجة للمزلاج، لكنه لم ينسَ يوماً ذكرياته في قرية الشجرة التي هجّروه منها ، مُنتزعينه من وسط كرم الدوالي وأشجارالتين والزيتون، لذلك ظلت قرية الشجرة في رأسه ولم تفارقه يوماً، وكلما تقادم الزمن كلما زادت شموخاً في رأسه، كالنبيذ المعتق سيدي القاضي، وزادت أقاصيصه لي عنها، وصارت أمنيته أن يختطف حزمة ضوء  من سمائها بين جفنيه قبل أن يموت، لكنه بعد زمن مات دون أن يختطف تلك الحزمة التي تمنى أو أراد.

وصرت أنا الخبَّاز الجديد سيدي القاضي، كنت أعمل في مكان أبي، في مخيم عين الحلوه قبل أن أنتقل مع القادمين الجدد الى هذه الأرض، التي إعتقدتها ستوصلني لاحقاً إلى قرية الشجرة، قريتي وقرية والدي وجدي الذي لم يسعفهما الزمن ولم تساعدهما القوة في أن يقطفا من حقول سمائها ضمة ورد من ضياء ويموتان. ماتا قبل أن يريا قريتنا، قرية الشجرة، لعلك سمعت بها سيدي؟!!!

ـ ماذا ؟ لم تسمع بها، ليس مهماً على أي حال، إنها هناك في الشمال، أبعد من صفد التي تخلى عنها سيادته وسيادتهم، قالوا أنها لا تهمهم، ومن لا تهمه صفد وحيفا ويافا أتعتقد أنه يمكن أن تهمه قرية الشجرة؟ “مجنون يحكي وعاقل يستمع” سيدي القاضي.

كنت أقف طوال نهاري على قدميّ دون “آه” واحدة، دون ملل أو ضجر، أو حتى حالة تأفف، لأنني ببساطة شديدة كنت أحب عملي، هل قلت كنتُ؟ لا بل ومازلت أحبه، فأنا في متاهات تفاصيله منذ الصغر، لم أترك كبيرة أم صغيرة دون أن أتعلمها حين كنت مساعداً للمرحوم والدي، وبقيت كذلك حتى غيبه الموت وأنا ما أزال طفلاً.

لن تصدق أبداً أنه مات جوعاً والخبز بين يديه، قالوا فقر دم وقالوا هزالاً وقالوا “أنيميا”، لكن النتيجة واحدة وهي نتاج الجوع، أتصدق أن خبازا يموت جوعاً؟ مات هناك مكانه في الحفرة المقابلة للفرن تماماً، تكوم على نفسه ولفظ بقية أنفاسه فارغ الجفنين رغم أن كل ما أراده حزمة ضوء يشم منها تاريخاً حاولوا سلبه، معتقدين أن الأكاذيب يمكن أن تصنع لهم تاريخاً، ما أسخفهم، وهل يُصنع التاريخ بالأكاذيب؟!!!.

كان رحمه الله خبازاً محترفاً سيدي القاضي، لم يترك رغيفاً واحداً طوال حياته يحترق، فبالنسبة إليه الرغيف المحروق وصمة عار في جبين خبّازه لن تُمحى أبداً، لأنك إن صنعت شيئاً عليك أن تصنعه جيداً أو أن تختفي خلف جهلك وتعانق المقهى وألعاب الورق…

حاضر سيدي القاضي، سأتكلم عن نفسي فقط وأوجز، أعرف أن ليس لديك وقتاً تضيعه على أمثالي.

مات واستلمت أنا مهنته، كنت قد تعلمتها وعشقتها، حتى قبل أن أكبر وتستطيع عيناي أن ترى ما بداخل الفرن، كنت قد وضعت كرسياً في حفرة الفرن بجانب المرحوم ليزيد من طولي قليلاً، ورغم أن المرحوم كان يتعثر به إلا أنه لم ينهرني من حواف قدميه.

وكبرت، وكنت أقطع من العجين كتلة صماء فأخلق منها رغيفاً ساخناً يتطاير منه البخار فخوراً مختالاً نحو السماء، أفرش تحتها بعض حبيبات الطحين وكذلك فوقها كي أمنع محاولات إلتصاقها، أضغط الكتلة بأصابع يدي الثمانية، وأقلبها وأحملها وأناغيها وأدللها، فتنفرد أمامي وتتمدد كعاشقة عارية تنتظر حبيبها لتضمه بين أحضانها لعله يُخفف قليلاً من ألم الجوى، أُلقيها في الهواء، فتطير متضاحكة وترتفع دائرة حول نفسها مثل عروس ترقص في يوم زفافها، قبل أن تتهاوى وتنزل بين كفي، تستدير وتتمدد وتظل كما هي وكأنني رسمتها رسما على سطح ورقة، لم تُثقب ولم تتمزق يوماً ولم يختلف شكلها ولم يتعكر صفو حوافها، ثم أضعها على المزلاج الخشبي الذي أمامي رغيفاً من عجين، فأضعه بعيداً على حافة الفرن المقابلة للنار، فقربه من النار يحرقه، وبعده عنها يجففه ويسبغه بلون الموت، يجب أن يظل على مسافة مناسبة… لا ليس وسطياً سيدي، بل في مكان مناسب، فالوسطية لا تصنع رغيفاً من الخبز بمذاق جيد. ثم أبدأ بتحريكه وهو في مكانه، أجعله يدور حول نفسه كمخمور، ليبدأ يكتسي لوناً جديداً، وكم كنت أتمتع وأنا أراه ينتقخ وينتفخ ويبدأ بالإحمرار، فأحركه من جديد لتصل النار ألى كامل سطحه، ويتساوى عليه لون النار دون فروق، المساواة ضرورية حتى للخبز كي لا يكون طرفاً ناضجاً وآخر غير ناضج، ثم أخرجه قبل أن تهزمه النار ويتفجر من أحد أطرافه الضعيفة ويكون البخار مازال يتصاعد عن وجهه كما يتصاعد الدخان من مصباح علاء الدين قبل صعود الجني وتحرره منه . ولا أضع الخبز واحداً على ظهر أخيه قبل أن يبرده الهواء قليلاً، كيلا يتحول البخار الى حبيبات ماء تفسد الرغيف وتفسد أكله، ففي مهنتنا، مثل كل مهنة، هناك أسرار بدونها لن تصل لدرجة خباز محترف كما كان المرحوم والدي وقبله جدي.

وهكذا كنت، أعمل من الفجر الى آخر النهار، وكان معظم المخيم يشتري خبزه مني رغم وجود أفراناً أخرى، ترى رجاله ونساءه مصطفين ليشتروا الخبز الذي تصنعه يداي، نعم سيدي… قبل أن يُحرّموا الإختلاط ويُحرّموا المرأة جسداً وروحاً، وقبل أن تخرج الفتاوى بلفلفتها وبرقعتها وسجنها بين طناجر الطعام وعلى “فرشات” الجنس البارد، بعد أن كانت قد بدأت تقبض على البندقية.

وجاءني جنابه وقتها، نعم في يوم صيفي قائظ، وأنا في الحفرة أواجه النار، وأتصدى لجحيم الطبيعة الذي فجّر ينبوع نهر من العرق يسيل من رأسي حتى تحت خاصري، وطلب مني أن آتيه في يوم الجمعة اللاحق، حيث كان يوم عطلتي.

ذهبت لمقابلته، وسألني:

ـ كم يعطيك، أبو خليل،  مالك الفرن أجرة في الشهر؟

وقلت له بصدق المبلغ والذي لم أعد أذكره، فقال:

ـ كيف إستطعت أن تعمل عنده بعد أن قتل أباك؟

كان يريد أن يزرع الفتنة بينيوبين أبي خليل، وهي مقدمة لفتنة بين أبناء المخيم الواحد!

أنظر إليه، هاهو يضحك من خلفك سيدي القاضي، إن كنت أكذب فليقاطعني، كيف يمكن أن يكون خلفكم أنتم القضاة أيضاً؟ عقلي سيتفجر سيدي القاضي، أجده خلف القضاة وخلف الوزارات وخلف الوزراء والمؤسسات!!! بل صار بديلاً عن كل شيء سيدي القاضي، كيف يتم ذلك؟ كيق وصل تأثيره ألى كل شيء؟.

أعرف سيدي القاضي أنه ليس من شأني، لكنه مجرد فضول…قلت:

ـ مات والدي قضاء وقدراً، فالأعمار بيد الله.

قال:

ـ الأعمار بيد الله لكنه كان المتسبب.

وسكت هنيهة وكأنه يريد أن تدخل الكلمات ثنايا رأسي وتستقر فيه، وقال:

ـ لو كنت مكانك لقتلته… على كل حال ليس هذا موضوعنا، موضوعي أنني رأيت مهارتك، واستشرت القيادة التي وافقت على تسليمك فرناً تخبز به للثوار، للفدائيين، هل تقبل أن تستلم فرن الثورة وتقوده، وتترك أبا خليل، وبهذا تثأر من قاتل والدك؟

لم أعلق على جملته الأخيرة سيدي القاضي، لكنني قلت متسائلاً:

ـ فرن الثورة؟ كيف لا؟ ومن يرفض هذا الشرف؟

لم أكن أعرف أن للثورة فرنها الخاص، وأن للثوار فرنهم وخبازهم الذي يختلف عن فرن المخيم وخبازه، ولم أتردد في الإلتحاق به، فأعطيت أبا خليل مهلة ليجد عني بديلاً، والتحقت للعمل في فرن الثورة، وكان جنابه، ربنا الله، قد زاد معاشي عشرين ليرة لبنانية كاملة، ووضع بجانبي مساعداً أيضاً، لأن عملي لن يستطيع إنجازه شخص واحد أبداً، وصرت أعمل مثلما كنت أعمل هناك، لكن بزيادة طفيفة، قدر ساعة أو ساعة ونصف الساعة في اليوم الواحد، كي نستطيع أن نؤدي عملنا على أكمل وجه، ولا نترك الفدائيين يتضورون جوعاً.

جنابه لم يقصر معي أبداً، دفع أجرتي قبل أن يجف عرقي، ربنا الله، وأحياناً عندما يزيد الخبز عن أكل الفدائيين كان يُحمّلني بضعة أرغفة لبيتي دون أن يأخذ ثمنه إلا آخر الشهر، يخصم ثلاثة أرباع سعرها وليس سعرها كاملاً، لأنها تكون قد فقدت سخنوتها، أو ظلت الى اليوم التالي نائمة في مكان ما. وكونه هو في الأصل محاسباً، دخل الثورة ليضبط حساباتها، واستطاع ضبطها ولملمة تبعثرها لكن لتتوجه إلى جيبه، وكان واضحاً منذ البدء، حدد بوصلته جيداً، البوصلة هي المال العام والمكان هو جيبه كما قال الكثيرون. كان يأتي لي بفواتير يومية أوقعها عن عدد الأرغفة وسعرها… وكانت هذه الأرغفة بعدد ثابت كل يوم، وكان العدد ألف رغيف في اليوم الواحد، لم تزد يوماً ولا تقل، وأنا كنت أعتقد أنه عدّها أو على الأقل قدرها بشكل تقريبي، حتى جاء يوم واستدعاني أحد المسؤولين الكبار عن مخابز الثورة، وأراني أحد الفواتير بتوقيعي وبصمتي أيضاً، فرأيت بأم عيني أن العدد لم يكن ألفاً في أية فاتورة، بل تم تكبير الأصفار وتحريكها لتصبح أرقاما كبيرة، كان جنابه قد حركها بلمساته السحرية الخفيفة، فجعلت من الأرقام الصماء الميتة فوق الأوراق جبالاً من النقود في جيبه، ومن يستطيع أن يفعل ذلك غير محاسب محترف كان قد دخل الثورة لضبط حساباتها؟!!!

ولك أن تعد سيدي القاضي كم ألف من الأرغفة سُحبت من فم الفدائيين لتتحول للنهر المنساب  مالاً قي جيبه كل شهر، دون أن يفرد بأصابعه الناعمة حتى لو رغيفاً واحداً، ودون أن تلفحه نيران الفرن ولو ساعة واحدة، ولا حتى أن بنام ساعة واحدة في “جفت” الزيتون الذي ما زال يحتفظ لنفسه بحصة من الزيت، وحينها تذكرت كلمات المرحوم والدي ناقلاً المأثور الشعبي ” المال السايب يعلم السرقة” ليس هذا فحسب، بل هو يسرق وأنا المتهم وأنا من يُحاسب، فهل يحق لمثله أن يكون خلفكم أنتم القضاة في قضية المتهم فيها غريمه سيدي القاضي؟

ـ حاضر، “سأسد نيعي” مادام الأمر ليس شأني.

لم أعلم شيئاً عن الأمر في مخيمنا اللبناني، وأخذني بمعيته لما رحلنا إلى تونس لأتابع إطعام الفدائيين هناك، وكان قد سافر الى هناك قبل الجميع، فهو لم يكن من أنصار البندقية الفدائية سيدي الرئيس، بل من أنصار تلك البنادق التي بحوزة الأنظمة، البنادق التي تُطلق للخلف سيدي القاضي، لذلك رحل قبلنا جميعاً، وكان يتحدث كثيراً عن السياسة والدبلوماسية والتكتيك، وكان يحب كثيراً “أنصار السلام” عندهم سيدي القاضي ويلتقيهم ويأكلون اللحوم فقط دون خبز المخيم.

أنا لم أعرف شيئاً عن كل ذلك سيدي القاضي، أنا رجل بسيط إلا في فن الخبز أمام  الفرن، فأنا “داهية” ولن أكون متواضعاً ، وأبي وأنا من صححا المأثور الشعبي القائل:”فلان لا يضحك للرغيف الساخن”، بحيث جعلنا “فلاناً” يضحك له رغم أنفه، بل ويقهقه عندما يراه، لكنني فيما عدا ذلك أقر بما يقولون عني، أنني على باب الله، وأنني على نياتي، وأن القطة تأكل عشاي، لكن البعض ممن كانوا يعرفون بالأمر وشمّوا رائحته التي تزكم الأنوف، أوصلوا الأمر للقائد الكبير رحمه الله، والقائد الكبير كان يحب مثل جناب المحاسب ويُقربهم منه، لأنه كما قال بعض المخيم يستطيع أن يقودهم، بعد ذلك، كالأنعام سيدي القاضي، فبعد أن يمسك عليهم المماسك، يهز الأوراق الممسك بها عليهم أمام وجوههم الصلفاء، يشتمهم ويُهزأهم ويقل قيمتهم “بعيدا عن جنابك” وهم لا يجرؤن على الرد، بل يخرون له ساجدين، لأن جلودهم تكون قد تعودت على الشتائم ووجوههم على البصاق وضرب النعال دون أن يرف لهم جفن. وقال القائد الكبير رحمه الله لمن أوصله الخبر بلهجة مصرية:

ـ ده حرامي وشبع حجبلكوا واحد جديد يبتدي من الصفر؟ اعمل ليكو إيه؟ ده قدركم بقه.

وأبقاه محاسباً مؤتمناً كما كان، بل علّا من شأنه أيضاً لأنه زاد بصماً بحافريه كما قال الكثيرون، وأكد البعض أنه فرك له أذنه واستعجله ليعرف نتائج لقاءاته مع “مشجعي السلام ” من الطرف الآخر.

كان هذا قبل أن تنمو له مخالباً وتكبر، قبل أن ننتقل إلى هذه الأرض من حمّام الشط، وقبل أن يبدأ بمد يده إلى ما تحت يد القائد الكبير، ليرثه ويركب فوق ظهورنا نحن العامة، حيث ظل يعتبر نفسه أحد الأسباب الذي أوصلنا لما نحن فيه من هيبة وعنفوان وازدهار!!! وأننا لولاه لما كنا في مثل هذا العز الذي “نتمرغ” في خيره ونرعى كالإبل.

ـ أنا لا أستهزئ سيدي القاضي… حاضر لن أتكلم في السياسة، فهي التي أوصلتني للوقوف هذه الوقفة بين أيديكم.

بعد أن كبر وانتشر خلف كل شيء في البلاد، صار كل ريع الخبز يذهب إلى جيبه وليس الفرن الذي أعمل به فقط، ولم يعد يحاسبه أحد على ذلك، بل سمعت أنه يأخذ الكثير من الأموال من “معسكر السلام” القريب والبعيد، ولم يعد بحاجة إلى هذا الفتات، لكنه رغم ذلك أعطاه لبعض أقاربه كي لا يتسرب هذا المصدر إلى آخرين.

ـ “ما علينا” سيدي القاضي، أنا لن أتنازل عن حقي، والمخيم كله إلّا البعض القليل، كلهم يدعمني ويقف في صفي، تعرف سيدي القاضي أن المسحجين والمطبلين يتواجدون عند كل الشعوب وفي كل الأوقات، لكنني قررت أن لا يستحمرني أحد من جديد…

ـ نعم حقي سيدي القاضي، كيف لا؟ أنا لا أريد مالاً، أنا أريده أن يشرح لسيادتكم وهو الموظف من أين له كل هذه الثروة؟ ومن أين لأولاده وأحفاده كل هذه القصور والعقارات والشركات والأملاك وأنا الذي إشتغلت وتعبت وليس هو، إحسبوا دخله على مدار العمر لتعرفوا بأنفسكم أنه لو عاش مائة حياة لن يكون لديه كل هذه الأموال، التي حول إتجاهها ويتهمني بها، وأنا لا أملك كيس طحين واحد في بيتي.

ربما عمل بأشياءٍ أخرى، إحسبوها له، لكن عليه أن يُرجع ما سرقه من أموال خبز الفدائيين، وأموال خبز أهاليهم الذين كانوا يتلقون جحيم الطائرات في المخيم في كل وقت، وهو سيدي القاضي لم يكن في المخيم ولم يعش فيه يوماً واحداً، حتى أنه لم يمر فيه إلّا ليحادثني وأمثالي من البسطاء الذين يوقعون على الفواتير دون سؤال، أما ماعدا ذلك فلا شأن له بالفقراء…

إسألوه كيف إستجمع كل هذه القوة بين يديه؟ ليس بالمال وحده بالتأكيد، وليس بالتسحيج والتطبيل والتزمير فقط، فعلو النباح لا يجلب القوة ولا يُسنن النيوب ويُنمي المخالب ، إسألوه كيف أحرق كل بنادق الفدائيين الذين أطعمتهم خبزاً من صنع يدي؟ ومن الذي زوده ببنادق الأنظمة هذه التي لا يربطها رابط ببنادق المخيم.

لا أعرف لماذا لا توقفون إبتساماته المتتالية من خلف ظهوركم سيدي القاضي، أإلى هذه الدرجة فرد نفوذه وصار يمسك بكل مفاصل البلد؟

أتعرف سيدي القاضي، لو كان يتعامل معهم كما يتعامل معنا بنفس الطريقة والحدة ما كنت غضبت، لكنه هناك يستجدي ويركع ويسجد بين الأقدام، لا يجرؤ أن يرفع عينه في عيونهم وكأنهم يمسكون عليه المماسك وأوراق الإذلال، وتراه عندنا يمشي مثل طاووس، قلت طاووساً وليس نسراً سيدي القاضي، فمثله لم يكن نسراً يوماً ولن يكون، لا يعرف ولا يستطيع، فللنسور صفاتها وميزاتها التي لن تتوفر به يوماً، النسور شامخة حتى في إحتضارها، وهو ذليل حتى في عز قوته وغناه.

هذه صفات سيدي القاضي وليس قدحاً وذماً، وإن لم تصدقني ضعه أمام التجربة، أمام المواجهة مهما كانت طفيفة وبسيطة، ستجده في الهريبة “كالغزال”. كما تريد، أتعتقد أن الغريق يخاف من البلل؟ سجل تهماً جديدة إن أردت، فأنا “تحت المزراب” سيدي القاضي ولن تُخيفني أمطار الشتاء.

لا يعنيني من يكون ومن وراءه، المهم أصل الفتى، صفاته، معدنه، “سألوا الحمار من أبوك فقال خالي الحصان”، أتعتقد سيدي القاضي أن خاله الحصان كان قادراً على تغيير ماهيتة؟!!! ظل الحمار حماراً وإن إدّعى بأن الحصان خاله، ومهما “طلع أو نزل” سيظل حماراً، “حاشاك” سيدي القاضي.

لا أعرف لماذا تظل تقاطعني سيدي القاضي، فأنا إنسان بسيط وعلى “باب الله”، كلما قاطعتني نسيت ما أريد قوله، وكما ترى فلا محامي لدي يدافع عني وعن حقوقي، كما أنني سمعت أن المحامين في بلدنا لا يستطيعون “حماية مؤخراتهم”، كما أكدت أمي رحمها الله ذات يوم، وأنتم القضاة كما سمعت صرتم تحاكمون الشهداء وتقتصون من الفدائيين، أصحيح هذا أيها القاضي؟

سأقول لك سيدي إن نفيت هذه الأقاويل، إن كان ما سمعته كذباً وتشويهاً، سأقول سيدي وتاج رأسي أيضاً، وإلا فلن تكون سيدي أبداً بل وستسقط من عيني إلى تحت حذائي ولن يرفعك أحد أبداً، تماماً كمن سقط من يقف وراءك، وها هو يقدم لك أقاصيص أوراق تملؤها الكلمات.

ـ لا سيدي لن أكون خبازهم، يستطيع إكتشاف صلة قرابته معهم كما يشاء وكيفما يشاء، “أبناء عمومة” فليكن بالنسبة له، لكنهم بالنسبة لي هم قتلة أبي الحقيقيين… نعم هم، فلولا تهجيرهم لما مات أبي الخباز جائعاً تنخره الأمراض، ولما تيتمت أنا وترملت أمي، لما كنا متهمين في العالم كله وكلٌ يركلنا بقدمه، لما كنت أنا هنا أقف أمام سيادتكم في قفص الأتهام، ولما كنت وقعت على فواتير أحد لأملأ جيوبه مالاً، وكلما إمتلأت جيوبه مالاً كلما جاع الفدائيون الذين جئت خصيصاً لأطعمهم خبزي. لكنت مازلت في قريتي الشجرة، لكنت عشت حياة طبيعية بين أبي وأمي، لما مات والدي في حفرة أمام فرن في الغربة، لما جاع وبين يديه “حاكورة” البيت وزيتونات الحقل وزعتر الجبل وأرغفة الفرن التي يتماوج فوق وجوهها لون النار الذي أعطاها طعمه ، كما أنني لا أريد أن أكون “خباز السلام”، أرفض عرضكم لسحب التهمة عني مقابل ذلك، أريد أن أظل خباز الفدائيين، خباز المخيم وما يحيط به من قرى ومدن…

ـ ماذا؟ لم يعد هناك فداييون!، ليس مهماً، ما تبقّى منهم، مهما كانوا أقلة لن أتركهم يجوعون، “عاقل يتكلم ومجنون يستمع”، أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، أتستدرجني لتعرف أماكنهم؟ سيعرفون هم مكاني إن لم أعرف أنا مكانهم، سيأتون هم عندي لأطعمهم خبزي.

