الخبّاز

الحكاية تكالب عليها المخصيون وعشرات السنين سيدي القاضي، ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، ورغم ذلك لم تشخ ولم تمت، ظلت حية إلى يومنا هذا، وهذا هو المهم في الأمر كله، والله وحده يعرف إلى متى ستعيش. لكن المؤكد أنها ستظل تُجدد نفسها من تلقاء نفسها، إن قسى عليها أصحابها أو بخلوا عليها أو حتى تقاعسوا عن نسج حكاياها من جديد، دون أن يُعيدوا لها تاريخها الذي توقف منذ ذلك التاريخ.

قيل عنها الكثير سيدي القاضي ومازال، قيل أنها ثابتة ثبات أشجار التين والزيتون، تمتد جذورها عميقاً في أمعاء الأرض، تتشابكان وتتحدان في لحن رياني مثير، راسخة رسوخ الجبال لا تتنازل عن مكانها التي منحته لها الجغرافيا وخصها التاريخ به، لا تبدله أو تغيره، وتحافظ على كل ما لها من رمل وحجر وبشر وأشجار، تحتضنهم حتى لو كانوا جثثاً هامدة، تضمهم في أعماقها ليكون لثمار التين معنى بعد أن تزرع فيه عصارتهم وتمنح روحه طعم الشهد.

كان جدي في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر، يُعمّر الفرن وسيجارة الهيشي المقتلعة من “تتن” الحاكورة تتدلى من بين شفتيه، ويداه تُذري كوماً من الجفت كما تذريان في الخلاء زهور القمح، يدخله الفرن ويضعه فوق بواقي الجمر الذي غفا في ليلته الماضية مخلفاً بعض رماد دون أن يتنازل عن جمراته، فيتحول  كل “الجفت”إلى جمر أحمر يبث حرارته في الأرجاء كلها، ناثراً عبق الزيتون في كل رغيف خبز يدخل بين أحضانه ليتحمص قليلاً. ولما يتعب في آخر النهار يصعد فوق الفرن محتضناً الجفت متمرغاً في حرارته التي طالما شبهها بحرارة حضن جدتي، يرتاح فوقه ساعة أو بضع ساعة، متدثراً بالدفء الذي ينفثه كوم “الجفت” في الهواء المشبع بزيت الزيتون، لكنه يظل معظم الوقت يخبز للقرية كلها دون أجر نقدي، لكن أهل قريتنا لا يأكلون حق أحد، كانوا يعوضونه بالبيض والدجاج والفواكه والخضار، رغم أننا كنا نملك منها الكثير.

كانت حكاياته لا تنقطع ولا تنتهي، والمرحوم والدي يتشرب الصنعة والحكايات منه كما الإسفنجة تتشرب الماء، ويجعل من كل شيء داخل ذاكرته حكاية، من تجاربه المتراكمة هناك في دولاب الذاكرة، من قصص الناس وتجارب القرية يصنع الحكمة، وأبي يُخزن تلك الحكايات ويستلهم الحِكَم ليتلوها علي فيما بعد، كما تتلو آيات من الذكر الحكيم، فصرت أشعر أن جذوري تمتد عميقاً في باطن الأرض لتعانق جذور التاريخ هناك، وتناغي الفرن الذي بناه جدي في تلك القرية التي تكاد تلتقطها العين من الجنوب اللبناني، بناه بيديه وبمساعدة طفيفة من إخوته الكبار، فأنا في ذلك الوقت لم أكن موجوداً، لم أُخلق بعد، جئت بعد أن إقتلعونا من جذورنا من قريتنا في الشمال، أين ومتى وكيف، يمكنني الجزم أنني مثل الكثيرين الذين جاؤوا وحسب، لا يهم كيف ولا أين، المهم انهم جاؤوا بجذور مقطعة وأوصال ممزقة، والله وحده يعلم كيف استطاعوا شبك جذورهم من جديد رغم طول المسافة ومرور الزمن.

منذ ذلك الزمن صرنا لاجئين، وبنى والدي فرنه في مخيم عين الحلوه في لبنان، وصار يعجن ويخبز ويطعم المخيم كله، وفي المساء يجلس في ركن من أركان غرفتنا يعاتب الرب أحياناً ويستعطفه أحياناً أخرى، وكنت أحس دمعاته وأنا في فرشتي، دون أن أملك الجرأة عن الإفصاح عن سهر حاسة السمع عندي إلى تلك الساعة، لكن الأكيد أن الله لم يستمع له في كل تلك السنين.

كان محترفاً إلى حد الذهول، يُلاعب العجين على أصابعه مثل “الجني”، لا تكاد ترى حركة أصابعه، وفي مرات كثيرة كان يحذف بالرغيف في زاوية الفرن البعيدة دون حاجة للمزلاج، لكنه لم ينسَ يوماً ذكرياته في قرية الشجرة التي هجّروه منها ، مُنتزعينه من وسط كرم الدوالي وأشجارالتين والزيتون، لذلك ظلت قرية الشجرة في رأسه ولم تفارقه يوماً، وكلما تقادم الزمن كلما زادت شموخاً في رأسه، كالنبيذ المعتق سيدي القاضي، وزادت أقاصيصه لي عنها، وصارت أمنيته أن يختطف حزمة ضوء  من سمائها بين جفنيه قبل أن يموت، لكنه بعد زمن مات دون أن يختطف تلك الحزمة التي تمنى أو أراد.

وصرت أنا الخبَّاز الجديد سيدي القاضي، كنت أعمل في مكان أبي، في مخيم عين الحلوه قبل أن أنتقل مع القادمين الجدد الى هذه الأرض، التي إعتقدتها ستوصلني لاحقاً إلى قرية الشجرة، قريتي وقرية والدي وجدي الذي لم يسعفهما الزمن ولم تساعدهما القوة في أن يقطفا من حقول سمائها ضمة ورد من ضياء ويموتان. ماتا قبل أن يريا قريتنا، قرية الشجرة، لعلك سمعت بها سيدي؟!!!

ـ ماذا ؟ لم تسمع بها، ليس مهماً على أي حال، إنها هناك في الشمال، أبعد من صفد التي تخلى عنها سيادته وسيادتهم، قالوا أنها لا تهمهم، ومن لا تهمه صفد وحيفا ويافا أتعتقد أنه يمكن أن تهمه قرية الشجرة؟ “مجنون يحكي وعاقل يستمع” سيدي القاضي.

كنت أقف طوال نهاري على قدميّ دون “آه” واحدة، دون ملل أو ضجر، أو حتى حالة تأفف، لأنني ببساطة شديدة كنت أحب عملي، هل قلت كنتُ؟ لا بل ومازلت أحبه، فأنا في متاهات تفاصيله منذ الصغر، لم أترك كبيرة أم صغيرة دون أن أتعلمها حين كنت مساعداً للمرحوم والدي، وبقيت كذلك حتى غيبه الموت وأنا ما أزال طفلاً.

لن تصدق أبداً أنه مات جوعاً والخبز بين يديه، قالوا فقر دم وقالوا هزالاً وقالوا “أنيميا”، لكن النتيجة واحدة وهي نتاج الجوع، أتصدق أن خبازا يموت جوعاً؟ مات هناك مكانه في الحفرة المقابلة للفرن تماماً، تكوم على نفسه ولفظ بقية أنفاسه فارغ الجفنين رغم أن كل ما أراده حزمة ضوء يشم منها تاريخاً حاولوا سلبه، معتقدين أن الأكاذيب يمكن أن تصنع لهم تاريخاً، ما أسخفهم، وهل يُصنع التاريخ بالأكاذيب؟!!!.

كان رحمه الله خبازاً محترفاً سيدي القاضي، لم يترك رغيفاً واحداً طوال حياته يحترق، فبالنسبة إليه الرغيف المحروق وصمة عار في جبين خبّازه لن تُمحى أبداً، لأنك إن صنعت شيئاً عليك أن تصنعه جيداً أو أن تختفي خلف جهلك وتعانق المقهى وألعاب الورق…

حاضر سيدي القاضي، سأتكلم عن نفسي فقط وأوجز، أعرف أن ليس لديك وقتاً تضيعه على أمثالي.

مات واستلمت أنا مهنته، كنت قد تعلمتها وعشقتها، حتى قبل أن أكبر وتستطيع عيناي أن ترى ما بداخل الفرن، كنت قد وضعت كرسياً في حفرة الفرن بجانب المرحوم ليزيد من طولي قليلاً، ورغم أن المرحوم كان يتعثر به إلا أنه لم ينهرني من حواف قدميه.

وكبرت، وكنت أقطع من العجين كتلة صماء فأخلق منها رغيفاً ساخناً يتطاير منه البخار فخوراً مختالاً نحو السماء، أفرش تحتها بعض حبيبات الطحين وكذلك فوقها كي أمنع محاولات إلتصاقها، أضغط الكتلة بأصابع يدي الثمانية، وأقلبها وأحملها وأناغيها وأدللها، فتنفرد أمامي وتتمدد كعاشقة عارية تنتظر حبيبها لتضمه بين أحضانها لعله يُخفف قليلاً من ألم الجوى، أُلقيها في الهواء، فتطير متضاحكة وترتفع دائرة حول نفسها مثل عروس ترقص في يوم زفافها، قبل أن تتهاوى وتنزل بين كفي، تستدير وتتمدد وتظل كما هي وكأنني رسمتها رسما على سطح ورقة، لم تُثقب ولم تتمزق يوماً ولم يختلف شكلها ولم يتعكر صفو حوافها، ثم أضعها على المزلاج الخشبي الذي أمامي رغيفاً من عجين، فأضعه بعيداً على حافة الفرن المقابلة للنار، فقربه من النار يحرقه، وبعده عنها يجففه ويسبغه بلون الموت، يجب أن يظل على مسافة مناسبة… لا ليس وسطياً سيدي، بل في مكان مناسب، فالوسطية لا تصنع رغيفاً من الخبز بمذاق جيد. ثم أبدأ بتحريكه وهو في مكانه، أجعله يدور حول نفسه كمخمور، ليبدأ يكتسي لوناً جديداً، وكم كنت أتمتع وأنا أراه ينتقخ وينتفخ ويبدأ بالإحمرار، فأحركه من جديد لتصل النار ألى كامل سطحه، ويتساوى عليه لون النار دون فروق، المساواة ضرورية حتى للخبز كي لا يكون طرفاً ناضجاً وآخر غير ناضج، ثم أخرجه قبل أن تهزمه النار ويتفجر من أحد أطرافه الضعيفة ويكون البخار مازال يتصاعد عن وجهه كما يتصاعد الدخان من مصباح علاء الدين قبل صعود الجني وتحرره منه . ولا أضع الخبز واحداً على ظهر أخيه قبل أن يبرده الهواء قليلاً، كيلا يتحول البخار الى حبيبات ماء تفسد الرغيف وتفسد أكله، ففي مهنتنا، مثل كل مهنة، هناك أسرار بدونها لن تصل لدرجة خباز محترف كما كان المرحوم والدي وقبله جدي.

وهكذا كنت، أعمل من الفجر الى آخر النهار، وكان معظم المخيم يشتري خبزه مني رغم وجود أفراناً أخرى، ترى رجاله ونساءه مصطفين ليشتروا الخبز الذي تصنعه يداي، نعم سيدي… قبل أن يُحرّموا الإختلاط ويُحرّموا المرأة جسداً وروحاً، وقبل أن تخرج الفتاوى بلفلفتها وبرقعتها وسجنها بين طناجر الطعام وعلى “فرشات” الجنس البارد، بعد أن كانت قد بدأت تقبض على البندقية.

وجاءني جنابه وقتها، نعم في يوم صيفي قائظ، وأنا في الحفرة أواجه النار، وأتصدى لجحيم الطبيعة الذي فجّر ينبوع نهر من العرق يسيل من رأسي حتى تحت خاصري، وطلب مني أن آتيه في يوم الجمعة اللاحق، حيث كان يوم عطلتي.

ذهبت لمقابلته، وسألني:

ـ كم يعطيك، أبو خليل،  مالك الفرن أجرة في الشهر؟

وقلت له بصدق المبلغ والذي لم أعد أذكره، فقال:

ـ كيف إستطعت أن تعمل عنده بعد أن قتل أباك؟

كان يريد أن يزرع الفتنة بينيوبين أبي خليل، وهي مقدمة لفتنة بين أبناء المخيم الواحد!

أنظر إليه، هاهو يضحك من خلفك سيدي القاضي، إن كنت أكذب فليقاطعني، كيف يمكن أن يكون خلفكم أنتم القضاة أيضاً؟ عقلي سيتفجر سيدي القاضي، أجده خلف القضاة وخلف الوزارات وخلف الوزراء والمؤسسات!!! بل صار بديلاً عن كل شيء سيدي القاضي، كيف يتم ذلك؟ كيق وصل تأثيره ألى كل شيء؟.

أعرف سيدي القاضي أنه ليس من شأني، لكنه مجرد فضول…قلت:

ـ مات والدي قضاء وقدراً، فالأعمار بيد الله.

قال:

ـ الأعمار بيد الله لكنه كان المتسبب.

وسكت هنيهة وكأنه يريد أن تدخل الكلمات ثنايا رأسي وتستقر فيه، وقال:

ـ لو كنت مكانك لقتلته… على كل حال ليس هذا موضوعنا، موضوعي أنني رأيت مهارتك، واستشرت القيادة التي وافقت على تسليمك فرناً تخبز به للثوار، للفدائيين، هل تقبل أن تستلم فرن الثورة وتقوده، وتترك أبا خليل، وبهذا تثأر من قاتل والدك؟

لم أعلق على جملته الأخيرة سيدي القاضي، لكنني قلت متسائلاً:

ـ فرن الثورة؟ كيف لا؟ ومن يرفض هذا الشرف؟

لم أكن أعرف أن للثورة فرنها الخاص، وأن للثوار فرنهم وخبازهم الذي يختلف عن فرن المخيم وخبازه، ولم أتردد في الإلتحاق به، فأعطيت أبا خليل مهلة ليجد عني بديلاً، والتحقت للعمل في فرن الثورة، وكان جنابه، ربنا الله، قد زاد معاشي عشرين ليرة لبنانية كاملة، ووضع بجانبي مساعداً أيضاً، لأن عملي لن يستطيع إنجازه شخص واحد أبداً، وصرت أعمل مثلما كنت أعمل هناك، لكن بزيادة طفيفة، قدر ساعة أو ساعة ونصف الساعة في اليوم الواحد، كي نستطيع أن نؤدي عملنا على أكمل وجه، ولا نترك الفدائيين يتضورون جوعاً.

جنابه لم يقصر معي أبداً، دفع أجرتي قبل أن يجف عرقي، ربنا الله، وأحياناً عندما يزيد الخبز عن أكل الفدائيين كان يُحمّلني بضعة أرغفة لبيتي دون أن يأخذ ثمنه إلا آخر الشهر، يخصم ثلاثة أرباع سعرها وليس سعرها كاملاً، لأنها تكون قد فقدت سخنوتها، أو ظلت الى اليوم التالي نائمة في مكان ما. وكونه هو في الأصل محاسباً، دخل الثورة ليضبط حساباتها، واستطاع ضبطها ولملمة تبعثرها لكن لتتوجه إلى جيبه، وكان واضحاً منذ البدء، حدد بوصلته جيداً، البوصلة هي المال العام والمكان هو جيبه كما قال الكثيرون. كان يأتي لي بفواتير يومية أوقعها عن عدد الأرغفة وسعرها… وكانت هذه الأرغفة بعدد ثابت كل يوم، وكان العدد ألف رغيف في اليوم الواحد، لم تزد يوماً ولا تقل، وأنا كنت أعتقد أنه عدّها أو على الأقل قدرها بشكل تقريبي، حتى جاء يوم واستدعاني أحد المسؤولين الكبار عن مخابز الثورة، وأراني أحد الفواتير بتوقيعي وبصمتي أيضاً، فرأيت بأم عيني أن العدد لم يكن ألفاً في أية فاتورة، بل تم تكبير الأصفار وتحريكها لتصبح أرقاما كبيرة، كان جنابه قد حركها بلمساته السحرية الخفيفة، فجعلت من الأرقام الصماء الميتة فوق الأوراق جبالاً من النقود في جيبه، ومن يستطيع أن يفعل ذلك غير محاسب محترف كان قد دخل الثورة لضبط حساباتها؟!!!

ولك أن تعد سيدي القاضي كم ألف من الأرغفة سُحبت من فم الفدائيين لتتحول للنهر المنساب  مالاً قي جيبه كل شهر، دون أن يفرد بأصابعه الناعمة حتى لو رغيفاً واحداً، ودون أن تلفحه نيران الفرن ولو ساعة واحدة، ولا حتى أن بنام ساعة واحدة في “جفت” الزيتون الذي ما زال يحتفظ لنفسه بحصة من الزيت، وحينها تذكرت كلمات المرحوم والدي ناقلاً المأثور الشعبي ” المال السايب يعلم السرقة” ليس هذا فحسب، بل هو يسرق وأنا المتهم وأنا من يُحاسب، فهل يحق لمثله أن يكون خلفكم أنتم القضاة في قضية المتهم فيها غريمه سيدي القاضي؟

ـ حاضر، “سأسد نيعي” مادام الأمر ليس شأني.

لم أعلم شيئاً عن الأمر في مخيمنا اللبناني، وأخذني بمعيته لما رحلنا إلى تونس لأتابع إطعام الفدائيين هناك، وكان قد سافر الى هناك قبل الجميع، فهو لم يكن من أنصار البندقية الفدائية سيدي الرئيس، بل من أنصار تلك البنادق التي بحوزة الأنظمة، البنادق التي تُطلق للخلف سيدي القاضي، لذلك رحل قبلنا جميعاً، وكان يتحدث كثيراً عن السياسة والدبلوماسية والتكتيك، وكان يحب كثيراً “أنصار السلام” عندهم سيدي القاضي ويلتقيهم ويأكلون اللحوم فقط دون خبز المخيم.

أنا لم أعرف شيئاً عن كل ذلك سيدي القاضي، أنا رجل بسيط إلا في فن الخبز أمام  الفرن، فأنا “داهية” ولن أكون متواضعاً ، وأبي وأنا من صححا المأثور الشعبي القائل:”فلان لا يضحك للرغيف الساخن”، بحيث جعلنا “فلاناً” يضحك له رغم أنفه، بل ويقهقه عندما يراه، لكنني فيما عدا ذلك أقر بما يقولون عني، أنني على باب الله، وأنني على نياتي، وأن القطة تأكل عشاي، لكن البعض ممن كانوا يعرفون بالأمر وشمّوا رائحته التي تزكم الأنوف، أوصلوا الأمر للقائد الكبير رحمه الله، والقائد الكبير كان يحب مثل جناب المحاسب ويُقربهم منه، لأنه كما قال بعض المخيم يستطيع أن يقودهم، بعد ذلك، كالأنعام سيدي القاضي، فبعد أن يمسك عليهم المماسك، يهز الأوراق الممسك بها عليهم أمام وجوههم الصلفاء، يشتمهم ويُهزأهم ويقل قيمتهم “بعيدا عن جنابك” وهم لا يجرؤن على الرد، بل يخرون له ساجدين، لأن جلودهم تكون قد تعودت على الشتائم ووجوههم على البصاق وضرب النعال دون أن يرف لهم جفن. وقال القائد الكبير رحمه الله لمن أوصله الخبر بلهجة مصرية:

ـ ده حرامي وشبع حجبلكوا واحد جديد يبتدي من الصفر؟ اعمل ليكو إيه؟ ده قدركم بقه.

وأبقاه محاسباً مؤتمناً كما كان، بل علّا من شأنه أيضاً لأنه زاد بصماً بحافريه كما قال الكثيرون، وأكد البعض أنه فرك له أذنه واستعجله ليعرف نتائج لقاءاته مع “مشجعي السلام ” من الطرف الآخر.

كان هذا قبل أن تنمو له مخالباً وتكبر، قبل أن ننتقل إلى هذه الأرض من حمّام الشط، وقبل أن يبدأ بمد يده إلى ما تحت يد القائد الكبير، ليرثه ويركب فوق ظهورنا نحن العامة، حيث ظل يعتبر نفسه أحد الأسباب الذي أوصلنا لما نحن فيه من هيبة وعنفوان وازدهار!!! وأننا لولاه لما كنا في مثل هذا العز الذي “نتمرغ” في خيره ونرعى كالإبل.

ـ أنا لا أستهزئ سيدي القاضي… حاضر لن أتكلم في السياسة، فهي التي أوصلتني للوقوف هذه الوقفة بين أيديكم.

بعد أن كبر وانتشر خلف كل شيء في البلاد، صار كل ريع الخبز يذهب إلى جيبه وليس الفرن الذي أعمل به فقط، ولم يعد يحاسبه أحد على ذلك، بل سمعت أنه يأخذ الكثير من الأموال من “معسكر السلام” القريب والبعيد، ولم يعد بحاجة إلى هذا الفتات، لكنه رغم ذلك أعطاه لبعض أقاربه كي لا يتسرب هذا المصدر إلى آخرين.

ـ “ما علينا” سيدي القاضي، أنا لن أتنازل عن حقي، والمخيم كله إلّا البعض القليل، كلهم يدعمني ويقف في صفي، تعرف سيدي القاضي أن المسحجين والمطبلين يتواجدون عند كل الشعوب وفي كل الأوقات، لكنني قررت أن لا يستحمرني أحد من جديد…

ـ نعم حقي سيدي القاضي، كيف لا؟ أنا لا أريد مالاً، أنا أريده أن يشرح لسيادتكم وهو الموظف من أين له كل هذه الثروة؟ ومن أين لأولاده وأحفاده كل هذه القصور والعقارات والشركات والأملاك وأنا الذي إشتغلت وتعبت وليس هو، إحسبوا دخله على مدار العمر لتعرفوا بأنفسكم أنه لو عاش مائة حياة لن يكون لديه كل هذه الأموال، التي حول إتجاهها ويتهمني بها، وأنا لا أملك كيس طحين واحد في بيتي.

