جلس مقابلي تماماً، أو بالأصح القول أنني أنا من جلست في مقابلة، كعادتي دائماً عندما نلتقي في مناسبات متباعدة، كي يسهل عليّ إستفزازه بأسئلتي وتعليقاتي، ولعلي لا أعرف السبب لذلك تماماً، ورغم كوننا على طرفي نقيض سياساً، لكنه ليس السبب في موقفي هذا، ولا أدري بالضبط لماذا، رغم كوني أعتقد أن للأمر جذور قديمة تمتد إلى الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، الأمر الذي لا أبوح به لأحد سوى نفسي، وبشكل خجول أيضاً، ربما كون الأمر طالما جعلني أبدو صغيراً أمامه، فأرفع الصوت كي أغطي على ما تم آنذاك، رغم أنه ومنذ ذلك اليوم الذي مر عليه ما يقرب من ثلاثة عقود، إلّا أنه لم يراجعني به يوماً، ولم أسمع منه همس أو ثرثر به لأي كان، ورغم ذلك فأنا ما زلت أحاول استفزازه في محاولة غبية ـ ربما ـ للتغطية على ما تم.
كان قد مر على الإنتفاضة الأولى أحد عشر شهراً عندما صدر بياننا الأول لتأسيس حركتنا الإسلامية السياسية، وكان يجب حينها فرض برامجنا ورؤيتنا بأي ثمن، في غزة وفي مدن الضفة الفلسطينية، التي كانت لفصائل منظمة التحرير فيها اليد الطولى، ولليسار جذوره العريقة الممتدة عميقاً في صخور الأرض وأتربتها، وكانت التعليمات لنا واضحة بأن نفرض الحجاب على الفتيات والنساء في المدن والأرياف والمخيمات، ورغم عدم فهمي للعلاقة بين الإنتفاضة والحجابـ، إلّا أنني أخضع داخل الحركة لقانون “نفّذ ولا تناقش”، فكان يجب التنفيذ بالنسبة لي في مدينة رام الله حيث ننتمي إلى قضائها، فكان علينا البدء بالمساجد، بتحريض الأزواج والأخوة للحفاظ على “شرفهم”من خلال تحجيب زوجاتهم وأخواتهم وبناتهم، وبالندوات في النوادي وأينما كان ممكناً، وإن استعصى الأمر علينا، فيجب منعهن بالقوة وإجبارهن على ذلك. على قاعدة “من رأى منكم منكراً فليغيره….. بيده”، على أن لا يرانا أحد، والتنفيذ الذي يطبق حدود الله وشريعته على الأرض، يفرض حضورنا ووجودنا على الساحة الفلسطينية، وسلمونا بعض النقود لنشتري البيض والطماطم .
وفعلاً بدأنا بفرض “شريعة الله” على النساء حاسرات الرؤوس، واللواتي تمتلئ بهن المدينة. وكنت ضمن الأشخاص الذين يطبقون شريعة الله، حيث أخذنا نتوجه يومياً إلى مركز المدينة ، نختبئ بين البحر البشري الذي يغطي مركز المدينة، خاصة في ساعات ما قبل الإغلاق اليومي للمحلات التجارية، حيث يبدأ الإضراب التجاري في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً ويستمر حتى صباح اليوم التالي، وكنا نبدأ بقذف البيض والطماطم على رؤوس النساء الحاسرة، ونختفي كأن ليس لنا بالأمر علاقة، وكن الكثير من النساء والفتيات المنتشرات هن من نشيطات الفصائل الفلسطينية، خرجن لفعاليات أو نشاطات إنتفاضية مختلفة، ونحن كشباب كنا حينها لا نفرق بين نشيطة أو غير نشيطة، بالنسبة لنا كل حاسرة يجب “رجمها” بالبيض الفاسد والطماطم، وبقينا نكرر الأمر بشكل يومي ونمضي، ولم نكن نعرف الكثير عن مدينة رام الله سوى أنها مثلهن جميعاً، تستحق الرجم، فهذه المدينة المُستفزَّة، العاشقة، المتكبرة ، المختالة، التي تزداد جمالً وشباباً وورود، كلما ازدادت كبرا وتعمقاً في دهاليز الزمن وعمق التاريخ، تلك المدينة الساحرة الفاسقة الحاسرة المرتدة، كنا نشعر أن المدينة نفسها تتربص بنا وليس الناس فقط.
