الجنازة حامية والميت كلب

جلس مقابلي تماماً، أو بالأصح القول أنني أنا من جلست في مقابلة، كعادتي دائماً عندما نلتقي في مناسبات متباعدة، كي يسهل عليّ إستفزازه بأسئلتي وتعليقاتي، ولعلي لا أعرف السبب لذلك تماماً، ورغم كوننا على طرفي نقيض سياساً، لكنه ليس السبب في موقفي هذا، ولا أدري بالضبط لماذا، رغم كوني أعتقد أن للأمر جذور قديمة تمتد إلى الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، الأمر الذي لا أبوح به لأحد سوى نفسي، وبشكل خجول أيضاً، ربما كون الأمر طالما جعلني أبدو صغيراً أمامه، فأرفع الصوت كي أغطي على ما تم آنذاك، رغم أنه ومنذ ذلك اليوم الذي مر عليه ما يقرب من ثلاثة عقود، إلّا أنه لم يراجعني به يوماً، ولم أسمع منه همس أو ثرثر به لأي كان، ورغم ذلك فأنا ما زلت أحاول استفزازه في محاولة غبية ـ ربما ـ للتغطية على ما تم.

كان قد مر على الإنتفاضة الأولى أحد عشر شهراً عندما صدر بياننا الأول لتأسيس حركتنا الإسلامية السياسية، وكان  يجب حينها فرض برامجنا ورؤيتنا بأي ثمن، في غزة وفي مدن الضفة الفلسطينية، التي كانت لفصائل منظمة التحرير فيها اليد الطولى، ولليسار جذوره العريقة الممتدة عميقاً في صخور الأرض وأتربتها، وكانت التعليمات لنا واضحة بأن نفرض الحجاب على الفتيات والنساء في المدن والأرياف والمخيمات، ورغم عدم فهمي للعلاقة بين الإنتفاضة والحجابـ، إلّا أنني أخضع داخل الحركة لقانون “نفّذ ولا تناقش”، فكان يجب التنفيذ بالنسبة لي في مدينة رام الله حيث ننتمي إلى قضائها، فكان علينا البدء بالمساجد، بتحريض الأزواج والأخوة للحفاظ على “شرفهم”من خلال تحجيب زوجاتهم وأخواتهم وبناتهم، وبالندوات في النوادي وأينما كان ممكناً، وإن استعصى الأمر علينا، فيجب منعهن بالقوة وإجبارهن على ذلك. على قاعدة “من رأى منكم منكراً فليغيره….. بيده”، على أن لا يرانا أحد، والتنفيذ الذي يطبق حدود الله وشريعته على الأرض، يفرض حضورنا ووجودنا على الساحة الفلسطينية، وسلمونا بعض النقود لنشتري البيض والطماطم .

وفعلاً بدأنا بفرض “شريعة الله” على النساء حاسرات الرؤوس، واللواتي تمتلئ بهن المدينة. وكنت ضمن الأشخاص الذين يطبقون شريعة الله، حيث أخذنا نتوجه يومياً إلى مركز المدينة ، نختبئ بين البحر البشري الذي يغطي مركز المدينة، خاصة في ساعات ما قبل الإغلاق اليومي للمحلات التجارية، حيث يبدأ الإضراب التجاري في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً ويستمر حتى صباح اليوم التالي، وكنا نبدأ بقذف البيض والطماطم على رؤوس النساء الحاسرة، ونختفي كأن ليس لنا بالأمر علاقة، وكن الكثير من النساء والفتيات المنتشرات هن من نشيطات الفصائل الفلسطينية، خرجن لفعاليات أو نشاطات إنتفاضية مختلفة، ونحن كشباب كنا حينها لا نفرق بين نشيطة أو غير نشيطة، بالنسبة لنا كل حاسرة يجب “رجمها” بالبيض الفاسد والطماطم، وبقينا نكرر الأمر بشكل يومي ونمضي، ولم نكن نعرف الكثير عن مدينة رام الله سوى أنها مثلهن جميعاً، تستحق الرجم، فهذه المدينة المُستفزَّة، العاشقة، المتكبرة ، المختالة، التي تزداد جمالً وشباباً وورود، كلما ازدادت كبرا وتعمقاً في دهاليز الزمن وعمق التاريخ، تلك المدينة الساحرة الفاسقة الحاسرة المرتدة، كنا نشعر أن المدينة نفسها تتربص بنا وليس الناس فقط.

ومرت أيام وأيام، ولم نكن نعلم أن الآخرين بدأوا هم أيضا في البحث عمّن يقومون بهذا الأمر، وعيون شبابهم تبحث في كل اتجاه، وبعضهم كان يتخفى في زي الباعة في المحلات والعربات، وما هي إلّا لحظات وكان العديد منا تحت قبضاتهم، وانهالوا علينا بالضرب المبرح، وأخذوا بعضنا ليحققوا معهم، من الذي دفعهم ليفعلوا ذلك، ودور الإحتلال في هذا الأمر، وكان لعناصر اليسار الفلسطيني، الدور الأكبر في هذا الأمر كله.

ولا أدري لحسن حظي أم لسوئه، وقعت أنا بين يديه، فأمسكني من أذني رغم أنه من جيلي، وكان زميلي قبل سنوات في المدرسة والفصل، شدني بقوة، حتى صارت أذني بجانب فمه، وقال هامساً” ما الذي تفعله؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟ كبف استطعت أن تفعل ذلك؟”، وقال وما زال يمسك أذني، ولف رأسي من خلال قبضه على أذني ليُريني إمراة ما زال يسيل البيض الفاسد من شعرها الأجعد على وجهها وملابسها، وتبكي غيظا بصمت متفجر خانق، تحاول مسح البيض الفاسد ذو الرائحة القاتلة فتزداد اتساخاً،وعاد ليسألني” أكنت ترضى هذا لأمك أو لأختك؟”، أتعرف أن الناس أصبحوا يظنون أنهن مرتبطات مع الإحتلال ولذلك يُضربن بالبيض والطماطم؟!!!  أليس لديك ضمير لتخافه إن كنت لا تخاف الله؟!!!

وفي تلك اللحظة بالذات جاء ثلاثة من الشباب نحونا سائلينه:

ـ “أهذا من هؤلاء السفلة؟”

كان شرراً يتناثر من عيونهم، ولا أدري متى تراخت أصابعه من القبض على أذني، وقال على غير توقعي:

ـ ” لا… إنه إبن قريتي، لا ليس منهم”

وكان من الواضح أنهم يعرفونه ويحترمونه ويثقون به، ورغم نظرات الإرتياب التي تركوها تسيل كالمخاط فوق وجهي، فقد تركونا وانصرفوا، وأخذني هو إلى محطة الباصات وقال:                 ـ ” أرجوا أن لا أراك هنا أبداً، إلى القرية فوراً”.

وانصرفت، وصرت أتحاشى أن تلتقي عيوننا، وبعد مرور الزمن صرنا نلتقي في المناسبات المتعددة المختلفة، فنحن أبناء قرية واحدة، ولا بد من أن نلتقي في أي مناسبة… وصرت أهرب للأمام كما يقول جماعته اليساريون، فأحاول التعليق عليه، استفزازه بأسئلتي المختلفة، وكأنني أريد أن أغطي على ذاك الحدث، رغم أنه لم يحاول ولا حتى مرة واحدة أن يعيد ذلك التاريخ ويفرده أمامي ليذكرني بتفاهتي تلك.

أنهينا “مهمتنا”، حيث طلبنا “سميرة”إبنة أبي زكي إلى عاهد ابن أبي محمد، وشربنا قهوتنا، على وقع كلمات أبو زكي:

ـ ” اشربوا قهوتكم يا  جماعة، الله يجيب اللي فيه الخير، الأمر يشرفنا أيضاً، ولن نجد لإبنتنا بأخلاق إبنكم الكريمة، لكننا لا بد أن نأخذ رأي البنت فالأمر يخصها أولاً وأخيراً”.

وجلسنا نتحدث ونتسامر، ووجدت نفسي قبل ذلك أحاول الدفاع عن بعض أفعالي، أمام إستهزاء الكهول قبل الشباب، فقال أبو زكي بين الجد والمزاح:

ـ أرجوك يا أبا مصطفى، لا تبدأ بقراءة “عبس وتولى” كما فعلت في عرس علي قبل أسابيع، فالله خلق الأعراس للفرح، فالعرس ليس ميتماً لتقرأ لنا به القرآن…دعنا نفرح قليلا وسط هذا الزحام من الألم والدم

وقال  الحاج أبو خليل من بعيد ضاحكاً:

ـ “عبس وتولى” يارجل؟ ألم تجد في القرآن كله غير “عبس وتولى”؟ ألا تخاف ربك؟  ثم من أين هذه”الموضة” الجديدة؟ قرآن في الأفراح؟!!!

وسكتنا، ووجدته قبالتي يبتسم، واستفزتني ابتسامته أكثر من ضحكاتهم وقهقهاتهم جميعاً، ووجدتني أقول في طريقة أقرب إلى الإستعراض منها إلى الحديث، وكأن “السعوديين من بقية أهلي”:

ـ لقد فعلتها المملكة… ياسلام!… انتخابات بلدية وتنتخب وتترشح المرأة!!!

لكن الذي أجابني وفاجأني لم يكن سوى الحاج أبو أحمد وليس “غريمي”خالد، فقال:

ـ لا حظ أنك لا تتحدث سوى عن إنتخاب بلدية وليس عن انتخاب حكومة ولا برلمان!!! وأعتقد أن ما يجب أن يثير إستغرابنا، لا كيف شاركت المرأة في انتخابات بلدية لأول مرة في تاريخ المملكة، بل كيف يُحرم الرجال من الترشح أو الإنتخاب في هذا العصر، وفي مجتمع ذكوري كمجتمع المملكة؟!!!

فقلت في محاولة الإلتفاف على نفسي:

ـ إنها البداية… وربما شرُعوا الإنتخابات في قادم السنوات…

فقال الأستاذ حسن، مدرس اللغة العربية في مدرسة القرية:

ـ عشمك بهم مثل”عشم ابليس في الجنة”

رأيت نفسي في مواجهة تتزايد مع معظم الحاضرين، فقلت في محاولة لتعديل الأمر:

ـ يا جماعة إنهم يقودون المعارضة السورية كلها، ألم تسمعوا الجبير كيف يقول بكل الثقة أن الرئيس السوري سيغادر بالسياسة أو بالحرب؟!!!

فقال الأستاذ حسن نفسه شعراً هذه المرة:

ـ زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً            أبشر بطول سلامة يا مربعُ

حين قال أبو عمر من طرف الصالون:

ـ والله يا أخي جماعتك حيرتنا، مرة لا علاقة لكم بما يحدث في سوريا، ومرات تصطفون مع من يحارب سوريا، لا تريدون أن تدخلوا أي “محور”، وتكونون في كل المحاور، من أول “حارة” الشيخة موزة و لمملكة آل سعود وللأتراك!!! أنتم مع من بالضبط؟

ابتدأ المجتمعون بالتهامس حين قال زكي، أخو العروسة ما بين المزاح والجدية:                   ـ مع من يدفع أكثر ، وهل هذه تحتاج الى كثير من الذكاء!!!

فقلت من بين ضحكات الجميع التي لم تؤثر بي جميعها قدر ابتساماته الشامتة، رغم أنه لم بقل أي كلمة حتى هذ اللحظة:

ـ أقصد يا جماعة أن المملكة أصبحت تشكل محوراً أساسياً في المنطقة، ألم ترو محورها ضد الإرهاب؟ أربع وثلاثون دولة والحبل على الجرار….

الغريب في الأمر أن الناس كانت تنتظر أقواله هو، رغم كونه لم يُنهِ سوى الصف العاشر فقط، حيث ترك المدرسة والتحق بصفوف العمال ليعيل أسرته بعد حادثة موت أبيه، أكثر من أقوالي أنا الذي أنهيت “البكالوريوس” في علوم الشريعة والفقه، وكأنه لا ينطق عن الهوى، أو كأن أقواله منزلة من السماء، وظل هو على صمته، عندما قال الشاب النابه عزمي:

ـ وبأي جيشٍ سيحارب آل سعود الإرهاب؟ بجيش “البلاك ووتر”أم بالجيش السوداني أم السنغالي؟ ظني أنهم سيحاربون بجيش ملك آل سعود وولده، ذلك الجيش الذي أثبت في حربه على الشعب اليمني، وبكل جدارة “أنهم في الهريبة كالغزال”، فتحولت “عاصفة الحزم” إلى وبال على آل سعود وجيشهم ومرتزقتهم.                                                    وقال الطفل حازم ابن أبو عدنان الذي حضر ضمن الوفد برفقة أبيه:

ـ بابا …بابا، رئيسنا والسلطه يريدون محاربة الإرهاب معهم…

كانت الحاجة”مرثة” قد أخذت لها مكاناً مع الحاجة وطفة، في صدر الغرفة، جلسن بجانبه وكأنهن يردن الدفاع عنه من عدو محتمل، وبعد أن أشعلت الحاجة مرثة سيجارتها كالعادة، ونفثت دخانها في صدر الغرفة دون أن تبتلع شيئاً منه، قالت بكلماتها السليطة متوجهة بالحديث إليّ، عندما رأت ضحكاتي تتعالى على كلمات الصبي:

ـ وعلى ماذا “تتصهون” وفاتح فمك الذي يتسع لدجاجة بريشها، وهل أنتم أحسن؟ الرئيس وافق وأنتم لم تعترضون!!! خائفون على أن تحرموا من المال؟، متى ستتعلمون أن هؤلاء ـ وأشارت بيدها وكأنها تريني الملك وحاشيته ـ يؤمنون بأن “مَنْ دِيَّتَه مالاً أقتله”، وسوف يقتلونكم في الوقت المناسب كما قتلوا السلطة التي تستهزء بها ولست بأفضل منها.

وسرعان ما أنقذتني الحاجة وطفة من لسانها عندما قالت متحدثة عن السلطة ورئيسها:

ـ وجماعتنا لا يجدون ما يشغلهم؟! ها هو الإرهاب عندنا لماذا لا يحاربونه؟ بل إنهم يقولون عن صواريخ المقاومة… ما هذه الكلمة يابني ياخالد، فقال لها مجيباً:

ـ عبثية ياحاجة، صواريخ عبثية….

لكن الحاجة وطفة لم تعرف كيف تقول الكلمة، فقالت:

ـ آه يابني… الكلمة التي قلتها أنت

فقال أبو زكي متهكماً:

ـ ياعمي رئيسنا رجل مُطيع، مجرد “تلفون” من الأمير وأعطى الموافقة

فقال أبو خليل بعد أن أكمل لف سيجارة الهيشي وأشعلها وسحب أول سحبة منها مع جرعة من كأس شايه، وعلى دون توقع بعد أن أقسم كعادته:

ـ لا والله لم “يُحصِّل” الرئيس حتى المكالمة، بل هزة من “خنصر” الأمير، ياعمي متى يفهم هؤلاء، أنك “إن كنت رخيصاً لن تجد من يشتريك بالغالي”

فردّ عليه أبو هاني متهكما :

ـ لا ياأبا خليل، والله أنا لمّا سمعت بتشكيلهم حلفاً إسلامياً ضد الإرهاب “إرتحت واطمأن قلبي”، وقلت في نفسي “لقد تذكروا الآن وبعد ما يقرب من سبعين عاماً أن لدينا بلداً تفود الإرهاب في العالم، ربما تذكروها بعد أن رأوا على شاشات التلفاز كيف يترك هذا الكيان شبابنا ينزف حتى الموت، مانعين عنهم سيارات الإسعاف، في الوقت الذي يسارعون فيه لإسعاف مقاتلي داعش والنصرة في مشافيهم!!!

فقال زكي مجدداً مصححاً ما قاله أبو هاني:

ـ لا يا أبا هاني إنهم لم يتذكروا بعد، كما أنه ممنوع عليهم التذكر، لقد فقدوا الذاكرة بما يخص قضيتنا، أو بالأصح ربما كنا نحن الإرهابيين الذين يجب محاربتهم!!!

فقال زكي متهكماً مجدداً:

ـ طبعاً وهل هناك إرهابيون غيرنا وغير المقاومة اللبنانية؟!!!

