أم الشهيد

  • عندما نظرت إلى صورة الشهيدة سهام نمر، يتقدمها إبنها الشهيد مصطفى نمر، رأيت الشهيد ينظر في أعماق عيني ويقول، ” إن لنا عليك حقاً”، فخجلت وأخفضت عينيّ، وكتبت هذه السطور:

*إلى روح الشهيدة سهام راتب نمر، والدة الشهيد مصطفى نمر، وكل الأمهات اللواتي قدمن أبناءهن شهداء وجرحى ومعتقلين، وكن شهيدات حتى لو بقين يمشين على الأرض.

 

قامت من النوم مبتسمة كحالها في الأشهر الأخيرة، ورغم تيقنها الأكيد من نومها العميق، إلّا أنها تكاد تجزم أنها كانت مستيقظة متيقظة رغم ظلام الليل الذي دثر البيت بعتمته، وأن ما رأته كله حقيقة، حقيقة ساطعة كشمس النهار التي، بشعرها الذهبي، غطت بيوت المخيم كله، ولا شأن له نهائياً بالأحلام.

هذه الإبتسامة المعلقة الثابتة فوق شفتيها، مثل فانوس مستقر في وسط السماء، كان مثار حيرة في البيت كله، خاصة أنها صارت بهذا الوضوح بعد استشهاد ابنها، وفسّر الجميع الأمر بسبب اشتياقها له وافتقادها لرؤيته يشرب من كاسة شايه مستعجلا الوصول لعمله،  قبل أن يسرقه الزمن ويُغيبه النهار بعيداً دون أن يحس أو يشعر، ويجد نفسه عائداً خالي اليدين من رغيف المساء، فكان إتفاق ضمني من الجميع بتجاهل الأمر حتى يمر الزمن، والزمن قادر على فعل المعجزات.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة كما يبدو، فاستشهاده لا يجعلها قليلة التمييز بين الحقيقة والخيال، بين الحلم والواقع، فهي تراه في كل ليلة ولا يغيب عن سهول عقلها في أي نهار، فارس يعتلي صهوة نهاره ويجوب في طرقات رأسها، يروح ويجيء ويحرث الأرض، يدق عنق التربة “ليخرج من الأرض ماءاً”، ثم يأتي إليها مُتحزماً بتاج العز، متلفعاً بالشهادة، تراه وتحتضنه وتقبل جبينه بعد أن يحتضن كفيها ويقبل يديها كل مساء، تجلسه في حضنها وتناغيه كما لو كان صغيراً، تدلعه وتلاعبه وتقبله وتتركه ليلعب على باب بيتها في المخيم، كما كان طفلاً، فباب بيتها كان يمكن أن يكون آمناً مثل كل المخيم، لولا أولئك الغرباء الذين بسببهم بُني المخيم، وهي تعلم علم اليقين أن المخيم ليس أَبَدِيّ، وأنها ستمسك ابنها، ذات يوم، من يده ويعودا سوياً تتبعهما الأُسرة كلها، والمخيم كله، إلى قريتها وبقية القرى المُنْتَظِرة منذ سبعة عقود، دون يأس أو وهن أو فقدان أمل، يعودوا ليطردوا اللصوص الذين قتّلوهم وهجّروهم وطردوهم واستولوا على بيوتهم بقوة الحديد، ولولا الحديد الذي بأيديهم ما كانوا ليجرؤوا على الإقتراب من باب بيتها، وأن الحديد لو كان متوفراً في أيدي رجال القرية ونسائها لما تجرأ أحد على القرية وسكانها، وأن الناس لو تُركت لتدافع عن نفسها دون تدخل أصحاب القصور من “ذوي القربى”، لكان شهيدها يجوب طرقات القرية وفأس الأرض على كتفه، لذلك كانت تعلم علم اليقين أنه بالحديد فقط سترجع بيتها المسروق، فكانت، لذلك ربما، ترضع وليدها أسرار القرية، جغرافيتها، تاريخها الذي طالما حاولوا،فاشلين، محيه أو إلغاءه، طرقها، مُغُر الجبال في أراضيها، حكايات نسائها ورجالها، أولادها وبناتها، جرحاها وأسراها وشهدائها على طول طريق السبعين عاماً، منذ خروجهم الدامي ملاحقين بالرصاص والموت وخيانات الملوك، قصص زيتونها ودواليها وسلاسلها وبيوتها، وشجرتي التين المعمرتين “العسالي والخروبي”، الواقفتان على مدخل القرية مثل حارسين ساهرين، تشرح له مع كل قطرة حليب تنزلها في فمه قصص البيدر والغلة والأرض والجيران والأعراس والزفة وليلة الحنة والعتابا والميجنا، وكيف حاول اللصوص تجريدهم من الذكريات بتفجير الرؤوس وفصل الرقاب، لكنهم رفضوا التنازل عن ذكرياتهم، فحملوها وهرّبوها وغامروا بحيواتهم لينقذوها، واحتفظوا بها في تلافيف الدماغ وطيات مُخَيِّخاتهم، لذلك هي ليست مستغربة أن ابنها ذهب لعمله شاباً يانعاَ يافعاَ، وعاد شهيداً كما يليق بالرجال، وليست مستغربة كيف نشأ وأترابه يحبون اللعب في الحديد لدرجة الهوس به، وأنهم منذ صغرهم يصنعون البنادق والصواريخ من الأسلاك، فكان من الطبيعي أن يعودوا شهداء واحداً تلو الآخر كما عاد إبنها، ملفوفاً بالعلم محمولاً فوق أعناق الرجال، لكنها لم تكن تتخيل أن يترك خلفه كل هذا الفراغ المرعب، كل هذا الصمت المدوي، وأن يكف من بعده البيت عن الإبتسام، وكأن الإبتسامات حُرّمت من الله دفعة واحدة ودون سابق إنذار، وأكثر ما أزعجها أنها لن تمسك بيده، أو تتعكز على ذراعه،  ويعودا سوياً الى قريتهم التي ظلت تتباعد، تتعقد طرقاتها، ويملؤها الشوك والرصاص وخذلان أنظمة العهر مع مرور الزمن.