ـ نعم أقولها بصوتٍ عال، وبكل ثقة أيضاً، أنا لن أتركهم يموتون جوعاً، كما لن أترك مهنتي تموت وأصابع يدي يضخ إليها القلب دماً، فمهنتي مرتبطة بهم، بإشباعهم بعد أن جوّعوهم وأفقروهم وسحبوا منهم قوّتهم ورحّلوهم من المخيم إلى حمام الشط مبعدينهم عن حدود الوطن، كي لا يعودوا يشمون راحة صفد والجليل وقرية الشجرة، كي يموتون غيظاً وجوعاً وإختناقاً، نعم، لقد إختنقوا بعد أن صاروا غير قادرين عل التنفس بهواء الجليل الذي صار بعيداً.

رغم بساطتي فإنني أعرف جيداً كيف حول سعادته كل معظم مَنْ أتي بهم إلى موظفين ومسحجين ومطبلين ينتظرون “مخالي العلف” في آخر الشهر، بعد أن إقتلع نيوبهم وقصقص أجنحتهم فلم يعودوا يحسنوا فن الطيران، ومن ليس لديه أجنحة لن يستطيع التحليق ليرى القدس وعكا وطبريا ونتانيا وصفد والجليل، لن يستطيع السباحة في بحر يافا، ولن يعرف يوماً كيف تنتظرنا الناصرة وكفر قاسم عرائس بلباسها الأبيض.

أما أنا فسأجعل من العجين لآلئ من خبز، ومن الخبز أنواعاً، سأزيد من حجمه ووزنه، وسأضيف إليه “الملاتيت” وأرشها بالسكر،سأصنع لهم أقراص الزعتر والسبانخ وكافة أنواع المعجنات، وإن توافرت في جيوبي نقوداً سأشتري لهم اللحوم وأقطعها بنفسي وأصنع لهم “الصفيحة” ليستعيدوا قوتهم، المهم أن لا يجوعوا، وكما تلاحظ فالأساس هو الخبز، فبدون الخبز سيدي القاضي ما فائدة زيت الزيتون والزعتر؟ ما فائدة الميرامية وابريق الشاي؟ إنها تفقد قيمتها ولا يبقى لوجودها معنى.

أمّا أنا سأظل أعجن وأخبز لأطعم الفدائيين ولن أتنازل أبداً عن هذا الشرف، هدّد كما تريد، فلن “يقطع الرأس إلّا من ركّبها”، أعيد مجدداً أنني لن أكون خباز “السلام”، فأي سلام دون أن أعود لقريتي “الشجرة” وتعود لي، دون أن يلعب أولادي في أزقتها وطرقاتها، دون أن أزرع حكورتها وأدهن خبزي بزيت زيتونها؟!!!

أعرف أنكم جميعاً كما الدجاح “لا تتحكمون حتى في بيضاتكم”، وأن روحكم في يده، وتفتت ضميركم وتبعثر ولن تستطيعوا إسترجاعه أبداً ولا حتى لملمته.

إحكم كما تريد فلن يتذوق خبزي إلا من يستحق، الفدايون، وفقط الفدايون، إفعلوا ما تريدون، فلن تثنوني عن قراري هذا أبداً.

محمد النجار

 

عندما يستعيد الثلج لونه

استقبلني عامر، كعادته، في بيته إستقبالاً يفيض ترحاباً، كمن يرى إنساناً عزيزاً عليه بعد زمن من الإنقطاع والإشتياق، كيف لا ونحن الإثنان كنا رفاق درب وسجن وحزب ومسيرة مليئة بالمد والجزر والفرح والحزن، وكلانا حمى الآخر بكل ما فيه من قوة في زمن الزنازين المقاوم، عندما كانت الفكرة شعلة، والقابض على الفكرة قابض على الشعلة، التي حتماً ستصل لنهاياتها الظافرة، عندما كانت الفكرة شعلة وبرنامج عمل ومنارة تضيء الطريق، مبدأ لا مجال للتشكيك في الإيمان به، إنه القول الفصل والمذهب الذي لا يختلف عليه إثنان، عندما لم يكن للعذاب ولا الموت كبير إعتبار أمام الإصرار على نشر تلك المبادئ والأفكار.

وفرقتنا الطريق بعد أن جاء “أوسلو” محملاً على ظهور القيادة مربوطاً بجيدها مثل “رسن”، كما يحب أن يقول، إفترقنا عندما “شرعنت” قيادتنا بدورها الدخول لمؤسسات “السلطة” القيادية، ووجدت الكثير منها أماكن عمل لها بوظائف “مدراء” بفروعها المختلفة:”ا و ب و ج “، مبررة أنها ستعفي الحزب من إلتزاماته المالية نحوها، وارتفع صوته المندد بالخطوة، المحذر من الإنزلاق في نفق “أوسلو” بغض النظر عن التبريرات، متهماً من وافق على تلك الوظائف بأنهم في خطوتهم الأولى لخيانة الأمانة التي وضعها الناس في أعناقهم، وأن الأمر لا يعدو سوى الخطوة الأولى للمهادنة والدخول في القفص، فطعم المال يُغري بالمزيد، وقال:

ـ إن العبيد وحدهم الذين يدخلون القفص بأقدامهم، ومن دخل القفص يكون قد ودع الطيران إلى غير رجعة، ولن يعود قادراً على التحليق نحو السماء حتى إن حمل زوجاً من الأجنحة بحجم أجنحة طائر الفينيق، ثم ما فائدة الأجنحة إن لم تكن قادرة على حمل صاحبها فوق أجنحة الرياح ومطباته وطرقاته المُتعرجة بإتجاه  الشمس؟!!

وتابع بكل مافيه من غضب وقال:

ـ أنتم تجردوننا من أحلامنا، تدفنوها في مزابل التاريخ وخلف الزمن، إنكم تضللوننا وتخدعوننا عن سبق إصرار، فضوء القمر هذا الذي تشيرون نحوه خادع كاذب، ليس سوى إنعكاس لحظي عن الأصيل عند بعض لحظات غيابه، الأصل هو ضوء الشمس الذي تُغيِّبون وتتجاهلون.

ولمّا سأله البعض عن ماهية العمل في مثل هذه الظروف قال:

ـ “إن أبغض الحلال عند الله الطلاق”، لم يعد يربطنا بهم رابط، والمنظمة ثمنها دماء الشهداء وأنات الجرحى والأسرى، لم يرثوها عن آبائهم، إنها حق من لا يخون دماء الشهداء، إن كنتم ترون بأنفسكم أهلاً لذلك استعيدوها، وإلاّ فسيكون أي كلام أو احاديث مجرد كلام، لا يستحق التوقف عنده.

أجاب بعض القادة حينئذٍ مُتجنبين النظر في أعماق عينيه:

ـ الطلاق؟ إنه مجرد عمل، إنها حقوقنا من منظمة التحرير.

فقال وقد تشابك عنده الغضب مع العتب:

ـ ياحيف على الرجال ياحيف، أتستحمرونني وتستهينون بقدراتي العقلية إلى هذه الدرجة؟ عن أي منظمة تتحدثون؟ وهل بعد هذا تبقَّى شيء من منظمة التحرير؟ في أيام العز كانت قيادة المنظمة المهترئة الفاسدة المفسدة، تمنع حصصنا المالية عند كل منعطف، ولو لم تكن كذلك لما ركبت قطار “أوسلو” أصلاً، أتريدونها بعد هذه الردة وهذا الإنحدار أن تعطي للفصائل المعارضة حقوقها؟!!!

سكت قليلاً ثم أضاف:

ـ كي أسهل عليكم الأمر، أنا أوافق على أمر الوظائف ضمن قانونين اثنين، الأول أن يكون الأمر مؤقتاً بشهور عدة ولا تزيد عن سنة، ويتم تداوره بين الرفاق، كل بضعة شهور يُعطى لرفيق غير الذي كان، والثاني، أن يأخذ صاحب المنصب قدر التفرغ الحزبي فقط ويُحوِّل ما يزيد عن ذلك لمالية الحزب.

طبعاً لم يوافق أحد عل إقتراحه، فزاد نقده لهم، لنفس رفاقه الذين طالما حماهم داخل الزنازين وحموه، قال:

ـ إنها الخطوة الأولى لتبتلعوا ألسنتكم، ومن يبتلع لسانه سيلجم فعله لا محالة، ولن تُلعلع رصاصاته سوى في الأعراس.

وتابع حديثه المتلاحق في كل مناسبة:

ـ إنكم لن تجرؤوا على إصطياد عصفور، فما بالكم بجندي أو مستوطن؟!!! بل لن تجرؤوا على تأييد من يفعل ذلك، هذا إن لم تتبرأوا منه أصلاً، هذا هو ثمن الوظائف تلك، وأمام أي موقف ستقارنون بين الفرق في دخلكم وحياتكم الماضية والحاضرة، وستنحازون إلى الراحة والبذخ، وليس لسنوات المطاردة والسجون والمواجهة، إنها سنن الحياة التي إخترتمونها.

وارتفع صوته وعلا، وتراجع حضوره أو قَلَّ بينهم، وغاب أو غُيِّب لا فرق فالنتيجة واحدة، ثم انفصل أو فُصل أو لم يعد أحد يتصل به، سيّان، وقلنا أنه تساقط في الطريق، وبررنا بأن الطريق الطويل متعب وشاق، وليس كل من يسير به يصل لنهايته، وأن هذه سنن النضال والحياة، وأن من الناس من يتحول لذاتي بعد تعبه أو فشله لئلا يعترف بعجزه، والبعض يتحول لجزء من جمهور المتفرجين، وحللنا وتفلسفنا واخترعنا النظريات، وظل هو يُعتقل عند سلطة أوسلو بسبب “طول لسانه”، لكنه بدل أن يصمت تصاعدت إنتقاداته وعلا صوته، وظل يعلو ويعلو، وصرنا نحن رفاقه السابقين الأشد تعرضاً لإنتقاداته، نحن و”حلفاء إسرائيل الجدد” كما سمّاهم، الأمر الذي جعل الرفاق ينتدبونني لأضع له حداً، أو لأخجِّله، لأذكِّره بماضيه الذي يحاول تناسيه ورميه بعيداً خلف جدران الوهم التي تحوم في رأسه، وكأن ذاك الماضي ليس منه ولا هو من صنع يديه، في جزء يسيرٍ منه على الأقل، ولأقول له أن مَنْ لا ماضي له ليس له مستقبل تحت هذه الشمس.

أخذت أستعيد الماضي معه ونحن نحتسي شاينا “الباذخ” الغارق برائحة النعناع حتى حدود “البطر”، وصحني الزيت والزعتر أمامنا، نغمس بهما قطعاً من خبز الطابون ليصل الزيت حتى نهاية عقلة السبابة والوسطى والإبهام، ونسكب خلفه جرعات من الشاي المُحلّى، فطعم الزعتر وزيت الزيتون المجبول بحلاوة الشاي لا يضاهيها شيء في هذا العالم.

فصار يتحدث وكأنه يترنم بمعزوفة موسيقية، وقال وهو يلوك الطعام ويصوغ العبارات، مذكرني بتلك الفترة التي كدت أنساها:

  •           *          *

في تلك الليلة الخريفية الباردة، أمّنت ظهري لصخرة في بطن الجبل، وشددت السماء المرصّع بالنجوم، بعيني، لحافاً، لكنه لم يحمني من برد ليل أواخر الخريف، كانت من بين ثقوب النجوم تتسلل حبيبات الهواء الباردة وتتكاثف جداول من برد ينخر جسدي من كل الأماكن، ولم ينفعني معطفي الهزيل في التصدي لها، فصرت ألتَّف بجلدي منتظراً قدوم شمس الصباح، التي تأخرت كثيراً عن موعدها، كأنها تتآمر مع الليل على جسدي البارد، ولم تأتِ قط.

في تلك الليلة قررت أن لا أعود لحضن الجبل مرة أخرى قبل إختفاء البرد، مع يقيني أنه لن يفعل مادام الفصل القادم يقف متحفزاً بالمرصاد للدخول من كل الأماكن والأبواب والمساحات المشرعة دون رابط، لكن ليس للأمر علاقة بالرغبات، فالقرار كان واضحاً، كما تعلم، لا لبس فيه : ” لا تُسلِّموا أنفسكم للعدو كالخراف”، وفي نفس الرسالة :” الوطن بحاجة لكل الطاقات، لا تهدرونها في الزنازين وخلف القضبان”، فتوجب علي أن أجد البديل.

كنت أنت جديداً على الحزب، ولم تكن علاقتنا بهذا العمق، وكنت أنا قد أمضيت الكثير من الليالي موزعاً نفسي عند بعض الأصدقاء، فارضاً نفسي بشكل لا يخلو من بعض الوقاحة أحياناً، وأحياناً مستغلاً باب الصداقة أو طيبة الآخرين، لكنني في معظم الأحيان لم أمكث أكثر من ليلة أو بضع ليال، لأعود أسعى في مناكبها باحثاً عن مكان للمبيت، وفي مثل هذا الحال ينقضي الوقت في البحث ويغيب الوطن عن جدول الأعمال، فيصبح الأمر “وكأنك يابو زيد ما غزيت”، فما الأهمية لوجودي إن لم أكن قادراً على متابعة المهام؟ لكن حملة الإعتقالات الأخيرة تلك لم تُبق لدي الكثير من الخيارات.

منذ دخول الفصل البارد القادم من وراء البحار سماء البلاد، تغير وجه المدينة بالكامل، كانت الغيوم تأتي متكاثفة متجمعة، وسرعان ما تُبطئ المسير لتهيل ما في أحشائها من مياه، وما أن تصطدم ببرد الهواء حتى تتحول إلى ثلوج قطنية بيضاء، ثمار القطن الذي نضج بفعل حرارة الصيف الذي مضى تراها تتطاير في فضاء هذا الشتاء دون رياح، تتراقص متحررة من الغيم الداكن لتفترش مساحات الحقول، وما أن تجد لها مكاناً على سطح الأرض، حتى تبدأ بالتراكم ثمرة فوق أخرى، وتنمو وتكبر وتتسع مدى، حشائش بيضاء مترامية تغطي السهل كله، مخفية أسطح المنازل و العمارات والطرقات والسيارات المتوقفة على رصيف الشوارع في لحظات، تعتلي أغصان أشجار التين والزيتون، تغطي أشجار السرو واللوز والمشمش، وتظل السماء حبلى بالغيوم، والغيوم حبلى بالثلوج كما كانت قبل الولادة الأخيرة، مستعدة لإنجاب التوائم الثلجية المتعددة، مليئة كما جاءت، كأنما لم تكتفِ بما جادت، ولا تنوي المغادرة بعد، وأنا تحملني وتسير بي قدماي، مُهشِّمة وجه الثلج الأبيض المتراكم، غائصة به إلى ما فوق الرسغ، أسير لاهثاً كأنني في رمال الصحراء، ممتلئة قدماي بالثلج المتحول لمياه ثلجية ما أن تَتلامَس مع حرارة قدماي، ماشياً متنقلاً بين أطراف المدينة مبتعداً عن عيون دوريات الجيش، كي أجد لي لحافاً غير السماء.

كنت مطلوباً منذ مايزيد عن عام كامل، كان “جيش الدفاع” قد داهم مرات عدة كما في هذه المرة أيضاً، منزلي بعشرات الجنود، كأنه في معركة حامية الوطيس، حاصر البيت من كافة جوانبه قبل أن يقتحمه مفجراً بابه متعمداً زرع الرعب والخوف في البيت كله، ووسط صراخ أطفالي المرعوبين من الجند وصوت الإنفجار راح يكسر المقاعد والخزانة الواقفة بصمت بجانب الحائط، يمزق الفراش ويهيل مافي “البراد” من طعام، ومن باب الإحتياط، كان يسكب حليب طفلي الرضيع على الأرض، ليتأكد أن عبوة الحليب لا تُخفي قنابل أو رصاص أو متفجرات، والغريب، قالت زوجتي، أنه يفعل هذا الأمر بالحليب في كل مداهمة، وكأنه يؤكد كرهه للأطفال أو خوفه منهم، وربما يرى فيهم خطراً مستقبلياً يمسح كل ماضي كيانه وكل حاضره الفاشي، وكنت أنا قد أخذت إحتياطي وغبت عن الأنظار قبل ذلك بكثير، لأنهم يعتقلون كل شيء وأي شيء، فهم لا يستطيعون إستيعاب ولا فهم كيف يجرؤ هؤلاء “الأغيار” على التمرد عليهم هم الأسياد؟ ألم يخلق الله العالمين جميعاً لخدمتهم؟ ألم يُسخر البشر جميعاً لخدمة شعب “يهوه” المختار؟

تجمع البرد والثلج والضربات الأمنية المتتالية في أجواء المدينة وسائر الوطن، وسقىت دماء مصطفى العكاوي أرض الزنازين، فارتقى شهيداً إلى السماء، فبكت مدينة القدس حباً وورداً وقمحاً وحياة، فتحولت مدينة رام الله الوادعة الجميلة إلى مدينة غريبة لا يكاد يعرفها المرء، وصارت أسطح عماراتها عيوناً متلصصة على الطرقات بعد أن إغتصب الجنود أسطحها، وخلف عماراتها أشباح وكمائن صيد متنقلة من دوريات الجيش، وأضحت الشوارع البيضاء ملتبسة غامضة، والجنود المشاة إستغلوا فقر الشوارع بالمشاة ليوقفوا ما طاب لهم من أُناس متلذذين بتعذيبهم بدعوى الأمن، ومن مكان مسيري الحذر الموازي لشوارع مركز المدينة، كنت أرى دورية من الجيش، وقد أوقفت عائلة بدعوى التفتيش والتدقيق، فلعل الأب أو الأم أو أحد الطفلتين مطلوبون، فرادى أو جماعة، لقوات الأمن، وبعد أن جاء الرد بالنفي عبر جهاز اللاسلكي، طلبوا من الأب الشاب أن يعانق الأرض الغارقة بالثلج والماء المتجمد ويداه خلف ظهره، مرة على بطنه ومرة على ظهرة ليفتشوا جيوبه الأمامية والخلفية، فهم لا يستطيعون تفتيشه واقفاً، وبين المرتين دقائق تمر وبكاء طفلتين ما بين  الخامسة والثامنة لا ينقطع وجسد ممدد فوق الثلج مرتعش، من البرد أو الخوف ربما، أو الأمرين معاً، وتفكك لحبيبات الثلج لتتحول إلى ماء مثقل بالبرودة والمرض ينغرس سكاكيناً حادة في جسد الأب الراجف، فلم يعد ل” وجعلنا من الماء كل شيء حياً” مكان، وصار الماء عدواً قاتلاً دون جدال، وصار الجسد الممدد فوق الأرض يمتص الماء مجبراً، فيرتج ويرتجف كأوراق شجرة داهمتها رياح عاتية مباغتة ودون رحمة فانهالت متهاوية من علِ، قبل أن يُعيدوا له ولزوجته بطاقتيهما، ويسمحوا للعائلة بالمغادرة، وأنا أقف على حافة الخطر أُراكم الحقد في داخلي ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، أسناني تصطك مع بعضها البعض، والبرد ينخر عظامي ويلتهمها دون رحمة، فيصير السجن رحمة، ويصبح الإعتقال أمنية، والوصول إلى بيت الرفيق المتوجه أنا إليه، في تلك اللحظات بالذات، هدف سامي، والحلم بكوب من الشاي، حتى دون الزيت والزعتر وخبز الطابون، من مواصفات الجنة.

هذا الرفيق الذي كنت متوجهاً لبيته كان أنت، وإتفقنا في إجتماعنا، إنْ كنت مازلت تذكر، على مباغتة دوريات الجيش بقنابلنا البدائية الحارقة، وظلت تتزاحم بين جفون عينيّ دماء الشهيد مصطفى الطاهرة تسيل، وصورة الرجل الذي يرتجف برداً وعذاباً دون ذنب، وأصوات بكاء الطفلتين تسيل في أذني حديداً مصهوراً، وكانت تتراءى لي بصاطيرهم وهي تعبث تكسيراً في خزائن بيتي، وتداخل صوت بكاء الطفلتين الخائف ببكاء أطفالي المرعوب، وكدت أرى أيديهم تسكب حليب أطفالي فوق ركام البيت مستهزئة مستهينة منتشية، فبدى لي أن الزجاجة الحارقة يجب أن تكون قنبلة، وألقيتها فوق دورية الجيش المارة متسللة في ليل المدينة، وألقيت أنت زجاجتك أيضاً، وكنا نرى دورية الجيش تحترق، وبدى لي أن الجنود هم أنفسهم الذين قتلوا الشهيد في الزنازين، وهم الذين إقتحموا بيتي، وهم من عبث بأثاثه، وهم أنفسهم من أبكوا الطفلتين الصغيرتين وعذّبوا أبويهما، وهم الذين قتلوا عمي وأجبروا أبي عندما كان صبياً وبقية القرية الوادعة على مغادرة بيوتهم، وأنهم يتكررون نسخة كربونية لا تجديد فيها سوى في فن القتل والذبح والعنصرية المتأصلة، وكدت أظل أتفرج على النار المشتعلة فيها، وبدى لي أن الدفء صار يتدفق إلى جسدي، ولم تعد أسناني تصطك ببعضها برداً، وأن قدمي قد جفّا واختفى الورم والتضخم من أصابعهما، وبدى لي أن الثلج قد بدأ يستعيد بياضه ولونه، واستعاد حيويته فازداد ضرع الغيوم عطاءً، وكبر حجم ندفه وتكاثف ليشكل لنا باب حماية للإختفاء، وكان لون الثلج أبيضاً، لكن ليس ذلك الأبيض الذي خبرناه منذ مجيء أوسلو، لم يكن أبيضاً مُزيفاً، كان ناصع الوجه نقياً غير متسخ وغير مُشوّه، فعادت مدينة رام الله جميلة كما أعرفها، وعادت لها الحياة، واستعادت الأسواق المغلقة رونقها، والشوارع حركتها، والمساجد والكنائس رحيقها، فارتفع الآذان وقرع الأجراس عزفاً متلألئاً في الأجواء، وتداخلت أصوات الباعة وزعيق الأطفال، وتعالت أصوات العتابا والميجنا والدحية، وارتفعت الدلعونا وحضر “زريف الطول”، ومن مكان قريب هلّت “زفة” لعريس جديد، وتجمعن الصبايا في ليلة حناء لعروس واقفة على أبواب المدينة ماتزال تبتسم، وأمام وقوفي العبثي متفرجاً، كانت يدك تشدني وتهزني بعنف:

ـ هيا بسرعة، أتريدهم أن يقتلوننا؟

وغادرنا المكان وسط بكاء رصاصهم المتفجر خلفنا، تماماً في أعقابنا دون أن يصلنا أو تصيبنا شظاياه، وفي كل مكان واتجاه، واحتوتنا شوارع المدينة التي لم تعد غريبة، وغطت إنسحابنا كاملاً من المكان، وكأنها توجهنا إلى طرق الحقول، وكانت أصوات إعلانهم لمنع التجوال في المدينة المرافقة لأصوات الرصاص لم تهدأ بعد، ونحن نصعد الجبل مبتعدين عن المكان.