وأكثر ما غاظني أن الجميع سكتوا وأخذوا ينصتون عندما بدأ الحديث، وكأنهم لا يريدون أن تفوتهم كلمة من كلماته، وأخذ مقود الحديث في فمه، وقال:

ـ إن آل سعود هؤلاء “لا ينطقون عن الهوى”، بل عن سيدهم الأمريكي ، لا يخرجون عن طوعه، ولا يخلفون رأياً إلّا بتوجيهاته، فمن يريد محاربة الإرهاب يوقف الدعوة لللإرهاب أولاً، فمحمد بن عبد الوهاب وفكره التفكيري هو حليفهم، وأفكاره ما تزال تُروَّّج عندهم وبتوجيهاتهم، نعم من آل سعود أنفسهم، والمملكة هي الحاضنة والداعية والناشرة لهذه الأفكار، والأمر كما تعلمون ليس له علاقة بالمذاهب والطوائف والأديان، فبالأمس القريب كانت تتحالف مع شاه إيران لتسويق “حلف بغداد” الإستعماري ولضرب ثورة عبد الناصر، وظلت بنفس الحلف لضرب قوى الثورة العربية في العالم العربي والخليج، واليوم مع الإستعمار لضرب إيران التي تدعم قوى الثورة !! هل كانت إيران بالأمس سنية واليوم أصبحت شيعية؟!!! أم أن هذا الشعار للضحك على “لحانا”؟، بل كي نبدأ حرب أمريكا بأيدينا نحن وبدماء أبنائنا كما يتم في سوريا والعراق، ولو كان ما يقولونه صحيحاً، ماذا عن ليبيا ومصر وتونس وقبل الجميع الجزائر؟ أين الشيعة في تلك البلدان؟ لماذا دمروا ليبيا إذن ويريدون تدمير مصر؟  وما داموا حريصون على مقاومة الإرهاب، لماذا تركوا القاعدة وداعش تتمدد في حضرموت وعدن ومدن الجنوب اليمني؟ يعني في المكان الذي هم موجودون فيه، ولم يُطلق عليهم آل سعود ولا طلقة واحدة!!! كي لا أقول أنهم هم آل سعود وحارة الشيخة موزة والعثمانيون الجدد من نقلهم بطائراتهم إلى اليمن بقرار أمريكي، أم أن دولة في حلف الناتو تقوم بمبادرات عسكرية دون اسشارة قيادة حلفها؟ فما بالكم بدول تابعة لم ترقَ إلى مستوى أن تكون في حلف تقوده أمريكا؟ فحجارة الشطرنج تُحَرَّك ولا تُسْتشار.

سكت قليلاً وارتشف شيئاً من كاسة شايه، وسط صمت الجميع واستماعهم، وأكمل من جديد:

ـ لقد قرأت عن مواطن من بلاد الحجاز، إسمه”رائف بدوي”، حائز على جائزة “سخاروف لحرية الفكر”، نفس الأمر الذي حاز جائزته عليه،حاكمه آل سعود بعشر سنوات من السجن وألف جلدة في، هؤلاء الذين يبشروننا “بديمقراطيتهم” في سوريا واليمن والعراق، تخيلوا أناساً يتم جلدهم بأهازيج دينية وعلى مرأى من الجميع وخمسين جلدة عند كل صلاة جمعة؟!!!، وفي القرن الواحد والعشرين!!!، كما حكموا على الشاعر الفلسطيني بالإعدام على كتاب شعر نشره!!! كما الإعدام على الفتيان وعلى الشيوخ لأن لديهم أفكاراً وآراءاً أخرى غير ما لدى آل سعود!!! الأمرالذي يدلل على أن من يحارب الكلمة أو الفكرة أو الرأي الآخر، ويستخف بهذا الشكل بحيوات الناس كما يفعل ضد شعبه أم في اليمن أو سوريا، لا يمكن أن يكون مؤهلاً لمحاربة الإرهاب.

فقالت الحاجة مرثة بصوت عال:

ـ صدقت والله يابني، سلم الله فمك…

وقال أبو خليل وسيجارة “الهيشي” معلقة بين شفتيه:

ـ ليس سوى تحالفاً زائفاً، كله “ظراط ع البلاط” بلا مؤاخذة

فقال أبو زكي سائلاً:

ـ إذن لماذا كل القصص والأخبار عن تحالف آل سعود هذا؟ لم تظل مجلة أو جريدة أو راديو ولا محطة تلفاز “لا تُطبل أو تزمر” لهذا التحالف؟

فقال أبو خليل مجيباً:

ـ يبدو أن “الجنازة حامية والميت كلب” يا أبا زكي

فأكدت الحاجة وطفة من مكانها ضاحكة، فاتحة فاها مظهرة فماً تساقطت معظم أسنانه منذ زمن بعيد قائلة:

ـ صدقت يا أبا خليل، فعلاً” الجنازة حامية والميت كلب”، سلم الله فمك.

وكما هي العادة، خرج منتصراً هذه المرة أيضاً، لكنه على غير عادته، وضع يده على كتفي حين غادرنا منزل أبا زكي، وقال:

ـ هؤلاء الحثالات دمروا البشر والحجر ، ارتكبوا المجازر بحق فقراء اليمن وحضارتهم، قصفوا المدارس والمشافي والمدارس والزرع والضرع، قتلّوا ويتّموا ودمّروا، ورغم ترسانتهم العسكرية  وتحالفهم غير المقدس مع أمريكا وإسرائيل، إلّا أنهم هُزموا من حُفاة اليمن، لأن الشعب اليمني شعب  يدافع عن كرامته وعزته أمام حكام ومرتزقة وبلدان تفتقد للعزة والكرامة.

وامام سكوتي وعدم تعليقي على الأمر، قال منتقلاً بعيداً في الماضي السحيق:

ـ قاتل الله السياسة، أتعلم أنني أحن كثيراً الى سنوات الدراسة، حين كنا نتزاحم على المقعد الأول في الفصل!!! كأن الأمر قد تم بالأمس القريب….

ومشينا … مشينا بين الحقول… بين أشجار الزيتون… ومن طرف السماء البعيد انطلقت بضع شعاعات برق أضاءت لنا الطريق، وابتدأت حبات المطر تتساقط على رؤوسنا وعلى كل الأشياء، وكما كنا نفعل عندما كنا صغاراً، توجهنا إلى شجرة تين عملاقة، واقفة على طرف الطريق لنستظل ببقايا ما ظلت تحمله من أوراق، مختبئين من حبات المطر، ورغم كوننا وحدنا لم يذكر شيئاً عن تلك الحادثة أبداً….

محمد النجار

ماذا تبقّى من منظمة التحرير؟!!!

لعله من نافل القول أن إنطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لهي من أهم الأحداث الهامة في تاريخ الثورة الوطنية المعاصرة، لما أضافته للثورة الفلسطينية من إضافة فكرية وتقافية ونضالية ونوعية أيضاً، فمنذ إنطلاق الثورة الفلسطينية كانت الجبهة هي الرقم الثاني بعد حركة التحرير الوطني الفلسطيني”فتح”، على الصعد كافة، الجماهيرية منها والنضالية في الخارج وفي الوطن المحتل وفي كامل التواجد الفلسطيني، هذا عدا عن دورها المميز على صعيد علاقاتها مع حركة التحرر الوطني العربية وكذلك علاقاتها النوعية مع حركات التحرر العالمية، “لكن لهذا وذاك بحث آخر أوسع من هذه العجالة بكثير”.

أما ما ميز الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن كامل فصائل العمل الوطني الفلسطيني، أنها:

  • أول من أرست الإستراتيجيةالسياسية التي ربطت بين التكتيكي والإستراتيجي، ووضعت الأول في خدمة الثاني، ببرنامج عمل مبني على تبني النظرية العلمية.

  • الحرص الكبير على ارساء أجواء الديمقراطية في الساحةالفلسطينية، وظلت نائية بنفسها عن كل مشاريع الإقتتال الفلسطيني الداخلي الكثيرة والمتعددة.                                   * ظلت قياداتها الأقل تورطاً في الفساد المالي والسرقات التي اشتهرت بها قيادات وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية.

  • على مستوى الداخل تميزت بتفردها في “إنتاج” قيادات ثورية سرية العمل والحركة، الأمر الذي أذهل الإحتلال الصهيوني وقياداته، فكلما أعلن عن إعتقال قياداتها تفاجأ بأنهم وفي الكثير من الأحيان لم يكونوا حتى أعضاء في الجبهة ناهيك على أنهم قيادات!!!

  • تفردت أيضاً بخلق تجربة الإختفاء للكثير من القيادات والكادرات الحزبية ولسنوات طوال وصلت حتى سبعة عشر عاماً كما صرّح الإحتلال نفسه، وقيادة العمل الحزبي والجماهيري والنضالي، وأحياناً الوطني العام، ومن أهم أركانه الإنتفاضة الشعبية الأولى.

  • كانت من السباقين أيضاً في رفع شعار”عدم تسليم الذات” كالخراف للإحتلال وجنوده، وبالتالي ظهور ظاهرة “المطاردين” وانتشارها على نطاق شعبي ووطني في المدن والريف والمخيمات، وخاصة في الزمن الصعب، في المفترقات الوطنية الهامة.

  • كذلك تفردت في رفع شعار” الإعتراف خيانة”، وتطبيقة بالدماء والشهداء، وأصبح هو الشعار الجامع لممارسة أعضاؤها وكادراتها داخل زنازين الإحتلال، وأصبح من أهم بنود المحاسبة التنظيمية والتقييم الحزبي الكادري، وأصبح على أبواب “الحزب” حُماة أشداء، تحمي أعضاءه وأسراره وبرامجه.

  • كانت من أشد الحريصين على الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولو كانت على حسابها كفصيل، في الكثير من الأحيان. وهذه النقطة بالذات التي أريد نقاشها ولو بشكل سريع ماراً على أهم محطات مسيرة الثورة الفلسطينية الحديثة :

منذ إنطلاق الثورة الفلسطينية، وأثناء تواجد الثورة في الأردن ظلت القيادة الفلسطينية الفردية والمتفردة قابضة على القرار الوطني الفلسطيني، والذي تم تتويجه بعدم دعم الحركة الوطنية الأردنية، وإلغائها والحلول محلها، كما والقرار الأخطر بالخروج من المدن والمخيمات إلى الأحراش حيث تم القضاء على القوة العسكرية الفلسطينية، واستشهاد على ما يزيد عن ثلاثين ألف شهيد. رغم آراء كل الفصائل الأخرى والتي لم تؤخذ بعين الإعتبار.

وبعد إنتقال المنظمة إلى لبنان، ورغم كون الحركة الوطنية اللبنانية متبلورة وذات تاريخ نضالي طويل، إلا أن نفس القيادة الفردية وبنفس الطريقة ألغت دور الحركة الوطنية اللبنانية، بل وحاولت أن تخلق “بالمال” منظمات رديفة سريعة “البصم” وتم فرضها على الحركة الوطنية اللبنانية، تماماً كما تفعل الأنظمة الرجعية العربية في المنطقة.

بعد الأجتياح للبنان ودخول بيروت، ورغم شعار الحركة الوطنية اللبنانية ـ الفلسطينية، الذي نادى بالمقاومة، “جاؤوا لعندنا بأرجلهم”،وبأن ما تم هو فرصة لإيلام الإحتلال، حيث كان الوصول له أمراً صعباً بسبب الحدود والأسلاك الشائكة والألغام، والآن جاؤوا هم بأنفسهم، إلا أن نفس القيادة وبنفس الطريقة وبشكل فردي، ساومت وعقدت الصفقات، واتفقت مع فيليب حبيب، على سحب المقاتلين ودخول الدهليز الأمريكي، ووزعت مقاتليها على بلدان تبعد آلاف الكيلومترات عن حدود فلسطين، حيث تم إغتيال القيادات من الصفوف الأولى في تونس، وتحول الكثيرين الى شؤونهم الخاصة.

وأيضاً وبشكل فردي تم افتعال حرب المخيمات والتي تورطت بها فصائل فلسطينية أخرى.

كما أنه وبشكل فردي تم تفريغ برنامج العمل الوطني الفلسطين من ميزاته من خلال التعامل مع المشاريع التسووية التصفوية في المنطقة، ابتدأت بشعار”لعم” للإعتراف بالكيان الصهيوني، ولاحقاً بالغاء الميثاق الوطني الفلسطيني، وسرعان ما وافقت القيادة الفردية بإلغاء صفة “العنصرية” عن الكيان العبري.

وبعد أن نقلت الإنتفاضة الأولى إمكانية تحرير الأرض وجعل من إقامة الدولة الفلسطينية “إمكانية واقعية”، دخلت نفس القيادة وبفرديتها المعهودة، التفاوض بوفد أردني فلسطيني مشترك، لتفاجئ الجميع بالتوقيع على اتفاق “أوسلو” والذي يبدو أنها حتى لم تقرأه، ناهيك عن بحثه فلسطينياً من متخصصين وأكاديميين وفصائل واستراتيجيين، وكان أبرز ما تم فيه وعلى هامشه، إبقاء ما يزيد عن 12000 أسيراً فلسطينياً في السجون الصهيونية، والذي ما زال بعضهم حتى الآن. كما عدم المس بالعملاء وأدوات الإحتلال بأي شكل من الأشكال بما في ذلك عملاء روابط القرى، كما إعتقال “المحرضين” و”المخربين” وقمع التظاهرات وعدم المس بالمستوطنين لأنهم شأن إسرائيلي.

كما أن القيادة المتنفذة الفردية لم توافق يوماّ على إقرار قانون التمثيل النسبي داخل المؤسسات الفلسطينية، وأغرقت المجالس الوطنية كما اللجنة التنفيذية للمنظمة بمن أسمتهم بالمستقلين والذين لم يكونوا في أغلبيتهم الساحقة سوى مجموعة من المرتزقة، ممثلين لأنظمة الردة، من رجعيات عربية في المنطقة، كل ما يقومون به هو “البصم”، أو رفع الأيدي وهز الرؤوس حسب الطلب.

كما كانت الأغلبية الساحقة من المنح الدراسية والسياسية والعسكرية،هي من نصيب تنظيم القيادة”حركة فتح” وتوزع على المحاسيب والمعارف، ويتم بيع الكثير منها لصالح تجار السفارات.

معظم مدراء المكاتب ولاحقاً السفارات الفلسطينية كانت من نصيب تنظيم فتح، “ونحن هنا لا نتحدث عن مناضلين” بل عن أناس في معظمهم محاسيب وتجار وعملاء أنظمة، ولم يكن للفصائل إلا ما ندر حتى من العاملين داخل هذه السفارات، الوضع الذي ما زال مستمراً حتى وقتنا هذا.

مالية منظمة التحرير لم تكن سوى بأسماء القائد الأعلى بالأساس وما زالت بالطبع، وبعض قيادات الصف الأول بنسب لا تتعدى” بضع ملايين”، وإذا نظرنا الآن لورثة هؤلاء القادة سنجدهم أصحاب ملايين من دماء الشهداء وآلام الجرحى والأسرى، وميزانية المنظمة كلها والتي لم يعرف قيمتها أحد، تجزم بعض المصادر أنها تجاوزت الخمس مليارات بقليل، أصبحت من نصيب أرملة الرئيس السابق، والأمر الآن كما هو ولم يتغير منه شيء. والمفارقة أن تنظيم الجبهة الشعبية كلما كان لديه موقف رافض للقرارات الفردية، كلما قطعت عنه القيادة الرسمية مخصصاته المالية، وكأن هذه الأموال ملك شخصي لهم ورثوها عن آبائهم وليست أموال الشعب الفلسطيني.

وكي لا نضيع في التفاصيل نقول، أن هذه القيادة، قيادة منظمة التحرير ومنذ وجود المنظمة، قد أمسكت بالمنظمة من عنقها حتى قتلتها، وأبقتها منظمة ميتة لا قيمة لها ولا أهمية ولا قرار، وأنها تتذكر المنظمة والوحدة الوطنية إن أرادت تمرير قرار أو مشروع تصفوي ما ويلزمها “ختم” المنظمة.

أنها أفرغت المنظمة ومجلسها الوطني وكافة هيئاتها  ومؤسساتها الشعبية من كل محتوى وطني ورسمي وأبقتها جثة هامدة ميتة، كما فعلت باللجنة التنفيذية والمجلس الوطني والمجلس المركزي، ولاحقا حتى بالمجلس التشريعي.

إن شعار الوحدة الوطنية، هو بالنسبة لها شعار حق يراد به باطل، ترفع لواءه وقتما كانت بحاجة إليه، والمطلوب من الآخرين احترامه دائماً حتى النخاع، ومن الواضح أن معظم “إن لم تكن كل” القرارات المفصلية المهمة لم يتم استشارة القوى الفلسطينية بها، بل وفي مرات كثيرة كانت تتفاجأ بالأمر من وسائل الإعلام.