رغم ذلك كانت متأكدة أنهم سيسترجعونها، وأن المسافات الطويلة هي سبباً لشحذ الهمم ومتابعة الخطوات، وتأكدت من حتمية الأمر عندما رأت ابنها شهيداً، فهي خير من تعرف أن الشهداء هم جسر العودة الأكيد في هذه الطرق والمسالك الخطرة، وأدركت أن حليب ثديها لم يذهب هدراً، لم يكن ماء آسناً قذراً، كما لم يكن مُزيفا ملوناً كاذباً مشتبهاً، وكانت تظل ساهرة مع وحدتها وظلام الليل، تتمنى من الليل أن يستر سرها، أن يغلق عنها قلوب العائلة النائمة كما عيونهم، لتظل تحاكيه وتقبل حجارة يديه التي ظل يُطل بها عليها صغيراً ومراهقاً وشاباً، عرفاناً منه بجميلها المبكر في وصوله للشهادة، عندما تربى على حملها ورشق دوريات الجيش بها، لتكون “بروفته” للوصول الى ما وصل إليه، ولتظل، هي أمه، تمسح جرحه النازف الذي ظل ينز دماً ومسكاً.

وسرعان ما صار، مع تقالب الأيام، يُضاعف زياراته لها، يأتي لها من طرقات الجنة، من بين ورد الياسمين والقرنفل وشقائق النعمان، من حدائق النرجس والإقحوان والسوسن والطيَّون، من تحت الأشجار المثمرة المليئة بالخيرات،يلوك شيئاً من فاكهتها في فمه، مُتقافزاً على شُجيراتها، متعطراً بعطر الزعتر البري والميرامية التي خص الله بها جنته برائحتيهما الفواحة، تحط بلابلها على كتفيه مغردة، يمر من تحت نبع معلق في نهايات السماء، ينساب برويَّة وارتخاء، وخرير مائه وحفيف أجنحة العصافير تملأ الجنة غناء، تراه قادماً متعلقاً على حبال خيوط الفجر، محمولاً فوق حبات الندى، متقافزاً على درجات الغيوم ناصعة البياض، لابساً بدلة عرسه التي لم يلبسها قبل استشهاده، والتي طرزت له عليها بيدها مفتاح بيتهم الحديدي الكبير، الذي يمكن أن يكون سلاحاً في غياب السلاح، ألم يحاكموا إبن مخيمهم علاء عندما وجدوا المفتاح المشابه لمفتاحهم مُخبأً في جيبه، متهمينه بإمتلاك سلاح قاتل؟ يأتيها وبعض بقع الدم تُزين بدلة عرسه، تنز من مكان الرصاصات التي إخترقت جسده اليانع وقلبه الشاب، تعطيه جرأة فوق الجرأة وشرفاً فوق الشرف، وترفعه من شاب يانع من على مقعد سيارته، التي أفرغوا فيه وفيها حقدهم، إلي أعلى صنوف البشر مرتبة، له مهابة الشهداء وشهامة الأبطال، وتفوح منه رائحة المسك وتغطي البيت كله، تلك الرائحة العطرة التي ظلت متخوفة أن تكشف سرها، وترميه بعيداً وراء الدار.