ربما عمل بأشياءٍ أخرى، إحسبوها له، لكن عليه أن يُرجع ما سرقه من أموال خبز الفدائيين، وأموال خبز أهاليهم الذين كانوا يتلقون جحيم الطائرات في المخيم في كل وقت، وهو سيدي القاضي لم يكن في المخيم ولم يعش فيه يوماً واحداً، حتى أنه لم يمر فيه إلّا ليحادثني وأمثالي من البسطاء الذين يوقعون على الفواتير دون سؤال، أما ماعدا ذلك فلا شأن له بالفقراء…

إسألوه كيف إستجمع كل هذه القوة بين يديه؟ ليس بالمال وحده بالتأكيد، وليس بالتسحيج والتطبيل والتزمير فقط، فعلو النباح لا يجلب القوة ولا يُسنن النيوب ويُنمي المخالب ، إسألوه كيف أحرق كل بنادق الفدائيين الذين أطعمتهم خبزاً من صنع يدي؟ ومن الذي زوده ببنادق الأنظمة هذه التي لا يربطها رابط ببنادق المخيم.

لا أعرف لماذا لا توقفون إبتساماته المتتالية من خلف ظهوركم سيدي القاضي، أإلى هذه الدرجة فرد نفوذه وصار يمسك بكل مفاصل البلد؟

أتعرف سيدي القاضي، لو كان يتعامل معهم كما يتعامل معنا بنفس الطريقة والحدة ما كنت غضبت، لكنه هناك يستجدي ويركع ويسجد بين الأقدام، لا يجرؤ أن يرفع عينه في عيونهم وكأنهم يمسكون عليه المماسك وأوراق الإذلال، وتراه عندنا يمشي مثل طاووس، قلت طاووساً وليس نسراً سيدي القاضي، فمثله لم يكن نسراً يوماً ولن يكون، لا يعرف ولا يستطيع، فللنسور صفاتها وميزاتها التي لن تتوفر به يوماً، النسور شامخة حتى في إحتضارها، وهو ذليل حتى في عز قوته وغناه.

هذه صفات سيدي القاضي وليس قدحاً وذماً، وإن لم تصدقني ضعه أمام التجربة، أمام المواجهة مهما كانت طفيفة وبسيطة، ستجده في الهريبة “كالغزال”. كما تريد، أتعتقد أن الغريق يخاف من البلل؟ سجل تهماً جديدة إن أردت، فأنا “تحت المزراب” سيدي القاضي ولن تُخيفني أمطار الشتاء.

لا يعنيني من يكون ومن وراءه، المهم أصل الفتى، صفاته، معدنه، “سألوا الحمار من أبوك فقال خالي الحصان”، أتعتقد سيدي القاضي أن خاله الحصان كان قادراً على تغيير ماهيتة؟!!! ظل الحمار حماراً وإن إدّعى بأن الحصان خاله، ومهما “طلع أو نزل” سيظل حماراً، “حاشاك” سيدي القاضي.

لا أعرف لماذا تظل تقاطعني سيدي القاضي، فأنا إنسان بسيط وعلى “باب الله”، كلما قاطعتني نسيت ما أريد قوله، وكما ترى فلا محامي لدي يدافع عني وعن حقوقي، كما أنني سمعت أن المحامين في بلدنا لا يستطيعون “حماية مؤخراتهم”، كما أكدت أمي رحمها الله ذات يوم، وأنتم القضاة كما سمعت صرتم تحاكمون الشهداء وتقتصون من الفدائيين، أصحيح هذا أيها القاضي؟

سأقول لك سيدي إن نفيت هذه الأقاويل، إن كان ما سمعته كذباً وتشويهاً، سأقول سيدي وتاج رأسي أيضاً، وإلا فلن تكون سيدي أبداً بل وستسقط من عيني إلى تحت حذائي ولن يرفعك أحد أبداً، تماماً كمن سقط من يقف وراءك، وها هو يقدم لك أقاصيص أوراق تملؤها الكلمات.

ـ لا سيدي لن أكون خبازهم، يستطيع إكتشاف صلة قرابته معهم كما يشاء وكيفما يشاء، “أبناء عمومة” فليكن بالنسبة له، لكنهم بالنسبة لي هم قتلة أبي الحقيقيين… نعم هم، فلولا تهجيرهم لما مات أبي الخباز جائعاً تنخره الأمراض، ولما تيتمت أنا وترملت أمي، لما كنا متهمين في العالم كله وكلٌ يركلنا بقدمه، لما كنت أنا هنا أقف أمام سيادتكم في قفص الأتهام، ولما كنت وقعت على فواتير أحد لأملأ جيوبه مالاً، وكلما إمتلأت جيوبه مالاً كلما جاع الفدائيون الذين جئت خصيصاً لأطعمهم خبزي. لكنت مازلت في قريتي الشجرة، لكنت عشت حياة طبيعية بين أبي وأمي، لما مات والدي في حفرة أمام فرن في الغربة، لما جاع وبين يديه “حاكورة” البيت وزيتونات الحقل وزعتر الجبل وأرغفة الفرن التي يتماوج فوق وجوهها لون النار الذي أعطاها طعمه ، كما أنني لا أريد أن أكون “خباز السلام”، أرفض عرضكم لسحب التهمة عني مقابل ذلك، أريد أن أظل خباز الفدائيين، خباز المخيم وما يحيط به من قرى ومدن…

ـ ماذا؟ لم يعد هناك فداييون!، ليس مهماً، ما تبقّى منهم، مهما كانوا أقلة لن أتركهم يجوعون، “عاقل يتكلم ومجنون يستمع”، أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، أتستدرجني لتعرف أماكنهم؟ سيعرفون هم مكاني إن لم أعرف أنا مكانهم، سيأتون هم عندي لأطعمهم خبزي.

ـ نعم أقولها بصوتٍ عال، وبكل ثقة أيضاً، أنا لن أتركهم يموتون جوعاً، كما لن أترك مهنتي تموت وأصابع يدي يضخ إليها القلب دماً، فمهنتي مرتبطة بهم، بإشباعهم بعد أن جوّعوهم وأفقروهم وسحبوا منهم قوّتهم ورحّلوهم من المخيم إلى حمام الشط مبعدينهم عن حدود الوطن، كي لا يعودوا يشمون راحة صفد والجليل وقرية الشجرة، كي يموتون غيظاً وجوعاً وإختناقاً، نعم، لقد إختنقوا بعد أن صاروا غير قادرين عل التنفس بهواء الجليل الذي صار بعيداً.

رغم بساطتي فإنني أعرف جيداً كيف حول سعادته كل معظم مَنْ أتي بهم إلى موظفين ومسحجين ومطبلين ينتظرون “مخالي العلف” في آخر الشهر، بعد أن إقتلع نيوبهم وقصقص أجنحتهم فلم يعودوا يحسنوا فن الطيران، ومن ليس لديه أجنحة لن يستطيع التحليق ليرى القدس وعكا وطبريا ونتانيا وصفد والجليل، لن يستطيع السباحة في بحر يافا، ولن يعرف يوماً كيف تنتظرنا الناصرة وكفر قاسم عرائس بلباسها الأبيض.

أما أنا فسأجعل من العجين لآلئ من خبز، ومن الخبز أنواعاً، سأزيد من حجمه ووزنه، وسأضيف إليه “الملاتيت” وأرشها بالسكر،سأصنع لهم أقراص الزعتر والسبانخ وكافة أنواع المعجنات، وإن توافرت في جيوبي نقوداً سأشتري لهم اللحوم وأقطعها بنفسي وأصنع لهم “الصفيحة” ليستعيدوا قوتهم، المهم أن لا يجوعوا، وكما تلاحظ فالأساس هو الخبز، فبدون الخبز سيدي القاضي ما فائدة زيت الزيتون والزعتر؟ ما فائدة الميرامية وابريق الشاي؟ إنها تفقد قيمتها ولا يبقى لوجودها معنى.

أمّا أنا سأظل أعجن وأخبز لأطعم الفدائيين ولن أتنازل أبداً عن هذا الشرف، هدّد كما تريد، فلن “يقطع الرأس إلّا من ركّبها”، أعيد مجدداً أنني لن أكون خباز “السلام”، فأي سلام دون أن أعود لقريتي “الشجرة” وتعود لي، دون أن يلعب أولادي في أزقتها وطرقاتها، دون أن أزرع حكورتها وأدهن خبزي بزيت زيتونها؟!!!

أعرف أنكم جميعاً كما الدجاح “لا تتحكمون حتى في بيضاتكم”، وأن روحكم في يده، وتفتت ضميركم وتبعثر ولن تستطيعوا إسترجاعه أبداً ولا حتى لملمته.

إحكم كما تريد فلن يتذوق خبزي إلا من يستحق، الفدايون، وفقط الفدايون، إفعلوا ما تريدون، فلن تثنوني عن قراري هذا أبداً.

محمد النجار

 

عندما يستعيد الثلج لونه

استقبلني عامر، كعادته، في بيته إستقبالاً يفيض ترحاباً، كمن يرى إنساناً عزيزاً عليه بعد زمن من الإنقطاع والإشتياق، كيف لا ونحن الإثنان كنا رفاق درب وسجن وحزب ومسيرة مليئة بالمد والجزر والفرح والحزن، وكلانا حمى الآخر بكل ما فيه من قوة في زمن الزنازين المقاوم، عندما كانت الفكرة شعلة، والقابض على الفكرة قابض على الشعلة، التي حتماً ستصل لنهاياتها الظافرة، عندما كانت الفكرة شعلة وبرنامج عمل ومنارة تضيء الطريق، مبدأ لا مجال للتشكيك في الإيمان به، إنه القول الفصل والمذهب الذي لا يختلف عليه إثنان، عندما لم يكن للعذاب ولا الموت كبير إعتبار أمام الإصرار على نشر تلك المبادئ والأفكار.

وفرقتنا الطريق بعد أن جاء “أوسلو” محملاً على ظهور القيادة مربوطاً بجيدها مثل “رسن”، كما يحب أن يقول، إفترقنا عندما “شرعنت” قيادتنا بدورها الدخول لمؤسسات “السلطة” القيادية، ووجدت الكثير منها أماكن عمل لها بوظائف “مدراء” بفروعها المختلفة:”ا و ب و ج “، مبررة أنها ستعفي الحزب من إلتزاماته المالية نحوها، وارتفع صوته المندد بالخطوة، المحذر من الإنزلاق في نفق “أوسلو” بغض النظر عن التبريرات، متهماً من وافق على تلك الوظائف بأنهم في خطوتهم الأولى لخيانة الأمانة التي وضعها الناس في أعناقهم، وأن الأمر لا يعدو سوى الخطوة الأولى للمهادنة والدخول في القفص، فطعم المال يُغري بالمزيد، وقال:

ـ إن العبيد وحدهم الذين يدخلون القفص بأقدامهم، ومن دخل القفص يكون قد ودع الطيران إلى غير رجعة، ولن يعود قادراً على التحليق نحو السماء حتى إن حمل زوجاً من الأجنحة بحجم أجنحة طائر الفينيق، ثم ما فائدة الأجنحة إن لم تكن قادرة على حمل صاحبها فوق أجنحة الرياح ومطباته وطرقاته المُتعرجة بإتجاه  الشمس؟!!

وتابع بكل مافيه من غضب وقال:

ـ أنتم تجردوننا من أحلامنا، تدفنوها في مزابل التاريخ وخلف الزمن، إنكم تضللوننا وتخدعوننا عن سبق إصرار، فضوء القمر هذا الذي تشيرون نحوه خادع كاذب، ليس سوى إنعكاس لحظي عن الأصيل عند بعض لحظات غيابه، الأصل هو ضوء الشمس الذي تُغيِّبون وتتجاهلون.

ولمّا سأله البعض عن ماهية العمل في مثل هذه الظروف قال:

ـ “إن أبغض الحلال عند الله الطلاق”، لم يعد يربطنا بهم رابط، والمنظمة ثمنها دماء الشهداء وأنات الجرحى والأسرى، لم يرثوها عن آبائهم، إنها حق من لا يخون دماء الشهداء، إن كنتم ترون بأنفسكم أهلاً لذلك استعيدوها، وإلاّ فسيكون أي كلام أو احاديث مجرد كلام، لا يستحق التوقف عنده.

أجاب بعض القادة حينئذٍ مُتجنبين النظر في أعماق عينيه:

ـ الطلاق؟ إنه مجرد عمل، إنها حقوقنا من منظمة التحرير.

فقال وقد تشابك عنده الغضب مع العتب:

ـ ياحيف على الرجال ياحيف، أتستحمرونني وتستهينون بقدراتي العقلية إلى هذه الدرجة؟ عن أي منظمة تتحدثون؟ وهل بعد هذا تبقَّى شيء من منظمة التحرير؟ في أيام العز كانت قيادة المنظمة المهترئة الفاسدة المفسدة، تمنع حصصنا المالية عند كل منعطف، ولو لم تكن كذلك لما ركبت قطار “أوسلو” أصلاً، أتريدونها بعد هذه الردة وهذا الإنحدار أن تعطي للفصائل المعارضة حقوقها؟!!!

سكت قليلاً ثم أضاف:

ـ كي أسهل عليكم الأمر، أنا أوافق على أمر الوظائف ضمن قانونين اثنين، الأول أن يكون الأمر مؤقتاً بشهور عدة ولا تزيد عن سنة، ويتم تداوره بين الرفاق، كل بضعة شهور يُعطى لرفيق غير الذي كان، والثاني، أن يأخذ صاحب المنصب قدر التفرغ الحزبي فقط ويُحوِّل ما يزيد عن ذلك لمالية الحزب.

طبعاً لم يوافق أحد عل إقتراحه، فزاد نقده لهم، لنفس رفاقه الذين طالما حماهم داخل الزنازين وحموه، قال:

ـ إنها الخطوة الأولى لتبتلعوا ألسنتكم، ومن يبتلع لسانه سيلجم فعله لا محالة، ولن تُلعلع رصاصاته سوى في الأعراس.

وتابع حديثه المتلاحق في كل مناسبة:

ـ إنكم لن تجرؤوا على إصطياد عصفور، فما بالكم بجندي أو مستوطن؟!!! بل لن تجرؤوا على تأييد من يفعل ذلك، هذا إن لم تتبرأوا منه أصلاً، هذا هو ثمن الوظائف تلك، وأمام أي موقف ستقارنون بين الفرق في دخلكم وحياتكم الماضية والحاضرة، وستنحازون إلى الراحة والبذخ، وليس لسنوات المطاردة والسجون والمواجهة، إنها سنن الحياة التي إخترتمونها.

وارتفع صوته وعلا، وتراجع حضوره أو قَلَّ بينهم، وغاب أو غُيِّب لا فرق فالنتيجة واحدة، ثم انفصل أو فُصل أو لم يعد أحد يتصل به، سيّان، وقلنا أنه تساقط في الطريق، وبررنا بأن الطريق الطويل متعب وشاق، وليس كل من يسير به يصل لنهايته، وأن هذه سنن النضال والحياة، وأن من الناس من يتحول لذاتي بعد تعبه أو فشله لئلا يعترف بعجزه، والبعض يتحول لجزء من جمهور المتفرجين، وحللنا وتفلسفنا واخترعنا النظريات، وظل هو يُعتقل عند سلطة أوسلو بسبب “طول لسانه”، لكنه بدل أن يصمت تصاعدت إنتقاداته وعلا صوته، وظل يعلو ويعلو، وصرنا نحن رفاقه السابقين الأشد تعرضاً لإنتقاداته، نحن و”حلفاء إسرائيل الجدد” كما سمّاهم، الأمر الذي جعل الرفاق ينتدبونني لأضع له حداً، أو لأخجِّله، لأذكِّره بماضيه الذي يحاول تناسيه ورميه بعيداً خلف جدران الوهم التي تحوم في رأسه، وكأن ذاك الماضي ليس منه ولا هو من صنع يديه، في جزء يسيرٍ منه على الأقل، ولأقول له أن مَنْ لا ماضي له ليس له مستقبل تحت هذه الشمس.

أخذت أستعيد الماضي معه ونحن نحتسي شاينا “الباذخ” الغارق برائحة النعناع حتى حدود “البطر”، وصحني الزيت والزعتر أمامنا، نغمس بهما قطعاً من خبز الطابون ليصل الزيت حتى نهاية عقلة السبابة والوسطى والإبهام، ونسكب خلفه جرعات من الشاي المُحلّى، فطعم الزعتر وزيت الزيتون المجبول بحلاوة الشاي لا يضاهيها شيء في هذا العالم.

فصار يتحدث وكأنه يترنم بمعزوفة موسيقية، وقال وهو يلوك الطعام ويصوغ العبارات، مذكرني بتلك الفترة التي كدت أنساها:

  •           *          *

في تلك الليلة الخريفية الباردة، أمّنت ظهري لصخرة في بطن الجبل، وشددت السماء المرصّع بالنجوم، بعيني، لحافاً، لكنه لم يحمني من برد ليل أواخر الخريف، كانت من بين ثقوب النجوم تتسلل حبيبات الهواء الباردة وتتكاثف جداول من برد ينخر جسدي من كل الأماكن، ولم ينفعني معطفي الهزيل في التصدي لها، فصرت ألتَّف بجلدي منتظراً قدوم شمس الصباح، التي تأخرت كثيراً عن موعدها، كأنها تتآمر مع الليل على جسدي البارد، ولم تأتِ قط.

في تلك الليلة قررت أن لا أعود لحضن الجبل مرة أخرى قبل إختفاء البرد، مع يقيني أنه لن يفعل مادام الفصل القادم يقف متحفزاً بالمرصاد للدخول من كل الأماكن والأبواب والمساحات المشرعة دون رابط، لكن ليس للأمر علاقة بالرغبات، فالقرار كان واضحاً، كما تعلم، لا لبس فيه : ” لا تُسلِّموا أنفسكم للعدو كالخراف”، وفي نفس الرسالة :” الوطن بحاجة لكل الطاقات، لا تهدرونها في الزنازين وخلف القضبان”، فتوجب علي أن أجد البديل.

كنت أنت جديداً على الحزب، ولم تكن علاقتنا بهذا العمق، وكنت أنا قد أمضيت الكثير من الليالي موزعاً نفسي عند بعض الأصدقاء، فارضاً نفسي بشكل لا يخلو من بعض الوقاحة أحياناً، وأحياناً مستغلاً باب الصداقة أو طيبة الآخرين، لكنني في معظم الأحيان لم أمكث أكثر من ليلة أو بضع ليال، لأعود أسعى في مناكبها باحثاً عن مكان للمبيت، وفي مثل هذا الحال ينقضي الوقت في البحث ويغيب الوطن عن جدول الأعمال، فيصبح الأمر “وكأنك يابو زيد ما غزيت”، فما الأهمية لوجودي إن لم أكن قادراً على متابعة المهام؟ لكن حملة الإعتقالات الأخيرة تلك لم تُبق لدي الكثير من الخيارات.

منذ دخول الفصل البارد القادم من وراء البحار سماء البلاد، تغير وجه المدينة بالكامل، كانت الغيوم تأتي متكاثفة متجمعة، وسرعان ما تُبطئ المسير لتهيل ما في أحشائها من مياه، وما أن تصطدم ببرد الهواء حتى تتحول إلى ثلوج قطنية بيضاء، ثمار القطن الذي نضج بفعل حرارة الصيف الذي مضى تراها تتطاير في فضاء هذا الشتاء دون رياح، تتراقص متحررة من الغيم الداكن لتفترش مساحات الحقول، وما أن تجد لها مكاناً على سطح الأرض، حتى تبدأ بالتراكم ثمرة فوق أخرى، وتنمو وتكبر وتتسع مدى، حشائش بيضاء مترامية تغطي السهل كله، مخفية أسطح المنازل و العمارات والطرقات والسيارات المتوقفة على رصيف الشوارع في لحظات، تعتلي أغصان أشجار التين والزيتون، تغطي أشجار السرو واللوز والمشمش، وتظل السماء حبلى بالغيوم، والغيوم حبلى بالثلوج كما كانت قبل الولادة الأخيرة، مستعدة لإنجاب التوائم الثلجية المتعددة، مليئة كما جاءت، كأنما لم تكتفِ بما جادت، ولا تنوي المغادرة بعد، وأنا تحملني وتسير بي قدماي، مُهشِّمة وجه الثلج الأبيض المتراكم، غائصة به إلى ما فوق الرسغ، أسير لاهثاً كأنني في رمال الصحراء، ممتلئة قدماي بالثلج المتحول لمياه ثلجية ما أن تَتلامَس مع حرارة قدماي، ماشياً متنقلاً بين أطراف المدينة مبتعداً عن عيون دوريات الجيش، كي أجد لي لحافاً غير السماء.