وعليه، أعتقد أن موضوع الوحدةالوطنية الفلسطينية هو من أهم المواضيع إذا كان الجميع يريدها، ويُحاسَب بموادها، وتكون قيادة المنظمة قيادة جماعية “لكل حسب وزنه الفعلي في الساحة”، لكن أن يريدها البعض والآخر يستغلها ويستفيد منها فقط، إذن عن أي وحده وطنية نتحدث؟!!! بل إنني أرى إن التعايش مع مثل هذا الشكل من” الوحدة الوطنية” إنما يخلق داخل تنظيم الجبهة الشعبية، حفنة من أشباه المناضلين والذين لا يهمهم سوى قدوم آخر الشهر ليقبضوا المعاش، مع ما لهذا الأمر من إنعكاسات خطيرة جداً على مستقبل الجبهة نفسها، كوننا نتحدث عن قبادات من المفروض أن تكون قيادات من الصف الأول. فما قيمة الوحدة الوطنية إن ظلت على حالها الذي كانت عليه منذ البدء حتى الآن؟!!! وما قيمتها إن كانت الجبهة الشعبية رغم ما لها من وزن ونضالات وتاريخ غير فاعلة ولا كلمة لها ولا تأثير داخلها؟!!! وهل هناك وحدة وطنية بمؤسسات منظمة ميتة كما هي الآن؟!!! وهل هناك وحدة وطنية إن كان من يتحكم بالموقف السياسي والمقدرات المالية شخص واحد حتى وإن كان رئيساً للسلطة أو لحركة فتح أو أي كان؟!!! وهل هناك وحدة وطنية داخل ثورة دون برنامج كفاحي ثوري، مستنداً على برنامج سياسي واضح وميثاق وطني جامع؟!!! وهل هناك وحدة وطنية تحت سقف قيادة ما تزال تحاصر القطاع مع نظام مصر لتعميم الإستسلام فيه، بعد أن وصفت أسلحته بالعبثية؟!!! وهل هناك وحدة وطنية مع من ما يزال يضع يده في يد القاتل نتنياهو، ولم يستنكر اقتحام العدو لمناطق ا، ولا لقتله اليومي واعداماته بدم بارد، بل يساعده في الإعتقالات تاركاً له المدن متى أراد ليدخل ويعبث بها وبأبنائها كما يريد ووقتما يريد؟!!! وهل هناك وحدة وطنية مع من لا يلتزم بمقررات هيئة في المنظمة كالمجلس المركزي، تطالبه بوقف التنسيق الأمني، وهو يرفض بإصرار الإلتزام بذلك رغم وعوده المكررة الكاذبة؟

لست أدري كم هو صعب الإجابة على مثل هذه الأسئلة وغيرها الكثير الكثير، وهل يجب أن تظل الجبهة إسمياً داخل المؤسسات الميتة كشاهد زور على كل موبيقات القيادة دون أن تستطيع أن تفعل شيئاً؟ أم أن تبدأ بالعمل على تطوير الذات تنظيمياً، وأنعكاس ذلك كفاحياً ونضالياً على أرض الواقع، لتشكل مركز استقطاب يساري ثوري جامع  لا نقاش فيه ولا منازعة عليه، في قادم الشهور أو السنين القليلة المقبلة، لتشكل قاطرة العمل الوطني الموحد القادم ضد الإحتلال ؟!!!

محمد النجار

بأي حال عدت ياعيد؟!!!

لا أدري ما الذي جعلني أحمل نفسي وأذهب إليهما، فزياراتي لهما كانت متباعدة جداً دائماً، ولولا رابطة القرابة البعيدة لما أجهدت نفسي للذهاب، رغم كوني كنت كثيراً ما أشعر بفرح ما عند لقاءهما، وفي مرات كثيرة أظل أتذكر هذين الكهلين لفترة طويلة لاحقه. إنهما الحاج راجح وزوجته، شارفا على الثمانين وظلّا كما لو أنهما في عز شبابهما، فرحين خفيفي الظل، مقبلَين على الحياة، يرميان كلماتهما الناقدة كأبلهين دون أن تشعر بذكائهما إلا إذا كنت تعرفهما جيداً. قلت له ذات يوم بعد أن فشلت قائمة زميلي ناجح عبد القادرفي انتخابات النقابة :

ـ  لقد رسبت القائمة في الإنتخابات ياحاج راجح، لم أكن أتوقع ذلك،كان بينها وبين العضو الأخير بضعة أرقام ليس أكثر, وتم إعلان  الإسم الأول في القائمة كإحتيا ط”ناجح عبد الستار ” إحتياطً.

قال حينها دون حتى أن يبتسم:

ـ يعني “ناجح” كان مجرد اسمٍ وليس نتيجة؟!!!

وأمام اندهاشي من عبارته تلك فإنني حتى لم أقوَ على التعليق، وتحدثنا في أمور عديدة وقضايا مختلفة، وكان بين فترة وأخرى يسألني كالأبله من جديد:

ـ قلت لي أن “ناجحً” هو إسم وليس نتيجة؟!!!

نكون قد غادرنا الموضوع وهو يقترب من أذني وكأنه يريد البوح بسر ما ويعيد:

ـ إذن “ناجح” هو إسم وليس نتيجة.

حتى وجدتني أضحك من كل قلبي في نهاية لقائنا رغم حزني الشديد على نتيجة الإنتخابات.

وها أنا أجد نفسي في زيارته من جديد، كانا متقابلين على مقعدين قديمين من القش مثل كراسي المقهى ، يشرب هو الشاي وهي تقابله، “تمزع” رغيف الخبز وكأنها تشرط ورقة، ثم تأخذ بين أصابعها كسرة طويلة وتغمسها في كاس شايها، وتأكل الخبز بعد أن تغرق في الشاي وتكاد تذوب، تأكلها متمتعة وكأنها تأكل “منسفاً”، رحبا بي كعادتيهما، وجلست على مقعد مجاور كان بينهما، قالت بعد أن سكبت لي كأس شاي دون أن تسألني:

ـ أهلاً وسهلاً… “وجهك ولّا وجه القمر”  ما الذي حذفك علينا؟ ما الذي ذكرك بنا؟

 ـ إنكم في البال دائما ياحاجة لكنها الظروف كم تعلمين، وما أن وجدت نفسي في عطلة رسمية حتى حضرت كما ترين.    قلت مبرراً غياباتي المتباعدة، فقال الحاج راجح متسائلاً:

ـ عطلة ورسمية أيضاً؟ خير وما المناسبة؟

 قلت مستغرباً سؤاله:

ـ كيف ما المناسبة ياحاج؟ إنه عيد الإستقلال…

رفع رأسه إلى الأعلى وقال وكأنه تذكر ما كان ناسياً.

ـ آه …الإستقلال…ومتى استقلينا نحن ياحاجة صبحة؟ لا تؤاخذني يابني، لم يقل لي أحد شيئاً عن ذلك… وربما “الكبر عبر” وبدأت أنسى

عرفت أنه بدأ يسخر مني ومن المناسبة أكثر، وأكمل مخاطباً زوجته:

ـ إنني غاضب على الأولاد ياحاجة صبحة، لا أحد زارنا منهم، أيعقل ذلك؟

 فتساءلت بغباء لم أعهده في نفسي كثيراً من قبل :

ـ ومتى خرجوا من السجن؟ والله لم أعلم أبداً

فقالت الحاجة صبحة عازفة على نفس لحنه:

ـ المفروض أن يكونوا قد خرجوا، ألم تقل أننا أخذنا استقلالنا؟

 فرد هو مجدداً:

ـ  ربما تغيرت الدنيا في مثل هذا الوقت ياحاجة، فأصبح الإستقلال ممكناً وأبناؤنا لا يزالون في السجون!!!، لكني شاهدت بالأمس جنوداً يطلقون النار على الفتيان فيقتلونهم بدم بارد، قالوا لي أنهم إسرائيليون…آه… هذا كان بالأمس ونحن استقلينا اليوم!!!، أم منذ بدأ التنسيق الأمني لم نعد نفرق بينهما؟

فقالت الحاجة صبحة دون أن تترك لي مجالاً لأعرف إن كانت مبتسمة أم مكتئبة:

ـ “الخل أخو الخردل “ياحاج.

قلت في محاولة للمشاركة في الحديث:

ـ يبدو أنهم ندموا على ما فعلوا في “أوسلو” وملحقاته، فها هو عريقات يريد الإستقالة نتيجة تعنت حكومة العدو.

فقال الحاج راجح دون تردد:

ـ وهل هناك من يمسك به ليبقى؟ أم أنه يهددنا بالإستقاله؟ فربما لن نجد مفاوضا متمرساً مثله، حقق لنا بحكمته وجرأته وتفانيه، وبطريق التفاوض ما لم نستطع تحقيقه عن طريق الثورة المسلحة؟!!! وكأننا سنخسر الجنرال جياب؟!!!

   سكت قليلأ ثم أضاف:

ـ حكومتهم هي السبب؟!!! المهم رأيهم فقط، رأي الشعب لدينا لا يهم ، خاصة وأنه وسلطته قاموا بالواجب على أكمل وجه.

قلت من جديد:

ـ الله يصلح حالهم، ربنا يجيب الذي به الخير.

فقالت الحاجة صبحة معلقة على كلماتي:

ـ “ذنب الكلب ما بنعدل حتى لو وضعوه في مائة قالب”.

قلت في محاولة لتصحيح مفاهيمهم:

 ـ يبدو أنهم بدأوا يدركون خطأهم الآن، فهذه المرة ليست كسابقاتها

فقال الحاج بحسم قليلاً ما عهدته عنده من قبل:

ـ انظر يابني، مَنْ يمكن شراءه بالمال لا يمكن الوثوق به، وسلطتهم كلها مشتراة بمال آل سعود ومن لف لفهم، حتى أن لا قيادة السلطة ولا قيادة حماس السياسية لم يجرؤوا على التضامن مع قناة الميادين، ولو من باب حرية الكلمة، أو كما تقولون أنتم المثقفون من باب الحق في حرية التعبير، طبعاً خوفاً من أن يغضب عليهم آل سعود والشيخة موزة وأبناءها. فهل مثل هذه القيادات يمكن ائتمانها على مصير شعب؟ وها هو الرئيس نفسه رغم انحدار شعبيته، ورغم معرفته بأن ما فعلوه في “أوسلو” أوصلنا إلى الحضيض، لكنه لا يأبه بالشعب كله ولا برأيه، وربما لقاء واحد مع “كري” أهم من  الشعب ورأيه. ورغم أن الإحتلال يقتل أبناءنا في الطرقات والمدارس والمستشفيات، إلّا أن لا الرئيس ولا حاشيته لم يدعُ قيادة العمل الوطني ولا حتى مرة واحدة للإجتماع لتدارس الأوضاع واتخاذ ما يناسب المرحلة من قرارات وبرامج، لكنه يريد تدجين غزة وإدخالها بيت الطاعة الأوسلوي، يريد تجريدها من سلاحها، ليسهل إخضاعها له وللإحتلال، يريدون تعميم الإستسلام ، هذه السلطة لا تعرف سوى ذلك وتبريره بكلام وطني لا يغني ولا يسمن من جوع يابني.

فقلت في محاولة للتخفيف من غضبه:

ـ يبدو أنهم تعلموا هذه المرة، فالإحتلال لن يعطيهم شيئاً، وهم قد أصبحوا عراة أمام الناس.

فردت الحاجة صبحة قائلة:

ـ لا تصدقهم يا بني،” علّم في المتبلّم يُصبح ناسي”، هؤلاء لا يتوبون أبداً، مثل العاهرات ـ لا تؤاخذني ـ فأنت مثل أولادي، انهم كالتي “خاطرها بذلك الشيء وخائفة من الحبل”، ليس لديهم مبدأ أو ضمير.و، وها أنت “متعلم” و”ياماشاء الله عليك” وتصدقهم، جاي تقول عيد الأستقلال، إستقلال مرة واحدة؟!!! فعلاً اسم الجمل قتله

     وسكتنا، بالأصح سكت كي لا أثيرهما أكثر، فلهما من الأولاد ثلاثة في سجون الإحتلال، وأطعم الله ابنهما البكر “الشهادة” في انتفاضة الأقصى، وأحد أبنائه المعتقل إدارياً لدى الإحتلال منذ ثمانية عشر شهراً، اعتقلته سلطة أوسلو وحققت معه طويلاً محاولة أخذ ما عجزت عنه اسرائيل من معلومات، ولما عجزت اعتفله الإحتلال إدارياً، إنه عمل متكامل بين جهازي المخابرتين!!!.

كان قد أنهى شرب شايه الذي كان قد برد في الكأس الذي أمامه، وأكمل وكأنه يتابع موضوعاً طال انتظاره لينهيه، فقال:

ـ لقد أضحوا مثل الأنظمة التي تراها أمامك، نظام عربي رجعي تابع، من يدفع أكثر له حصة أكبر فيهم… انظر مثلاً منذ ما يزيد على عام كامل مرت على حرب غزة الأخيرة، ماذا فعلوا لسكان القطاع المحاصر والمدمر والمريض والجائع؟ لماذا لم يطلبوا من نظام مصر أن يفتح المعبر بدلاً من إغراقه الحدود بمياه البحر التي تتداخل مع مياه الشرب وتفسدها؟  وهم مع النظام المصري يطبقون الحصار على غزة ليدخلونها قمقم التسوية ومن ثم الإستسلام. نعم هذا النظام الذي تغرق قرى الصعيد تحت مياه النيل منذ أيام ولا يحرك ساكناً، لم يبعث حتى مساعدة لإستخراج جثث الآلآف من سكان القرى الغارقة تحت الماء، وبدل المساعدة يمنع ذكر أي خبر عن الحادث!!! نظام بهذا الشكل خان ثقة شعبه به منذ اليوم الأول لمجيئه أتعتقد أنه مهتم لسكان قطاع غزة؟ هل سيفتح المعبر دون ضغوط؟ نظام يحكم بالإعدام على الآلآف من شبابه يمكن أن يهتم بغزة أوفلسطين؟نظام ما يزال يعتقل ويعذب ويقتل ويخطف ويغتال ، ورغم انتهاء حالة الحرب إلّا مع شعبه ، فهو ما يزال يحتفظ بما يسميه” المخابرات الحربية”الذي تحول لجهاز قمع وتعذيب لأي معترض أو صاحب فكر أو حتى حتى رأي!!!،هذا النظام يعلمهم ويدربهم على القمع، هؤلاء “المسالمين” مع الإحتلال يتفننون بقمع شعبهم، لقد حدثني “فهد” إبني ـ وضرب بيده على صدره وأكمل ـ عمّا فعلوه معه عند إعتقاله.

وسكت فجأة وكان يجول بعينية في أرجاء الغرفة وكأنه يبحث عن شيء ما، ثم قال وكأنه يدلي بخلاصة حديثه وعصارته:

ـ حجارة فلسطين هذه مقدسة كتينها وزيتونها، ألا تلاحظ أنها تتفوق على آلات قهرهم وترسانتهم التسليحية؟ لو كانت هذه السلطة سلطة شعب بشكل حقيقي، لدعمت حركة هذا الشعب وانتفاضته، لنقلت معركة السكاكين إلى الداخل المحتل، إلى المناطق الأكثر أمناً بالنسبة لهم ، لتجبرهم على إغلاق متاجرهم وشوارعهم وأسواقهم ومدارسم ووسائل نقلهم، لحرّمت عليهم أي نوع من أنواع الحياة ماداموا يحرّمونها على شعبنا، على الأقل لفرضت عليهم التعامل بالمثل، ولأغلقت آذانها كي لا تسمع نصائح المخصيين من ملوك وأمراء ورؤساء هذه الأمة المخصيين .

فقالت الحاجة صبحة قاطعة حبل أفكاره:

ـ لا تتعب يا حاج ” لا حياة لمن تنادي”.

  وسرحت متسللاً من بين كلمات الحاج  راجح وزوجته الحاجة صبحة، ولسبب ما تذكرت قصيدة الشاعر الكبير “أمل دنقل” وهو يقول :

عيد بأي حال عدت ياعيد                          بما مضى أم لأرضي فيك تهويد

                      نامت نواطير مصر “عن عساكرها”          أو حاربت بدلاً منها الأناشيد

       … وقلت في نفسي :إنهم لا يجرؤون على الحرب حتى بالأناشيد

                                                                                     محمد النجار

الإسلام الأمريكي وأدواته في المنطقة

لم يكن تفجير الضاحية الجنوبية بالأمس، إلا مجرد هروب للأمام للتغطية على ما يدور في المنطقة كاملة من هزائم للمحور الرجعي العربي ، بقيادة آل سعود، وفي نفس الوقت محاولة يائسة للفتنة والتفتيت للتحالف اللبناني الفلسطيني، ، الأمر الذي يجعل حق العودة في مهب الريح، . وإذا أردنا الدخول في بعض التفاصيل نورد التالي:

* ما يدور على الجبهة السورية من انتصارات متتالية وسريعة في كامل الجبهات، الشمال والوسط والجنوب والقلمون و”الحبل على الجرار”، ما يعني أن الجبهة الرئيسية المستهدفة تخرج من بين أيدي هؤلاء الحثالات والدول الرجعية المتصهينة التي تقف خلفهم بقيادة آل سعود، الأداة الأكثر طاعة للصهاينة والإمبريالية الأمريكية، لذلك نرى كل هذا الإستكلاب الأمريكي وقصفه المتتالي للبنى التحتية السورية وتدمير لمنشآت النفط السورية، الأمر الذي لم يفعله وهي تحت سيطرة داعش والنصرة وأخواتهما، ونفطها يُسرق ويهرب عبر تركيا ويُباع للكيان العبري. والأمر كذلك بالنسبة لقاعدة الإمبريالية المتقدمة في المنطقة. الكيان الصهيوني المستفيد الأكبر من هذه الحرب الكونية على سوريا، والمنطقة عموماً سواء في العراق أو اليمن او مصر والجزائر وليبيا، فدوره في العراق من خلال أعماله الإرهابية الممولة من آل سعود وتقتيله لعلماء العراق، وتهديمه لبنيتة الأساسية (الإنسان العراقي والجيش العراقي) لم  ننساها بعد. وكذلك الحال لحكومة “الإخوان المسلمين” (العثمانية الجديدة)، الذين يريدون قضم الأراضي السورية، والذين يشكلون الذراع المتقدمة لحلف الناتو بعد اسرائيل، وكلهم بقيادة الإمبريالية الأمريكية.