كانت تحتضنه مباشرة، تُخبئه عن عيون دورية عسكرية تبحث عن الشهداء لتعيد قتلهم، أو دورية “الأقربين” التي تبحث عنهم لتحاكمهم، وترمي بالمناضلين في غياهب سجونها، لتسلمهم بعد ذلك لإعادة قتلهم، فالأمر المخيف المرعب الممنوع لدى كلاهما، أن تُمارس الشهادة، أو أن تجرؤ على التفكير بها، مستبدلاً اليأس والقهر والظلم منهما بالشهادة، بإعادة رسم الطريق، بإعادة توضيح المسالك، بمحاولة رفع الرصاص والأشواك لئلا تختفي المعالم وتضل الطريق.

تُجلسه في “حجرها”، وتخبره عن أخبار المخيم، عن أسراه وجرحاه، عن شهدائه الذي ظل يؤكد لها أنه رآهم عند الأنبياء والصالحين، الذين يحسدونهم على شهادتهم هذه، التي جعلتهم أقرب منزلة منهم إلى الله، فالله يفضل الشهداء على كل شيء وأي شيء، بما في ذلك الأنبياء، لذلك كم ود الأنبياء أن يكونوا شهداء، وتكاد تسمعه يقول بأعلى صوته، “إن أنبياء هذا العصر ياأمي هم الشهداء، رجال كانوا أو نساء، كلهم عند الله سواء”.

كانت تسمعه وتحدثه وتتعطر بمسك جرحه النازف، لكنها لم تُرد يوماً أن تزعجه بقصص “الخانعين” في المخيم، ولا بسياسة التسحيج والتبعية ولعق الأحذية التي تتعمق أكثر عند بعض المخيم، ، ولا ببعض السفلة والأنذال الذين لا يسكنون المخيم، ومازالوا يبنون القصور من ثمن دمه ودماء رفاقه، والتي ليس لها مفاتيحاً كمفتاح بيتها هناك، ولا كمفتاح علاء الذي مازال يحتضنه السجن، لكن الأمر الذي طمأنها، أنهما كلاهما، لم يُخْطئا إتجاه البوصلة أبداً، التي كانت تُشير للقرية بهذا الوضوح.

شيء واحد فقط كانت تود فعله، واحد فقط لا غير، أن تعود معه إلى قريتها، وينتزعاها من لصوص الأاراضي والبيوت، من الغرباء الذين حللوا القتل والذبح وبقر بطون الحوامل، الذين ظلوا يتفننون بقتل النساء والأطفال والشيوخ والرضع، لكنهم رغم كل سلاحهم لم يثبتوا في الميدان أمام الرجال، وكانت تظن أنها ستفعل الأمر معه، سيعودان سوية، رغم أنها لم تفاتحه بالأمر أبداً، كما أنه لم يفاتحها أيضاً، لكن وكما للعيون كلمات واضحة، فللقلوب لغة لا تُخطئها الأم، فكانا يتحدثان بقلوبهما، يتناقشان ويتأملان ويخططان، لكنه استعجل الشهادة، خاف أن تمر في موعدها ولا تجده أو تُخطئه، ويصير عليه الإنتظار من جديد، والإنتظار أي كان نوعه، نذل جبان خانع، وهو لن يرتهن له، لن يضع مصير شهادته بين يديه، سيلحق الدورية العسكرية بنفسه، سيرجمها كما يرجم المؤمنون إبليس، سيحاول كسر زجاجها، ليصير حجره قادراً على الإيذاء، وداهم الدورية العسكرية، وصار يصب غضبه عليها من خلال حجارة يديه، وكانت الشِباك الحديدية تحمي زجاجها، فلم يكن الجنود في خطر، لكنهم خافوا مخالفة الأوامر، خافوا أن ينسوا مهنة القتل حتى لو لدقائق، وسرعان ما فكر بعمل أكثر نجاعة، عندما رآهم يتهيأون للقتل، وهو لا يملك غير حجارة يديه وسيارة بمحرك نائم، فركب سيارته وإحدى يديه قابضة على بعض الحجارة، ليكون للعمل معنى أعمق وتأثير أشد، ليجابه موتهم الذي يحيط به إلى مجابهة بالقليل الذي يملك، وكان الوقت يتسارع بين رصاصهم المنسكب ومحرك سيارته النائم، لكنهم كانوا أسرع منه، ورصاصاتهم أسرع من عجلات سيارته، أمطروه رصاصات في القلب والرقبة والرأس، فضعفت نبضات قلبه ووهنت قوة ذراعيه، لكن قبضته لم تتراخَ عن حجارتها، ووقع بصدره المدمي على مقود سيارته معاتباً، لماذا لم يكونا أسرع منهم؟ فالمسافة بينهما لم تكن سوى يقظة المحرك النائم كبداية لتحرك العجلات، مجرد ثوانٍ خانته فيها تقديرات الزمن في معركة غير متكافئة، فهو لم يكن يوماً عسكرياً، ولوكان لأنتصر على جبن رصاصهم وحماقات سلاحهم، وبعدها، ربما، كان سيكون للشهادة طعم أجمل، وربما أجمل بكثير.

