لقد إخترع العرب الإسطرلاب…

كنا، نحن معشر الشيوخ، عندما نراه قادماً وقد بدأ يبتسم، ندرك أن لديه شيئاً يريد قوله لنا، لتأخذ سهرتنا الريفية طابعاً مختلفاً، طابع تفاؤل الأطفال وآمال الشباب، فالهم كبير واسع يملأ المكان كله، لذا كلما كان يصطاد أحدنا ضحكة يضحك من أعماقه، وتزداد الضحكات من عمق الآلام ورغماً عنها، ونتهيأ لنسمع “اسطوانة” أبي فهمي الدائمة الجاهزة لمثل هذه الحالات:

ـ على ماذا تضحكون؟ أتضحكون على خيبتكم؟!!! ألم تتعلموا بعد “أن الضحك بلا سبب قلة أدب”؟

وتستمر ضحكاتنا دون أن نعير كلماته إنتباهاً يُذكر، “قابرين” جملته بين صدى ضحكاتنا، متخلصين من واجب المجاملة ومن صدق كلماته في آن …

جاء، من بعيد، رافعاً ابتسامته مثل علم، وكلما اقترب منا اتسعت ابتسامته لتتحول إلى ضحكة دون أن يقول كلمة واحدة، وكنا نحن بدورنا نبدأ بالإبتسام، وكلما أعلنت ابتسامته أكثر، عن نفسها، كلما أحدثت ابنتساماتنا ضجيجاً عالياً مسموعاً، متساوقاً أو متآمراً مع مشروع ضحكته الفاجرة.

كان أصغر من جيلنا بعقد واحد أو يزيد قليلاً، لكنه دخل، لا يدري أحد كيف أو متى، تحت جلودنا، وصار واحداً منا في أول الأمر، ثم صرنا نفتقد غيابه لاحقاً، دون أن يؤثر على تجمعنا الليلي أمام دكان أبي صابر، وسرعان ما تحول وجوده إلى ضرورة، إلى لازمة، لا تستقيم جلساتنا دونها، أصبح حضوره كملح الطعام، لا تستقيم جلساتنا دونها، وصار بعضنا يغادر إن لم يره بيننا، وكنّا أحياناً نستعجل حضوره بإرسالنا أحد أولادنا لإستعجاله، قائلاً له:

ـ أبي يريدك في موضوع مهم ياعمي أبو خالد… بسرعة إن تكرمت…

كي لا نترك له مجالاً للتفلت أو التأخير، ثم صرنا نقول له، أننا نفعل ذلك لنخلصه من كلمات زوجته التي تنزل على رأسه مثل السّوت، فيضحك ويقول:

ـ “ضرب الحبيب كأكل الزبيب”… علي شكركم على حرصكم عليّ … ما شاء الله عليكم، “محمليني جميلتكم أيضاً!!!

قال من بعيد هذه المرة، على غير عادته، بعد أن لوّح بيده في السماء، وكأنه زعيم سياسي يلقي خطاباً:

ـ و”قد إخترع العرب الإسطرلاب”… أإخترعه العرب أم لم يخترعوه، ما هم عليه العرب الآن؟… إنهم لم يتعلموا بعد أن “أصل الفتى ما قد فعل”…

وأعاد ضاحكاً كعادته:

ـ قال “إخترعوا الإسطرلاب” قال!!!

قلت دون أن أُغلق فمي أمام ضحكتي المتدفقة من بين أسناني:

ـ نعم، “إنما الفتى من قال ها أنا ذا”، لكن ما الذي استحضر هذا الأمر على بالك اليوم؟ أفي كل يوم لك “نهفة” جديدة؟!!

فقال الشيخ سالم وهو يُمسّد لحيته وبلغته الفصحى كعادة الشيوخ:

ـ قاتلك الله يارجل، كيف تستحضر هذه الأمور؟

قال وقد توقفت ضحكته على باب فمه، وكأنه ثبتها بيده:

ـ والله يا شيخ عندما أنظر لهذا الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، أكاد أنفجر غيظاً، لكن كما تعلمون “ليس باليد حيلة”.

قال الحاج أبو عماد معلقاً كعادته، الأمر الذي جعل أترابه يلقبونه بأبي عماد السياسي، كونه يعلق على كل خبر سياسي يسمعه، وربما لأنه ما زال من جماعة سلطة “أوسلو”، ويستفيد من خيراتها كما يؤكد أبو فهمي بين وقت وآخر:

ـ فعلاً صار الأمر يُفقد المرء عقله، أنظروا آخر خبر، مفتي المملكة السعودية لا يكفر المسيحيين فقط، بل يُكفر الشيعة أيضاً…

فرد أبو صابر صاحب الدكان الذي نجلس أمامه قائلاً:

ـ وما الغريب في الأمر؟!!! هؤلاء يُكفرون كل من خالفهم، ليس فقط في الأمور الكبيرة، بل وفي أبسط الأمور أيضاً، إنهم يدعون لقتل الذي يسهى عن إقامة أحد الصلوات سهواً وليس عمداً…فماذا يمكن أن تنتظر منهم؟!!!

فرد أبو علي قائلاً:

ـ لكنهم يفعلون السبعة وذمتها أينما حلّوا، ألم يطرد المتظاهرون الفرنسيون الملك وابنه والحاشية كلها من فرنسا قبل شهور؟!!!

لكن أبو محمد الذي يشعر الجميع بتوتره عندما يسمع بمملكة آل سعود، والتي يسميها ب”مملكة الذل والعهر”، قال ماداً يده بإستغراب وغضب:

ـ اتركوا المفتي وشأنه، فهو مجرد ببغاء، يردد ما يطلبون منه، وانظروا ل”غلام” ملوكهم وأمرائهم، الغلام الجبير، قائلاً “أن الأسد كالمغناطيس يجلب الإرهابيين”!!! يعني آل سعود مساكين، إنهم مظلومون، لا دخل لهم في دعم أو تمويل، ولا دخل لأمريكا بتسليح، وقصف الطيران الصهيوني للجيش السوري وعلاجه جرحى الإرهابيين ليس إلّا أكاذيب!!! مادام غلام صار سيحدد مصائر الرؤساء فقد هزلت والله يا جماعة… أسمعتم ؟ هزلت…

عاد أبو عماد “السياسي” للإمساك بخيط الحوار قائلاً:

ـ ماذا تريدون أكثر من أن المنهاج المصري الذي يدرسونه للأطفال، صار يعتبر القدس عاصمة إسرائيل!!! حتى أمريكا ومعظم دول الغرب والعالم لا تعترف بذلك!!! أما العرب فالكرم من أخلاقهم، يتبرعون بما لنا للصهاينة…

فقال أبو خالد وقد بدأ يبتسم من جديد:

ـ لا والله يا “سياسي”، هذه عليك وليست لك، من الذي جعل الحكام العرب يتجرؤون على مثل ذلك؟ أليست قيادتك؟ يعني بصراحة “عاقل يتكلم ومجنون يستمع” كما يقول المثل الشعبي، القيادة تنازلت ، لا تؤاخذني، حتى عن “كلاسين” نسائها، وتلوم الأنظمة؟ لوم قيادتك أولاً…

وضحك أبو خالد بحزن، حين رد الحاج أبو عماد “السياسي” قائلاً:

ـ والله هذه السلطة مليئة بالمناضلين، لو دققتم قليلاً في الأمر لما قلتم عنهم ما قلتموه منذ لحظات…

قال أبو صابر متهكماً، أثناء ذهابه لزبون دخل دكانه:

ـ صدقت والله يا “سياسي”، فها هم حازوا على موافقة الصهاينة ليجمعوا منا فواتير الكهرباء، “إتفاقية تاريخية” كما قالوا، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟

سألت أنا كالأبله، دون أن أميز الإستهزاء بين الكلمات:

ـ وما التاريخي في جمع فواتير الكهرباء؟

فقال أبو فهمي مُتندراً هازاً برأسه هزة لا تعرف أمن الغيظ أم من الإستهزاء بالأمر، أم من القرف منها جميعاً:

ـ آه، صناديد رجال هذه السلطة، أجبروا الإحتلال على أن يجمعوا فواتير الكهرباء… سلطة ولا كل السلطات…قاتلكم الله، كيف لو أنكم حررتم شبراً من أرض؟ لما كانت الدنيا كلها تتسع لكم…

فقال أبو خالد موجهاً كلامه لأبي عماد رغم ضحكات الجميع التي غطت عليها ضحكة الشيخ سالم:

ـ أه…ـ مهما كانوا أبطالاً في الماضي، فهذا لا يبرر أفعالهم المشينة الآن، “ياما ناس” كانوا مناضلين وخانوا يا أبا عماد، انت رجل سياسي وتعرف أكثر من أمثالي…

فقال ابو علي مجدداً، مشعلاً سيجارة “هيشي”، نافخاً دخانها بعيداً عن أبي فهمي، متجنباً كلماته: “عميت ضوي يارجل، أنفخ دخان سيجارتك بعيدا عني”، معلقاً على جماعة السلطة وجماعة الإخوان المسلمين معاً:

ـ حتى الإنتخابات المحلية حرمتمونا منها أنتم وهم..

فقال أبو عماد السياسي:

ـ نحن لا دخل لنا في الأمر، إننا إلتزمنا أمر المحكمة فقط…

قال أبو فهمي معلقاً، محاولاً إبعاد وجهه عن دخان سيجارة أبي علي:

ـ ولماذا لم تلتزموا بقرارت المحكمة عندما أمرتكم مرات، بإطلاق سراح زعيم الجبهة الشعبية الذي سلمتموه ل”ليهود”؟!!!

فقال أبو عماد مبتعداً قليلا عن كلمات أبي فهمي، محاولاً تحييدها لتفقد أهميتها ومعناها:

ـ نحن لا مصلحة لنا في تأجيل الإنتخابات، سنفوز سنفوز، ولكن الآخرين هم من ليس لديهم مصلحة…

وأشار برأسه إلى الشيخ سالم متهكماً، حين رد الشيخ سالم بشيء من العنف:

ـ “فشرت”، هذه “نطة فاتتك”، نحن كنا مَنْ سيفوز لذلك ألغيتموها…

فقال أبوفهمي من جديد:

ـ تتحدثان وكأن الناس في جيوبكما، كأن الشعب قطيع من الغنم يتبع الحمار الذي يسير أمامه “لا تؤاخذونني”، من أكد  لكما هذه النتائج الخادعة؟!!!

قال أبو خالد من جديد، وكأنه يريد تقويم الأمور:

ـ حتى لو فزتما فهذا ليس نجاح لكما بالمعنى الحقيقي للفوز، أعطوني “تلفزيوناً” وعدة صحف وعدة ملايين كي لا أقول مئات الملايين كما لديكما، وأردفوني بجهاز قمع لأسجن وأعتقل كل صاحب رأي مخالف، وأوقف تمويلكما متى شئت، وأغلق صوتكما متى أردت، تماماً كما تفعلان مع خصومكما السياسيين، لأرينكم، وأنا مجرد فرد ولست فصيلاً، كيف يكون الفوز، كلاكما، لولا صناديق المال وأجهزة القمع ما كنتما لتحققا الشيء الكثير…لكن…

وسكت قليلاً، وكأنه يريد إعلام الجميع أنه لم ينتهِ من كلامه بعد، وتابع في سياق آخر، مقترباً بفمه من أذن الحاج أبي عماد، مثيراً فضولنا، رغم أنه سأل بصوت مسموع:

ـ مَنْ ستبعث “قيادتنا المناضلة” للتعزية ب”رجل السلام” الإسرائيلي شمعون بيرس هذه المرة؟

وأطلق ضحكة مجلجلة هذه المرة أيضاً، حين أجاب أبو علي:

ـ من سيكون غير “محمد المدني” رجل التواصل مع “المجتمع الإسرائيلي”….

فقال أبو علي في ذات السياق:

ـ طبعاً ، هذا من باب الرسميات، لأن الرئيس يذهب بنفسه إذا ما أعطوه تصريح زيارة، وسيتصل بنفسه ليقوم بالواجب، أما مشروع الرئيس المقبل “الدحلان”، ربما فتح بيت عزاء في مكان إقامته، أما المدني…

فقال أبو خالد من وسط ضحكاته مقاطعاً:

ـ ماذا سيفعل الرجل ياجماعة؟ رجل “اسمه على جسمه”، يعني الشكل والمضمون واحد، إنه “المدني”، لم يقل مرة أنه العسكري لا قدر الله…

اتسعت الضحكات وتعمقت وانتشرت في فضاء القرية وفوق أسطح منازلها، وبعضها تسلل من الشبابيك المفتوحة ومن شقوق الابواب، وكانت ضحكة الشيخ سالم الشامتة أعلى الضحكات، فقال أبو فهمي هازاً برأسه موجهاً كلامه للشيخ سالم:

ـ مبسوط أنت؟ وكأن أحداً “يحك لك على جَرَب”، وكأن جماعتك أفضل بكثير؟

تنحنح الشيخ سالم وعدّل من جلسته قليلاً، عدل من وضع عمامته، ولم يحاول أن يقول شيئاً، فالمتحدث هو أبو فهمي، أكبر الرجال سناً وقدراً، كما أن هذا العجوز العتيق حمل السلاح في أكثر من وقت ليدافع عن الثورة، ومعارفه ليست من بطون الكتب داخل السجن وحسب، بل من “معمعان” الحياة التي لم ترحمه على طول عمرها، وظل رغم ذلك لا يحيد عن الحق أبداً، يقول “للأعور أنه أعور أمام عينه الباقية” و”لا يخشى في الحق لومة لائم”، وقال أبوصابر مكملاً كلام أبي فهمي:

ـ ألم تر ما يتم عندهم في القطاع المحاصر؟ صار الناس أكثر بؤساً وأكثر فقراً رغم مئات الملايين التي تصلهم، صارت الملايين في جيوب القيادات فقط، يكررون خطيئة قيادات منظمة التحرير نفسها…

ووجه حديثه مباشرة للشيخ سالم مكملاً:

ـ إنتخبكم الناس في الماضي عقاباً لقادة المنظمة الفاسدة، لقد رأوا فيكم مشروع حلمهم في التحرير، وسينبذونكم ما دمتم لا تختلفون بشيء عنهم، وعلى خطاهم المفسدة تسيرون.

قال الحاج أبو عماد معقباً وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة:

ـ أصبحت الأنفاق المتصلة بمصر ، لتهريب المخدرات وحبوب الهلوسة، وما دام التاجر يدفع لحماس فهي تحميه بدلاً من إعتقاله، والمعبر الذي يغلقه نظام مصر، لم يعد للحالات الإنسانية من مرضى وطلاب وكبار سن، بل لمن يدفع أكثر، تدفع تخرج، لا تدفع تموت منتظراً دورك الذي لن يأتي أبداً… إنكم أفضل من يحول بؤس الناس وألامهم إلى تجارة رابحة…

كان الجميع يعرف أن كلام “السياسي” صحيح رغم مآربه، وفكر الشيخ سالم الذي سمع الكثير عن حالات الفساد والإفساد الممنهج لدى جماعته، أن كلام السياسي هذا “كلام حق يراد به باطل”، وكي لا تبدأ السهام تلقى في وجهه، فكر بالسكوت كوسيلة ناجحة في الدفاع عن النفس، ف”السكوت من ذهب” في مثل هذه الحالات، لكن الحديث أيضا ببعض آيات من الذكر الحكيم ستلجم كل هؤلاء المتقولين، قال:

ـ “بسم الله الرحمن الرحيم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. صدق الله العظيم.”

لم يعرف أحد سر قول هذه الآية، لكن الرد جاء على غير توقعه، جاء من صديقه أبو أحمد الذي لم يقل شيئاً، كعادته، حتى هذه اللحظة:

ـ ما دام “الله يهدي من يشاء” ما قصة موضوع زندقتكم للناس والفصائل، التي يطرحها بعض مُفتي حماس هناك في غزة؟ لماذا لا تتركوا الأمر لرب العزة وحده؟ لماذا تدخلون “على خطه”وتحاولون إغتصاب عمله وإرادته؟ اتركوا الخلق للخالق، فتقييم الناس وتوصيفها الديني ومحاكمتها ليس شأنكم ياشيخ…

قال أبو محمد الذي ظل بنفس التوتر الذي كان عليه عندما تحدث عن آل سعود، خاصة أنه يعلم أن فتح وحماس يمولهما آل سعود بسخاء، لهذا لا يخرجا أبداً عن أوامرها:

ـ “مَنْ علمني حرفاً صرت له عبداً”، إنهم تربوا على يد وهابيوا آل سعود، الذين يتهمون بالردة ويُكفرون ويزندقون من أرادوا وكلما أرادوا ووقتما شاؤوا…

فقال أبو عماد من جديد:

ـ إنه بعض سلوكهم في قمع معارضيهم بإسم الدين…

فقال أبو صابر:

ـ يُصورون للناس أن من ينتقدهم ينتقد الدين، ويصورون أنفسهم حماة الدين…

فقال أبو فهمي ضارباً بعكازه وجه الأرض القاسي:

ـ يعني مَنْ يعادي أفكارهم هو عدو الله، وعدو الله يجب قتله أو تصفيته أو سجنه، وذلك أضعف الإيمان…

ثم صرخ غاضباً:

ـ مَنْ نصّب هؤلاء للوصاية على الدين؟ من وضعهم مكان الله؟!!!

سكتنا جميعنا أمام أسئلة أبي فهمي، ولم تعد تُسمع سوى ضربات عكازته لوجه الأرض القاسي الجاف، وسرعان ما قال:

ـ قيادة الإخوان المسلمين هؤلاء مثل قيادة شعب فلسطين التي لا تريد النزول عن ظهورنا، ينطبق عليهم المأثور الشعبي “ذنب الكلب لا يمكن أن ينعدل حتى لو وضعته في مائة قالب”، نسخة كربونية عن القيادات ذاتها، لكن بغطاء ديني هذه المرة…. ما أردت قوله أنه، بعد هزيمة حزيران سبعة وستين، “ونظر في وجوهنا ليرى أي منا قد عاصرها واعياً وليس طفلاً، وأكمل”:قال أحد أإمة الإخوان آنذاك، الشيخ محمد متولي شعراوي، أنه صلى لله شكراً لأنه نصر دولة اليهود “المؤمنة” على دولة عبد الناصر الكافرة… أرأيتم؟ أسمعتم أم أعيد؟ تماماً كما يطالب القرضاوي من أمريكا المؤمنة بضربة”للـــه” في سوريا الفاسقة الكافرة، ويستعيذ بالله ممن يفترض بوجوب حرب الصهاينة!!! ولم نسمعهم مرة واحدة في تاريخهم كله، يقولون كلمة واحدة أويقومون بفعل واحد ضد دولة رجعية، مهما فعلت ضد قضايا أمتنا، هؤلاء كانوا دائماً وأبداً معادين لأي ثورة في الوطن العربي، وها هم الآن يريدون إطفاء نقطة ضوئهم الوحيدة، “القساميون”، بأفعالهم المشينة…

أراد الحاج أبو عماد “السياسي” أن يُضيف على كلمات أبي فهمي، لكن أبو فهمي تابع ناظراً في عينيه نظرة فهمها جيداً، فكف عن محاولته، وأشار إلى الشيخ سالم بإصبع يده قائلاً لأبي عماد السياسي:

ـ هم يريدون إقناعنا أنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة، وأنهم ليسوا وكلاء الله فقط، بل أنهم الله ذاته، من خالفهم كفر، ومن عمل بعيداً عن توجيهاتهم سيتبوأ مكانه من نار جهنم، وأنتم تريدون إقناعنا، نحن القطيع، أنكم أنتم، وفقط أنتم أصحاب الحق الحصري في قيادة هذا الشعب والتحدث بإسمه، كونكم الوحيدون الذين تفهمون في السياسة ودهاليزها، وأنكم الوحيدون أصحاب الحق في التكسب من أكياس المال ـ العلف القادمة من آل سعود، لذا لا تتجرآن أنتما معاً على إدانة تدمير أوطاننا الذي يقوده آل سعود، كي لا أتحدث عن تساوقكما معه، وتعتقدان أن الوطن مختصر بكما، بأنكما الوطن والشعب والقضية… أنتما متشابهان حد التطابق، رغم كل الشعارات الفسفورية البراقة، كلاكما يرفض الآخر بطريقته، جُل القضية الوطنية بالنسبة إليكما مدى تطابقها مع مصالحكما الفئوية والشخصية، تتغنيان بها مادامت “بقرة حلوب” تشربان حليبها وتبيعان ما تبقى، حتى وإن كان حلق الشعب جاف وينتظر حتى قطرة الماء فما بالكما بالحليب؟!!! كُفَّا عن هذا العبث، كفاكما إختصاراً لشعب كامل في فصيلين إثنين، فوالله هذا الشعب أكبر منكما ومن كل الفصائل مجتمعة، ولن يكون قطيعاً مهما حاولتما، مهما دعموكما آل سعود وغير آل سعود، مهما كنتما وصرتما وستصيران… إذهبا إلى الجحيم أنتما معاً، فربما توحدتما في الطريق إلى هناك، أو عندما تقابلان “العادل”، والذي ظني، أنه لن يكون غفورا معكما، لأنه غفور رحيم في كل شيء إلّا في دم الشهداء وأنين الجرحى واليتامى والثكالى، الذي أكلتماه مالاً وبعتماه رخيصاً وشربتماه ذلاً حتى الثمالة، وما تزالان…

وقام أبو فهمي يساعده عكازه، مشى بضع خطوات إلى الأمام، توقف لحظات واستدار قائلاً:

ـ كيف كان يمكن أن يكون حالكما لو حررتما أرضاً؟ ربما كنتما ستنصبان لنا المشانق….