كنت مطلوباً منذ مايزيد عن عام كامل، كان “جيش الدفاع” قد داهم مرات عدة كما في هذه المرة أيضاً، منزلي بعشرات الجنود، كأنه في معركة حامية الوطيس، حاصر البيت من كافة جوانبه قبل أن يقتحمه مفجراً بابه متعمداً زرع الرعب والخوف في البيت كله، ووسط صراخ أطفالي المرعوبين من الجند وصوت الإنفجار راح يكسر المقاعد والخزانة الواقفة بصمت بجانب الحائط، يمزق الفراش ويهيل مافي “البراد” من طعام، ومن باب الإحتياط، كان يسكب حليب طفلي الرضيع على الأرض، ليتأكد أن عبوة الحليب لا تُخفي قنابل أو رصاص أو متفجرات، والغريب، قالت زوجتي، أنه يفعل هذا الأمر بالحليب في كل مداهمة، وكأنه يؤكد كرهه للأطفال أو خوفه منهم، وربما يرى فيهم خطراً مستقبلياً يمسح كل ماضي كيانه وكل حاضره الفاشي، وكنت أنا قد أخذت إحتياطي وغبت عن الأنظار قبل ذلك بكثير، لأنهم يعتقلون كل شيء وأي شيء، فهم لا يستطيعون إستيعاب ولا فهم كيف يجرؤ هؤلاء “الأغيار” على التمرد عليهم هم الأسياد؟ ألم يخلق الله العالمين جميعاً لخدمتهم؟ ألم يُسخر البشر جميعاً لخدمة شعب “يهوه” المختار؟

تجمع البرد والثلج والضربات الأمنية المتتالية في أجواء المدينة وسائر الوطن، وسقىت دماء مصطفى العكاوي أرض الزنازين، فارتقى شهيداً إلى السماء، فبكت مدينة القدس حباً وورداً وقمحاً وحياة، فتحولت مدينة رام الله الوادعة الجميلة إلى مدينة غريبة لا يكاد يعرفها المرء، وصارت أسطح عماراتها عيوناً متلصصة على الطرقات بعد أن إغتصب الجنود أسطحها، وخلف عماراتها أشباح وكمائن صيد متنقلة من دوريات الجيش، وأضحت الشوارع البيضاء ملتبسة غامضة، والجنود المشاة إستغلوا فقر الشوارع بالمشاة ليوقفوا ما طاب لهم من أُناس متلذذين بتعذيبهم بدعوى الأمن، ومن مكان مسيري الحذر الموازي لشوارع مركز المدينة، كنت أرى دورية من الجيش، وقد أوقفت عائلة بدعوى التفتيش والتدقيق، فلعل الأب أو الأم أو أحد الطفلتين مطلوبون، فرادى أو جماعة، لقوات الأمن، وبعد أن جاء الرد بالنفي عبر جهاز اللاسلكي، طلبوا من الأب الشاب أن يعانق الأرض الغارقة بالثلج والماء المتجمد ويداه خلف ظهره، مرة على بطنه ومرة على ظهرة ليفتشوا جيوبه الأمامية والخلفية، فهم لا يستطيعون تفتيشه واقفاً، وبين المرتين دقائق تمر وبكاء طفلتين ما بين  الخامسة والثامنة لا ينقطع وجسد ممدد فوق الثلج مرتعش، من البرد أو الخوف ربما، أو الأمرين معاً، وتفكك لحبيبات الثلج لتتحول إلى ماء مثقل بالبرودة والمرض ينغرس سكاكيناً حادة في جسد الأب الراجف، فلم يعد ل” وجعلنا من الماء كل شيء حياً” مكان، وصار الماء عدواً قاتلاً دون جدال، وصار الجسد الممدد فوق الأرض يمتص الماء مجبراً، فيرتج ويرتجف كأوراق شجرة داهمتها رياح عاتية مباغتة ودون رحمة فانهالت متهاوية من علِ، قبل أن يُعيدوا له ولزوجته بطاقتيهما، ويسمحوا للعائلة بالمغادرة، وأنا أقف على حافة الخطر أُراكم الحقد في داخلي ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، أسناني تصطك مع بعضها البعض، والبرد ينخر عظامي ويلتهمها دون رحمة، فيصير السجن رحمة، ويصبح الإعتقال أمنية، والوصول إلى بيت الرفيق المتوجه أنا إليه، في تلك اللحظات بالذات، هدف سامي، والحلم بكوب من الشاي، حتى دون الزيت والزعتر وخبز الطابون، من مواصفات الجنة.

هذا الرفيق الذي كنت متوجهاً لبيته كان أنت، وإتفقنا في إجتماعنا، إنْ كنت مازلت تذكر، على مباغتة دوريات الجيش بقنابلنا البدائية الحارقة، وظلت تتزاحم بين جفون عينيّ دماء الشهيد مصطفى الطاهرة تسيل، وصورة الرجل الذي يرتجف برداً وعذاباً دون ذنب، وأصوات بكاء الطفلتين تسيل في أذني حديداً مصهوراً، وكانت تتراءى لي بصاطيرهم وهي تعبث تكسيراً في خزائن بيتي، وتداخل صوت بكاء الطفلتين الخائف ببكاء أطفالي المرعوب، وكدت أرى أيديهم تسكب حليب أطفالي فوق ركام البيت مستهزئة مستهينة منتشية، فبدى لي أن الزجاجة الحارقة يجب أن تكون قنبلة، وألقيتها فوق دورية الجيش المارة متسللة في ليل المدينة، وألقيت أنت زجاجتك أيضاً، وكنا نرى دورية الجيش تحترق، وبدى لي أن الجنود هم أنفسهم الذين قتلوا الشهيد في الزنازين، وهم الذين إقتحموا بيتي، وهم من عبث بأثاثه، وهم أنفسهم من أبكوا الطفلتين الصغيرتين وعذّبوا أبويهما، وهم الذين قتلوا عمي وأجبروا أبي عندما كان صبياً وبقية القرية الوادعة على مغادرة بيوتهم، وأنهم يتكررون نسخة كربونية لا تجديد فيها سوى في فن القتل والذبح والعنصرية المتأصلة، وكدت أظل أتفرج على النار المشتعلة فيها، وبدى لي أن الدفء صار يتدفق إلى جسدي، ولم تعد أسناني تصطك ببعضها برداً، وأن قدمي قد جفّا واختفى الورم والتضخم من أصابعهما، وبدى لي أن الثلج قد بدأ يستعيد بياضه ولونه، واستعاد حيويته فازداد ضرع الغيوم عطاءً، وكبر حجم ندفه وتكاثف ليشكل لنا باب حماية للإختفاء، وكان لون الثلج أبيضاً، لكن ليس ذلك الأبيض الذي خبرناه منذ مجيء أوسلو، لم يكن أبيضاً مُزيفاً، كان ناصع الوجه نقياً غير متسخ وغير مُشوّه، فعادت مدينة رام الله جميلة كما أعرفها، وعادت لها الحياة، واستعادت الأسواق المغلقة رونقها، والشوارع حركتها، والمساجد والكنائس رحيقها، فارتفع الآذان وقرع الأجراس عزفاً متلألئاً في الأجواء، وتداخلت أصوات الباعة وزعيق الأطفال، وتعالت أصوات العتابا والميجنا والدحية، وارتفعت الدلعونا وحضر “زريف الطول”، ومن مكان قريب هلّت “زفة” لعريس جديد، وتجمعن الصبايا في ليلة حناء لعروس واقفة على أبواب المدينة ماتزال تبتسم، وأمام وقوفي العبثي متفرجاً، كانت يدك تشدني وتهزني بعنف:

ـ هيا بسرعة، أتريدهم أن يقتلوننا؟

وغادرنا المكان وسط بكاء رصاصهم المتفجر خلفنا، تماماً في أعقابنا دون أن يصلنا أو تصيبنا شظاياه، وفي كل مكان واتجاه، واحتوتنا شوارع المدينة التي لم تعد غريبة، وغطت إنسحابنا كاملاً من المكان، وكأنها توجهنا إلى طرق الحقول، وكانت أصوات إعلانهم لمنع التجوال في المدينة المرافقة لأصوات الرصاص لم تهدأ بعد، ونحن نصعد الجبل مبتعدين عن المكان.

في ركن بعيد في ثنايا ذاكرتي وخباياها، استحضرت بعض كلمات أبي قبل أن يغادرنا مبكراً إلى ربه يقول:

ـ “إقضِ على البرد بالحركة، السكون هو الموت بعينه، ورؤية النار، حتى البعيدة منها، تجعلك تشعر بالدفء”.

  •            *            *

أعاد لي عامر بقصته ذكريات وشجون، قلت قاطعاً حبل ذكرياته المتدفقة نبعاً من عمق جبل:

ـ ليس هذا ما أتى بي إليك، إنه شيء آخر، لسانك السليط علينا، لماذا كل هذا الحقد؟ أفقدت كل احترام لهذا التاريخ الذي تستعيده.

انزلقت قطعة الخبز من بين أصابعه إلى صحن الزعتر، كفت أسنانه عن المضغ، سكت طويلاً قبل أن يسكب في فمه ما تبقى من كاسة شايه ليسهل لها طريق الوصول لمعدته وقال:

ـ الحقد؟!!! أنا أحقد عليكم؟وهل هناك من يحقد على نفسه؟ على أمله؟ ولماذا؟ ربما كان الأجدر بك أن تقول الحب وليس الحقد، فأنتم الأمل الأخير إن إستطعتم استئصال أوراكم السرطانية، إن أخرجتم المستفيدين الذين استطابوا الراحة في الزمن الصعب، إن إستطعتم العمل، كما سبق، تحت الأرض، كنا بإحتلال ونعمل سراً، فما بالك عندما صار للإحتلال أعواناً وعيوناً ومنسقين أمنيين؟!!! صار له أذرعاً طويلة تلاحق وتعتقل وتُخبر وترشد وتكمم الأفواه وتقتل؟ أرأيت قيادة وطنية تُحاكم شهيداً وأسيراً؟

سكت قليلاً وكاد يغتصب إبتسامة فخاف أن تبدو حمقاء كاذبة فعدل، وقال:

ـ قال المرحوم والدي:” أُحب من أبكاني وبكى علي وليس من أضحكني وضحك علي”.

قلت ومازلت مصراً على إيصال رسالة الرفاق له:

ـ على الأقل انتقدهم هم، هم الذين فرطوا وليس نحن.

قال:

ـ “الضرب في الميت حرام” كما تعلم، رغم أن لساني لم يستثنهم أبداً، لكن وكما تقول هم فرطوا لكن ما الذي فعلتموه أنتم؟ ماذا فعلتم لوقف هذا التفريط أو إستمراره في الربع قرن الأخير؟ إنكم صرتم “مؤدبين” أكثر مما يجب، لا أعلم أخوفاً عل جرح مشاعرهم أم للحفاظ على مصالح بعض أفراد القيادة؟!!!وفي الحالتين النتيجة واحدة، وأنتم، في مثل هذه الحال، لا تستحقون غير الشفقة.

كنا نتحث بلغتين مختلفتين، وكان قد أخرج من علبة سجائره واحدة وأشعلها، وتابع مفصلاً:

ـ هناك تفريط يومي لدى قيادات “أوسلو” كما تعرف، فلماذا معارضتكم خجولة هزيلة إلى هذه الدرجة؟ ثم ما هي العوامل المشتركة التي ظلت تجمعكم بهم؟ لماذا مازلتم متشبثين بمواقعكم في مؤسسات السلطة القيادية؟ ما سر هذا “الحب العذري” معهم؟ ألم تتعلموا بعد أن الذي يخجل من عروسته لا يُنجب أطفالاً؟ لماذا لا ترفعوا صوتكم عالياً في وجههم؟ لماذا لا ترفعون صوت أفعالكم أعلى في وجه مَنْ يخدمون؟ لماذا لم تؤدبوا ولو مرة واحدة مسؤولاً أمنياً ممن يُنسقون مع آل صهيون؟ من الذين يشون برفاقكم ويعتقلونهم ويعذبون؟ ما الذي جرى لكم؟ ألا تنظرون أين صرتم والى اين وصلتم؟ أرفضتم المشاركة في إنتخابات البلديات كي تتمسكون في مفرزات “أوسلو”؟ لماذا لم تُكملوا ما عاهدتم الناس عليه من تصعيد الموقف وعدم الوقوف عند مجرد رفض المشاركة في إنتخابات بلدية؟ ألا تعتقد أن ذلك هروباً للأمام وتغطية على عجزكم؟!!!

سحب من رأس سيجارته نفساً عميقاً، اقترب مني، وأطلق سهمين من عينيه لتخترقني وقال:

ـ ما فعل هؤلاء القادة المتمسكون بهذه العلاقة أمام إعتقال رفاقهم في سجون السلطة؟ ماذا فعلوا ليحمونهم من أجهزة أمنهم وسجونهم؟ أهذا هو الحزب أو الفصيل الذي كانوا يرتعدون منه ويحسبون له ألف حساب؟ أهذا هو الحزب الذي ظل على الدوام حامياً ومدافعاً عن الوطن والرفاق والناس والقضية؟

عدل من جلسته وتابع سحب الأنفاس من رأس سيجارته وقال:

ـ ترى مَنْ الذي عليه إعادة النظر في مفرداته الوطنية؟!!!

ودون مقدمات، وكأنه يريد الخروج من الموضوع أو الإبتعاد عنه، قال:

ـ لقد قاطعتني دون أن أكمل لك القصة.

وأكمل دون أن يسمع لي رداً:

ـ لقد كان هواء الجبل البارد نقياً، كان عطراً برائحة الميرمية والشيح والزعتر إن كنت مازلت تذكر، وكان يبتلع برده المتجمد كأنما يريد حمايتنا من مرض كامن في أزقة الهواء، يزيله ويخفيه بعيداً في أعماق الأرض، أو ينثره بعيداً فوق مساحات السحاب، وكان لون الجبل أبيضاً ناصعاً كأجنحة ملائكة الجنة، إستعاده الجبل بعد مرور سنوات على ذلك، لون أبيض لا علاقة له بالرايات البيض، تخاله يشبه الرايات الحمر في زمن الحرب، أو بلون حشائش الأرض الربيعية الخضراء الممتدة على طول السهول، وربما بلون الأرض الأسود الممدة على ظهرها بإنتظار الإخصاب، لكنها لا تتخصب من ثلج خصي مزيَّف اللون عاجز، بل من ثلوج ناصعة بيضاء استعادت لونها الأصيل الشامخ، مشرئب العنق مرفوع الجبين ويحتضن الجبل والسهل كله، كأنه يحميهما من رصاصهم المتطاير حقداً وعنفاً وانتقاماً وسفور، وظل يطاردنا ونحن نصعد عالياً عالياً من صخرة إلى أخرى، متسلقين السلاسل الحجرية محاذين أشجار الزيتون الراقصة بنا فرحاً، وحينه فقط أدركت طريقي إلى الدفء…. أأدركته أنت؟

قلت مغلوباً على أمري:

ـ يعني ما في فايدة؟

قال:

ـ بلى، عندما يستعيد الثلج لونه الأبيض، ويصير كالراية الحمراء وحشائش السهل الربيعية الخضراء ولون الأرض الأسود المستعدة للإخصاب.

محمد النجار

 

 

 

الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار

“ديموقراطية” السيد الرئيس

كنا عائدَين من جنازة الشهيد أيمن، متجهيَن لبيتينا المتجاورين في طرف القرية الشرقي، قبل أن نعود، في المساء، للمشاركة بأخذ العزاء، ففي قريتنا، الجميع يتبنى الشهداء، فالشهيد إبن القرية جميعها، من رجال ونساء وأشجار وجبال ووديان، يتزاحم الجميع فيها لأخذ العزاء، محاولين مجاورة أهله وذويه، متنازعين في دعوتهم، لطعام الغداء أو العشاء. كنا نترحم على روح الشهيد، نتذكر مواصفاته الشجاعة، مقداميته وشجاعته، رغم أننا لم نكن نعرف الكثير عنه، فالجيل غبر الجيل، فهو في أول سني شبابه، ونحن فارقنا شبابنا بالأمس القريب أو البعيد، يعتمد الأمر كيف ينظر كل منا على يوم أمس.

كنت أتفادى الرجوع معه، فهو لا يحب المشي في طريق “مستقيم”، فبدلاً من السير فوق الطريق الأسفلتي المتمدد مثل أفعى أكملت لتوها إبتلاع دابة دفعة واحدة، ومازالت تتقلص وتتمدد عضلات جسدها، فهو يسحبك بجانبه من طرق جبلية، بين الحجارة و”النتش” والزعتر البري وشجيرات الميرمية، متعربشاً السلاسل الحجرية مثل قط بري، كما لو كان في مقتبل العمر وليس في خواتيمه، متوقفاً بين أغصان الزيتون وكأنه يراها للمرة الأولى، مُزيلاً بأنامله الخشنة ما جف من وُريقات أو أغصان رفيعة، كانت ما تزال متعلقة بأطراف أمها، مستمعاً لتغاريد “حسون” جميل تنساب في الأذن نحو الدم مباشرة، لتجعلك في حالة جاهزة للدبكة والعتابا والميجنا والرقصات الشعبية، متسلقاً من جديد السلاسل الحجرية مُتقافزاً فوقها، كطائر الدوري، بقفزات قصيرة واثقة، يبتسم من تحت شاربيه، ويقول:

ـ ما الشباب إلّا شباب القلب…

ولم تكن كلماته تلك مجرد شعار فارغ، مثلما يطلقها من كلمات “شيخ عجوز” على مشارف الموت، خصاه الزمن أو العمر أو عدم تمسكه بمواقف الرجال، وصار يُطلق شعارات فارغة كاذبة، فارشاً أرضاً لزواج مُقبل مع فتاة بعمر إبنته أو أقل قليلاً، بل كان يمارس شعاره هذا على أرض الواقع، في كافة نواحي الحياة، وفي هذا الزمن، من النادر أن ترى من يمارس شعاراته في الواقع وأرضه، لتكون محراثاً يترك آثاره في الرؤوس والقلوب، من يلتزم بكلماته ويمارسها عملياً في الحياة، بنفسه وعلى نفسه أولاً وقبل كل شيء. وكان هو، أبو أحمد الصادق، صادقاً مثل إسمه، وفياً وشهماً، تراه في كل يوم، يمارس “شباب قلبه”، فيلاحق جفاف الأشجار فوق الصخور، في بطون الجبال، يزرع شتلات الزيتون في مساحات الأرض الجرداء، “يُقنب” و”يرقع” ويفلح ويقلع ويزرع الحياة، فيُلبس الأرض رداءً يتزايد إخضراراً يوماً بعد آخر، وفي هذا الزمن، الوفاء والرجولة والصدق أصبحت عند المخصيين تهمة، فكان أن تنصل منها الكثيرون، لكن ليس أبو أحمد الصادق، الذي لم يتنازل قيد أنملة عن هذه الصفات التي تؤدي إلى التهلكة في زمن الردة هذا، وكثيراً ما كنت تراه يُجالس الأرض يتحدث معها، يداعب الأشجار، ينصت إليها ويهدهدها، حتى تخاله مجنوناً أو فقد عقله، أرأيت كثيراً من الناس يتحدث للأرض والأشجار ويفهمها وتفهمه؟!!!وكان يظل يؤكد أن الأرض والإنسان كلاً واحدا متكاملاً، لا تستطيع فصلهما أو التعامل معهما كإثنين منفصلين، وإن فعلت فأنت جاهل بهموم الأرض، بأخلاقها وطبعها وطبيعتها، وعليك التعلم لمعرفة صفاتها ومواصفاتها وإلا فإنك لا تستحق ركوبها ولا التظلل تحت ظلال أشجارها.

ظل أبو أحمد الصادق يزرع ويفلح ويسقي ويُعشّب الأرض، ولم تمر ولو سنة واحدة دون أن يزرع شتلات الخضار او الفاكهة الموسمية، التي أكل منها كل من رغب من سكان القرية، وكما كان يتعامل مع الأرض في الحقل يتعامل مع الإنسان، ومع أترابه من فلاحي الحقول، كلمته لم تكن يوماً تقبل القسمة على أكثر من واحد، كلمة واحدة لا تُجامل أو تتغير في قول الحق أو تأييده والوقوف معه وبجانبه، مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك، كلمات لا تخلو من السخرية اللاذعة التي تبدو أنها تُقزم الحدث، لكنها تلاحقك وتظل تدور في شعاب رأسك وطرقاته، فتُدوره وتُشغّله وتحرك خلاياه، لتكتشف أنها مارد من كلمات قاسية، يجبرك أن تصير فاعلاً حتى لو كنت كتلة من صخر، الأمر الذي خلق له مشاكل غير قليلة مع الكثيرين في مراحل حياته المتلاحقة، لكنها، في ذات الوقت، رسخت وثبتت في أعماق البشر جميعاً مصداقية رجل لا تُنازع، ممن عارضوه أو أيدوه، وصار إسمه “الصادق” يطلق عليه كصفة دالة عليه دون غيره.

الطريق من بين أشجار الزيتون، طريق جبلي أكل منا ثلاثة أضعاف الزمن الذي يأكله الطريق الإسفلتي السهل، لكنه الزمن الذي نملكه كلنا في القرية، ولا يُنازعنا أحد فيه وعليه، زمن يتساقط عن أجسادنا كحبات العرق، لكنه يأخذ غير مجراه مع أبو أحمد الصادق، فيتحول إلى زمن مُحبب للنفس سرعان ما ينفذ دون أن تدري، ودون أن تحس به، كان يُزيل بعض أوراق جافة عن أحد الغصون، يزيلها واحدة واحدة بكلتا يديه، خوفاً من أن يجرح الغصن أو يُعرّي أطرافه ويزيد آلامه، فترى أبو أحمد الصادق يتألم بآلامه، وكأنه تقطع أحد أصابعه،قلت:

ـ أرأيت يا أبا أحمد، كيف توصل العلماء إلى إمكانية الإنجاب دون إمرأة؟!!!

لا أدري ما الذي ذكرني بالأمر، لكنني ربما قلته من باب فتح موضوع للحوار، فقال أبو أحمد ساخراً في أول الأمر:

ـ أتقصد علماء المسلمين؟ بارك الله فيهم من علماء…

ضحكت بدوري بصوت يكاد يكون مرتفعاً، وقلت:

ـ نعم، بارك الله بهم، لكن ليكفونا شرهم فقط!!!

فقال بدوره:

ـ لا تخف عليهم، سيجدون له فتوى في البخاري، وربما أتحفونا بفتاوى ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، أو سيجدون لنا شيئاً لدى القرضاوي أو العريفي أو أي من “علماء” مملكة آل سعود “طال عمرهم”، وذلك أضعف الإيمان…

وسكتنا، وتقدمنا ببطء، وظل هو يبحث بعينيه الضيقتين عن ما يزعج الأشجار، بتأني وروية ودقة، ثم قلت:

ـ ألم تلاحظ أن المحتل يمنع رفع الآذان في مآذن قدسنا، ولا تسمع منهم أيما إعتراض؟

فقال مؤكداً ذاهباً أبعد مما ذهبت إليه:

ـ لا إعتراض منهم ولا من حكامهم أيضاً، فأنت ترى بأم عينك “أمير المؤمنين” العثماني، لم يعترض، بل كافأ بني صهيون، فزاد، مثل حكامنا، من علاقاته الإستراتيجية مع الكيان!!! منظمة اليونسكو تقر وتجزم بإسلامية القدس وأن لا مكان لليهود فيها، وهو يؤكد لصحف بني صهيون أنها مدينة لكل الأديان، يهدي مدننا كما يشاء دون إعتراض أو همسة عتاب لا من “سلطتنا” ولا من “علماء سُنتنا”، قادة تيار الدين السياسي من “إخوان مسلمين” وغيرهم….

قلت مازحاً:

ـ لا تبالغ يا أبا أحمد، أعط كل ذي حق حقه يارجل، ها هي السلطة تكتشف أن “إسرائيل” تتحدى المجتمع الدولي برفضها المبادرة الفرنسية!!!

عاد أبو أحمد الصادق لسخريته وقال:

ـ يا عزة الله!!! أتقول الصدق؟ أإكتشفوا الأمر بهذه السرعة؟ إكتشفوه بعد مرور سبعين عاماً فقط ،إكتشفوا أنها تتحدى المجتمع الدولي ولا تقيم له وزناً؟ لقد طمأنتني بأنهم بالكثير بعد ثلاثة أو أربعة قرون سيكتشفون أن مفاوضاتهم معهم ليست أكثر من “ولا تؤاخذني” “ظراط عَ البلاط”، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه…

وعقب وكأنه مع نفسه:

ـ وكأن في المبادرة الفرنسيةشيئاً يفيد شعبنا!!!