في ركن بعيد في ثنايا ذاكرتي وخباياها، استحضرت بعض كلمات أبي قبل أن يغادرنا مبكراً إلى ربه يقول:

ـ “إقضِ على البرد بالحركة، السكون هو الموت بعينه، ورؤية النار، حتى البعيدة منها، تجعلك تشعر بالدفء”.

  •            *            *

أعاد لي عامر بقصته ذكريات وشجون، قلت قاطعاً حبل ذكرياته المتدفقة نبعاً من عمق جبل:

ـ ليس هذا ما أتى بي إليك، إنه شيء آخر، لسانك السليط علينا، لماذا كل هذا الحقد؟ أفقدت كل احترام لهذا التاريخ الذي تستعيده.

انزلقت قطعة الخبز من بين أصابعه إلى صحن الزعتر، كفت أسنانه عن المضغ، سكت طويلاً قبل أن يسكب في فمه ما تبقى من كاسة شايه ليسهل لها طريق الوصول لمعدته وقال:

ـ الحقد؟!!! أنا أحقد عليكم؟وهل هناك من يحقد على نفسه؟ على أمله؟ ولماذا؟ ربما كان الأجدر بك أن تقول الحب وليس الحقد، فأنتم الأمل الأخير إن إستطعتم استئصال أوراكم السرطانية، إن أخرجتم المستفيدين الذين استطابوا الراحة في الزمن الصعب، إن إستطعتم العمل، كما سبق، تحت الأرض، كنا بإحتلال ونعمل سراً، فما بالك عندما صار للإحتلال أعواناً وعيوناً ومنسقين أمنيين؟!!! صار له أذرعاً طويلة تلاحق وتعتقل وتُخبر وترشد وتكمم الأفواه وتقتل؟ أرأيت قيادة وطنية تُحاكم شهيداً وأسيراً؟

سكت قليلاً وكاد يغتصب إبتسامة فخاف أن تبدو حمقاء كاذبة فعدل، وقال:

ـ قال المرحوم والدي:” أُحب من أبكاني وبكى علي وليس من أضحكني وضحك علي”.

قلت ومازلت مصراً على إيصال رسالة الرفاق له:

ـ على الأقل انتقدهم هم، هم الذين فرطوا وليس نحن.

قال:

ـ “الضرب في الميت حرام” كما تعلم، رغم أن لساني لم يستثنهم أبداً، لكن وكما تقول هم فرطوا لكن ما الذي فعلتموه أنتم؟ ماذا فعلتم لوقف هذا التفريط أو إستمراره في الربع قرن الأخير؟ إنكم صرتم “مؤدبين” أكثر مما يجب، لا أعلم أخوفاً عل جرح مشاعرهم أم للحفاظ على مصالح بعض أفراد القيادة؟!!!وفي الحالتين النتيجة واحدة، وأنتم، في مثل هذه الحال، لا تستحقون غير الشفقة.

كنا نتحث بلغتين مختلفتين، وكان قد أخرج من علبة سجائره واحدة وأشعلها، وتابع مفصلاً:

ـ هناك تفريط يومي لدى قيادات “أوسلو” كما تعرف، فلماذا معارضتكم خجولة هزيلة إلى هذه الدرجة؟ ثم ما هي العوامل المشتركة التي ظلت تجمعكم بهم؟ لماذا مازلتم متشبثين بمواقعكم في مؤسسات السلطة القيادية؟ ما سر هذا “الحب العذري” معهم؟ ألم تتعلموا بعد أن الذي يخجل من عروسته لا يُنجب أطفالاً؟ لماذا لا ترفعوا صوتكم عالياً في وجههم؟ لماذا لا ترفعون صوت أفعالكم أعلى في وجه مَنْ يخدمون؟ لماذا لم تؤدبوا ولو مرة واحدة مسؤولاً أمنياً ممن يُنسقون مع آل صهيون؟ من الذين يشون برفاقكم ويعتقلونهم ويعذبون؟ ما الذي جرى لكم؟ ألا تنظرون أين صرتم والى اين وصلتم؟ أرفضتم المشاركة في إنتخابات البلديات كي تتمسكون في مفرزات “أوسلو”؟ لماذا لم تُكملوا ما عاهدتم الناس عليه من تصعيد الموقف وعدم الوقوف عند مجرد رفض المشاركة في إنتخابات بلدية؟ ألا تعتقد أن ذلك هروباً للأمام وتغطية على عجزكم؟!!!

سحب من رأس سيجارته نفساً عميقاً، اقترب مني، وأطلق سهمين من عينيه لتخترقني وقال:

ـ ما فعل هؤلاء القادة المتمسكون بهذه العلاقة أمام إعتقال رفاقهم في سجون السلطة؟ ماذا فعلوا ليحمونهم من أجهزة أمنهم وسجونهم؟ أهذا هو الحزب أو الفصيل الذي كانوا يرتعدون منه ويحسبون له ألف حساب؟ أهذا هو الحزب الذي ظل على الدوام حامياً ومدافعاً عن الوطن والرفاق والناس والقضية؟

عدل من جلسته وتابع سحب الأنفاس من رأس سيجارته وقال:

ـ ترى مَنْ الذي عليه إعادة النظر في مفرداته الوطنية؟!!!

ودون مقدمات، وكأنه يريد الخروج من الموضوع أو الإبتعاد عنه، قال:

ـ لقد قاطعتني دون أن أكمل لك القصة.

وأكمل دون أن يسمع لي رداً:

ـ لقد كان هواء الجبل البارد نقياً، كان عطراً برائحة الميرمية والشيح والزعتر إن كنت مازلت تذكر، وكان يبتلع برده المتجمد كأنما يريد حمايتنا من مرض كامن في أزقة الهواء، يزيله ويخفيه بعيداً في أعماق الأرض، أو ينثره بعيداً فوق مساحات السحاب، وكان لون الجبل أبيضاً ناصعاً كأجنحة ملائكة الجنة، إستعاده الجبل بعد مرور سنوات على ذلك، لون أبيض لا علاقة له بالرايات البيض، تخاله يشبه الرايات الحمر في زمن الحرب، أو بلون حشائش الأرض الربيعية الخضراء الممتدة على طول السهول، وربما بلون الأرض الأسود الممدة على ظهرها بإنتظار الإخصاب، لكنها لا تتخصب من ثلج خصي مزيَّف اللون عاجز، بل من ثلوج ناصعة بيضاء استعادت لونها الأصيل الشامخ، مشرئب العنق مرفوع الجبين ويحتضن الجبل والسهل كله، كأنه يحميهما من رصاصهم المتطاير حقداً وعنفاً وانتقاماً وسفور، وظل يطاردنا ونحن نصعد عالياً عالياً من صخرة إلى أخرى، متسلقين السلاسل الحجرية محاذين أشجار الزيتون الراقصة بنا فرحاً، وحينه فقط أدركت طريقي إلى الدفء…. أأدركته أنت؟

قلت مغلوباً على أمري:

ـ يعني ما في فايدة؟

قال:

ـ بلى، عندما يستعيد الثلج لونه الأبيض، ويصير كالراية الحمراء وحشائش السهل الربيعية الخضراء ولون الأرض الأسود المستعدة للإخصاب.

محمد النجار

 

 

 

الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار

أم الشهيد

  • عندما نظرت إلى صورة الشهيدة سهام نمر، يتقدمها إبنها الشهيد مصطفى نمر، رأيت الشهيد ينظر في أعماق عيني ويقول، ” إن لنا عليك حقاً”، فخجلت وأخفضت عينيّ، وكتبت هذه السطور:

*إلى روح الشهيدة سهام راتب نمر، والدة الشهيد مصطفى نمر، وكل الأمهات اللواتي قدمن أبناءهن شهداء وجرحى ومعتقلين، وكن شهيدات حتى لو بقين يمشين على الأرض.

 

قامت من النوم مبتسمة كحالها في الأشهر الأخيرة، ورغم تيقنها الأكيد من نومها العميق، إلّا أنها تكاد تجزم أنها كانت مستيقظة متيقظة رغم ظلام الليل الذي دثر البيت بعتمته، وأن ما رأته كله حقيقة، حقيقة ساطعة كشمس النهار التي، بشعرها الذهبي، غطت بيوت المخيم كله، ولا شأن له نهائياً بالأحلام.

هذه الإبتسامة المعلقة الثابتة فوق شفتيها، مثل فانوس مستقر في وسط السماء، كان مثار حيرة في البيت كله، خاصة أنها صارت بهذا الوضوح بعد استشهاد ابنها، وفسّر الجميع الأمر بسبب اشتياقها له وافتقادها لرؤيته يشرب من كاسة شايه مستعجلا الوصول لعمله،  قبل أن يسرقه الزمن ويُغيبه النهار بعيداً دون أن يحس أو يشعر، ويجد نفسه عائداً خالي اليدين من رغيف المساء، فكان إتفاق ضمني من الجميع بتجاهل الأمر حتى يمر الزمن، والزمن قادر على فعل المعجزات.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة كما يبدو، فاستشهاده لا يجعلها قليلة التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الحلم والواقع، فهي تراه في كل ليلة ولا يغيب عن سهول عقلها في أي نهار، فارس يعتلي صهوة نهاره ويجوب في طرقات رأسها، يروح ويجيء ويحرث الأرض، يدق عنق التربة “ليخرج من الأرض ماءاً”، ثم يأتي إليها مُتحزماً بتاج العز، متلفعاً بالشهادة، تراه وتحتضنه وتقبل جبينه بعد أن يحتضن كفيها ويقبل يديها كل مساء، تجلسه في حضنها وتناغيه كما لو كان صغيراً، تدلعه وتلاعبه وتقبله وتتركه ليلعب على باب بيتها في المخيم، كما كان طفلاً، فباب بيتها كان يمكن أن يكون آمناً مثل كل المخيم، لولا أولئك الغرباء الذين بسببهم بُني المخيم، وهي تعلم علم اليقين أن المخيم ليس أَبَدِيّ، وأنها ستمسك ابنها، ذات يوم، من يده ويعودا سوياً تتبعهما الأُسرة كلها، والمخيم كله، إلى قريتها وبقية القرى المُنْتَظِرة منذ سبعة عقود، دون يأس أو وهن أو فقدان أمل، يعودوا ليطردوا اللصوص الذين قتّلوهم وهجّروهم وطردوهم واستولوا على بيوتهم بقوة الحديد، ولولا الحديد الذي بأيديهم ما كانوا ليجرؤوا على الإقتراب من باب بيتها، وأن الحديد لو كان متوفراً في أيدي رجال القرية ونسائها لما تجرأ أحد على القرية وسكانها، وأن الناس لو تُركت لتدافع عن نفسها دون تدخل أصحاب القصور من “ذوي القربى”، لكان شهيدها يجوب طرقات القرية وفأس الأرض على كتفه، لذلك كانت تعلم علم اليقين أنه بالحديد فقط سترجع بيتها المسروق، فكانت، لذلك ربما، ترضع وليدها أسرار القرية، جغرافيتها، تاريخها الذي طالما حاولوا،فاشلين، محيه أو إلغاءه، طرقها، مُغُر الجبال في أراضيها، حكايات نسائها ورجالها، أولادها وبناتها، جرحاها وأسراها وشهدائها على طول طريق السبعين عاماً، منذ خروجهم الدامي ملاحقين بالرصاص والموت وخيانات الملوك، قصص زيتونها ودواليها وسلاسلها وبيوتها، وشجرتي التين المعمرتين “العسالي والخروبي”، الواقفتان على مدخل القرية مثل حارسين ساهرين، تشرح له مع كل قطرة حليب تنزلها في فمه قصص البيدر والغلة والأرض والجيران والأعراس والزفة وليلة الحنة والعتابا والميجنا، وكيف حاول اللصوص تجريدهم من الذكريات بتفجير الرؤوس وفصل الرقاب، لكنهم رفضوا التنازل عن ذكرياتهم، فحملوها وهرّبوها وغامروا بحيواتهم لينقذوها، واحتفظوا بها في تلافيف الدماغ وطيات مُخَيِّخاتهم، لذلك هي ليست مستغربة أن ابنها ذهب لعمله شاباً يانعاَ يافعاَ، وعاد شهيداً كما يليق بالرجال، وليست مستغربة كيف نشأ وأترابه يحبون اللعب في الحديد لدرجة الهوس به، وأنهم منذ صغرهم يصنعون البنادق والصواريخ من الأسلاك، فكان من الطبيعي أن يعودوا شهداء واحداً تلو الآخر كما عاد إبنها، ملفوفاً بالعلم محمولاً فوق أعناق الرجال، لكنها لم تكن تتخيل أن يترك خلفه كل هذا الفراغ المرعب، كل هذا الصمت المدوي، وأن يكف من بعده البيت عن الإبتسام، وكأن الإبتسامات حُرّمت من الله دفعة واحدة ودون سابق إنذار، وأكثر ما أزعجها أنها لن تمسك بيده، أو تتعكز على ذراعه،  ويعودا سوياً الى قريتهم التي ظلت تتباعد، تتعقد طرقاتها، ويملؤها الشوك والرصاص وخذلان أنظمة العهر مع مرور الزمن.

رغم ذلك كانت متأكدة أنهم سيسترجعونها، وأن المسافات الطويلة هي سبباً لشحذ الهمم ومتابعة الخطوات، وتأكدت من حتمية الأمر عندما رأت ابنها شهيداً، فهي خير من تعرف أن الشهداء هم جسر العودة الأكيد في هذه الطرق والمسالك الخطرة، وأدركت أن حليب ثديها لم يذهب هدراً، لم يكن ماء آسناً قذراً، كما لم يكن مُزيفا ملوناً كاذباً مشتبهاً، وكانت تظل ساهرة مع وحدتها وظلام الليل، تتمنى من الليل أن يستر سرها، أن يغلق عنها قلوب العائلة النائمة كما عيونهم، لتظل تحاكيه وتقبل حجارة يديه التي ظل يُطل بها عليها صغيراً ومراهقاً وشاباً، عرفاناً منه بجميلها المبكر في وصوله للشهادة، عندما تربى على حملها ورشق دوريات الجيش بها، لتكون “بروفته” للوصول الى ما وصل إليه، ولتظل، هي أمه، تمسح جرحه النازف الذي ظل ينز دماً ومسكاً.

وسرعان ما صار، مع تقالب الأيام، يُضاعف زياراته لها، يأتي لها من طرقات الجنة، من بين ورد الياسمين والقرنفل وشقائق النعمان، من حدائق النرجس والإقحوان والسوسن والطيَّون، من تحت الأشجار المثمرة المليئة بالخيرات،يلوك شيئاً من فاكهتها في فمه، مُتقافزاً على شُجيراتها، متعطراً بعطر الزعتر البري والميرامية التي خص الله بها جنته برائحتيهما الفواحة، تحط بلابلها على كتفيه مغردة، يمر من تحت نبع معلق في نهايات السماء، ينساب برويَّة وارتخاء، وخرير مائه وحفيف أجنحة العصافير تملأ الجنة غناء، تراه قادماً متعلقاً على حبال خيوط الفجر، محمولاً فوق حبات الندى، متقافزاً على درجات الغيوم ناصعة البياض، لابساً بدلة عرسه التي لم يلبسها قبل استشهاده، والتي طرزت له عليها بيدها مفتاح بيتهم الحديدي الكبير، الذي يمكن أن يكون سلاحاً في غياب السلاح، ألم يحاكموا إبن مخيمهم علاء عندما وجدوا المفتاح المشابه لمفتاحهم مُخبأً في جيبه، متهمينه بإمتلاك سلاح قاتل؟ يأتيها وبعض بقع الدم تُزين بدلة عرسه، تنز من مكان الرصاصات التي إخترقت جسده اليانع وقلبه الشاب، تعطيه جرأة فوق الجرأة وشرفاً فوق الشرف، وترفعه من شاب يانع من على مقعد سيارته، التي أفرغوا فيه وفيها حقدهم، إلي أعلى صنوف البشر مرتبة، له مهابة الشهداء وشهامة الأبطال، وتفوح منه رائحة المسك وتغطي البيت كله، تلك الرائحة العطرة التي ظلت متخوفة أن تكشف سرها، وترميه بعيداً وراء الدار.

كانت تحتضنه مباشرة، تُخبئه عن عيون دورية عسكرية تبحث عن الشهداء لتعيد قتلهم، أو دورية “الأقربين” التي تبحث عنهم لتحاكمهم، وترمي بالمناضلين في غياهب سجونها، لتسلمهم بعد ذلك لإعادة قتلهم، فالأمر المخيف المرعب الممنوع لدى كلاهما، أن تُمارس الشهادة، أو أن تجرؤ على التفكير بها، مستبدلاً اليأس والقهر والظلم منهما بالشهادة، بإعادة رسم الطريق، بإعادة توضيح المسالك، بمحاولة رفع الرصاص والأشواك لئلا تختفي المعالم وتضل الطريق.

تُجلسه في “حجرها”، وتخبره عن أخبار المخيم، عن أسراه وجرحاه، عن شهدائه الذي ظل يؤكد لها أنه رآهم عند الأنبياء والصالحين، الذين يحسدونهم على شهادتهم هذه، التي جعلتهم أقرب منزلة منهم إلى الله، فالله يفضل الشهداء على كل شيء وأي شيء، بما في ذلك الأنبياء، لذلك كم ود الأنبياء أن يكونوا شهداء، وتكاد تسمعه يقول بأعلى صوته، “إن أنبياء هذا العصر ياأمي هم الشهداء، رجال كانوا أو نساء، كلهم عند الله سواء”.

كانت تسمعه وتحدثه وتتعطر بمسك جرحه النازف، لكنها لم تُرد يوماً أن تزعجه بقصص “الخانعين” في المخيم، ولا بسياسة التسحيج والتبعية ولعق الأحذية التي تتعمق أكثر عند بعض المخيم، ، ولا ببعض السفلة والأنذال الذين لا يسكنون المخيم، ومازالوا يبنون القصور من ثمن دمه ودماء رفاقه، والتي ليس لها مفاتيحاً كمفتاح بيتها هناك، ولا كمفتاح علاء الذي مازال يحتضنه السجن، لكن الأمر الذي طمأنها، أنهما كلاهما، لم يُخْطئا إتجاه البوصلة أبداً، التي كانت تُشير للقرية بهذا الوضوح.

شيء واحد فقط كانت تود فعله، واحد فقط لا غير، أن تعود معه إلى قريتها، وينتزعاها من لصوص الأاراضي والبيوت، من الغرباء الذين حللوا القتل والذبح وبقر بطون الحوامل، الذين ظلوا يتفننون بقتل النساء والأطفال والشيوخ والرضع، لكنهم رغم كل سلاحهم لم يثبتوا في الميدان أمام الرجال، وكانت تظن أنها ستفعل الأمر معه، سيعودان سوية، رغم أنها لم تفاتحه بالأمر أبداً، كما أنه لم يفاتحها أيضاً، لكن وكما للعيون كلمات واضحة، فللقلوب لغة لا تُخطئها الأم، فكانا يتحدثان بقلوبهما، يتناقشان ويتأملان ويخططان، لكنه استعجل الشهادة، خاف أن تمر في موعدها ولا تجده أو تُخطئه، ويصير عليه الإنتظار من جديد، والإنتظار أي كان نوعه، نذل جبان خانع، وهو لن يرتهن له، لن يضع مصير شهادته بين يديه، سيلحق الدورية العسكرية بنفسه، سيرجمها كما يرجم المؤمنون إبليس، سيحاول كسر زجاجها، ليصير حجره قادراً على الإيذاء، وداهم الدورية العسكرية، وصار يصب غضبه عليها من خلال حجارة يديه، وكانت الشِباك الحديدية تحمي زجاجها، فلم يكن الجنود في خطر، لكنهم خافوا مخالفة الأوامر، خافوا أن ينسوا مهنة القتل حتى لو لدقائق، وسرعان ما فكر بعمل أكثر نجاعة، عندما رآهم يتهيأون للقتل، وهو لا يملك غير حجارة يديه وسيارة بمحرك نائم، فركب سيارته وإحدى يديه قابضة على بعض الحجارة، ليكون للعمل معنى أعمق وتأثير أشد، ليجابه موتهم الذي يحيط به إلى مجابهة بالقليل الذي يملك، وكان الوقت يتسارع بين رصاصهم المنسكب ومحرك سيارته النائم، لكنهم كانوا أسرع منه، ورصاصاتهم أسرع من عجلات سيارته، أمطروه رصاصات في القلب والرقبة والرأس، فضعفت نبضات قلبه ووهنت قوة ذراعيه، لكن قبضته لم تتراخَ عن حجارتها، ووقع بصدره المدمي على مقود سيارته معاتباً، لماذا لم يكونا أسرع منهم؟ فالمسافة بينهما لم تكن سوى يقظة المحرك النائم كبداية لتحرك العجلات، مجرد ثوانٍ خانته فيها تقديرات الزمن في معركة غير متكافئة، فهو لم يكن يوماً عسكرياً، ولوكان لأنتصر على جبن رصاصهم وحماقات سلاحهم، وبعدها، ربما، كان سيكون للشهادة طعم أجمل، وربما أجمل بكثير.

كانت، ما تزال، أصابعه القوية تعتصر حجارته، تشد عليها بعنف، وفضلت روحه أن تصطحبها معها للسماء، أن تُحوِّط بها ورود الحنون، فذهب للسماء دون أن يذهب معها لقريته، الأمر الذي أثقل قلبها وأدماه، لكنها عندما فكرت ملياً في الأمر، وصلت إلى استنتاجات أخرى، استنتاجات إنسان مؤمن، مدرك لرحمة الله ولطفه، يلبي دعوة الشهيد ورغبته، وقدرت أنها لو استشهدت هي أيضاً، فربما جعلها الله تستند على يدي ابنها وتذهب معه للقرية لتراها، لكن الأمر سرعان ما أربكها وكاد يشل حركتها، عندما تساءلت أما نفسها قائلة: “وهل أنا أريد الذهاب زائرة؟!!!”، وأكدت أنها تريد استعادة القرية وليس زيارتها، صلَّت بضع ركعات لله، طلبت غفرانه، ذكّرته بصبرها على شهادة ابنها، وهل هناك صبر كصبر أم تستقبل إبنها الشهيد بالزغاريد، ودموع عينيها تتسابق على خديها المكلومين؟ أن تجعل من جنازته عرساً؟ أن تزفه إلى التراب كأنما لليلة عرسه؟ أن تُوزع الحلوى بدل القهوة السادة؟ رفعت عينيها لتنظرا في عيني السماء الخجلة أمام عينيها، وطلبت من الله أن يحقق لها رغبتها…

قامت من بين يدي الله، كنست بيتها ونظفته، كي يستقبل البيت “المهنئين” بصورة تليق بهم، كي لا يقول البعض أنها استشهدت وتركت بيتها وسخاً، أربكها الأمر، فنظفته كما لم تنظفه من قبل أبداً، طبخت لزوجها وبقية أطفالها، أطعمتهم وأشبعتهم مما قسم الله، قبّلتهم للمرة الأخيرة، وعضت عل دمعاتها بجفني عينيها كي لا تخدعانها وتبللان المكان، ووسط دهشتهم التي لم يعرفوا لها سبباً، أسالت نبعاً من الإبتسامات كي لا تترك في رؤوسهم مُتسعاً لشك، توجهت لمطبخها لتختار أكبر سكيناً، وضعته في “عِبِّها” لتخفيه عن العيون، أوصت الجميع بالحفاظ على مفتاح بيت قريتها المسروقة، وغادرت مدعية الذهاب لزيارة بيت أختها، واستقلت أول سيارة توصلها إلى باب العامود في القدس.