وأكمل طريقه دون تعليق من أحد، ظل يمشي ويهز برأسه ساخطاً، وصعد بنظره بعيداً نحو نجمة ظلت منذ سني شبابه الأولى تتألق في السماء، وكنا ننظر إليه كالبلهاء دون أن ننطق بكلمة واحدة.

أغلق أبو صابر دكانه، وتفرقنا إلى بيوتنا، تطرق رؤوسنا مطارق من كلماته، وفي تلك الليلة ظلت عيون القرية، ببيوتها وأشجارها وآبار مياهها الجافة، معلقة في تلك النجمة المتألقة الساهرة في سماء قريتنا، والتي ترفض المغادرة أو المبيت.

محمد النجار

قبل حزيران بقليل

كنا ملتفين حول التلفاز في تلك اللحظة، وكنت قد أنهيت آخر إمتحان لدي قبل أيام ثلاثة من وصول أواخر أيار الى أوائل حزيران، ليسلّمه أمانة متابعة الطريق، مُحمله كيس الأيام على كتفيه ليمضي بها ويسير. قمت متاخراً من النوم كعادتي في أيام العطل المدرسية، شربت الشاي مع أمي وجدتي، فبقية أخوتي لم ينهوا عامهم الدراسي مثلي بعد، وللحق، فإنني بالقدر الذي أحب فيه الجلوس مع أمي، كنت بذات القدر لا أحب الجلوس مع جدتي، لكنني كنت أحاول التغطية على الأمر كي لا تغضب أمي.

أمي امرأة دائمة الحركة، ليست إلا نحلة تتنقل من مكان إلى آخر، تكاد لا تجلس أبداً، وفي معظم الأحيان لا تتناول طعام الإفطار معنا، وبالكاد تشرب الشاي، وبالتالي لا يشغلنها شيء سوى عمل البيت ، فمن غسيل الملابس والأطباق، لكيِّ الملابس لجميع أفراد البيت، لتهيئة الطعام ليكون جاهزاً مع موعد قدوم أبي من العمل، لتنظيف البيت وغسله، كما إنجاز متطلبات البيت ومشترياته… الامر الذي يجعلها لا تهتم ، أو لا تستطيع، متابعة التلفاز وبرامجه، كما تفعل جدتي، ومصيبة جدتي أنها لا تتفرج على أفلام أو مسلسلات أو موسيقى، بل شغلها الشاغل متابعة الأخبار، والأخبار فقط، ومن هنا تبتدئ القصة وتنتهي أيضاً ، فلولا عادتها هذه لما كانت هناك لا بداية ولا نهاية ولا كان هناك قصة أصلاً، وما تم ما تم.

تسكن عائلتنا في عمارة من طابقين إثنين، نقيم نحن في الطابق الثاني من شارع وادي التفاح في مدينة الخليل، فرندة البيت الأمامية تطل على الشارع الرئيس، وحمام البيت الخلفي يطل شباكه على شارعيين فرعيين في المنطقة، وجدتي التي تجلس في صالون البيت لا تفعل أكثر من تقليب صفحات التلفاز من محطة إلى أخرى، على نشرات الأخبار دون كللٍ أو ملل، نفس الأخبار التي ما فتئت سمعتها منذ لحظات.

كان الشارع الرئيس ممتلئاً بالناس على عادته في كل يوم، أناس يحاولون التصدي للمستوطنين الذين يملؤون المدينة، ويسيرون يستفزون الناس بعد أن سرقوا بيوتهم بمساعدة الجيش وأسلحتهم، بعد أن سرقوا الحرم الإبراهيمي وقسّموه، والناس الذين لا يملكون سوى سواعدهم وبضع حجارة من حجارة الجبل، ظلّوا يدافعون عن المدينة والكرامة، رغم الثمن الذي ظلوا يدفعونه بشكل يومي، وكان طلاب المدارس قد أنهوا يومهم وخرجوا للشارع، أطفال من جيلي، أكبر أو أصغر قليلاً، صاروا يقذفون الجيش المتسكع الذي يحمي مستوطنيه، والجيش الذي كان يُطلق قنابل الغاز والرصاص على صدورهم، كان ما يزال يطلق النار دون توقف.

وكوني لا أحب الأخبار ولا سماعها، أمسكت بهاتفي الخلوي وقمت إلى الفرندة وأخذت أُصوّر مشهد الجيش وراشقي الحجارة، كمخرج من الملل، كوني لا أستطيع أن أشاهد فيلما أو مسلسلاً لأن جدتي إحتلت شاشة التلفاز في صالون البيت، وشدني مشهد الجيش عندما ألقى القبض على “هيثم”، و”هيثم” هو أحد أبناء مدرستي الذي يصغرني بقبضة سنين، وجارنا ، في الوقت نفسه، القاطن في بيت مجاور، كان قد عاد لتوه من المدرسة، بعد أن أنهى إمتحاناته اليوم بالذات، متوجهاً إلى بيته، وأخذت أُصوّره متخيلاً كيف ستكون ردة فعله وانقباضات وجهه، عندما يطلقون سراحه وأريه “الفيلم” الذي وثّقت به إعتقاله وضربه، لكن الأمور لا تسير دائماً كما نشتهي أو نحب، فقد أخذ الجنود “هيثم”، أركبوه مقدمة الدورية العسكرية ليحميهم من حجارة الطفال، درع بشري كما يقولون، وتوجوا به إلى الشوارع الخلفية، حيث يمكنهم ضربه وإهانته دون متابعة وملاحقة من عيون الشهود.                                                                                                                      لاحقت فكرتي، وانتقلت من “الفرندة” إلى حمام البيت لأكمل التصوير، ومررت من أمام جدتي التي كانت ما تزال تتفرج على مشهد على الشاشة، وترغي وتزبد وتعلق وتقول، فسحبت كلماتها فضول عينيّ إلى الشاشة أثناء مروري…

  •     *       *

كان يحتل الشاشة تقريراً يظهر فيه الرئيس مرة وبعضاً من حاشيته مرة أخرى، يتحدثون عن السلام وما جلبه من أمن وأمان للبلاد والعباد، و”أننا نحن الفلسطينيون لن نوقف التنسيق الأمني مهما كثر الرافضون له، فنحن أعرف بمصالأح شعبنا من كل المزايدين”.

وعلقت جدّتي من بين بواقي أسنانها:

ـ طبعاً، أنتم الآلهة والشعب مجرد أصنام، وهل للأصنام كلام إذا ما تحدثت الآلهة؟!!! فمنذ قدومكم و”مصالح”       شعبنا محفوظة ومُصانه والحمد لله…

وأكمل المتحدث، ذو الصلعة الواسعة مثل طريق أسفلتي واسع في غابة هزيلة،حديثه:

ـ وسنعمل على ان يكون هناك تطبيعاً شاملاً من الدول العربية والإسلاميه، كما أكد سيادة الرئيس، إذا ما وافقت حكومتهم على “السلام”…

وعلقت جدتي من جديد:

ـ آه طبعاً، هذا “فوق البيعة”… يعني بالعربي “زيادة البياع”… فعلاً “الشحادة عادة”…و”وين ما ضربت الأقرع يسيل دمه، هذا إذا كان عنده دماً”

وأكمل المتحدث ذو الصلعة الواسعة التي تكاد تُغطي مساحة رأسه، متابعاً ومدافعاً عن مقترح الرئيس:

ـ تطبيع يخدمهم ويخدمنا ويخدم السلام، وأننا ،كإثبات حسن نية، نوافق على تبادل أراضٍ معهم…

فعلقت جدتي وكأنها مصرة على الرد على كل ما يقولونه، متوجهة بكلامها إلى شاشة التلفاز:

ـ ما هي قصتكم؟ تكذبون الكذبة وتصدقونها… تتحدث عن مبادلة الأراضي وكأنها أرض أبوك، ولا تخص هذا الشعب المسكين…صدق من قال” لا تاخذ من الأقرع نصيحة، لو ربك بحبو لجعل راسه صحيحة”

وسرعان ما قال شخص آخر، أظهره التقرير، غير الأول، لكن من الحاشية نفسها، يُكمل ما قاله صاحبه، لكن بصورة  تُظهره وكأنه متمايز عنه:

ـ أنا لا أتفق مع هذا الرأي، التنسيق الأمني لا يجب أن يكون هكذا، عليهم أن يطلبوا منا ما يريدون ونحن من يقوم بالتنفيذ، وليس أن يقتحموا هم بأنفسهم مناطق السلطة ليعتقلوا ويحاصروا ويقتلوا…

وضعت جدتي يدها عل خدها وقالت ترد على ما سمعت:

ـ شوفي ياأختي “جاء ليكحلها… عماها”، فعلاً كما قال المثل” لا تشمتي ياخدّوجة، أنا عورة وأنت عوجة”… لماذا “يستحمرنا” هؤلاء إلى هذه الدرجة؟!!! فعلاً”قال له مَن فرعنك يافرعون قال له لم أجد من يوقفني عند حدي”…

ثم أن جدتي بدا وكأنها لم تعد تسمع كل كلامهم، فكلامهم متشابه ومكرر ومعاد، لكنها ظلت تعلق على ما ترى وتسمع أحياناً، خاصة عندما كان الرجل “الأقرع” في حذاء أحدهم، والذي لم يكن من حاشية الرئيس، وكان يلبس عباءة سوداء كليل شتاء هذا العام ، يحيط بكامل طرفها خطاً ذهبياً يعطي العباءة ثمناً وهيبة، وبدا أنه قد جاء لتوه من الصحراء فاغتسل ولبس واحتل موقعه أمام شاشة التلفاز ليدلي بتصريحه، وظل يردد عبارة واحدة ويكررها ويلف حولها، ” نحن نوافق على ما يوافق عليه الأخوة الفلسطينيين، نحن مع السلام الدائم والعادل…. إيــــــــــــــه”، ولما سأله صحفي عن أي فلسطينيين يتحدث؟ ف”أغلب الفلسطينيين يرفضون أوسلو ومجراه”، قال:

ـ نحن نتحدث عن قيادة الفلسطينيين الحقيقية،  ولا نتحدث عن المغامرين والمتطرفين….

وهنا ثارت ثائرة جدتي، فصارت تتحدث وكأن هؤلاء جميعهم أمامها في الواقع وليسوا في التلفاز، وتريد بكلامها أن تضع لهم حداً:

ـ ظلوا هكذا أيها الأنذال، دافعوا عن سلامهم ومذلتنا، ولتعلموا أننا نحن “المغامرون” في هذا الوطن العربي و “متطرفيه”، الحائل الوحيد بينهم وبين غرف نومكم. ها أنتم خلعتم كل ملابسكم، صرتم عراة كما جئتم لهذه الدنيا أمامهم، قدمتم لهم كل ما طلبوا ولم يطلبوا، ماذا أخذتم مقابل ذلك غير العار؟!! عار لفكم كأشخاص ودول وأشباه دول وممالك وحارات، لماذا لم تكونوا بهذه الحصافة والإنسانية في العراق وسوريا وليبيا واليمن؟!!! لماذا لم تكونوا هناك أيضاَ رجالات سلام؟!!! … نعم، نحن المغامرون الطريق الوحيد لمسح ما جلبتموه لأمتنا من عار، إصمتوا على ذبحنا، وشاركوا في تدمير أوطاننا واستحمار شعوبنا، لكنكم لا أنت ولا هم، تستطيعون وقف تقدمنا أو قتل إرادتنا، أو مسح ما إستجلبتموه من  ذبح وذل وعار، وسندفنه معكم في غياهب صحرائكم…

  •      *        *

كنت قد غادرت الصالون ،إلى الحمام، من أمام جدتي، وكل كلماتها تتساقط في أذني كلمة بعد أخرى، ووقفت على المرحاض لأستطيع إكمال تصوير “هيثم”، الذي أخذه الجنود إلى الشوارع الخلفية شبه الفارغة ليكملوا حلقات التمتع بضربه، وفي ذهني كشف تصويره هذا لأقرابي وأصدقائي، لنضحك عليه ومعه، والتلفاز مازالت الأصوات المتحدثة به تصل لأذني مثل نباح كلب، لا يعرف السكوت، وأدخلت “هيثم” في عدسة تصوير هاتفي، وأكملت التصوير، والرئيس من التلفاز يصرخ غاضباً ويقول:

ـ أنا لست ضد الكفاح المسلح فقط، أنا ضد كل أشكال العنف أيضاً…

فردت عليه جدتي بحنق:

ـ لماذا تترأس شعباً يريد ذلك إذن؟ يا أخي “حل عن ظهرنا”، مدة رئاستك “خلصت، فارقنا”…

لقد قيدوا أيدي هيثم خلف ظهره، وشنطة كتبه معلقة فوق كتفيه، وسرعان ما غمّموا عينيه بشريطة متسخة بيضاء، وألقوا به أرضاً، إقترب منهم أحد المستعربين ،الذي كان قبل قليل ملثماً وبين راشقي الحجارة، بعد أن خلع لثامه المُزيف، وصورته بلثامه ودون لثام، همس في أذن الضابط بكلمات لم أستطع فك طلاسمها لبعدها عن أذني ولكونها، ربما، بلغة لا أعرفها، أمر الضابط جنوده، فرفعوا هيثم عن الأرض التي ألقوه فوقها عند وصولهم للشارع الخلفي، وتوجهوا به إلى الدورية العسكرية ليضعوه في داخلها.

كانت حرارة شمس نهاية أيار قد اندلقت في الشوارع وفوق رؤوس الناس، وكنت أرى بنفسي كيف تفجرت أشعة الشمس ينابيع عرق من على رأس “هيثم” مارّة بعروق رقبته الضعيفة إلى كل أنحاء جسده، وما أن وقف به الجنود مقيداً مغمّى العينين على باب الدورية العسكرية، حتى علا صوت الجهاز في يد الضابط، فتقدم في تلك اللحظة المستعرب وقد تناول مسدسه المختبئ خلف ظهره، وقال الرئيس في تلك اللحظة بالذات مُصرحاً، في جهاز التلفاز الذي تسمعه جدتي، وكلامه يتدفق في أذني رصاصات قاسية صلبة:

ـ أنا ضد الإنتفاضة أيضاً… الإنتفاضة دمرتنا…

وانطلقت رصاصة واحدة من مسدس الضابط المستعرب، بعد أن نظر يميناً وشمالاً، ليتأكد من أن الشارع لا يضم الكثير من الشهود،  ولمّا ظن أن أحداً لا يوثق ما يفعله، وضع رأس المسدس في رأس هيثم، وأطلق طلقة واحدة، طلقة واحدة فقط وكلمات الرئيس الصارخة” الإنتفاضة دمرتنا”، إخترقتا جمجمة “هيثم” الذي إعتلى شهيداً لتوه درجات السماء نحو الشمس. وجدّتي ترد صارخة، تخاطبه وكأنه أمامها:

ـ نسيتَ ان تقول أن المفاوضات أحيتنا، وأوسلو نهض بشعبنا، والتنسيق الأمني حرر أسرانا وحمى شبابنا وأطفالنا من القتل…

واحتضن هيثم الأرض بوجهه، ولثم ترابها وكأنه يُقبّل أمه، واختلط دمه مع التراب بشكل غريب، كأنه أراد أن يجبل التراب بدمه مع سابق إصرار، وكان جدول الدم يسيل ويسيل، ولم أكن لأصدق يوماً ان جسد الشهيد يمكن أن يحوي كل هذا القدر من الدماء، وكأن هذه الدماء تتزايد خصيصاً لتروي تراب الأرض، لتصير كما كانت تقول جدتي دوماً متسائلة بإستنكار وإصرار، عندما يعلو ويرتقي أي شهيد، بعد أن تسقي دماؤه الأرض:

ـ ماذا كنتم تعتقدون؟!!! أم” من أين للزيتون كل هذا الزيت؟”…

  •         *          *

كنت قد بقيت مشدوها جراء ما رأيت، لم أكن مصدقاً عيناي، بل إعتقدت للحظة أنني ما رأيت سوى كابوس، وأن عيناي تكذب عليّ كما تكذب عينا تائه عطش في سراب الصحراء، وبقيت أنظر من شباك الحمام وهاتفي الخلوي في يدي، ومددت جسدي للخارج أكثر وكأنني أريد أن أثبت لنفسي كذب بؤبؤي عيني، وفي تلك اللحظة بالذات رأوني، لم يرتبكوا كثيراً، فستدافع عنهم دولتهم وقضاءهم كما في كل مرة، لكنهم قرروا اخذ الهاتف كي لا أستطيع نشر ما رأيت، والتفّوا إلى الشارع الرئيس ليجدوني ويصادروا هاتفي.

نزلت من على المرحاض، وصرخت:

ـ لقد رأوني يا”ستي”، لقد رأوني وسيحضرون لمصادرة الهاتف…

ولم أفكر للحظة في مجيئهم لإعتقالي، لكنني أجبت على الأسئلة التي كانت تتوالى من عيني جدتي دون كلام، وأكملت:

ـ لقد قتلوا “هيثم” ياجدتي… قتلوه

ولم تسأل جدتي عمّن يكون “هيثم”، فللشهداء نفس الصورة والقيمة في صدرها وقلبها، وأنا لم أكن أعلم قبل ذلك أن جدتي، هذه العجوز المعمّرة، يمكن أن تفهم ما أريد قوله وبهذه السرعة، وأكثر من ذلك أنني لم أتصور يوماً أن جدتي “الحادة” مثل سكين، يمكن أن تكون ببرودة الأعصاب هذه، في وقت الشدة، قالت بهدوء ووضوح، وقد مدت يدها لأسقط فيها هاتفي:

ـ إياك أن تعترف بما فعلت… سيعتقلونك ويعذبونك، سيسألونك عنه، وأشارت بيدها لتريني عما تتحدث، هذه فرصتك لتكون رجلاً، لا تُفرّط بهذه الفرصة التي لا تتكرر كثيراً إلّا للرجال، إجلس الآن وتفرج على التلفاز وكأن شيئاً لم يكن….

وخرجت إلى الغرفة الأخرى، عرفت لاحقاً أنها أعطت الهاتف لأمي وأخرجتها من المنزل لتعطيه لبعض الجيران البعيدين عن بيتنا، وسرعان ما داهم الجنود البيت، وقابلتهم جدتي، وسألتهم وكأنها من باب التحدي ليس أكثر:

ـ ما الذي تريدونه؟ “هي وكالة من غير بواب؟”البيوت لها حرمتها…

وأخذت تدافعهم على الباب، تحاول منعهم بكل السبل، وكأنها تريد تحويل الأمر الذي جاؤوا من اجله وتغيير هدفه، لكنهم دفعوها ودخلوا، فعضلاتهم أقوى من عظام شيخوختها، لكنها ما أن دخل آخرهم حتى دفعته بكل ما استطاعت من قوة، فتدعثر بقدميه وأسقط واحداً من الجنود الذين كانوا أمامه، فارتفعت حالة الخوف لتتحول إلى جبن داخلهم، كما قال أبي، وهوت على رأس من أسقطته ب”بابوج” قدمها البلاستيكي، واخذت تضرب به رأسه ووجهه، وفي مثل هذ الحالات” يتصاعد الجبن داخل الخائف ويكبر، فما بالك بالجبان من الأصل؟”، والسلاح كما أكد أبي، “في يد الجبان يجرح”، فما بالك إن كان هذا الجبان عدواً؟”، وعندما صار الخوف يتصاعد من ضربات بابوج جدتي، وارتفع منسوب الجبن المجبول بالحقد والكره، وصل الجبن إلى أقصاه ومنتهاه، أخذ الضابط بندقيته الرشاش من على كتفه، وافرغ في جسد جدتي مخزناً كاملاً من الرصاص، فانفجرت ينابيع الدم القاني من جسد جدتي، وسال مدراراً على بلاط البيت، وبابوجها ما زال يهوي على رأس الجندي المتمدد أمامها …

قال لي أبي ونحن نستقبل العزاء المشترك، محتفلين ونوزع الحلوى لإستشهاد جدتي وإستشهاد “هيثم”، قبل إعتفالي بيوم واحد فقط:

ـ حتى وإن إستشهدت جدتك في البيت، وسالت دماؤها على “المصطبة”، فإن دمها قد روى الأرض، فلدماء الشهداء طريقتها في الوصول للأرض لترويها، أم من أين تعتقد أن للزيتون كل هذا الزيت؟!!!

محمد النجار

لمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذا؟!!!