وسرعان ما إلتقط أبو أحمد بضعة صرارات من حول ساق شتلة زيتون ما زال طرياً، لم يقو عوده بعد ليواجه قسوة الطبيعة، وضعها ركيزة تحت حجارة سلسلة حجرية قريبة، وسألني كأنه يرجمني بحجر:

ـ ما رأيك بديقراطية السيد الرئيس؟

لم يبتسم أي منا رغم كوميدية المشهد، لأنه لم يكن سوى “كوميديا سوداء” كما يقول المثقفون، قلت:

ـ ديمقراطية التحكم بالقرار السياسي وصندوق المال!!! ألم ترَ قوة “مخالي” التِبْن والعلف في مؤتمر السيد الرئيس؟!!! أهؤلاء من كانوا حتى الأمس القريب يحملون البندقية؟!!! لقد إنتقاهم سيادته”على المفرزة”، انتقاهم واحداً واحداً مثل “بعرة الجمل المنتقاة” كما يقول قدماؤنا، مَنْ صعب على الرئيس إبعاده تكفل المحتل بذلك، إعتقالاً أو مَنعاً من الوصول… أرأيت كيف يُسحّجون ويهتفون؟ بمجرد أن يُخرج الرئيس…يُسحجون!!!

قاطعني وسأل مُستغرباً مُستهجناً ساخراً:

ـ ماذا قلت؟ كلما يُخرج الرئيس؟!!!

ـ نعم، كلما يُخرج بضع كلمات من فمه، يزداد التصفيق والتسحيج… وغلّابة!!!

قلت قبل أن يأخذ يقود من جديد دفة الحوار، فقال:

ـ شكراً أنك أوضحت ماذا أخرج الرئيس من فمه، لأنني كدت أفهمك بشكل خاطئ، لكنني أظن أنهم ما زالوا يحملون البندقية، لكنهم غيروا أهدافها فقط، غيروا إتجاهها، صارت، كبنادق الآخرين من مشيخات وممالك ورئاسات، تُطلق للخلف، تغير نوعها من “بندقية عز وفخر” الى بندقية ّذل وإذلال وهوان”، ألم تتساءل يوماً كيف لبندقية سلمها لك المحتل أن يكون إتجاه رصاصاتها؟!!! و”غلّابة” التي يقصدون صحيحة، لكن غلاّبة على مَنْ؟  هذا هو السؤال؟

ثم تابع حديثه، وما زال ينظر إلى الأشجار وكأنه يراها للمرة الأولى، أو لا يراها أبداً:

ـ ألم تر “ديمقراطيته” عندما ابتدأ مؤتمره بتثبيت نفسه رئيساً؟ رئيساً دون سؤال أو محاسبة أو تقييم لما أوصلنا إليه، دون حتى مجرد نقد، رئيس دون برنامج عمل أو حتى خطوط عريضة، فقط بأن المفاوضات خيار استراتيجي، يعني أبقانا عُراة أمامهم أكثر مما كنا، أتتخيل أن يكون مثل هذا الرجل عاملاً مشتركاً للجميع؟ يعني هو “وجه البُكسة” كما يُقال، أتتخيل كيف يفخر بكونه هو مَنْ وقع “أوسلو”؟وكأنه جاء لنا بتحرير الأرض؟ أتستطيع أن تتخيل إلى أي حضيض وإنحطاط وصلنا؟ وتراه يقف بكل صلافة و”عنجهية” متحدياً أن يكون تنازل عن الثوابت الفلسطينية!!! فتقسيم المحتل من لما أُحتِل منذ العام سبع وستين ين غزة وضفة، ودوره وحصته بذلك، من الثوابت الفلسطينية، وتقزيم الوطن إلى 18% والحبل على الجرّار من الثوابت الفلسطينية، كما ورفضه شخصياً حق العودة، ووثيقة عبد ربه ـ بيلين التي تمت بإشرافه من الثوابت الفلسطينية، والمفاوضات العبثية المفتوحة على احتمالات التفريط والتنازل عن كل شيء من الثوابت الوطنية، وتجهيز جيش الحراسة الفلسطيني، على مدار الساعة، لدولة بني صهيون من الثوابت الفلسطينية، والوقوف على أبواب الحرب الأهلية الفلسطينية من الثوابت الفلسطينية، وتقسيم مدن الضفة وقراها ومخيماتها إلى “غيتوات” هو من لب الثوابت الفلسطينية، وتراخيه وهوانه أمام بناء المستوطنات من الثوابت الفلسطينية، وربط إقتصادنا الوطني بإقتصاد الإحتلال من الثوابت الفلسطينية، فتح السجون والتنسيق الأمني مع الإحتلال لقتل واعتقال ما تبقى من رجال هو من الثوابت الفلسطينية… والنجاح الأبرز في مؤتمر السيد الرئيس، أنه عمل لعزل أي قائد رفضه المحتل وأبقى له من أراد، من باب “المجاملة” وليس الخضوع كما يتوهم الكثيرون …

داعب غصن شجرة براحة يده، كأنه يمررها على رأس طفل ليُهدئ بعض آلامه، وأكمل دون أن يلتفت إليّ:

ـ  ديمقراطية الرجل تشمل كل ما سبق، كما تشمل كل ما فعله من أجل “إنهاء” ظاهرة الإفساد والمفسدين داخل سلطته وقيادته!! كما “التخلص” من كل العملاء الذين أورثهم لنا الإحتلال، و”الإصلاح” اليومي والمتتالي داخل أجهزة منظمة التحرير ومؤسساتها،  و”الإلتزام” الصارم بمقررات المجلس المركزي الفلسطيني بحذافيرها، الأمر الذي أكد جماعية القيادة وعدم فرديتها والتزامها بالهم الوطني الجمعي، وليس بالمصالح الفردية الأنانية، كما ولم يترك شهيداً إلا وزار أهله وواساهم، ولا أسيراً إلا وعمل على تحريره، ولم يترك مؤسسة دولية إلا وطرق بابها ليحاكم جزاري الإحتلال، ولم يشارك بجنازات قادة الإحتلال ولم يرسل من يواسيهم، ولم يقمع تظاهرة ولم يعتدي على صاحب رأي أو فكرة، ولم يورث مالاً لأبنائه وأحفاده سوى ما زاد من معاشه الشهري، ولم يُحول السلطة ومرابحها إلى مؤسسة خاصة له ثم له ثم له ثم لحاشيته، وبالتالي لم يكن الشعب هو الخاسر الأبرز والوحيد في هذه السلطة، وطبق على نفسه أولاً ثم على الحاشية الكريمة ثانياً قانون “من أين لك هذا؟”، الأمر الذي جعل “قضاة” “المحكمة الدستورية” رعاهم الله، يكلفونه بكل ثقة بأن يُقيل أي عضو في المجلس التشريعي إن خالف أمره أو إحتج على سياساته!!! يعني لا يهم أن الشعب الذي إختار ذلك العضو، فسلطة الرئيس فوق الشعب وسلطته، وهل يصح أن يكون للشعب سلطة بوجود الرئيس؟!!!وبالتالي من حق الشعب أن ينتخب مَنْ يريد، لكن من حق الرئيس أن يُقيل من يريد أيضاً، أرأيت الديمقراطية التي يتمتع بها؟ أسمعته، ولو مرة واحدة، يقول أن الشعب لا يحق له الإنتخاب أو التظاهر أو لا يحق له حرية التعبير لا سمح الله ولا قدّر؟ بالطبع لا، لكن الشعب يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الرئيس، فمن حق الرئيس أيضاً أن يعتقل المتظاهر وأن يسجن المناضل أو حتى يقتله، ومن حقه قمع الأصوات “الشواذ”التي لا تروقه….

قطعت عليه حبل أفكاره المتسلسل، وقفت في وسط الطريق، أمسكته من ذراعه، قلت:

ـ كفى أرجوك، كفى هداك الله، أتعتقدني بليد إلى درجة أستطيع أن أسمع كل ذلك وأبقى صامتاً؟!!! كفى يارجل، فوالله ورغم معرفتي بكل ما تقول وأكثر، إلا أنني لا أستطيع أن أسمع المزيد… لقدجعل منا هو وأمثاله قطيعاً من الأغنام، ويعاملنا بنفس طريقة القطيع، ألم ترهم كيف يتصرفون، كلما أكل القطيع شيئاً من التبن والعلف كلما تساقط في الحوض غيرها من الفتات، وهؤلاء، كلما ارتفع حجم التسحيج وتعالت أصوات الهتاف الباصمة، كلما فتح لهم الرئيس المعلف لتنزل حبات الشعير، ألم ترهم شاخصي العيون فاغري الأفواه مشرئبي الأعناق، تُبح حناجرهم تُسحج أكفهم منتظرين أن تُعلق مخالي الشعير في رقابهم؟ وكلما ارتفع الهتاف وعلا التسحيج كلما اقتربت من أعناقهم المخالي أكثر؟والطامة الكبرى أنهم ما زالوا يتغنون بالوطنية والشموخ الوطني، وهم لا يخرجون عن أهداف المحتل قيد أنملة… …كفى يا أبا أحمد الصادق…كل مرة أقسم أن لا آتي معك من هذا الطريق، وأن لا أرافقك، كيلا تذكرني بمخازينا وعهر قادتنا، لكنني سرعان ما أنقض وعدي لنفسي وأفعل العكس، وكأن تسلق هذه الطرق الوعرة تَسْهُل بمرافقتك، وكأن حفيف أوراق أشجار الزيتون تدق في رأسي مثل قرع الأجراس، فتجدني أتبعك مثل حمل صغير يتبع أمه، كفى يارجل،  لنكف عن الكلام ولنذهب لأخذ العزاء بالشهيد، فيبدو أن ما في هذا الوطن من شهداء، ما به من أنين جرحى، ونهر الأسرى الذي مازال يتدفق كنبع الماء الطاهر من أعلى الجبل، هي الشيء الوحيد الصادق الذي ظل يحمي هذا الوطن…

محمد النجار

النصفين

لطالما كنت أعرف ان مجموع النصفين يساوي واحد صحيح، لكن حالتي وحالة النصف الآخر خطأت هذه النظرية وقلبت الأمر بأكمله رأساً على عقب، بل مزقتها ورمتها في وسط الرياح، لتحملها بدورها بعيداً وتنثرها في فضاء السماء، لنبقى كلانا مجرد نصفين غير مكتملين، مهما تجمعنا ونحن على حالنا هذا، فإننا لن نستطيع أن نساوي واحد صحيح، رغم مرور كل هذا الزمان.

يؤكد البعض أنه، رغم أنفي ورغم نفيي، لم يكن يوماً سوى نصفي الآخر، وسيظل كذلك أبد الدهر، وأنني وإن كنت أكبره بالكثير من السنوات، وأكرهه كما يكرهني، كل هذا الكره، فهذا لن يغير من الأمر شيئاً.

أعني عندما كنت في عز شبابي، مزهواً بنفسي، فخوراً بقدرة عضلاتي، لم يكن هو قد ولد بعد، حيث كنت حينها لا أتجول إلّا وبندقيتي فوق كتفي، قدماي تدق صدر الأرض، ورأسي يجول متباهياً فخوراً في مساحات السماء، مُتحزماً بحزام العز والشرف والكرامة كما كنت أظن، اُجابه الوحوش وحدي، وأعيش على ملح الأرض وثمار أشجارها، أدافع عن الجميع بكلتا يديّ، يمينها ويسارها، في الوقت الذي تركني فيه كل الأهل والأقارب وحيداً عارياً مطارداً، أعارك الحر والبرد والوحوش الكاسرة في ذات الوقت، قبل أن أعرف، أنهم كانوا جزءاً ممن يطاردونني سراً، في لاحق السنين.

منذ عقود طويلة، كانت قبائل العمائم الدينية مَنْ تبنى النصف الآخر، أبوه وأمه وأقاربه الحقيقيون، وهم أنفسهم مَنْ كانوا يقدمون له كل ما لذ وطاب، ليبقى كما هو، مسالماً متردداً، لابساً لباس الدين وعباءته الفضفاضة داعياً إليه، محرضاً الناس مبعدهم عن هموم الدنيا، مؤكداً أن للفقراء والمنبوذين والمضطهدين الجنة، وما عليهم سوى الصلاة والصوم والخضوع والسمع والطاعة والعبادة والدعاء، مذكراً بالآية القائلة “وما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون”، ولم يخلقهم لأي سبب آخر، في ذات الوقت الذي ظلّ والأقارب يتهمونني بالتطرف والمغامرة وجر الناس إلى التهلكة تارة، وبالمجون والجنون والكفر والإلحاد تارة أخرى، خاصة وأن جسدي يضم زوجاً من الأيدي، اليد اليسرى بجانب اليمنى، وليس اليد اليمنى فقط.

كان نصفي ذاك يسوق المبررات، ويقود خطب الجوامع للتحريض عليّ، مُحاولاً إبعاد الناس عني لأظل وحيداً ضعيفاً، أو لأتحول لمهزوم مشرد بائس مثله، مُتجاوباً لقوانين الخضوع الأبدي، حيث “العين لا تُجابه المخرز”، و”الإنحناء أمام العواصف” و”السمع والطاعة” لولي الأمر، كيلا أتميّز عنه، حيث كان يسمع ويرى كيف كان جسده يتهالك ويضعف وينهار، وجسدي يزداد قوة وجمالاً وإعجاباً من كل أولئك الفقراء، الذي يحرضهم في كل صلاة، وظل، رغم ذلك، يسوق الآيات والأحاديث لتبرير عجزه أو جبنه أو حتى هجومه غير المبرر عليّ، على ذراعيّ تحديداً، ويسارها بشكل خاص، متهمها بالزندقة والكفر والإلحاد، صارخاً بأعلى صوته، “كفاك جنوناً، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”، وكنت أسمع صراخه لكنني كنت أظل أسير إلى الأمام، ومن يسير للأمام لا يسمع الأصوات الناشزة، وإن سمعها لا يعيرها انتباهاً، فحركته تفرض عليه الإنتباه لقوانين الطبيعة، كي لا تنهشه الوحوش وصخور الجبال والأشواك، فللجبال قوانينها، وللسهول مفرداتها، ودون أن تتقن لغة الأرض لا تستطيع أن تكسب عطفها، ولا أن تُطوعها وتركب ظهرها، فالأرض فرس أصيلة جامحة شامخة، ترمي الخائف الراجف المتردد، ولا ترتضي غير الفرسان لتعتلي ظهور منصاتها، لتحملها إلى بر الأمان في أعالي رؤوس جبالها الشاهقة، خاصة إن كان جل همه المسير والتقدم وصعود الجبال .

نعم، في ذلك الوقت، كنت ما أزال في ريعان شبابي، كنت أرى الدنيا كلها محصورة في فوهة بندقيتي، وكنت رغم زحف السنون على كتفي أزداد شاباً، وكلما تزايدت سنوات عمري كلما نمت عضلات جسدي وكبرت وقويت، وصرت عصياً على الكسر أكثر، لا أعرف الآن السر في ذلك، لكن المؤكد أن بندقيتي تلك، حتى عندما كانت بندقية عجوزاً صدئة مهترئة، كانت تظل تحافظ على شباب جسدي، وتسقيه الشهامة والرجولة والعنفوان، وتشعرني أنني نجمة سابحة في مساحات السماء، ورغم مطارداتهم ، طوال الوقت، لي، الغرباء والأقارب، إلّا أنهم كانوا يخافونني ويرتعبون من سماع صوتي، الذي تشابه مع صهيل الخيول الجامحة، لمجرد أنهم يعرفون أن البندقية كانت ما تزال في قبضة يديّ، وحينها لم أكن أعرف أسرار البنادق، ولم يخطر ببالي لحظة واحدة أن البنادق نوعان، بندقية الفخر والعز وبندقية الذل والهوان، كوني لم أحمل بيدي يوماً بندقية الذل الهوان، ولأن شيئاً كان يهمس في أذني منبهاً لنوعية بنادق الأقارب التي لا تعرف سوى الإطلاق للوراء، مقارناً بين الإثنتين، لكنني كنت لا آبه كثيراً للأمر، وكأن الأمر لا يعنيني البتة.

لقد كنت شغوفاً بصعود الجبال، كنت لا أكاد أنظر إلى أي إتجاه آخر إلاّ من باب الحيطة والحذر، ألاحق الوحوش الكاسرة التي غزت جبالنا على حين غرة، لمّا كنا في غفلة من أمرنا، وحوش لا يعلم إلا الله كيف جاءت ولا حتى من أين، بألوان وأشكال ومخالب ونيوب متنوعة ومختلفة، كانت رغم إختلاف مشاربها مُجمعة على هدف واحد، على إقتلاعنا من جبالنا وأراضينا لتتسيد عليها، لتحتل كهوفنا ومُغُرُنا الغارقة في التاريخ وبطون الجبال، وتأكل خيراتنا وثمار أرضنا بعد أن تطردنا بعيداً في غياهب الصحراء، لتصير تسرح وتمرح وتصول وتجول أنّا شاءت وكيفما أرادت.

في كثير من الأزمان، كنت أسمع أصوات تأتي من الصحراء، ترشقني بالزيت وترميني بالمال، تسمعني أجمل الأشعار، تتغزل بقوامي ورشاقتي وفروسيتي، وتغدق علي أجود أنواع الطعام، وكان الأمر يُشعرني بالنشوة، ويخفف عني ثقل الوحدة التي طالما شعرت بها، ولم أكن أعلم أنها كانت تبعث لي، في الليل، عواصف الرمل وأسراب الجراد .

في البدء كانوا يضعون المال في طريقي، وكنت أراهم أو يُرونني أنفسهم، لم أعد أذكر بالضبط، وكنت آخذه لأستخدمه فيما خصني من ضروريات، وكنت حينها قليل المتطلبات، بضع حبات من الزيتون ورغيف من خبز الطابون، صحن زيت زيتون وزعتر، خاصة من ذاك الزعتر البري التي تظل جذوره متمسكة في بطن صخور الجبال، أو حتى إبريق شاي بالميرمية أو النعناع البلدي مع رغيف من ذات الخبز يجعلني مثل الحصان، وللحق، لم تخلُ وجبة لي آنذاك من زيت الزيتون، وكانت دائماً زجاجته تحت حزامي، وإن كنت أذكر جيداً، فهذا كان ملاصقاً لي كبندقيتي، حتى إن فقدت الخبز جرعت جرعة منه فتكفيني، فهذا كان من طبيعة الأشياء بالنسبة لي آنذاك، أهناك فارس لم يتجرع زيت الزيتون؟!!! أهناك بندقية صالحة لم ترتوي أعضاؤها بزيت الزيتون؟!!! حتى أنني كنت أمسح يداي وعضلات جسدي به إن توافرت كميته أكثر، وكنت قاسي الملامح والعضلات كأنني شَبَه البندقية، كأننا توأمان، أو كأنني جزء منها، تسهل حركتي بعده وتتضاعف سرعة حركة يداي، وكأن الأرض تصير أكثر ليونة وسلاسة وتعاطفاً ومحبة، عندما تشم فيّ رائحة البندقية وزيت الزيتون، حتى أشواك الصبار تصير أكثر ليونة ولا تعود عدائية…

نعم، كنت أقول أنهم كانوا يضعون المال في طريقي، ثم زادوا كمية المال حتى أخذ يتراكم بين يدي، فلم أعد قادراً على حمل المال والبندقية في ذات الوقت، فيداي لا تتسع لكليهما معاً، فصرت أسند بندقيتي بجانبي، أتركها تحت أشعة الشمس الحارقة، وأحياناً تحت المطر لأستطيع حمل المال ونقله وتخزينه، فأوراق المال لا تتحمل البرد والقيظ كالبندقية، وحمايتها تتطلب التضحية بالوقت والبندقية في بعض الأحيان، وعلى أثر ذلك صرت أفكر بهمومي الذاتية، وبعد سنوات عدة، ومع تزايد كمية المال بين يدي،  صرت أتجاهل الوحوش التي تمددت أكثر في مساحات الجبال وأفكر في نفسي أكثر، ثم صرت أفكر في العروس التي سأتزوج وفي أولادي وشيخوختي، فثقلتت البندقية على كتفي، وصرت أضعها جانباً وأحلم بالبيت والعروس وحديقة المنزل، وصرت أنسى أو أتناسى وأتكاسل عن رعايتها وسقايتها بزيت الزيتون، وكففت أنا نفسي عن أكل خبز الطابون المُغمس بزيت الزيتون، وكففت عن شرب الشاي الغارق بالميرمية، وصرت أفضل “النسكافية” على “العدنية”، والأجبان المستوردة على حبات الزيتون وزيته والزعتر، واستطعمت “الفيليب مورس” على “تتن” الحاكورة وسيجارة “الهيشي”، وصرت أفضل النوم بجانب المال لحراسته على تركه وإكمال المسير، أو على حمله وصعود الجبال، خاصة أن كَنْز المال لا يتناسب أبداً مع صعود الجبال.

سرعان ما صرت وبندقيتي ننام أكثر وأكثر، وصرت ألحظ أن البندقية التي ترافق المال تأخذ مواصفات أخرى وتبدأ بالتغير، وأول ما يغزوها مرض عمى البصيرة، فالبندقية بعينين كبيرتين ساهرتين على مر الزمن، وإن كانتا متخفيتين تصعب رؤيتهما، وهذا النوع من الأمراض لا يعمي عينيها بل يضعفهما رويداً رويداً ويخلط فيهما الألوان، فلا تعودا قادرتين على التمييز بين العدو والصديق، وعندئذٍ تنحرف بوصلتها إلى غير الإتجاه، قبل أن تصير تميل إلى الراحة والكسل، ويؤثر عليها وفيها عوامل الطقس ومؤثرات الراحة على طول الزمن، كأنها تتأقلم مع واقع جديد، فيلين حديدها، يتجوف، ومع الأيام تتقلص عضلاتها وتضمر، وتصير أشبه بعودٍ من تبن. وكما “الفرس من خيالها”، ف”البندقية من قائدها”، “من موجهها”، تماماً مثلنا نحن البشر، القارئ  والأميّ، كلما كانت تعرف طريقها، وعلى ظهرها من يقودها ومَنْ يوجهها، فارس يعانق رأسه وجه السماء، حينها تعرف كيف وأين ومتى تفرغ ما في صدرها من غضب، أما إن كانت عمياء البصر والبصيرة فيمكنها أن ترتد إلى صاحبها وتقتله. لذلك وبعد سنوات تقلصت عضلاتنا، وصار صعود الجبال مشقة أحياناً وترف حيناً آخر، وصارت بندقيتي تفضل النوم على اليقظة، تستمرئ الراحة، وكلما نامت بندقيتي أكثر كانوا يزيدون رمياتهم بالأموال لي، فصاروا يتفننون بقذفي بها، مرة كالسهام ومرات في صناديق مقفلة أو حتى أكياس مغلقة، ومع كل حزمة مال كان مرض العمى يزداد ويتعمق في عيني بندقيتي، وصارت غير قادرة على الفعل والتأثير، ثم أضحت عبئاً ثقيلاً على جسدي، فخبأتها وأخذت أجمع المال، لأنني في قرارة نفسي كنت مدركاً أن السر يكمن في البندقية، لكنني لم أكن أعلم أن حديد البندقية يمكن أن يصدأ ويتلف إذا لم تستخدمها، وعندما يأكلها الصدأ لا تعود ذات فائدة، وتصبح كالعصا التي أكلها السوس من الداخل، فجوّفها وأضعفها وجعلها غير ذي فائدة.