كانت، ما تزال، أصابعه القوية تعتصر حجارته، تشد عليها بعنف، وفضلت روحه أن تصطحبها معها للسماء، أن تُحوِّط بها ورود الحنون، فذهب للسماء دون أن يذهب معها لقريته، الأمر الذي أثقل قلبها وأدماه، لكنها عندما فكرت ملياً في الأمر، وصلت إلى استنتاجات أخرى، استنتاجات إنسان مؤمن، مدرك لرحمة الله ولطفه، يلبي دعوة الشهيد ورغبته، وقدرت أنها لو استشهدت هي أيضاً، فربما جعلها الله تستند على يدي ابنها وتذهب معه للقرية لتراها، لكن الأمر سرعان ما أربكها وكاد يشل حركتها، عندما تساءلت أما نفسها قائلة: “وهل أنا أريد الذهاب زائرة؟!!!”، وأكدت أنها تريد استعادة القرية وليس زيارتها، صلَّت بضع ركعات لله، طلبت غفرانه، ذكّرته بصبرها على شهادة ابنها، وهل هناك صبر كصبر أم تستقبل إبنها الشهيد بالزغاريد، ودموع عينيها تتسابق على خديها المكلومين؟ أن تجعل من جنازته عرساً؟ أن تزفه إلى التراب كأنما لليلة عرسه؟ أن تُوزع الحلوى بدل القهوة السادة؟ رفعت عينيها لتنظرا في عيني السماء الخجلة أمام عينيها، وطلبت من الله أن يحقق لها رغبتها…

قامت من بين يدي الله، كنست بيتها ونظفته، كي يستقبل البيت “المهنئين” بصورة تليق بهم، كي لا يقول البعض أنها استشهدت وتركت بيتها وسخاً، أربكها الأمر، فنظفته كما لم تنظفه من قبل أبداً، طبخت لزوجها وبقية أطفالها، أطعمتهم وأشبعتهم مما قسم الله، قبّلتهم للمرة الأخيرة، وعضت عل دمعاتها بجفني عينيها كي لا تخدعانها وتبللان المكان، ووسط دهشتهم التي لم يعرفوا لها سبباً، أسالت نبعاً من الإبتسامات كي لا تترك في رؤوسهم مُتسعاً لشك، توجهت لمطبخها لتختار أكبر سكيناً، وضعته في “عِبِّها” لتخفيه عن العيون، أوصت الجميع بالحفاظ على مفتاح بيت قريتها المسروقة، وغادرت مدعية الذهاب لزيارة بيت أختها، واستقلت أول سيارة توصلها إلى باب العامود في القدس.

كان الجنود يحيطون بمدخل الباب كالجراد، يُغطيهم السلاح مُدَججين به، وكانت الأم تتقدم منهم بخطوات واثقة، تتحسس سِكّينها المختفي في طيات ثوبها، وتحاول أن تعرف بحكمة عينيها أيهم أكثر شأناً، ليكون صيدها ذا أهمية وشأن، وكانت تحس بأن كل خطوة من خطواتها تتسارع للقاء إبنها الشهيد، ودون أن يرف لها جفن أو تهتز لها قناة، رفعت سكينها وألقت بكامل قوتها على صدره، وانطلقت رصاصات من جنود يختبئون خلف البنادق، وكأنهم في ثكنة عسكرية، جنود يطلقون على النساء من الخلف لأنهم يخشون العيون ويرتعبون من نظرات البشر، فاخترقت الرصاصات جسدها الهزيل، وتهاوى الجسد ووقع على الأرض ليعانقها العناق الأخير، وتمدد الجسد فوق أرض القدس، ليقربها خطوة أخرى من إنتزاع قريتها من براثنهم، وعيناها مفتحتان ناظرتان نحو قريتها القريبة، وصعدت الروح الى السماء والجسد مازال يعانق الأرض، لتجد ابنها الشهيد واقفاً مع الشهداء والأنبياء مستقبلين على باب الجنة، وكانت تستمع إلى أصوات المنشدين الآتية من خلف السماء، يام الشهيد وزغردي …كل الشباب ولادكي…

محمد النجار