ظلّت الكثير من الأسئلة تدق رأسي دون هوادة، خاصة بعد بعض الحوارات ،المُصرّة على قلب الحقائق، مع البعض، والذين لا يريدون أن يروا ما يدور في منطقتنا، من حرب كونية على مقدراتنا وتاريخنا وبلادنا وشعوبنا ، إلا حرباً طائفية!!! فلا أمريكا تطمع بنا وبخيرات بلادنا، ولا “آل سعود” هم رأس الأفعى في المنطقة، ولا ما يتم لمصلحة الكيان الصهيوني!!! ولا….إلخ، بل إن إيران”الشيعية”، هي فقط السبب وراء الحروب وإدامتها واستدامتها، ومعها حزب الله طبعاً، ولا يمكن أن تنتهي الحرب إلًا بعد الخلاص من إيران “الشيعية”، تاريخاً وطوائف ومذاهب وحتى جغرافيا إن أمكن!!! الأمر الذي يعني طبعاً إدامة الصراع واستمراره إلى آخر إنسان في الجانبين، وبهذا نكون نحن”السنة” قد نظفنا بيتنا من الداخل ونتفرغ لحرب الكيان الصهيوني!!! كلام خالٍ من أي منطق، فلماذا لا يمكننا أن نضع أيدينا مع إيران، ونتخلص من الكيان الصهيوني أولاً، فهذا لا يصح، ولماذا لا نتخلص من الصهاينة وحدنا ثم نرى أمورنا مع إيران فلا يصح أيضاً، فلا يصح معنا نحن “السنة” إلا إستعداء إيران فقط، وتحويل الصهاينة إلى حلفاء محتملين!!!

هكذا قال محاوري في حوارنا الأخير، فازداد طرق السؤال رأسي، لماذا، وازدادت الأسئلة التي تبدأ به أكثر، فتجاهلت “كيف ومتى وأين وهل ومن وإلى متى”، لأنني لو طرحت كل ما يدور في رأسي من أسئلة لما أنهيت مقالتي هذه أبداً، وعليه سأطرح فقط بعض ما يدور في رأسي من أسئلة تتعلق ب”لماذا”، منوهاً أنني لست من أنصار لا الدول الدينية ولا الأحزاب الدينية، وأنني أرى أن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة تخصه وحده، ولا يحق لأي كان التدخل بها، لا من قريب ولا بعيد، كما أنني لاحظت أن كل أصحاب النظرة الطائفية والمتمسكين بها، معجبين أشد الإعجاب بالنظام “الغربي”، والذي لا يفرق بين أبنائه لأي بسبب، دين أو لون أو جنس أو معتقد، لكنهم “عندنا” يريدون مجتمعاً بلون واحد فقط، هذا إذا ظل هناك لون بعد الصراع الدائر….

ولنبدأ بالأسئلة، التي أرجوا أن لا يجيب عليها أو يقرأها أحداً من المتعصبين، من أي طرف كان، وهي أسئلة برسم التفكير لكل مَنْ يدعي أن الصراع الدائر في منطقتنا ما هو إلا صراع طائفي، وليس صراعاً سياسياً في جوهره، مغلفاً بغلاف طائفي:

  • لماذا إصرار الدول “السنية” على حرف إتجاه البوصلة، من فلسطين وتحريرها، ومن العداء للصهيونية إلى جعل العداء لإيران؟ وهل صحيح أن “طويل العمر” ملك آل سعود، دعم بناء المستوطنات بعشرات ملايين الدولارات؟ ودعم حملة إنتخابات نتنياهو ب80 مليون دولار، كما نؤكد الصحافة العبرية؟

  • إذا كان الصراع طائفياً لماذا إذن لم تقم “الدول السنية”، وعل رأسها دولة “آل سعود”، بمحاربة إيران أيام الشاه؟ أم أن إيران كانت “سنية”آنذاك؟

  • لماذا تم افتعال حروب متتالية مع إيران بعد إنتصار الثورة مباشرة؟ رغم أن الإنجليز “حلفاء” الدول السنية “وأبرز داعميهم حتى اليوم (هم مَن سلم الأهواز لإيران، تماماً كما سلّم الفرنسيون لواء الإسكندرونة لتركيا والإنجليز  لمناطق نجران وعسير وجيزان لآل سعود أنفسهم)، وكذلك سيطرت إيران على الجزر الإماراتية أثناء حكم الشاه، فلماذا لم تحارب الدول “السنية” وعلى رأسها آل سعود الشاه “الشيعي” ولم نسمع من هذه “الدول السنية” ولو كلمة واحدة بهذا الشأن آنذاك؟. بل إن علاقتهم مع الشاه كانت استراتيجية، وهو من ساعدهم على ضرب القوى الثورية التي نشأت في بلادهم!!! ولم نسمع “بسنة أو شيعة”، ولا عن اي دور “تشييعي” لإيران في المنطقة.!!!

  • لماذا اكتشف حكام الدول “السنية”، “شيعية إيران” بعد أن تم رفع العلم الفلسطيني فوق سفارة”إسرائيل” الموروثة من عهد الشاه، وتحويلها لسفارة “فلسطين”؟ وفي نفس الوقت الذي إبتدأت أمريكا بفرض حصارها على إيران؟

  • وما دام الموضوع هو “سنة وشيعة”، فلماذا تقيم هذه الممالك والدول والحكام “السنة”، أرفع العلاقات وأكثرها تطوراً، مع دولة أذربيجان “الشيعية”، صاحبة العلاقات الأكثر تميزاً بالكيان الصهيوني، وخاصة من الناحية الأمنية، التي تضر أول ما تضر بقضية”العرب السنة” في فلسطين؟!!!

  • لماذا، والأمر كذلك، لم تدعم الدول “السنية”وعلى رأسها بلاد “مملكة الخير” وقيادتها، آل سعود، الفصائل “السنية” في فلسطين، بعُشر ما قدمته لما إستجلبته من حثالات بشرية لتدمير أوطاننا في سوريا والعراق وليبيا واليمن و”الحبل على الجرار”؟ وتركت الأمر لإيران”الشيعية” لدعم فلسطين “السنية” وفصائلها؟ وتركت خلايا “حزب الله الشيعي” يدرب ويعلم وينقل السلاح ويُهربه إلى القطاع المحاصر، وتُعتقل بعض خلاياه في الدولة المصرية “السنية”؟ ولم تقدم أي نوع من الدعم للقضية الفلسطينية “السنية”، على مدار 68 سنة من عمر القضية، ولا حتى فتوى واحدة من شيوخ “السنة” العباقرة في بلاد آل سعود، بل أنها أوقفت حتى التبرعات لهذه القضية…

  • لماذا لم تقم الدول “السنية” بمحاربة محتلي المسجد الأقصى المبارك” أولى القبلتين وثالث الحرمين” رغم مرور 49 عاماً على إحتلاله، وشيوخ فتنتها كما القرضاوي “ينبحون” لمحاربة سوريا لنشر الديموقراطية هناك؟!!! ويستعيذ الله متبرئاً ممن يقولون بمحاربة “إسرائيل” بعد الإنتهاء من سوريا، ويشحذ من أمريكا المزيد من التدمير لبلداننا، ” ضربات لسوريا من أجل الله ياأمريكا”، الغريب أن البلاد والمقدسات محتلة من”اليهود الصهاينة” وهم ينادون بالديمقراطية في بلدان يحكمها “مسلمون”!!! والأغرب أنهم يريدون الديمقراطية التي يمنعونها في بلادهم، والإنتخابات التي لم يجرونها يوماً، والدستور وهم لا يملكون دستوراً… مع ملاحظة أن كاتب هذه السطور من أشد مؤيدي حرية الرأي والفكر والتعبير والإختيار، وضد كل أنواع التمييز الديني أو العرقي أو المذهبي والطائفي، أو اللون أو الجنس أو العرق، ومع تشكيل الأحزاب إلّا الدينية منها، والتبادل السلمي للسلطة.

  • بل لماذا تبرعت “مملكة الخير” أطال الله عمر قادتها آل سعود”، بفلسطين، في رسالة موثقة عبر الحلفاء الإنجليز، إلى “المساكين اليهود” أو حتى “إلى غيرهم “كما ورد في الرسالة؟ أعيد “تبرعت” بفلسطين وكأنها من بقايا موروث آبائهم العملاء الفاسدين المتخلفين الجهلة”!!!

  • لماذا لم تستخدم “مملكة الخير”ودول النفط “السنية”علاقاتها بالغرب، أو بالنفط، أو أموال النفط، لدعم قضيتها الأولى قضية فلسطين”السنية”؟

  • لماذا حارب آل سعود “السنة، الثورة الناصرية”السنية”، متحالفاً مع شاه إيران “الشيعي”؟ وراعيتهما أمريكا، أم أنه لم يكن “شيعياً” وإنما نحن الجهلة  المفتقدين للثقافة نعتقد ذلك؟ ولماذا إستدعت الحرب عليه من إسرائيل في حرب 67، معتبرة في رسالتها أن نظام ناصر إذا إستمر دون تدمير حتى سنة 70 فإن نظام “آل سعود” لن يعيش أبداً ليصل لعام 1970، أم أن الصهاينة هم صهاينة “سنة”؟

  • وما دام الأمر طائفي، لماذا إستُجلبت “القاعدة “من العالم إلى ليبيا لتدمير بناها التحتية، وذبح عشرات الآلاف من البشر “السنة”، وتدمير أول شيء النهر العظيم الذي خضّر حتى الصحراء الليبية؟ وأين الشيعة في ليبيا؟ وأين الشيعة من مصر التي يحاولون تدميرها وتقسيمها ؟

  • لماذا ترتضي الدول “السنية”، قائدة الثورة”السنية” في الوطن العربي، ل”تنظيماتها ومناضليها في جبهة النصرة وداعش وأحرار الشام وجيش الإسلام في سوريا” أن يُعالجوا في المستشفيات”الصهيونية” ويزورهم ويلتقيهم “نتنياهو” نفسه، وكل وسائل إعلامهم، ووسائل إعلام الأنظمة “السنية” تغطي على الأمر وتمنع نشره في وسائل إعلامها، وكأنها بذلك تحجب الحقيقة؟ وكيف ترتضي لقيادة الثورة “السنية” في سوريا بالتبرع بهضبة الجولان لإسرائيل مقابل دعمها بإسقاط الأسد؟ كما وكيف ترتضي للثوار”السنة” بالتدرب على أيدي ضباط الصهاينة، وأن يقود عملياتهم في غرفة عمليات “موك” في الأردن ضباطاً “إسرائيليين” بجانب ضباط من طرف آل سعود وأمريكا والأردن؟ والآن يقوم الصهاينة بإنشاء غرفة عمليات مشتركة مع ” المناضليين الجهاديين السنة” من “جبهة النصرةـ تنظيم القاعدة في بلاد الشام ـ لإقامة شريط عازل في الجولان على غرار ما تم في جنوب لبنان؟

  • لماذا لا يُحارب آل سعود، كقيادة للدول “السنية” أمريكا، التي أسقطت القيادة العراقية السنية “صدام حسين” ، بل إستدعت أمريكا وتحالفاتها لإسقاطه بعد أن رفع شعار”نفط العرب للعرب”؟ وفي الوقت الذي رفضت فيه إيران “الشيعية” أن تفتح أراضيها للغزو الأمريكي للعراق ، رغم محاربته لها 8 سنين طوال، فعلت ذلك دول النفط وغير النفط “السنية”، من مصر إلى دولة آل سعود إلى دولة “النعاج” كما سمّاها رئيس وزرائها آنذاك حمد الصغير، إلخ؟  بعد أن حاصروه وقتلوا من شعب العراق ما يزيد عن مليون طفل فقط بسبب حصارهم…

  • لماذا لا تُحرضون “السنة” في لبنان وتدعمونهم بالصواريخ كما فعلت إيران مع حزب الله، لمحاربة إسرائيل، خاصة وأن لديهم قيادة ثورية مثلكم (من الحريري إلى السنيورة إلى فتفت “شرّيب الشاي” مع الجيش الإسرائيلي، إلى ريفي)؟ ولماذا تحالفاتهم فقط مع جعجع وأمثاله، أحد أهم أبطال مجزرة صبرا وشاتيلا، القاتل المحكوم في المحاكم اللبنانية نفسها؟

  • لماذا دعمتم يا آل سعود، ياقادة “السنة”، إثيوبيا، الدولة التي ـ ربماـ من أكثر الدول الإفريقية تعاوناً مع “إسرائيل”، في بناء سد النهضة الذي يحرم الدول “السنية” العربية”مصر والسودان”من المياه، يعطش شعبهما ويصحر أراضيهما، وبتعاون مباشر مع إسرائيل؟

  • لماذا أصبحت إيران دولة نووية رغم حصاراً أمريكياً ودولياً ومنكم أنتم أنفسكم أيها الدول “السنية”، وآل سعود على رأسكم، وصار عندها ما يقرب من الإكتفاء الذاتي إقتصادياً، وأنتم بدلاً من أن تتعلموا منها، وتثبتوا لها أنكم “السنة” لستم بأقل شأنا، فإنكم ما زلتم تعتمدون في إقتصادكم بنسبة أكثر من 90% على النفط، وبدلاً من طلب مساعدتها تحاربونها، وأنتم أيها الكسالى الخائبين، يا آل سعود، ما زلتم تستوردون خضارا ،فقط خضـــــــــــــار، من مختلف دول العالم بأكثر من 30 مليار دولار، أقول مليار وليس مليون، في العام الواحد، وتستوردون المياه بأعلى من أسعار نفط شعبكم المنهوب…وصارت “سلة غذاء الوطن العربي”، السودان، التي تمتلك 30 مليون رأساً من الأبقار، وخمسين مليون رأساً من الماعز ومياه النيل وعشرات الأنهار الأخرى، صارت صحراء وجائعة وجاهلة ومتخلفة وتبيع أبناؤها لآل سعود ليقتلونهم في حرب اليمن، ويمزقها الفساد والبيروقراطية,… رغم “سنيتها” وتطبيقها للشريعة الإسلامية السنية أيضاً.” في هولندا مجرد مليون رأس من الأبقار، وبدون “سِنّة” ولا “شريعة”، صارت من صفوف الدول الأولى في العالم في تصنيع الأجبان والشوكولاتة، وبدون أمية ولا فساد ولا إفساد. أما السودان الذي  إتبع نصائح “سنة” قطر وآل سعود فتقسمت بلاده إلى قسمين، وبدلاً من الإهتمام بمصالح الوطن والمواطن، يقوم بمحاكمة فتاة تلبس بنطالاً أو أخرى تتزوج مسيحياً، لكنها لم تحاسب فاسداً واحداً أو لصاً واحداً.

  • لماذا تتقدم الدول “السنية” دول العالم في الفشل والجهل وتفشي الأمراض والأمية، مصر والصومال وموريتانيا واليمن والسودان والباكستان وأفغانستان.

  • لماذا لم تستثمر الدول الغنية “السنية” أموال خيرات شعبها، في الدول “السنية” المحتاجة لذلك، بدلاً من إبقائها في بلاد الغرب وبنوكها؟ مثل مصر والسودان واليمن، الأمر الذي يُطور هذه الدول ويقضي على البطالة والفقر، ويجعل الدول المستَثمِرة رابحة في نفس الوقت. أم أنهم يدركون أن أمريكا لن تسمح لهم بذلك، وربما تصادر هذه الأموال شاهرة في وجوههم ملف حقوق الإنسان كما هو متوقع!!!

  • لماذا تصر قيادة الدول “السنية” لمحاربة كل من يحارب أمريكا وإسرائيل، ولشيطنته وملاحقته وتوقبف قنواته الإعلامية؟، وكما دفعت أمريكا بإعترافها، ما يفوق على 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله، هكذا تفعل الدول “السنية” بقيادة آل سعود مع فصائل المقاومة العراقية التي طردت الأمريكي خارج العراق في 2011، ومن بينها بعض فصائل الحشد الشعبي في العراق، أو مناهضوا سياسة التدمير التي أنتجها آل سعود في اليمن من “أنصار الله” وغيرها من فصائل إسلامية ويسارية…

  • لماذا يُحارب آل سعود”السنة”، أعداء أمريكا وإسرائيل، ليس في المنطقة فقط بل والعالم أيضاً؟ وتكيل لهم كل التهم وتدفع الأموال من جيب شعبها، لتحصد أمريكا الثمار، وهذه مجرد أمثلة على ذلك:

ـ دفع آل سعود “السنة” مبالغ طائلة بعد فوز الحزب الشيوعي الفرنسي، وكذلك الحزب الشيوعي الإيطالي في إنتخابات بلادهم، للأحزاب الأخرى كي لا يدخلوا في تحالفات معهما كي لا يستطيعا تشكيل حكومات كل في بلدهما، هل كان أولئك شيعة؟ وهل إعتدوا على سيادة بلدان العرب أو المسلمين؟ وبأي حق يتدخل آل سعود في شؤونهم الداخلية؟ ولمصلحة مَنْ؟ أليس لمصلحة أمريكا وبأموال العرب؟!!!

ـ دفع الأموال لشراء البشر والسلاح وبشعارات دينية لمحاربة الإتحاد السوفييتي السابق، لتعود أفغانستان للحظيرة الأمريكية وبأموال عربية، هل كان السوفييت شيعة وأمريكا دولة سنية؟!!! وما شأن آل سعود بذلك؟ ولماذا سكتوا عن تحويل أفغانستان “السنية” إلى دولة فاشلة؟

ـ دعم آل سعود أعداء الثورة الساندينية، بالمال والسلاح، الكونتراس، كي لا يصل أعداء أمريكا للحكم آنذاك، وزهقت نتيجة ذلك عشرات آلاف الأرواح، ودمرت البلاد، بأموال العرب ولمصلحة أمريكا، فهل كانت الثورة الساندينية “شيعية”؟ وبماذا أساءت للسعودية لتقف موقفها ذلك؟

ـ أغرق آل سعود السوق بالنفط وأنزلوا سعره من 120 دولاراً للبرميل إلى أقل من 30 لكي يضربوا الإقتصاد الفنزويلي المعادي للأمريكي وكذلك الروسي المنافس له، وليضربوا الإقتصاد الإيراني أيضاً، فإن كان هناك خسارة بيِّنة لإيران في مليون برميل تصدره في اليوم الواحد كبيرة ومؤثرة، فإن خسارة آل سعود كانت أحد عشر ضعف الخسارة الإيرانية، كونها كانت تبيع أحد عشر ضعف المنتج الإيراني، ومن الرابح من جراء ذلك؟ أمريكا بالتأكيد، وآل سعود”جكر في الطهارة يشخون في لباسهم”.

  • ما دام “الدواعش” وجبهة النصرة، وما شابههم من حثالات بشرية “ثواراً”، لماذا يذبحون الناس ويفجرون أنفسهم في المساجد والأسواق الشعبية، ويصرخون”جئناكم بالذبح” هل هذا الإسلام “السني” الذي يريدون حكمنا به؟ وهل لائحة النساء في زواج النكاح اللواتي يُطلقن ويُزوجن بأوامر “سنية شرعية”ما يقرب من عشرين مرة في اليوم الواحد، ويدفع لها ثمن النكاح، هل هذا من الإنسانية في شيء؟ وهل هو من الديانات لا سيما المذهب السني في شيء؟ وهل يختلف عن بيوت الدعارة في شيء؟ولماذا تركت الدول الغربية القتلة للقدوم إلى سوريا والعراق وسهلت مرورهم؟ ولماذا ساعدتهم أمريكا وقطر وآل سعود؟ وإن كانت تريد أمريكا محاربتهم لماذا تركتهم يتدربون تحت سلطتها وبسلاحها وفي معسكراتها في تركيا وليبيا، ولماذا لم تقدم للجيش العراقي حتى الآن السلاح المطلوب، رغم أنه دفع ثمنه منذ سنوات؟ وماداموا يريدون محاربتهم لماذا جلبوهم إلى ليبيا “السنية”، والتي ليس بها من الشيعة أحد؟ وكيف لم يروا الأسطول البحري الذي يزيد عن 3000 صهريج وينقل النفط المسروق من العراق وسوريا ويتوجه الى تركيا واسرائيل؟ وكيف سمحوا لدويلة الشيخة موزة بشراء 3200 عربة تويتا مجهزة للقتال من اليابان ويدخلونها من تركيا إلى سوريا؟ وكيف لم يرَ الأمريكان مئات الآليات والدبابات ومدافع الهاون والصواريخ التي تتنقل في العراق وسوريا وما بينهما على مساحة آلاف الكيلومترات المربعة؟ في الوقت الذي ترى فيه لو مجرد مناضل فلسطيني واحد في قطاع غزة وتقصفه، لكنها لا تقصفهم؟ وكيف لم تر نقلهم بطائرات تركية وقطرية إلى جنوب اليمن؟ ولماذا قام آل سعود “السنة”وكذلك دولة قطر”السنية” بعزل الجنرال “السني” السوداني”الدابي”، الذي بعثته الجامعة العربية للتحقيق في أحداث سوريا منذ بدايات احداثها، عندما إتهموا النظام بقتل المتظاهرين، وعاد ليقول لرئيس وزراء قطر السابق “حمد الأصغر”، إوقفوا دعمكم وتسليحكم للإرهاب، تتوقف الحرب في سوريا، فكان نتاج تقريره عزله ووقف مهمته.
  • لماذا لم نرَ أو نقرأ أو نسمع رغم كل عمليات التفجير في المساجد والكنائس والأسواق، وتدمير الآثار والتاريخ، والتقتيل والذبح في كامل الفسيفساء العربية، من المناضلين “السنة”، عن أي عملية ضد الكيان الصهيوني، ولو عن طريف الخطأ؟ ولماذا يقتلون من “السنة” أكثر ما يقتلون من المذاهب والطوائف الأخرى، لكل من لا يتطابق وآراءهم؟ وفي المقابل لماذا لم نسمع عن “شيعي”يفجر نفسه في مناطق السنة؟بل أن “الشيعة”في الحشد الشعبي، “والذي يضم في صفوفه عشرات آلاف “السنة”، هم مَنْ يُحرر المناطق “السنية”، لاحظ “السنية” من براثن داعش وأخواتها، ولماذا لم يتوجه الدواعش للمناطق الشيعية في وسط العراق وجنوبه ليحتلوه ماداموا يريدون القضاء على “الرافضة”؟ بل داهموا المناطق “السنية” فقط وذبحوا أهلها ودمروا بنيانها واغتصبوا نساءها؟ ولماذا لم نسمع هذا التقسيم الطائفي عن “سنة وشيعة” بين الأكراد؟

  • لماذا، وهذه ال”لماذا”، كان يجب أن تكون في البداية ربما، لماذا يعتقد هؤلاء “المناضلين السنة”، ومن خلفهم داعميهم وأولهم آل سعود، أن الجنة من حقهم ونصيبهم حصراً ودون غيرهم؟ فلا نصاً يؤكد ذلك، ولا منطق أيضاً، فمذاهب الإسلام من”سنية بمذاهبه الأربعة” الشافعي والحنفي والحنبلى والمالكي” وفرقها من السنية والإباضية والشيعية، يتفرع عنها: أهل الحديث والسلفية والأشاعرة والماتريدية والمرحبة والمعتزلة والجهمية والصوفية والإثنا عشرية والزيدية والأصولية والأخبارية والشيخية والإسماعيلية والنزارية والمستعلبة والعلوية والأذارفة والنجدات والأحمدية والقرآنيين والبهرة  …إلخ والتي تصل الى 73 فرقة، كلها تدّعي أنها تمثل الإسلام “الصحيح”، وكيف  يستطيع هؤلاء التفكير أن لهم ميزة على الطوائف الأخرى وعلى الأديان الأخرى بما فيها الديانات الوضعية، عدا أن ليس لهم فضلاً أو ميزة حتى على ما في طائفتهم نفسها، ألم يحن الوقت ليتدينوا كما يريدون لكن بإبعاد الدين عن السياسة، ألا يكفي ما فعله الدين المسيس في البشرية جمعاء؟ تخيلوا 73 فرقة ومذهب إسلامي، ومثلها أو أقل قليلاً من الديانات الأخرى، والجميع بدون إستثناء يدعي أنه الصحيح، وإلا لغير مذهبه لو كان لديه شك فيه، فلو أراد كل طرف فرض رؤيته على الآخر ماذا يمكن أن يتم في عالمنا العربي؟ تخيلوا إلى أين يمكن أن توصلنا التقسيمات الطائفية والدينية، وربما لو تبعنا العرقية والقومية أيضاً، ستصبح أكبر دولة عربية حسب طائفتها ومذهبها أصغر بكثير من ملعب كرة قدم، دولاً متحاربة متذابحة إلى مالا نهاية، هذا إذا لم نفنِ بالحروب بعضنا بعضا!!!