* كذلك الحال في العراق، حيث الحشد الشعبي والجيش العراقي يتقدم ، لكن تقدماً بطيئاً لأنه يصطدم بالعرقلة الأمريكية دائما وأبداً، حيث لم يكتفِ الأمريكي بعدم إعطاء الجيش العراقي الأسلحة التي دفع ثمنها مسبقا، بعد أن فتّت جيشه وأضعفه وجرده من سلاحه، وفرض على العراق دستور بليمر الطائفي، ويرفضون السماح بتغيير الدستور الى دستور حداثي بعيدا عن الطائفية، فإن طائراتهم  أيضاً تقوم بإلقاء الأسلحة لحثالات الأرض من الدواعش والنصرة وخلف خطوطهم، وتعرقل الحشد وتقدمه لتنقذ قادة داعش وتنقلهم الى أماكن أكثر أمنا (كما حصل في تكريت، ليكونوا احتياطاً لهم في مشروعهم التدميري للوطن العربي والذي لم ينهزم بعد)،  وتم بعث المئات منهم في طائرات تركية وقطرية الى الجنوب اليمني ، وكما تم في ما أسموه عملية تحرير الاسرى  الأكراد من سجن عراقي، وكذلك من خلال طائرات الشحن العملاقة التي نقلت السلاح لتلك الحثالات في “تلعفر” في الموصل، وما زالت تعرقل قوات الحشد الشعبي وتحاربه بكل قوة وتحرض عليه طائفياً ومذهبياً وإعلامياً من خلال إعلام آل سعود و الشيخة “موزة” في حارة قطر، التي موّل أولادها وأحفادها حثالات الأرض الدواعش ب 32 الف سيارة تيوتا رباعية الدفع في سوريا فقط ، عدا السلاح والأموال، وما زالت، هذا عدا ملوك الرمال في مملكة آل سعود، والتركي الذي فتح أبواب بلاده لعشرات الآلف من الإرهابيين بأموال سعودية قطرية، وبأوامر أمريكية اسرائيلية.

*كذلك الأمر في اليمن، حيث يتم دك مواقع آل سعود وتحالفهم وكل مرتزقتهم سواء في باب المندب أو تعز أو المدن اليمنية المحتلة من آل سعود، والذي يتوج كل يوم بإحراق عشرات الاليات والجنود، من جنود آل سعود ومرتزقتهم، والغريب الطريف في ذات الوقت فإن الأمريكي وأتباعه لا يريدون أن يروا تمدد داعش والقاعدة في حضرموت وعدن وبقية مدن الجنوب، فأولئك رغم كونهم قاعدة لكنهم ليسوا ارهابيين ولا يجب محاربتهم، لأنهم في المكان الصحيح!!! واليمن الذي يعوم على ما يقارب ال35% من النفط العالمي والمحروم من استثماره بسبب آل سعود وتأثيراتهم المتتالية على حكومات اليمن، حد التبعية المطلقة، كما الحال في المعادن المختلفة والكثير من المواد الخام مطلوب أن يبقى مطية لآل سعود وأسيادهم من الكيان العبري الذي يدك المدن اليمنية بطائراته مع الإمبريالية لأمريكية ، ليبقى اليمن فقيراً هزيلاً تابعاً لا يستطيع التحكم لا بخيراته ولا بموقعه الإستراتيجي.

* والأمر يتكررفي فلسطين، كون القضية الفلسطينية هي المستهدف الرئيس مما جرى ومن كل ما يجري، وكون الكيان الصهيوني هو المستفيد الأول من كل ما يجري.، لذلك فانطلاق الإنتفاضة الفلسطينية من جديد رغم كل محاولت إيقافها وقمعها وطمس فاشية المحتل في التعامل  معها، ورغم ضغوط الرجعيات العربية المتصهينة على قيادة السلطة، هذه القيادات التي تقود الجامعة العربية المخصية والتي ما قدمته على مدار عمر القضية الفلسطينية كلها في القرن الأخير لم يصل إلى عُشر ما قدمته للحثالات البشرية في سنة واحدة، الأمر الذي يتطلب حرف وابعاد التركيز العربي والدولي عنها مادام ليس مقدور ايقاف فعالياتها. لذلك كله يجب التفجير والقتل ما أمكن في محور المقاومة، المحور الذي يقف ببسالة ضد حثالات الأرض وأسيادهم الصهاينة والأمبريالليين وتوابعهما من رجعيات عربية متهالكة متصهينة، وليكن في المكان الذي لم يستطيعوا تدميره، لبنان، وتحديدا ضاحيته الجنوبية حيث حزب الله، قائد حركة التحرر الوطني العربية بامتياز، والترويج أن من قام بذلك هم فلسطينيون، ليشتبك المخيم مع المقاومة اللبنانية ويصبح حق العودة نفسه مهدداً وبأيدي الثوار أنفسهم من لبنانيين وفلسطينيين. وأمام تحقيق أهدافهم في تفتيت الأوطان كان لا بد من استخدام ذخيرتهم الرئيسية في ذلك ، وهم “الإخوان المسلمين” ومرجعيتهم الأساسية أردوغان وحزبه العثماني الجديد، فكانوا هم خميرة تدمير سوريا، وهم خميرة تدمير اليمن من خلال حزب الإصلاح، وكذلك في تونس ومحاولات الفتنة الداخلية من خلال سياسة الأغتيالات ضد اليسار التونسي والذي اتهم فيها حزب النهضة الإخواني، وكذلك الأمر في مصر ومحاولة تدمير الدولة هناك ،رغم موقفنا الواضح من نظام السيسي، لكن هذا لا يبرر تدمير الجيش وتقتيل الوطن، والأمر نفسه كان قد تم في الجزائر من خلال جماعة عباس مدني، وما أوصلوا إليها ليبيا باسم ديمقراطية الناتو التي لم يؤمنوا بها يوماً لكنهم يدمرون باسمها الأوطان، وكيف قسموا السودان باسم الدين الأمر الذي لم يقم به أي نظام ديكتاتوري بما في ذلك نظامي عبود ونميري. وهاهم باسم الدين أيضاً برسلون جنود السودان الفقراء ليَقتلوا ويُقتَلوا في اليمن تحت أوامر آل سعود الذي يعتبر نفسه قد استأجر بضعة عجول لا أكثر، في الوقت الذي ينهار فيه السودان كوطن ومواطن تحت ذات القيادة التي تتاجر بالوطن والمواطن وأوصلت السودان الى الحضيض على كافة المستويات. وفي فلسطين حيث تحاول بعض قياداتهم توقيع هدنة طويلة مع الكيان الصهيزني من خلف ظهر الشعب كما فعلت تماماً قيادات أوسلو، فداعش ليس هدفاً أمريكياً، والقاعدة كذلك، وإن كان يضرب هذا القائد الميداني أم ذاك بين وقت وآخر لذر الرماد في العيون، فالسيدة كلنتون تعلن مجاهرة في الكونغرس “أنهم كانوا مضطرين لدعم  القاعدة”، ويعلن توني بلير “أن بلاده وأمريكا خلف ظهور داعش” ويعلن أوباما بكل صفاقة “أن داعش خرجت عن السيطرة” الأمر الذي يدلل على طبيعة العلاقة التي تربطهما، رغم كل ما يحاولون ترويجه من أكاذيب حول محاربتهم للإرهاب…  وفي النهاية، فهذا جزء من ضريبة النضال والمقاومة، فعلى الشهداء الرحمة والشفاء للجرحى والصبر لأههاليهم ولكل جمهور المقاومة.

محمد النجار

حُط في الخُرج

لم أره يوماً إلّا والسيجارة بين اصبعيه أو بين شفتيه، كان يُدخن مثل قطار، وفي أحيانٍ كثيرة يُشعل السيجارة من أختها، وفي كثيرمن المرات يتركها تحرق نفسها بين شفتيه، وعندما يضايقه دخانها المتصاعد نحو عينيه، يُغمض إحدى عينيه، يسحب نفساً عميقاً وكأنه يريد الإنتقام من رئتيه اللتين تبدآن بإطلاق زخات من السعال كمشط رصاص إنعتق لتوه وتحرر نحو عدو أكيد، ثم يأخذ ما تبقى من سيجارته بين أصبعين من يده اليمين، يتابع السعال ويعود ليسحب نفساً جديداً حتى تكاد أصابع” يديه أن تحترق، قبل أن يجد لها مكاناً يدفنها فيه بين صُحيباتها في منفضة أمامه.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتحاور في أمور الإنتفاضة، أو أمور الساعة كما يقال، وكما قال البعض:” ما اجتمع زوج من الفلسطينيين إلّا ليتحدثوا في السياسة” . كنا من مشارب سياسة مختلفة، لكننا من نفس الفئة الإجتماعية، تخرجنا من دول عربية وأوروبية مختلفة ، واستحضرنا الماضي أمامنا، وضحكنا وشربنا القهوة والشاي حين قال سعيد متبجحاً كعادته، وهو يستذكر رئاسته لإتحاد الطلبة عن فصيل السلطة الحالي، ليعود ويصبح من رجالات السلطة المهمين، قال:

ـ كنا الأغلبية دائماً…

وضحك بخبث وتابع:

ـ وما زلنا

فقال له مفيد متسائلاً:

ـ إذن لماذا بقيتم رافضين التمثيل النسبي في المؤسسات الفلسطينية؟

لكن ما تفاجأنا به ماقاله خليل، الرجل القطار كما أحب أن أسميه، والذي كان معه في نفس البلد في سني دراسته:

ـ أتذكر عندما طالبتم بالنصف + واحد في الهيئةالإدارية للإتحاد؟

سكت سعيد ولم يجب، لكن خليل أكمل:

ـ  قال حينها سعيد بأن قرارا من القيادة من المركزية طالبتهم بعدم التنازل عن النصف+ واحد، قلت له حبنها إذا كان ذلك حجمكم فخذوه، وإن لم يكن فلن تأخذوه، واتفقنا على ذلك، وفعلاً بدأنا نفرز الأسماء من خلال وجهة نظره هو ، ورغم كل مبالغاته إلّا أن العدد كان مناصفة، النصف لهم والنصف لثلاثة قوى أخرى، وكون الهيئة الإدارية تتشكل من سبعة أعضاء، وهم لا يكفون عن الحديث والتغني بالوحدة الوطنية، قلت له :

ـ جيد ، حسب تقييمكم لكم 3.5 عضواً، تفضلوا وتنازلوا عن نصف عضو من أجل الوحدة الوطنية.

ورغم ذلك رفضوا فالوحدة الوطنية يلتزم بها الآخرون، وهم يحصدون فوائد الوحدةفقط، فوحدة وطنية دون مكاسب لا تعنيهم البتة، أليس كذلك ياسعيد؟

كان قد دخن سيجارة كاملة أثناء قصته هذه، وتابع:

ـ  لذلك فمن المنطقي جداً أن لا توصلنا مثل هذه القيادة أبعد من “أوسلو”.

سكت قليلا وأشعل سيجارة من جديد، حين قلت في محاولة للإستمرار في ذات السياق:

ـ ألم تسمعوا تعليق جماعة الرئيس على لقائه مع “كيري”؟ قالوا لقد سلم الرئيس لكيري خمس مجلدات عن تجاوزات الإحتلال وانتهاكاته!!!

فردخليل قائلاً:

ـ ألم يدرك الرئيس بعد أن هذا العنوان هو عنوان خاطىء؟!!! لماذا لم يسلمها لمحكمة الجنايات الدولية؟!!

فقال مفيد مجدداً :

ـ دعونا ما قالوه جماعته وانظروا ما قاله الرئيس محمود عباس نفسه…

سأل عماد مستفسراً:

وهل هناك تصريحات جديدة؟

ـ طبعاً، “بيت السبع لا يخلو من العظم”، أتريد رئيساً بلا تصريحات؟

قال أحمد والمعروف بكثرة تهكماته.  فقلت:

ـ نرجو أن لا يكون قد نطق كفراً…

غضب سعيد وقال:

ـ الرئيس لا ينطق كفراً…

فقلت من جديد:

ـ إنشاءالله، لنرى……..

فقال مفيد بادئاً بنقل تصريحات الرئيس:

ـ ما أذكره أن الرئيس عباس أكد أنه ومنذ عام 2005 ابتدأ التنسيق الأمني الذي ما زال مستمراً حتى الآن ولم يوقفه ولن يوقفه، وأنه ملتزم به رغم عدم التزام “اسرائيل بشيء!!!

فقال خليل متسائلاً دون أن يتلقى أي جواب:

ـ ألم يقل الرئيس نفسه أنه أوقف التنسيق الأمني منذ شهور، التزاماً بقرارات المجلس المركزي الفلسطيني؟!!! فقال أحمد متهكماً كعادته:

ـ خليها على الله يارجل، “حط في الخُرج”.

فقال خليل مجدداً :

ـ يعني كان يكذب علينا وعلى شعبنا كله بكل وقاحة.

فقال سعيد محتجا:

ـ رجاء لا تشتم الرئيس.

وتابع خليل وكأنه لم يستمع لما قاله سعيد:

ـ هؤلاء لا يؤمنون لا بمؤسسات ولا بعمل جماعي ولا يعرفون حتى الإلتزام!!!!

فقال أحمد:

ـ قلت لك “حط في الخرج”

قال سعيد من جديد:

ـ  رجاء لا تشتم السيد الرئيس

وأكمل مفيد:

ـ إذا عملتم معنا سلام سنأتي ب75 دولة عربية واسلامية لتعترف فوراً بإسرائيل وتطبع معها

فقال خليل من وسط غبار دخان سجائره:

ـ باسم من يتحدث هذا الرجل؟ الموضوع ببساطة حتى لمن يريد دولة على حدود الرابع من حزيران فقط، أن الإحتلال يجب أن يخرج، لماذا التبرع بالأعتراف والتطبيع؟حتى تنظيمه لا يوافق على ذلك إذا استثنينا المستفيدين، أليس كذلك ياسعيد؟

تململ سعيد في مكانه لا يعرف بما يجيب، وقبل أن يقول شيئاً قال أحمد مجدداً:

ـ قلت لك ” إنسَ وحط في الخرج”

تابع مفيد قائلاً معيداً تصريحات الرئيس عباس:

ـ إن عرفات يُشْبه رابين! فالإثنان رجلا سلام، وأنه عندما توفي رابين “حزنت وعرفات حزناً شديداً وذهبت مع عرفات إلى بيت رابين وقدمنا العزاء لزوجته”

فقلت موجهاً حديثي لسعيد:

ـ أصحيح هذا الكلام ياسعيد؟

وسعبد الذي ظل يتململ في مكانه وكأنه يجلس على لوح صبار تمتم بشيء ما لكنه لم يرد وتابع خليل تدخينه وحديثه:

ـ قاتل الأطفال والنساء، ومكسر عظام الفتية، هذا رجل سلام في عرف رؤسائنا؟!!! ليخبرونا إذن كيف يكون القتلة!!!  فقال أحمد من جديد:

ـ هوّن عليك يارجل، قلت لك “حط في الخرج”

ـ يُعزون زوجة رابين؟!!! لم أرهم كثيراً يعزون بشهداء شعبنا

قال خليل من جديد وتابع مفيد أقوال الرئيس:

ـ لا يجوز الإستمرار بإطلاق الصواريخ العبثية، نعم أنا أسميها عبثية ولا أخجل بذلك، هذه الصواريخ لا يجوز استخدامها  غرس سيجارته بين أخواتها في المنفضة الممتلئه وقال خليل:

ـ ما يحيرني أن هذه الصواريخ حتى لو كانت عبثية وللتهويش فقط فهي ما نمتلكه لنصد عدوانهم الفاشي الشرس، لماذا لم نسمعه ولا مرة واحدة يطالب الإحتلال بوقف صواريخه والتخلص منها؟ وصواريخهم ليست صواريخاً عبثية، بل صواريخ فتاكة. لماذا يصر هذا الرجل ومن معه على تجريدنا من عناصر قوتنا؟ لماذا لا يقايضهم مثلاً صواريخهم مقابل صواريخنا؟ لماذا الإصرار على أن نبقى ضغفاء؟!!!

فقال أحمد من جديد:

ـ لا تظل متوتراً، قلت لك “حط في الخرج”

فرد خليل بعلو صوته:

ـ يحرق أبو هالخرج، هو ظل فيه وسع تأحط فيه، لقد امتلأ من زمان….

فقال مفيد:

ـ صبراً وعلى رسلك، تركت لك الدسم للآخر لتتمتع بالرئيس وكلامه، يتابع الرئيس:

ـ  نتصالح بشرط أن تكون سلطة واحدة وقانون واحد وسلاح واحد ، طبعا والسلاح الوحيد المسموح به هو السلاح الشرعي…

فقال عماد:

ـ يعني بقينا كما نحن “ويادار ما دخلك شر ”

فقال أحمد:

ـ يعني ببساطة” مطرح ما خري شنقوه”، و”تيتي تيتي زي ما رحتي زي ما جيتي”.