ومرت أيام وأيام، ولم نكن نعلم أن الآخرين بدأوا هم أيضا في البحث عمّن يقومون بهذا الأمر، وعيون شبابهم تبحث في كل اتجاه، وبعضهم كان يتخفى في زي الباعة في المحلات والعربات، وما هي إلّا لحظات وكان العديد منا تحت قبضاتهم، وانهالوا علينا بالضرب المبرح، وأخذوا بعضنا ليحققوا معهم، من الذي دفعهم ليفعلوا ذلك، ودور الإحتلال في هذا الأمر، وكان لعناصر اليسار الفلسطيني، الدور الأكبر في هذا الأمر كله.
ولا أدري لحسن حظي أم لسوئه، وقعت أنا بين يديه، فأمسكني من أذني رغم أنه من جيلي، وكان زميلي قبل سنوات في المدرسة والفصل، شدني بقوة، حتى صارت أذني بجانب فمه، وقال هامساً” ما الذي تفعله؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟ كبف استطعت أن تفعل ذلك؟”، وقال وما زال يمسك أذني، ولف رأسي من خلال قبضه على أذني ليُريني إمراة ما زال يسيل البيض الفاسد من شعرها الأجعد على وجهها وملابسها، وتبكي غيظا بصمت متفجر خانق، تحاول مسح البيض الفاسد ذو الرائحة القاتلة فتزداد اتساخاً،وعاد ليسألني” أكنت ترضى هذا لأمك أو لأختك؟”، أتعرف أن الناس أصبحوا يظنون أنهن مرتبطات مع الإحتلال ولذلك يُضربن بالبيض والطماطم؟!!! أليس لديك ضمير لتخافه إن كنت لا تخاف الله؟!!!
وفي تلك اللحظة بالذات جاء ثلاثة من الشباب نحونا سائلينه:
ـ “أهذا من هؤلاء السفلة؟”
كان شرراً يتناثر من عيونهم، ولا أدري متى تراخت أصابعه من القبض على أذني، وقال على غير توقعي:
ـ ” لا… إنه إبن قريتي، لا ليس منهم”
وكان من الواضح أنهم يعرفونه ويحترمونه ويثقون به، ورغم نظرات الإرتياب التي تركوها تسيل كالمخاط فوق وجهي، فقد تركونا وانصرفوا، وأخذني هو إلى محطة الباصات وقال: ـ ” أرجوا أن لا أراك هنا أبداً، إلى القرية فوراً”.
وانصرفت، وصرت أتحاشى أن تلتقي عيوننا، وبعد مرور الزمن صرنا نلتقي في المناسبات المتعددة المختلفة، فنحن أبناء قرية واحدة، ولا بد من أن نلتقي في أي مناسبة… وصرت أهرب للأمام كما يقول جماعته اليساريون، فأحاول التعليق عليه، استفزازه بأسئلتي المختلفة، وكأنني أريد أن أغطي على ذاك الحدث، رغم أنه لم يحاول ولا حتى مرة واحدة أن يعيد ذلك التاريخ ويفرده أمامي ليذكرني بتفاهتي تلك.
أنهينا “مهمتنا”، حيث طلبنا “سميرة”إبنة أبي زكي إلى عاهد ابن أبي محمد، وشربنا قهوتنا، على وقع كلمات أبو زكي:
ـ ” اشربوا قهوتكم يا جماعة، الله يجيب اللي فيه الخير، الأمر يشرفنا أيضاً، ولن نجد لإبنتنا بأخلاق إبنكم الكريمة، لكننا لا بد أن نأخذ رأي البنت فالأمر يخصها أولاً وأخيراً”.