صار المال من حولي تلالاً، يكاد يحجب الهواء عني، وأشعر أحياناً أنه يكاد يخنقني ويقتلني، ولم أفكر لحظة أن كثرة المال في بعض الأحيان تقتل أصحابها، فأقوم راكضاً نحو زجاجة زيت الزيتون لأشم رحيق زيتها، وكنت أشعر أول الأمر أنها تجلب الهواء والحياة لي، لكنها كفت لاحقاً عن فعل ذلك، وكأنها تريد أن تقول لي أنها دون البندقية لا فائدة كبيرة ترجى منها، وأنها والبندقية متلازمتان، فقذفت بها بعيداً، فانسكب زيتها على التراب والصخور وسار كأنه جدول، حتى وصل البندقية المخبأة في بطن الأرض ونام في حضنها، وكأنهما ينتظران مَنْ يسقي البندقية ويمسح عنها صدأ الأيام. وصرت أنا أخرج رأسي بين وقت وآخر من بين فتحات المال، لأقتنص كمية من الهواء كلما شعرت بضيق نفس، واستعضت عن استنشاق زيت الزيتون بزجاجات عطور غربية، وصارت رائحة الزيت تصدع رأسي، فابتعدت عنه وعن البندقية وتمسكت بالمال وروائح العطور.

مع تزايد كميات المال تحولت أحلامي في بيت، لأحلام في قصور، وصرت أستخدم بدوري المال  للضغط على الآخرين ليسمعوا كلامي ويحذوا حذوي، وأشتري به أهل بيتي وبعض الجيران، وصرت أسمع المديح والغزل والأشعار فيّ وفي ذكائي وقوتي كما لم أسمعها من قبل أبداً، ولم أعد آنذاك وحيداً كما كنت سابقاً، أو هكذا تهيأ لي، ولم يعد صعود الجبال يستهويني، ولم أعد أجهد نفسي في التفكير في الوحوش كثيراً، رغم تمددها في المراعي كافة، واستيلائها على المُغُر والكهوف والسهول والجبال، بل وتمددها في السماء كله، وبدأت أدرك حينها تلك القوة الهائلة الغريبة الكامنة بين طيات المال وأوراقه، ولم أكن أشك لحظة واحدة بأنه يمكن أن يكون غدّاراً قاتلاً، ولا أن لمعته ليست إلا لمعة فسفورية سريعة خدّاعة، وأنه يمكن أن يقتل صاحبه، كما كان يظل يتراءى لي في بعض الليالي القاسية.

ظلت تلك الأصوات الصحراوية تتقرب مني وتطعمني وتسقيني، لأنها لم تكن تعرف أين خبأت بندقيتي، وربما لأنهم يهابونني ما دمت أملك ذلك النوع من البنادق، أو لأنها لم تتحول بعد لنوع بنادقهم، لذا بالغوا وزادوا في إطعامي خاصة في الليل، وأنا الذي كنت “أتعشى وأتمشى” عملاً بوصية الأجداد، صرت أتعشى وأزيد السهر سهراً، وأنام حتى ساعات الظهر، فازدادت الشحوم حول جسدي، وثقلت حركتي، فأخذ يهجرني شبابي، وصرت مثل كافة العوام، كلما أكبر أكثر كلما أشيخ أكثر.

صارت هجمات الوحوش تتزايد دون أن أتمكن من صدّها كما كنت في الخوالي من الأيام، حيث ركبني الخمول من تراكم الأموال، وتضخمت وتكرشت، وصرت أتجنب مواجهة الوحوش، ثم صرت أهابها، وانتهى بي الأمر على عدم مواجهتها، وصرت أفرض ما أريد على من هم تحت عباءتي بالمال وليس بالمنطق وحسن القول والإقناع، ولمّا يخالفني أعضاء جسدي أحرمهم من المال والطعام، وأحرض عليهم أبناء الصحراء، الذين تجرؤوا لمّا رأوني أقف في صفهم، على كلتا يديّ، خاصة يدي اليسار، وكأنهم يريدون خنقها أو إنتزاعها من جسدي، تحت سمعي وبصري، ولم أفكر حينها بأنها جزء مني، وأن إقتلاعها سيضعف جسدي، وربما كان إثر ذلك نزيفاً قتلني، وعلى أثر ذلك، تكرّر نهش الوحوش لها بدعم من أعراب الصحراء، تفردوا بها وهاجموها بقسوة، شتتوا جسدها وعضلاتها بين السجن والقتل والمطاردة، لأنها ظلت تعاديهم وتعادي كل أموال الصحراء، ففترت قوة بعض عضلاتها، وتجاوبت بعض أصابعها لمرض حب المال المُعدي، فغزى المرض بعض أصابعها، ورغم معرفتها بالداء والدواء، إلاّ أنها لم تعالج المرض من بدايته، وربما لم تستطع ذلك، ولم تقدم العلاج اللازم لتنقذ عضلاتها، فصارت تتقلص وتتمزق وتتقزم حتى أضحت قليلة التأثير والحيلة والحركة، رغم محاولات الكثير من أصابع يدها، إعادة الحياة لعضلاتها.

تكدس المال من حولي وبين يدي، وصرت أحارب بقوة المال وليس بقوة السلاح، وتحولت حربي التي كانت ضد الوحوش إلى حرب مع أجزاء جسدي، من بقايا عضلات وأطراف متورمة متمزقة ضعيفة، واكتشفت لاحقاً أنني أحارب نفسي، أحارب جسدي ويديّ، وصار رأسي مسكوناً بما يعيدونه علي صباح مساء، بأن أقابل “الضيوف” وأستمع إليهم، وأن “الوحوش” التي تتراءى داخل رأسي ما هي إلا هواجس وكوابيس داخل رأسي فقط، وأن “الوحوش” ليست سوى أناس متحضرة، وليسوا سوى “ضيوفاً” قدموا لبلادنا، وما علينا سوى استضافتهم وإكرامهم وحسن معاملتهم، وذكّروني بحاتم الطائي، كرمه ودماثته وحسن أخلاقه، وما علي سوى التشبه به، وصدقتهم لأنني أردت تصديقهم، وكنت أستمتع وهم ملتفون حولي ويصرخون بي في وقت واحد، بيت شعر جرير قائلين:

ألستم خير من ركب المطايا             وأندى العالمين بطون راحِ

وللحظة خلت نفسي مروان بن عبد الملك الذي قيلت فيه القصيدة، لكن متابعتهم للحديث أعادتني إلى حيث كنت، وكان حديثهم يتتابع جملاً متلاحقة في أذني:

ـ “إن “الضيوف” الذين أسميتهم وحوشاً، وما بهم من الصفات الشرسة، ما هي إلّا من عند الله، حباها بها لتدافع عن نفسها أمام الطبيعة القاسية والضواري القاتلة، وأن عليك أن تفهم مرة وإلى الأبد “أن لا إعتراض على الله، لا في خلقه ولا في أمره ولا في إرادته”، “لأن لله في خلقه شؤون”، وأن عليك الإيمان بذلك دون تردد أو تفكير ولا حتى سؤال، وما عليك سوى الإهتمام بعقلك وجسدك وتطويعهما وضبطهما، فالعقل أو الجسد المتمرد، مثل الطفل العاق، “بيجيب لأهله الشتيمة والمسبة”، ويجب إعادة تربيته، بالسّوت على وجه التحديد، لأن “العصا لمن عصا”، وإن خالفك عقلك إقمعه ليعود إلى جادة الصواب، وإن خالفك أحد أطرافك إبتره واقتلعه وارمي به للكلاب، لتأخذ بقية الأطراف عبرة ودروساً، وإن لم تفعل وتروضهما، ربما يأتيانك بما لا تُحمد عقباه، حيث يرميان بك إلى التهلكة، وتعود ” يارب كما خلقتني” دون مال ودون أقارب”…

ونزولاً عند رغبة أقاربي، وكي أكون صادقاً، أمام مفعول مالهم الذي “هذّبني وشذّبني وعقّلني” وجعلني إنساناً آخراً، لدرجة أنني لم أعد أعرف نفسي، رأيتني أقابل “الضيوف”، أحاورهم وأساهرهم وأتحدث معهم، ووجدتهم نِعْمَ “الضيوف والجيران والأصدقاء”، ثم دعوتهم لمائدتي، وقبلت دعواتهم لمائدتهم، ليصير بيننا “عيش وملح”، وتعاهدنا عهد الله أن لا نخون بعضنا بعضاً، وأشهدنا الله والجيران والأقارب على ذلك، وأكدت أن الخائن منّا سيخونه الله ورسله وملائكته وكتبه، وتواعدنا وأكدنا “أن وعد الحر عليه دين” يجب الوفاء به، وتزاوجت بنسائهم دون عقود، لتعميق أواصر الصداقة وترسيخها، عملاً بالمأثور الشعبي القائل “كن نسيباً خيراً من أن تكون قريباً”.

تسارُع الأمور هذا بهذه الطريقة فجر ثورة في جسدي، فانتفضت يداي يمينها ويسارها، لكني أسْكَّتُ يميني “برش” المال والمزيد من المال، وفردت لها المشارب والمعالف، ونثرت لها البرسيم والشعير فوق رؤوسها ، وقمت بتعليق “المخالي” على الطرقات لمن يريد من عضلاتها وأصابعها أن يصير “خروفاً”، وكان عجبي كبيراً لما رأيت كيف علا التسحيج والهتاف، وغطت مأمأة “الخراف” على كافة الأصوات الأخرى التي عارضتني، وارتفعت البنادق لتدافع عني وعن طريقي الجديد، لكنها بنادق من نوع مختلف، وليست مثل بندقيتي القديمة تلك، كما أنني أجهضت “يساري “بتجفيف المال عنها، وبالمزيد من التجفيف، إلا عن بعض الأصابع المنتفخة، فأسكتهم الجوع، وأعمت التخمة الأصابع المتضخمة، وفرضت إرادتي وإرادة الأقارب و”الضيوف” على جسدي وأطرافي وعضلاتي، التي رويداً رويداً “ويا للعجب”صارت مترهلة راعشة، رغم كل المال الذي يغمرني.

قبل تلك المرحلة بالضبط وُلد النصف الآخر، بالضبط عندما كنت ما أزال شباباً، ومرور الزمن يزيدني عنفواناً وقوة، وبندقيتي تلك في قبضة يداي، وزجاجة زيت الزيتون في حزام رصاصاتي، أي قبل أن ألتقي “الضيوف” وأعقد معهم الصفقات من تحت الطاولة ومن فوقها، أعني قبل أن أتحول إلى رجل أعمال ناجح بلباس مُرقّط، بل في المرحلة التي كنت ما أزال أرى فيها “الضيوف” وحوشاً غريبة، وعدواً يجب كسر أنيابه وتحطيم مخالبه، لأجبره على العودة من المكان الذي جاء منه، في مرحلة “الخداع البصري” تلك، التي شوهت رؤيتي وقلبت الحقائق في رأسي، وأرتني الأمور على عكس حقائقها، في مرحلة مفاهيمي المشوهة التي لم أفرق فيها بين “الضيف” وبين الوحش، قبل أن يصير قراري من رأسي وأمتلك “قراري المُستقل” الذي أمتلكه الآن، وبشهادة الأقارب من أعراب الصحراء!!!.

في ذلك الوقت وُلِد ذلك النصف بعد معاناة ومشقة وآلام طويلة، وكدت أجزم مراراً أن ولادته كانت قيصرية بامتياز، وأنها تتم ليكون بديلاً عني، ومنذ ولادته، لم يكن ليوافق على شيء أقوله أو أفعله أو أقوم به، رغم أنني لم أكن قد وصلت لقراراتي الهامة تلك باعتار الوحوش “ضيوفاً”، وبدى لي أنه وُلد ليزاحمني ويصل قبلي الى المكان الذي وصلت إليه، ومددت له يدي الإثنتان، يمينها ويسارها، فرفضهما بإصرار غريب، ولم يشأ أن نتعاون يوماً في أي شيء، واختط طريقاً مختلفاً لنفسه، وظل يشوه صورتي في كل المناسبات، ويتهمني بالفساد والإفساد وشراء الذمم، ويزندقني ويكفرني ويكيل لي من الإتهامات أبغضها وأكثرها بؤساً، ويكرهني ويحقد عليّ وكأنني “قاتل لأبيه” كما يُقال، وبدى أن كل ما كان يريده إلى جانب ذلك هو منافستي ومقارعتي وتشويه صورتي المشرقة، وكي أكون منصفاً، فبعض ما قاله لم يجانب الصواب، لكن، ورغم ذلك، كان بالإمكان أن نسير سوياً، فالطريق يتسع لإثنينا معاً، وجبال الله واسعة وتتسع لنا جميعاً.

وسرعان ما أضاف هدفاً آخراً إلى جدول أعماله، وهو الإبداع في تحويل رجال الدين إلى تجار دين، واستخدمهم في تنفيذ أهدافه ومآربه، وابتدأ في إسترجاع مجتمعنا الذكوري وعودته إلى نفسه، بعد أن أُهينت كرامته وأُذل، وطأطأ رجاله رؤوسهم ومُسحت الأرض بكرامتهم، وذلك بعد أن تمادت المرأة فيه وعليه، وصارت تسرح وتمرح وتذهب وتجيء دون إذن أو رقيب، وصارت ” والعياذ بالله تتشبه بالرجال”، وتَزايد خروجها للعمل والتمشي والتسكع والتمايع والتدلل في وسط الطريق، وتُماشي الرجال من غير “المحرمين”، وتجالسهم مجالسهم في المقاهي والمطاعم والبيوت وفي أماكن العمل، فجعل من المرأة أعلى سلمة أهدافه، خاصة بعد أن أصبحت النساء تتظاهر وترمي الحجارة وتتنظم وتستشهد وتعتقل، وذراعي اليسار شاهد على ذلك، وأعلن أن إنكفاء النساء في بيوتها ضرورة، لنرجع لديننا الحنيف، و لتعود الطبيعة الى نفسها والأرض إلى مجراها، ومن هنا كانت البداية لسيادة ثقافة العمامات اللواتي تدعي إستملاك الدين وتدعوا لعبادة الفرج وتكفير الآخر، فصار أخوة الوطن “صليبيين”، وطوائفه كافرة ومذاهبه فاجرة، واستملكوا الجنة وسجلوها حصرياً باسم طائفتهم، فنصبهم النصف الآخر وسيطاً  “نزيهاً” بين البشر وبين الله، فصاروا يُصورون الله بأنه لا يقبل صلاة أو توبة أو عبادة أو تواصل دون المرور بهم أو من غير وساطتهم وحتى موافقتهم، فاستملكوا بذلك مفاتيح الجنة، التي صارت لا تفتح أبوابها لأحد دون موافقتهم أو صك غفران منهم.

وصار يحشو في العقول مواصفاته للمرأة الصالحة، وصار شيوخه ومُفتييه، في المساجد، يحددون كيفيتها، فقالوا أن وجه المرأة عورة ويداها عورة وعيناها عورة وصوتها عورة وكل ما فيها عورة، وعليها أن تُغطي عوراتها جميعاً عن الرجال وعن النساء في المجتمع برمته، فلا تُظهر منها شيئاً، وكل ما يظهر سيحرقه الله في نار جهنم! وطوّروا الأمر ليطالبونها بإخفاء عوراتها عن الأقارب من عم وخال، ثم عن أب وإبن، إلّا عن الزوج وحده، وكأن الشيطان من خلق جسد المرأة وليس الله، وكأن الله لو كان رائداً لعورنتها بهذه الطريقة وهذا الشكل ما كان قادراً على تغطية جسدها بطريقتة هو، أو أن ينزل نصوصاً صريحة واضحة بهذا الشأن، فحددوا لله كيفية المرأة التي يريدون، فصارت المرأة رجس ونجاسة، وتحولت إلى بئرٍ لا ينبض من الجنس، فأفتوا بالزواج من القاصرات، وبعضهن في سن الطفولة المبكرة، وحشروا الشرف بين فخذي المرأة، وجعلوا منها متعةً للرجل فقط، وأفتى البعض بأن الرجل يمكنه رمايتها كالنفايات إن كبرت أو مرضت لأنها لم تعد متعة له، وسرعان ما نقلوا المتعة للسماء أيضاً، فصارت الحوريات جزءً من متعة الرجل، فصار “أجرة” الشهيد سبعين حورية، ليمارس معهن الجنس في جنات الله، وكل ممارسة جنسية تمتد لسبعين سنة، ثم تستدعيه حورية ثانية لسبعين سنة أخرى وهكذا حتى ينهي السبعين ثم ينتقل بعدها لسبعين وصيفة للحوريات السبعين، فحولوا جنة الله إلى وكر بغاء، فألغوا بفتاويهم المرأة من المجتمع، وحوّلوها من إنسانٍ إلى مجرد شيْ. بعد تشييئهم للمرأة وضعوا للشهداء أجرة، وكأن الشهداء يتحركون بغرائزهم الجنسية وليس بشرفهم وعزة أنفسهم وإيمانهم بعدالة ما يدافعون عنه، فصوروا أن جُل ما يبغيه الشهيد مقابلة الحواري الحسان في الجنة، وكأنه يستشهد من أجل ذلك، وفقط من أجل ذلك، محاولين تغيير مفهومنا ومعرفتنا المتراكمة عن الشهداء، بأنهم في الأصل ذووا شهامة وكرامة وعزة  وإباء، كبارٌ لا يرضون الضيم ولا الذل ولا الهوان، ما دفعهم للثورة على كل  مَنْ يُمثّل الظلم وعلى كل مَنْ يطغى ويتجبر، حاملين رايات العدالة والحرية والمساواة، فكرّمهم الله بالشهادة ليزيدنهم عزة وكرامة ورفعة وإباء، وليرفع من منزلتهم في الجنة كما رفع من قدرهم في الأرض، رجالاً كانوا أو نساء، ومن أي طائفة كانوا أو ملّة أو دين.

ابتدأ النصف الآخر بتطبيق مشروعه، مبتدئاً بملاحقة النساء “الحاسرات السافرات”، متهمهن بالفسق والكفر والزندقة والمجون، وصار يدعو لتأديبهن بالأحاديث والفتاوى والبيض الفاسد، وبعصا الوالد والأخ وحتى الإبن، ليَتُبن ويتهذبن ويتأدبن ويَعُدن إلى ناصية الصواب، إلى طاعة الله وتنفيذ أوامره كما حددها ورسم خطوطها شيوخهم ومفتييهم، وبدأ يفرضها على أرض الواقع، فسرعان ما أخذ يفرض “الحجاب والنقاب” شيئاً فشيئاً، وجعل من كل محجبة أو منقبة قديسة ومن كل حاسرة عاهر، ولم يقل أن المتحجبة أو المتنقبة يسهل عليهما خلع حجابهما إن أرادتا ذلك، أو أن الحجاب والنقاب يمكنهما أن يحجبا الكثير من الموبيقات وأن يكونا ستراً لهن، الأمر الذي كاد أن يؤدي لحرب بيني وبينه، خاصة بعد أن تصدى له يساري ليوقفه عند حده، لكن حرص يساري على وحدتنا و”ستر الله” وحدهما أنقذانا من الحرب،  وهدّآ الأمور وأوقفاها، لكن ذلك النصف ظل كذلك وتمادى ولم يتوقف، وازداد ملاحقة للنساء بعد أن يبس عوده واشتد، حتى أعاد نصف المجتمع كله إلى حظيرة البيت، ورغم ذلك صرنا نسمع عن حالات التحرش الجنسي تتزايد وتتسع، بعد أن كان هذا الأمر نادر الوجود، وما زلنا وبعد كل هذه السنين، نستمع إلى سرحان خيالاتهم الجنسية في بيوت الله، وكأن القرآن خلا إلّا من سورة يوسف، وانتهت المواضيع والهموم إلّا من موضوع المرأة.

نعم، وكي أكون صادقاً، ما أن مرت بضع سنوات على ولادته، أعني وهو ما زال طفلاً، بدأ يهاجم الوحوش بدوره، كان يهاجمها بقسوة وقوة وعنفوان، بعد أن كانت يداي اليسرى واليمنى تتفردا بذلك، قبل أن أقمع معظم عضلات جسدي، وبعد فشلي في وقف بعض عضلات يساري اللواتي تفلتن وتمردن علي وعلى أصابعها المنتفخة نفسها، فما كان مني إلّا أن أطلب العون على أطرافي من “ضيوفي”، الذين سرعان ما لبّوا النداء، وأودعوهم السجن والملاحقة كي لا تتعكر صورتي، فليس جميع الناس تجلّت لهم الصورة واتضحت كما تجلت واتضحت لي، واستمر هو، ذلك النصف في هجوماته المتكررة على الوحوش متمرداً عليّ وعلى الأقارب مُتفلتاً من بين أصابع الجميع، وأخذ يزيد من هجوماته أكثر وأكثر، فصارت موجعة ومميزة وأكثر إيلاماً، وكنت ما زلت أحاول لملمة يمناي حولي وحول مشروع طريقي، مشروع “مصالحتي الشجاعة مع “الضيوف”، في ظل رفض قاطع لكل عضلات من يسراي، التي ظلت تهاجم الوحوش بجرأتها المعهودة، لكن ذلك النصف تفوق عليها وعلى الجميع.