فقال خليل مكملاً تعليقاته:

ـ يعني يريد الرئيس تعميم الهزيمه بعد أن يجردنا من عناصر قوتنا، مصالحة على أساس برنامج انهزامي خاضع كليا للإحتلال وشروطه … أتعتقدون أن بمثل هذه القيادة يمكن أن تُحرر الأوطان؟!!!

وسكتنا، وظل هو يدخن صامتاً حتى قطع حبل الصمت أحمدقائلاً:

ـ لقد قتلت الجميع بدخان سجائرك، لماذا لا تترك هذه العادة السيئة وتقلع عن التدخين؟

فقال خليل:

ـ إنني بدأت التدخين منذ سن السابعة، كنت ألاحق المدخن في زواريب المخيم حتي يلقي بسيجارته أرضاً، آخذها وأسحب ما تبقى بها من أنفاس، ثم دلني رفاق السوء على الشاي أو الملوخية الناشغة وأخذت ألف منها السجائر، رغم أن أي انكشاف لأمري كان سيجعل من جسدي الصغير حقلاً لعصاة أبي، فحفنة الشاي التي كنت ألفها في اليوم الواحد كانت عبارة عن وجبة كاملة، ابريق شاي كامل نغمس فيه بضعة أرغفة لعائلتنا الكبيرة فنوفر وجبة كاملة، ورغم ذلك غامرت ودخنت واستمريت منذ ذلك الحين….  لكنني فعلاً نادم… نادم على أنني لم أدخن في تلك السنوات السبع الأولى…. أتريدني أن أترك التدخين وسط كل هذا العبث؟!!! ” خليها على الله يارجل وحط في الخرج”

محمد النجار

الجيش الذي لا يُقهر…….صفات ومميزات

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح، كيف يهاجم الأطفال العزّل ـ بطبيعة الحال ـ ويستكلب في ضربهم وإيذائهم، خاصة والأطفال فُرادى وهم تكتل كبير من الجيش أشبه بقطيع كلاب برية جائعة، تعرف أنك أمام جيش لا يُقهر.

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح وهم مُتكتلين مع بعضهم البعض كيف يهاجم الفتيات والنساء اللواتي لا يحملن حتى حجر في أيديهن ، تدرك أنك أمام جيش لا يُقهر.

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح كيف يهاجم رجلاً مُسنا بالكاد يستطيع السير وكيف يتفنن الجنود بضربه ببنادقهم وعصيهم، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى هذا الجيش كيف يقنص الأطفال بقناصات بنادقه، وكيف يشعر بزهو الإنتصار أمام هذا الإنجاز الدموي، تدرك أنك امام جيش لا يُقهر.

*عندما ترى كيف يعذب هذا الجيش المدجج بالسلاح ضحاياه العزل أنفسهم، ويعتقلهم ويقتلهم ويهدم بيوتهم  تدرك أنك أمام جيش لايقهر.

*عندما ترى هذا الجيش كيف يفر من أمام أطفال الإنتفاضة وشبابها الذين لا يملكون سوى حجارة الطريق بأيديهم ، تدرك أنك أمام جيش لا يُقهر.

*عندما ترى هذا الجيش كيف يقصف بطائراته ودباباته وصواريخه المحرمة دولياً، النساء والأطفال والعجز والمدارس والمستشفيات ورياض الأطفال والبيوت ويدمرها فوق رؤوس ساكنيها، والمساجد والكنائس ومحطات الكهرباء والورش الصناعية والسيارات، ولا يجرؤ أن يتقدم مترا واحداً مُترجلاً تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح كيف يحاصر 2 مليون إنسان مانعاً عنهم الماء والدواء والطعام،  والعلاج والتعليم والسفر وعيادة أم لأبنتها وحرمان أم من رؤية أبنها، ومنع شمل عائلاتهم تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح يُقطّع أوصال بقية وطن، ويملأه بالحواجز والمستوطنات، وكيف تتناثر عنصريته وتقتيله بهم، وبمن تبقى من سكان فلسطين في الداخل الفلسطيني، وهم عزل من السلاح، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى نفس الجيش المدجج يالسلاح، يُحرّض مستوطنيه ويقودهم لحرق الأطفال الرضع والفتيان، ويهدم المنازل ويقتلع الأشجار تدرك أنك أمام جبش لا يقهر.

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح ، وأنت في الزنازين مقيد بالسلاسل، وأيديك خلف ظهرك، يطلب تعزبزات ليقودك من غرفة التحقيق إلى الزنزانة خوفاً من غضب عينيك، رافضاً أمراً مباشراً من المخابرات، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى كيف يفر هذا الجيش وقادته ليختبئوا في الملاجئ، هروباً من الصواريخ “العبثية” المصنعة يدوياً، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى كيف يهاجر المستوطنون الذين في أغلبيتهم الساحقة إن لم يكونوا كلهم جيشاً، بعشرات الآلاف وبغير عودة، من نفس الصواريخ التي “تتساقط” من الباتريوت، ولا تقع إلّا على أبواب المستوطنات ولا تؤذي أحداً، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما تراهم كيف يصرخون ويبكون أمام عمليات المقاومة اللبنانية التي يقودها حزب الله، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى كيف يأسر هذا الجيش وقادته الإنسان الفلسطيني “إدارياً” دون محاكمة، على اعتبار ما يفكر به، وعندما يحتجز جثامين الشهداء، وعندما يجعل من تجارة الأعضاء البشرية تجارة رابحة رائجة بعد تصفية الجرحى أحياء، فاعرف أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى كيف كان يدخل هذا الجيش القرى الفلسطينية ، ويطلق النار على الفلاحين متنقلاً من بيت إلى بيت، قاتلاً الشيوخ والشباب والنساء والأطفال، باقراً بطون الحوامل، كما في دير ياسين، و على المصلين في المساجد والكنائس كما في مدينة اللد، أو على العمال العزل العائدين من عملهم كما في دير ياسين، يصفهم إلى الحائط ويطلث النار عليهم حتى الموت، فاعلم أنك أمام جيش لا يقهر.

والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى….. لكن دعنا نعود إلى التاريخ قليلاً، لتدرك معي وتوافقني الرأي، بأننا يجب أن ندرك مرة وإلى الأبد أننا أمام جيش لا يقهر!!!.

*بعد أن أحضر البريطانيون هؤلاء المستوطنون، مستغلين طيبة وسذاجة البسطاء الفلسطينيين، واستقبلهم الناس من باب القناعة بضرورة”نجدة الملهوف” الهارب من نار الحرب العالمية الثانية، قامت نواة هذا الجيش بالتفجيرات في الأسواق والمساجد والأماكن العامة ضد من نجدهم وحماهم وقدم لهم الأكل والشرب والفراش والأمان، كي يثبتوا لنا ويقنعوننا بأننا أمام نواة جيش لا يقهر.

*عندما تدرك أن “مسرحية حرب التحرير” التي يدّعيها، ما هي سوى التطبيق العملي المتفق عليه بين الحركة الصهيونية والأمبريالية الإنجليزية لتطبيق وعد بلفور، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*وعندما تدرك أن المشروع الإنجليزي كان يتلخص بإستقدام” أرخص سمسار” وزرعه في المنطقة مدعوماً بالرجال والسلاح للحفاظ على مصالح الإستعمار، وليكون أحد ضمانات التمزق العربي وعدم وحدته، لذلك جلبوهم من كل أقطار العالم ومنعوهم “بديمقراطية لا مثيل لها” من التوجه الى أي بلد آخر في العالم إلّا لفلسطين، وبنوا لهم المستوطنات وأغدقوا عليهم الأموال، وأفرغت بريطانبا العظمى ترسانتها التسليحية بين أيديهم، ودربتهم، وكبلت الإنسان الفلسطيني وسجنت مناضليه ولاحقتهم مع بقية الأنظمة التابعة لها، ولم تسمح له بحمل سكين برتقال صغير في “أرض البرتقال”، وعلقت له المشانق ، ورغم ذلك كان هذا الجيش يجبن ويتراجع ويفر من أمام بضعة ثوار ملاحقين في الجبال، ببنادق قديمة وبضع رصاصات إشتروها بعدما باعوا صيغة نسائهم وأمهاتهم، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما تدرك بأن الأنظمة العربية كانت تضغط على الجماهير الفلسطينية مع القيادة الإقطاعية الفلسطينية ـحيث نحن الفلسطينيون على مدار تاريخنا نتمتع بقيادات ثورية لا تساوم!!! ـ ليغادروا البلاد ويفروا من وجه المجازر الصهيونية، ويتعهدون لتلك الجماهير بإرجاعها بعد بضعة أيام وليس أسابيع، ثم تبدأ تعد “الخيل في الليل” وتحشد الجيوش والجِمال والأفيال و”ترسانات” الأسلحة لإعادة تحرير فلسطين، تدرك كم أن جيش الدفاع الإسرائيلي جيشا لا يقهر.

*وعندما تدرك أن حرب التحرير التي شنتها الأنظمةالعربية، جمّعت بها ومن كل الدول العربية ـ انتبه للرقم رجاءً ـ عشرين ألف جندي، بأسلحة هزيلة ضعيفة صدئة، في حين جمع الصهاينة تسعين ألفاً بأكثر أنواع الأسلحة البريطانية والغربية تطوراً، وقاد الجيوش العربية ـ انتبه مجدداً من فضلك ـ الجنرال الإنجليزي”غلوب باشا”، الذي تحتل بلاده فلسطين ومعظم الدول العربية، وسلمت بلده البلاد والعباد للصهاينة إيفاءً بالإلتزام بوعد بلفور، تدرك ماهية الحرب التي انتصر بها جيشهم، وتدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*وإذا علمت ورأيت بأم عينك الآن ماهية القيادات العربية، وما تحضره “لغزوة تحرير فلسطين”، لكن بعد تفكيك جيوش العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن، وبعد تولي داعش والنصرة وأخواتهما القيادة الإسلامية وخلافة المسلمين السنة، “المبشرين وحدهم بالجنة”، وبعد ذبح الكفار والملحدين والزنادقة والمرتدين والروافض والنصارى بإختلاف فرقهم ومذاهبهم، كي يتفرغ “القوم” لإذلال الصهاينة، لأنه بعد كل ذلك لا يوجد مبرر لتحرير فلسطين، لأن الصهاينة سيكونوا خائفين مرعوبين وغير قادرين على الإتيان بأي فعل سيء، عندما ترى ذلك تدرك لماذا هذا الجيش هو جيش لا يقهر.

*وعندما ترى القيادة الفلسطينية مستسلمة مستكينة صامتة مرعوبة معلنة في كل زمان، تخليها عن حقوق شعبها، وأنها لا تستطيع مواجهة إسرائيل، تدرك لماذا ظل هذا الجيش جيش لا يقهر.

*وعندما ترى نفس القيادة تعتقل مَنْ فكّر ورفض وقاوم بالكلمة أو بالحجر أو بالسلاح، وتحمي المستوطنين والجنود بدلاً من حماية شعبها، “كما أوضح شعث اليوم بأن السلطة قامت بمسؤوليتها في حماية المستوطنين “، تدرك لماذا أنت ما زلت أمام جيش لا يقهر.

*لكنك عندما ترى أن هذا الجيش والمستوطنون يفرون من حجارة هذا الشعب، وتُفرغ شوارعهم وأسواقهم عندما يبدأ الشعب بإستخدام “عضلات يديه” فقط ، قبل الرصاص والمدافع والصواريخ، وأنه كف عن سماع تبريرات القيادة المهزومة، تدرك أن الجيش الذي لا يقهر، ما هو إلا “نمر من ورق”، يمكن أن يهزم في أي مواجهة جدية قادمة، وأنك بهزيمته هذه تُخلّص العالم من آخر نظام عنصري إستيطاني، وتدرك أن لعبته الكاذبة إنتهت إلى غير رجعة.

*ملاحظة:

ألم تلحظ معي أن ما يفعله الدواعش والنصرة وأخواتهما ما هو إلّا نسخة كربونية لما فعله الجيش الذي لا يقهر؟ (مضيفًا إليه سبي النساء وإعادة فتح أسواق العبيد)، وبدعم من نفس الرجعيات العربية ومن نفس الدول الإمبريالية مضيفاً إليها الأمريكية!!! ياسبحان الله على هذا التطابق، لكن لله في خلقه شئون!!!

محمد النجار

رسلة مفتوحة لرئيس السلطة الفلسطينية

كثيراً ما تساءلت عن السر الكامن وراء هذا الخنوع القيادي الفلسطيني، أمام حثالات الأرض الصهاينة، الذين لا يفهمون سوى لغة القوة، حتى إذا ارتخت قدمك من فوق رقابهم يتمردون من جديد، كما يُلاحظ من التجارب المختلفة من عمر الثورة الفلسطينية المسلحة وتجارب المقاومة الوطنية اللبنانية المُتوجة بقيادة حزب الله.

أقول أنني أظل مشدوهاً وأكاد لا أصدق ما أسمع، خاصة من جانب رئيس السلطة ورئيس حركة فتح في الوقت نفسه، وحاشية “المطبلين والمزمرين” الملتفة حواليه، والتي لا عمل لها سوى ترديد النباح دون توقف أو إنقطاع، عن رفض العمل المسلح والإنتفاضي الشعبي وحتى الدفاع عن النفس ولو حتى بالحجارة، رغم شلاال الدم اليومي المتدفق، وهم في أغلبهم لا أحد يعرف من هم أو من أين أتوا ولا كيف وصلوا ليصبحوا في هذا المستوى القيادي وصناعة القرار!!!.

كما أنه من أبجديات العمل الثوري أن المُتعَب أو الذي تصدأ أفكاره أو قدرته على الفعل الثوري، يقف جانباً ويترك القوى الثورية والشابة لتكمل المشوار، لكن هؤلاء لا يريدون النضال ولا يريدون لأحد غيرهم أن يناضل، يعني ” لا برحمك ولا بترك رحمة الله تنزل عليك”، وهم حتى لا يقفوا صامتين بل يعرقلون العمل الوطني بكل ما أوتوا من قوة، والأكثر خطورة أنهم يقدمون المعلومات للعدو الصهيوني لإعتقال المناضلين أو تصفيتهم من قبل هذاالعدو، إذا لم يستطيعوا إعتقالهم هم أنفسهم، وإذا صحت المعلومات عن تسليمهم مناضلي عملية نابلس الأخيرة، فيمكن إدراك إلى أي مستوى من الإنحدار وصل الإنحطاط بهم، الأمر الذي يتطلب التعامل معهم كعملاء في أعلى مراحل العمالة والإنحطاط، وتقديمهم لمحاكم ثورية معنية بهذا الأمر. فخديعة أنهم ينفذون اتفاقات أمنية هي خديعة واهية، فلا شيء في الكون يسمح أو يقبل بأن يُقتل أبناء الشعب من أبناء جلدتهم أو أن يعتقلوا لمصلحة المحتل مهما كانت الأسباب والمبررات.

نعم إنني كثيراً ما تساءلت عما يدفع هؤلاء لمثل هذا الفعل المشين، رغم أن قسماً منهم كانوا ذات يوم مناضلين، ولم أجد إلاّ المصالح الذاتية، المعاش وفضلات الأموال المنهوبة من فم الشعب وقوته ودمائه، لكن هذا الأمر يدفع لتساؤل مشروع آخر: أيعقل أن تكون قيادة فلسطينية بهذا الرخص والبؤس والنتانة؟ أيعقل أن تكون بهذا الإنحطاط؟ بهذه السفالة؟ ويبدو أن الأجوبة بالإيجاب كما هو واضح.

وهنا علينا قول الأشياء بأسمائها، وأهمها أن الرئيس عباس عليه إيقاف هذا العبث بشكل فوري وقاطع إذا كان يتمايز عن هؤلاء المرتزقة، عليه اتخاذ الإجراءات لحل السلطة، وعليه الإلتزام بقرار المجلس المركزي ووقف التنسيق الأمني وليس مجرد التهديد بذلك، واعتبار من لا يلتزم بذلك خارج عن الصف الوطني، وعليه وقف الحديث بآرائه الخاصة، لأنه رئيس للسلطة ولحركة فتح، وإبقاء تلك الآراء لنفسه، أو أن يستقيل ومن ثم يقول ما يريد ولمن يريد، وخاصة بما يخص رأيه بحق العودة ورفضه الإنتفاضة والعمل المسلح ، وعلى رأسها مسألة “الصواريخ العبثية”، كما أسميتها ذات يوم وما زلت يا سيادة الرئيس، هذا إذا لم يرد الرئيس أن يتعلم على الأقل من تجارب شعبه و إذا لم يرد أن يتعلم من تجارب الشعوب أيضاً، فليس من صالحه أن نتساءل ماذا كان يمكن أن يحصل مع الشعب الفييتنامي لو كان لا قدر الله رئيسنا عباس بدلاً عن الرئيس هو شي منه، أو لو كان  مكان المناضل دانييل أورتيغا في نيكاراغوا، أو لو كان مكان فيدل كاسترو في كوبا أو ماو في الصين، أو لو كان مكان المناضل حسن نصر الله، فربما كنا نشهد الإستيطان قد وصل إلى وسط بيروت!!! وماذا لو كان ياسر عبد ربه مكان الجنرال جياب أو لو كان رؤساء الحكومة الفلسطينين أمثال الحمدالله أو الإقتصادي فياض بدل إقتصاديوا الإقتصاد الصيني مثلاً، ماذا كان يمكن أن يحصل مع تلك الشعوب؟ ولماذا تُستثنى فعاليات شعبنا وطاقاته ليظل على رأسه “المخصيون” وفي كل المجالات؟!!! فالمرحوم سلفه الرئيس عرفات رغم أخطائه وخطاياه التي توّجها بخطيئة توقيعه على إتفاق “أوسلو”، إلّا أنه رفض  التوقيع على بيع الوطن في كامب ديفيد الفلسطيني، واستخدم السلاح في انتفاضة الأقصى، فنال شرف الشهادة بعد حصاره وتسميمه، لذلك ظل رمزاً رغم كل الأخطاء والخطايا والتي ليس المجال للحديث عنها في هذا المقال وفي هذه العجالة.