  • لماذا لا يترك هؤلاء الدين لصاحبه، الله، ولماذا يتدخلون بصنع الله بخلقه؟ ومن أعطاهم الحق بذلك؟ فالدين كما ذكرنا لله والوطن للجميع، فلنترك ما لله لله، ولنتضافر لإعلاء صرح الوطن، ولا نترك أحداً ليتدخل في شؤون الله تحت أي إسم أو ذريعة، فهذه العلاقة بين الإنسان وربه من أشد العلاقات شخصية وخصوصية، ولا يحق لكائن من كان أن يتدخل بها، أما شيوخ الفتنة الذين بحرضون على العنف في أوساط فقراء الشعب وبغض النظر من أي ديانة أو طائفة هم، فنسألهم لماذا لا تبعثون أبناءكم ليفجرون أنفسهم ويصعدون ليحجزوا لكم مكاناً في الجنة؟ وإن كانوا “ملوا زوجاتهم”ويريدون الحوريات، فلماذا لا يذهبون هم أنفسهم ليفجروا أنفسهم ويصعدون الى السماء، بدلاً من تحريض الفقراء ؟ ولماذا لا يعطون الفقراء جزءً من جنانهم الأرضية إن كانوا بهذا الإيمان الذي يدّعون؟ولماذا يبعثون أولادهم وبناتهم إلى بلاد الغرب “الكافرة”، ويبعثون أبناء الفقراء لتفجير أنفسهم في خلق الله وعباده؟ وأكرر من أين لهم التأكد من صحة طائفتهم أو مذهبهم؟ ومن أين يعرفون أن لهم الجنة دون غيرهم؟ بل من قال أصلاً أن لهم الجنة؟، فالله ،حتى الله الرؤوف الرحيم، لا يرحم العملاء والمجرمين…

محمد النجار

أصابع الببو ياخيار

ما زالت تدق تلافيف رأسي بقوة، كلمات أمي وزوجتي حتى هذه اللحظات، وهذا الهجوم علي وكأنني لا أعني لهما شيئاً، وما يربكني أكثر اتحادهما ضدي في الفترة الأخيرة، فما أن أفتح فمي متحدثاً أو معلقاً في أمور السياسة وشؤونها حتى تنقضّان على عقلي، مشككتان في أهليته، رغم أنهما تعرفان جيداً أنني أنهيت دراستي الجامعية، رغم أنني أبيع بعض إنتاجهما من خضار حديقة بيتنا الريفي، على عربة في سوق المدينة، كوني لم أجد مكاناً أعمل به في شهادتي هذه، حتى أصبحت الشهادة تُستخدم كسلاح ضدي في بعض الأحيان، فتقول أمي مثلاً ” أحمد الله” أنهم لم يقبلوك حتى معلماً في مدارس أطفالنا، كي لا تسمم عقولهم بأفكارك هذه، فمثل أفكارك لا تنقصهم أبداً”.

ـ “أصابع الببو يا خيار”

ناديت لترويج ما لدي من خيار على عربتي، علّني أبيعها قبل العصر لأستطيع العودة في باص القرية مبكراً هذا النهار، وكلامهما ما زال يدق رأسي كمهدةٍ حديدية ضخمة، ينهال بها عامل قوي فوق سكة حديدية برتابة صلبة لا تنتهي، حتى وأنا أوزن للزبائن طلباتهم لم ينقطع هذا الطرق ولا هذا الرنين، لدرجة أن أرجع لي أحدهم مشكوراً بعض النقود التي أعطيتها له قائلاً لي منبهاً:

ـ إصحَ يا رجل لقد أعطيتني “كيس الخيار”، وأرجعت لي كل المبلغ كبقية لورقة “المية”، حدّ الله ما بيننا وبين الحرام.

كنا ننتظر خبراً عن ذكرى “منتصف أيار”، لنعرف أين سنتفاعل والآخرون بهذه الذكرى، فمنذ سنوات وزوجتي وأمي تشاركان في معظم المناسبات الوطنية ما أمكنهما ذلك، خاصة ذكرى النكبة منها على وجه التحديد، الذي تظل أمي تسأل عنها منذ مغادرتها حتى قدومها في العام الذي سوف يأتي.

وما أخذ يُزعجني في السنوات القليلة الماضية، أكثر من أي شيء، هذا الحلف الذي تشكل ضدي بين أمي وزوجتي، كما أنني لم أسمع بمثل هذا الحلف بين “الحماة وكنتها” إلّا في بيتي، وعلى من؟ على الإبن، أو الزوج، يعني علي أنا، أنا بالذات، ويتكرر الأمر كثيراً لأنني لا أعرف أن أغلق فمي عندما يقتضي الأمر ذلك، لأجد الهجوم أول ما أجده من أمي، التي تبدأ بالقول عند تعليقي الأول على حدث ما:

ـ  لو إنخرست لكان أفضل من أن تبول من فمك، ألم تتعلم بعد أن “السكوت لأمثالك من ذهب”؟

وكنت أقول من باب تكملة الحكمة الشعبية:

ـ نعم و”الكلام من فضة”.

لكنها قالت معلقة:

ـ “بل من تنك صدئ”، لو كان من فضة أو حتى من نحاس لما علقت.

وتكمل زوجتي معلقة في ثنائية عجيبة:

ـ “إذا بُليتم فاستتروا”.

بدأ الأمر كله منذ بضع ليال، عندما رأيت “المناضل الكبير”، كبير المفاوضين الفلسطينيين، وأمين سر منظمة التحرير، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والله وحده يعلم كم من المواقع والمراكز يحتلها أيضاً، وهذا دليل ذكاء وقدرة وعطاء، ولعله شرف كبير لأي كان أن يحتل هذه المواقع، أقول أنني مجرد أن رأيته إنتابني شعور فُجائي بضرورة القيام لتوي والصلاة “ركعتين وربما ثلاثاً” لله عز وجل، على مِنته ونعمته علينا بمثل هذه القيادات، وقلت عندما رأيته بوجهه ” المِسْمَرّ” من أشعة الشمس كوجهي :

ـ وجه المسكين محروق من الفِلاحة…

نظرت أمي الى زوجتي، وأزاحت وجهها كي لا تراني، وعلقت زوجتي:

ـ مثله لا يعرفون فلاحتنا نحن، يعرفون الفلاحة في الشعب، قل ربما من شواطئ بحر تل الربيع…

كنت أنظر إليها وأفكر بصوت مسموع، وكلمات تفكيري تندلق في آذانهما ككتل من رصاص مغلي ذائب لا أعرف له سبباً، قلت عندما رأيته يمرر يديه أو إحداها فوق رأسه، ويضغط معتصراً أفكاره:

ـ كم هو عميق التفكير!، فعلاً كما يقولون أن الرأس كثيف الشعر أو  الرأس الصلعاء من علائم الذكاء، أنظرن إليه بربكن كيف يحاول إعتصار الكلمات من رأسه، حتي ليبدو لمن لا يعرفه، أنه “يستخسر” الكلمات فينا نحن الشعب،  الذين لا نستطيع فهم الأمور على حقيقتها، كوننا لا نفهم كل شيء.

وأنهيت عبارتي لا أعرف لماذا بالقول:

ـ وأكثر ما يعجيني بهذه القيادة شيئين إثنين، وأشرت بإصبعي موضحاً وأكملت، الوعي بالقضية الوطنية، ونظافة اليد…

ويا ليتني لم أقل ما قلت، فسرعان ما قالت أمي بكلمات مستهزئة قاسية:

ـ صدقت، إن كل ما نراه من فلل وعمارات وسيارات وعقارات من معاشهم الشهري فقط…

وصرخت كأن نكبة جديدة اغرقت رأسها من كلملتي:

ـ متى ستتعلم أيها الدابة أن تستخدم رأسك؟ والله أحياناً أفكر أن خلفة أمثالك ما هي إلا إمتحان من رب العالمين وإختبار لصبرنا.

فقلت محتجاً:

ـ أرجوكِ يا أمي أخفضي صوتك، نحن في الليل و”الصوت يُجيب”، ولا أريد أن يسمعنا الجيران.

التقطت زوجتي الكلمات مانعة مماحكتي لأمي من الإستمرار، وقالت بدورها مستهزئة، منادية أمي كما كانت تناديها دوماً منذ بداية زواجنا:

ـ نعم يا “أمي”، كل ما ذكرت من معاشهم فقط…

وكدت للحظات أظن أنها واقفة في صفي، لكن كلماتها لطمتني كحذاء على رأسي، الذي ظلت تدور به الأفكار قبل أن تتشتت وتتفرق، مثل سحابات متقطعة في يوم صيفي عابر، وتابعت:

ـ هذه القيادة يا “أمي” لم تساوم على وطن، ولم تتنازل عن شبر منه، ولم تحوّل ما تبقى منه لتجارة رابحة لها، فلم تُبدل أراضٍ من مناطق c بمناطق من  b ولا من b بمناطق من a، بصفقات مشبوهة مع الإحتلال، لتجني من خلفها الملايين، ولم تقيم الشركات لها ولأولادها لنهب المال العام، ولم تسرق أموال الشعب، وتفاجئنا كل يوم بمحاسبة الفاسدين والمُفسِدين ولصوص المال العام، وبإعتقال العملاء والخونة وسجنهم وإفشال مخططاتهم، وهي لم تعتقل مناضلاً ولم تستهدف مواطناً، لم تختطف طالباً ولم تقمع رأياً ولم توقف عملية فدائية، كما أنها و”الحمد لله” لم تلحس حذاء أمير أو ملك أو رئيس، ولم تبع موقف لأحد، ولديها القرار الفلسطيني المستقل مستقل فعلاً وقولاً، وهي يا “أمي”قيادة جماعية، قراراتها بالإجماع ومؤسساتها تعمل بفعالية، وتنفيذ مهام مؤسساتها لم تنقطع يوماً، الأمر الذي أبقى البنادق موجهة للإحتلال وليس لصدر الشعب. وفوق ذلك كله، ومهما بحثت، فلن تجدي لهم أرصدة في البنوك الغربية ولا العربية ولا المحلية، لا بالملايين ولا حتى بمليون واحد، دليل على نظافة اليد كما أكد زوجي الحبيب!!!

سكتت قليلاً وتابعت وكأنها تحفظ قصيدة عن ظهر قلب:

ـ و”الحمد لله” أن زميلاً لهذا، “وأشارت بيدها الى القائد المناضل المفاوض على التلفاز”، المناضل العبقري الكبير عزام الأحدب أو الأحمق، فأنا لا أحفظ أسماءهم، كان قد أوضح لنا مُفسراً أيضاً، “أن إضراب المعلمين من أجل نيل حقوقهم، يمس بالأمن القومي الفلسطيني!!! “أرأيتِ يا “أمي” ؟ يخبرنا بما لم نكن نعلم، يخبرنا أن هناك أمن قومي فلسطيني، وأنا مثل الكثيرين كنت جاهلة بالأمر!!! كنت جاهلة أن هناك أمن قومي فلسطيني والبلد كله مستباح؟ أمن قومي والصهاينة يطاردون شبابنا ويقتلونهم كل يوم بدم بارد، أمن قومي وجنود الإحتلال يفتشون في غرف نوم هذه القيادة وفي سراويل نسائها؟!!! إضراب المعلمين هو ما يؤثر على الأمن القومي وليس التنسيق الأمني مثلاً، أرأيت؟ فلولا عبقريته في فن إدارة التفسير وطريقته ما كان لنا ، نحن الجهلاء،  أن نفهم الأمر على حقيقته، وكان التبس الأمر علينا وتهنا وأضعنا البوصلة مصدقين المعلمين لا سمح الله ولا قدر.      هؤلاء لا يرون فينا إلّا مجرد قطيع، يتحرك كما يريدون، يسمع ما يقولون، يفهم كما يشتهون ويصدق ما يكذبون.

في تلك اللحظة بالذات، كان المناضل المفاوض الكبير، يقول مفسراً التنسيق الأمني وماذا يعني، موضحاً لمن يريد أن يفهم، ودون أن يترك مجالاً لشك أو تحريف أو تدوير:

ـ التنسيق الأمني يعني أنه عندما يقتل “اسرائيلياً” زوجته، ويتخفى بين الناس في الضفة أو القطاع، ننسق معهم لإرجاعه.

فقلت فوراً في زهوٍ منتصر، موجهاً الكلام لأمي مهملاً زوجتي:

ـ أرأيتِ يا أمي؟

فقالت أمي مباشرة ودون تلعثم:

ـ ومنذ متى يحتمي الصهاينة بيننا يا غبي؟ وهل مثل هذا الأمر إن حصل يحتاج لتنسيق أمني؟ ألهذا يصر الرئيس على أن التنسيق الأمني مقدساً؟ وتصر أمريكا و”إسرائيل” على إستمراره؟ إلى متى سيبقى عقلك مُعطلاً يا ولد؟

ورغم أنني لم أقتنع بكلمة من كلماتهن، إلّا أنني فضلت أن لا أعلق على كل ما يقوله المناضل المفاوض الكبير، كي لا أستمع لمزيد من التوبيخ والإستهزاء منهما، لذلك لم أعلق بأكثر من ابتسامة غامضة عندما فسر لنا كلمات الرئيس، وفي أي إطار كانت، عندما قال أنه يبعث الأمن الفلسطيني ليفتش حقائب طلبة المدارس بحثاً عن سكاكين، لكن زوجتي التي تزداد تطرفاً يوماً بعد آخر مدعومة من تشجيع أمي قالت:

ـ ومنذ متى يحمل أطفالنا السكاكين؟ أيريد رئيسك أن يحولنا إلى قطاع طرق لمجرد أن يُرضي أسياده الإسرائيليين؟!!! بدل أن يدافع عن “السكين” كوسيلة لرد الظلم ومقاومة المحتل، قي ظل غياب وسائل أخرى.

فقالت أمي جملة من جملها القصيرة الحادة:

ـ طبعاً، فالسلاح أرسلوه ليدمروا سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولم يبق شيء يرسلونه لفلسطين، يا حيف على هذه الأمة يا حيف.

لا أعرف ما الدي أصاب أمي بالضبط، فكل يوم تزداد إنتقاداً وحِدّة على قيادات فلسطين والعرب، لكنني يوم عزاء الشهيد أمجد الذي إغتالوه واقفاً على باب داره برصاصة قناص، قبل شهر من الآن، استمعت لحديث الدكتور خالد، الذي فسر الأمر قائلاً :

ـ أن أمهاتنا وآباءنا بعد أن مر الزمن وهم ينتظرون العودة مُصدقين وعود الأنظمة، سرعان ما تهاوى شبابهم واندثر وهم يأملون خيراً في القيادة الفلسطينية بعدهم، ورأوا أنفسهم يتدثرون في أحضان شيخوخة بائسة، غير قادرة لحملهم لأي شاطئ آمن في بلادهم، التي يرونها بعيونهم المجردة، ولا يبتعدون عنها سوى بضعة كيلومترات، وبعد ما رأوا من تهاون القيادات وتفريطها بالقضية، أخذوا يزدادون ميلاً للمواقف الجذرية الحاسمة، في محاولة للإستفادة من تجربتهم المرة مع المحتل، وفي نفس الوقت لتقريب حظهم في الرجوع والعودة، فهم أكثر من يدرك أن عودتهم مرهونة بصلابة أولادهم، فصاروا يزدادون صلابة خاصة وأنه لم يبق من العمر بقية، وحلمهم بالعودة يدق بعنف تلافيف أدمغتهم…

ورغم أنني لا أتفق مع هذا التفسير الذي يحاول المس بقيادتنا، إلا أن بعضه، خاصة ما يخص أمي على وجه الدقة، صحيحاً، لكن زوجتي وكرهها أو حقدها أو على أقل تقدير عدم إحترامها لهذه القيادة، شيء لم أفهمه ولن أفهمه أبداً.

وسرعان ما أخذ “المناضل المفاوض”، يُدافع عن الرئيس المصري، معيداً كلماته بأن “فلسطين في سلم أولوياته”، فثارت أمي قائلة:

ـ طبعاً، فهو منكم وإليكم، وإلّا لما أغرق أنفاق غزة بمياه البحر، ومنع الطعام عن الغزيين والذي يشترونه بأموالهم، ويغلق المعبر الوحيد أمام الجرحى والمرضى والطلاب والأقارب، حتى لا أقول السلاح الذي كان يجب تقديمه بكل الطرق للغزيين، ليدافعوا به عن الأمة العربية وأولها مصر قبل فلسطين…

فقالت زوجتي بإبتسامة حزينة:

ـ مادامت مصر لم تكن يوماً أولوية لديه هل ستكون فلسطين كذلك؟ من يُهدي الجزر المصرية لآل سعود، ويبقي على أبواب مصر مفتوحة للنهب الأمريكي الإسرائيلي، ويعتقل عشرات الآلاف من شباب الثورة الذين أوصلوه لسدة الحكم، وزاد الجهل جهلاً وعمّق الأمية ورفع نسبتها، ورفع الأسعار وزاد نسبة الدين العام، ورفع الدعم عن المواد الرئيسية، ولم يبنِ مصنعاً أو يدافع عن ماء نيله ضد المشروع الإثيوبي الإسرائيلي، وكمم الأفواه ومنع التظاهر، أتريد من مثل هؤلاء أن يدافعوا عن فلسطين؟!!!

فقالت أمي معلقة من جديد، وكأنهما يعزفان لحناً واحداً ألّفتاه سوياً:

ـ يا طالب الدبس من طيز النمس!!!

فقلت بغباء لكن بحسم واضح:

ـ الرئيس إن قال فهو لا يكذب

فقالت زوجتي بطريقة حاسمة لا تقبل التأويل:

ـ لا يوجد رئيس لا يكذب

فقلت سائلاً بسذاجة طفل، لا أعرف كيف أو لماذا:

ـ والملوك أيضاً؟!!