وجلسنا نتحدث ونتسامر، ووجدت نفسي قبل ذلك أحاول الدفاع عن بعض أفعالي، أمام إستهزاء الكهول قبل الشباب، فقال أبو زكي بين الجد والمزاح:
ـ أرجوك يا أبا مصطفى، لا تبدأ بقراءة “عبس وتولى” كما فعلت في عرس علي قبل أسابيع، فالله خلق الأعراس للفرح، فالعرس ليس ميتماً لتقرأ لنا به القرآن…دعنا نفرح قليلا وسط هذا الزحام من الألم والدم
وقال الحاج أبو خليل من بعيد ضاحكاً:
ـ “عبس وتولى” يارجل؟ ألم تجد في القرآن كله غير “عبس وتولى”؟ ألا تخاف ربك؟ ثم من أين هذه”الموضة” الجديدة؟ قرآن في الأفراح؟!!!
وسكتنا، ووجدته قبالتي يبتسم، واستفزتني ابتسامته أكثر من ضحكاتهم وقهقهاتهم جميعاً، ووجدتني أقول في طريقة أقرب إلى الإستعراض منها إلى الحديث، وكأن “السعوديين من بقية أهلي”:
ـ لقد فعلتها المملكة… ياسلام!… انتخابات بلدية وتنتخب وتترشح المرأة!!!
لكن الذي أجابني وفاجأني لم يكن سوى الحاج أبو أحمد وليس “غريمي”خالد، فقال:
ـ لا حظ أنك لا تتحدث سوى عن إنتخاب بلدية وليس عن انتخاب حكومة ولا برلمان!!! وأعتقد أن ما يجب أن يثير إستغرابنا، لا كيف شاركت المرأة في انتخابات بلدية لأول مرة في تاريخ المملكة، بل كيف يُحرم الرجال من الترشح أو الإنتخاب في هذا العصر، وفي مجتمع ذكوري كمجتمع المملكة؟!!!
فقلت في محاولة الإلتفاف على نفسي:
ـ إنها البداية… وربما شرُعوا الإنتخابات في قادم السنوات…
فقال الأستاذ حسن، مدرس اللغة العربية في مدرسة القرية:
ـ عشمك بهم مثل”عشم ابليس في الجنة”
رأيت نفسي في مواجهة تتزايد مع معظم الحاضرين، فقلت في محاولة لتعديل الأمر:
ـ يا جماعة إنهم يقودون المعارضة السورية كلها، ألم تسمعوا الجبير كيف يقول بكل الثقة أن الرئيس السوري سيغادر بالسياسة أو بالحرب؟!!!
فقال الأستاذ حسن نفسه شعراً هذه المرة:
ـ زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربعُ
حين قال أبو عمر من طرف الصالون:
ـ والله يا أخي جماعتك حيرتنا، مرة لا علاقة لكم بما يحدث في سوريا، ومرات تصطفون مع من يحارب سوريا، لا تريدون أن تدخلوا أي “محور”، وتكونون في كل المحاور، من أول “حارة” الشيخة موزة و لمملكة آل سعود وللأتراك!!! أنتم مع من بالضبط؟
ابتدأ المجتمعون بالتهامس حين قال زكي، أخو العروسة ما بين المزاح والجدية: ـ مع من يدفع أكثر ، وهل هذه تحتاج الى كثير من الذكاء!!!
فقلت من بين ضحكات الجميع التي لم تؤثر بي جميعها قدر ابتساماته الشامتة، رغم أنه لم بقل أي كلمة حتى هذ اللحظة:
ـ أقصد يا جماعة أن المملكة أصبحت تشكل محوراً أساسياً في المنطقة، ألم ترو محورها ضد الإرهاب؟ أربع وثلاثون دولة والحبل على الجرار….