أما أنت يا سيادة الرئيس فلا علائم أو دلالات على أنك قد تعلمت من دروس التاريخ ولا الشعوب ولا شعبك ذاته، وكأنك وصلت إلى ناصية العلم والمعرفة التي لم ولن يصل إليها أحد، ومن باب رفع العتب ـ ربماـ عن أنفسنا نذكرك بأن تدرس تجربة أوسلو التي أتيت بها أنت نفسك وأقنعت سلفك بها وبتوقيعها ، وأنظر بنفسك ما الذي فعلته هذه الإتفاقية المشؤومة بالوطن والمواطن، أنظر كم كان عدد المستوطنين وكم من المرات تضاعف بفضل هذه الإتفاقية،”أقل من 100 ألف عام 1993 والآن أكثر من 700 ألف مستوطن”، كم عدد الشهداء على مدار الإنتفاضتين وكم مرة تضاعف في زمن ” السلم الأوسلوي” الذي أحضرته لنا، وكذلك الأمر للجرحى والأسرى وعدد الحواجز المزروعة في الضفة الفلسطينية، وانظر إلى حال المواطن وغلاء المعيشة و كيف تفشت حالات الفساد والإفساد والوساطة، وانظر كيف بعتنا في أسواق النخاسة عند أنذال القوم من الأعراب و”المستعربين”، كيف بعتنا إلى “حارة” الشيخة موزة وأبنائها ببضعة ملايين، فدمروا سوريا وطردوها من الجامعة العربيه وشردوا شعبها ودمروا أرضها في محاولة تقسيمها ، وكل هذا لضرب المشروع الوطني الفلسطيني وتحقيق يهودية الدولة العبرية!!! ثم بعت موقفنا لدولة آل سعود لتدمر اليمن، هذا الشعب الذي لم تمر عليه أي ذكرى لفلسطين دون أن يحتفل بها، والذي كان الأسبق دائماً لدعم قضيتنا التي لم تستطع الحفاظ عليها، هذا الشعب وهذه القضية التي “تُقلق” قادة الكيان الصهيوني!!! أليس في الأمر ريبة هذا إذا أحسنا النوايا؟!!! وكيف سلمت رقاب مليوني فسطيني في غزة للنظام المصري ليتحكم بها  عبر إغلاقه المعبر الوحيد، لخنق الشعب وتجويعه من خلال حصاره الظالم، وها هو الآن يغرق غزة بمياه البحر ليلوث ما تبقى منها من مياه شبه صالحة للشرب، ويقتل ما تبقى من إمكانية لزراعة أرضها بإستشارتك وموافقتك وتحت عينيك، لا لشيء إلّا لخلافك مع حماس!!!

وكي لا نبتعد كثيراً، ألا تعتقد أن التهديد الدائم بتقديم قادة الإحتلال إلى محكمة الجنايات الدولية دون أن تُحرك ساكناً رغم جرائمهم الدائمة والتي فاقت جرائم النازيين، أصبح مثير للريبة والتساؤل إن لم نقل للسخرية أيضاً؟!!! ألا تعتقد أن لإصرارك على عدم إصلاح م ت ف بمجلسها الوطني والمركزي وقيادتاها ،ولإصرارك على نشر ثقافة الإستسلام و”إحتكارها” ” فيبدو أن خالد مشعل وأبو مرزوق قد تنازلا عنها بعد انكشاف أمرهما من حليفتيهما قطر وتركيا، وأبقوك وحيداً لتحتكر الإستسلام”، وتعميمها على حساب ثقافة الثورة والفعل المسلح والإنتفاضي، كل ذلك يؤثر على الوطن والمواطن ويجعل القضية في آخر جداول العالم إن لم يلغها أصلا عن ذلك الجدول؟  كفى عبثاً يا سيادة الرئيس بالوطن والمواطن. كفى إستهتاراً بعقول الناس وحيواتها، كفى لا مبالاة بالدم الفلسطيني، فجداول الدماء هذه وأنهارها ليست ماء.

فعظام القادة يا سيادة الرئيس هم الذين عرفوا أن يتخذوا القرارات الصحيحة في اللحظات الصحيحة، فقم واتخذ القرار الصحيح، فاللحظة ما تزال مناسبة بعد، رغم كل هذا التأخير غير المبرر، لأن البديل أن تتجاوزك اللحظة وأن لا تحصل إلّا على لعنات شعبك الذي لن ينال إلّا مزيدا من الذبح من الإحتلال بفضل سياساتك، فهل تفعل؟!!!

وكي أصدقك القول اقول لك كلمات الشاعر الكبير مظفر النواب” والله أنا في شكٍ من بغداد إلى جدة”.

محمد النجار

قال ذات يوم …أبي

ـ “رئيسنا” زين الشباب… زين الشباب “رئيسنا”.                                                                                          قلت ذلك لصديقي إبراهيم وكدت أكمل”” رئيسنا” عنتر عبس… عنتر عبس ” رئيسنا””، لولا أنني تذكرت أن في عنتر خصائص ومواصفات ليست موجودة في السيد الرئيس، قلت عندما كان قد انتهى من سحق رأس سيجارته في منفضة أمامه وكأنه بذلك ينتقم من شيء ما، وسرعان ما أشعل سيجارة أخرى، في عجالة غريبة لحرق رئتيه، وأكملت:

ـ أرأيت ذلك الثمانيني الهرم كيف يقف”منتصب القامة” في الأمم المتحدة؟ رجل ولا كل الرجال، يحمل سنون عمره فوق ظهره دون أن تحنيه أو تتعبه، ودون حتى أن تُسئمه كما أسأمت الشاعر زهير بن أبي سلمى… “فحل” يا ما شاء الله عليه…يسير بخطىً واثقة كأنه هو “القضاء المبرم”، يا ماشاء الله عليه…

أكملت ما بين الشهادة بقدرات الرئيس وإستفزاز صديقي الذي كانت أجهزة السلطة قد إعتقلته “لطول لسانه”، وتخوفاً من ـ باب الإحتياط ـ من أن يكون وراء طول اللسان أفعال مخفية عنهم، وفي بلادنا عيب كبير على السلطة أن لا تعرف كل أمور مواطنيها، بدءاً من غرف نومهم نهاية بما يدور في رؤوسهم، وذلك حرصاً على حيواتهم، وكلما عرفت السلطة أكثر كلما استطاعت حمايتهم أكثر وأكثر، فمن يدري فربما لو لم يعتقلوه فربما كان الإحتلال قد إغتاله!!! لكنهم أطلقوا سراحه بعد أشهر قليلة ليعتقله الإحتلال لسنة في السجن الإداري، حيث تم إطلاق سراحه منذ ما يزيد عن اسبوعين اثنين بقليل.

كانت لفافات دخان سيجارته تتسابق نحو سقف الغرفة، وفمه وأنفه يضخان الدخان مثل نافورة ماء كسرت ولم تُصلح بعد، وأنا ما زلت أتحدث قائلاً:

ـ فجّرها السيد الرئيس… أرأيت؟ بالمختصر المفيد فجرها .

فقال وافتعال الهدوء يعلو جبينه، خاصة وأنه ضيف على مائدتي، وليس من اللياقة إلّا أن يكون في قمة أدبه، وكي أصدقك القول هو كذلك دائماً، وإن علا صوته وارتفع أحياناً لكنه دائماً ضمن حدود الأدب، رغم ان كلماته تكون حادة مثل حد السيف:

ـ إن من يريد أن يفجر قنابله فالساحة هنا وليست في الجمعية العامة، فهنا الإحتلال والمستوطنون، وهنا الأقصى والقيامة وكنيسة المهد وجامع عمر، والحواجز والجنود والطرق المقطعة والوطن الممزق….

قاطعته قائلاً:

ـ أتفتعل أنك لا تفهم ما أقول؟ إنني أتحدث عن القنبلة السياسية…

فقال مستغرباً سؤالي:

ـ وأنا أتحدث عن ذات الأمر، فأنا مثلك ومثل الجميع يعرف أن رئيسك هذا لم يمسك قنبلة ولا بندقية ولا حتى حجراً في حياته، كما إعترف هو نفسه في أكثر من مكان، في عز تسليح الثورة، ومن لم يحمل سلاحا آنذاك لن يحمله الآن، لذلك أقول لو أراد فعلاً تفجير قنبلة لفجرها هنا ولأسمع هديرها العالم كله….. لكن ما فجره الرئيس إن كان قد فجر شيئا هو ليس أكثر من قنبلة “عبثية”، سرعان ما تم نسيانها

ـ أعتقد أنك تتجنى على الرئيس، إنه “غاندي” القرن الواحد والعشرين، رجل لا يؤمن بالعنف، لديه وجهة نظر مختلفة…. يقول البعض أنه كذلك منذ الصغر، وأنه كان ميالاً في طفولته المبكرة للعب بألعاب الفتيات ويفضلها على ألعاب الصبية الأولاد، ونشأ وكبر على تجنب العنف وكرهه، وازدادت توجهاته السلمية مع زيادة تجربته وكبر سنه.     قلت موضحا مدافعاً حين قاطعني بدوره قائلاً:

ـ وربما ازدادت قناعته ترسخاً مع تكدس الملايين من الدولارات والدراهم والريالات، أم أنك تعتقد أن الأموال التي نثرها آل سعود لم يكن لها مردود؟ لأن أهم وليس أول مردود لها هو “أوسلو” الذي وقعه الرئيس الحالي والرئيس السابق… وكي لا نبتعد عن صلب الموضوع، أدعي أن رئيسك لم يقل شيئاً سوى التهديد، نعم التهديد بأنه سيتنصل من الأتفاق المشؤوم إذا لم تلتزم به “إسرائيل”، وكأن “إسرائيل” التزمت بأي إتفاق أو معاهدة من الأساس!!! و”إسرائيل” تعرف أن كل هذه الفيادة لن تفعل شيئاً، فمصالحها أصبحت مترابطة ومتداخلة مع مصالح الإحتلال، وهي لن تتنازل عن مصالحها تلك، لذلك يقول الصهاينة” دعهم ينبحون”، وكما قال ذات يوم أبي ” الكلاب التي تنبح لا تعض”، إن ما قاله ياعزيزي ليس سوى من باب استغباء الناس والضحك على “لحاهم”، فلو كان لديه الحد الأدنى من الجدية فلماذا لم يعلن عن حل السلطة بشكل واضح؟ أو لماذا لم يُعطِ أمراً لأجهزة السلطة بالإستقالات الجماعية؟ أو لماذا لم يوقف التنسيق الأمني رغم وجود قرار مجلس مركزي به؟ ومن يظل يُنسق من الأجهزة فليُعتبر خارج الصف الوطني؟ لماذا لم يُطلق سراح المناضلين المعتقلين ويعتذر عن ممارسات أجهزته الامنية بحق الشعب الذي يقوده؟لماذا ما زال يلاحق المنظمات التي تُحاول التسلح لمقاومة الإحتلال؟ ألا تعتقد أن من لا يريد “أوسلو” لا يجب أن يتمسك بالمبادرة الفرنسية التي لا تتحدث حتى عن دولة ولا حتى في أراضي ال67، وتتحدث عن تبادل أراضٍ ل”لتنقية” الدولة العبرية وتؤسس ليهوديتها، ولا تأت بأي ذكر عن حق العودة….المهم الأفعال يا عزيزي وليس الكلام، وهؤلاء لا بهذا ولا بذاك، وكما قال ذات يوم والدي “لا في الهدة ولا في الردة ولا في عثرات الزمان”.

قلت من وسط ضباب دخان سجائره المتبقي في سماء الغرفة رغم شبابيكها المشرعة:

ـ ألا ترى أن ذلك بداية تحرك على الصعيد العالمي، ألم تر أنه أكد على ملاحقتهم في المحاكم الدولية؟

ـ ومن الذي أوقفه حتى الآن؟ دعني أقول لك شيئا من التحقيق الذي تم معي في هذه المرة على يد مؤسسات “الرئيس” الذي تُدافع عنه، أثناء فشل رجل المخابرات “الفلسطيني” تزيين “أوسلو”، قلت له: ” منذ ما يُقارب الربع قرن وأنتم تفاوضون وحصلتم على الخيبة فقط، وها هم يأخذون منكم الأمن ويجعلونكم مجرد موظفين تابعين لأجهزتهم الأمنية، ماذا بعد؟ لماذا لا تتراجعون؟ فقال لي مستغرباً وكأنه يسمع الأمر للمرة الأولى:”نتراجع؟!!! سنفاوضهم حتى لقرن كامل… ما الذي يزعجك؟” مثل هؤلاء تريدهم أن يلغون “أوسلو”؟!!! ما الذي تتحدث عنه يارجل؟ هو لا يزعجه الأمر بتاتاً فالوطن عنده أصبح مجرد معاشاً، وربما إن تبرع بمعلومات أكثر يتضاعف هذا المعاش، وتُستبدل القضية ودماء شهدائها وآلام جرحاها وأنات نسائها إلى حفنة أموال في حساباتهم في مصارف البنوك….. إذا أصبحت القضية غائبة عن بعض أصحابها لا تستغرب غيابها عن المسرح الدولي؟

أستغرب الآن كيف تحولت إلى مدافع الآن بعدما حاولت أن أكون مهاجماً، وأكمل هو قائلاً:

ـ ألم تلاحظ رد الرئيس على سياسة الإحتلال بعد إغتيال الشهيد التلاحمة والشهيدة الهشلمون؟

وأجاب دون انتظار إجابة:                                                                                                                         ـ “أحذركم من إنتفاضة لا نريدها”، لماذا لا يريدها؟ لا أحد يعلم ، وإن كان لا يريدها لماذا يصرح بذلك لأعدائه أصلاً؟ الشعب يعطيه نقاط قوة مغمسة بالدم وهو يتنازل عنها!!! يالمساخر القدر، لماذا تتعرى هذه القيادة وهي تعرف أن لا شيء عندها لتتباهى به وتفتخر ؟ لا شيءعندها ليراه الأقربون والأبعدون سوى ضعفها وخواءها؟

سكت قليلاً، إرتشف ما تبقى من قهوة من فنجانه، وقبل أن يُشعل سيجارته قال:

ـ ألم تر كيف فعل رجال الأمن الفلسطيني بفتيان مدينة بيت لحم؟ أهكذا يكون أمن الثورة؟ تماماً مثلما تفعل أجهزة الأمن للرجعيات العربية، وكما كانت تفعل دكتاتوريات أمريكا اللاتينية قبل أن تنتهي الى مزابل التاريخ، والرئيس الذي لا يؤمن بالعنف بكافة أشكاله كما يعلن عن ذلك في كل المناسبات، ليكن عادلاً على الأقل، فليؤمن به ويطبقه على الجانب الفلسطيني أيضاً، فليس من الإنصاف أو العدل أن يُطبقه مع الأعداء ويمارسه بأبشع صوره كما رأيت في الجانب الفلسطيني.

فقلت في محاولة دفاع يائسة:

ـ سيقدمونهم إلى المحاكمة بسبب ذلك…..

فقال محتجاً:

ـ إحترم عقلي قليلاً يارجل، لقد قام هؤلاء بتنفيذ التعليمات، فعلوا ما تعلموه، ولولا أنه تم تصويرهم لتم نفي ذلك أو حتى لن يسمع به أحد، فالأمر ليس بمستجد ولا فردي ولا خارج عن سياقه، كل ما في الأمر أنه قد تم اكتشافه.        سحب سحبات متعاقبة من سيجارته كعادته في حالات غضبه وأكمل:

ـ ثم من سيحاسبهم؟ ألم تذكر أنه تم محاكمة أحد القتلة في عهد الرئيس السابق، وحُكم بالسجن المؤبد، ثم سرعان ما تم نقله حراً طليقاً من سجن في الضفة إلى غزة، وبعد إنكشاف أمره تم تحويله ملحقاً في أحد سفاراتنا في أحد الدول الأوروبية!!!