فردت أمي هذه المرة قائلة:

ـ الملوك والأمراء أبداً لا يَصْدُقون…

ظل “المناضل المفاوض” يلوك كلماته وسط تعليقات أمي وزوجتي، وكلما كان ينطق بشيء لا يعجبهن كن يعلقن عليه بتكامل غريب، وكان حديثه وكأنه مفصل ليستطعن التعليق عليه، خاصة عندما بدأ بالدفاع عن آل سعود كما تسميهم زوجتي، “بأنهم لم ولن يتآمروا على قضية فلسطين”، ودون أن أنبس ببنت شفة قالت زوجتي معلقة:

ـ هؤلاء إما جهلة لم يقرأوا التاريخ يوماً، وإما أعمتهم أموال آل سعود ويكذبون بالمجان، ألم يقرأ  هذا كيف تبرع ملوك آل سعود بفلسطين “للمساكين اليهود” كما وصفوهم؟ ألم يقرأوا كيف تآمروا وتحالفوا مع شاه إيران “حيث إيران لم تكن شيعية في ذلك الوقت!” على عبد الناصر وثورته ومشروعه العروبي؟ وكذلك على نظام الجمهورية في اليمن؟ ألم يستدعوا ويطلبوا برسائل واضحة تدمير الدولة المصرية وهزيمة ناصر بهجوم اسرائيلي وإلاّ فالمخاطر كبيرة على نظام العائلة بأكمله، قبل شهور من حرب الخامس من حزيران 1967؟ وإن كان هذا من الماضي فماذا عن لقاءات مخابرات البلدين الدائم؟ وماذا عن لقاءات الأمراء مع “موسادهم” والتنسيق المشترك؟ وهل فعلاً لم يسمع عن لقاءات الأمراء مع الصهاينةفي الأردن؟ وزيارات بعض وزراء آل سعود للقدس المحتلة نفسها؟ أم كل ذلك لجس نبض المحتل ليعرف آل سعود كيف يحاربونه؟!!!

وضحكت بألم قلّما رأيته عل صفحة وجهها وتابعت بجديتها نفسها:

ـ هؤلاء يعلمون أن مستقبل عائلتهم معلق في أيدي “أمريكا وربيبتها اسرائيل”، والأخيرة هي الأقرب الآن بعد  ما يجري من تدمير للأوطان، لذلك كل هذا التحالف الذي أصبح علنياً الآن ولا يريدنا أن نراه صاحبك القائد.

فقالت أمي رادة على كل أسئلة زوجتي دفعة واحدة:

ـ إنه ثمن المال المدفوع يا بنيتي، والمال إن دخل ثورة أفسدها، أغنى قادتها وأذل شعبها وأضاع قضيته، لهذا بالضبط يابنيتي، نحن على ما نحن عليه من وهن وتبعية وخنوع، وحزب الله على ما هو عليه من عزة وعنفوان وصلابة، رغم أننا سبقناه بعدة عقود بحمل السلاح، لكننا أضعنا إتجاه البوصلة، أو غيرنا إتجاهها بثمن بخس.

كنت أحاول الإبتسام على كلام زوجتي قبل أن تبدأ والدتي حديثها، لكن كلماتها الجافة مزقت محاولات ابتسامتي الفاشلة ورمتها بعيداً خلف جدران الغرفة، كل ذلك و”القائد المناضل المفاوض”، ما زال يتحدث شارحاً تأييده للمبادرة الفرنسية التي لا يعرف نقاطها كما قال، كون القيادة ملّت من التفاوض مع “اسرائيل”، التي لا تفاوض بل تُملي شروطاً كما أكد، وهنا قالتا الإثنتان دفعة واحدة وبنفس الكلمات:

ـ إذن لماذا ما زلتم تتمسكون بالتفاوض كطريق وحيد أيها الأنذال؟

وأكملت زوجتي، وكأنها لا تريد أن تترك شيئاً من الحديث يفوتها التعليق عليه:

ـ إنهم يوافقون على مبادرة لا يعرفون مضمونها كما يدعون، ورغم رفض أغلبية الفصائل الوطنية والإسلامية، إلّا أنهم يعطون لأنفسهم الحق في الموافقة والمشاركة!!! من هم ليفعلوا ذلك؟ من أعطاهم الحق بتمثيل الأرض والعباد؟

فقلت صارخاً بزوجتي بعد أن “بلغ السيل الزبى”، ولم أعد احتمل كل هذا القدح والذم الذي تسيله فوق رؤوس القيادة:                                                                                                                               ـ كفى… لماذا لا تغلقين فمك هذا الذي لم يكف عن الحديث الهدّام؟!!!

وما فاجأني رد أمي التي علا صوتها صوتي قائلة:

ـ لأننا نتحدث عن وطن وعن قضية… نتحدث عن شيء ليس من حق أي كان التفريط به أو التسامح فيه… أفهمت أم علي إفهامك بطريقة أخرى…

كانت ربما المرة الأولى التي تخاطبني بها والدتي بهذه القسوة منذ فترة مراهقتي، وربما طفولتي أيضاً، وما كان مني أن انسحبت بهدوء غاضب لف جسدي كله، اتجهت لغرفة نومي، ودفنت رأسي في ظلام فراشي، وحيداً، طردت أحلامي واستسلمت للنعاس.

استيقظت مع الفجر، حملت صناديق “الخيار”إلى مؤخرة الباص المتوجه للمدينة، وأخذت عربتي ذو العجلات الثلاث، من مكانها الذي أؤمنها كل يوم فيه، أفرغت صناديق الخيار فوقها، ثم أخذت أرتبه حتى جعلته هرماً جميلاً يشد الإنتباه، مع شروق شمس الصباح كنت أنادي عل بضاعتي، “خيــــــــــــــــــــــــــــار… أصابع الببو ياخيـــــــــــــــــــار، أصابع الببو ياخيــــــــــــــــــــار”، وهجم الناس يشترون كما لم يفعلوا يوماً من قبل، فعرفت حينها أن أمي رغم غضبها مني ومن غبائي أحياناً كما تقول، إلّا أنها رضيت علي وعني، ولم تبخل علي بدعواتها بعد صلوات الفجر التي لم تهملها يوماً.

ومع الضحى، امتلأت المدينة بالبشر حتى فاضت بهم، وبدأت تتشكل جماعات بشرية تهتف بحياة فلسطين، وبدأت “الإحتفالات” بيوم النكبة، وكنت أجر عربتي وأنادي ترويجاً لبضاعتي، وفجأة ودون سابق إنذار، داهمت الشرطة الفلسطينية المتجمهرين وعربتي فقلبتها، وانهار بقايا “هرم الخيار” الذي كنت حريصاً على بقائه ليجلب مزيداً من الزبائن، ووقع الميزان بأوزانه وكفتيه، وداست أقدامهم الخيار والميزان وطيق العربة الخشبي، ووقعت أنا بين يدي العربة، ودون تأخير حاولت إعادة عربتي، لكن أيادٍ قوية إنتزعتني، فصرخت”إنها عربتي، أنا بائع الخيار”، وهوت على رأسي هراوة لم أستطع تحديد ضاربها، وتهاويت حتى وقعت على وجهي مثل لوح خشبي، وللحظات لم أعد أرى، وأحسست فقط بلزوجة دافئة تتدفق من الجرح على وجهي ورقبتي، وبقايا كلمات آتية من مكان بعيد تصرخ بي” بائع خيار ياابن الكلب”، وأطل والدي ببارودته، شاباً قوياً لم يعرف الشيخوخة أبداً، تماماً كما صُورته التي أخفتها أمي ولم تُظهرها إلّا بعد استشهاده، والدي الذي استشهد بعد ولادتي بشهور عدة، ورفضت أمي الزواج بعده قائلة، “أنها لن تبدل ذكرياتها مع الشهيد بأي كان أو بأي شيء كان”، لهذا بقيت وحيدها، وكان شيء يصرخ في داخلي” أنا ابن الشهيد ولست ابن كلباً”، أنا ابن الشهيد بائع الخيار، وكان صوت يأتي من بعيد بعيد وكأنه من أعلى طبقات السلطة، من فوق، هناك من العمارة التي يعتليها رأس السلطة، يكرر “شهيد… بائع خيار… ابن كلب”، وعلى مجموعات من البشر بعيدة عن مدى سمعي، كانت تتفجر قنابل الغاز السام من جنود الإحتلال وكأنهم يساعدون شرطة السلطة للسيطرة على الأمور.

وصحوت وأنا في زنزانة في السجن، يقف على بابها شرطي ببارودة طويلة، قال زميلي الذي يبدوا عارفاً بأنواع السلاح، أن هذا النوع من البنادق لا يُطلق إلّا للخلف، ولمّا قرأ الغرابة فوق وجهي أضاف ” إن الخيل من خيّالها”، وكان هناك على أبواب المدينة ضابط عسكري يحمل على كتفه نجمة داوود، يخاطب ضابطاً فلسطينياً، ينسق معه أمنياً، تماماً كما شرح وفسّر “القائد المناضل المفاوض”، يطالبه أن يبحث له عن “يهودي قتل زوجته واختبأ بين أهل المدينة”، وكانت الهراوات ما تزال تدق عظام “المنكوبين” منذ ما يقرب من سبعة عقود في الخارج، والزنازين تمتلئ بالأجساد المنهكة، وكلمات أمي وزوجتي تتعالى وترتفع في أذني صارخة” إننا نتحدث عن وطن وعن قضية…ليس من حق أحد التفريط به… التفريط به…التفريط بــــــــــــــــــــــــــــــــــه”.

محمد النجار

أم عمر تريد نصيحة الرئيس…

كانت تتردد بشكل يومي تلك المرأة الثمانينية على مقر المقاطعة حيث أعمل حارساً، تمر بخطوات متثاقلة حاملة كل سنوات عمرها الثقيلة فوق كتفيها، مستعينة بحديد السلالم عندما تصعد الدرجات، وتقف لتلتقط أنفاسها بين درجة وأخرى، تأتي مع شمس الصباح وتغادر مع النهار عند مغادرته، تجلس على مقعد خشبي بانتظار ان يسمحوا لها بمقابلة الرئيس، لكنهم كانوا يمنعونها من ذلك، بل لا يعيرونها انتباه ولا يعطون مطلبها اهتمام، فالرئيس ليس لديه وقتاً لأي كان من أمثالها، ولا “لكل منْ  هب ودب” كما قال أحدهم، لو كانت صحافية من البيت العبري لفردوا لها الأرض رملاً واستقبلها الرئيس خارج مكتبه وأجلسها بنفسه على مقعدها، فالرئيس يكرس كل وقته الآن في خدمة القضية الوطنية وليس لديه وقتاً ليضيعه مع مثل هذه المرأة الهرمة، فجل وقت الرئيس يبذله مع “أبطال التنسيق الأمني”، كي لا يفلت من بين أيديهم “لا سمح الله ولا قدّر” لا من يُحرِّض وينشر”الكراهية” مع الجيران الجدد، ولا خلية”تخريبية”، ولا قطعة سلاح “عبثية”، من جهة، ومع الصحافة بشكل عام والعبري منها على وجه التحديد،  كونه وعد نفسه بأنه سَيُحْدِث التغيير في المجتمع “الإسرائيلي” كي يضغط على حكومته من أجل السلام، غير عابئ بكل استطلاعات الرأي التي تؤكد نقيض ذلك!!.

وأم عمر التي لا تعرف هذا الأمر، ظلت تتردد ومنذ ما يزيد على أسبوع وما تزال للقاء السيد الرئيس. وكانت حاشية الرئيس ووزرائه في بداية الأمر لا تعيرها انتباه يُذكر، لكن أم عمر التي كانت تجلس صامتة في بداية الأمر، أخذت مع طول قعدتها ومرور الوقت الثقيل تزداد سؤالا عن موعد قدوم الرئيس، وبعد أيام أخذت تقول شيئا من مكنونات صدرها، الأمر الذي جعل بعض “أبطال التنسيق الأمني” يستشعرون “الخطر الكبير” الذي تحويه هذه المرأة العجوز في صدرها وكلامها، مما “اضطرهم لأخذها الى أحد المكاتب للتحقيق معها فربما تكون مدسوسة لتعكر صفو الرئيس أو لتجلب له الغضب و لأيامه التعاسة.

قال لها المحقق العقيد أبو هاني، أحد “أبطال التنسيق الأمني”، والذي كان بعض أصدقائه يتهكمون عليه مازحين قائلين، “أن عليه أن يأخذ معاشه من حكومة “إسرائيل” مباشرة وليس من السلطة، لعظمة ما يقدمه لها من خدمات”، والذي كان مثاله الأعلى المحقق “شلومو”، الذي على يديه تمت أعلى نسبة من الإعترافات في العامين الأخيرين، بهدوء وبخبث كعادته:

ـ أهلاً وسهلاً ياأمي، لماذا تريدين مقابلة الرئيس؟

فقالت الحاجة أم عمر:

ـ لا أخفيك يابني أنني في الفترة الأخيرة أسمع الكثير من الرئيس أو على لسانه، وأنني أكاد لا أصدق ما أسمع، فقررت أن أقابله كي أسأله وأقدم له نصيحة أيضاً….

فقال العقيد أبو هاني :

ـ لنبدأ من” ماذا سمعت منه أو على لسانه وبماذا تريدين سؤاله” ومن الذي أسمعك أو حثك وجعلك تقررين مقابلته؟

لم يعجب الحاجة أم عمر سؤال المقدم أبو هاني، لذلك تجاهلت مالا يعجبها في السؤال، وأجابت بنفس الهدوء، لكن بكلمات متعبة لاهثة:

ـ سمعت الكثير يابني، الكثير، لدرجة أنني أحياناً كنت أفكر وأقول أنه ليس من المعقول أن الرئيس “يبول من فمه”، وكنت أُكَذِّب أذني، لكن “الشمس لا يمكن إخفاؤها بغربال”.

ابتلع العقيد أبو هاني ريقه، لكنه فضل أن يظل على هدوئه ليعرف ما تريد هذه المرأة بالضبط، ومَنْ الذي وراءها، وسأل مجدداً:

ـ كيف ياأمي؟ كيف؟

فقالت العجوز مستغربة:

ـ وتسألني كيف؟ ألم تسمعه يستجدي الصحفية قائلاً أنه يريد لقاء زعيمهم في أي مكان وزمان، ويقول”جربوني أسبوعاً وإن لم أنجح أعيدوا الأمر على ما هو عليه،  أإلى هذه الدرجة وصلت المهانة؟ يجربوه في ماذا؟ إن كان يقتل ويعتقل ويعذب أم لا؟ وهل هناك شيء آخر يريدونه منه؟ ألم يدرك الرئيس بعد أن “من ليس لديه خميرة لا يخمر له عجينن”؟ وهو كما ترى لا خميرة ولا عجين، مأثورنا الشعبي يقول يابني” المنايا ولا الدنايا”، وهو رجل هرم مثلي ويعرف ذلك جيدا، وإن كان لا يعرف ليستقيل ويترك الأمر لمن يعرف، ألم يقل ذات يوم أنه لو خرج ضده شخصين اثنين في مظاهرة سيستقيل؟ لماذا لا يستقيل إذن وضده كل هذه “الأمة”؟ لا أحد يريده نتيجة أفعاله تلك سوى المستفيدين من وجوده، أم يعتقد أن “المسحجين” يمثلون شعبنا؟ الإنسان يابني يرتبط من لسانه وليس من “حافره”، ليعش “ديكاً يوما واحداً أفضل من أن يظل فرخة العمر كله”، وهو ماذا تبقى له من الأيام بعد هذا العمر الطويل؟ ليطالب بحقوق شعبه كاملة غير منقوصة إن أراد أن يظل رئيساً، و”أكثر من القرد لن يسخط الله”.

سكتت الحاجة قليلاً ثم أكملت من جديد:

ـ أنا أعرف أنهم لن يعطوه شيئاً، كما أنهم لن يعطوه شيئاً من القليل الذي يطلبه، لكن “لا يضيع حق وراءه مُطالب” يابني، وما عليه كرئيس إلا تثبيت مطالب شعبه وترسيخها، وقصتنا قصة تحلها الأجيال وليس جيلاً واحداً، فليترك الأجيال تقوم بمهامها.

أخذت الدماء تغلي في عروق بطل “التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني، لكن تجربته علمته أن يظل مستمعاً حتى النهاية ليعرف كل شيء عمَّن أمامه، فقال:

ـ لكن هذه المظاهرات يقوم بها فصيل واحد ياحاجة، وليس كل الشعب الفلسطيني…

فقالت الحاجة أم عمر:

ـ “أول الرقص حجلان” يا بني، ثم هل سينتظر الرئيس ليقوم ضده كل الشعب الفلسطيني؟ إنه يعرف أن معظم الشعب لا يؤيد سياسته، فالشعب يعرف أن “عدو جدك ما بودك، ولو عبدته مثل ربك”، وأن عدوا سلب الأرض وانتهك العرض، ويقتل كل يوم ويعتدي ويعذب ويقمع ويسجن لا يمكن التعايش معه، وهذا الفصيل الذي تتحدث عنه لم يقم لا بإنقسام ولا بحرب داخلية ولم ينجر لفتنة، وقدم من الشهداء من القيادة حتى الأعضاء، وظل شريكا بالعمل الوطني منذ عشرات السنين ومن الأوائل، والسجون مليئة بأعضائه، وأنا لدي اثنين من أبنائي في السجون منهم …

أدرك أبوهاني من أين لهذه المرأة تلك الأفكار “الهدامة الحاقدة”، فقال:

ـ لكنهم أحرقوا صوره ياحاجة، أليس من المعيب فعل ذلك؟

فردت الحاجة أم عمر وقد رأت نفسها في معركة مع هذا الذي يجلس أمامها:

ـ ألم يحرق هو قلوبهم وقلوبنا بتصرفاته وأقواله؟!!! وإن كان هؤلاء قد حرقوا صوره فعلى أبناء تنظيمه أن يرموه بعيداً ويزيحونه من القيادة كما أكد ابني الثالث القابع في السجن منذ سنوات، والذي هو من أبناء التنظيم الذي يدعي الرئيس أنه ينتمي اليه، ثم كيف يمنع عنهم مستحقاتهم المالية؟ من هو وبأي حق يفعل ذلك؟ هذه الأموال يابني هي أموال الشعب وليس ملكاً شخصياً لهذا الزعيم أم ذاك، وكما قال أحد أبنائي أن تلك المستحقات ربما تكون اقل من مصروف أحد أبناء الرئيس الأسبوعية، فهل يُعقل ذلك؟ هذا الأمر يعني إما أن “تبصموا”على ما أفعل أو أن تموتوا جوعاً…. وهؤلاء يعرفون أن “الشعير للبعير”، لذلك ظلوا طوال حياتهم رافضين أن يكونوا قطيعاً، رغم أن القليلين منهم ارتضى هذه المهانة، وسكت ليصله “الشعير” في آخر الشهر…

كان “بطل التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني يعرف أن ما تقوله الحاجة صحيحاً، ومهمته الحد من مثل هؤلاء المتطرفون الذين ما زالوا يحرضون على الرئيس وعلى قطار التسوية الذي ما يزال يسير، وها هو يعرف أن أبناء تلك المرأة في السجون ما زالوا يحرضون، وهي معلومة جيدة يمكن البناء عليها، فأكمل مع الحاجة محاولاً كشف المزيد، قال:

ـ يظل الرئيس ياحاجة رئيساً، ونحن لا نعرف كل أمور السياسة، لكنه رغم كل ذلك يحب وطنه مثلك تماماً…

فقالت الحاجة أم عمر وهي تنظر مباشرة في عيني بطل التنسيق الأمني:

ـ من يحب بلده عليه التقدم بالقرابين، شهداء أم جرحى أم أسرى، وأنا لم أرَ الرئيس قدم أحداً من أبنائه أو أحفاده، بل إن الشعب يُقدم وهو يكنز لهم الأموال، وها هو  وبعض أزلامه يبعثون أولادهم وأحفادهم ليشاركوا في مخيمات “اسرائيلية” تطبيعية!!!، وجاءهم الرد من الصهاينة أنفسهم، “أنكم لو قدمتم رؤوس قادة المقاومة على طبق من فضة، ودخل الرئيس حزب السلطة “الإسرائيلي”، فلن يغير هذا الأمر من توجهات الإسرائيليين”، “إن العدو ما بيصير حبيب ولا فرخ الحية بنحط في العب” يابني، الأمر مبتوت ومعروف، على الرئيس أن يترك الناس لتتصدى لعنصريتهم، أن يفضح ممارساتهم، أن يسلط الضوء على ممارسات جيشهم وقادتهم، من تقتيل وسجن وتعذيب بحق أطفالنا ونسائنا وشبابنا، ليعرف العالم كله أن “هذا لجيش الذي لا يقهر “هو في حقيقة الأمر الجيش الأكثر جبناً، والجيش الذي ليس لديه ذرة أخلاق، هذا إذا كان الرئيس لا يريد أن يظل حاملاً معولهم ويهدم في مقاومتنا وحقوقنا وتاريخنا…

سكتت الحاجة أم عمر قليلاً، وقالت موجهة كلامها من جديد الى أحد أهم أبطال التنسيق الأمني العقيد أبو هاني، دون أن تعرف ذلك:

ـ أتعرف ما يدهشني؟ أن الرئيس لا يعرف أن هؤلاء الصهاينة كلما ازدادوا تطرفاً وعنصرية وفاشية، كلما كان يوم نهايتهم يقترب، إنهم يعتقدون أنهم بذلك يدافعون عن نهايتهم القادمة لا محالة…

سكتت من جديد دون مقاطعة وأكملت:

ـ إذا كان الرئيس فعلاً حريصاً على الشعب والقضية لماذا لم نرَ ولا مرة واحدةً تحقيقاً مع عميل أم حبس مرتبط أو محاسبة فاسد؟ بدلا من اعتقال المقاومين ومطاردتهم وتعذيبهم كما لدى الإحتلال؟!!! أنظر يابني، “كلمة بت ولا عشرة لت”، الأمر أصبح في غاية الوضوح، والذي “لا يفهم بالوما الحكي معه خسارة”، التركيبة كلها فاسدة ومفسدة ومخترقة كما لم تكن يوماً، وهذا هو المطلوب من الغرب كله وعلى رأسه الدول …. ما اسمها؟ التي تعطي الرئيس “المصاري”، لقد قالوا لي أبنائي ذلك ونسيت…

فقال العقيد أبو هاني موضحاً:

ـ المانحة، الدول المانحة.