كان الجنود يحيطون بمدخل الباب كالجراد، يُغطيهم السلاح مُدَججين به، وكانت الأم تتقدم منهم بخطوات واثقة، تتحسس سِكّينها المختفي في طيات ثوبها، وتحاول أن تعرف بحكمة عينيها أيهم أكثر شأناً، ليكون صيدها ذا أهمية وشأن، وكانت تحس بأن كل خطوة من خطواتها تتسارع للقاء إبنها الشهيد، ودون أن يرف لها جفن أو تهتز لها قناة، رفعت سكينها وألقت بكامل قوتها على صدره، وانطلقت رصاصات من جنود يختبئون خلف البنادق، وكأنهم في ثكنة عسكرية، جنود يطلقون على النساء من الخلف لأنهم يخشون العيون ويرتعبون من نظرات البشر، فاخترقت الرصاصات جسدها الهزيل، وتهاوى الجسد ووقع على الأرض ليعانقها العناق الأخير، وتمدد الجسد فوق أرض القدس، ليقربها خطوة أخرى من إنتزاع قريتها من براثنهم، وعيناها مفتحتان ناظرتان نحو قريتها القريبة، وصعدت الروح الى السماء والجسد مازال يعانق الأرض، لتجد ابنها الشهيد واقفاً مع الشهداء والأنبياء مستقبلين على باب الجنة، وكانت تستمع إلى أصوات المنشدين الآتية من خلف السماء، يام الشهيد وزغردي …كل الشباب ولادكي…

محمد النجار

 

 

 

إن قتل القنصل… إعدموه

التقينا على فنجان من القهوة في بلاد بعيدة في الغربة، وصرنا نقلّب صفحات الماضي، كعادتنا في تلك البلدان، ربما من باب التملص أو رفع العتب عن الذات، لاننا لا نستطيع جلدها بشكل دائم، وربما من باب الشعور أن وراءنا ماض نعتز به، وربما نوعاً من الهروب للأمام بأننا كان لنا ماضٍ، وكنا ذات يوم مناضلين وكان لنا شأن…

لا أريد أن أقحم نفسي في الموضوع بهذا الشكل المباشر الفج، فأنا لم أكن مثل صديقي “كامل”، فهو من كان السجن بيته وليس أنا، وهو الذي كان يأكل “العصي” كما يقولون، ومثلي لم يستطع حتى عدّها، لكن لكل منا دوره في هذه الحياة، وأن تفعل شيئاً مهما كان بسيطاً، أفضل بكثير من أن تقيد يديك وتحملق في سقف الغرفة، وكما ترون أنا الذي أخط شيئاً من كلماته لتعرفونها، فهو يعتبر قصصه هذه لا تعني الشيء الكثير، ولكنني أراها تعني ولو القليل، ولهذا سأخطها كما هي، دون زيادات تجميلية، بل من باب أمانة النقل وليس فلسفته، قال لي:

ـ ربما لا تعرف والدي…لك أن تتخيل رجلاً عاش ما يقارب القرن، لكنه لم يُسئ يوماً لأحدٍ في حياته!!!لم يُغضب أحداً!!! كان يقسو علينا إن أسأنا بقدر حنو أب وعطف أم وحنانها ويزيد، ولا يستطيع فهم إنسان لديه قدرة على أن يُغضب أحداً ويكون قادراً على أن يغلق، في ظلمات الليل، عينيه وينام…

وتابع وهو ينظر في اللاشيء، وكأنه يرى والده أمامه:

ـ إنه إنسان بسيط، بسيط طيب إلى درجة السذاجة في عيون البعض، لكنه رجل حكيم في رأيي أنا، ربما لأنه والدي! وربما لأنني أُصنّف نفسي بسيطاً مثله، فأرى في كلماته حِكَمَاً، لذلك بالنسبة لي فالأمر لا يخضع لنقاش أو جدال…

كان الوقت عصراً عندما التقينا، والمقاهي في هذه البلدان مكتظة بالناس، والغيوم في هذا الوقت من السنة تكون منفلتة سارحة في فضاءات السماء مثل قطيع خراف، وصل لتوه من الصحراء الى حقول خضراء معشوشبة دون نهايات، فانطلق في كل الأماكن متبعثراً في أماكن متجمعاً في أخرى، متحركاً في كل الأماكن والإتجاهات على غير هدى، هدّه التعب لكن الجوع اكثر، فصار يقطع بأسنانه العشب مسرعاً متخوفاً من انتهائه قبل أن يسد جوعه، وكن النساء في المقهى يحتسين كاسات النبيذ أو الجعة وقد نزعن حِمْل الملابس الثقيل من فوق أذرعهن العارية أو نصف العارية، معلنات، دون ضجيج، عن درجات حرارة النهار المرتفعة في ذلك النهار الربيعي، الذي يسير، دون توقف، إلى نهايته الأكيدة، يقابلهن حبيباً أو صديقاً أو زوجاً أو رفيق، تعلو قليلاً أو تهبط ثرثراتهم، و”كامل” وأنا، نشرب القهوة على طاولة منزوية بعيدة في أقصى المقهى، وكلماته تنز من حلقه، ليقذف بها لسانه مباشرة في أذنيّ، وعقلي يسجلها بقلم مخبئ في ثناياه دون أن يراه “كامل” الذي ظل يتابع، عندما رآني أنظر إليه بإهتمام دون أن أقاطعه:

ـ كان المرحوم أبي يظل يحدثني عن “بيت عفّا”، قريتنا المنسية في جنوب فلسطين، مؤكد أنك لم تسمع بها، “تُحيط بها العديد من القرى والمدن الفلسطينية، مثل عراق السويدان وعبدس وبربرة وحمامة وجولس والسوافير والجلدية وبيت داراس، وكرتيا  وعشرات من القرى الأخرى، وكانت على مرمى العصا من المجدل والفالوجة، وأصوات الرصاص تُسمع من بعيد، والثوار يتجمعون ليدفعوا العصابات بعيداً عن أراضيهم، تلك العصابات التي أتت من بعيد بمساعدة الإنجليز، فلجأ الثوار لبيع “ذهبات” نسائهم ليشتروا حفنة رصاص أو بندقية عتيقة ما زال بها بقية حياة، فالناس كانوا مُوَحَدين متضامنين، قلوبهم على قلوب بعض”، قال والدي وأكمل:

ـ هل هناك ما يمكن أن يوحدهم أكثر من الدفاع عن قراهم؟!!!

قال “كامل” وتابع، و”أكمل والدي الحديث متأثراً بما سيقول، وكأن تأثير ما سيقوله يداهمه بشكل مسبق”:

ـ حاولوا اقتحام القرية أكثر من مرة، لكن الرجال يابني لا يُفرطون في شرفهم، وهل هناك شرف يطغى على شرف القرية؟ حتى عندما احتلوها من أيدي الثوار، حررها الرجال من جديد، ولما عادوا لإحتلالها بصعوبة كبيرة في المرة الثانية، حررها الرجال مرة أخرى، دفعوا مقابل ذلك دماً وأسرى ذبحتهم عصاباتهم كالخراف، كان يمكن تلخيص الرجل آنذاك بالجرأة، فمن لم يكن مقداماً مواجهاً شجاعاً لم يكن يُعد من بين صفوف الرجال، ولما عادوا واستقدموا المئات من رجال عصاباتهم وسلاحهم الجديد واحتلوها، حررها رجال مصر هذه المرة، رغم السلاح الفاسد الذي ورّدوه لهم، عندما كان المرحوم عبد الناصر يقود غرفة عملياته ويقاتل في المجدل، مُدركاً أن إحتلال فلسطين مقدمة لإحتلال مصر والعالم العربي كله، وأن فلسطين لم تكن أبداً الهدف الوحيد، بل هي العنوان الذي يُغطي الأهداف الحقيقية المُخبأة في أدراج السياسة، لذلك ظل يقاتل ويرفض الأوامر القادمة من خلف جدران القصور…

وكان والدي يتابع:

ـ كان لنا هناك بضعة دونمات يابني، وصيتكم بها، لا تتركونها في أيدي هؤلاء، عملنا أنا وجدك وشقينا لشرائها، سجلنا بعضها باسم أعمامك الذين كانوا صغاراً حينئذٍ، وسجلنا القليل منها باسمي واسم جدك، لم يكن أحد يفرق بين نفسه وبين أخيه أو عائلته…

ثم استدار بوجهه نحوي وكأن كلمات الملكية هذه لم تكن إلا مقدمة ضرورية لما سيقول:

ـ احفظ ما سأقوله لك…

وصار يُسمي لي المناطق التي اشترى منها، جعلني أسجل أسماء الناس الذي اشترى منهم، رغم أن بعضهم صاروا في “دنيا الحق”، وتابع:

ـ عليكم الرجوع إلى هناك، مهما كانت الصعوبة عليكم الرجوع، أعرف أن الطريق صعب وطويل، لكن “لا يحرث الأرض غير عجولها”، مدوا أياديكم واقتلعوهم من أرضنا، من لا أرض له لن يجد مكاناً لتقف عليه قدميه في هذا العالم، تظل وقفته خاوية ضعيفة معرضة لتطيح بها حفنة من رياح، تشبثوا بها واحضنوا أشجار المكان لئلاّ تنتزعكم العواصف، من لديه جذوراً سابحة في طيات التراب ليس من السهل إنتزاعه، وإن انتزعوه برعمت جذوره من جديد، أعرف انهم لم يُبقوا غير بضع شجرات من الجميز والصبار، وأنهم اقتلعوا البيوت وحدائق المنازل والعمران كله ، وأهالوا التراب في بئر الماء الوحيد بعد أن سمموا مياهه كي لا نعود، معتقدين أنهم مسحوا آثارنا، لكن تلك الشجيرات نحن من زرعها وسقاها وكبرها، هي شهادة لنا، فبصمات أيدينا مازالت على كل غصن ووريقة منها، لذلك يابني وصيتكم بيت عفّا…أتفهم بيت عفّا…لأننا سنبنيها من جديد…

فقلت له:

ـ كنت أعتقد أنك ستقول لي “وصيتك فلسطين يا أبي وليس بيت عفّا…”

لم أره يلبسه الغضب إلى هذه الدرجة، قال:

ـ وهل تكتمل فلسطين دون بيت عفّا ياولد؟ ألم أُعَلِّمك أن من يفرط في بيت عفّا يفرط بفلسطين؟ لا تصدق أحداً مهما علا شأنه يُفرط ببيته مدعياً أنه يريد تحرير فلسطين بدلاً عنه، مَنْ لا خير منه لبيته، لبلدته، لقريته، لمدينته، لا خير يرجى منه لفلسطين، ومن لا خير منه لأهله لا خير منه للآخرين، أفهمت الآن؟!!!…

قبلت رأسه كعلامة إعتذار، وقبل إعتذاري بقلبه الواسع بصعوبة، علّه أراد أن لا أنسى هذا الدرس أبداً، وكما ترى فأنا لم أنسه.

وسكت كامل عن الحديث، فقلت كي لا أظل صامتاً مثل أخرس:

ـ وما الذي ذكرك به الآن؟

قال بتأكيد شديد:

ـ لعلني لم أنسه أبداً ، خاصة عندما أكون محتاجاً لحِكَمه، وأكاد أجزم أنه يحضر هو بذاته ليعلمني درسا جديدا في كل مرة…لكني تذكرت الآن أمراً مما استوجب حضوره من جديد.

ـ ما هو؟

سألت وقد راودني الفضول، فقال:

ـ كنت في التحقيق بعدما أنهيت سنوات دراستي، وكان التحقيق جاداً، كونهم، كما استخلصت، كان لديهم أسباباً تستدعي سجني في عرف دولتهم…

وضحك “كامل” ورسم بشاهديه علامة قوسين، وكأنه أراد أن يخبرني بجملة معترضة وسط كلامه وقال:

ـ لعلني يجب أن أخبرك أن أبي يعرف كلمة “القنصل”، وربما لا يعرف معناها بالضبط، كما لا يعرف عمل أو وظيفة القنصل، لكنه يجزم بينه وبين نفسه أنها الوظيفة الأرفع في التاريخ، ومَنْ يصل إليها يكون قد أتم كل شيء، ويكون قد وصل إلى درجة الكمال، يعني “ختم العلم” كما نقول نحن المثقفون هازئين…

واتسعت ابتسامته التي ظلت متشبثة بشفتيه رافضة النزول، وأكمل:

ـ ولما استعصيت عليهم في التحقيق، واقتنعوا أن الصخرة التي بين يديهم لن تنز ماء أبداً، قرروا أن يلجأوا لوسائل ضغط علي، فأحضروا والدي…

كان “كامل” يسحب أنفاساً من سيجارته وينظر إلى السماء، وكأن والده ينظر الينا من علوّه هناك مناشداً ابنه التمسك بالحقيقة فقط، وتابع:

ـ أجلسه ضابط التحقيق مقابله، وبدأ بإقناعه أن يحدثني ويقنعني بالتجاوب معهم، وقال له:

ـ إن لنا عند ولدك دين ياحاج، وجاء الوقت لسداده، فإنْ أبى التسديد حاكمناه وسجناه، وإن سدد تجده في بيتك قبل أن تصل له، هذا إذا لم تأخذه بيدك وأنت مغادر من هنا…

اقترب أبي بكرسيه من الضابط وسأل، بكل ما فيه من غضب، بإستهزاء:

ـ وهل تأكدتم أن ابني هو مَنْ قتل “القنصل”؟

كان استغراب الضابط كبيراً، فسأل أبي يريد أن يعرف أكثر، واعتقد أن هناك صيد ثمين، مادام الحديث يجري عن عملية قتل، فقال:

ـ القنصل؟! عن أي قنصل تتحدث ياحاج؟

فقال أبي مؤكداً:

ـ القنصل… وكم قنصل في هذه البلد؟

ـ آه أفهم، قل أنت لأتذكر، لا بأس مادمت تريد تسديد دينه…قل…

قال ليجعل والدي يتحدث عن عملية “القتل”، ورن على جرس من تحت مكتبه حتى إذا جاء أحد الجنود طلب كأسين من الشاي، وتابع:

ـ قل كل ما تعرف، وليقدرني الله على عمل الخير لإخراج إبنك من محنته…

استغرب الحاج هذه اللغة الناعمة، لكنه لم يفكر بالأمر كثيراً، فهو رجل بسيط كما تعلم، لكن ذهنه ظل مشدودا لما يريد قوله فقط، فقال:

ـ أنا الذي يعرف؟ أنتم تدّعون المعرفة، وأنا أقول لكم إن كان ابني قد قتل “القنصل” إعدموه…

دخل الجندي بكأسي شاي ووضعهما على الطاولة، وقدم الضابط الشاي بنفسه لأبي، فأرجعها والدي من أمامه للخلف كمن يرجع بكفه فاحشة تتقرب منه، وكان قد تذكر كلماتي، برفض التعاطي مع رجال المخابرات لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بأي شيء آخر، فظل متذكراً المبدأ لكنه نسي الأسباب والمبررات، وقال:

ـ عندي السكر… لا أشرب الشاي… ولا غيره

قال جملته الأخيرة كي لا يعود الضابط ليعزمه على مشروب آخر، وقال الضابط الحانق مفتعلاً الهدوء:

ـ كما أخبرتك ياحاج، عليك مساعدتنا بإسترجاع دَينَنا، أرأيت مديوناً طليقاً دون أن يسدد دينه؟

فقال والدي جازماً:

ـ طبعاً رأيت ، ألم تسرقوا “بيت عفّا” ولم ترجعوها بعد؟

ـ “بيت” مَنْ؟… عفّا؟ وما هذه ال”بيت عفّا”؟!!!

فقال والدي معتقداً أن الضابط  يستهزئ به:

ـ أنسيت بيت عفّا الآن؟ “بطلت” تعرفها؟ قريتي في الثمانية واربعين، أم نسيت هذه أيضاً؟!!!

وضرب صدره بكفه ليأكد أنها قريته، ووقف على قدميه وقال:

ـ هيا أرونيه كي أخبره أن لا ينسى “بيت عفّا” التي سرقتموها ولم ترجعوها بعد، وما دام الأمر يتعلق بالديون لنرى مَنْ لديه عند الآخر ديناً!!! وكيف سيتم تسديده…

فاستدعى الضابط الجندي غاضباً، صارخاً أن يوصلوه مباشرة للباب الخارجي، قائلاً:

” ألم تنسوا بعد كل هذه السنين؟”أخرجوا هذا المجنون برّه…بــــــرّه

وأخرجوه، وهو يسأل:

ـ ننسى؟ أننسى ماذا؟ربما تقصد بيت عفّا؟ ماذا تقول أيها المجنون؟

وأخرجوه ختى باب السجن الخارجي، وبقيت جاهلاً بالأمر ولا أعلم عنه شيئاً حتى خروجي من التحقيق…

وظل ينظر كامل في حقول السماء، الى الغيمات المبعثرة على أطرافه كقطيع خراف متفلّت متبعثر، وقلت له لمّا رأيت ضجيج سكوته يسيطر في المكان:

ـ أتذكر خالد؟

ودون أن أنتظر إجابة، أكملت، حيث أن خالد صديق لكل أفراد العائلة:

ـ صديق عائلتكم، أخبرني ذات يوم أنه كلما رأى والدك كان يرى فيه رجل تلك اللوحة، لوحة سليمان منصور، جمل المحامل، الذي يحمل فيها القدس على ظهره…

لم ينظر نحوي لئلا أرى دمعتي عينيه المترقرقتين، فيخجل او يشعر بالحرج، لكنه قال:

ـ لعله كذلك… رحمه الله…

وظل يتابع بعينيه خراف السماء

محمد النجار

هذيان…

وُلِدَت، “عائشة” في ليلة ظلماء حالكة، كان الليل خينئذٍ قد إندلق واستحكم في الأشياء، فاقتحمت الظلمة البيوت والطرقات وأشجار الحقول، وكانت الشمس بالكاد تسترق لحظات من طول النهار، وما تكاد تظهر حتى يهاجمها الليل والظلمة وقطاع الطريق، في تلك اللحظات ولدت عائشة، ولدت من رحم الأرض، تحت دالية مجاورة لتينة عتيقة وشجرة زيتون لم يتعدى عمرها الألف عام بعد، ولدت هزيلة ضعيفة بالكاد تستطيع الحركة، مكبلة بقيود من سلاسل صحراوية قاسية، من وهم ووهن وذل وخنوع، خطواتها قصيرة قليلة ضعيفة مترنحة مرتجفة، تمشي بحكم إرادتها وإصرارها فقط، رغم السياط التي تنهال على جسدها الضعيف الرضيع من غير إتجاه، باسم الدين تارة والعادات والتقاليد تارة أخرى، أو بإسم القانون الذكوري الأبوي الحاكم المتحكم بحركات الفتيات في كامل العشيرة والعشائر المجاورة.

هناك ولدت وأسموها “عائشة”، أملا أن تعيش هذه المرة، بعد كل حالات الموت التي أصابت مثيلاتها، أسموها “عائشة” أملا في أن تعيش، صلّوا من أجلها، إمتنعوا عن الأكل وأطعموها، دون أن يعلموا شيئا عن معجزاتها.

كانت “عائشة” من أيامها الأولى تزحف على أربع، على يديها وقدميها، وبالكاد يستطيعان حمل جسدها الضعيف، لكنها، وهذه معجزتها الأولى، وُلدت قادرة على الحركة، قادرة على الزحف على أربع، ورغم ظلام الليل، فقد كانت قادرة على الرؤية، إذا لم يكن ببصرها فببصيرتها، وجاءت للحياة باسمة ضاحكة دون بكاء ولو بدمعة واحدة على عادة المواليد، وهذه معجزتها الثانية، طفلة بريئة نقية جميلة متفائلة، وعلى غير توقع، ورغم كونها فتاة أنثى وليست ولداً ذكراً، جلبت البسمة والفرح لأهلها وعائلتها وعشيرتها جميعاً، وخلقت كمعظم الأطفال حياة وحركة وفرحة داخل البيت رغم هشاشة عظامها، وفقر دمها الذي ولدت به، وعضلاتها الصغيرة الضعيفة.

الغريب أن هذه الطفلة “عائشة” كانت توحي بأشياء غير مألوفة في محيط المنزل والعشيرة كلها، وكانت، ربما الطفلة الوحيدة، التي تولد من رحمٍ رغم خصوبته، إلاّ أنه مُحاط بالخوف والجوع والأمراض، بفقر الدم والسرطان ، وبأرحام هزيلة مريضة عاجزة، يتحكم فيها شيوخ القبيلة وصديقهم الأبيض ذو العينين الزرقاوين، داخل قبائل متخصصة بولادة الأولاد دون البنات، وإذا ما ولدت فتاة كانوا يتحون المآتم ويسكبون الدموع، رغم أن أولادهم كانوا  بقلوب قطط مرتعدة خائفة من الأيام ومن المجهول، أولاد لا يحبون المغامرة، يصلون لله ولزعماء العشيرة وشيوخها مرّات، وربما من باب الأدب والأخلاق والدين، لا يخرجون على رأي الزعيم وطاعته حتى لو كان ظالماً، ويخافون، مثل شيوخ العشائر وزعمائها، من غضب قادم من أرحام النساء، التي ربما تُفاجأهم وتلد ما يردعهم ويضع حداً لذكوريتهم المفرطة، دون علمهم أو في غفلة منهم، الأمر الذي يخافون منه ويهابونه، أو من ولادة قد تُثمر زرعاً غير زرعهم، ونسلاً يعاند نسلهم، فيصير المولود مارداً يُنغص عليهم حياتهم ولا يراعي حرمة لصديقهم الأبيض ذو العينان الأزرقين.