كنت ما أزال في ذلك الوقت أتحاور مع “الضيوف” على التفاصيل، بعد أن كنا قد اتفقنا على المشهد العام، وما أن وضعت يدي في أيديهم، حتى أخذ يعارضني من جديد ويواجه خطواتي، فتنصَّلَت مني يسراي، ونبذتني أمعائي، وصار ذلك النصف مع بقاياي يتصدون للوحوش في الليل والنهار وكل الأوقات لإفشال خطواتي مع “ضيوفي”، فصرت أضعُف ويزداد قوة، وصارت تتقلص عضلات جسدي، فاستخدمت المال “عكاكيزاً” تساعدني في تجاوز ما بدأت من طريق، واستخدمت الكثيرين من القراء والكتاب أحذية للدخول في المستنقع بعد أن أغرقتهم أعلافاً وتبناً وشعيراً، وفجأة ودون سابق إنذار، صارت علائم الشيخوخة تتمدد فوق وجهي، حيث غزته التجاعيد دفعة واحدة، وضعف بصري وتشوهت رؤياي، وصرت أرى الأشياء مكبرة كما في أحلامي، لكن الطبيب أكد لي أن علاجي الوحيد هو بالتعكز على تلك البندقية دون المال، لكن تعودي على المال منعني من العودة للبندقية، ثم احتلت أذناي حساسية غريبة، فصارت لا تسمع إلّا أصوات المديح وأصوات الصحراء المغموسة بالمال، الأمر الذي زاد الهوة مع أعضاء جسدي، وصرت أشيخ وأشيخ، وكانوا يزدادون شباباً وشموخاً، وساندتهم يدي اليسرى وبعض عضلات يميني، فظل يشمخ ويكبر ويكر ويفر، وأنا أهرم وأشيخ وأتقزم، الأمر الذي جعلني أزيد إلتصاقاً ب”الضيوف”، وأربط مصيري بمصيرهم، ومستقبلي بمستقلهم إلى غير رجعة، وأحارب معهم بعض أعضاء جسدي من إخوة الأمس ورفاقه، وصار السلاح الذي في يدي ليس إلّا بإتجاه واحد، نفس نوعية سلاح “الذل والهوان” كما يسميه البعض، وإتجاه رصاصاته هو صدور الرجال وليس الوحوش، نعم صدور من يحاول سلب ما تبقى من قوتي ومن مالي، ومن يطالبني بتغيير اتجاه بوصلتي وتحالفاتي الجديدة، وماداموا يصفون سلاحي بهذا الشكل، وصفت، بدوري، سلاحهم بالسلاح “العبثي”، واستمرت القطيعة بيننا إلى الآن.

صار أعراب الصحراء يمتدحون خطواتي، ويشجعون توجهاتي، وفي أحيان كثيرة يوجهونني خوفاً من أن أخطئ أو أتعثر أثناء حركتي، يدفعونني دفعاً للتقدم في طريقي الجديد، والأهم وكي لا أحن إلى ماضيّ الذي صار يبتعد نحو الشمس، تاركني وحدي مع ظلمات الليل وبرودته العفنة، وربما خوفاً من أن أشفق على أعضاء جسدي، خاصة يساري وبقايا يميني، اللذين كانا حتى وقت قريب جزءً لا يتجزأ من جسدي، قبل أن أقلعهما وأرميهما بعيداً متبرئاً منهما مرة وإلى الأبد، أغدقوا علي المال حتى لم يبق أمامي مجال لتردد أو لتراخي، وصاروا هم يداي وقدماي ورأسي وعقلي وأهلي وناسي، وبعد أن وقع “الفاس في الراس” كما يقول المأثور الشعبي، أخذوا يقلصون رش الأموال ويقلصون عدد المعالف ومخالي الشعير، وصاروا يأمرونني بعد أن كانوا يترجونني ويتمنون علي ويطلبون ودي، ولما أدركت أنهم كانوا سبباً من أسباب توريطي، وعماء بصيرتي، كان قد “دخل السبت…” كما يقول المأثور الشعي، وصرت لا أرى طريقاً غير هذا الطريق، ولا درباً غير هذا الدرب، وكلما تعودت على الراحة أكثر كرهت أكثر تسلق الصخور وصعود الجبال، فأخذت أستجمع قواي وأشحذ عقلي، لأجد المبررات المؤكدة على صحة خياري، وللإستمرار في ذات النهج ونفس الطريق….

وبعد كل هذه السنين اللواتي بقينا فيها نصفين مفترقين، صار ذلك النصف يفعل الأمر نفسه الذي أوصلني لما أنا فيه الآن، يسير رويداً رويداً في ذات الطريق، وكأنه لم يفهم بعد أن الذي يسير على رمال متحركة سيغرق بها لا محالة، وأن الذي يدخل المستنقع ستأكله الحشرات حتى قبل أن يغرق في المياه الآسن العفن، وأنا أراه كيف يتغنى بالبندقية ويتعلق بالمال، تماماً كما فعلت أنا عند دخولي النفق، بل وأكثر من ذلك، فبمجرد سماعه لنداء الصحراء، يترك العشب والكلأ والماء، وتشرئب أذناه للصوت الممزوج بالعلف والمال، ناسياً مثلي أن المال هو الطريق الأكيد نحو المصيدة، وأن التغني بالبندقية لا يعني أبداً حملها وصيانتها واستعمالها، وأن الثمن الذي سيدفعه مَنْ يتخلّى عن ماضيه، لن يكون أقل من ضرب مستقبله بيديه، يعني كمن يطعن نفسه بنفسه، أو كمن يُسلّم سلاحه ليقتله عدوه به.

وفكرت، إنْ كان ذلك النصف يسير بذات الإتجاه المجرب الذي سرت فيه، لماذا ما يزال يرفض وضع يده في يدي؟! فها هو يستجيب لنداء الصحراء، يجمع المال ويشرب بول البعير، ويحشر شرف الرجال في فروج النساء، ثم ذهب بعيداً بعيدا، فزرع القنابل في بيوت بعض الأهل الذين إحتضنوه وآوه من الحر والبرد والوحوش الضارية، حين رفضته أعراب الصحراء وتبرأت منه ذكور النوق، زرعها باسم الله وباسم الدين في أمعائنا وأمعاء أهلنا، فقتل أهلنا ودمر “يرموكنا”، ليرضى عنه أعراب الصحراء ويزيدون له مخالي العلف، فتفجرت أمعاء الجميع ، وضاع “جمع شملنا” الذي كنا نحافظ عليه ونكدسه للحظات عودة قادمة، ولم يكتف بذلك، فسرعان ما بايع سلطاناً عثمانباً من غير دمنا ولا جلدتنا، ويُشكل جزءاً، بل اليد الطولى، لكل أنواع الوحوش التي تعادينا معاً وتشكل الداعم الأكبر لكافة وحوش المنطقة، وحَكَمَنا أهله مئات السنين، قتّلونا وجهلّونا وسلبوا خيرات بلادنا، استخدموا دماء رجالنا وقوداً لغزو الآخرين، دمّروا حضارتنا وأبادوا ثقافتنا وقتّلوا الأقليات وهجروها ، ودمروا مدننا ومدنهم، ولم يبنوا لنا مدرسة أو مصنعاً أو جامعة، وسلبونا أطفالنا ليصيروا جيشهم المقبل، وسبوا نساءنا وانتهكوا حرماتنا، وبعد كل ذلك سلّمونا بأيديهم لوحوش وضواري جاءت من البعيد، وما زال سلطانهم الجديد يضع يده بأيدي هذه الوحوش، على حد وصفهم، يتغزل بها ويشرب الأنخاب معها، يتاجر معها ويزودها ب”زيت”نا المنهوب، ويدمر بلادنا ومدننا، دون أن  يعترض النصف الآخر أو يحتج أو يعاتب أو يجف له جفن، على إفتراسهم المتتالي لأعضاء أجساد أطفالنا ونسائنا، ولا على دمنا المسكوب الذي ما زال ينزف، بل ويطلب من الله أن يجعله أحد “حريم” السلطان، وهو ذاته، نفس سلطانه العثماني، ما زال يحاول سلب سهولنا وجبالنا وبحرنا وسمائنا بعد أن ضم أجداده “إسكندروننا”، مُدخلاً إليها عشرات الآلاف من المرتزقة من الحثالات البشرية من غير دمنا باسم الدين والديمقراطية، الديمقراطية التي يعتبرها في بلاده “بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”، لذلك إعتقل المعارضة وأغلق الأفواه وأغلق المنابر الصحفية وإعتقل الجنود والضباط ورمج العمال ولم يُبق أحداً يعتب على “ديمقراطيته”، متعاوناً مع مَنْ ما زال يسميهم النصف الآخر نفسه، الوحوش، ولمصلحتهم، دون شجب أو إعتراض، من النصف الآخر، أو حتى عتاب، رامياً، ذلك النصف، صخرة في البئر الذي شرب منه، مُديراً، ظهره بذلك، للذي أطعمه وأسقاه ودربه وسلحه، مغازلاً بذلك ملوك الرمال، مُحتسين سوياً، بول البعير والإبل كافة، حتى الثمالة .

مازال ذلك النصف مثلي، تماماً كما كنت، يعتبر المال الذي تغدقه عليه الصحراء مالاً نظيفاً خالياً من الأثمان، ورغم تحذيرات الكثيرين له، أنه ليس إلا مجبولاً بالدم والذل والعار، إلّا أنه مازال يُصرّ، مثلي، مُعتقداً أنه بذلك يُغيِّر من الحقائق، مازال يظن أنه إن فقأ عينيه ستتغير الحقيقة، ويعتبر هذا التذاكي لا يعرفه أحد غيره، متناسياً أنني كنت أتذاكى بنفس طريقته وربما أفضل، وأنني كنت أملك من وسائل القوة أكثر منه، لكنني وصلت إلى المكان الذي أراده لي أعراب الصحراء، وأنه إن ظل كذلك، سيصل إلى ذات المكان وسيجدني بانتظاره…

ما أردت قوله، مادام ذاك النصف، لا يريد أن يضع يمينه في يميني، ولا يريد أن يمحو الصورة القاتمة في رأسه، التي تريه الحق باطلاً، ومادام يرى في “الضيوف” وحوشاً، ومادام لم يتنازل عن سلاحه “العبثي” ويصر على عدم تحويله إلى نوع سلاحي، وما دام يطالبني بإصلاح ذاتي وإعادة القوة لذراعيَ وعضلات جسدي، كي يُفك الوثاق الذي عقدته مع “ضيوفي”، كي أصير عرضة لسهام أعراب الصحراء، فأخسر ماضي وحاضري، وأغامر في أيام مستقبلي، فأصير كمن لم يحصل على “عنب الشام ولا بلح اليمن”، فإننا سنظل نصفين متباعدين، نسير في خطين متوازيين لا نلتقي أبداً، ولن نشكل يوماً، واحداً صحيحاً أبداً، لكنني في الوقت ذاته أُطمئنه وأنصحه، بأنني كنت مثله، تذاكيت وتكتكت وكذبت، وفتحت يداي لأعلاف الصحراء ومالها، ومن يفتح ذراعيه لأموال الصحراء سيصل حتماً إلى حيث وصلت لا محالة، طال الزمن أو قصر، وكما يُقال أن “أول الرقص حنجلة”، يبدأ بالسكوت عن قول الحق، ثم بالتغاضي وافتعال عدم المعرفة، وكلما زادت كمية المال والأعلاف سيؤيد الباطل وينصره على الحق، ثم سيعلن ولاءه للباطل ويبرره باسم الوطن تارة وباسم الدين تارة أخرى، ومرات باسمهما معاً، وسيبدأ بتنفيذ سياسات أصحاب المال، و سيركن سلاحه أول الأمر جانباً، ثم لن يستطيع أن يحمل السلاح والمال معاً، وسيختار المال ويترك السلاح، وسيحاول إقناع نفسه بأنه سيشتري سلاحاً أكثر جودة في مرحلة لاحقة، وإن حَمَلَه سيستخدمه في خدمة أصحاب المال والعلف، وهكذا يكون قد بدأ يغير اتجاه رصاصاته، فيتغير لاحقاً إتجاه البوصلة، ويتغير، حينئذٍ، نوع السلاح من سلاح “الفخر والعز” إلى سلاح “الذل والهوان” كما يحلو للبعض تسميته، وستجف عضلات يديه وجسده، وسيصبح يؤمر وينفذ، ولن يستطيع بعدها أن يقول كلمة “لا” “إلّا في تشهده    لولا التشهد كانت لاؤه نعم”، كما قال الشاعر الفرزدق يوماً، وستصير “هزة رأسه” بالإيجاب من علاماته الفارقة، وسيصل إلى حيث أنا… نعم إلى مكاني هذا بالذات، هنا حيث أقف الآن… وعندها، عندها فقط، سيدرك أنه قد نسي مثلي، أن الأعلاف، حتى لو كانت من أجود أنواع الشعير، فإنها تظل طعاماً للبهائم…

محمد النجار

إن لم تستحِ فافعل ما شئت

أكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أن روايته حقيقية، لا تشوبها شائبة، وأن المتشكك أو الملتبس عليه البحث في كتب التاريخ، القديم منه والحديث، متنوراً متبصراً ليعرف ويتأكد من ذلك بنفسه، وأكد أن من الصحيح القول أن النار تخلف رماداً إن لم تسقها بالمزيد من العمل والحطب والبنادق والأفكار، لذلك لا تستغربوا أن يكون الرماد أحياناً ميتاً خالٍ حتى من بعض الشرارات، حيث الأمل مفقود، والنار محاصرة معزولة محبوسة، لذلك فالإبن اللص لا يشبه أبيه الأمين بشيء حتى لو كان من نفس دمه، بل يكاد يُخرج أباه من قبره، محتجاً غاضباً صارخاً به، أن يتوقف عن النذالة والحقارة والعبث، لذا فشتّان بين الأب والإبن، في كثير من الأحيان كما شتان بين الثرى والثرية.

وأضاف الراوي أن الأمر ينطبق على معظم رموز سلطة بني كنعان، منذ نشأتها وحتى تتهاوى على رؤوسهم، من أعلى الهرم، رأسهم ورئيسهم، و”خليفتهم”حتى وإن لم يصم أو يصلي، ولا حتى يقوم الليل إلا لتفقد تكاثر المال في الحسابات والبنوك، مروراً بحاشيته التي باعت وطنيتها وضميرها واستعاضت عنهما النفاق والكذب والتبعية، التي تساعدها في تكديس المال ودفن الكرامة والمروءة والأخلاق.

وأضاف الراوي، معطياً مثالاً على ذلك:

أن هناك من الأسماء ما يتناقض مع أفعال صاحبه، فحين تقول “الطيب”، يمكن أن يعني الخبيث، وأن “الطيب” في “الطيب عبد الرحيم”، هو اسم وليس صفة، وخلافاً لأبيه، فمن أبرز صفات صاحبه، الكذب والنفاق واللعب على الحبال من أجل حفنة مال، ومثال ذلك أن الرجل كان من أكثر الناس إلتصاقاً برئيسه السابق ياسر عرفات، وكان يدافع عنه ب”الباع والذراع”، وخاصة أمام خصمه اللدود المدعوم أمريكياً، والمقبول من الصهاينة العرب كما الصهاينة الأصليين، السيد عباس، وتخال “الطيب” أحياناً قائداً وطنياً صلباً ، يرفض وصول عباس للسلطة على حساب عرفات، أو حتى أخذ جزء من صلاحياته، ويعتبره مؤامرة على الوطن والقضية، وخطوة على طريق تصفيتها، لكن ما أن توفى الله عرفات وجاء خليفة سلطة أوسلو الجديد، حتى صار “الطيب” من أهم أعمدة “الخليفة” الجديد، ويعلم الله أنه لو جاء أي رئيس آخر بما في ذلك “الدحلان” الذي يعاديه اليوم هذا “الطيب”، لانقلب على نفسه وصار من أقرب المقربين له، مقابل الإحتفاظ بمركزه المالي والإقتصادي، وقوته وتأثيره السياسي ، ويقول البعض أن الله وحده يعلم كيف تتم الإنقلابات داخل كيانات هؤلاء البشر، فيصبحون اليوم نقضاء الأمس، ويدافعون اليوم عمّا حاربوه بالأمس. لكن ومن باب نقل الأمانة كما هي يؤكد الراوي، أن الرجل كان رجل ثقة عند رئيسه الأول وولي نعمته الذي علمه وجعله سفيراً ووزره وأعطاه المناصب والمراكز العليا على طول الطريق، وما يؤكد الأمر تسلم الرجل مسؤولية رئاسة اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد ومحاربته، منذ أواسط التسعينات، وحقق الرجل ما تعجز عنه مؤسسات بأكملها وعدتها وعديدها، الأمر الذي “نظّف” البيت الكنعاني برمته من الفساد والفاسدين، ومن “عواهر” السياسة، ومن الطفيليات البشرية والمنافقين، ولم يبق به لا إنتهازيين، ولا متملقين، ولا طفيليين، لذا وصلنا لما وصلنا إليه الآن، بعد مرور عشرين عاماً كاملة على تشكيل تلك اللجنة، وهذا غيض من فيض من إنجازات الرجل، كي لا نتحدث عن إنجازاته في لجنة الحوار مع المعارضة الفلسطينية، أو في داخل الخارجية الفلسطينية وسفاراتها التي لن تجد فيها ولو سفارة واحدة ولا سفير واحد تنخر بهما مخابرات العالم وسفلته، ولن تجد منهم فاسداً واحداً، أو سفيراً غير مؤهل أو لصاً أو عابثاً أو سكيراً أو حتى تاجراً، تماماً كما أعضاء المجلس الوطني الذي هو أحد أعضاءه، والذي يرفع يده به أوتوماتيكياً ويهز برأسه كلما سمع صوت ولي نعمته، وكذلك لا يمكن نسيان دوره، في تعميق الديمقراطية في مؤسسات السلطة وداخل حركة فتح نفسها، وداخل مؤسسة الرئاسة في السلطة، والأهم حفاظه ومن معه من قيادة “رعاها الله” حفاظاً مستميتاً على القرار الوطني المستقل لبني كنعان، لدرجة أصبح كل من هب ودب، بما في ذلك الإمارات “بلا صغرة” تحاول فرض رئيساً علينا!!!…

ويضيف الراوي، أن ما ذكّره بهذا الأمر الآن وفي هذا الوقت بالذات، ما قاله وصرح به هذا الرجل من أكاذيب وقلب للحقائق، عندما صرّح باسم الرئاسة وبإسم الرئيس شخصياً، أنه يدين بشدة قصف أنصار الله والجيش اليمني لمكة المكرمة، رغم أن كل العالم أقر بأن القصف كان لمطار عسكري في جدة “غير المكرمة” وليس ل”مكة المكرمة”، وهو ومن حوله يعلمون ذلك، ثم و”ما دمتم تقولون أنكم حياديون، فلماذا لم تستنكروا ولو مرة واحدة وبنفس الطريقة والقياس، وحتى لو من باب رفع العتب، أو التساوي في الإدانات، المجازر ضد المدنيين التي يقوم بها آل سعود، لهذا الشعب الذي قدم للقضية الغالي والنفيس، وكان دوماً في مقدمة الشعوب الداعمة لها وبالدم؟ وإن كان لديكم حرج في موضوع اليمن، فلماذا لم تحتجوا على إعتقال “خالد العمير” الذي حكمت عليه محاكم آل سعود بثماني سنوات من السجن الفعلي لا لشيء إلّا لأنه استنكر حرب بني صهيون وقصفهم لقطاع غزة؟ ألا يستحق الرجل منكم ولو كلمة تضامن واحدة معه ؟وإن كنتم لا تهتمون بالبشر بل بالأماكن المقدسة، فلماذا لم تستنكرون ما قصفه آل سعود من مساجد داخل اليمن؟ ولماذا لم تستنكروا تدمير الكعبة من آل سعود على رأس الثائر جهيمان العتيبي وجماعته؟ أو لماذا لم تستنكروا يوماً تدمير المقابر والمساجد التاريخية، ولا حتى قبور الصحابة أنفسهم على يد الوهابيين في مملكة العهر والظلام؟ وما دمتم بهذا الوضوح وهذه الصلابة مع آل سعود، لمبدئيتكم طبعاً وليس خوفاً وطمعاً، فلماذا لا نرى منكم خطوة عملية واحدة على قتل الصهاينة لأبنائنا؟ أم لأنهم أبناؤنا وليسوا أبناءكم؟ فأبناؤكم يتسوحون ويتعلمون ويتاجرون في بلاد العم سام!!! ولماذا لم ترفعوا صوتكم مرة واحدة وتتقدمون حتى لو بشكوى ضد الإحتلال عل ما فعله بأقصانا وصخرتنا وكنائسنا ومقابرنا إلى محكمة الجنايات الدولية حتى لو من باب إغلاق أفواهنا؟”

ويضيف الراوي قائلاً، فعلاً “إن لم تستحِ فافعل ما شئت”، فإن المذكور ومن حوله من قيادة مهترئة متصدعة، لم يعودوا يستحون، لذلك سرعان ما رفضوا مبادرة السيد رمضان عبدالله شلح، لرأب الصدع في ساحة “بني كنعان”، وأن الأمر كان متوقعاً ولا توجد به مفاجآت، كونهم يأتمرون بأوامر “الفرنجة” و”بني صهيون” و”الأعراب الأشد كفراً ونفاقاً” من آل سعود وأشباههم، ولم يكن يوماً أمرهم من رأسهم أو بيدهم، كما أنهم لن يقبلوا أن يتخلوا عن السلطة أو أن يتقاسموها مع أي أحد آخر، فمن هو، من وجهةنظرهم، ذلك الأحمق الذي يترك من يده “بقرة” حلوب أو “دجاجة” تبيض ذهباً، ويتقاسم حليبها أو ذهبها مع الآخرين؟ وبجانب الخسارة الإقتصادية هذه، سيقل عدد المسحجين والأنتهازيين والطفيليات من حولهم، الأمر الذي يمكن أن يؤدي لفقدانهم القرار الوطني “المستقل” لبني كنعان جميعاً، وينعكس سلباً على قضيتهم كلها!!!