فقلت محتجاً:

ـ لا… لقد خرجت عن الحدود، غير معقول، هذا لا يعجبك وذاك لا يعجبك، ما الذي تريده؟

فقال بهدوء كامل وبثقة لم أعهدها كثيراً:

ـ يعني لم تحتج على ما قلت لأنه صحيح، هذا جيد… على كل حال أنا أتحدث عن بشر وليس عن ملائكة، ومهما كان هؤلاء ومهما فعلوا من الإيجابيات، لكنهم من أوصلنا إلى “أوسلو”، من أوصلنا إلى هذه الحالة التي نحن بها، وكما قال ذات يوم أبي “غلطة الشاطر بمئات الغلطات”، وكي يغلقوا فمي وفم أمثالي عليهم أن يخرجونا من هذه المصيبة التي وضعونا بها، عليهم اخراجنا من المستنقع الذي ما زالوا يُغرقون شعبنا به يوماً بعد آخر، وإن أرادوا البقاء بعد ذلك وحدهم فهذا شأنهم.

فقلت لأوضح الأمر له:

ـ يقولون أنه محبط من سياسات الإحتلال… فكما ترى كل يوم عليه أسوأ من الذي قبله…

فقال جازماً:

ـ وما الذي ينتظره من إحتلال إستيطاني إقتلاعي؟ فكما ترى “معادلة” الإحتلال واضحة تماماً، وهي تتناسب تناسباً عكسياً لسياسات السلطة، يعني كلما زادت تنازلات السلطة كلما زاد الإحتلال عنجهية وكبرياء ، وكلما أصبحت السلطة أكثر رضوخاً كلما أصبح هو أكثر تعنتاً، ألم يرَ الرئيس بعد أن الإستيطان تضاعف عدة مرّات في سنوات “أوسلو”؟ ألم يرَ أن عددالشهداء قد تضاعف ونسبة العنف وقتل وسجن الأطفال؟ ألم يرَ بعد ما يفعله المستوطنون بحماية الجيش من قتل وحرق للبشر وتدمير للممتلكات واقتلاع الأشجار؟ ألم يرَ ما يتم في القدس والأقصى والمقدسيين؟ وكما قال ذات يوم أبي نقلاً عن أحد الشعراء” إن كان لا يدري فتلك مصيبة     وإن كان يدري فالمصيبة أكبر”،  لذلك فعلى الرئيس أن ييأس من سياسات سلطته وليس من سياساتهم، لأن سياسات سلطته أضحت جزءا لا يتجزء من سياسة الإحتلال، جزء مكمل وضروري، لا تكتمل سياسة الإحتلال دونها، لذلك عليه تغيير هذه السياسة والتعامل بالمثل على الأقل ، فلو اوعز لإحتجاز “أو أغمض عينيه” مجموعة مستوطنين وطالب بإطلاق   سراح المعتقلين، سوف ترى كيف سيرضخون….

فقلت معترضاً:

ـ قل سيمزقون السلطة كلها

فقال بذات الهدوء:

ـوماذا سنخسر؟ بالعكس، هذا هو المطلوب، أن تتحول السلطة إلى سلطة مقاومة بدلاً من أن تظل مكملة لسياسات الإحتلال ومنفذة لها، وكما قال ذات يوم والدي” قال الله للقرد سأسخطك، فقال القرد مستغرباً: أكثر من ذلك؟ لقد خلقتني قرد وطيزي حمراء”.

كنت أحاول أن أقرّب المسافات، أن أطرح الأمور بشكلها الجميل، الحسن، فقلت:

ـ لا عليك … ها هو  أجل عقد المجلس الوطني نزولاً عند مطالبة الفصائل

لكن رده أعاد المسافات إلى بعدها السابق، فعدنا “يا رب كما خلقتني”….  قال:

ـ ولماذا حدده أصلاً دون استشارة الفصائل؟ إلى متى لا يريد هؤلاء الإعتراف ب”الآخر” ولماذا يكررون الأمر نفسه دائماً وأبداً؟ لماذا ما زالوا يعتقدون أن ما يحق لهم لا يحق لغيرهم ؟ وأنهم الذين يقررون وعلى الأخرين السمع والطاعة، وإن رفض الآخرون حينها يشهرون في وجوههم “سيف” الوحدة الوطنية، وكأن الوحدة الوطنية مشروطة بأن يكون القرار والمال والسلطة في أيديهم دون حسيب أو رقيب؟

افتعلت الإنشغال، سكبت له ولي فنجانين آخرين من القهوة، لأن عقلي لم يكن يستطيع تجميع كلمات قادرة على تشكيل جملة واحدة لأقذفها في وجهه، فظللت أستمع لما يقول:

ـ سيعود ياعزيزي ويقوم بذات الطريقة التي قام بها المرحوم سلفه، وسيملأ المجلس بأشباه القوى والفصائل التي لا حضور ولا تفاعل ولا جمهور ولا مؤسسات، على حساب القوى الفاعلة والرافضة لنهجه، مضيفاً إليهم مئات “المستقلين” شرط أن يكونوا من مؤيدي نهجه وجاهزين للبصم في كل الأحوال، ويتم انتخاب قيادة جديدة من نفس “الطينة” والمواصفات، لتكون النتائج بذلك محسومة وديمقراطية ومحققة للوحدة الوطنية!!!، ولا تحلم أن يشكل قيادة موحدة للفصائل ويبني وحدة وطنية بشكل جاد وحقيقي على أساس التمثيل النسبي.

صمت طويلاً على غير عادته، ارتشف من فنجان قهوته رشفة وحيدة من بين “مصّات” عدة من طرف سيجارته، وقال:

ـ أخشى ما أخشاه ما قاله ذات يوم والدي” الخْرَى خْرَى إن كان مكسي أم عْرَى”.

اسند ظهره ظهر الكنبة في صالون بيتي، نفث دخان سجائره في سماء الغرفة، وأكمل سارحاً وكأنه لا يراني:

ـ وأنت ربما لا تعرف والدي… فوالدي إنسان قديم قديم… تخاله جاء من عمق الأرض حاملاً على ظهره عبق التاريخ، وكأنه ترك جده كنعان لتوه، تراه حاملاً رأس الفلسطيني يوحنا المعمدان جاداً في البحث للثأر له، متسلحا بعكازة المسيح سائقاً أمامه بضع غنمات من غنمات محمد…..

ظل الصمت يلفني كالمشدوه، وكأنني لا أعرف صديقي الذي أمامي، وكأنه شخص آخر لا أعرفه، وخلت أن أصابه مسٌ من الجنون بعد اعتقاله الأخير، وأكمل هو قائلاً:

ـ وقد أوصاني والدي هذا ذات يوم قائلاً  “إياك أن تنام على ظيم”، ومنذ ذلك الحين بقيت أقاوم بساطير الإحتلال وأحذية الحثالات…. ألا تعتقد أن معهم كل الحق لإعتقال أمثالي؟!!!

رمى سؤاله بوجهي مثل حجر، شكرني على دعوته واستأذنني وخرج، وبقيت والصمت يتعالى داخل رأسي ويكاد يفجّره.

محمد النجار

حمّلوه عنزة ظرط….

كنت جالساً أتابع التلفاز بمرارة، حين ظهر ذلك الشخص بشكل مفاجىء ليزيد حنقي، وإنني إذ أعترف لك أن مجرد رؤيته تستفزني، وأكاد أبصق عليه من على صفحة التلفاز، كلما نطق حرفاً، إلّا أنني لم أستطع أن أكبح جماح فضولي من الإستماع إليه، فبصقت عليه في سري وأخذت أستمع لما سيقوله عن سؤال وُجه إليه يقول: لماذا لم تستقبل دول الخليج المهاجرين السوريين، بدلاً من هذا العذاب المُميت والمُكلف والمُذل سياسياً ومادياً للوصول إلى الدول الأوروبية؟ فعدّل من وضع حطة رأسه ناصعة البياض والتي تشبه رايات الإستسلام التي يستخدمها الجبناء في الحروب لينقذوا جلودهم، وقال، لا بل “بال”، لا… لا ، لم أخطىء، نعم لقد “بال” من فمه، وأنت تدرك كيف يبول المرء من فمه، فالأمر مختلف عن الذي يسكت” دهراً وينطق كفراً”، فمثل هذا المرء مرده إلى الله ليسامحه أو لا يسامحه على كفره في يوم الدين، وكذلك الأمر مختلف عن الذي يتحدث متناسياً المأثور الشعبي القائل:”إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”، وأنت تدرك الفرق بين أن يكون الكلام الذي يخرج من فم الشخص فضة أم بولاً كالذي يخرج من فم “صاحبنا”… لذلك أنا أُصرّ على أنه “بال” من فمه رافعاً “رجله” تماماً كما يبول الكلب على قارعة الطريق. وما عليك إلّا أن تحكم بعد أن تستمع لما قال.

قال:

ـ  لا… لا، الخليج مختلف، له عاداته وتقاليدة، لا… لا يستطيع، فهؤلاء المهاجرون لديهم مشاكل نفسية خطيرة. عدّل من وضع حطة رأسه من جديد وتابع بوله:

ـ لا، الخليج مُكْلِف والحياة به غالية وهم لا يستطيعون… لا….

أول ما خطر في رأسي سؤالاً إستنكارياً يقول لهذا التافه: من الذي تسبب في هجرة هؤلاء؟ أليس أكلة قلوب البشر؟ أليسوا “محتكروا” الحقيقة القابضين على”مفاتيح الجنة” كما يدّعون؟ أليست حاميتكم أمريكا؟ وبأموال مَنْ؟ أليست بأموال آل سعود التي لم تطلق يوماً طلقة على أعداء الأمة العربية، بل لم تستخدم أسلحتها وأموالها إلّا لتدمير حركات التحرر العربية والمناضلين العرب وتدمير الأوطان، بل ووظفتها لخدمة ما تطلبه الإمبريالية من أفغانستان إلى دعم الأحزاب اليمينية في بعض الدول الأوروبية كي لا تصل أحزابها الشيوعية للسلطة خلافاً لإرادة شعوب تلك الدول التي إنتخبتهم كما تم في فرنسا وإيطاليا، وكما موّلت حملة الكونتراس في نيكاراغوا كي لا يصل الساندينيون إلى السلطة، تماماً كما موّلت القاعدة وداعش في ليبيا وسوريا والعراق واليمن ومصر” والحبل على الجرّار”… ولا أستغرب أن تكون حكومة آل سعود وحلفائها هي الداعم المالي للعثماني الجديد أردوغان ليتخلص من اللاجئين الذي بنى معسكراتهم قبل أن يبدأوا حربهم الكونية على سوريا، فمن جهة يضغط على الأوروبيين الذين لم يؤيدوا المنطقة العازلة، قائلاً لهم “لا تُريدون منطقة عازلة؟ إذن تلقوا المزيد من المهاجرين”، فمن غير المعقول أن يفر هؤلاء بعشرات الآلاف في نفس اللحظة مارين في دول عدة دون دعم دولي، تماماً كما أنه لا يمكن لتنظيم مهما على شأنه وكبره وتمدده، أن يمتلك دبابات وآليات وأسلحة وأموال ومتفجرات بآلاف الأطنان وجيش بعشرات الآلاف ويحارب في أكثر من مكان، دون أن تكون خلفه دولاً، كما حال داعش والقاعدة، والغريب أنهما رغم إمتلاكهما كل ما سبق وخروجهما أحياناً عن إرادة خالقيهما، إلّا أنهما لم يُخطئا ولو مرة واحدة ولم يخرجا عن الخط الأحمر الأول المرسوم لهما بأن يُطلقا طلقة واحدة باتجاه الكيان الصهيوني، ولو حتى عن طريق الخطأ !!!، ومن جهة ثانية لتفريغ سوريا كما العراق من كنزهما البشري وخاصة أن المهاجرين هم من الشباب في أغلبيتهم الساحقة والكثيرون منهم حملة شهادات وأكاديميون، وأمور أخرى كثيرة لا تتعلق بموضوع حديثنا. لكن أكثر ما استفزني في الأمر أن هذا المتخلف، ماذا؟ نعم المتخلف رغم شهاداته التي يحملها، وهل بالضرورة أن لا يكون كل من حمل شهادة متخلفاً؟ بماذا تفسر لي أن “حارة الشيخة موزة” تحتضن أكبر تجمع للمثقفين الذين لا هم لهم سوى الترويج والتنظير والتبرير لكل ما يضرب حركة التحرر الوطني العربية؟!!! هذه الحارة التي تحكم بالمؤبد على مجرد شخص ينادي بالإنتخابات، تعتقد أن لدى ديمقراطيتها متسعاً للمثقفين لو كانوا مثقفين حقيقيين ولديهم الحد الأدنى من الوطنية أو الثورية لو لم يكونوا تابعين لقوة المال؟… أقول أن هذا التافه لا يعلم ان هؤلاء لو كان لديهم مشاكل عصبية ونفسية كما يدّعي، فهو ومن يموله السبب في ذلك، كما أن هؤلاء ربما يكونون أقل منه ومَنْ هم على شاكلته مرضاً نفسياً، وأن جدود هؤلاء مع جدود الفلسطينيين واللبنانيين هم مَنْ نقلوا الأبجدية إلى تلك الصحاري قبل أن يصلها النفط، واستشهد منهم الكثير من الأفاعي والعقارب، وأن الذباب والبعوض الذي رأوه وحاربوه لم يروا بمثله ولا بحجمه في أصقاع الأرض، نقلوا لهم الأدوية وبنوا لهم المدارس بأيديهم كما المصحات والبيوت بدل الخيام، واستخرجوا لهم المياه وأحضروا لهم الحبوب وعلموهم الزراعة، نعم، هم من علموه وعلموا أجداده الحياة، وها هم الآن لا يحصلون على تأشيرة دخول لهذه البلدان التي لولاهم لماتوا من الظمأ، لا بل كانت مكافأتهم بتدمير أوطانهم وأحلامهم. إنهم نسوا “أن من علمني حرفاً كنت له عبداً”، وفضلوا أن يكونوا عبيدا لراعي البقر الأمريكي وللبريطاني والفرنسي، ويؤمنون بالقول المأثور”… الغريب حلو”.

نسي هؤلاء شيئاً اسمه الكرم، أو إغاثة الملهوف… “الخليج مُكلف”… في الزمن العادي كنتم تتآمرون على الناس وترحلوهم بعد أن تُشاركونهم أموالهم وتسرقونهم لاحقاً باسم ” الكفيل”، أنسيتم؟ الدول تبني حضارات بالمال، وأنتم تُدمرون أوطاناً وتقتلون البشر وتدمرون الحجر وتنشرون الدعارة والبطالة والجهل، نسوا هؤلاء الجهلة أن سوريا هذه، سواء أحببت النظام أم كرهته، هي من استقبلت الشعب الفلسطيني بالأحضان والتضامن  عند مأساته ولا زالت، ولم تُفرّق بينه وبين أبنائها، والسوريون كانوا جنباً إلى جنب يقاتلون الإستعمار في كامل سوريا الكبرى، ومن هو عز الدين القسام سوى مناضلاً سورياً جاء ليستشهد في فلسطين، وأن هؤلاء السوريون هم من احتضن ما يقارب من مليوني عراقي عندما أطلق آل سعود جنونهم تدميراً وتفجيراً في العراق مع الأمريكي، وهم من احتضن نصف مليون لبناني في الحرب على لبنان، وأن هؤلاء السوريون العظام لم يفتحوا لهم معسكرات ولم يطلبوا نقوداً ممن كان السبب في مآسيهم أمثال آل سعود، ولم يتاجروا بقضيتهم لأمم متحدة أو شؤون اللاجئين، تقاسموا معهم لقمة الخبز، وواسوهم وعضّوا على جراحهم مبتسمين، وأن سوريا هذه رغم كل الإنحطاط العربي لم تتنازل عن مجرد بضعة أمتار في “جولانها” المحتل… أم ربما لأنها كذلك يُديرون عليها كل هذه الحرب الكونية؟!!!

نعم هو هذا ذات الشخص الذي كان منذ بضعة أسابيع يدافع عن تدمير اليمن، يدافع عن مجازر آل سعود فيها، ويُهدد ويتوعد شعب عظيم كالشعب اليمني لا لشيء إلّا لأنه شعب فقير بسبب آل سعود أنفسهم الذين يمنعوه من إستثمار خيراته، فهو يعوم على بحر غاز ونفط يفوق ما لدى آل سعود، يتهجم على شعب مقدام جسور كريم، تخيّل!ويتحدث عن أنه وآل سعود سينغصون على إيران والإيرانيون حياتهم من خلال دفع الأموال لإثارة الفتن بين قومياتها ومذاهبها، تخيّل إلى أين وصلت بهم الصفاقة والوقاحة والغطرسة، وهم لم يكونوا قادرين على الصمود لحظة في وجه بلد مثل العراق، ولن يستطيعوا مع سوريا، وسيتمرغ أنفهم في تراب اليمن، والآن يتطاولون على إيران!!! صحيح كما قال المأثور الشعبي” حملوه عنزة ظرط قال هاتوا الثانية”…

ـ مالك تنظر إلي مثل الأبله؟ تحرك رأسك كأعضاء برلمان عربي متخلف جاهل…

ـ فشرت… لا تقل جاهلاً، صحيح أنني لا أمتلك شهادات كشهادة صاحبك، ولا كأولئك في حارة الشيخة موزة، لكني لست مثله ولا مثلهم، وكل ما قلته أنت أعرفه رغم أنني لا أعرف أن أقوله و”أُصفط” كلماته مثلك، واستفزني صاحبك هذا أكثر مما استفزك، بدليل أنني بصقت على وجهه القبيح على شاشة التلفاز بشكل جدي وليس مثلك في سري، شيء آخر سأقوله لك ، لا تُشبّهني بأعضاء البرلمانات العرب إذا أرت أن تراني مرة أخرى في بيتك….