إنتفض زعماء العشائر كلها لمّا علموا بالولادة “الشاذة” من خلف عيون زعماء العشار، إستصرخوا واسعانوا واستدعوا زعيم عشائر الصحراء الذي كان في قيلولة عميقة، صدى شخيره يتردد فوق الرمال، عيناه تائهتان في حلم يتنقل فيه بين نسائه الأثنتان وعشرين، رغم نشاز بعضهن، وكان يود، لو ساعده الحظ قليلاً لجعلهن أربعين أو خمسين، لكن رفض إحداهن وتحريضها ومقاومتها له ولصديقه الأبيض، حرمه من هذا الأمل ومن تحقيق هذا الهدف، كان يحلم حائراً عند أيهن يبيت ليلته القادمة، ويده تناغي خصيتيه اللتين زينهما بالجواهر واللآلئ، وعطّرهما بأجود أنواع الطيب والمسك، وبخّرهما بالبخور الهندي وقرأ عليهما خوفاً من العين والحسد ، تداعبهما يده وتسقيهما من زيت الصحراء، خصيتاه اللتان طالما قرح بهما وكانتا عنوان فخره، فظل يزداد حرصاً عليهما ويود تقبيلهما لتقديم الشكر والعرفان لهما، هو خير من يعرف أن “الذكر” لا يساوي شياً دون خصيتيه، وأنهما عنوان عزته وكرامته وفخره وكبريائه، لذلك عليه حفظ كرامتهما وحفظ الجميل لهما، ولذلك أيضاً نادراً ما كان يتركهما وحيدتين في ظلام الليل، بل يتفقدهما ويداعبهما ويُزينهما ويسقيهما زيت الصحراء بدل الماء إعترافا بجميلهما. كان يحلم مفكراً بفتيات “الفرنجة” اللواتي أحضرهن صديقه الأبيض ذو العينين الأزرقين، هدية خالصة صافية لا يريد لها رد جزاء، أيقظوه من أحلامه الجميلة تلك، رفعوا يده عن خصيتيه ليعاود عقله العمل، أخبروه بالمصيبة التي يمكن أن تحل بالعشائر  كلها نتجة لميلاد طفلة في بلاد التين والزيتون، على أطراف الصحراء البعيدة، باسمة ضاحكة تحب الحياة ، هناك حيث الكلأ والماء والأشجار ونسائم الهواء.

أفهموه بأن البسمة والضحك يجلب الفرح والبهجة، وهذا مسموح للزعماء ممنوع على العامة، كي لا يغويهم الشيطان ويبعدهم عن شرع الله، فيصبحوا متعلقين بالحياة الدنيا الزائلة، فيطالبوا بنصيب من مال زعماء العشائر أو يتشبهوا بهم، وهذا مخالف لدين الله وشرعه وتعاليم شيوخ الإسلام وعلى رأسهم ابن تيمية وتلامذته وصولاً لمحمد ابن عبد الوهاب رضي الله عنهم جميعاً، والله سبحانه يقول “والآخرة خير وأبقى”، فأقلقوا منامه وقطعوا أحلامه، فارجفت خصيتاه وارتعدتا، فشاط  واستشاط وعنّف، وفتى لهم وأمر برقابة تلك الطفلة، حتّى الإمساك بها ووأدها حية تحت تراب الأرض وطينها، فتصير عبرة لمن إعتبر ولمن أرادت أن تولد باسمة ضاحكة ومحبة للحياة، ولمّا ذكّروه بقول الله “وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت” أمر “طال عمره” بحذف هذه الآية من القرآن قبل أن يعود ليناغي خصيتيه مدللاً معتذرا.

ورغم كون الطفلة وحيدة، أو، على الأقل، لم يُبلّغ عن ولادات أخرى مُشابهة، في عشيرة تتفجر أرحام نسائها بالأجنة، حيث كان رجال عشائر الصحراء وصديقهم الأبيض يقتلونهن في الأرحام، أو يُفجرون الأرحام كيلا يفاجأهم حمل أو ولادة لفتاة، تخوفاً من عار يجلبنه للعشيرة، إذا ما كبرن وبان حسنهن ونضجت براعمهن وأثمرت جمالا وحبا وحياة، فتتبدل وتتغير ملامح العشائر الجادة المُهابة بين الناس وبقية عشائر الكون، فيحل الفرح محل الغم والتفاؤل مكان التشاؤم والنور بدل الظلمة والحياة محل الموت، وينتشر هذا المرض المعدي، في المجتمع وبين الناس، كما النار في الهشيم، لذلك يرفض كل زعيم ” أن ينام في القبور كي لا يرى أحلاماً مزعجة”، ويُفضّلوا “إقتلاع الضرس للتخلص من ألامه” .

كان شيوخ العشائر يعتبرون أن الفتيات على وجه التحديد، يُشكلن خطراً على مصالحهم ومصالح المجتمع برمته، فدائماً ما تيقّنوا أنهن يجلبن العار والفتنة، يستقطبن شباب العشيرة و”يُخربن” أخلاقهم، فيُبعدونهم عن ذكر الله فيهجرون بيوته، فشباب العشيرة، كمعظم الشباب وأي شباب، دائماً ما استهوتهم الفتيات الحسان الجميلات، خاصة عندما يكن حاسرات سافرات، فيلحق الشباب جمالهن ويُعجبون به، ثم يقعون فريسة عشقه الذي ينمو ويكبر في الصدور، ولا يستطيع أحد السيطرة عليه بعد ذلك، وهذا وحده كفيل بتعميم ثقافة الحب والعشق والحياة بين الناس، بدلاُ من ثقافة الكره وعذاب القبر وبول البعير، الأمر الذي كان يُخيف شيوخ القبيلة وزعماء العشيرة ويُرعبهم فوجب  الإحتياط منه، الأمر الذي فرض سياسة وأد المولودات في الأرحام، حتى قبل أن يولدن، ليقضون على “المرض” قبل وصوله، ويظلوا في مأمن منه.

أحد لم يعرف كيف إستطاع هذا الرحم إخفاْء الجنين طوال فترة الحمل، كيف تغلّب على حواجز تفتيشهم، أو غلى مداهمة الأرحام المفاجئة، رغم أن عيونهم جمعاء لم تكن لتفارق مراقبة أبوابه، وما أن ينتهي أحد الزعماء من الرقابة أو المداهمة أو التفتيش، حتى يكون هناك من يحل محله، فهذا الرحم، على وجه الدقة، رحم مشاغب متمرد، وكانت لديه محاولات متتالية للولادة، بعضه قتلوه في مهده وبعضه قبل ولادته أو بعدها بقليل أو كثير، لكنه طالما كان ينجح في الولادة، وطالما كانوا هم أيضاً ينجحون بوأد المولود بعد ولادته مباشرة، وأحد أسباب تخوف شيوخ العشائر وزعمائها، وكذلك صديقهم الأبيض ذو العينين الزرقاوين، أن المولودة لا تُشبههم، وترفض أن تُشبههم بشيء، ولا تريد التشبه بهم، وهي عنيدة مخالفة وعصية غلى الكسر، الأمر الذي يجبرهم على المضي بسياسة الوأد في الرحم أو بعد خروجه، دون أن يتركوا أمامها متسعاً من وقت لتعيش أو تكبر، وها هي ترفض أن يكون لها أبٌ ممن يُقررونه لها، وتُفضل أن تظل يتيمة على ذلك، كما أنهم لا يمكنهم التساهل فيما يخص أمر الله، فهم لا يقبلون تجاوزاً أو حتى مجرد حوار في مثل هذا الأمر، ف”المرأة ناقصة عقل ودين” و”لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة”، وهذه الطفلة ستكبر وربما نفضت عن نفسها غبار الماضي وألم السنين وقررت فجأة أن تمسك بيدها قرارها؟!!! فما العمل حينئذٍ؟!!! ويؤكد زعماء العشيرة وشيوخها، أنهم لن يمانعوا لو أن لديهم ضمان واحد، واحد فقط مهما كان صغيراً، لو أنها تقبل أن تكون نسخة عنهم، أو أن تتشبه بهم، أو بالرجل الذي يرتضونه لها أباً، بل وسيساعدونها أيضا بالمال والزيت والرمل والعلف وبول البعير وأبوال الشيوخ، وربما وجدوا لها عريسا من زعماء العشيرة، لأنهم  مؤمنون دوماً بأن “مَنْ شابه أباه ما ظلم”، لكن كل المؤشرات تشير إلى أنها ترفض كل خيوط التشابه مع زعماء العشائر وشيوخها جميعاً، وراحت تتشبه بالرعاع من فقراء العشيرة  و”أرذال” القبيلة وصعاليكها، وهنا مربط الفرس.

لقد ولدت هذه الطفلة وفي جعبتها الكثير من المفاجآت، لا يدري أحد كيف ومن أين أتت بهن، لكن الجميع كان يرى هذه المفاجآت بعد أن تتم، ففجأة ودون سابق إنذار، لا يعرف حتى الآن أحد، رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن على ولادتها، كيف إستطاعت في تلك اللحظة وذاك العمر الغض، أن تقطع القيد الحديدي وتمزقه إرباً إرباً وترميه بعيداً خلف الصحراء، حيث يسكن أصحابه في قصور من رمل هناك، وصارت حرة طليقة لم يعد باليسر والسهولة على أحد ترويضها.

وكيف إستطاعت أن تشب وتكبر وتنضج بين عشية وضحاها، وتصير صبية جميله فارعة الطول والحسن ولا ينقصها المنطق، وكيف كسرت قيد العشائر كلها، كيف قوي واشتد عودها وقست عظام ساعدها بهذه السرعة، رغم تكالب زعماء العشيرة وصراخهم على تجاوزها لقوانين القبيلة ودوسها عليها بأرجلها الجميلة و”بصطارها” الثقيل ولباسها المرقط، وعلى هيبة الزعماء والأمراء ورؤساء العشائر كلها، وبخروجها على عادات القبيلة وتقاليدها التي جنحت للسلم منذ قرون، فتنادوا جميعاً لحماية شرف العشائر التي تهتكه وتنتهكه هذه البنت الشاذة العاقّة كل يوم في كل الميادين، خاصة بعد أن صار شبان القبيلة يمتدحون جمالها وحسنها، ويتغزلون بقوامها وصدرها وحسن وجهها، واصبحوا مفتونين بها وعلى خطواتها أراد معظمهم السير، بل إنها صارت فتنة للرجال من خارج القبيلة، وصارت القبائل البعيدة تحسدها على هذا الجمال الفتّان، إلا القليل منها.

وقيل أن الزعيم الأكبر للعشائر كلها، أكد أن هذه البنت العاق صارت تنافس جمال بنات العشائر كلها، اللواتي كن مكسوّات بالذهب والجواهر من رؤوسهن حتى أخمص أقدامهن، وأنها بأثوابها البسيطة المرقطة وأنوثتها الطاغية جلبت الأنظار إليها ومنعته عن مثيلاتها المذهبات والمتجوهرات، واستقطبت كل نساء العشائر ورجالها من العامة، وفرضت دون كلمة واحدة منها قانون الجمال الطبيعي الذي لا يفوقه جمال، حتى لو ترصع بالذهب والفضة، الأمر الذي يفرض عليه كزعيم أن يقف في صف حماة الذهب والفضة الذي تحاول تلك الفتاة إخفاءه والتقليل من شأنه، وأن يمنع تأثيرات جمالها ونسائم عطرها الفوّاح عن عشيرته وكل العشائر الأخرى المتفرقة، حتى لو كان بقتلها واغتيالها رغم تحريم الله ذلك إلا بالحق، وهو بالحق سيفعل ذلك ويقتلها، لكنه قبل ذلك قرر إغلاق أبواب البيوت ونوافذها، وقيّد رجالها وغمّى عيونهم كيلا يروا ما يغضب الله مما تفعله هذه الفتاة، وغطى آذانهم كي لا تسمع، وأمر بحشر النساء كالإبل في المزارع والبيوت، لأنهن أكثر خطرا وأشد فتنة، فهن يُثرثرن ويحِضن ويلدن،  واستحضر شيوخه المحرمات جميعها وألقوهن على رؤوس النساء، وحرموهن من الجنة إن هن خالفن بعولهن أو رددن له طلبا، وإن حرضنه على ولي الأمر، ثم أمروا بلفلفتهن وبرقعتهن وضربهن ومنعهن من الخروج من بيوتهن إلّا للقبر، لكن الزعيم الأكبر كرجل حسّاس مؤمن بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، يؤمن أيضا بالشورى والديمقراطية كما يقولون، وعملاً بالآية الكريمة “وشاورهم في الأمر” و”وجادلهم بالتي هي أحسن”، فهو سيشاور نُظرائه، حتى لو كان لا يعترف بنظير له، ويجادلهم ويحاورهم ويستمع لأقوالهم جميعاً وأحاديثهم، لكنه سيفعل ما برأسه، رغم قناعبه، وبحمد الله، أنه لن يجد من يخالفه رأيه أو يخرج عن طوعه.

رأى زعيم العشائر وشيخها الهوان والمذلة والإنكسار في عيون سادة القوم جميعهم، كانوا متخوفين جميعاً من العار الذي يمكن أن تجلبه لهم هذه المصيبة التي حلت فوق رؤوس الجميع، والعصيان الذي بدأ يدخله ويمارسه شباب العشائر، وحالة العشق المتفجر التي أصابتهم وما زالت يوماً بعد آخر،  بإغوائها لهم وفتنتها، بجمال مشيتها الأخاذ أثناء إستعراضها للباسها المرقط و”بصطار”رجليها الكبير، الذي لا يعرف أحد سر أو مكمن الجمال فيهما!!!      إقترح بعض الزعماء أن يتركوها مؤقتاً، ويفرضوا حصاراً على الأرحام في بطون النسوة في بقية العشائر الأخرى، خاصة وأن هناك رياح تحمل في طياتها حملاً يلوح بالأفق، حمل ربما يأتي بمعجزات أكثر من المعجزات التي جاءت بها هذه الطفلة، ومن يدري، فربما تكون أكثر جمالاً وأكثر فتنة أيضاً!!! لذلك لا بد من مهاجمة البطون والأرحام، والإستمرار بحجب آذان النسوة عن السمع وعيونهن عن البصر،  كي لا “يَغرن” منها ويفعلن ما فعلت، فالمأثور الشعبي يقول “لولا الغيرة ما حبلت النسوان”، وأن يجعلوا الزعماء يقاطعوا فروج نسائهم ويتوجهوا لغزو فروج الفرنجة، من بلاد بعيدة وقريبة، كي يضمنوا عدم الحمل وإنجاب ما يشبه تلك الفتاة التي نمت رغم أنوفهم جميعاً، لكن البعض قد رد بوضوح مُشككاً بهذه الأقوال، رغم أنهم على أي حال يؤيدون غزو فروج نساء الفرنجة، عملاً بقول رسول الله صلى الله عيه وسلم “غربوا النكاح”، ويقنِّنون الإقتراب من فروج نسائهم منذ زمن، لأنهن صرن مثل أخواتهم، ولا أحد يعرف لماذا،  لكن السر الذي كشفته “عرافة” الشيخ الكبير، زعيم قبيلة رمال الصحراء، هو أنهم مهما أنجبوا لن يستطيعوا أن يورِّثوا مثل هذا الإنجاب، ولا حتى ما يشبهه، فهم لن يُنجبوا سوى أشباههم، الذين لا يجلبون لعشائرهم وقبائلهم سوى العزة والإباء والشموخ والإكبار، فهم ليسوا مثل بقية “خلق الله” وخاصة الرعاع منهم، وذكرتهم بقول الشاعر الحطيئة الفقير لكنه رغم ذلك نطق بكلمة الحق حيث قال:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم                  ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا.

كانت الطفلة قد صارت فتاة تزداد جمالاً مع تقادم الزمن، وكلما مر الزمن فوق جسدها، كلما صقله وجمّله وزاده حسناً، وطالما كانت تلك الفتاة تسير، كانت تزداد محاولات القبيلة التخلص منها لينتهي عارها، لكن امر محاولات قتلها لم يعد سراً أمام شباب القبيلة، الذين صاروا يُحذّرونها، يلتفون حولها، ويسمعونها غزلهم الرقيق بها، وإعجابهم بجمالها الساحر، متمنين عليها أن تبعث بنسائم عطرها ليصل، شبابهم في عشائرهم البعيدة، رحيقة، ليخترق الحصار المفروض على الحدود والفضاء ونسائم الهواء ورمال الصحاري.

وصار الكثير منهم  يزورها ويلبس لباسها، خاصة بعد أن صارت نداً ولو ضعيفا لبنت الرجل الأبيض، صديق الشيخ زعيم قبائل الصحراء والرمال وأتباعه، ذو العينين الزرقاوين، يتحدثون كما تتحدث، ويفتتنون بما يسمعون منها من كلمات وأحاديث، وتحولوا لعاشقين لكل ما تفعل، فالعشق إذا ما دخل قلباً حوّله إلى قمر مشع مضيء، يفرد أنواره عل كل الأشياء، مَن دخل العشق قلبه حسن في عينيه ما ترياه، وفي أذنيه ما تسمعاه وفي أيديه ما تفعله، من يعشق يظل يمارس عشقه بطريقته، ورغم عذابه فهو يرفض أن يتوب.

صار الجميع من علية القوم يرون فيها خطراً أكبر مما ظنوا، وأدركوا أن وجودهم مرهون بوأدها وقبرها دون أن يعلم أحد أو يحس ، فحتى قتلها بطريقة فجة ستجعلهم في مرمى سهام شباب القبيلة، فصارت محاولاتهم متكررة متعددة، لكن الفتاة كانت تشع ذكاء بجانب حسنها، فما فائدة الحسن إذا لم يكتمل بالذكاء؟!!! ما أهميته إن كان مرتعاً للعيون الحاقدة الحاسدة والأيدي الطويلة المتحرشة، إذا لم يكن عقلاً يتدبر التعامل مع الأحداث جميعاً، وأيدٍ قوية تحرسه، يكون مثل وردة ضعيفة هزيلة “تتناتشها” الأيدي العبثية المارة وتعبث بها الأصابع القذرة، وفي حالتها، حيث حالات الولادة صعبة ونادرة و مراقبة وملاحقة، فالحفاظ على الذات أمر في سلم الأولويات،  من أهم الأسس لتنمو وتكبر وتُثمر وتنضج وتعطي الحياة، وكانت دائماً ما تقارن نفسها بشجرة زيتون على بعد نظرة عين واحده، تظل تعطي وتعطي دون كلل أو ملل، دون شكوى أو عتاب، لكنها تدرك أن عطاءها مرتبط بصحة الجذور داخل حبيبات الأرض وبين طيات الصخور، بأوراقها اللواتي إن تنازلت عنهن ولو مرة واحدة سيجف الساق وتنتحر الجذور، فهذه الفتاة كانت تحمل حكمتها، تمتصها من الطبيعة والأرض والهواء وأشجار الزيتون، من حركتها في الليل والنهار، من “بصطارها” وملابسها المرقطة وسواعدها، من مشقات الطريق.

رأى قادة العشائر أنهم عاجزون عن وأدها واغتيال الحياة فيها، وربما هي عصية على ذلك، فقرروا تغيير الأساليب ويظل الهدف نفسه واحد، “واحد لا شريك له”، القتل مع سبق الإصرار والترصد، لكن كيف وبيد مَنْ؟

كان زعيم القبيلة، الشيخ الكبير لا يخفي عن صديقه الأبيض الذكي ذو العينين الزرقاوين سراً، وشريك له في بعض تجارة، ويأتمنه على نفسه وماله كما لم يأتمن أحداً من أبناء عشيرته، حتى أنه يُخزّن هناك في خزائنه أموال العشيرة كلها، مطمئناً عليها أكثر من إطمئنانه لو كانت بين يديه، وكانا يجلسان يتسامران بين فينة وأخرى، يشكو فيها زعيم العشيرة الكبير ما ينغص عليه لصديقه الأبيض، يستمع منه لنصائحه ويقوم بتنفيذها وكأنها أوامر من الله رب العباد سبحانه، لأنه خير من يعلم أنه لا يريد به وبعشيرته إلّا خيراً، فرد عليه صديقه قائلاً:

ـ ألم أحذرك من هذا الخطر منذ سنوات؟ ليس أمامك سوى أن تضع يدك بيد إبنتنا، فهي جميلة وأكثر حسناً وأكثر ذكاء، وذات حسب ونسب، وفي الوقت نفسه أغرقها بالمال!!!

لكنه هذه المرة لم يكن مقتنعا بهذه النصيحة، بل أجابه زعيم العشيرة:

ـ نحن لم نقصر بحق إبنتك الحسناء، أما بما يخص تلك الفتاة، فيقولون إن “المال قوة”، هل تريدني أن أزيدها قوة فوق قوتها، كي تقوى عظامها وتقسى ويشتد ساعدها أكثر، ولا يعود بالإمكان ترويضها؟”

فقال له بثقة كما يفعل دائماً:

ـ الملابس المرقطة والمال لا يجتمعان، فإما أن تلبس “البصطار” والبدلات المرقطة، وإما أن تمتلك المال، فالمال يشبه الماء، إن أردت أن تقتل أحداً أغرقه بالمال، فما أن يصل إلى فوق رأسه حتى يغرق ويموت…

وهز رأسه إلى الأعلى والأسفل، كعلامة للتأكيد على أقواله، فقال الزعيم:

ـ لكنها ستنقذ نفسها لمّا تراها في خطر…

كان صديق الزعيم، الرجل الأبيض ذو العينين الزرقاوين يُعبئ غليونه بنوع من “التتن” الفواح، أخذه من ظرف بلاستيكي أزرق، مكتوب عليه شيء أو مرسوم، فالشيخ زعيم القبيلة لا يجيد القراءة ولا يعرف من الرسوم  غير رسم النوق، ولكن وكون الرسم حرام، فهو لا يقترب من الحرام إلّا إذا كان مضطراً، وكان صديقه يأخذ حبات من التتن بين إصبعيه ويحشو بها فتحة الغليون، ثم يدكّها بقطعة معدنية فبل أن يشعلها بولاعتة ذات الشعلة الطويلة، واستغرب زعيم القبيلة لماذا لا يتركه ليُحضر أحد الخدامين أو العبيد ليحشو له غليونه، وظن أنه لا يريد أن يكشف غليونه على عبيد القصر، وقال صديقه مراجعا نفسه ناقدا:

ـ لا لا لا، المال ليس كالماء، مَنْ يُغرقه المال لا نجاة له…

ونفث دخان غليونه في وجه الشيخ زعيم قبيلة رمال الصحراء، فامتلأ صدر الشيخ بما يشبه البخور، ورغم عدم قناعته إلا أنه لا يرفض طلبا لصديقه الأبيض، وبدأ يُغدق المال على أهل “الفتاة”، ومنذ ذلك اليوم صاروا يسمونها ب”العروس”، وصارت تكتب عن “العروس” الأقلام وتتحدث الأفواه، وانتشر ، عملاً بنصيحة صديق الشيخ، الأمن في البلاد، وصاروا يصطادون من حمد أو شكر الله لسماعه شيئاً من الفتاة أو عنها، أو صفق لجمالها الأخاذ، أو لم يستبدل إسمها بالعروس، وفتحوا باب التبرع بالمال لها، فصار المال نهر جار على أهلها وأصحابها وعشاقها، وبذلك إتضح لأمن العشيرة المؤيدين “للعروس”، فصار يتلقطهم ويودعهم سجون الصحراء “جزاء بما كانوا يفعلون”، وكانت تُهمهم جاهزة ” الخروج عما هو معروف من الدين بالضرورة” وهو “الخروج على الحاكم حتى لو كان ظالماً”، فما بالك والحاكم عادل كالفاروق؟!!! وطبقوا بحق البعض منهم الحد بالقتل ذبحا بحد السيف، أو رمياً من طائرة عمودية في وسط الصحراء، أو داخل فرش من الباطون تحت عمارة من عشر طوابق.