ـ المانحة نعم، يسلم لسانك، هذه الدول التي لا تقدم “الشعير للقطيع” مجاناً، المطلوب فاسدين ومفسدَين ومفسِدين وعملاء ومشاريع عملاء فقط، فهؤلاء فقط هم المستعدون للتنازل عن الأرض والشعب والوطن والتاريخ، هؤلاء فقط من يستطيعون التنازل عن مستقبل هذا الشعب مقابل حفنة من المال، لهذا لا مكان للمقاومين والشرفاء والأحرار في قيادة سلطة أوسلو…

إزداد ضغط “بطل التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني، ولم يعد قادراً على تحمل المزيد، والحاجة أم عمر التي أخذت المزيد من الهواء، ما يكفي لقول بقية كلماتها، قالت:

ـ وعلى كل حال، ورغم ذلك كله فقد جئت لأقل كل ذلك للرئيس مباشرة، وأقدم له نصيحة عله يُنقذ شعبه ونفسه من كل ماجرى، رغم أن “الضرب في الميت حرام”.

ـ وما هي هذه النصيحة؟

سأل العقيد ابو هاني ولم يعد قادراً على مجاملة هذه “العجوز” حتى لو كان من أجل معلومات توقع أن يسمعها، حين أكملت الحاجة أم عمر قائلة:

ـ جئت لأطالبه بأن يكون رجلاً مرة واحدة، وأذكره أن الذئب عندما قبل التدجين أصبح كلباً…

كنت في نوبة الحراسة آنئذٍ عندما سمعت صريخ “بطل التنسيق الأمني” أبو هاني من وسط مكتبه، منادياً عليَّ قائلاً:

ـ خذوا هذه “العجوز الشمطاء” خارجاً، ولا أريد أن أراها مرة ثانية بعد الآن…”خلِّيها تحل عن قفانا”

وأخذتها وأنزلتها الدرجات معتذراً عن كلماته بعيني، لكنها ظلت مصرة على مقابلة الرئيس، تأتي يومياً الى المقاطعة رغم منعها من الدخول، فعملت من صُخيرة مقعداً لها مقابلي بجانب البوابة، تجلس عليها منذ شروق الشمس حتى مغيبها، عدا بضعة أيام في الشهر حيث تذهب لزيارة أبنائها الثلاثة في سجون الإحتلال المختلفة، وتأخذ تحدثني عن أمور شتى خاصة بما قالته “لبطل التنسيق الأمني” العقيد ابو هاني، قبل أن تعرف مني أنه أحد “أبطال التنسيق الأمني”، تحدثني منذ لحظة دخولها واستدراجها بالحديث، حتى أقسم لها بأن يعمل على أن يتحول أبناؤها المحرضين، بعد انقضاء فترة محكوميتهم للسجن الإداري، طالباً ذلك رسمياً من الصهاينة.

كنت أنظر لهذه المرأة الثمانينية وأزداد استغراباً لشدة هذا الأمل والإصرار والعنفوان التي يتمتع به مثل هؤلاء البشر.

محمد النجار

ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا

من كان يعتقد أن السلطة ومؤسساتها يمكن أن تشكل حماية لشعب فلسطين كشعب أو كأشخاص، فقد خابت آماله وربما يكون قد فقد عقله، فهؤلاء وصلوا من الخساسة والمهانة والنذالة وفقدان الكرامة وعزة النفس والعهر السياسي والتبعية للإحتلال وأمريكا والصهاينة العرب الى درجة اللاعودة، ورغم أنني أو بالأصح لأنني فاقد الأمل منهم وبهم منذ سنوات، ورغم أنني مدرك أن “الضرب في الميت حرام”، إلا أنني لم أستطع السكوت امام الجريمة النكراء بإعدام الشهيد عمر النايف الذي قتلوه بتواطؤهم أو بسكينهم مع الصهاينة والسلطة البلغارية المتصهينة، ولهم في ذلك “فخر” السبق، حيث نفذوا بأيديهم وبموافقة الموساد قتل المناضل الكبير ناجي العلي، وسلموا بأيديهم المناضل الكبير ناصر السعيد لآل سعود ليقتلوه رمياً من طائرة مروحية حياً في صحراء الربع الخالي، تماماً كما يسلمون الآن الكثيرين من المناضلين للإحتلال الصهيوني دون أن يرفّ لهم جفن. لذلك سأتطرق للموضوع ـ ربما ـ بطريقة مختلفة عما أثُير حتى الآن:

  • وعليه، من يظن أو يعنقد أن حالة السفارة الفلسطينية في بلغاريا، هي حالة شاذة وسط هذا البحر الهائج من السفارات، فهو قطعاً مخطئ بإمتياز، لأنه من الصحيح القول والتأكيد أن وضع وتشكيلة وتركيبة السفارة الفلسطينية في بلغاريا، وآلية عملها وطبيعته تمثل الشكل العام لسفارات فلسطين، فعادة ما يكون السفير والقنصل والناطق السياسي والثقافي وأمن السفارة والعاملين بمجملهم، ليس لهم أي علاقة بالثورة ولا بالثوار، وإن كانوا مناضلين سابقاً فهم على الأغلب لم يعودوا كذلك، وسرعان ما يتم تدجينهم عبر تسعير الفئوية وتغليب المصالح الذاتية الخاصة على حساب أي شيء آخر، بما في ذلك على حساب الإنسان نفسه، وعلى حساب القضية الوطنية برمتها.

وعادة ما يكون العاملين في السفارة “من الكبير للمقمط في السرير”، إما تجارا يعملون مع أمن البلدان التي تحويهم، أو عملاء مباشرين لمخابرات هذا البلد، أو فاسدين ومفسدين ويعملون مع الصهاينة أنفسهم تحت شعار تمثيل سياسة المنظمة وعدم الخروج عليها، أو تجار على شعبهم نفسه، حيث تكلف أي ورقة يحتاجها الفلسطيني من سفارته مبلغاً لا يُستهان به. وإن صدف وكان السفير مناضلاً كما في بعض الحالات، فتبدأ كتابة التقارير به وتشويه صورته من العاملين معه و”المتبسمين” الدائمين له، للخارجية الفلسطينية حتى يتم تغييره و”يخلو الميدان لحميدان” ويعود الجميع لممارسة “أشغالهم وأعمالهم وتجارتهم”، التي لا يربطها رابط بالقضية الوطنية.

وعليه فالسفير “المذبوح” الذي لاحق الشهيد مع رجالات أمنه في بلغاريا، ورفضوا حمايته وطالبوه بمغادرة السفارة، ورفضوا  وضع حماية له أو حتى تركيب كاميرات في السفارة وحواليها، عليه وعلى زمرته كلها دفع الثمن نتيجة ما فعلت يداه وأيديهم، “حتى لو كان بحسن نية وهذا ما لا أعتقده”، ويجب أن يذوقوا من نفس الكأس الذي أذاقوه للشهيد، وبغض النظر عن أي إعتبار آخر، وخاصة لأصحاب شعار “من أجل الوحدة الوطنية”، فالوحدة تكون وتتعمق عندما يريدها ويعمل لأجلها كل الأطراف ويستفيد منها الشعب كله، وليس طرفاً واحداً كما كان حتى الآن، كما أن الوحدة لا تكون بأي ثمن، كي لا يتحول الشعار للتغطية على العجز الذي ينخر صدور البعض ويتحول لتغطية الجبن والهوان، هذا إذا لم يعتبر هؤلاء من عقود مما سُمي زوراً وبهتاناً بالوحدة الوطنية، التي هيمن فيها فصيل واحد على الثورة ومقدراتها وسلاحها وعلاقاتها وماليتها وقرارها الذي سُمي “مستقلاً”، هذا الإستقلال الوهمي الكاذب وبهذا النوع من القيادات هي التي أوصلتنا إلى “أوسلو”، كون المتغيرات الطبقية التي جرت عليها لا تؤهلها للوصول أبعد من ذلك أصلاً، فما بالكم بقيادة على يمين تلك القيادة وكل طموحها واسترتيجيتها مبنية على رضى المحتل عنها، واستكمال طريق الإستسلام عبر المفاوضات العبثية،  مُضيعة عشرات أخرى من السنين ودون نتيجة طيعاً.

  • وعليه فإن “مشروع المصالحة” إن لم يكن على أساس برنامج عمل مقاوم ، “ينفض” منظمة التحرير ويغربلها ويرمي من يستحقون الرمي على مزابل الشعب، وغربلة مؤسسات المنظمة مؤسسة مؤسسة وفرداً فرداً دون استثناءات، ودون تنازلات أو مجاملات، وإلا فإن كل ما يسقط من شهداء لهذا الشعب العظيم وكل جرحاه وأسراه لن يكونوا إلا لخدمة هذه القيادات وأمثالها ومشروعها الإستسلامي في الداخل أم في الخارج.

  • الأمر الذي يفرض على اليسار القلسطيني، وعلى الفصيل الذي ينتمي اليه الشهيد على وجه الدقة، تعاطياً مختلفاً على كافة الأصعدة، ولأسباب عدة أهمها أنه تاج اليسار الفلسطيني والذي له باع طويل في العمل الوطني المبدئي والتنظيمي والسياسي والعسكري منذ عشرات السنين، وعليه هو مسؤولية تشكيل “جبهة إنقاذ وطني” قبل أن تأخذ السلطة ومن لف لفها القضية والشعب الى الهاوية، التي نحن على أبوابها أو حافتها، الأمر الذي سيلقى معارضة من داخل صف اليسار نفسه من “حملة الحقائب” للسلطة، والمستفيدين منها كقادة في المنظمة أو موظفين أو كعلاقات، هؤلاء الذين يحيون حياة البذخ وأبناؤهم لا يدرسون إلا في المدارس غير الناطقة للعربية ومن ثم في جامعات العم سام وحارتها أو دول أوروبا الغربية وعلى حساب الثورة طبعاً، أما كيف حصلوا على هذه الأموال أو المنح وماذا دفعوا ويدفعون بالمقابل، فلا جواب، هؤلاء الذين يحاولون تغيير الحزب الى منظمة شئون اجتماعية أو الى مؤسسة أو منظمة غير حكومية ممولة من موظفيهم، هؤلاء لو دخل بيتهم انسان عادي سيكفر بالثورة عندما يرى ما لديهم وما يأكلون وما يلبسون، احسبوا فقط ثمن ملابسهم في يوم واحد أو ما يشترون من بضاعة اسرائيلية وأمريكية”وهم يدَّعون المقاطعة”، ستجدونها أضعاف معاشهم الشهري… فلا تنتظروا الّا معارضة شرسة من هؤلاء “اليساريون البرره”، باسم الثورة والشعب والحفاظ على الوحدة الوطنية.

  •  طبعاً لا يفوتنا التنبيه لما يحصل في مؤسسات م ت ف وسفاراتها، أنه ليس إلا شكل من أشكال الفساد الذي ينهش جسد المنظمة ككل، والذي بدونه سيخسر المنتفعين مكانتهم الإقتصادية والمعنوية وقدرتهم على الأمر والنهي داخل المنظمة، وعلى رأسهم الرئيس عباس، فليس صدفة أن يعترض هؤلاء الطفيليين على دعم ايران لعائلات الشهداء ما لم تمر من خلالهم، وإن مرت من خلالهم لن تصل لأسر الشهداء وستتوقف في جيوبهم، فهم اعتادوا على العيش على دم الشهداء ولن “يَزْوَروا” ببضعة آلاف من الدولارات إضافية عن كل شهيد إضافي. والشعار نغسه دائماً وأبداً” القرار الفلسطيني المستقل”، لكن أي قرار وأي مستقل؟ فالسؤال ممنوع.

  • الرئيس عباس يقول لأحد من حاول التوسط للنائب نجاة أبو بكر ابنة حركة فتح، التي كانت خطيئتها الكشف عن فساد مالي والمطالبة بالمحاسبة، يقول له الرئيس:”لو ينزل ربك نجاة ستسجن”، فعباس أولا وأخيرا لن يدقق أو يحقق أو يحاسب أي فاسد، فهو نفسه كرأس للفساد لن يجيب أحداً كيف شكل ثروته وثروة أبنائه وأحفاده وعائلته، وقبله الرئيس المرحوم عرفات، رغم الفارق الشاسع بينهما، أجاب عندما قالوا له أن من حواليه مجموعة لصوص وعليه تغييرهم قائلاً:”هؤلاء سرقوا وشبعوا، ولن أغيرهم لآتي بآخرين يسرقون من البدء من جديد”، العقلية ربما لا تكون بهذا التشايه، لكن النتيجة واحدة، هدر اموال الثورة وشهدائها وجرحاها وأسراها دون حسيب أو رقيب، ألم تصل أموال المنظمة كلها الى أيدي طليقة عرفات؟ أكثر من خمسة مليارات دولار وكأنها ملك شخصي له؟!!! وكذلك انظروا لعائلته أيضاً، ومن لا يعرف فتحي عرفات وموسى عرفات فلا يعرف شيئاً، وعليه قراءة التاريخ الفلسطيني “الحديث جدا”.

  • أما ما يخص نظرة الرئيس عباس الى القضية والشعب فحدث ولا حرج، فهو أبو المقدسات كلها، من التنسيق الأمني الى عدم تقديم أوراق لمحاكمة جرائم الصهاينة، مروراً بالقمع والسجن للمناضلين، ومحاولاته لإسقاط حق العودة ، ومحاولاته كذلك لسحب سلاح غزة وتدجينها، وهو كما يقول لن يسمح لأحد أن يجره لمعركة لا يريدها!!! وكأنه يخوض المعارك التي يريدها هو وما أكثرها، فالرجل يسير من معركة الى أخرى!!!، “الله يعطيه العافيه” ويعمق صموده، فهو لا يريد أن يشغله أحد عن معاركه تلك، وأن يترك له “المزاودون أمر تحديد مواعيدها” بنفسه!!!.

  • ظني أن الجميع عليه أن يدرك أن الدخول في نفق “أوسلو” مهما كان الذي يدخل أو من كان، فهو يدخل نفقاً مظلما، جل ما يفعله هو تنفيذ أوامر الصهاينة والأمريكان. وكي نكون صادقين، ألم يودع الرئيس عرفات المناضل أحمد سعدات بعد أن دعاه لإجتماع فصائلي، في سجن رام الله نزولاً عند أوامر الصهاينة؟ ولم يخرجه رغم كل قرارات المحكمة الفلسطينية العليا التي أمرت بذلك مبطلة قرار الإعتقال؟!!! ورغم ذلك لم يستطع الرئيس عرفات مخالفة أوامرهم وإطلاق سراحه، ليسار الى تسليمه للصهاينة بعد ذلك بمؤامرة خسيسة منحطة من قبل أجهزة السلطة التي نسقت الأمر مع الصهاينة والأنجليز المشرفون على السجن في مدينة أريحا عام 2008، على يد أبطال التنسيق الأمني بقيادة الرئيس عباس، والأمر نفسه يتكرر الآن بذات الطريقة في السفارة البلغارية، فما جرى ليس سوى إمتداد التنسيق الأمني الى ساحاتٍ خارجية بعد أن كان محصوراً في الداخل، فعلام الغرابة في الأمر كله.؟.. ببساطة إنه أوسلو، الذي حول فصائل وقوى وشخصيات إلى قوات لحد الفلسطيني.

  • وها هي السلطة الفلسطينية، تؤيد نظام آل سعود المعادي ليس فقط لقضية فلسطين، بل لكل ما هو انساني، بإعتباره “حزب الله” منظمة ارهابية!!!، باعوا الحزب، باعوا حامل لواء القضية الفلسطينية بحفنة دولارات كما باعوا سوريا لقطر مسلمينها قيادة فلسطين للجامعة العربية، وكما باعو ا الموقف من داعش والنصرة في مخيم اليرموك نزولا عند رغبة آل سعود، فهم مستعدون لبيع اي شيء وكل شيء بأي شيء، وحتى حماس التي دربها وسلحها ودعمها حزب الله بالمال والسلاح، لم تتجرأ على قول “كلمة حق عند سلطان جائر”، ولم تعترض على ما يقوله آل سعود، تغطي موقفها بنذالة وصمت مهينَين من أجل المال، تماماً كما فعلت مع سوريا بعد كل الدعم السوري لها واحتضانه لقادتها، ورفضه المطالب الأمريكية لطردهم، فتُدخل السلاح من خلال حثالات الأرض المتأسلمة لمخيم اليرموك وللعاصمة دمشق، مُنشئةً منظمة “أكناف بيت المقدس” بقيادة مساعدي خالد مشعل الأمنيين، متحالفة مع تنظيم القاعدة في بلاد الشام”جبهة النصرة”، وتشرد ربع مليون فلسطيني ضاربة بذلك حق العودة بعرض الحائط، ذلك الحق الذي تتشدق به صبحاً ومساءً وفي كل الأوقات، ومحاولة تمزيق سوريا.

  • وسرعان ما تعمل على عقد صفقة مع “اسرائيل” من خلال طوني بلير بوساطة “العثماني الجديد” السلطان أردوغان التركي، وبدعم من الحارة القطرية…

  • أيها السادة… أيها القادة… أيها اليسار الذي تبقى… إنه أوسلو … إنه مشروع الموت الفلسطيني… إنه مشروع “قبر” القضية الوطنية، ومشروع الكسب المالي للطبقة السياسية الطفيلية الفاسدة المفسدة الحاكمة، بما فيه من فُتات لأشباه اليسار وأشباه المناضلين وأشباه القادة…فكل من لف حواليه أغرقه، ولا سبيل لإنقاذ من ذهب للمستنقع بقدميه، لكن الحذر الحذر من أن يسحبوا معهم ما تبقى من “يسار” ومن مناضلين الى ذلك المستنقع، وكي لا نصل المستنقع، وكي نحمي القضية الوطنية، وكي نقطع الطريق على كل محاولات الشطب للقضية، على اليسار وجبهته الشعبية على وجه الخصوص، البدء في العمل على تشكيل “جبهة إنقاذ وطنية” بعيدة عن “أوسلو” وقياداته الفاسدة، وقطع الطريق على هذه القيادة كي لا تُحوّل قوى هذا الشعب الى سعد حداد ـ لحد فلسطيني، وينبوأ اليسار فيها موقعه القيادي الفاعل، ضمن إطار قيادة جماعية حقيقية، بعيدة عن هذه القيادة التي حددت خياراتها، وصارت استراتيجيتها واضحة، ولم تعد تصلح لقيادة “قطيع من الغنم” فما بالكم بقيادة شعب كشعب فلسطين العظيم؟!!! فمأثورنا الشعبي وأهازيجنا الوطنيه لطالما رددت :

” يما مويل الهوى يما مويلية                                         ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا”…

فهل من مستمع أو مجيب؟!!!

محمد النجار

وأمك بنت

كان قد خرج لتوه من السجن، حيث أمضى آخر عامين من حياته، بعد أن تم إعتقاله من بيته في مدينة رام الله، قال لي باسماً عندما إلتقينا في بيته عندما ذهبت لتهنئته، رغم البيت الممتلئ حتى آخره بالزوّار المهنئين:

ـ لم أستمع لكلامك، كنت أعتقد أنك تبالغ في الأمور عند حديثك عن السلطة، وكنت ربما نكاية بك أذهب للنوم في بيتي في معظم الأيام، وكنت أتذكرك في كل صباح عندما أستيقظ، وتكون كلماتي قد بدأت تتلاعب فوق لساني وتدغدغه، فأقول بنوع من الإستهزاء بك” ها أنا لم أُعتقل، فالسلطة تعرف على ماذا وقَّعت”، وأكاد أهتف مع كلماتي هذه، “أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها”، كون السلطة هي التعبير الأبرز عن حركة فتح، وحركة فتح هي الشريان الرئيس للسلطة بالبشر، وبقيت أعتقد أن جيش الإحتلال لن يجرؤ على إقتحام المدن، وإنْ فعل فحركة فتح وعلى رأسها الرئيس عباس والناطق باسم جهاز الأمن وجهاز المخابرات والجهاز التنظيمي والجهاز السياسي وكبير المفاوضين وأوسطهم وصغيرهم، سيقلبون الطاولة على رأس الدولة العبرية، وستقوم الدولة ولن تقعد جراء إعتقال أحد كادرات حركة فتح…

وسكت “رفعت”، على اعتبار أنني أعرف بقية القصة، فكوني حذرته من المبيت في البيت، اعتبر أن ذلك يجعل من القصة معروفة عندي، لذلك تفاجأ عندما سألته عما حصل في ذلك المساء، وقال:

ـ أعرف لماذا تريد أن تفرد صفحة ذلك اليوم أمامي، أكيد أنه ليس من باب التشفي، فمثلك لا يعرف التشفي، لكنه من باب العتاب القاسي، الذي يجبر المرء على التفكير في كافة الجوانب، ولعلي أصدقك القول عندما أخبرك أنني لم أصدق الأمر في فترته الأولى، وكنت أعتقد أنني في حلم وليس حقيقة، وعندما أكتشفت العكس صرت أقول لنفسي أن في الأمر خلل ما، فأنا ابن فتح التي وقعت “أوسلو”، والتي أخبرتنا أن “أوسلو” هو جزء من اتفاق مرحلي، وأنه تكتيك كما اسقاط الميثاق الوطني وتفريغه من مضمونه، وكما إسقاط حق العودة في مبادرة “عبدربه ـ بيلين”، أو من مقابلات وتصريحات الرئيس نفسه، وكما قصة “الصواريخ العبثية”، وكما إلقاء القبض على المناضلين وزجهم في السجون، وكما التنسيق الأمني، يعني كلها أمور تكتيكية “لنضحك” بها على “لحية” الإحتلال، بنفس القياس، وتماماً كما كنا “نتكتك” في علاقتنا مع الأنظمة الرجعية العربية وعلى رأسها مملكة آل سعود من أجل موضوعة الدعم المالي!!!.