الغريب في الأمر أن الناس كانت تنتظر أقواله هو، رغم كونه لم يُنهِ سوى الصف العاشر فقط، حيث ترك المدرسة والتحق بصفوف العمال ليعيل أسرته بعد حادثة موت أبيه، أكثر من أقوالي أنا الذي أنهيت “البكالوريوس” في علوم الشريعة والفقه، وكأنه لا ينطق عن الهوى، أو كأن أقواله منزلة من السماء، وظل هو على صمته، عندما قال الشاب النابه عزمي:
ـ وبأي جيشٍ سيحارب آل سعود الإرهاب؟ بجيش “البلاك ووتر”أم بالجيش السوداني أم السنغالي؟ ظني أنهم سيحاربون بجيش ملك آل سعود وولده، ذلك الجيش الذي أثبت في حربه على الشعب اليمني، وبكل جدارة “أنهم في الهريبة كالغزال”، فتحولت “عاصفة الحزم” إلى وبال على آل سعود وجيشهم ومرتزقتهم. وقال الطفل حازم ابن أبو عدنان الذي حضر ضمن الوفد برفقة أبيه:
ـ بابا …بابا، رئيسنا والسلطه يريدون محاربة الإرهاب معهم…
كانت الحاجة”مرثة” قد أخذت لها مكاناً مع الحاجة وطفة، في صدر الغرفة، جلسن بجانبه وكأنهن يردن الدفاع عنه من عدو محتمل، وبعد أن أشعلت الحاجة مرثة سيجارتها كالعادة، ونفثت دخانها في صدر الغرفة دون أن تبتلع شيئاً منه، قالت بكلماتها السليطة متوجهة بالحديث إليّ، عندما رأت ضحكاتي تتعالى على كلمات الصبي:
ـ وعلى ماذا “تتصهون” وفاتح فمك الذي يتسع لدجاجة بريشها، وهل أنتم أحسن؟ الرئيس وافق وأنتم لم تعترضون!!! خائفون على أن تحرموا من المال؟، متى ستتعلمون أن هؤلاء ـ وأشارت بيدها وكأنها تريني الملك وحاشيته ـ يؤمنون بأن “مَنْ دِيَّتَه مالاً أقتله”، وسوف يقتلونكم في الوقت المناسب كما قتلوا السلطة التي تستهزء بها ولست بأفضل منها.
وسرعان ما أنقذتني الحاجة وطفة من لسانها عندما قالت متحدثة عن السلطة ورئيسها:
ـ وجماعتنا لا يجدون ما يشغلهم؟! ها هو الإرهاب عندنا لماذا لا يحاربونه؟ بل إنهم يقولون عن صواريخ المقاومة… ما هذه الكلمة يابني ياخالد، فقال لها مجيباً:
ـ عبثية ياحاجة، صواريخ عبثية….
لكن الحاجة وطفة لم تعرف كيف تقول الكلمة، فقالت:
ـ آه يابني… الكلمة التي قلتها أنت
فقال أبو زكي متهكماً:
ـ ياعمي رئيسنا رجل مُطيع، مجرد “تلفون” من الأمير وأعطى الموافقة
فقال أبو خليل بعد أن أكمل لف سيجارة الهيشي وأشعلها وسحب أول سحبة منها مع جرعة من كأس شايه، وعلى دون توقع بعد أن أقسم كعادته:
ـ لا والله لم “يُحصِّل” الرئيس حتى المكالمة، بل هزة من “خنصر” الأمير، ياعمي متى يفهم هؤلاء، أنك “إن كنت رخيصاً لن تجد من يشتريك بالغالي”
فردّ عليه أبو هاني متهكما :
ـ لا ياأبا خليل، والله أنا لمّا سمعت بتشكيلهم حلفاً إسلامياً ضد الإرهاب “إرتحت واطمأن قلبي”، وقلت في نفسي “لقد تذكروا الآن وبعد ما يقرب من سبعين عاماً أن لدينا بلداً تفود الإرهاب في العالم، ربما تذكروها بعد أن رأوا على شاشات التلفاز كيف يترك هذا الكيان شبابنا ينزف حتى الموت، مانعين عنهم سيارات الإسعاف، في الوقت الذي يسارعون فيه لإسعاف مقاتلي داعش والنصرة في مشافيهم!!!