ابتلت ملابس العروس، حيث كان المال يتدفق فوق رأسها مثل الماء، وصار لا بد من تغيير الملابس المرقطة التي صارت تذوب تدريجياً ألوانها، فتشوّه شكلها ولم يعد جمالها أخّاذاً كما كان، فغيروها واستبدلوها بأخرى تليق بالعروس، فألبسوها الفساتين البيضاء، بدلا للبدلات المرقطة، وحذّروها من أن تبان عورتها، وعلموها أنها كلها عورة من رأسها حتى اخمص قدميها، ثم بدأوا بتجميل العروس، مادامت عروساً، بطريقتهم، بالمكياج المستورد عن طريق بلاد صديق الزعيم، فكيف ستكون عروساً دون مكياج، ولم ينفع كل تمنعها كي لا يغيروا ملابسها ويصبغوا وجهها، فأمرها صار بأمر ولي أمرها، وتكثّفت طبقات المكياج الثقيلة غلى وجهها، فلم يعد يتنفس، وامتلأ بالبثور والحبوب، وصار يفقد جماله الطبيعي يوماً بعد يوم، وزال الترقيط وذاب نهائياً عن ملابسها، وتحول “بصطارها” الكبير إلى حذاء جلدي بكعب عال، لا تستطيع به صعود الجبال ولا مجرد السير، وتكاثرت عليها أشياء تشبه الحشرات، بل صارت كالمستنقع الذي يفيض بها، وتكاثرت فوق جسدها الطفيليات، وصار لها الكثير من الآباء بعد أن صار للأبوة مكاسب، وأزاغت قوة المال الأبصار، و تجرأ رجال العشيرة وأصدقاؤهم وصاروا يغتصبون الفتاة، وقدموها هدية لصديق الزعيم لينتقم لنفسه ولإبنته التي أزعجها جمالها، وزادت حالات الإغتصاب تحت أسماء مختلفة، بعضها باسم الدين وأخرى باسم التحضر، وبأسماء لم يسمع بها أحد من قبل.

ظلوا معتقدين أن رحم الفتاة يمكن أن يحمل، فحاولوا إنتزاع الرحم من جسدها ورميه بعيداً، لكنهم فشلوا، فبعض أعضائها كانت متمسكة به، مراهنة ربما على حمل جديد، ورغم أنهم قيدوها ليسهل إغتصابها، فقد كان بعض أعضائها ما يزال يتمرد رافضاً، حاولوا تغيير الرحم، إستبداله برحم يشبههم، أن يحمل بأشباههم، لكن الرحم كان عنيداً غاضباً رغم القيد وحالات الإغتصاب المتكررة، فتمزق وتهاوت جدرانه، ورغم ذلك أدرك الزعيم وعلية القوم كلهم، أنهم مهما كبروا وامتلكوا وتملكوا وتمادوا واحتكموا وتحكموا، ومهما تزاوجوا واغتصبوا وانجبوا وكبروا، فإنهم كان لديهم إحساس وشعور وحتى تيقن أنهم لن يستطيعوا استيلاد ولو طفل صغير واحد بمستوى أي صغير يخرج من رحمها، لذلك قرروا إحراق الرحم في جسدها الحي، كي لا تفكر عائشة مجدداً أن تخلق حياة.

كانت “عائشة” كلما كبرت كلما زادت حسناً وجمالاً، فصارت الآن تزداد ضعفاً وتشويهاً وحتى قبحاً، لكنها لم تفقد كل لمسات الجمال بعد، وظلت تزداد ضعفاً خاصة بعد أن أحرقوا رحمها ، وظل يضمحل جسدها وعضلات بدنها، وكان من إدّعى أبوتها يشارك الآخرين إغتصابها، وصار الزعيم وصديقه الأبيض ذو العينين الأزرقين وابنته، يتضاحكون ويشربون الأنخاب على إقتراب موت “عائشة”، ومن مكان قريب من رأسها، شمال الرأس تماما، كانت قد أطلت مولودة جديدة تمشي، وتلبس “البصطار والملابس المرقطة”، في غفلة من أمرهم جميعاً ورغماً عنهم، وكانت حسناء جميلة ذكية، استجلبت من جديد شباب العشائر جميعاً وإعجابهم، فعاد في رحم “عائشة”، في مكان منزو وفي قلب الرماد قلب ينبض بخفوت من جديد، يعارك من أجل الحياة، كان يغيب عن الوعي طويلاً، لتبدأ دقاته من جديد، كان قلباً غريباً، يأخذ مواصفات أمه، بدأ يرفرف بجناحين كبيرين، وصار يتعلم الطيران في رحم”عائشة” بعيداً عن عيون زعماء القبيلة كلهم وأصدقاؤهم، وهمس صوت من مكان فقير…إنه طائر الفنيق…

صحوت من نومي، وأمسكت بأطراف حلمي كي لا يغادرني كما في كل صباح، حمدت الله على أنه كابوساً وليس حقيقة، لكنني شاهدت سيوف القبيلة مشرعة فوق جثة عائشة الممزقة الممدة أمامي، يصرخون لقتل هذه الفتاة الداعرة، وسمعت صوت قلب ينبض، يكاد يغطي على صهيل السيوف.

محمد النجار

إن لم تستحِ فافعل ما شئت

أكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أن روايته حقيقية، لا تشوبها شائبة، وأن المتشكك أو الملتبس عليه البحث في كتب التاريخ، القديم منه والحديث، متنوراً متبصراً ليعرف ويتأكد من ذلك بنفسه، وأكد أن من الصحيح القول أن النار تخلف رماداً إن لم تسقها بالمزيد من العمل والحطب والبنادق والأفكار، لذلك لا تستغربوا أن يكون الرماد أحياناً ميتاً خالٍ حتى من بعض الشرارات، حيث الأمل مفقود، والنار محاصرة معزولة محبوسة، لذلك فالإبن اللص لا يشبه أبيه الأمين بشيء حتى لو كان من نفس دمه، بل يكاد يُخرج أباه من قبره، محتجاً غاضباً صارخاً به، أن يتوقف عن النذالة والحقارة والعبث، لذا فشتّان بين الأب والإبن، في كثير من الأحيان كما شتان بين الثرى والثرية.

وأضاف الراوي أن الأمر ينطبق على معظم رموز سلطة بني كنعان، منذ نشأتها وحتى تتهاوى على رؤوسهم، من أعلى الهرم، رأسهم ورئيسهم، و”خليفتهم”حتى وإن لم يصم أو يصلي، ولا حتى يقوم الليل إلا لتفقد تكاثر المال في الحسابات والبنوك، مروراً بحاشيته التي باعت وطنيتها وضميرها واستعاضت عنهما النفاق والكذب والتبعية، التي تساعدها في تكديس المال ودفن الكرامة والمروءة والأخلاق.

وأضاف الراوي، معطياً مثالاً على ذلك:

أن هناك من الأسماء ما يتناقض مع أفعال صاحبه، فحين تقول “الطيب”، يمكن أن يعني الخبيث، وأن “الطيب” في “الطيب عبد الرحيم”، هو اسم وليس صفة، وخلافاً لأبيه، فمن أبرز صفات صاحبه، الكذب والنفاق واللعب على الحبال من أجل حفنة مال، ومثال ذلك أن الرجل كان من أكثر الناس إلتصاقاً برئيسه السابق ياسر عرفات، وكان يدافع عنه ب”الباع والذراع”، وخاصة أمام خصمه اللدود المدعوم أمريكياً، والمقبول من الصهاينة العرب كما الصهاينة الأصليين، السيد عباس، وتخال “الطيب” أحياناً قائداً وطنياً صلباً ، يرفض وصول عباس للسلطة على حساب عرفات، أو حتى أخذ جزء من صلاحياته، ويعتبره مؤامرة على الوطن والقضية، وخطوة على طريق تصفيتها، لكن ما أن توفى الله عرفات وجاء خليفة سلطة أوسلو الجديد، حتى صار “الطيب” من أهم أعمدة “الخليفة” الجديد، ويعلم الله أنه لو جاء أي رئيس آخر بما في ذلك “الدحلان” الذي يعاديه اليوم هذا “الطيب”، لانقلب على نفسه وصار من أقرب المقربين له، مقابل الإحتفاظ بمركزه المالي والإقتصادي، وقوته وتأثيره السياسي ، ويقول البعض أن الله وحده يعلم كيف تتم الإنقلابات داخل كيانات هؤلاء البشر، فيصبحون اليوم نقضاء الأمس، ويدافعون اليوم عمّا حاربوه بالأمس. لكن ومن باب نقل الأمانة كما هي يؤكد الراوي، أن الرجل كان رجل ثقة عند رئيسه الأول وولي نعمته الذي علمه وجعله سفيراً ووزره وأعطاه المناصب والمراكز العليا على طول الطريق، وما يؤكد الأمر تسلم الرجل مسؤولية رئاسة اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد ومحاربته، منذ أواسط التسعينات، وحقق الرجل ما تعجز عنه مؤسسات بأكملها وعدتها وعديدها، الأمر الذي “نظّف” البيت الكنعاني برمته من الفساد والفاسدين، ومن “عواهر” السياسة، ومن الطفيليات البشرية والمنافقين، ولم يبق به لا إنتهازيين، ولا متملقين، ولا طفيليين، لذا وصلنا لما وصلنا إليه الآن، بعد مرور عشرين عاماً كاملة على تشكيل تلك اللجنة، وهذا غيض من فيض من إنجازات الرجل، كي لا نتحدث عن إنجازاته في لجنة الحوار مع المعارضة الفلسطينية، أو في داخل الخارجية الفلسطينية وسفاراتها التي لن تجد فيها ولو سفارة واحدة ولا سفير واحد تنخر بهما مخابرات العالم وسفلته، ولن تجد منهم فاسداً واحداً، أو سفيراً غير مؤهل أو لصاً أو عابثاً أو سكيراً أو حتى تاجراً، تماماً كما أعضاء المجلس الوطني الذي هو أحد أعضاءه، والذي يرفع يده به أوتوماتيكياً ويهز برأسه كلما سمع صوت ولي نعمته، وكذلك لا يمكن نسيان دوره، في تعميق الديمقراطية في مؤسسات السلطة وداخل حركة فتح نفسها، وداخل مؤسسة الرئاسة في السلطة، والأهم حفاظه ومن معه من قيادة “رعاها الله” حفاظاً مستميتاً على القرار الوطني المستقل لبني كنعان، لدرجة أصبح كل من هب ودب، بما في ذلك الإمارات “بلا صغرة” تحاول فرض رئيساً علينا!!!…

ويضيف الراوي، أن ما ذكّره بهذا الأمر الآن وفي هذا الوقت بالذات، ما قاله وصرح به هذا الرجل من أكاذيب وقلب للحقائق، عندما صرّح باسم الرئاسة وبإسم الرئيس شخصياً، أنه يدين بشدة قصف أنصار الله والجيش اليمني لمكة المكرمة، رغم أن كل العالم أقر بأن القصف كان لمطار عسكري في جدة “غير المكرمة” وليس ل”مكة المكرمة”، وهو ومن حوله يعلمون ذلك، ثم و”ما دمتم تقولون أنكم حياديون، فلماذا لم تستنكروا ولو مرة واحدة وبنفس الطريقة والقياس، وحتى لو من باب رفع العتب، أو التساوي في الإدانات، المجازر ضد المدنيين التي يقوم بها آل سعود، لهذا الشعب الذي قدم للقضية الغالي والنفيس، وكان دوماً في مقدمة الشعوب الداعمة لها وبالدم؟ وإن كان لديكم حرج في موضوع اليمن، فلماذا لم تحتجوا على إعتقال “خالد العمير” الذي حكمت عليه محاكم آل سعود بثماني سنوات من السجن الفعلي لا لشيء إلّا لأنه استنكر حرب بني صهيون وقصفهم لقطاع غزة؟ ألا يستحق الرجل منكم ولو كلمة تضامن واحدة معه ؟وإن كنتم لا تهتمون بالبشر بل بالأماكن المقدسة، فلماذا لم تستنكرون ما قصفه آل سعود من مساجد داخل اليمن؟ ولماذا لم تستنكروا تدمير الكعبة من آل سعود على رأس الثائر جهيمان العتيبي وجماعته؟ أو لماذا لم تستنكروا يوماً تدمير المقابر والمساجد التاريخية، ولا حتى قبور الصحابة أنفسهم على يد الوهابيين في مملكة العهر والظلام؟ وما دمتم بهذا الوضوح وهذه الصلابة مع آل سعود، لمبدئيتكم طبعاً وليس خوفاً وطمعاً، فلماذا لا نرى منكم خطوة عملية واحدة على قتل الصهاينة لأبنائنا؟ أم لأنهم أبناؤنا وليسوا أبناءكم؟ فأبناؤكم يتسوحون ويتعلمون ويتاجرون في بلاد العم سام!!! ولماذا لم ترفعوا صوتكم مرة واحدة وتتقدمون حتى لو بشكوى ضد الإحتلال عل ما فعله بأقصانا وصخرتنا وكنائسنا ومقابرنا إلى محكمة الجنايات الدولية حتى لو من باب إغلاق أفواهنا؟”

ويضيف الراوي قائلاً، فعلاً “إن لم تستحِ فافعل ما شئت”، فإن المذكور ومن حوله من قيادة مهترئة متصدعة، لم يعودوا يستحون، لذلك سرعان ما رفضوا مبادرة السيد رمضان عبدالله شلح، لرأب الصدع في ساحة “بني كنعان”، وأن الأمر كان متوقعاً ولا توجد به مفاجآت، كونهم يأتمرون بأوامر “الفرنجة” و”بني صهيون” و”الأعراب الأشد كفراً ونفاقاً” من آل سعود وأشباههم، ولم يكن يوماً أمرهم من رأسهم أو بيدهم، كما أنهم لن يقبلوا أن يتخلوا عن السلطة أو أن يتقاسموها مع أي أحد آخر، فمن هو، من وجهةنظرهم، ذلك الأحمق الذي يترك من يده “بقرة” حلوب أو “دجاجة” تبيض ذهباً، ويتقاسم حليبها أو ذهبها مع الآخرين؟ وبجانب الخسارة الإقتصادية هذه، سيقل عدد المسحجين والأنتهازيين والطفيليات من حولهم، الأمر الذي يمكن أن يؤدي لفقدانهم القرار الوطني “المستقل” لبني كنعان جميعاً، وينعكس سلباً على قضيتهم كلها!!!

كما أن الموافقة على برنامج الرجل يعني، إعادة تثوير المنظمة، ورفع رايات بنادقها، وهم، وبعد أن تكرشوا وتعودوا رفاهية العيش وبذخه، لا يستطيعون ترك حياة الفنادق الفاخرة “v i p” والتعود على حياة الخنادق، ويعلم الله أنهم كم يودون فعل ذلك لو استطاعوا، لكنهم لا يستطيعون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لذلك فهم يفضلون البقاء كما هم، “كعاهرات الليل”، يقتاتون على فتات بني صهيون من عرب وغير عرب، على أن يغامروا مغامرات تفقدهم حتى هذا الفتات…

لذلك، يؤكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أنهم، وبمناسبة الذكرى التاسعة والتسعين لوعد بلفور، أناس واقعيون، غير مغامرين، مدركون أن لكل شيء في هذا الوجود ثمنه، وأنهم منذ اللحظة التي خُيِّروا فيها بين “السلة والذلة” إختاروا بكل صدق واقتناع، الذلة ثم الذلة ثم الذلة، كثمن لا طريق غيره لتحقيق الذات، وأن الناس ستعتاد على ما يبثونه بينهم من سموم في الصحافة والإعلام، وسيرتدعون من خلال الملاحقات البوليسية والقتل والسجون، تماماً كما اعتادوا على قرار 242 و على ال”لعم” الشهيرة، وعلى التنازل عن الميثاق الوطني، والتنازل في الأمم المتحدة عن أن “اسرائيل” دولة عنصرية، من كل “التكتيكات” التي قاموا بها، وأن “آل عباس” وسلطته وأبناؤه وحاشيته، تدرك أن التكتيك يجب أن يخدم الإستراتيجية، وأنهم يجزمون أن تكتيكاتهم تخدم الإستراتيجية، لكن إستراتيجية بني صهيون، والتي صارت استراتيجيتهم جزء لا يتجزأ منها، وتخدم مشاريعهم وأهدافهم المشتركة، كما أن هذه التكتيكات تدر عليهم الملايين، وبالنسبة إليهم، فإن الكرامة مهما علت وكبرت ووسعت واتسعت فإنها لا تستطيع أن تملأ جيباً واحداً بالدراهم، عِوضاً عن الملايين، حتى أن بعضهم يسخر قائلاً أن الكرامة لا تجلب إلا الفقر، بل هي والفقر متلازمتان…ومهما قيل، فإن الخنادق لا تجلب غير الكرامة، والكرامة وعزة النفس لا تستقيمان دون تضحية، وللتضحية أخطار وطريق طويل متعب خطر ممل، وفي أحسن أحواله لا يجلب المال، لذلك سنوا القوانين “الديمقراطية”، وسمحوا للمواطنين بالتظاهر لتأييد الرئاسة، وبمشاهدة سيادته خطيباً مفوهاً على شاشات التلفاز، وبقراءة الصحف التي تخضع للرقابة، وحرّموا استخدام السكاكين في المطابخ والشوارع والأسواق، ولما استخدم بنو كنعان أسنانهم في تقشير البرتقال لأكله، اقتلعوا أنيابهم حفاظاً على الأمن العام، وسمحوا للشعب بأسره، ولكل من أراد منه أن يتحول إلى “أنعام”، ومن رفض حاولوا إقناعه بالحسنى أو بالسوط ، أن “يضع رأسه بين الرؤوس ويقول يا قطاع الرؤوس”، وصاروا ينشرون السلام بدل الكره الذي كان سائداً في البلاد لصهيون وبنيه، وظلوا يقنعون الناس “أن يسامحوا بحقوقهم لأن “المسامح كريم”، وأن جزاءهم في الآخرة “خير وأبقى”، وقرروا أن يصمدوا بوجه بني صهيون حاملين الرايات البيضاء بكل عز وشموخ، وأن يظلوا يطالبون “بالمرحاض” الذي حشروهم به دون سيادة، بعد أن أخرجوهم من غرف البيت وساحاته الخضراء.           لذلك كان كلما ضربهم المحتل بحذائه على خدهم الأيمن أداروا له الأيسر، ولما ضربهم على الخدين معاً، وب”الشلاليط” أيضاً على أماكن أخرى، تتحسسوا أماكن الألم وتعايشوا معه في بادئ الأمر، ولما تكرر الأمر وتكاثر ترداده تعودوا عليه، ولم يعودوا يحسون به، واختفت آلامه لاحقاً، وابتدأت تداعياته، فأخذوا يثبتون حسن نواياهم، فقاموا وما يزالون بخطف “المخربين” وسجنهم وقتل بعضهم، واعتقال “المشاغبين”، وملاحقة الأقلام “الجارحة” لتكسيرها، وإغلاق الأفواه وكتم الأنفاس، من باب الإلتزام بالمواثيق الموقعة مع بني صهيون، وتابعوا باقتحام المخيمات والقرى والمدن التي ما تزال تفرخ المتظاهرين، لتخريب كل ما تم انجازه حتى اللحظة من أمن وسلام وتطبيع ومحبة، وصاروا يؤمنون بالله وآل سعود وبني صهيون، ويؤمنون بأن البقاء للأقوى كما أكد القائد نتنياهو، لغيرهم وليس لهم، وأما هم فقوتهم تكمن في شدة بطشهم للمشاغبين المارقين المغامرين من بني كنعان، وبشدة ضعفهم أمام بني صهيون، وأما نتنياهو وإن ضربهم بالنعال، فإن نعاله يملؤها “سلام الشجعان” وتُغلفها الأعلاف، وسكوتهم عما يفعله آل سعود وغيرهم، رغم معرفتهم “أن السكوت عن الحق شيطان أخرس”، لكنه أخرس غني وأفضل من متحدث فقير. وكما يضربهم نتنياهو بحذائه هم يضربون الشعب بالأحذية والرصاص، ليثبتوا له وللقاصي والداني جديتهم في محاربة رافضي الخضوع لهم والخنوع لأسيادهم من بني صهيون عرباً وعجم.     ويؤكد الراوي بأنه لا يستطيع فتح ملفاتهم مجتمعين، بل فرادى وبالتقسيط، لأن رائحة ملفاتهم وسيرتهم تزكم الأنوف وتعمي العيون، وأن كمية العفن والفساد والسقوط واللصوصية، يستحيل وجودها بهذا الكم في بقعة جغرافية صغيرة “كمرحاض” أرض كنعان حيث يقطنون، بعد أن تنازلوا عن المنزل وحديقة البيت، الأمر الذي ربما يؤدي لعكس ما يريده من وراء هذه الكلمات، لذا سيكتفي بهذا القدر فقط في هذا اليوم… والله من وراء القصد.

محمد النجار

الأستاذ خميس

عاد إلينا الأستاذ خميس بعد أيام على إعتقاله من أجهزة الأمن الفلسطينية، التي تعودت على “إستضافته” بين فترة وأخرى، “إستضافة” إجبارية غير مرحب بها من جانبه، ومن جانبهم ضرورية لتذكيره بعدم تجاوز حدوده، لكنه لم يتعلم بعد أن يكون “رقيباً ذاتياً” على كلماته ونفسه وتصرفاته كما فعل الكثيرون، كما أنهم لم يأتوا لبيته هذه المرة، بل حملوه من الشارع، من وسط المتظاهرين المحتجين على عزاء السلطة ورئيسها وزباينته في جنازة “المجرم” بيريس…

كنا نحن طلاب الصف الثاني عشر، نحبه لدماثته وحسن خلقه، حتى مَنْ عارضه في السياسة، أحبه مثل البقية، فهو يقول ما لديه بكل شفافية ووضوح، بغض النظر عمن يتواجد أمامه، بل إنه، وبالضبط، عندما يتواجد خصمه في الأفكار والمواقف، يقول ما يريد بوضوح ليس بعده وضوح.

ظل الأستاذ خميس يخاطب طلابه ب”أولادي”، رغم أنه لم يتجاوز الأربعين بكثير، ويتحدث كرجل في الستين، بهدوء وروية لا تخلو من الحِكَم، كما ظلت كلماته دوماً تنحض بالأمل في قالب من الفكاهة، وكنا عندما يبدأ بذلك نفهمه مباشرة، ونسايره عارفين أن الحصة هذه ستذهب أدراج الرياح، وأننا لن نتعلم شيئاً جديداً من قواعد اللغة أو نصوصها العربية، وستتحول “حصتنا” إلى عرض لوجهات نظر سياسية لا تخلو من مناكفات أحياناً.