نظر نحوي مباشرة وقال:

ـ ابتسم كما تريد، أو إضحك بأعلى صوتك، بكل ما فيك من قوة، إضحك لأنني كنت أصدق كل ذلك، كنت أصدق أن هذه القيادة لم تُخْصَ بعد، وأن رائحة الرجولة ما زالت تفوح منها، وأنها لن ترتضي أن تكون قوات لحد جديدة، خاصة أنها ترى بأم عينيها ماذا كان مصير لحد وسعد حداد وكل من اتبعهما بعد أن إن إنتهى دورهم، لكن ماذا تريدني أن أفعل والخصاء ينجب في العقل أولاً، وهؤلاء فقدوا الشجاعة والرجولة منذ الزمن الذي ارتضوا فيه نسج العلاقات مع أمريكا مستمعين لنصائح آل سعود و”مماليك” مصر، منذ أصبحت “الريالات” أكثر أهمية من دماء الشهداء، وأصبحت “المحرمات” وجهة نظر لتنتقلنا إلى أن الخيانة وجة نظر.

قلت لهم حين رأيتهم يحاصرون البيت وكأن “أوسلو” لم يكن:

ـ هذه مناطقنا، مناطق أ، مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية ومسؤوليتها الحصرية، بأي حق تقتحمونها؟

قال أحد الضباط بعد أن نظر في عيني طويلاً، والذي شعرت أن سبب حضوره هو لإسماعي هذه الكلمات:

ـ نحن حتى الآن نعمل ضمن القانون، مناطق أ نقتحمها إن كان هناك خطر علينا منها، لنا الحق في متابعة واعتقال أو قتل من يشكل خطراً علينا، هذا ما ينص عليه “أوسلو”، إحمد الله أننا لم نقتلك…

وتابع بعد أن أسكت لساني عن النطق:

ـ ليست مشكلتنا نحن إن كذبت عليكم قيادتكم، ولبست مشكلتنا إن صدقتموها أنتم لأنكم تريدون تصديقها، رغم معرفتكم أكثر من أي شخص كم هي كاذبة.

واقترب مني أكثر وقال وكأنه لا يريد أن يسمع جنوده ما يقول:

ـ فكيف إذا عرفت أننا أبلغنا السلطة عن نيتنا بإعتقالك، وقدموا لنا هم المعلومات عن تحركاتك ليسهلوا لنا إعتقالك؟!!.

وكالعادة ظننت أنه من باب اللعب بالأعصاب، الحرب النفسية ليس أكثر، قلت له:

ـ خسئت أن تُشككني بقيادتي، أعرف أساليبكم منذ سنوات، لا تُحاول…..

قال بثقة:

ـ أعرف أنك ستقول ذلك، إبقَ على ما أنت عليه، هذا ما نريده نحن وقيادتك، لكن أن تبدأ تلعب “بذنبك”، هذا لن نسمح به لا نحن ولا هم كذلك…

وأكمل ناظراً حواليه وكأنه يحتمي من آذان متنصتة:

ـ بالمناسبة، إذا بقيت على ما أنت عليه، واستمريت بهذه الطريقة، سَ”تتبهدل” وستبقى معظم وقتك داخل السجن، وداخل تنظيمك لن تكون يوماً ذا شأن، يعني أنت الخسران في كافة الأحوال والأزمان.

وتابع “رفعت” قائلاً بأسى:

ـ وفي التحقيق وجدت أن “أمعاءنا” أمامهم على الطاولة، كل ما تحدثت به أمام قيادة السلطة كان عندهم… ورغم ذلك ظلت ثقتي بالسلطة قائمة، حتى رأيت أعداد المعتقلين من مناطق أ تتزايد، ووصل الأمر أنهم دخلوا بيت الرئيس مفتشين في حديقته عن مطلوبين!!!

سكت من جديد، عانق أحد القادمين لتهنئته، وأكمل كما فعل حتى هذه اللحظة، وكأنه لم يعد يهمه شبئاً:

ـ ولماذا نستغرب بعد كل ذلك ما تفعله السلطة بالمعلمين؟!!! هل من يعاقب شعبه بالسجن لكونه يريد النضال بمستغرب على أن يضع على رأس المعلمين قيادة تبيع المعلمين ومصالحهم منذ اللحظة الأولى؟ فيتساقطوا تحت أقدام السلطة منذ اللحظات الأولى في محاولة منهم لإفشال هذا النضال المطلبي المحق، إسألوهم كنقابيين من أين لهم ما لديهم من أموال وامتيازات؟ وكيف حصلوا عليها ومن أين؟

إلتفت هذه المرة الى الآخرين وكأنه يريد أن يشرح لهم الأمر:

ـ منذ ثلاثة أعوام وقعوا مع المعلمين على زيادة بعشرة في المائة، لم يعطهم سوى حمسة منها فأين الباقي ؟ولماذا لم تُعطلم بعد سنين ثلاث؟ فالسلطة لا تريد أن يسد المعلمين رمق جوعهم، وإلّا لما جندت كل طاقتها لإفشال إضرابهم، ولما قامت بتجييش “حركة فتح” لتقوم بمظاهرة داعية لحقوق الطلاب !!!، يا لمساخر القدر عندما تُوَظَّف حركة محسوبة على حركات التحرر لتكون حجر عثرة لتمنع قطاع شعبي واسع من أخذ حقوقه؟!!! ليتحول دورها من النضال ضد الإحتلال الى نضال لتثبيت مصالح الطبقة الحاكمة في سلطة “أوسلو” وموظفة عندها. وكأن “شَبَع المعلم” يتعارض مع حقوق الطالب!!!   كذلك تقوم السلطة بإستنفار طاقتها كما لم تفعل من قبل مع الإحتلال، وتنصب الحواجز لتمنع تدفق المعلمين على الإعتصام السلمي!!!، ليأتي أحد أقطاب السلطة كاذباً ليخبرنا أن بعض الضباط قاموا بذلك بشكل فردي وليس بقرار سلطوي مركزي ومن أعلى السلطات، أي من الرئاسة مباشرة، بعد تجييش الإعلام “العاهر” المقروء والمسموع والمرئي على المعلمين أكثر مما جيشوه غلى المحتل في ريع قرن مضى!!! يا سلام كم يستخف هؤلاء بعقولنا!!! كم يعتقدون أنهم أذكياء وأغبياء نحن!!!

سكت قليلاً، وأكمل بإصرار لم أعهده به من قبل:

ـ الغلاء يأكل المعلم كما بقية أفراد الشعب الأخرى، فمعاش المعلم لن يوصله إلى منتصف الشهر بأي شكل من الأشكال، لن يحمله الى أبعد من ذلك، والحل الذي تراه السلطة  لكنها تتعامى عنه هو حل سهل وبسيط، وهو أن”يوقفوا السرقات عندهم في مؤسساتنا التي تحت سيطرتهم، أن يحاربوا الفساد ويتوقفوا عن الإفساد، أن يستعيدوا الأموال المنهوبة، ويوزعونها غلى الشعب ومؤسساته ونقاباته، فينهون بذلك أزمة المعلمين والعمال والأطباء وغيرها من الأزمات الكثيرة أيضاً، فأزمة المعلمين هي جزء من كل، وما يُحيرني ويستفزني أيضاً أنه وفي الوقت الذي يستعملون فيه كل إمكاناتهم لإفشال إضراب المعلمين، فهم لم يوقفوا لصاً واحداً أو يحاسبوا فاسدا واحداً أو حتى يعتقلوا عميلاً  واحداً ومرة واحدة في الربع قرن الماضي، ولم يحاولوا !!!

فقال أحد المتواجدين والقادمين للتهنئة، والذي كان جالساً على أحد كراسي القش الذي وضع مع كراسي مشابهة أخرى، بجانب كنبات البيت القديمة التي لم تتسع لهذا العدد من القادمين، قال على غير توقع:

ـ سيفعلوا…

فسأل رفعت بغضب باحثاً بعينيه عن مكان الصوت:

ـ متــــــــــــــــــــــــــــــــــــى؟!!!

فقال نفس الصوت من ذات المكان:

ـ وأمك بنت………….

أغرقت الكلمات صالون البيت بالضحك الصاخب، وضحك رفعت أيضاً، ولم أدر إن كانت ضحكته تلك خففت عنه همومه أم زادت من أعبائها فوق جسده.

محمد النجار

حذار حذار من غضب الرئيس

منذ أيامٍ طوال، طالب الرئيس الفلسطيني “شركاءه الإسرائليين” بالإفراج عن الأسبر الفلسطيني المضرب عن الطعام منذ ما يزيد عن 86 يوماً، وإلاّ “سيضطر آسفاً” إلى وقف التنسيق الأمني، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة لدى أجهزة السلطة والناطقين بإسمها وكتبتها ووسائل إعلامها المسموعة والمرئية والمكتوبة، لكن المفاجأة الكبرى لديهم كلهم أن أحداً لم يصدقه من قادة “اسرائيل”، وبالتالي لم يُطلقوا سراح الأسير، لذلك فالرئيس ورجالاته هاجوا وماجوا وغضبوا واضطربوا، وامتعضوا وانفعلوا وحنقوا وحقدوا، وسخطوا واغتاظوا واحتدوا ونقموا وبرطموا، وسألوا صارخين :

ـ  لماذا لا تصدقون الرئيس؟… لماذا؟!!!

وبعضهم صرخ بال”عربيةالفصحى” بأعلى صوته :

ـ why?!!!

وسرعان ما انتقوا منهم بضعة رجال من رجال المرحلة الأشداء، وعقدوا اجتماعاً موسعاً مع أصدقائهم وزملائهم”الإسرائيليين”، وسألوهم بشكلٍ مباشرٍ وواضح، ودون دبلوماسية أو لف أو دوران أو حتى محاباة:          ـ لماذا لا تُصدقون السيد الرئيس؟

بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك وأوضح قائلاً:

ـ لماذا تصدقون السيد حسن نصر الله ولا تصدقون الرئيس عباس، رغم كل ما قدمه لدولتكم العتيدة من أمن وأمان وسلام؟!!!

لكن مفاجأتهم الكبرى كانت عندما نظر أعضاء الوفد “الإسرائيلي”واحدهم إلى الآخر، وبدأت علائم الإستغراب من هكذا سؤال، إستغراب لدرجة إستغباء السؤال والسائلين، فأخذ بعضهم بالإبيتسام، وآخرون بالضحك، وبنات أفكارهم تُجيب صارخة دون كلام:

ـ ألهذا دعوتمونا؟!!! تباً لكم يا أغبياء العصر وطُفيلييه، إذا كانت تجربة سعد حداد لم تُعلِّمكم شيئاً فما الذي يمكن أن يُعلِّمكم؟ فشعب الله المختار تتوجب خدمته من “الأغيار” كلهم، ولا تُلزم دولتنا أو “شعبنا” بشيء…

وتقاطعت نظراتهم مع عيون أعضاء وفد السلطة، وكاد يقول لهم أحدهم:

ـ لكننا نحترم الرجال حتى لو كانوا من ألد أعدائنا، ألم يخبركم سجناؤكم كيف كنا نحترم رجالاتهم المبدأيون غير المعترفين الذين ظلوا يحافظون على أسرارهم الوطنية، بعد إنتهاء التحقيق، رغم كل ما نفعله وفعلناه بهم؟ ورغم كل حقدنا عليهم لكننا كنا نهابهم ونرهبهم ونُجبر على إحترامهم…

لكنهم تذكروا أن قادة السلطة لا يعرفون الكثير عن سجنائهم… وقاموا تاركينهم دون حتى كلمة وداع.

ويُقال أن السلطة ورئيسها ورجالاتها قرروا التعامل بلامبالاة مع موضوعة الأسير المضرب عن الطعام، بنفس درجة اللامبالاة لدماء الأطفال الذين يُعدمون يومياً في وضح النهار على قارعة الطريق.

ويقال أيضاً أن المُغرضين المُتربصين بالقيادة، سرّبوا الأمر وتداولوه ونشروه، لذلك كان لا بد من الذهاب الى مسألة المصالحة الوطنية، وفي دويلة الشيخة موزة على وجه التحديد، معقل الإخوانية العربية وثيقة الإرتباط بالعم سام، للإستفادة من الأمر تكتيكياً، ولمرحلة قد تخدمهم لفترة زمنية قادمة، وخاصة كمورد مالي إضافي، فكما يُقال “فزيادة الخير خيراً”، كما وتلبية الدعوة للإحتفالات بذكرى الثورة الإيرانية لنفس الأسباب وغيرها أيضاً.

فالمصالحة كما يقول الجاهلون غير العارفين بدهاء السياسة ووعورة طرقها، هي أولاً وأخيراً مطلباً شعبياً منذ سنوات عشر، كما أن التطبيل والتزمير لها مفيد، ويظهرهم بمظهر الحريص على استعادة الوحدة الوطنية أيضاً، تماماً مثل حاجة قيادة حركة حماس للأمر نفسه، رغم الفرق بين برنامجيهما، فحماس تتمسك بالبندقية التي تدر عليها الدعم الإيراني، بجانب دعم آل سعود ودعم “حارة” الشيخة موزة المالي، مضافاً لدعم العثمانيين الجدد الذين يحاولون جاهدين لوي عنق حماس لتطبع مع اسرائيل، وتقوم بتسوية ما، أو على الأقل أن لا ترد على خروقات الكيان وضرب عمقه. والسلطة تتمسك ببرنامج التسوية التي تدر عليها الدعم الأمريكي الإسرائيلي الأوروبي بجانب دعم آل سعود.

وأمام إنتهاك السلطة لكل قواعد العمل الوطني، يقول بعض “المجانين” مثل كاتب هذه الكلمات، أن على الفصائل كافة محاربة مطاردة المناضلين، وعلى المناضلين الذين تمردوا على سلطات الإحتلال أن يرفضوا تسليم الذات للسلطة ويتمردوا عليه، وأن تساعدهم قواهم الوطنية، أو رفاقهم وإخوانهم حتى دون قرارات تنظيمية، ودون تعصب أو فئوية، وأن يحاربوه إذا اقتضى الأمر ذلك، وبذلك يبدأ نضالهم ضد مشروع سعد حداد ـ لحد الجديد في فلسطين. فالمستهدف هو المناضل الفلسطيني “بغض النظر عمّن هو ولا لأي فصيل ينتمي”، وكذلك القضية الفلسطينية بكل من فيها من فصائل وشخوص وطنية ومشروع تحرر.

ويضيف نفس “المُغرضين الثرثارين” أن قيادة حركة فتح، التي كانت طوال سنوات عمرها متفردة بالقرار الفلسطيني ، رافضة أن يشاركها به أحد، لن توافق بعد أن امتلكت السلطة و”قطفت ثمارها” المالية، أن يشاركها به أحد الآن، تماماً مثل حماس التي كانت ترفض التوقبع على مجرد بيان مشترك مع القيادة الموحدة للإنتفاضة، وامتلكت السلطة في الفطاع واستفادت منها جماهيرياً ومالياً، فلن تتخلّى عنها الآن أيضاًُ من أجل المصالحة، فالعامل المشترك بين الجانبين هو تملك السلطة والإستفادة منها والتمسك بها، فالطرفان تتملكان القوة ، أحدهما ببندقية مقاتلة والثاني ببندقية مساومة حامية لمشروع الإحتلال، ولن تتخلى أي منهما عن هذه القوة لمصلحة الأخرى، وستبقيان تراوحان أحدهما بقبعة أمريكية أوروبية والثانية بعباءة الإخوان المسلمين.

أما وأمرهما مع إيران، يُضيف “الحاقدون”، أن كلاهما لهما ما لهما وعليهما ما عليهما، فسلطة الرئيس عباس التي تحارب المقاومة المدعومة من إيران عسكرياً على الأقل، ليس لديها ما تطلبه من إيران أو تُبرره لها، فهي لن تتنازل عن سياستها ومقدساتها السياسية،” فالتنسيق الأمني مقدس، والمفاوضات مقدسة، وسياسة القمع للمناضلين والمحتجين والمتظاهرين مقدسة، وإعتقال المحرضين و المقاتلين وأصحاب الرأي الآخر مقدسة… وعدِّد بلا حرج”، ويُضيف الحاقدون على ما قالوه سابقاً، أن ضمن وفد السلطة المشارك في إحتفالات الثورة الإيرانية، أحد القادة الأكثر فئوية وتهريجاً وتبعية لدرجة الذيلية لكل رئيس، والأكثر تعصباً وديماغوجية وسطحية وحقداً على الآخر، وربما آخرون ممن هم مبعوثون خصيصاً لمعرفة ما يدور هناك ونقله بحذافيره لمخابرات السلطة. ويُروجون إلى أن السلطة ربما تُريد معرفة ما يمكن أن تقدمه إيران لفصائل المقاومة ليسهل عليها إحباطه في أرض الوطن “والله أعلم”…  أما قيادة حركة حماس الإخوانية، التي وجهت شكرها لقائد الأمة “ولد” الشيخة موزة “هوشي منه” الجديد لدعمه للمقاومة في غزة في الحرب الأخيرة، وملك آل سعود “جيفارا العصر” ورئيس السودان “الجنرال جياب”، كما معظم الدول الفاشلة غلى الصعد كلها، إلّا إيران الداعم الحقيقي والأوحد لم تذكرها ولو بكلمة شكر واحدة، إلا أنهم وكعادة الإخوان المسلمين المنافقة، وبعد أن أصبح فشل المشروع الأمريكي ـ الإخواني في المنطقة على شفا الهاوية، يحاولون الرجوع للحضن المالي العسكري الإيراني، دون قطع الخطوط لا مع العثمانية الجديدة التي تقايض فلسطين بأبخس الأثمان، ولا مع حارة الشيخة موزة، ولا حتى مع آل سعود!!!

لهذا كله، يؤكد الحاقدون المتربصون الثرثارون المزاودون، أنه وكي لا نُحبَط من جديد، وكي لا نُعلق آمالاً كبيرة كاذبة على ما يُسمى “مشروع المصالحة”، فعلينا أن نرى الأشياء كما هي دون تجميل، رغم ما سمعناه وقرأنا عنه وشاهدنا دلائل “نجاحه” من المصافحات وتبويس اللحى،  ورأينا الإحتفالات به من “أعراس” وهتافات وتمجيد، ففاقد الشيء لا يعطيه، والإتجاهين ليس لهما مصلحة في المصالحة، لذلك يبدو أننا لن نراها قريباً رغم كل دُعاء البسطاء منا وابتهالاتهم الى الله…

محمد النجار

“دود الخل” منه وفيه

قلت لطارق وبدا عليّ الضيق والحنق، بعدما أخذ يضيّق عليّ الخناق، وأخذ مني الغضب مأخذه:

ـ ياأخي الرئيس الفلسطيني لم يأت من السماء، إنه ابن هذا الشعب وابن قضيته، وهو يعرف من أين تُؤكل الكتف.

فقال وكأنه يستهين بي وبكلماتي سائلاً:

ـ ومن أين تُؤكل الكتف من وجهة نظر الرئيس؟

للحق أقول لك، كدت أتركه وحده وأمشي، لكني كنت سأخسر جولة الحوار هذه، فابتلعتُ ما اعتبرته إهانة وقلت:

ـ نعم إنه يعرف تماماً أنه إن حل السلطة، فهناك الكثيرون من المتكالبين الذين سيهرعون ليحملوا رايات السلطة ويبيعيون القضية برمتها للإحتلال، لذلك فهو بتمسكه بالسلطة إنما يدافع عن القضية برمتها….لكنك تعرف هؤلاء المتفذلكين، ليس من السهل إقناعهم، وكلما أتيت لهم ببرهان يأتونك ببراهين، فقال بنفس طريقته المُستفزة:

ـ ومَنْ هم هؤلاء “المتكالبين”؟                                                                                                  فقلت وبنفس الإحساس الذي بخالجني مع كل كلمة من كلماته:

ـ كيف مَنْ؟ أتريدني أن أعطيك أسماءاً؟ ألا تراهم أو تحس بهم على الأقل؟

فقال مبتسماً، الأمر الذي كاد يخرجني عن طوري:

ـ الأسماء ليست بهذه الأهمية، وأنا وإن كنت لا أعرفها كلها، فأنا أعرف من يحميها ويمولها ويُغطّي تورطها، وكما قلت أنت فهم سيحملون راية السلطة، كونهم لا يعنيهم سوى تقديم خدماتهم لمن يدفع، فهم ليسوا مثلك، لا يتمسكون برئيس أو أمير، وحتى الله بالنسبة لهم ليس أكثر من دولار آت من العم سام أو حلفائه في المنطقة.