محمد النجار

الطحالب لا تعيش إلّا في المياه الراكدة

قال:

ـ إنها ليست أكثر من مداهمات، بعني “شوية” اعتقالات…بسيطة…

كان هادئاً، يتحدث ويشرب قليلاً من النبيذ بهدوء، ويلعن السجائر التي يمتصها حتى آخرها، ويلعن اليوم الذي تعلم به التدخين، ويتحدث كعادته بطلاقة معروفة، لا تقل عن تلك التي نراها عندما يتحدث في كثير من الأحيان على صفحات التلفاز، وإن كان يحاول جاهدا إظهار تأثره بالأحداث، خاصة بدماء الشهداء، الأمرالذي لم يبرز كثيراً في حديثه معنا في تلك الليلة.

كنا عند صديق مشترك، نتحدث ونتسامر ونشرب النبيذ، كنا نعمل في وزارات مختلفة، عدا ذلك الطبيب الذي لم يكن يعمل في وزارات السلطة، وكان قد رفض احتساء شيئاً من النبيذ، معلناً أنه لا يشرب الخمر، عندما قال له مضيفنا مازحاً:

ـ مسيحي ولا تشرب؟!! أمرك غريب يانهاد، ماذا تركت للمسلمين يارجل؟

وضحكنا، وقال هو موضحاً:

ليس للأمر علاقة بالدين، كل ما في الأمر أنني لا استسيغ الخمر ولا أحبذه…

ثم أضاف وكأنه يلوم صديقنا ويعاتبه:

ـ منذ متى تُقسّم تصرفات الناس وسلوكم حسب دياناتهم، أراك قد بدأت تتراجع عما كنت عليه، أم أنك تأثرت بالدواعش والقاعدة؟

ـ متأثر؟!!! هذا ما تبقّى… أعوذ بالله، لكن أتعلم أنك محق، الأمور تبدأ بهذا التقسيم للبشر، تقسيمهم دينيا ومذهبيا وطائفيا وجنسيا ، لقد وضعت يدك على الجرح فعلاً….

فقال رجل التلفاز ممسكاً طرف الحديث من ألسنة البقية:

ـ لا تُفلسفوا الموضوع وتنزعوا “السكرة” من رؤوسنا، اتركوه، إذا أراد الشرب فليشرب، وإن لم يشرب فالخاسر هو وحده، يعني ” على نفسها جنت…. جنت… شو اسمها…”

ـ براقش

أجاب أحد المتحولقين حول الطاولة، حين رد رجل التلفاز قائلاً:

ـ آه، براقش أو مراكش، لم تعد تفرق، المهم الفكرة وليس شيء آخر

كان يحتسي النبيذ وكأنه يشرب الماء، يسكب الخمر في فمه دفعة واحدة كأساً بعد آخر، وكأنه يسابق الزمن ليشرب أكثر ما يمكن، قال البعض لاحقا أنه أصبح كحولياً، ولا يمكنه الإستغناء عن الخمر، بل لا يستطيع الحديث دون شراب، وأنه يبدأ نهاره به وينهيه كذلك، وكلما شرب أكثر كلما ازداد حديثه وكشف أسراراً جديدة، وعندما تساءل أحدنا في اليوم التالي عن أسباب إبقائه في السلطة، أجاب مضيفنا قائلاً وحاسماً،” من منهم ليس مثله… فهو ليس أفضل منه”، هذا ممن كانوا مناضلين ذات يوم، وأنتم لم تتعرفوا غلى بعض القادة الذين كانوا عسكريين، من أبي فلان إلى أبي علان، يفرضون أنفسهم في المقاهي والمطاعم وأسواق الخضار والمحلات… شيء أقرب إلى البلطجة والخاوة، متروكون ليفعلوا ما يريدون….ويُقال أن أحدهم يداوم بشكل دائم أمام مطاعم الشواء، ليستغل هذا و”يتسلبط” على ذاك، حتى أن الناس يتهامسون مازحون، بأنه يضع مكان نياشينه العسكرية على كتفيه، سيخين وفحمة، وقوّلوه بيت شعر كان ذات يوم للمتنبي ، محورينه بطريقة كوميدية لاذعة، وبعضهم كتبه على باب محله بخط بارز، موقع بإسم أبي جلال، وهو الإسم الذي أطلقوه عليه دون علمه، يقول بيت الشعر:

“الهش والنش والكانون يعرفني                                 والشحم واللحم والسلطات والبصل”

لا أعرف من ابتدأ الحديث في موضوع “جنين”، الذي لم يكن مر على مداهمته سوى يومين اثنين، وكان جو التوتر والغضب يلف المدن كلها، والغضب على السلطة ورئيسها وقياداتها في ذروتها، حين قال رجل التلفاز:

ـ لا “توجعوا” رأسنا، “جنين …جنين …جنين…” هو الذي خلقها لم يخلق مثلها ولا غيرها؟! كفى، كل يوم تدخلوننا في مشكلة جديدة، ألا تريدون أن تفهموا أن هذه المرحلة هي مرحلة العمل السياسي، لقد إنتهت مرحلة البندقية، لنعطي المرحلة حقها…

لم يتوقع أن يناقشه أحد كمعظم المرات، كونه يحقد على الآخرين ولا يختلط بهم، لكن وعلى غير توقعه رد الطبيب بهدوئه المعتاد، رغم الإستفزاز الذي كاد يغطي وجهه كاملاً:

ـ لقد أضعتم ربع قرن من التفاوض، وماذا أثمرتم؟ لقد أخذوا منكم حتى مناطق”ا” التي أعطوكموها في أوسلو، وبدل دولتكم الموعودة، وضعتم أنفسكم وشعبكم تحت أحذية الإحتلال.

ـ ربع قرن؟!!! حتى لو نصف قرن ما الذي يزعجك أنت؟

ـ يُزعجني كل شيء، أأتيتم بشيء جيد حتى يعجبني؟ أم تعتقدون أن البلد من حقكم، كونكم “ورثتموها” عن آبائكم وأجدادكم، وربما تعتقدون أن شعبها جزءً من عبيدكم الموروث أيضاً، ثم إن كنت أنت مستفيداً وكل يوم في سهرة في تل أبيب أو في تلفزيونات السلطة أو اسرائيل فالناس ليسوا كذلك.  والأهم عندي من ذلك أن المداهمات تتضاعف يوماً بعد يوم تحت أعينكم ، فبالأمس مخيم جنين واليوم مخيم الأمعري وغداً مخيم بلاطة وبعده مخيمي الدهيشة والعرّوب، ناهيك عن القرى والمدن التي أصبحت مداهمتها بشكل يومي، وأصبحتم حتى لا تحتجون، دجنتم أنفسكم وذواتكم على رغبات الإحتلال، وتريدون ترويض شعبكم ليصبح على شاكلتكم!!!

كانت كلماته مُستفزة، ورجل التلفاز الذي يحمل على أكتافه سنوات من النضال لا يحتمل النقد بأي شكل، بل كان يرى بالنقد جزءً من الهجوم عليه، وانتقاد القيادة تمسه، لأنه يرى نفسه جزءً منها رغم أنه من قيادات الصف الثاني… سكب الكأس في فمه وقال مفتعلاً الهدوء:

ـ إن كنتُ أسهر في أي مكان فبنقودي، أو في مهام نضالية يتطلبها عملي وهذا ليس شأنك

ـ أما زلتم تعتقدون أننا أغبياء؟ صدقناكم عقود وانتهى ، ثم انني لم أعلم أن معارك التحرير انتقلت إلى مطاعم وبيوت وبارات تل أبيب.

شرب من كأس الماء الذي أمامه، وقال وكأنه يدلي بنصيحة:

ـ فكروا بماذا تفعلون، الناس لم تعد تحتملكم، والقمع لم يعد قادراً على تكميم أفواه الناس

رد رجل التلفاز في محاولة بائسة لإستحضار الماضي، فقال:

ـ نحن من أطلق الرصاصة الأولى، نحن من قاد الشعب…..

فرد عليه بصورة حاسمة:

ـ نعم أطلقتم وقدتم وكنتم، و”كان” فعل ماض ناقص لن يكتمل أبداً، عليكم أن تكونوا من جديد وإلّا اتركوا غيركم ليكون ويفعل….

ـ إفعلوا أنتم!! وهل نحن ممسكون بكم؟

ـ نعم أنتم ممسكون بكل من يريد العمل أو حتى يفكر به، أم أنكم مصدقون أن إعتقالاتكم مناضلي شعبنا هي ليتنزهوا أم لحمايتهم كما تُشيعون؟ و”مخيم جنين” هذا الذي تصدع رأسك به لم يترك حلفاءكم الجدد أن يستفردوا به، وبعد فشلكم أنتم في اعتقال المطلوبين للإحتلال، جاؤوا هم بدباباتهم، لكنهم مثلكم لم يحصدوا سو الخيبة، مخيم جنين هذا المكتظ بالمناضلين قزّم دولة الكيان كله لمدة خمسة عشر يوماً، كان القصف ينزل على رؤوس سكانه وهم قابضون على البندقية ويتصيدون الجنود، حتى دباباتهم لم تستطع السير في أزقته، فكانت تسير من بيت إلى بيت فوق البشر أحياء، وفوق جثث الشهداء والجرحى، ولم يستسلم، عض على جراحه وقاوم وصمد، ولم يستطيعوا إعادة إحتلاله إلاّ بعد إنتهاء الرصاص من مقاوميه الذين لم يملكوا سوى بنادق مُشتراة من أثمان ذهب عرس أمهاتهم ونساءهم وأخواتهم، ولم يكن عندهم ما تسمونه سلاحا ثقيلاً أو متوسطاً، فقط مجموعة من البنادق كبد بها “الجيش الذي لا يقهر “خسائر فاقت توقعاته وتوقعات قادتكم،  وها هو الآن يتصدي لأسياد سلطتكم مجدداً، فيتراجعون مستذكرين عام ألفين واثنين، تاركين لكم “شرف” إعتقال المناضلين.

سكت قليلاً وسط استغراب رجل التلفاز، الذي كان مبهوراً بهذه الجرأة التي إعتقد أنهم قد أنهوها في ربع القرن الماضي من قمعهم ومطارداتهم للمناضلين واعتقالاتهم أو تصفيات بعضهم أحياناً، وأكمل الطبيب:

ـ وكما في السابق، حيث لم يجرؤ أحد منكم بما فيه رئيس سلطتكم  السابق على زيارة المخيم والتضامن معه، لم يجرؤ كذلك رئيس سلطتكم الجديد لزيارة المخيم، من يدري فربما رفضوا إعطاءهما تصريحاً للقيام بذلك، كي لا أقول لم يتملكا الجرأة. بل ربما يقايضون على المخيم هذه المرة كما قايضوا على مناضلي كنيسة المهد في مدينة بيت لحم وتم نفيهم لخارج البلاد مقابل رفع الحصار عن رئيس السلطة السابق، أو كما قايضتم على موقفكم من مخيم اليرموك وتراجعتم بعد أن أغراكم بأموالهم آل سعود!!!.، أو كما قايضتم وبعتم رئاسة الجامعة العربية لمشيخة قطر لتتخذ ما تتخذ من إجراءات لتدمير سوريا، مشكلة قيادتكم ياعزيزي أنها تؤمن أن كل شيء قابل للبيع، مادام هناك من يشتري!!! وإن “تدلل” المشتري لا يتراجعون عن قرار البيع، بل يُنزلون بالسعر، المهم أن تنفذ بضاعتهم ولا يعودوا بها خائبين، لكن المعروض الآن هو الوطن، أتفهم؟ الوطن بترابه وسمائه وزيتونه وصخره وشهدائه وجرحاه وأسراه، بهوائه وتراثه وتاريخه وعاداته وتقاليدة، أتفهمون ذلك، إنكم تعملون على اقتلاع التاريخ والجغرافيا أيضاً، الأمر الذي نادراً ما حدث في التاريخ.

كان رجل التلفاز ما زال يشرب المزيد من النبيذ، وقد بدأ يكتسب وجهه اللون الأبيض الشمعي، وكأنه ما زال غير قادر على تصديق ما تسمع أذنيه، في الوقت الذي تابع الدكتور حديثه مُصعداً أكثر وأكثر، قائلاً:

ـ وأخطر ما تقومون به تشويه العقول وتسميمها، إبتدأتموها بالتطبيع، ثم بتعريفكم للمخيم بأنه تجمع سكاني كثيف في بقعة جغرافية صغيرة، وها أنتم تتحفونا وتبشرونا بأن “ثورتنا مش إرهابية، وازرع ليمون ازرع تفاح… ثورتنا سلمية من غير سلاح”، من خلال أغان تافهة من المفروض أن تكون أغانٍ وطنية محرضة على الثورة وعلى مواجهة الإحتلال،  إلى أين تأخذوننا ؟ أتريدون سياقتنا مثل قطيع؟ ومن يدري ربما إن زرعنا برقوق مثلاً أن نعفيكم من كلمة “ثورة” من الأساس، ونمهد لكم الطريق لتستمروا في خياركم البائس….

كان رجل التلفاز ما يزال يستمع، ويبدو انه أقنع نفسه أن “قلة الرد رد” على مثل هؤلاء، وأن من الأفضل أن لا يدخل بحوار قد يُخرجه عن طوره، ويعود ليندم على ذلك، فاستل “سيجارة” من علبة سجائره، أشعلها وظل يستمع، حين قال أحد زملائي العاملين في الوزارة نفسها، محاولاً تخفيف الأمر عن رجل التلفاز:

ـ إن القيادة مشغولة الآن لترتيب البيت الفلسطيني، نرجو أن يهديهم الله ويقومون بتعديل ما يجب تعديله….           يبدو أن الكلام لم يخلق أي أمل عند الطبيب الذي فقد كل الثقة بالقيادة مثل الكثيرين، وكما علمت لاحقاً من قريبه الذي أحضره معه في سهرتنا تلك أنه كان خارجاً لتوه من سجون السلطة، بسبب “أفكاره الهدامة والمحرضة”، فكما قالوا له” بإمكانك أن تُشكل الرأي الذي تريد، ولك كامل الحرية، لن يمنعك أحد من ذلك، هذا حق يكفله لك القانون، لكن ليس من حقك نشره وتحريض الآخرين ليقتنعوا به، يعني رأيك يظل لك، ملكك، لنفسك ولا لأي أحد آخر” …

فرد الطبيب قائلاً:

ـ نعم … ترتيب البيت الفلسطين ليظل خانعاً مُهانا، مثل هذه القيادة ياعزيزي لا تستطيع العيش في جو صحي، لذلك فالمطلوب تدجين المنظمة بشكل كامل، لذلك ستبقى المنظمة ومؤسساتها وقيادتها بنفس السوء ونفس الأمراض إن لم تزد أكثر، فمنظمة فقط بهذه المواصفات تكون قادرة أن تستوعب مثل هذه القيادة، فالطحالب يا عزيزي لا يمكن أن تعيش سوى في المياه الراكدة.

فقال رجل التلفاز مستفَزاً، وكأنه يريد رمي الكرة في مكان آخر:

ـ إن لم تُعجبك هذه القيادة إذهب إلى قيادة حماس!!!

وضحك، لكن الطبيب ظل على جديته، وقال:

ـ لولا ديانتي التي عرفتها لتوك لاتهمتني بأنني من حماس، انتم وقيادة حماس ولا أقول “قساموها” تتشاهبهون حد التطابق، ولإن استمروا بما هم سائرون عليه سيصلون إلى حيث وصلتم، إلى “المستنقع”، فخلافكم معهم أنكم تريدون احتكار الإستسلام وتعميمه وتعميقه، وجر الشعب كله بتضحياته كلها إلى مزبلة التاريخ، والأمر بالنسبة لي بسيط جداً، اذهبوا هانئين غانمين إلى هناك، لكن أتركوا شعبنا ليكمل مسيرته كما يشاء وبالطريقة التي يريد، ولا تحاولوا جرّه معكم مرة بالخداع وأخرى بالقمع.

كان كلامه قاطعاً كحد السيف، ورجل التلفاز الذي أخذت يداه بالإرتجاف، يحاول تغطيتها بتركه لسيجارته لتأكل نفسها في منفضة على الطاولة، وبتركه لكأسه ربع ممتلئ بجانب المنفضة وكأنه شاهداً على ما يدور من حديث.

نظر الطبيب في ساعة يده، استأذن وخرج معتذراً عن الإزعاج الذي سببه، لكنه بصراحة أثلج صدري، كوني لا أستطيع البوح بما في صدري مثله، كي لا يتم فصلي من عملي من الوزارة التي أعمل بها، وأجد نفسي في غياهب سجونهم، تاركاً خلفي طفلين وأمهم….

محمد النجار