قال الأستاذ خميس بمجرد أن دخل الفصل، ممسكاً ب”طبشورة” بين أصابعه، في نفس اللحظة التي كتب بها:

ـ أعرب الجملة التالية: أفتى “الهباش” كذباً…

ونحن الذين نعرف أن ليس المقصود الدرس بل الخبر نفسه، سأل أحدنا الأستاذ خميس:

ـ وبماذا أفتى الهباش يا أستاذ؟

فقال:

ـ لا أعرف بالضبط أأفتى الرجل أم أفسى، على رأي الشاعر أحمد فؤاد نجم، لكنه أفتى بتخوين معظم الشعب وفصائله وقياداته الرافضة لنهج أوسلو، وبتعبير أدق، لكل من خالف رئيسه بأي شيء، أفتى بتخوينه وبشره بجهنم وبئس المصير، والمصيبة أنه يصرخ ويؤشر بإصبعه مهدداً، ويستحمرنا ويستخف بعقولنا، وكأننا لا نعلم أن معاش آخر الشهر هو من يتكلم بلسانه… أرأيتم عبثاً أكثر من ذلك؟ بماذا يختلف هذا عن الدواعش وأخواتهم؟ أليسوا جميعاً يستغلون الدين ويشوهونه لخدمة مآربهم ومصالحهم؟                                                               لم يكن أي منا ليدافع عن “الهباش” أو عن فتاويه، فكلنا يعلم أن الرخيص رخيصاً مهما قال أو “زايد” أو انفعل، كما أكد صادقاً الأستاذ خميس، وقال عامر الذي كثيراً ما “لحّن” للأستاذ خميس ليستمر في “غنائه”، مكملاً ومساعداً كي تذهب حصة القواعد العربي للجحيم:

ـ يبدو أن غيابك يا استاذ قد حجب عنك آخر ما فعل…

فقال الأستاذ خميس:

ـ هات ما عندك يابني… أتحفني بجواهره… إضربني بأخباره لا سُد فوك…

وكانت ضحكاتنا مسموعة دون تعليق من الأستاذ خميس، وأكمل عامر:

ـ لقد التقى مجموعة من “الحاخامات” الصهاينة، ثم مع رئيس الكيان العبري… من أجل “السلام” كما تعلم يا أستاذ…                                                                                                                               فقال الأستاذ مُستهزئاً:

ـ آه… طبعاً كما أعرف… وكما تعرفون أنتم أيضاً، وكيف لي أن لا أعرف أن كل شيء من أجل “السلام”؟

وسكت قليلاً وكأنه يأخذ موقعاً خلف بندقية في معركة تدور بضراوة على الأرض:

ـ لكن الشيء الذي لا أعرفه، كيف يمكن أن يكون المرء بهذ النذالة؟ كيف يرتضي ذلك؟ إنني حتى لا أستطيع أن أتخيل ذلك، فحتى عدوك يحتقرك عندما تكون عميلاً، ألم يقرأ هؤلاء أو يسمعوا عن معاملة الكيان لعملاءه في فلسطين أو جنوب لبنان؟!!! ألا يكفيهم كيف يتعامل هؤلاء الأعداء مع رئيسهم نفسه، الذي يرقص عارياً أمامهم كالبهلوان في السيرك؟ كيف يكون شعورهم عندما يتحدثون مع الصهاينة والدماء تملأ الشوارع والأزقة؟ ورصاص “سلامهم” يفجر جماجم النساء؟ وهراواتهم تحطم عظام الأطفال؟ كيف يستطيعون التحدث عراة غير قادرين على إخفاء عوراتهم؟

وسكت هنيهة من جديد وتساءل الأستاذ خميس قائلاً:

ـ كيف يستطيع هؤلاء أن يقبلوا أن يساقون كالبهائم أمام المال؟!!! ألم يتعلموا بعد أن البدلات ورباطات العنق، مهما كانت ثمينة، لا تستطيع حجب نهر الذل المتدفق من وجوههم البائسة؟

كنا قد توقفنا عن الكلام تقريباً أمام سياط أسئلته، ولما توقف قال زميلنا سمير مخاطباً الفصل كله:

ـ ألا تتذكرون كلمات الرئيس عباس الشهيرة، وهو يقول، “لو خرجت مظاهرة من عشرة أشخاص ضدي سأستقيل، سأستقيل حتى قبل أن تخرج، لأن هذا يعني أن نهجي ضد نهج الشعب، وأنا لا أقبل أن أعمل ضد نهج شعبي”…

وهنا صفق الأستاذ خميس بيديه، صفق دون أن يبتسم، وقال:

ـ أظن أن الرئيس قد صدق، فهو قد حدد عدد المتظاهرين بعشرة، أما الذين خرجوا ضده في كل مرة فأكثر من عشرة، حتى في الإحتجاج الأخير، لذلك أوعز بقمعهم، كما أنه لم يستقل…

فقال سمير من جديد:

ـ يقولون يا أستاذ أن مظاهرة من “فتح” تصدت لمظاهرة المحتجين، وأن السلطة لا شأن لها بذلك…

فقال الأستاذ خميس، وكأنه خرج عن سياق الموضوع:

ـ أترى يابني عندما يحارب الجيش السوري الإرهابيين كيف تكون شراسة المعارك؟

ولم ينتظر جواباً وتابع:

ـ لكن عندما دخل “الأتراك” بذريعة محاربتهم لم تُطلق رصاصة واحدة، بل يؤكد الكثيرون أن “الدواعش” خلعوا لباس داعش وارتدوا ثياب “الجيش الحر”، وهكذا هؤلاء، يقومون بالأمر نفسه، خلعت شرطتهم لباس الشرطة ولبست ملابس “فتح”، وهذا لا يعني أن ليس بينهم “فتح”، فبالمال يمكن شراء الكثيرين من فتح ومن خارجها أيضاً، وبغض النظر عن لباسهم يابني، إن كان لباس شرطة أو لباس مدني، نعم، بغض النظر عن نوع لباسهم، هناك حقيقة واحدة ساطعة، أنهم عراة لبسوا أو لم يلبسوا، إنهم عراة مخصيين يستثيرون النقمة حيناً والشفقة أحيانا أخرى…

انقضوا على المتظاهرين المحتجين، كما جاءت الشرطة بملابس مدنية أيضاً، وضربوا وقمعوا وفتكوا، لقد كانت أدوات السلطة القمعية أكثر من عدد المتظاهرين، فهربن الصبايا وهرب الشباب، ورغم كوني غير مشارك في المظاهرة إلا أنني تبعت شرطتهم التي كانت بملابس مدنية، لما رأيتهم يتبعون الشباب والصبايا في الشوارع الفرعية، ربما بدافع الفضول، لأعرف الى أي درجة من الحضيض وصلوا، فالخيانة تبدأ بخطوة بسيطة أول الأمر، لكنها تضحي بئراً عميقاً ليس له قرار، فرأيتهم بأم عيني كبف يضربون الجميع، وأثارني التحرش بالفتيات، هؤلاء الفتيات اللواتي في معظمهن بنات شهداء وجرحى وأسرى، يتحرشون بهن ليذلونهن، تماماً كما فعل الأخوان مع الفتيات اللواتي تظاهروا ضدهم في أكثر من بلد عربي، واعتبرونهن خرجن كي يُتحرش بهن!!! ربما يعتقدون أنهم بذلك يثبتون رجولتهم المفقودة. تصوروا، رجال مدججين بالأسلحة والهراوات، يضربون مجموعة صبية وفتيات ويتحرشون بهن، تماماً مثل رجل مخصي يضرب زوجته ليثبت لها رجولته المفقودة، لكن الخلل ليس بهم وحدهم، الخلل الأكبر بمن وراء المظاهرة من قيادات أيضاً، لو كان هؤلاء رجالاً لما تجرأت على مؤيديهم السلطة وأدواتها، إنني أتذكر قبل سنوات خلت، كيف كانت قيادات السلطة نفسها، تقبل الأيادي معتذرة عن أي تجاوز مهما كان بسيطاً كي لا يُرد لهم الصاع صاعان، أما وقد غدت الكثير من هذه القيادات تتساوق مع السلطة”خوفاً أو طمعاً أو الإثنين معاً”، فسنرى أكثر بكثير مما نراه الآن…قلت لهم:

ـ هذه “إسرائيل” في دواخلكم، انفضوها خارجاً إن كان لديكم شيئاً من مروءة أو بقايا رجولة، كي لا أقول اطردوها عن أبواب غرف نومكم، من يراكم يحسبكم تضربون أعداء الوطن، وأن الكرامة والعزة تسيل مثل ينبوع من جنباتكم، وأنتم لا كرامة ولا مروءة ولا عزة ولا شهامة، تقمعوننا هنا، ولدى الأعداء تحاولون إظهار “حضارتكم”، من خلال حضور جنائز فاشييهم وفي لقاءاتكم معهم، لا تتعبوا أنفسكم، فإذلالكم تم ويتم على أياديهم، فهم يعرفون بؤسكم، وبدلاتكم هذه يمزقونها متى أرادوا، ويأخذونها منكم متى أرادوا… هل تجرؤون حضور جنازة أي شهيد؟ هل تستطيعون رفض أي أمر لهم؟ هلّا تمنعتم عن ضرب الأسرى والمحامين والمحررين والمناضلين؟

اعتقلوني مع آخرين، وأثناء التحقيق أرادوا إقناعي بأنهم سلطة وطنية، فقلت لهم:

ـ “أقنعوا أنفسكم أولاً ثم تعالوا لإقناع الغير”، فأي وطنية في سلطة تقمع شعبها وتأسر مناضليه وتتتآمر على تصفية مقاتليه؟ لو ما زال هناك قوى جذرية في ساحتنا الفلسطينية، لما تركتكم تفعلون ما تفعلون ضد الشعب وبإسمه في آن، ولكانت أدركت أن هذه المرحلة تتطلب العودة للعمل تحت الأرض، العودة للعمل السري وكأنها في عهد الإحتلال نفسه، بل أكثر من ذلك، فهذه القوى وهذا الشعب أمام إحتلالين، إحتلال الصهاينة ويده الضاربة الثانية، سلطة أوسلو

قال لي أحدهم:

ـ نحن طليعة حركة التحرر العربية…

قلت:

ـ معاذ الله، فعلى حركة التحرر الوطني “السلام” في مثل هذه الحال، أنتم لم تستطيعوا أن تدينوا مجزرة بحجم مجزرة الكرادة في العراق أو الصالة الكبرى في اليمن، كي لا تُغضبوا آل سعود، والعراق واليمن هما من أكبر “الخزّانات البشرية” لقضيتنا الوطنية، فهل من يخاف على حفنة مال يمكن أن يكون قائداً أو مؤتمناً لحركة تحرر وطني عربية؟ أنتم لم تعودوا جزءً من حركة التحرر الوطني لا العربية ولا الفلسطينية، منذ اليوم الذي وضعتم أيديكم بيد الصهاينة…

وأكملت:

ـ من يرمي البندقية الوطنية من يده ويستبدلها ببندقية من الإحتلال، لن يكون جزءً من حركة التحرر الوطني العربية أبداً

قال الضابط:

ـ أنتم لا تدركون المخاطر التي تمر بها قضيتنا، إنهم يتآمرون على الرئيس، يريدون المجيء ب”الدحلان” بديلاً عنه…

قلت له، ودق الجرس معلناً إنتهاء الزمن المحدد للحصة، لكن أي منا لم يغادر مقعده، وأكمل الأستاذ خميس لما رآنا في أماكننا:

ـ ألم تدركوا بعد أن القضية تختلف عن الرئيس؟ ثم أنهم هم أنفسهم الذين تآمروا مع الرئيس الحالي على سلفه، يتآمرون مع “الدحلان” عليه الآن…

وانتهى الحوار، فكلانا يتحدث بلغة مختلفة، لغة لا يفهمها الآخر، وأقول لكم الآن، فأنتم المستقبل في كل الأحوال: ـ المُخَطِط نفسه والسياسة نفسها والأدوات الرخيصة نفسها، حتى لو تغيرت الوجوه والأسماء، فالتابع، مهما علا شأنه وبدا لك علو هامته، يظل ذليلاً، ومن الذليل لا تُرجى عزة نفس أو كرامة…

قال زميلنا عزمي والذي لم يكن مقتنعاً بكل ما يقال عن الرئيس:

ـ يبدو لي أن هناك مبالغة في كل هذا الحديث عن الرئيس، مبالغة كبيرة، فالرئيس أكثر من يعرف معنى الحرية والديمقراطية وتأذى منهما…

فقال عامر:

ـ كما اليهود، بقولون أنهم أكثر مَنْ عانى من المجازر الهتلرية، انظر ماذا يفعلون بنا الآن؟

قال سمير وقدبدأنا نتهيأ للمغادرة، كون حصة القواعد العربية كانت آخر الحصص لهذا النهار:

ـ آخر أخبار الرئيس تقول، إن ديمقراطية الرئيس ووطنيته تطالبان بملاحقة الناشطين الفلسطينيين على “الفيس بوك”، والرئيس يستعين بالإسرائيليين من أجل ذلك…

ـ إنه رجل ديمقراطي فعلاً…

ابتسم البعض منا، وخرجنا والأستاذ خميس في وسطنا، وكنت أسمع من بعيد نتفاً من أحاديثه وهو يقول:

ـ نعم حددوا لي محكمة لتطاولي على المقامات العليا…

محمد النجار

آخر أيام الرئيس…

استلمت على بريدي الإلكتروني هذه الرسالة، لأخذ رأيي الأدبي والسياسي فيها، رغم أن الكاتب لم يُذيِّل رسالته سوى بحرفين بدلاً من الإسم، ويعطيني الحق بنشرها إذا رأيتها تناسب النشر… وجاء في هذه الرسالة: ” عزيزي السيد محمد النجار المحترم، أرسل إليك هذه المسرحية، لعلها تكون مناسبة للنشر، رغم معرفتي المسبقة أنك لم تكتب يوماً مسرحية، ولا أعلمك ناقداً أدبياً، وأن ما تكتب يزخر بالأخطاء الإملائية والقواعدية، لكني رأيت نفسي أرسلها لك، لا تسألني لماذا، لأنك لن تحظى بالإجابة الشافية، كوني أصلاً لا أعرفها، لذا لندخل إلى صلب الموضوع:

بصراحة لا أعرف إن كانت هذه مسرحية فعلاً، أو قصةقصيرة، أو حتى أحلام يقظة، أو هلوسات يائس، ربما عليك أن تحدد ذلك بعد قراءتها… من جانبي أعتبرها مسرحية والباقي لا يهم…

قبل البدء، يجدر الإشارة ألى أن هذه المسرحية هي عمل متخيل فقط، لا يوجد إلا في عقل كاتبه، وليس له أي علاقة بالواقع، لا من قريب ولا بعيد، حيث وكما أعتقد، لا يمكن أن يوجد لها هناك سنداً أو مُسوغاً حقيقيا، لا في الوقائع ولا الأماكن ولا الأحداث ولا الشخوص، حيث، بالعقل وبالمنطق، لا يمكن أن تجد أنذالاً وحقراءاً وأذلّاء، ولا فاقدين للرجولة والوطنية والحياء داخل أي شعب، ولا قيادة بهذا “الخصاء”، بالشكل الوارد أدناه في المسرحية، فما بالك على رأس شعب كشعب فلسطين أو داعميه من شعوب عربية، وعليه، فإن أي تشابه في الأسماء والأماكن أو الأحداث أو الشخوص، ما هو إلّا بمحض الصدفة، الصدفة فقط، وليس مقصود بأي حال من الأحوال، وبالتالي فإن الكاتب أو الناشر أو حتى القارئ، لا يتحملون أي مسؤولية قانونية أو أخلاقية أو مادية، لذا وجب التوضيح…

“مسرحية من فصل واحد

آخر أيام الرئيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــس

تُفتح الستارة، ليظهر حقل واسع ممتد، بؤر وكتل رملية متفرقة، متقاربة ومتباعدة، بها ما يشبه آبار البترول، قطعان من الإبل والخراف والماعز وجموع من الخيول، محاطة بطائرات حربية ودبابات وأسلحة ثقيلة، وفي وسط هذه الكتلة توجد منطقة تتركز فيها آلات الحرب، وفيها كتلتين بشريتين مفصولين عن بعضهما البعض، وقطعان من الخراف والماعز والخيول، وفوق كل كتلة منهما يتربع بضعة أشخاص، بعضهم بعمامات فوق الرؤوس وبعضهم ببدلات ورباطات عنق، يأكلون المناسف، وقد “شمروا أياديهم إلى ما فوق الكوع”، ويبدوا أنهم يفضلون اللحم على الأرز، ويأسفون على حبيبات الأرز المتساقطة فوق رؤوس العوام، وكان الناس المركوبين عاجزين عن الحركة على ما يبدو أو خائفين، كي لا يزعجون الراكبين، وفي أحيان كثيرة إذا تحرك شخص ما، يتم لكمه ممن يركبه، وأحياناً يتم وضعه دخل سجن بدون إضاءة ولا طعام ولا ماء، الهدف منه إضعاف الأيادي وإخراس الألسنة، يتم إطفاء الأضواء عن المسرح كله، إلا الجزء الأمامي منه، حيث ينتهي أولئك لابسوا البدلات ورباطات العنق من الأكل، لكنهم لا ينزلون عن أكتاف الناس، ولا عن ظهر القطيع، يتم تكبير المشهد أكثر وأكثر، فتصبح وجوه الأكَّالين واضحة وتختفي صور المركوبين، فيظهر تكتل من شخوص بأسماء مختلفة، لا نستطيع أن نكتب أسماءهم حسب الظهور على خشبة المسرح، لأن ظهورهم يكون دفعة واحدة، فتظهر الشخوص المتخيلة بالأسماء التالية:  الرئيس محمود عباس، كبير المفاوضين صائب عريقات، يحيى رباح، عزام الأحمد، الهباش، جبريل الرجوب، محمد الدحلان، الرئيس عبدالفتاح السيسي بجانب قدمه أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، يطل من شباك في بناية مجاورة،  والملك سلمان أمام قصر خلف الجميع، ونتنياهو وآخرون أقرب ما يكون من عباس ومن معه، في مراقبة للمشهد كله…

يقول الرئيس محمود عباس، بعد أن غسل يديه، وبدأ يمسحهما بمنشفة:

ـ الحمد لله… الفاتحة على روح المرحوم بيريس…

يقرأ المجتمعون الفاتحة، ويضيف عباس:

ـ لا تلقوا بقايا الطعام في سلة المهملات، حرام، أعطوه للكلاب، أغسلوا الأطباق وضعوه أمامها، كما لا تنسونهم من العظم… وزّع “السادة” يا عزام…

يقول صائب عريقات، حينما بدأ عزام بتوزيع القهوة السادة:

ـ حاضر يا سيادة الرئيس، هكذا نفعل دائماً بالفتات والعظام…

الرئيس:                                                                                                                               ـ هكذا تقول في كل مرة، لأكتشف أنك تعطيهم العظام بعد أن “تمصمصها” كاملة وتجردها من الدسم، إترك شيئاً لغيرك يا صائب…”الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته”

يقول صائب مفتعلاً الغضب، وكأنه ضحية أو مظلوم:

ـ حاضر سيدي الرئيس، لكن الأمور ليست كما وصلتك

الهباش متألماً:

ـ ما يقوله سيادة الرئيس صحيحاً، حتى أن بعض الكلاب لم تر العظام منذ شهور، لكنها صابرة من أجل عيون الرئيس… “اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، اللهم زد من حسناته وأقلل من سيئاته، اللهم اجمعنا معه في جناتك…”

يقول الرجوب موضحاً للرئيس ومعقباً على دعوات الهباش:

ـ ربما لولا خدمتنا لصاحب الجلالة الملك سليمان طال عمره، لأصبحنا نحن أيضاً مثل بقية الكلاب الضالة… ، وأنت يا هباش “قل بعد عمر طويل يا أخي… لا يجوز…”

يظهر الإمتعاض على الرئيس، ويأتي صوت الدحلان من مكان بعيد:

ـ نعم صحيح، والرئيس السيسي لم يُقصِّر أيضاً…

يرد يحيى رباح ليشعر الرئيس أنه الأقرب اليه حتى من صائب نفسه:

ـ لا تزيدوا هم الرئيس أكثر، فالرئيس لا يستطيع إطعام كل الكلاب، الضالة وغير الضالة، “يادوب يقوم بنا”، مهامه تتعدى مجرد رعاية بعض الكلاب…

يسكته الرئيس بحركة من يده ويسأل:

ـ ما هي آخر المستجدات يا صائب؟

صائب:

ـ كل شيء كما تريد ياسيادة الرئيس، لكن الأمر لا يخلو من منغصات هنا وهناك، فمثلاً لم يشعر أحد بإهانتك عندما رفض كيري وضع يده في يدك، لكن البعض إلتقط الصورة، وأنزلها على وسائل التواصل الإجتماعي…

الرئيس:

ـ أوقفوا وسائل التواصل الإجتماعي إذن…

عزام الأحمد “مُتأتئاً مُتفتفاً”:

ـ لا نستطيع سيدي الرئيس، لكن من الأفضل أن نقول لمعترضي “فتح” أنك ذهبت لجنازة المرحوم بيريس باسم السلطة وليس بإسم “فتح”، ونقول للبقية بأنك ذهبت باسم “فتح” وليس السلطة… كما كنا نُعمل سابقاً، ونحمل كل شيء على ظهر “المرحومة”منظمة التحرير … قبل أن ندفنها…هه هه هه

الرئيس مبتعداً بوجهه عن الأحمد، كي يبتعد عن بصاقه الخارج مع كلماته:

ـ كم مرة قلت لك أن لا تتحدث في وجي؟ أدر وجهك على الجانب الآخر ياأخي، ماذا بك؟ أمعتقد فعلاً أنك فيلسوف؟ تُعيد هذه الجملة في كل مرة وكأنك إكتشفت الماء، غير وبدل ياأخي، وابتعد بفمك عن وجهي، أنا أسأل لماذا لا نستطيع وقف وسائل التواصل الإجتماعي؟

يقطع الهباش غضب الرئيس ثم يقول:

ـ إنه يتحدث بإرتياح سيدي الرئيس، فكل مناقصات السلطة بين يديه، ماذا يهمه؟

يجيب جبريل مبتسماً على سؤال الرئيس، متخطياً كلمات الهباش:

ـ لأن الأمر بيد إسرائيل، ونحن كما تعلم سلطة بالإسم، يعني أشبه بروابط القرى، يعني كما تعلم سيدي الرئيس، أنك ورغم كونك رئيساً، إلّا أنك وكما يقول المأثور الشعبي “زي الدجاج ـ بلا مؤاخذة ـ لا تستطيع التحكم حتى ببيضاتك”…

الرئيس غاضباً:

ـ “الملافظ سعد يا جبريل، حسِّن ملافظك”..

صوت الدحلان من نفس المكان:

ـ إنه يقصد إهانتك يا سيادة الرئيس…

الرجوب:

ـ أنت تخرس ولا تتدخل بيني وبين الرئيس

الرئيس للمكان الذي أتى منه صوت الدحلان:

ـ كل الناس تحكي أما أنت فاسكت، كلنا نعرف تبعيتك لمن، فاسرائيل من وراءك وأمريكا من جانبك والسيسي وسلمان مغطيين كل حركاتك…

يتنحنح السيسي والملك سلمان كل من مكانهما، فيعتذر الرئيس قائلاً:

ـ والله “بكسر الهاء” أنني لم أقصد إغضابكما، فأنا كما تعلمان بدونكما “لا أساوي ملات أذني نخالة”، فأنا أعرف قدري طال عمركما، و”رحم الله إمرء عرف قدر نفسه”.