فقال زكي مجدداً مصححاً ما قاله أبو هاني:
ـ لا يا أبا هاني إنهم لم يتذكروا بعد، كما أنه ممنوع عليهم التذكر، لقد فقدوا الذاكرة بما يخص قضيتنا، أو بالأصح ربما كنا نحن الإرهابيين الذين يجب محاربتهم!!!
فقال زكي متهكماً مجدداً:
ـ طبعاً وهل هناك إرهابيون غيرنا وغير المقاومة اللبنانية؟!!!
وأكثر ما غاظني أن الجميع سكتوا وأخذوا ينصتون عندما بدأ الحديث، وكأنهم لا يريدون أن تفوتهم كلمة من كلماته، وأخذ مقود الحديث في فمه، وقال:
ـ إن آل سعود هؤلاء “لا ينطقون عن الهوى”، بل عن سيدهم الأمريكي ، لا يخرجون عن طوعه، ولا يخلفون رأياً إلّا بتوجيهاته، فمن يريد محاربة الإرهاب يوقف الدعوة لللإرهاب أولاً، فمحمد بن عبد الوهاب وفكره التفكيري هو حليفهم، وأفكاره ما تزال تُروَّّج عندهم وبتوجيهاتهم، نعم من آل سعود أنفسهم، والمملكة هي الحاضنة والداعية والناشرة لهذه الأفكار، والأمر كما تعلمون ليس له علاقة بالمذاهب والطوائف والأديان، فبالأمس القريب كانت تتحالف مع شاه إيران لتسويق “حلف بغداد” الإستعماري ولضرب ثورة عبد الناصر، وظلت بنفس الحلف لضرب قوى الثورة العربية في العالم العربي والخليج، واليوم مع الإستعمار لضرب إيران التي تدعم قوى الثورة !! هل كانت إيران بالأمس سنية واليوم أصبحت شيعية؟!!! أم أن هذا الشعار للضحك على “لحانا”؟، بل كي نبدأ حرب أمريكا بأيدينا نحن وبدماء أبنائنا كما يتم في سوريا والعراق، ولو كان ما يقولونه صحيحاً، ماذا عن ليبيا ومصر وتونس وقبل الجميع الجزائر؟ أين الشيعة في تلك البلدان؟ لماذا دمروا ليبيا إذن ويريدون تدمير مصر؟ وما داموا حريصون على مقاومة الإرهاب، لماذا تركوا القاعدة وداعش تتمدد في حضرموت وعدن ومدن الجنوب اليمني؟ يعني في المكان الذي هم موجودون فيه، ولم يُطلق عليهم آل سعود ولا طلقة واحدة!!! كي لا أقول أنهم هم آل سعود وحارة الشيخة موزة والعثمانيون الجدد من نقلهم بطائراتهم إلى اليمن بقرار أمريكي، أم أن دولة في حلف الناتو تقوم بمبادرات عسكرية دون اسشارة قيادة حلفها؟ فما بالكم بدول تابعة لم ترقَ إلى مستوى أن تكون في حلف تقوده أمريكا؟ فحجارة الشطرنج تُحَرَّك ولا تُسْتشار.