لقد خفف عني استشهاده بكلماتي، لكن”الفرحة” لم تدم طويلاً، عندما تابع قائلاً:

ـ والذي يدعمهم ويحميهم ويغطي عليهم ويمولهم ما هو إلا الرئيس الذي تُدافع عنه، أم لديك تفسيراً لماذا ما زال الرئيس متمسكاً بهذه السلطة التي ظل يهدد بحلها حتى الآن؟ وإن كان لا يريد حلها لماذا هدد طوال الوقت بذلك؟ ولماذا جُن جنون المحتل خوفاً من تداعي السلطة وانهيارها؟

وقبل أن أقول شيئاً أكمل قائلاً:

ـ وما دام “دود الخل منه وفيه”، إذن لماذا لا يقوم رئيسك بتنظيف هذا الخل ورمي “دوده”؟ هذا إذا كان ما يزال يريد “الخل” والإبقاء عليه؟ أعني لماذا يبقي أجهزته الأمنية تنغل وتعج بمثل هذه الديدان؟ ولماذا لا يوقف التنسيق الأمني إلتزاماً بقرارات المجلس المركزي؟ ولماذا ما زال يعتقل ويقمع في مناضلي شعبه؟ ولماذا ما زال يفاوض من تحت الطاولة؟

لا أعرف لماذا ظل الغضب يتصاعد داخلي رغم صحة أسئلته التي لا أعرف لها جواباً، بالمناسبة أنت لديك موقعك في السلطة، هل لديك أجوبة لهذه الأسئلة المحقة؟

مرت فترة صمت قاطعة صخب حديثي، وأكملت من جديد أمام صمته المطبق:

ـ حتى أنت لا تمتلك أجوبة على ذلك، لا بأس، دعني أكمل لك ما جرى….

ظلت تتدفق الكلمات من بين شفتيه مثل نبع لا ينبض، وأكمل قائلاً:

ـ رئيسك يا عزيزي ليس بأفضل من هؤلاء الذين تعترض عليهم، ألم يلفت نظرك أن أول شيءٍ عمله عندما صار رئيساً هو تجميع كل السلطات بين يديه؟ الأمر الذي حارب رئيسه عرفات عليه مدة عام ونصف دون حديث أو معايدة أو حتى مكالمة هاتفية، مدعوماً بأبواق محقة ومشتراة من صحافة وإعلام، ألا يثير الأمر فضولك؟!!! ولماذا يلغي هذا الرجل ـ كسابقه ـ  مؤسسات المنظمة ولمصلحة مَنْ؟

خلت أنه أنهى حديثه، لكني كنت مخطئاً، فهؤلاء يتحدثون وكأنهم مبرمجون، لا يكفون عن الكلام حتى تنتهي البرمجة، وتابع أسئلته قائلاً:

ـ ألم يثر اهتمامك أن هذا الرجل لم يصدق ولو مرة واحدة بخصوص وعوده مع الإحتلال؟ ألم يثر فضولك أن معظم حاشية الرئيس ما هي إلا شخصيات أقل ما يمكن وصفها بأنها تافهة، ذليلة، جبانة، علاقتها بالإحتلال عميقة كثيفة مميزة ولا يربطها بشعبنا سوى كيس المال القادم من الرئيس وبإسمه؟ وكلها أصبحت من أصحاب العقارات والملايين؟ وحتى الرئيس نفسه من أين له ولأولاده كل هذه الفلل والشركات والملايين؟

ماذا أقول لك؟ كوني لا أجوبة شافية لدي كففت عن رفع صوتي، ولم أعد قادراً على الدفاع عن الرئيس وحاشيته ـ كما أسماها ـ وهو كمن ينتظر ليفرغ كل ما في صدره من غضب أو حقد، رفع يده ليطلب من نادل المقهى فنجانا آخراً من القهوة، وتابع من جديد:

ـ وها هو رئيسك لا يهمه حصار غزة ولا جوع أبنائها، لا تزايدوا على قادة حماس فأنتم لستم بأفضل منهم بهذا الأمر، فرئيسك يعطي نظام السيسي حقاً بإغلاق المعبر، وكأن المعبر ملكه!!! وكأن من يموت في القطاع المحاصر لا يعنون أحداً، وبدون حياء هو وهم يتحدثون عن المصالحة الوطنية، ورئيسك يشترط مصالحة على أساس برنامج المنظمة!!! أيمكن أن تقول لي عن أي برنامج يتحدث؟ أو حتى عن أي منظمة يتحدث؟ وهل أبقت السلطة منذ توقيعها اتفاقية العار في “أوسلو” على برنامج تحرير لمنظمة التحرير؟!!! أم المقصود برنامج تجريد الشعب سلاحه كخطوة لتجريده من ارادة النضال والقتال ؟!!!                                                           وبعد لحظات سكوت قال “آآآه” وكأنه تذكر شيئاً، وأكمل بإستهزاء:                                                            ـ الآن أدركت!!! ربما يعتقد أنه قصفهم ب”صواريخه غير العبثية”  عندما قال لهم ” ياعمي حلّو عنا”!!!

أصدقك القول أنني قلت ما قلت من باب المماحكة لا اكثر، كون حديثه كان يدور في رأسي دون أن أسمح ولو للحظة واحدة للساني أن يخون عقلي ويدلق ما به أمام الناس، فما بالك أمام هؤلاء المتطرفين؟

ارتشف القهوة وبخارها يتصاعد، أعاد الفنجان الى صحنه الصغير على سطح الطاولة، حرّك رأسه ميمنة وميسرة وكأنه يأسف على حديثه مع شخص مثلي، الأمر الذي أجج غضبي وزاده الى أقصاه، فقلت بنبرة احتجاج قاسٍ:

ـ ألا تخاف الله يا رجل؟ اتشبه الرئيس ببعض من حوله من اللصوص والحثالات البشرية؟ إنهم يعملون من أجل المال، لكن الرئيس، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!!!

فقال موجهاً لي اتهاما أكثر منه سؤالاً:

ـ لماذا تستعيذ الله من الشيطان؟ اظن أن الشيطان معشش في رؤوسكم؟ إذا كانت الحاشية بهذا الوصف، فهي ليست إلّا جيش لحد بتشكيلته الفلسطينية، وإذا كان رئيسك يعمل من أجل الوطن وليس المال، لماذا قال أنه يؤيد كل ما تقوم به مملكة آل سعود؟ ألا يعني هذا تأييده للعدوان على اليمن؟ ألا يعني تأييد موقف آل سعود في دعمهم للدواعش والقاعدة وحربهم في سوريا والعراق وليبيا ومصر؟ ألا يعني هذا دعم موقفهم في اعداماتهم للأصوات المعارضة وللمثقفين والكتاب وكل من يملك عقلاً؟ ثم لماذا لم يطالب بالإفراج عن الشاعر الفلسطيني المحكوم بالإعدام قهرا وتجبرا؟ أكل ذلك من أجل المال؟ بماذا سيفيده المال بعد أن يقضي على قضية شعبه؟ أأنت أعمى أم تتعامى؟ ألا ترى أن وزارة الصحة الفلسطينية ترفض أن تسجل الشهيد نشأت ملحم كشهيد فلسطيني كونه من الأرض المحتلة من الثماني وأربعين؟ أتعتقد أنهم بعيدين عن تفكير الرئيس وتوجيهاته؟ طبعاً أنت لا توافق على ما أقول، تماماً بقيت كما أنت، أتذكر كيف كنت تدافع عن الرئيس عرفات أيضاً وبنفس الطريقة مهما قال ومهما فعل؟ الا تريد أن تدرك أنهم بشراً خطائين ؟ وأننا كنا نعبد أصناماً وليس آلهة؟ أنا من طرفي كففت عن عبادة الأصنام، اعبدها أنت كيفما تشاء وقدر ما تشاء….

وللحق أنني تذكرت نفسي طوال الفترة الماضية، وتذكرت كيف كنت “أبصم” على كل ما يقولون، وما زلت كذلك، ربما كوني لا أريد أن أصدق ان رئيسا لحركة تحرر  فلسطينية يكون مشروع “أوسلو” أكثر ما استطاع أن يوصلنا له، وأنه حوّل المناضلين الى أتباع شخصيين، وسرعان ما حوّلهم إلى أدوات قمع وقهر تعمل في خدمة الإحتلال… نظر نحوي نظرة شفقة وقال:

ـ لقد قرأت في مكانٍ ما، أن وفداً من الثورة الفييتنامية جاء في زيارة لقيادة ثورتنا في بيروت، ولما رأوا المكاتب والتبذير  والإستهلاك قالوا لهم: ” ثورة بهذه الرفاهية وبهذا البذخ لن تنتصر أبداً “، هذا كان آنذاك فما بالك الآن؟!!!    وقام من على كرسيه متوجهاً الى داخل المقهى، دفع ثمن الطلبات عنه وعني وذهب…

هذا بالضبط ما تم بيننا.

أنهيت حديثي مع العقيد الفلسطيني “أبو غضب”، الذي استدعاني لمكتبه حيث تم الحديث، حين أسند ظهره على كرسيه الهزاز، تصفح وريقاته التي كان يسجل بها ملاحظاته، وقال:

ـ قلت لي أن هذا ما تم بينك وبين طارق، لكن معلوماتنا تقول أنك ما زلت تُخفي عنا الكثير من المعلومات، على كل حال أنت من سيتعب وليس أنا، أنا سأغادر الآن وألعب مع أطفالي وألاطف زوجتي وأقبلها وأعانقها، وما عليك إلا أن تبقى “راكباً رأسك”، عندما تقرر أن تعترف بالحقيقة كاملة، أخبر المجند ليناديني…

لا أدري لماذا ذكرتني كلماته بكلمات ضابط المخابرات الإسرائيلي “كوهين”، الذي ظل يردد نفس الكلمات على مسامعي أثناء تحقيقه معي في الماضي غير البعيد.

ضغط على “زر” على حافة مكتبه، دخل احد المجندين الفلسطينييين، أخذني من ذراعي، وتوجه بي الى زنزانة كنت قد زرتها سابقاً، حيث فاجأني طارق بوجوده، حاملاً شفته الممزقة والتي ما تزال تنزف دماً….

محمد النجار

أم محمد تستقبل القنطار على باب الجنة

رسالتي هذه سيدي المناضل الشهيد سمير القنطار، هي رسالة فخر متواضعة، من إنسان بسيط، لم يقم بما قمت به فيي حياتك، ولم ينل درجة الشهادة العليا التي نلتها بمداد دمك، وكلماته ليست كلمات رثاء ممن قرأته من فحول شعراء العرب في حياتك، لكنها مجرد مشاعر خالجتني طويلاً، منذ اللحظات الأولى لاستشهادك، كوني أعرفك مثل الكثيرين ولكنك لا تعرفني، سمعت عنك الكثير مثل الكثيرين قبل أن تنفض غبار سجنك منتصراً محَرراً، عرفتك من خلال عيون أم فلسطينية، كانت تعرف كيف تربي أطفالها على التعلق بقريتهم المحتلة منذ عام ثمانية وأربعين، هدموها كما فعلوا بآلاف القرى الأخرى، ونتيجة هذه التربية “المتطرفة” من وجهة نظر من إحتلوها، أخذت تزورهم لاحقاً في سجون من سجنوك أيضاً، وكوني أحد أبنائها، أصارحك القول أنني لم أدرك هذا المعنى العميق للتشبث بقرية منسية مهدمة، إلا بعدأن أجبت المحقق في مرة من المرات بأنني من تلك القرية، ورأيت الدهشة الممزوجة بالحقد  من خلال صراخه عندما أخذت أوصف له القرى المجاورة لها من باب الشرح الذي سرعان ما تحول الى تحدي، ما أدى لزيادة غضبه وسأل سؤالاً استنكارياً ” ألم تنسها بعد؟!!!  وأمام غضبه أسهبت بالوصف رغم أنني لم أزر المنطقة كلها سوى مرة واحدة حتى ذلك التاريخ.

نعم، عرفتك أكثر من خلال تلك الأم التي كانت تنقل الحجارة لمنتفضي المخيم في طيات ثوبها الفلسطيني الذي طرزته بيدها، والتي كانت تنقل بيانات القيادة الموحدة للإنتفاضة في جيب “عبها” الذي خيطته خصيصا من أجل ذلك، عرفتك من خلال تلك المرأة التي طالما أنقذت الفتيان الفلسطينيين من أيدي الجنود المدججين بالسلاح والذين لم يُبقوا على مكان من جسدها خالياً من الرصاص المطاطي في مرات عدة، والتي كافأها أهل فلسطين بجنازة مهيبة لا تليق إلا بالأبطال، وتخيل وأنت تأخذ العزاء يأتيك معظم قادة الفصائل في المخيم ليقولون لك “أنكم لا تعرفون إلّا القليل عما كانت تفعله أمكم للثورة”…

جاءتك هذه الأم زائرة مع أمك “المتبنية”، أم المناضل جبر وشاح، وعرفتك هناك من خلف القضبان، وانتظرت زيارتي بفارغ الصبر، وكأنها تحمل لي بشارة عظيمة ، وهي كذلك، قالت “لقد نجحت في زيارة سمير القنطار… وسأفعل ذلك ما دامو يسمحون لي بذلك…” وتابعت الأمر وكذلك فعلت مع سجناء عرب آخرين، حتى منعوها من ذلك، قالت أنها زارتك وبكت، بكت كثيرا رأفة بذويك الممنوعين من زيارتك. تلك الأم سيدي المناضل الشهيد توفيت على فراشها وليست في ساحة الوغى، رغم أنها كانت على بعد مسافة أقل من رصاصة، وخاصة من أحد الجنود الذي رمته في مجاري المخيم بعد أن خلصت أحد الفتيان الفلسطينيين من بين يديه، فأمطرها  وبقية زملائه بما يزيد عن ثلاثين رصاصة مطاطية دفعة واحدة.

تلك الأم ستجدها واقفة مع الشهداء منتظرة وصولك على باب الجنة، وستزفك هناك بالزغاريد، وأنت ستعرفها بالتأكيد، وستحاول أن تقص عليك حكايتها الفلسطينية، كيف هجروها وعائلتها، كيف قتلوا كلبها الصغير الذي عاد زاحفاً ليموت بين يديها ولتزرعه تحت شجرة صبار معانقاً لجذورها، وستخبرك عنا، عن أولادها وسجنهم، وعن ابنها آخر العنقود المصاب، والذي سخّروا جرحه لتعذيبه ليعترف، لكنه هزمهم، وربما ستخبرك عن ابنها البكر الذي انتزعوه من صدرها باكياً بحكم قانون العشيرة المتخلف الظالم….فحاول ان تستمع لها ولن تمل، وستعرف الحكاية الفلسطينية كما تعرفها الآن وربما بمزيد من التفاصيل.

سيدي المناضل الشهيد، لقد أيقنا باكراً أنهم كلهم وجها واحداً لنفس العملة، فالقاتل والمحرض والداعم بالسلاح والمال وقافل القنوات وقامع الرأي الآخر كلهم عاملون عند السيد الأمريكي، وكلهم بعد اغتيالك تجمعوا محتفلين  يشربون الخمر وبول البعير. وهؤلاء لا يعرفون ماذا تعني الشهادة التي تأتي لا خوفا ولا طمعا، بل شهامة ونُصرة وعزة وكرامة أولا وقبل أي شيء، ولا يدركون أن النصر لن يكون يوماً للقتلة ولا للمتآمرين وحثالات الأرض، الممولين من ملوك الغاز والرمل والنفط في مملكة آل سعود، وأن النصر لا يليق إلا بالمناضلين، لهم فقط وبهم.

سيدي المناضل الشهيد، لا أخفيك أنه لم يفاجئني موقف قادة الإخوان المسلمين، ومعظم كادراتهم، بما فيهم الجانب الفلسطيني، مستثنياً منهم جانبهم القسامي، لأنهم بكل بساطة هم صانعوا تلك الحثالات عند كل القوى الإرهابية، التي لم تقف يوماً الى جانب القوى الشعبية المناضلة، بل بجانب الثورة المضادة أينما وجدت، فكانوا مع الملك فاروق، وما أن ابتدأت المجازر لتهجير شعب فلسطين، حتى أعلنوا الجهاد في محاولة لتطويق مطالب  شعب مصر للقتال في فبسطين، رأوا الشعب ينتفض في مصر العظيمة ويطالب بالذهاب للقتال في فلسطين، ففتحوا مع حليفهم الملك فاروق باب التسجيل لهم ، فسجل للنضال في فلسطين مليون مواطن مصري، لم يرسلوا فرداً واحداً منهم إلى فلسطين، تخيل ولا فرداً واحداً!!! مجرد تنفيس باسم الدين للمد الثوري، ثم وقفوا ضد عبد الناصر المعادي للرجعية والإستعمار، وضد السلال واغتالوا القيادات التي حاربت الإستعمار الفرنسي في الجزائر تحت شعار الشيوعية والعلمانية كما فعلوا مع المناضل شكري بلعيد وغيره مؤخرا في تونس، وحاربوا بو مدين في الجزائر بعد انتصار الثورة، ووقفوا مع آل سعود وحلف بغداد الإستعماري، وضد كل القوى المناهضة للإمبريالية والرجعية، وهاهم بعد أكثر من ربع قرن على طرد الروس من أفغانستان، والتي كان فيها التصنيع والزراعة وتحرر المرأة في مستوى لم تشهده افغانستان في تاريخها الحديث، حولوها باسم الإسلام الى أكبر بلد متخلف  ومتردم وليس به بنية تحتية ولا صناعة ولا زراعة، وأصبح أكبر بلد منتج للأفيون في العالم، ونسبة الأمية تفوق ال80%، وأودعوه تحت البسطار الأمريكي بعد أن دفعت شعوبنا الدم هناك، وتزايدت نسبة المرضى والأمراض فيه وأصبح مثالاً للبلد الفاشل. وحكموا السودان فقسموه وصحروه ونشروا الفساد والإفساد وكمموا الأفواه، وزادت البطالة والتضخم وأصبح السودان منتجاً للمرتزقة عند آل سعود في اليمن، وبدلا من أن يوجهوا البنادق نحو محتل بيت المقدس يخاطب بعضهم رئيس دولة الكيان ب”صديقي العزيز” ويمتدحه كما لم يفعل المتنبي بسيف الدولة، وانظر ماذا فعلوا بسوريا وليبيا والعراق، كيف دمروا وما زالوا بناها التحتية وشردوا ملايينها وقتلوا وجرحوا ملايين أخرى، وسرقوا متاحفها وتراثها ونفطها، وماذا يحاولون أن يفعلوا بجيش مصر، وماذا فعلوا بالجزائر في تسعينات القرن الماضي قبل ذلك كله، وماذا يفعلون باليمن الآن؟ وكل ذلك لخدمة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، وانظر كيف استجلبوا الإرهابيين من كل بقاع الأرض، ورغم التدمير الذي سيدخل عامه السادس بعد قليل، إلا أن رصاصة واحدة لم تُطلق على الكيان الغاصب ولو بالخطأ، بل إن الكيان من يهاجم معهم ويعالج جرحاهم. كما أنهم من يحاول تسليم شمال سوريا الى العثمانيين الجدد الذين ما زالوا يغتصبون لواء الإسكندرون. أولئك سيدي هم تجار الدين، والتي تُعتبر التجارة الأكثر ربحاً كما قال ابن رشد، في مجتمع عربي تفوق نسبة الأمية فيه أكثر قليلاً من 70%، رغم كل أموال آل سعود المركونة في بنوك الأمريكي، بل المطلوب تجهيل المجتمعات لتحويلها الى قطيع من البهائم، لتسهل قيادتها وتفكيك المجتمعات بها ومن خلالها، لذلك فهم يغلفون بضاعتهم الفاسدة بغلاف ديني ليسهل تسويقها. أتعتقد أن الذي يغير أسم مدرسة من اسم قامة شهيد بحجم وهالة وشموخ المناضل الشهيد غسان كنفاني الى إسم أبو حذيفة كثير عليه أن يشمت باستشهادك ويحاول محو تاريخك الوطني المشرف؟!  أم أن السلطة التي لا تجرؤ على المطالبة بجثامين شهداء شعبها وتقمعه وتعتقله وتنسق أمنياً مع المحتل في وهج انتفاضته ستجرؤ على استنكار اغتيالك؟ هؤلاء جميعهم مع أسيادهم ومموليهم وداعميهم ومنظريهم، مهما كبروا وغنيوا وطالت واستطالت قاماتهم ، فإنهم لن يصلوا يوماً الى سقف نعل حذائك الذي اتسخ من رمل الطريق التي قادتك الى نهاريا.

طوبى لك سيدي المناضل الشهيد، طوبى لك مناضلاً عروبياً، فارساً متنقلاً من لبنان إلى فلسطين إلى لبنان مجددا إلى سوريا لتستشهد هناك، طوبى لك وأنت تصعد نحو السماء، طوبى لك وأنت تُزف من رفاقك الشهداء الذين سبقوك إلى هناك، من المناضلين الذين قضوا برصاصات الأعداء الجبانة أو غيرها، ستجدهم واقفين مستقبلينك بكل الفخر والعزة والإكبار، وسط الأهازيج والمواويل الشعبية، وزغاريد الأمهات. أم تعتقد أن من كان له أمهات عديدات على الأرض لن يكون له أضعافهن في السماء؟!!!

محمد النجار