صوت الدحلان غاضباً، وكأنه صار بينهم، ويبدو غير راغب بتمرير شيء للرئيس:

ـ وما الفرق بيننا يا سيادة الرئيس؟  كما يقول المثل” لا تعايرني ولا أعايرك، الهم طايلني وطايلك”، فنحن الإثنان محاطان بأمريكا وإسرائيل وبقية من ذكرت، وأنت تقدمت بتصريح وانتظرت ليسمحوا لك بحضور جنازة المرحوم بيريس، لكنهم دعوني ورفضت كي لا أحرجك، كما أنني أكثر منك جرأة، ولدي إستعداد على التوقيع مباشرة على ما يريدون، أما أنت فتريد التأجيل قليلاً…

صوت الملك سلمان ومن خلفه السيسي:

ـ اتركوا الدحلان ويكفي تجاوزات، “الزلمة زلمتنا وزلمة حبايبنا”، واللي ما عملته أنت سيعمله هو”، اتركوه أم نوقف العلف؟

يقول الهباش هامساً في أذن الرئيس:

ـ المسامح كريم يا سيادة الرئيس، والصلح خير… وأنت تعرف محبتي لك وإخلاصي، فقد وضعتك في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شبهته بك، لكن كيف بربك هذه الفتوى، والله لم تخطر على بال إنس ولا جان، “لو كان النبي محمد موجود لذهب لجنازة بيريس”كيف ياسيادة الرئيس؟ ألا أستحق علاوة مالية على هذه الفتوى؟…

فقال صائب للهباش متخوفاً غيوراً:

ـ ولو كان الدحلان أو أيٍ كان لفعلت الأمر نفسه، فأنت دائماً مع الواقف، ولا تعتقدن أن تملقك يمر على الرئيس، ثم أنك بفتواك هذه مجدت بيريس وليس الرئيس.

فقال الهباش مدافعاً عن نفسه:

الله وحده يعلم ما في القلوب، و”نيال مظلوم وعند الله بريء”، الله يسامحك يا صائب، رغم أنك لم تكن يوماً “صائباً” في شيء

صائب غاضباً من كلمات المفتي:

ـ يسامحني أنا؟ أنا أقوم بكل أوامر الرئيس ومن هم خلف الرئيس أيضاً، أما أنت فتُحمِّل الرئيس “جميلة”على مجرد فتوى واحدة أخذت ثمنها منذ سنين!!! لو كنت مكانك لفتوت كل يوم فتوى لصالح الرئيس، أقلة ما “تهبش” من الرئيس ياهبّاش؟ يا رجل خاف ربك، فأنت تقبض بالدولار!!!

الهباش:

ـ من يسمعك يظنك تعمل متطوعاً!!! أنا لا آخذ أربعين ألف دولاراً في الشهر الواحد مثلك…

صائب:

ـ الله أكبر الله أكبر من عينك الحاسدة، عين الحسود فيها عود، من شر حاسد إذا حسد، وهل هذا المبلغ يكفي؟يعلم الله أنه لا يكفي حتى منتصف الشهر، إسألوا اولاد الرئيس، والله لولا ما أتقاضاه من “مصاريف البروتوكولات” وتجارة الأراضي من تبديل بين b و c مع “الأخوة اليهود”، لما استطعت أن آكل الخبز ، كما أنني أقبل بحكم أبناء الرئيس، إن كان يكفيهم أربعين ألفاً مصاريف شهرية، فإنني سأضع حذاءً في فمي وأخرس…

فهم الرئيس رسالة “صائب”، قال له هامساً:

ـ إخرس الآن ولا تفضحنا أكثر، سأردفك بعشرة آلاف أخرى من هذا الشهر، لكن اسكت الآن..

صائب عريقات مبسوطاً لكنه أكثر طمعاً:

ـ لا تكفي ياسيادة الرئيس، إجعلها عشرين…

يبدأ الرئيس بالغضب، وينظر لصائب الذي “إختصر” وكف عن الحديث بالأمر، يقول الرئيس:

ـ آه يا صائب، أخبرني عن ردات الفعل على مشاركتي جنازة المرحوم…

يجيب صائب:

ـ على الصعيد الدولي جيدة يا سيادة الرئيس، أما على الصعيد العربي فممتازة…

يقترب من أذن الرئيس ويقول:

ـ وصلتك مكافأة على ذلك “مخلاة علف” من تاج رؤوسنا ملوك وأمراء “آل سعود” و”سطل” عظم من مملكات ومشيخات أخرى…

ومن بعيد بانت نيوب الملك سلمان ضاحكاً، وقال الرئيس السيسي غاضباً لأبي الغيط:

ـ ألم نكن نحن أبدى بالعلف والعظم؟!!!

يقول الرئيس سائلاً:

ـ وكيف هي الأمور على الصعيد المحلي؟

صائب مجيباً مبتعداً عن الموضوع:

ـ لا جديد سيادة الرئيس… كما هي دائماً…

الرئيس:

ـ فسّر يا صائب، فصّل…

صائب شارحاً:

ـ قوى اليسار جميعها تشجذب وتستنكر…

الرئيس:

ـ أوقفوا مخصصاتهم المالية فوراً، وأدخلوا قياداتهم التي لا تريد السكوت السجن…

صائب مكملاً:

ـ حاضر سيدي الرئيس، وكل فصائل الإسلام السياسي أيضاً، بإختصار سيدي الرئيس، كل فصائل العمل الوطني تستنكر…

الرئيس مكابراً:

ـ لا يهمني شيئاً ما دامت “فتح” خلفي…

صائب:

ـ حتى فتح ليست كما في الماضي سيدي الرئيس، معظمهم صار لا يريدك… نحن فقط وبعض الآخرين الذين ما زلنا مؤمنين بك وبقيادتك، نحن فقط المخلصون، نحن ســ…

الرئيس مقاطعاً:

ـ أعلفوهم…

صائب:

ـ معظمهم لا يُعلفون سيدي الرئيس، كما أنه لا يوجد علف لكل هذه “الأمة”، فكما يقول المأثور الشعبي:”قالوا عند الغولة عرس، قالوا يدوب يكفيها ويكفي أولادها” ، يعني إذا علفناهم لن يتبقى علف لا لك ولا لنا سيدي الرئيس…

الرئيس متعثراً بصوته مستعملاً يده لتوضيح كلمته:

ـ إذن فالبنادق والهراوات… ما فائدة البنادق إن كنا لا نستعملها، خاصة بنادقنا المصممة خصيصاً للإطلاق للخلف؟

يتدخل الرجوب شارحاً مقاطعا :

ـ هذا هو الصحيح، كيف تكون رئيساً مهيوباً، إن كنت ستسمح للرعاع أن يعترضوا على قراراتك؟!!! أظن أنهم متحالفون مع جماعة “الماري كريسمس” سيدي الرئيس…

الرئيس لصائب، متجاوزاً كلمات الرجوب:

أكمل يا صائب…

يحيى رباح مقاطعاً:

ـ ألم أقل لك سيدي الرئيس “أن ثلثي الشعب الفلسطيني حثالات”؟

صائب مكملاً وغير معلقاً على تصريح يحيى رباح:

ـ هناك بعض الضباط الذين أعلنوا معارضتهم على الملأ سيدي الرئيس…

الرئيس:

ـ إفصلوهم من وظائفهم…

صائب:

ـ فعلنا سيدي الرئيس، وهناك قادة طلابيين أيضا…

الرئيس:

ـ استبدلوهم، فعلاً كلهم حثالات….

صائب:

ـ إستبدلناهم سيدي، لكن خرجت بعض المخيمات أيضاً….

الرئيس:

ـ أخرجوا “السحيجة” مقابلهم إلى الشوارع، ألم تعلموا بعد أن “السحيجة” نصف السلطة؟…

يهمس عزام الأحمد، متلعثماً ومتفتفتاً من بين كلماته مجدداً، للرئيس:

ـ هؤلاء يسحجون لمن “يعلف” أكثر، ومنذ فترة ليست بقصيرة، لم يُقدم لهم  سوى القليل من “العلف” سيدي الرئيس…

الرئيس مبتعداً بوجهه عن فم الأحمد، قائلاً:

ـ الله لا يشبعكم، أكلتم “أعلاف” السحيجة أيضاً؟!!! لا تُوفرون شيئاً، تأكلون الأخضر واليابس؟!!!

يبدأ كرسي الرئيس بالتحرك من تحته، وكأن الناس تريد إسقاطه من على أكتافهم، عندما تبدأ الأصوات تصل إلى أذنيه من الأسفل، حيث لا تُسلط عليهم الأضواء، ولا يعلم الرئيس من أين تتساقط الكلمات في أذنيه:

ـ جردوا جالب العار هذا من فلسطينيته، ضموه لجوقة الصف الطويل الذاهب بقدميه الى مزبلة التاريخ، لكل من فقدوا عروبتهم وصاروا جزءا من سيف الإحتلال…

ـ لقد باع وزمرته الوطن ودمروا القضية، وسلموا رقابنا للإحتلال، ربما لأنهم يعرفونه جيداً لم يقترب منه أحد رغم إغتيالهم لمعظم قادة المنظمة، رغم وجوده في نفس المنطقة في تونس…

قبر “السيد المسيح” يتحرك ويصرخ ألماً، اطردوا “يهوذا الأسخريوطي” الجديد، الذي يريد تسليم رأس “مسيحنا”، من جديد، لأعداء الإنسانية.

ـ أبعدوا هذا “الرجس” عن ظهر الشعب الصابر، أبعدوا هذه “النتانة” عن هذه الأرض الطاهرة.

ـ أبعدوا هذه “العاهرة” التي تريد الرقص طرباً، حاملة رأس يوحنا المعمدان…

يظهر الغضب الحاقد على وجه نتنياهو، والأصوات ما تزال تتعالى منطلقة نحو السماء، فيرى الجمهور نتنياهو، مرة بجانب السيسي الذي يشدد في إغلاق “معبراً” بين يديه، ومرة بجانب الملك سلمان الغاضب، وهو يلوح ب”مخلاة علف” في الهواء، وسط الأصوات القادمة في غير مكان من أوساط العتمة:

ـ هؤلاء لم يكونوا يوماً عرباً، من دمر وطناً ليس بعربي، ومن يحاصر شعباً ليس بعربي، ومن يتعاون مع محتله ضد شعبه ليس بعربي…أكنسوهم الى المزابل…

فقاعات ضوء كأنما نبع ماء ضعيف، يبدأ بالظهور من أوساط الناس المركوبة” منذ سنين، تبدأ الإحتجاجات، الهتافات في غير منطقة وشارع ومدينة ومخيم، في كثير من الأرياف التي أغتصبت أرضها وأشجارها من بيريس ومن تربوا على يديه، وعباس الذي بدأ يشعر أن كرسيه قد بدأ يهتز، وأنه ربما يسقط من على ظهور الناس لتحت أقدامهم، قال مستعيناً بالمرحوم بيريس:

ـ رحمك الله يا بيريس، لا يبقى غير وجه الله والعمل الصالح، ومن أكثر منك أصلاً عمل صالحاً وساعدنا؟!!!

ثم عاد للحديث معاتباً:

ـ ألم تقولوا أنكم “إستحمرتم” الشعب؟ ما هذه الأصوات التي أسمعها إذن؟

الهباش:

ـ هناك من ما زال يرفض “الإستحمار” سيدي الرئيس، لكن لا يهمنك شيء، سأجد لك فتوى جديدة “تُدجنهم” من جديد…

يصرخ الملك سلمان من بعيد:

ـ إهتزاز “كرسيك” يعني إهتزاز عروشنا أيضاً… القطيع يجب أن يظل قطيعاً، ألم أقل لك عليك بثقافة “بول البعير”؟

عليك الآن بالعصا، “العصا لمن عصا”…

الرئيس مقرراً:

ـ إقمعوا رجالهم واغتصبوا نساءهم ليعرفوا ان السلطة خط أحمر، وليعلم القاصي والداني أن الخروج عن “القطيع” يؤدي الى الذبح…

يهتز كرسي الملك سلمان قليلاً وكرسي السيسي أيضاً، وتستنفر قوى الأمن في بلادهما، يقول السيسي لأبي الغيط:

ـ  وهل وضعتك على رأس الجامعة العربية بغير فائدة؟إعمل “حاجة”

يستدعي أبو الغيط الجامعة العربية التي تتداعى بنفس اللحظة لدورة على مستوى القمة، لتنقذ القضية الفلسطينية من “مغامرات” شعبها غير المحسوبة، شعبها الذي يرفض “التدجين”، ويرفض أن يظل “قطيعاً”…

يستدعي عباس حليفه “جيش الدفاع الإسرائيلي”، من خلال لجان التنسيق الأمنية، ويأمر جيشه بتجهيز البنادق، نفس البنادق التي لا تُطلق إلاّ للخلف، فتلك الأصوات خطيرة وتهدد الأمن العام، وتجعل السلطة في مهب “ريح التطرف”.

ومن بعيد، يكون راكبي أكتاف البشر، من أصحاب “العمائم”، ولابسي اللباس الأفغاني هذه المرة، يلحسون أصابعهم من بقايا اللحم العالقة بها، ينظرون الى الرئيس ويضحكون، ويرسلون فروض الطاعة للملك سلمان وبعض جاراته من مشايخ وإمارات، ويتجاذبون أطراف الحديث، عن الطريقة الأمثل ليظل “القطيع قطيعا” في مناطقهم المحاصرة…

تمت

م .ن

”   عزيزي السيد م . ن المحترم:

قرأت ما أسميته أنت مسرحية من فصل واحد، والتي كما تقول أنت لا علاقة لها بالواقع، وأنها من نسج خيالك، وإليك تعليقي:

  • إن مقطوعتك هذه لا علاقه لها لا بالأدب ولا بالشعر ولا  بالزجل ولا بالنظم ولا بالنثر ولا بأي نوع من أنواع الفنون.

  • إنها كالخمر “ملعون كاتبها وناشرها وساردها”، وتودي بصاحبها وقارئها إلى طريق لا يعلم غير الله أين يمكن أن ترمي به، وأنا رجل، طوال حياتي، أمشي بجانب الحائط طالباً السترة من الله وجده.

*وأنا الذي لا أعرفك، وابتليتني بهذه الأمانه لأقرأها وأعلق عليها وأنشرها، حاصداً شرها دون خيرها، حيث لا توجد لها غنائم أو فوائد، لا أريد حتى أن أعرفك ولا أن أقرأك ولا أريدك أن تراسلني بعد الآن، وأنا بريء منك ومن كتاباتك إلى يوم الدين، و”حدّ الله” ما بيني وبينك.

  • وكوني لا أعرف كيف أعيد إليك رسالتك بعد أن أغلقت حسابك الإلكتروني، وعملاً برد الأمانة إلى أصحابها، أنشر لك رسالتك، كما هي دون تعليق ولا حتى إبداء رأي، والساتر هو الله…

محمد النجار

مبروك عليكم بيرس…

أن تتمنى شيئاً ليس عيباً ولا حراماً، أن تحلم أيضاً ليس كذلك، لكن اطلب المستطاع واحلم بالممكن، حتى إذا ما تحقق منه شيئا، تستطيع رسم البسمة على شفاهك.

وهنا أنا لا أتحدث عن الأحلام المشروعة والتمنيات المرتبطة في نفس الشخص وبداخله، بل عندما تكون لا علاقة لها بك البتة، بل مرتبطة مباشرة بالآخرين، مثل المسألة التي بين يدينا، وهي موضوع المشاركة في جنازة أحد أكثر قادة الكيان العبري فاشية وعنصرية، وعداء للعرب وللفلسطينيين على وجه التحديد.

فشمعون بيرس يُعتبر أب المشروع النووي الصهيوني برمته، وهذا المشروع ليس لعبة أطفال، بل سلاح تدميري شامل، الغرض منه تدمير المنطقة الفلسطينية والعربية بشيوخها وشبابها وأطفالها ونسائها، إذا ما استطاع ذلك، وليس رش المنطقة بالورود. وهو صاحب مجزرة قانا الأولى في لبنان التي راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى وجلهم من النساء والأطفال. وهو من المؤسسين الذين قاموا بالمجازر ليقتلعوا شعبنا من جذوره، من أراضيه وبيوته،كما أن كل الحكومات التي شارك بها، وكان جزءاً، في معظم الأوقات، من مجلس وزرائها المصغر، يعني صاحب الحق في اتخاذ قرارات الحرب، وغيرها طبعاً، يعني مشاركاً فعالاً في كل حروب دولته العنصرية ضد شعبنا وشعوب المنطقة بكل ما فيها من مجازر وتقتيل. وهو وحكومات “العمل” التي شنت حرب عام 67 ولاحقاً بالتعاون والمشاركة مع الليكود بحكومات مختلفة، الذين فرضوا السياسة الفاشية في أرضنا المحتلة كاملة، حيث صادروا الأراضي في المحتل من العام 48 ولاحقاً67، وبنوا المستوطنات وقتلو الشعب وسجنوا ما يزيد عن مليون مناضل منذ عام 67 فقط، وما زالوا مستمرين، واقتلعوا الاشجار خاصة الزيتون، ونفوا البشر وهجروهم، كما أنه من أعمدة بناء جدار الفصل العنصري، والحبل على الجرار، والأمر لم ينته بعد… ولن نستطيع في هذه العجالة أن نحيط بكل جرائمهم وجرائمه، وفوق ذلك كله دوره الأكثر أساسية في جر منظمة التحرير وقياداتها إلى مشروع التسوية الذي تُوّج بإتفاق أوسلو، المشروع الأخطر على القضية الوطنية برمتها، والذي في مرحلته فقط أصبحت القضية الوطنية تكاد تكون في مهب الريح، لولا المناضلين الذين ما زالوا متمسكين بسلاحهم “العبثي”.

هذا هو جزء من رجل “السلام”، صاحب نوبل للسلام!!! بيرس، وهذا ما يريد تسويقه لنا أنذال السلطة والأنظمة الصهيونية العربية، ف”المناضل” عباس وحاشيته من مناضلين “مجددين في مفهوم النضال”، انتظروا أن يعطف عليهم نتنياهو متكرماً متنازلاً مانحاً لهم “شرف” أن يشاركوا في جنازة الفاشي بيرس الذي دمر شعبهم وقتل أبناءه، وفعل نتنياهو “متنازلاً” وأعطاهم تصاريح بذلك، ولا يعلم إلا الله كم فرحوا بالموافقة على تصاريحهم ،شاكرين حكومة وشعب ودولة إسرائيل الديموقراطية

المثل الشعبي يقول “إذا لم تستح فافعل ما شئت”، وهؤلاء ليس فقط لا يستحون، بل قطعوا ما كان يربطهم بالحياء أصلاً، ووصلوا من الهوان والنذالة مالا يقبله عقل ولا منطق، إبتداء من الرئيس فاقد الشرعية ومنتهي “الصلاحية” إلى آخر من هم معه وعلى شاكلته، كل أولئك الذين يدوسون الدم الفلسطيني بأحذيتهم، مهما كانوا ومن كانوا ومهما علت مناصبهم، أن يخرج علينا المدعو يحيى رباح ليقول أن “ثلثي الشعب الفلسطيني حثالات” وأن يمدح بيرس متجاهلاً جرائمه كما لو كان من بقية أهله، فهو ليس إلا إنحطاطاً ما بعده إنحطاط، فليستحمر نفسه، وليقنعها بما أراد، وليحتفظ بقناعاته المبنية على مصلحته لنفسه، ولا ينطق بها لأحد، لأن الخيانة والإنحطاط ليستا وجهة نظر، والحثالة هو ومن معه وليس ثلثي الشعب الفلسطيني، الذي يحاول ومن معه كسر شوكة ثورته التي تدافع عن أمة عاجزة تركب ظهورها الرجعيات العربية منذ قرن كامل، ويكفي الصراخ الفارغ بأنكم مناضلين، حتى أننا صرنا نشك إن كنتم أصلاً مناضلين، وإن كنتم فلم تعودوا كذلك منذ عشرات السنين، منذ ارتضيتم أن يركبكم الإحتلال وتركبوه ظهورنا، وارتضيتم أن تكونوا جزءا من الإحتلال لقمع شعبنا، وصرتم تلاحقونه وتسجنونه وتقتلونه وتمنعونه من استمرار نضاله باسم الوطن والوطنية لمصلحة ممولينكم من إحتلال ومن معه.

قولوا لنا بربكم، كم مرة قمتم بتعزية شهيد فلسطيني أو حتى عربي؟ كما تفعلون مع موتى وقتلى الصهاينة؟ كم مرة تضامنتم مع جريح أو أسير؟ كم مرة أوقفتم قتل طفل أو حرق عائلة أو قطع شجرة زيتون؟ أخبرونا كم من قضية رفعتم لمحكمة الجنايات الدولية لمصلحة شعبكم وهذا أضعف الإيمان؟ وتستغربون كيف يبكي آل سعود وبرميل الأوساخ، وزير خارجية البحرين، على رجل الحرب والسلام بيرس، وغيرهم الكثيرون؟ طبعاً يبكون، لأنه ودولته قامت بحروبها من أجل “عيونهم” أيضاً، أخبرونا لماذا صارت تتجرأ علينا وعلى قضيتنا كل الحثالات البشرية المهزومة النتنة؟ أليست بسبب سياساتكم المستسلمة الفجة؟ أنتم السبب وأنتم العلة، أنتم من أوصلنا إلى ذلك، إذهبوا الى مزبلة التاريخ متى شئتم لوحدكم، لكن ليس بإسمنا، ونرفض أن تجروا شعبنا معكم، كفاكم استهتاراً بالشعب ومشاعره ومصالحه، كفاكم عبثاً، ومبروك عليكم بيرس وشمعون وبن غوريون ومائير وبيغن، إبكوا على مقابرهم قدر ما استطعتم، ألطموا خدودكم غضباً على فقدانهم، خذوا حتى موقفاً من الله لأنه حرمكم من متعة مجالستهم وشرب الأنخاب معهم، لكن اتركوا الشعب ولاتتحدثوا باسمه، من أنتم لتفعلوا ذلك؟ من أعطاكم هذه الشرعية؟ متى استفتيتم شعبكم بقضية؟ متى أخذتم رأيه بشيء؟ منذ متى لم تقوموا بأي إجراء إنتخابي ديمقراطي في مؤسسات المنظمة؟ من أنتم وبأي حق تشوهون نضال شعب كامل لقرن كامل ويزيد؟ من أعطاكم الحق بذلك؟ خزاكم الله من قيادة فاسدة مفسِدة مستسلمة، يغطيها الروث والعار وتعتقد أنها تستطيع أن تغطي عارها برزمة مال.

أعرف أنني وأمثالي ينفخون في قربة مخرومة، بل قربة ممزقة، لكن هذه الكلمات ليس موجهة لكم ، بل لمن ما زال يسمع من شعبنا ويرى، وهم كثر إن كنتم لا تعلمون، ففي هذا الزمن، زمن الخضوع والإنحطاط، زمن قراركم الفلسطيني المستقل أيها “الديمقراطيون المستقلون”!!! نعلم أن الضرب في الميت حرام، وأنتم أموات وفاحت رائحتكم، لكن جثثكم الهامدة النتنة تنتظر من يواريها التراب، إن كانت ستجد من يواريها التراب.

محمد النجار