سكت قليلاً وارتشف شيئاً من كاسة شايه، وسط صمت الجميع واستماعهم، وأكمل من جديد:
ـ لقد قرأت عن مواطن من بلاد الحجاز، إسمه”رائف بدوي”، حائز على جائزة “سخاروف لحرية الفكر”، نفس الأمر الذي حاز جائزته عليه،حاكمه آل سعود بعشر سنوات من السجن وألف جلدة في، هؤلاء الذين يبشروننا “بديمقراطيتهم” في سوريا واليمن والعراق، تخيلوا أناساً يتم جلدهم بأهازيج دينية وعلى مرأى من الجميع وخمسين جلدة عند كل صلاة جمعة؟!!!، وفي القرن الواحد والعشرين!!!، كما حكموا على الشاعر الفلسطيني بالإعدام على كتاب شعر نشره!!! كما الإعدام على الفتيان وعلى الشيوخ لأن لديهم أفكاراً وآراءاً أخرى غير ما لدى آل سعود!!! الأمرالذي يدلل على أن من يحارب الكلمة أو الفكرة أو الرأي الآخر، ويستخف بهذا الشكل بحيوات الناس كما يفعل ضد شعبه أم في اليمن أو سوريا، لا يمكن أن يكون مؤهلاً لمحاربة الإرهاب.
فقالت الحاجة مرثة بصوت عال:
ـ صدقت والله يابني، سلم الله فمك…
وقال أبو خليل وسيجارة “الهيشي” معلقة بين شفتيه:
ـ ليس سوى تحالفاً زائفاً، كله “ظراط ع البلاط” بلا مؤاخذة
فقال أبو زكي سائلاً:
ـ إذن لماذا كل القصص والأخبار عن تحالف آل سعود هذا؟ لم تظل مجلة أو جريدة أو راديو ولا محطة تلفاز “لا تُطبل أو تزمر” لهذا التحالف؟
فقال أبو خليل مجيباً:
ـ يبدو أن “الجنازة حامية والميت كلب” يا أبا زكي
فأكدت الحاجة وطفة من مكانها ضاحكة، فاتحة فاها مظهرة فماً تساقطت معظم أسنانه منذ زمن بعيد قائلة:
ـ صدقت يا أبا خليل، فعلاً” الجنازة حامية والميت كلب”، سلم الله فمك.
وكما هي العادة، خرج منتصراً هذه المرة أيضاً، لكنه على غير عادته، وضع يده على كتفي حين غادرنا منزل أبا زكي، وقال:
ـ هؤلاء الحثالات دمروا البشر والحجر ، ارتكبوا المجازر بحق فقراء اليمن وحضارتهم، قصفوا المدارس والمشافي والمدارس والزرع والضرع، قتلّوا ويتّموا ودمّروا، ورغم ترسانتهم العسكرية وتحالفهم غير المقدس مع أمريكا وإسرائيل، إلّا أنهم هُزموا من حُفاة اليمن، لأن الشعب اليمني شعب يدافع عن كرامته وعزته أمام حكام ومرتزقة وبلدان تفتقد للعزة والكرامة.
وامام سكوتي وعدم تعليقي على الأمر، قال منتقلاً بعيداً في الماضي السحيق:
ـ قاتل الله السياسة، أتعلم أنني أحن كثيراً الى سنوات الدراسة، حين كنا نتزاحم على المقعد الأول في الفصل!!! كأن الأمر قد تم بالأمس القريب….
ومشينا … مشينا بين الحقول… بين أشجار الزيتون… ومن طرف السماء البعيد انطلقت بضع شعاعات برق أضاءت لنا الطريق، وابتدأت حبات المطر تتساقط على رؤوسنا وعلى كل الأشياء، وكما كنا نفعل عندما كنا صغاراً، توجهنا إلى شجرة تين عملاقة، واقفة على طرف الطريق لنستظل ببقايا ما ظلت تحمله من أوراق، مختبئين من حبات المطر، ورغم كوننا وحدنا لم يذكر شيئاً عن تلك الحادثة أبداً….
محمد النجار