كما أن الموافقة على برنامج الرجل يعني، إعادة تثوير المنظمة، ورفع رايات بنادقها، وهم، وبعد أن تكرشوا وتعودوا رفاهية العيش وبذخه، لا يستطيعون ترك حياة الفنادق الفاخرة “v i p” والتعود على حياة الخنادق، ويعلم الله أنهم كم يودون فعل ذلك لو استطاعوا، لكنهم لا يستطيعون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لذلك فهم يفضلون البقاء كما هم، “كعاهرات الليل”، يقتاتون على فتات بني صهيون من عرب وغير عرب، على أن يغامروا مغامرات تفقدهم حتى هذا الفتات…

لذلك، يؤكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أنهم، وبمناسبة الذكرى التاسعة والتسعين لوعد بلفور، أناس واقعيون، غير مغامرين، مدركون أن لكل شيء في هذا الوجود ثمنه، وأنهم منذ اللحظة التي خُيِّروا فيها بين “السلة والذلة” إختاروا بكل صدق واقتناع، الذلة ثم الذلة ثم الذلة، كثمن لا طريق غيره لتحقيق الذات، وأن الناس ستعتاد على ما يبثونه بينهم من سموم في الصحافة والإعلام، وسيرتدعون من خلال الملاحقات البوليسية والقتل والسجون، تماماً كما اعتادوا على قرار 242 و على ال”لعم” الشهيرة، وعلى التنازل عن الميثاق الوطني، والتنازل في الأمم المتحدة عن أن “اسرائيل” دولة عنصرية، من كل “التكتيكات” التي قاموا بها، وأن “آل عباس” وسلطته وأبناؤه وحاشيته، تدرك أن التكتيك يجب أن يخدم الإستراتيجية، وأنهم يجزمون أن تكتيكاتهم تخدم الإستراتيجية، لكن إستراتيجية بني صهيون، والتي صارت استراتيجيتهم جزء لا يتجزأ منها، وتخدم مشاريعهم وأهدافهم المشتركة، كما أن هذه التكتيكات تدر عليهم الملايين، وبالنسبة إليهم، فإن الكرامة مهما علت وكبرت ووسعت واتسعت فإنها لا تستطيع أن تملأ جيباً واحداً بالدراهم، عِوضاً عن الملايين، حتى أن بعضهم يسخر قائلاً أن الكرامة لا تجلب إلا الفقر، بل هي والفقر متلازمتان…ومهما قيل، فإن الخنادق لا تجلب غير الكرامة، والكرامة وعزة النفس لا تستقيمان دون تضحية، وللتضحية أخطار وطريق طويل متعب خطر ممل، وفي أحسن أحواله لا يجلب المال، لذلك سنوا القوانين “الديمقراطية”، وسمحوا للمواطنين بالتظاهر لتأييد الرئاسة، وبمشاهدة سيادته خطيباً مفوهاً على شاشات التلفاز، وبقراءة الصحف التي تخضع للرقابة، وحرّموا استخدام السكاكين في المطابخ والشوارع والأسواق، ولما استخدم بنو كنعان أسنانهم في تقشير البرتقال لأكله، اقتلعوا أنيابهم حفاظاً على الأمن العام، وسمحوا للشعب بأسره، ولكل من أراد منه أن يتحول إلى “أنعام”، ومن رفض حاولوا إقناعه بالحسنى أو بالسوط ، أن “يضع رأسه بين الرؤوس ويقول يا قطاع الرؤوس”، وصاروا ينشرون السلام بدل الكره الذي كان سائداً في البلاد لصهيون وبنيه، وظلوا يقنعون الناس “أن يسامحوا بحقوقهم لأن “المسامح كريم”، وأن جزاءهم في الآخرة “خير وأبقى”، وقرروا أن يصمدوا بوجه بني صهيون حاملين الرايات البيضاء بكل عز وشموخ، وأن يظلوا يطالبون “بالمرحاض” الذي حشروهم به دون سيادة، بعد أن أخرجوهم من غرف البيت وساحاته الخضراء.           لذلك كان كلما ضربهم المحتل بحذائه على خدهم الأيمن أداروا له الأيسر، ولما ضربهم على الخدين معاً، وب”الشلاليط” أيضاً على أماكن أخرى، تتحسسوا أماكن الألم وتعايشوا معه في بادئ الأمر، ولما تكرر الأمر وتكاثر ترداده تعودوا عليه، ولم يعودوا يحسون به، واختفت آلامه لاحقاً، وابتدأت تداعياته، فأخذوا يثبتون حسن نواياهم، فقاموا وما يزالون بخطف “المخربين” وسجنهم وقتل بعضهم، واعتقال “المشاغبين”، وملاحقة الأقلام “الجارحة” لتكسيرها، وإغلاق الأفواه وكتم الأنفاس، من باب الإلتزام بالمواثيق الموقعة مع بني صهيون، وتابعوا باقتحام المخيمات والقرى والمدن التي ما تزال تفرخ المتظاهرين، لتخريب كل ما تم انجازه حتى اللحظة من أمن وسلام وتطبيع ومحبة، وصاروا يؤمنون بالله وآل سعود وبني صهيون، ويؤمنون بأن البقاء للأقوى كما أكد القائد نتنياهو، لغيرهم وليس لهم، وأما هم فقوتهم تكمن في شدة بطشهم للمشاغبين المارقين المغامرين من بني كنعان، وبشدة ضعفهم أمام بني صهيون، وأما نتنياهو وإن ضربهم بالنعال، فإن نعاله يملؤها “سلام الشجعان” وتُغلفها الأعلاف، وسكوتهم عما يفعله آل سعود وغيرهم، رغم معرفتهم “أن السكوت عن الحق شيطان أخرس”، لكنه أخرس غني وأفضل من متحدث فقير. وكما يضربهم نتنياهو بحذائه هم يضربون الشعب بالأحذية والرصاص، ليثبتوا له وللقاصي والداني جديتهم في محاربة رافضي الخضوع لهم والخنوع لأسيادهم من بني صهيون عرباً وعجم.     ويؤكد الراوي بأنه لا يستطيع فتح ملفاتهم مجتمعين، بل فرادى وبالتقسيط، لأن رائحة ملفاتهم وسيرتهم تزكم الأنوف وتعمي العيون، وأن كمية العفن والفساد والسقوط واللصوصية، يستحيل وجودها بهذا الكم في بقعة جغرافية صغيرة “كمرحاض” أرض كنعان حيث يقطنون، بعد أن تنازلوا عن المنزل وحديقة البيت، الأمر الذي ربما يؤدي لعكس ما يريده من وراء هذه الكلمات، لذا سيكتفي بهذا القدر فقط في هذا اليوم… والله من وراء القصد.

محمد النجار

الأستاذ خميس

عاد إلينا الأستاذ خميس بعد أيام على إعتقاله من أجهزة الأمن الفلسطينية، التي تعودت على “إستضافته” بين فترة وأخرى، “إستضافة” إجبارية غير مرحب بها من جانبه، ومن جانبهم ضرورية لتذكيره بعدم تجاوز حدوده، لكنه لم يتعلم بعد أن يكون “رقيباً ذاتياً” على كلماته ونفسه وتصرفاته كما فعل الكثيرون، كما أنهم لم يأتوا لبيته هذه المرة، بل حملوه من الشارع، من وسط المتظاهرين المحتجين على عزاء السلطة ورئيسها وزباينته في جنازة “المجرم” بيريس…

كنا نحن طلاب الصف الثاني عشر، نحبه لدماثته وحسن خلقه، حتى مَنْ عارضه في السياسة، أحبه مثل البقية، فهو يقول ما لديه بكل شفافية ووضوح، بغض النظر عمن يتواجد أمامه، بل إنه، وبالضبط، عندما يتواجد خصمه في الأفكار والمواقف، يقول ما يريد بوضوح ليس بعده وضوح.

ظل الأستاذ خميس يخاطب طلابه ب”أولادي”، رغم أنه لم يتجاوز الأربعين بكثير، ويتحدث كرجل في الستين، بهدوء وروية لا تخلو من الحِكَم، كما ظلت كلماته دوماً تنحض بالأمل في قالب من الفكاهة، وكنا عندما يبدأ بذلك نفهمه مباشرة، ونسايره عارفين أن الحصة هذه ستذهب أدراج الرياح، وأننا لن نتعلم شيئاً جديداً من قواعد اللغة أو نصوصها العربية، وستتحول “حصتنا” إلى عرض لوجهات نظر سياسية لا تخلو من مناكفات أحياناً.

قال الأستاذ خميس بمجرد أن دخل الفصل، ممسكاً ب”طبشورة” بين أصابعه، في نفس اللحظة التي كتب بها:

ـ أعرب الجملة التالية: أفتى “الهباش” كذباً…

ونحن الذين نعرف أن ليس المقصود الدرس بل الخبر نفسه، سأل أحدنا الأستاذ خميس:

ـ وبماذا أفتى الهباش يا أستاذ؟

فقال:

ـ لا أعرف بالضبط أأفتى الرجل أم أفسى، على رأي الشاعر أحمد فؤاد نجم، لكنه أفتى بتخوين معظم الشعب وفصائله وقياداته الرافضة لنهج أوسلو، وبتعبير أدق، لكل من خالف رئيسه بأي شيء، أفتى بتخوينه وبشره بجهنم وبئس المصير، والمصيبة أنه يصرخ ويؤشر بإصبعه مهدداً، ويستحمرنا ويستخف بعقولنا، وكأننا لا نعلم أن معاش آخر الشهر هو من يتكلم بلسانه… أرأيتم عبثاً أكثر من ذلك؟ بماذا يختلف هذا عن الدواعش وأخواتهم؟ أليسوا جميعاً يستغلون الدين ويشوهونه لخدمة مآربهم ومصالحهم؟                                                               لم يكن أي منا ليدافع عن “الهباش” أو عن فتاويه، فكلنا يعلم أن الرخيص رخيصاً مهما قال أو “زايد” أو انفعل، كما أكد صادقاً الأستاذ خميس، وقال عامر الذي كثيراً ما “لحّن” للأستاذ خميس ليستمر في “غنائه”، مكملاً ومساعداً كي تذهب حصة القواعد العربي للجحيم:

ـ يبدو أن غيابك يا استاذ قد حجب عنك آخر ما فعل…

فقال الأستاذ خميس:

ـ هات ما عندك يابني… أتحفني بجواهره… إضربني بأخباره لا سُد فوك…

وكانت ضحكاتنا مسموعة دون تعليق من الأستاذ خميس، وأكمل عامر:

ـ لقد التقى مجموعة من “الحاخامات” الصهاينة، ثم مع رئيس الكيان العبري… من أجل “السلام” كما تعلم يا أستاذ…                                                                                                                               فقال الأستاذ مُستهزئاً:

ـ آه… طبعاً كما أعرف… وكما تعرفون أنتم أيضاً، وكيف لي أن لا أعرف أن كل شيء من أجل “السلام”؟

وسكت قليلاً وكأنه يأخذ موقعاً خلف بندقية في معركة تدور بضراوة على الأرض:

ـ لكن الشيء الذي لا أعرفه، كيف يمكن أن يكون المرء بهذ النذالة؟ كيف يرتضي ذلك؟ إنني حتى لا أستطيع أن أتخيل ذلك، فحتى عدوك يحتقرك عندما تكون عميلاً، ألم يقرأ هؤلاء أو يسمعوا عن معاملة الكيان لعملاءه في فلسطين أو جنوب لبنان؟!!! ألا يكفيهم كيف يتعامل هؤلاء الأعداء مع رئيسهم نفسه، الذي يرقص عارياً أمامهم كالبهلوان في السيرك؟ كيف يكون شعورهم عندما يتحدثون مع الصهاينة والدماء تملأ الشوارع والأزقة؟ ورصاص “سلامهم” يفجر جماجم النساء؟ وهراواتهم تحطم عظام الأطفال؟ كيف يستطيعون التحدث عراة غير قادرين على إخفاء عوراتهم؟

وسكت هنيهة من جديد وتساءل الأستاذ خميس قائلاً:

ـ كيف يستطيع هؤلاء أن يقبلوا أن يساقون كالبهائم أمام المال؟!!! ألم يتعلموا بعد أن البدلات ورباطات العنق، مهما كانت ثمينة، لا تستطيع حجب نهر الذل المتدفق من وجوههم البائسة؟

كنا قد توقفنا عن الكلام تقريباً أمام سياط أسئلته، ولما توقف قال زميلنا سمير مخاطباً الفصل كله:

ـ ألا تتذكرون كلمات الرئيس عباس الشهيرة، وهو يقول، “لو خرجت مظاهرة من عشرة أشخاص ضدي سأستقيل، سأستقيل حتى قبل أن تخرج، لأن هذا يعني أن نهجي ضد نهج الشعب، وأنا لا أقبل أن أعمل ضد نهج شعبي”…

وهنا صفق الأستاذ خميس بيديه، صفق دون أن يبتسم، وقال:

ـ أظن أن الرئيس قد صدق، فهو قد حدد عدد المتظاهرين بعشرة، أما الذين خرجوا ضده في كل مرة فأكثر من عشرة، حتى في الإحتجاج الأخير، لذلك أوعز بقمعهم، كما أنه لم يستقل…

فقال سمير من جديد:

ـ يقولون يا أستاذ أن مظاهرة من “فتح” تصدت لمظاهرة المحتجين، وأن السلطة لا شأن لها بذلك…

فقال الأستاذ خميس، وكأنه خرج عن سياق الموضوع:

ـ أترى يابني عندما يحارب الجيش السوري الإرهابيين كيف تكون شراسة المعارك؟

ولم ينتظر جواباً وتابع:

ـ لكن عندما دخل “الأتراك” بذريعة محاربتهم لم تُطلق رصاصة واحدة، بل يؤكد الكثيرون أن “الدواعش” خلعوا لباس داعش وارتدوا ثياب “الجيش الحر”، وهكذا هؤلاء، يقومون بالأمر نفسه، خلعت شرطتهم لباس الشرطة ولبست ملابس “فتح”، وهذا لا يعني أن ليس بينهم “فتح”، فبالمال يمكن شراء الكثيرين من فتح ومن خارجها أيضاً، وبغض النظر عن لباسهم يابني، إن كان لباس شرطة أو لباس مدني، نعم، بغض النظر عن نوع لباسهم، هناك حقيقة واحدة ساطعة، أنهم عراة لبسوا أو لم يلبسوا، إنهم عراة مخصيين يستثيرون النقمة حيناً والشفقة أحيانا أخرى…

انقضوا على المتظاهرين المحتجين، كما جاءت الشرطة بملابس مدنية أيضاً، وضربوا وقمعوا وفتكوا، لقد كانت أدوات السلطة القمعية أكثر من عدد المتظاهرين، فهربن الصبايا وهرب الشباب، ورغم كوني غير مشارك في المظاهرة إلا أنني تبعت شرطتهم التي كانت بملابس مدنية، لما رأيتهم يتبعون الشباب والصبايا في الشوارع الفرعية، ربما بدافع الفضول، لأعرف الى أي درجة من الحضيض وصلوا، فالخيانة تبدأ بخطوة بسيطة أول الأمر، لكنها تضحي بئراً عميقاً ليس له قرار، فرأيتهم بأم عيني كبف يضربون الجميع، وأثارني التحرش بالفتيات، هؤلاء الفتيات اللواتي في معظمهن بنات شهداء وجرحى وأسرى، يتحرشون بهن ليذلونهن، تماماً كما فعل الأخوان مع الفتيات اللواتي تظاهروا ضدهم في أكثر من بلد عربي، واعتبرونهن خرجن كي يُتحرش بهن!!! ربما يعتقدون أنهم بذلك يثبتون رجولتهم المفقودة. تصوروا، رجال مدججين بالأسلحة والهراوات، يضربون مجموعة صبية وفتيات ويتحرشون بهن، تماماً مثل رجل مخصي يضرب زوجته ليثبت لها رجولته المفقودة، لكن الخلل ليس بهم وحدهم، الخلل الأكبر بمن وراء المظاهرة من قيادات أيضاً، لو كان هؤلاء رجالاً لما تجرأت على مؤيديهم السلطة وأدواتها، إنني أتذكر قبل سنوات خلت، كيف كانت قيادات السلطة نفسها، تقبل الأيادي معتذرة عن أي تجاوز مهما كان بسيطاً كي لا يُرد لهم الصاع صاعان، أما وقد غدت الكثير من هذه القيادات تتساوق مع السلطة”خوفاً أو طمعاً أو الإثنين معاً”، فسنرى أكثر بكثير مما نراه الآن…قلت لهم:

ـ هذه “إسرائيل” في دواخلكم، انفضوها خارجاً إن كان لديكم شيئاً من مروءة أو بقايا رجولة، كي لا أقول اطردوها عن أبواب غرف نومكم، من يراكم يحسبكم تضربون أعداء الوطن، وأن الكرامة والعزة تسيل مثل ينبوع من جنباتكم، وأنتم لا كرامة ولا مروءة ولا عزة ولا شهامة، تقمعوننا هنا، ولدى الأعداء تحاولون إظهار “حضارتكم”، من خلال حضور جنائز فاشييهم وفي لقاءاتكم معهم، لا تتعبوا أنفسكم، فإذلالكم تم ويتم على أياديهم، فهم يعرفون بؤسكم، وبدلاتكم هذه يمزقونها متى أرادوا، ويأخذونها منكم متى أرادوا… هل تجرؤون حضور جنازة أي شهيد؟ هل تستطيعون رفض أي أمر لهم؟ هلّا تمنعتم عن ضرب الأسرى والمحامين والمحررين والمناضلين؟

اعتقلوني مع آخرين، وأثناء التحقيق أرادوا إقناعي بأنهم سلطة وطنية، فقلت لهم:

ـ “أقنعوا أنفسكم أولاً ثم تعالوا لإقناع الغير”، فأي وطنية في سلطة تقمع شعبها وتأسر مناضليه وتتتآمر على تصفية مقاتليه؟ لو ما زال هناك قوى جذرية في ساحتنا الفلسطينية، لما تركتكم تفعلون ما تفعلون ضد الشعب وبإسمه في آن، ولكانت أدركت أن هذه المرحلة تتطلب العودة للعمل تحت الأرض، العودة للعمل السري وكأنها في عهد الإحتلال نفسه، بل أكثر من ذلك، فهذه القوى وهذا الشعب أمام إحتلالين، إحتلال الصهاينة ويده الضاربة الثانية، سلطة أوسلو

قال لي أحدهم:

ـ نحن طليعة حركة التحرر العربية…

قلت:

ـ معاذ الله، فعلى حركة التحرر الوطني “السلام” في مثل هذه الحال، أنتم لم تستطيعوا أن تدينوا مجزرة بحجم مجزرة الكرادة في العراق أو الصالة الكبرى في اليمن، كي لا تُغضبوا آل سعود، والعراق واليمن هما من أكبر “الخزّانات البشرية” لقضيتنا الوطنية، فهل من يخاف على حفنة مال يمكن أن يكون قائداً أو مؤتمناً لحركة تحرر وطني عربية؟ أنتم لم تعودوا جزءً من حركة التحرر الوطني لا العربية ولا الفلسطينية، منذ اليوم الذي وضعتم أيديكم بيد الصهاينة…

وأكملت:

ـ من يرمي البندقية الوطنية من يده ويستبدلها ببندقية من الإحتلال، لن يكون جزءً من حركة التحرر الوطني العربية أبداً

قال الضابط:

ـ أنتم لا تدركون المخاطر التي تمر بها قضيتنا، إنهم يتآمرون على الرئيس، يريدون المجيء ب”الدحلان” بديلاً عنه…

قلت له، ودق الجرس معلناً إنتهاء الزمن المحدد للحصة، لكن أي منا لم يغادر مقعده، وأكمل الأستاذ خميس لما رآنا في أماكننا:

ـ ألم تدركوا بعد أن القضية تختلف عن الرئيس؟ ثم أنهم هم أنفسهم الذين تآمروا مع الرئيس الحالي على سلفه، يتآمرون مع “الدحلان” عليه الآن…

وانتهى الحوار، فكلانا يتحدث بلغة مختلفة، لغة لا يفهمها الآخر، وأقول لكم الآن، فأنتم المستقبل في كل الأحوال: ـ المُخَطِط نفسه والسياسة نفسها والأدوات الرخيصة نفسها، حتى لو تغيرت الوجوه والأسماء، فالتابع، مهما علا شأنه وبدا لك علو هامته، يظل ذليلاً، ومن الذليل لا تُرجى عزة نفس أو كرامة…

قال زميلنا عزمي والذي لم يكن مقتنعاً بكل ما يقال عن الرئيس:

ـ يبدو لي أن هناك مبالغة في كل هذا الحديث عن الرئيس، مبالغة كبيرة، فالرئيس أكثر من يعرف معنى الحرية والديمقراطية وتأذى منهما…

فقال عامر:

ـ كما اليهود، بقولون أنهم أكثر مَنْ عانى من المجازر الهتلرية، انظر ماذا يفعلون بنا الآن؟

قال سمير وقدبدأنا نتهيأ للمغادرة، كون حصة القواعد العربية كانت آخر الحصص لهذا النهار:

ـ آخر أخبار الرئيس تقول، إن ديمقراطية الرئيس ووطنيته تطالبان بملاحقة الناشطين الفلسطينيين على “الفيس بوك”، والرئيس يستعين بالإسرائيليين من أجل ذلك…

ـ إنه رجل ديمقراطي فعلاً…

ابتسم البعض منا، وخرجنا والأستاذ خميس في وسطنا، وكنت أسمع من بعيد نتفاً من أحاديثه وهو يقول:

ـ نعم حددوا لي محكمة لتطاولي على المقامات العليا…

محمد النجار

آخر أيام الرئيس…

استلمت على بريدي الإلكتروني هذه الرسالة، لأخذ رأيي الأدبي والسياسي فيها، رغم أن الكاتب لم يُذيِّل رسالته سوى بحرفين بدلاً من الإسم، ويعطيني الحق بنشرها إذا رأيتها تناسب النشر… وجاء في هذه الرسالة: ” عزيزي السيد محمد النجار المحترم، أرسل إليك هذه المسرحية، لعلها تكون مناسبة للنشر، رغم معرفتي المسبقة أنك لم تكتب يوماً مسرحية، ولا أعلمك ناقداً أدبياً، وأن ما تكتب يزخر بالأخطاء الإملائية والقواعدية، لكني رأيت نفسي أرسلها لك، لا تسألني لماذا، لأنك لن تحظى بالإجابة الشافية، كوني أصلاً لا أعرفها، لذا لندخل إلى صلب الموضوع:

بصراحة لا أعرف إن كانت هذه مسرحية فعلاً، أو قصةقصيرة، أو حتى أحلام يقظة، أو هلوسات يائس، ربما عليك أن تحدد ذلك بعد قراءتها… من جانبي أعتبرها مسرحية والباقي لا يهم…

قبل البدء، يجدر الإشارة ألى أن هذه المسرحية هي عمل متخيل فقط، لا يوجد إلا في عقل كاتبه، وليس له أي علاقة بالواقع، لا من قريب ولا بعيد، حيث وكما أعتقد، لا يمكن أن يوجد لها هناك سنداً أو مُسوغاً حقيقيا، لا في الوقائع ولا الأماكن ولا الأحداث ولا الشخوص، حيث، بالعقل وبالمنطق، لا يمكن أن تجد أنذالاً وحقراءاً وأذلّاء، ولا فاقدين للرجولة والوطنية والحياء داخل أي شعب، ولا قيادة بهذا “الخصاء”، بالشكل الوارد أدناه في المسرحية، فما بالك على رأس شعب كشعب فلسطين أو داعميه من شعوب عربية، وعليه، فإن أي تشابه في الأسماء والأماكن أو الأحداث أو الشخوص، ما هو إلّا بمحض الصدفة، الصدفة فقط، وليس مقصود بأي حال من الأحوال، وبالتالي فإن الكاتب أو الناشر أو حتى القارئ، لا يتحملون أي مسؤولية قانونية أو أخلاقية أو مادية، لذا وجب التوضيح…

“مسرحية من فصل واحد

آخر أيام الرئيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــس

تُفتح الستارة، ليظهر حقل واسع ممتد، بؤر وكتل رملية متفرقة، متقاربة ومتباعدة، بها ما يشبه آبار البترول، قطعان من الإبل والخراف والماعز وجموع من الخيول، محاطة بطائرات حربية ودبابات وأسلحة ثقيلة، وفي وسط هذه الكتلة توجد منطقة تتركز فيها آلات الحرب، وفيها كتلتين بشريتين مفصولين عن بعضهما البعض، وقطعان من الخراف والماعز والخيول، وفوق كل كتلة منهما يتربع بضعة أشخاص، بعضهم بعمامات فوق الرؤوس وبعضهم ببدلات ورباطات عنق، يأكلون المناسف، وقد “شمروا أياديهم إلى ما فوق الكوع”، ويبدوا أنهم يفضلون اللحم على الأرز، ويأسفون على حبيبات الأرز المتساقطة فوق رؤوس العوام، وكان الناس المركوبين عاجزين عن الحركة على ما يبدو أو خائفين، كي لا يزعجون الراكبين، وفي أحيان كثيرة إذا تحرك شخص ما، يتم لكمه ممن يركبه، وأحياناً يتم وضعه دخل سجن بدون إضاءة ولا طعام ولا ماء، الهدف منه إضعاف الأيادي وإخراس الألسنة، يتم إطفاء الأضواء عن المسرح كله، إلا الجزء الأمامي منه، حيث ينتهي أولئك لابسوا البدلات ورباطات العنق من الأكل، لكنهم لا ينزلون عن أكتاف الناس، ولا عن ظهر القطيع، يتم تكبير المشهد أكثر وأكثر، فتصبح وجوه الأكَّالين واضحة وتختفي صور المركوبين، فيظهر تكتل من شخوص بأسماء مختلفة، لا نستطيع أن نكتب أسماءهم حسب الظهور على خشبة المسرح، لأن ظهورهم يكون دفعة واحدة، فتظهر الشخوص المتخيلة بالأسماء التالية:  الرئيس محمود عباس، كبير المفاوضين صائب عريقات، يحيى رباح، عزام الأحمد، الهباش، جبريل الرجوب، محمد الدحلان، الرئيس عبدالفتاح السيسي بجانب قدمه أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، يطل من شباك في بناية مجاورة،  والملك سلمان أمام قصر خلف الجميع، ونتنياهو وآخرون أقرب ما يكون من عباس ومن معه، في مراقبة للمشهد كله…

يقول الرئيس محمود عباس، بعد أن غسل يديه، وبدأ يمسحهما بمنشفة:

ـ الحمد لله… الفاتحة على روح المرحوم بيريس…

يقرأ المجتمعون الفاتحة، ويضيف عباس:

ـ لا تلقوا بقايا الطعام في سلة المهملات، حرام، أعطوه للكلاب، أغسلوا الأطباق وضعوه أمامها، كما لا تنسونهم من العظم… وزّع “السادة” يا عزام…

يقول صائب عريقات، حينما بدأ عزام بتوزيع القهوة السادة:

ـ حاضر يا سيادة الرئيس، هكذا نفعل دائماً بالفتات والعظام…

الرئيس:                                                                                                                               ـ هكذا تقول في كل مرة، لأكتشف أنك تعطيهم العظام بعد أن “تمصمصها” كاملة وتجردها من الدسم، إترك شيئاً لغيرك يا صائب…”الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته”

يقول صائب مفتعلاً الغضب، وكأنه ضحية أو مظلوم:

ـ حاضر سيدي الرئيس، لكن الأمور ليست كما وصلتك

الهباش متألماً:

ـ ما يقوله سيادة الرئيس صحيحاً، حتى أن بعض الكلاب لم تر العظام منذ شهور، لكنها صابرة من أجل عيون الرئيس… “اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، اللهم زد من حسناته وأقلل من سيئاته، اللهم اجمعنا معه في جناتك…”

يقول الرجوب موضحاً للرئيس ومعقباً على دعوات الهباش:

ـ ربما لولا خدمتنا لصاحب الجلالة الملك سليمان طال عمره، لأصبحنا نحن أيضاً مثل بقية الكلاب الضالة… ، وأنت يا هباش “قل بعد عمر طويل يا أخي… لا يجوز…”

يظهر الإمتعاض على الرئيس، ويأتي صوت الدحلان من مكان بعيد:

ـ نعم صحيح، والرئيس السيسي لم يُقصِّر أيضاً…

يرد يحيى رباح ليشعر الرئيس أنه الأقرب اليه حتى من صائب نفسه:

ـ لا تزيدوا هم الرئيس أكثر، فالرئيس لا يستطيع إطعام كل الكلاب، الضالة وغير الضالة، “يادوب يقوم بنا”، مهامه تتعدى مجرد رعاية بعض الكلاب…

يسكته الرئيس بحركة من يده ويسأل:

ـ ما هي آخر المستجدات يا صائب؟

صائب:

ـ كل شيء كما تريد ياسيادة الرئيس، لكن الأمر لا يخلو من منغصات هنا وهناك، فمثلاً لم يشعر أحد بإهانتك عندما رفض كيري وضع يده في يدك، لكن البعض إلتقط الصورة، وأنزلها على وسائل التواصل الإجتماعي…

الرئيس:

ـ أوقفوا وسائل التواصل الإجتماعي إذن…

عزام الأحمد “مُتأتئاً مُتفتفاً”:

ـ لا نستطيع سيدي الرئيس، لكن من الأفضل أن نقول لمعترضي “فتح” أنك ذهبت لجنازة المرحوم بيريس باسم السلطة وليس بإسم “فتح”، ونقول للبقية بأنك ذهبت باسم “فتح” وليس السلطة… كما كنا نُعمل سابقاً، ونحمل كل شيء على ظهر “المرحومة”منظمة التحرير … قبل أن ندفنها…هه هه هه

الرئيس مبتعداً بوجهه عن الأحمد، كي يبتعد عن بصاقه الخارج مع كلماته:

ـ كم مرة قلت لك أن لا تتحدث في وجي؟ أدر وجهك على الجانب الآخر ياأخي، ماذا بك؟ أمعتقد فعلاً أنك فيلسوف؟ تُعيد هذه الجملة في كل مرة وكأنك إكتشفت الماء، غير وبدل ياأخي، وابتعد بفمك عن وجهي، أنا أسأل لماذا لا نستطيع وقف وسائل التواصل الإجتماعي؟

يقطع الهباش غضب الرئيس ثم يقول:

ـ إنه يتحدث بإرتياح سيدي الرئيس، فكل مناقصات السلطة بين يديه، ماذا يهمه؟

يجيب جبريل مبتسماً على سؤال الرئيس، متخطياً كلمات الهباش:

ـ لأن الأمر بيد إسرائيل، ونحن كما تعلم سلطة بالإسم، يعني أشبه بروابط القرى، يعني كما تعلم سيدي الرئيس، أنك ورغم كونك رئيساً، إلّا أنك وكما يقول المأثور الشعبي “زي الدجاج ـ بلا مؤاخذة ـ لا تستطيع التحكم حتى ببيضاتك”…

الرئيس غاضباً:

ـ “الملافظ سعد يا جبريل، حسِّن ملافظك”..

صوت الدحلان من نفس المكان:

ـ إنه يقصد إهانتك يا سيادة الرئيس…

الرجوب:

ـ أنت تخرس ولا تتدخل بيني وبين الرئيس

الرئيس للمكان الذي أتى منه صوت الدحلان:

ـ كل الناس تحكي أما أنت فاسكت، كلنا نعرف تبعيتك لمن، فاسرائيل من وراءك وأمريكا من جانبك والسيسي وسلمان مغطيين كل حركاتك…

يتنحنح السيسي والملك سلمان كل من مكانهما، فيعتذر الرئيس قائلاً:

ـ والله “بكسر الهاء” أنني لم أقصد إغضابكما، فأنا كما تعلمان بدونكما “لا أساوي ملات أذني نخالة”، فأنا أعرف قدري طال عمركما، و”رحم الله إمرء عرف قدر نفسه”.

صوت الدحلان غاضباً، وكأنه صار بينهم، ويبدو غير راغب بتمرير شيء للرئيس:

ـ وما الفرق بيننا يا سيادة الرئيس؟  كما يقول المثل” لا تعايرني ولا أعايرك، الهم طايلني وطايلك”، فنحن الإثنان محاطان بأمريكا وإسرائيل وبقية من ذكرت، وأنت تقدمت بتصريح وانتظرت ليسمحوا لك بحضور جنازة المرحوم بيريس، لكنهم دعوني ورفضت كي لا أحرجك، كما أنني أكثر منك جرأة، ولدي إستعداد على التوقيع مباشرة على ما يريدون، أما أنت فتريد التأجيل قليلاً…

صوت الملك سلمان ومن خلفه السيسي:

ـ اتركوا الدحلان ويكفي تجاوزات، “الزلمة زلمتنا وزلمة حبايبنا”، واللي ما عملته أنت سيعمله هو”، اتركوه أم نوقف العلف؟

يقول الهباش هامساً في أذن الرئيس:

ـ المسامح كريم يا سيادة الرئيس، والصلح خير… وأنت تعرف محبتي لك وإخلاصي، فقد وضعتك في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شبهته بك، لكن كيف بربك هذه الفتوى، والله لم تخطر على بال إنس ولا جان، “لو كان النبي محمد موجود لذهب لجنازة بيريس”كيف ياسيادة الرئيس؟ ألا أستحق علاوة مالية على هذه الفتوى؟…

فقال صائب للهباش متخوفاً غيوراً:

ـ ولو كان الدحلان أو أيٍ كان لفعلت الأمر نفسه، فأنت دائماً مع الواقف، ولا تعتقدن أن تملقك يمر على الرئيس، ثم أنك بفتواك هذه مجدت بيريس وليس الرئيس.

فقال الهباش مدافعاً عن نفسه:

الله وحده يعلم ما في القلوب، و”نيال مظلوم وعند الله بريء”، الله يسامحك يا صائب، رغم أنك لم تكن يوماً “صائباً” في شيء

صائب غاضباً من كلمات المفتي:

ـ يسامحني أنا؟ أنا أقوم بكل أوامر الرئيس ومن هم خلف الرئيس أيضاً، أما أنت فتُحمِّل الرئيس “جميلة”على مجرد فتوى واحدة أخذت ثمنها منذ سنين!!! لو كنت مكانك لفتوت كل يوم فتوى لصالح الرئيس، أقلة ما “تهبش” من الرئيس ياهبّاش؟ يا رجل خاف ربك، فأنت تقبض بالدولار!!!

الهباش:

ـ من يسمعك يظنك تعمل متطوعاً!!! أنا لا آخذ أربعين ألف دولاراً في الشهر الواحد مثلك…

صائب:

ـ الله أكبر الله أكبر من عينك الحاسدة، عين الحسود فيها عود، من شر حاسد إذا حسد، وهل هذا المبلغ يكفي؟يعلم الله أنه لا يكفي حتى منتصف الشهر، إسألوا اولاد الرئيس، والله لولا ما أتقاضاه من “مصاريف البروتوكولات” وتجارة الأراضي من تبديل بين b و c مع “الأخوة اليهود”، لما استطعت أن آكل الخبز ، كما أنني أقبل بحكم أبناء الرئيس، إن كان يكفيهم أربعين ألفاً مصاريف شهرية، فإنني سأضع حذاءً في فمي وأخرس…

فهم الرئيس رسالة “صائب”، قال له هامساً:

ـ إخرس الآن ولا تفضحنا أكثر، سأردفك بعشرة آلاف أخرى من هذا الشهر، لكن اسكت الآن..

صائب عريقات مبسوطاً لكنه أكثر طمعاً:

ـ لا تكفي ياسيادة الرئيس، إجعلها عشرين…

يبدأ الرئيس بالغضب، وينظر لصائب الذي “إختصر” وكف عن الحديث بالأمر، يقول الرئيس:

ـ آه يا صائب، أخبرني عن ردات الفعل على مشاركتي جنازة المرحوم…

يجيب صائب:

ـ على الصعيد الدولي جيدة يا سيادة الرئيس، أما على الصعيد العربي فممتازة…

يقترب من أذن الرئيس ويقول:

ـ وصلتك مكافأة على ذلك “مخلاة علف” من تاج رؤوسنا ملوك وأمراء “آل سعود” و”سطل” عظم من مملكات ومشيخات أخرى…

ومن بعيد بانت نيوب الملك سلمان ضاحكاً، وقال الرئيس السيسي غاضباً لأبي الغيط:

ـ ألم نكن نحن أبدى بالعلف والعظم؟!!!

يقول الرئيس سائلاً:

ـ وكيف هي الأمور على الصعيد المحلي؟

صائب مجيباً مبتعداً عن الموضوع:

ـ لا جديد سيادة الرئيس… كما هي دائماً…

الرئيس:

ـ فسّر يا صائب، فصّل…

صائب شارحاً:

ـ قوى اليسار جميعها تشجذب وتستنكر…

الرئيس:

ـ أوقفوا مخصصاتهم المالية فوراً، وأدخلوا قياداتهم التي لا تريد السكوت السجن…

صائب مكملاً:

ـ حاضر سيدي الرئيس، وكل فصائل الإسلام السياسي أيضاً، بإختصار سيدي الرئيس، كل فصائل العمل الوطني تستنكر…

الرئيس مكابراً:

ـ لا يهمني شيئاً ما دامت “فتح” خلفي…

صائب:

ـ حتى فتح ليست كما في الماضي سيدي الرئيس، معظمهم صار لا يريدك… نحن فقط وبعض الآخرين الذين ما زلنا مؤمنين بك وبقيادتك، نحن فقط المخلصون، نحن ســ…

الرئيس مقاطعاً:

ـ أعلفوهم…

صائب:

ـ معظمهم لا يُعلفون سيدي الرئيس، كما أنه لا يوجد علف لكل هذه “الأمة”، فكما يقول المأثور الشعبي:”قالوا عند الغولة عرس، قالوا يدوب يكفيها ويكفي أولادها” ، يعني إذا علفناهم لن يتبقى علف لا لك ولا لنا سيدي الرئيس…

الرئيس متعثراً بصوته مستعملاً يده لتوضيح كلمته:

ـ إذن فالبنادق والهراوات… ما فائدة البنادق إن كنا لا نستعملها، خاصة بنادقنا المصممة خصيصاً للإطلاق للخلف؟

يتدخل الرجوب شارحاً مقاطعا :

ـ هذا هو الصحيح، كيف تكون رئيساً مهيوباً، إن كنت ستسمح للرعاع أن يعترضوا على قراراتك؟!!! أظن أنهم متحالفون مع جماعة “الماري كريسمس” سيدي الرئيس…

الرئيس لصائب، متجاوزاً كلمات الرجوب:

أكمل يا صائب…

يحيى رباح مقاطعاً:

ـ ألم أقل لك سيدي الرئيس “أن ثلثي الشعب الفلسطيني حثالات”؟

صائب مكملاً وغير معلقاً على تصريح يحيى رباح:

ـ هناك بعض الضباط الذين أعلنوا معارضتهم على الملأ سيدي الرئيس…

الرئيس:

ـ إفصلوهم من وظائفهم…

صائب:

ـ فعلنا سيدي الرئيس، وهناك قادة طلابيين أيضا…

الرئيس:

ـ استبدلوهم، فعلاً كلهم حثالات….

صائب:

ـ إستبدلناهم سيدي، لكن خرجت بعض المخيمات أيضاً….

الرئيس:

ـ أخرجوا “السحيجة” مقابلهم إلى الشوارع، ألم تعلموا بعد أن “السحيجة” نصف السلطة؟…

يهمس عزام الأحمد، متلعثماً ومتفتفتاً من بين كلماته مجدداً، للرئيس:

ـ هؤلاء يسحجون لمن “يعلف” أكثر، ومنذ فترة ليست بقصيرة، لم يُقدم لهم  سوى القليل من “العلف” سيدي الرئيس…

الرئيس مبتعداً بوجهه عن فم الأحمد، قائلاً:

ـ الله لا يشبعكم، أكلتم “أعلاف” السحيجة أيضاً؟!!! لا تُوفرون شيئاً، تأكلون الأخضر واليابس؟!!!

يبدأ كرسي الرئيس بالتحرك من تحته، وكأن الناس تريد إسقاطه من على أكتافهم، عندما تبدأ الأصوات تصل إلى أذنيه من الأسفل، حيث لا تُسلط عليهم الأضواء، ولا يعلم الرئيس من أين تتساقط الكلمات في أذنيه:

ـ جردوا جالب العار هذا من فلسطينيته، ضموه لجوقة الصف الطويل الذاهب بقدميه الى مزبلة التاريخ، لكل من فقدوا عروبتهم وصاروا جزءا من سيف الإحتلال…

ـ لقد باع وزمرته الوطن ودمروا القضية، وسلموا رقابنا للإحتلال، ربما لأنهم يعرفونه جيداً لم يقترب منه أحد رغم إغتيالهم لمعظم قادة المنظمة، رغم وجوده في نفس المنطقة في تونس…

قبر “السيد المسيح” يتحرك ويصرخ ألماً، اطردوا “يهوذا الأسخريوطي” الجديد، الذي يريد تسليم رأس “مسيحنا”، من جديد، لأعداء الإنسانية.

ـ أبعدوا هذا “الرجس” عن ظهر الشعب الصابر، أبعدوا هذه “النتانة” عن هذه الأرض الطاهرة.

ـ أبعدوا هذه “العاهرة” التي تريد الرقص طرباً، حاملة رأس يوحنا المعمدان…

يظهر الغضب الحاقد على وجه نتنياهو، والأصوات ما تزال تتعالى منطلقة نحو السماء، فيرى الجمهور نتنياهو، مرة بجانب السيسي الذي يشدد في إغلاق “معبراً” بين يديه، ومرة بجانب الملك سلمان الغاضب، وهو يلوح ب”مخلاة علف” في الهواء، وسط الأصوات القادمة في غير مكان من أوساط العتمة:

ـ هؤلاء لم يكونوا يوماً عرباً، من دمر وطناً ليس بعربي، ومن يحاصر شعباً ليس بعربي، ومن يتعاون مع محتله ضد شعبه ليس بعربي…أكنسوهم الى المزابل…

فقاعات ضوء كأنما نبع ماء ضعيف، يبدأ بالظهور من أوساط الناس المركوبة” منذ سنين، تبدأ الإحتجاجات، الهتافات في غير منطقة وشارع ومدينة ومخيم، في كثير من الأرياف التي أغتصبت أرضها وأشجارها من بيريس ومن تربوا على يديه، وعباس الذي بدأ يشعر أن كرسيه قد بدأ يهتز، وأنه ربما يسقط من على ظهور الناس لتحت أقدامهم، قال مستعيناً بالمرحوم بيريس:

ـ رحمك الله يا بيريس، لا يبقى غير وجه الله والعمل الصالح، ومن أكثر منك أصلاً عمل صالحاً وساعدنا؟!!!

ثم عاد للحديث معاتباً:

ـ ألم تقولوا أنكم “إستحمرتم” الشعب؟ ما هذه الأصوات التي أسمعها إذن؟

الهباش:

ـ هناك من ما زال يرفض “الإستحمار” سيدي الرئيس، لكن لا يهمنك شيء، سأجد لك فتوى جديدة “تُدجنهم” من جديد…

يصرخ الملك سلمان من بعيد:

ـ إهتزاز “كرسيك” يعني إهتزاز عروشنا أيضاً… القطيع يجب أن يظل قطيعاً، ألم أقل لك عليك بثقافة “بول البعير”؟

عليك الآن بالعصا، “العصا لمن عصا”…

الرئيس مقرراً:

ـ إقمعوا رجالهم واغتصبوا نساءهم ليعرفوا ان السلطة خط أحمر، وليعلم القاصي والداني أن الخروج عن “القطيع” يؤدي الى الذبح…

يهتز كرسي الملك سلمان قليلاً وكرسي السيسي أيضاً، وتستنفر قوى الأمن في بلادهما، يقول السيسي لأبي الغيط:

ـ  وهل وضعتك على رأس الجامعة العربية بغير فائدة؟إعمل “حاجة”

يستدعي أبو الغيط الجامعة العربية التي تتداعى بنفس اللحظة لدورة على مستوى القمة، لتنقذ القضية الفلسطينية من “مغامرات” شعبها غير المحسوبة، شعبها الذي يرفض “التدجين”، ويرفض أن يظل “قطيعاً”…

يستدعي عباس حليفه “جيش الدفاع الإسرائيلي”، من خلال لجان التنسيق الأمنية، ويأمر جيشه بتجهيز البنادق، نفس البنادق التي لا تُطلق إلاّ للخلف، فتلك الأصوات خطيرة وتهدد الأمن العام، وتجعل السلطة في مهب “ريح التطرف”.

ومن بعيد، يكون راكبي أكتاف البشر، من أصحاب “العمائم”، ولابسي اللباس الأفغاني هذه المرة، يلحسون أصابعهم من بقايا اللحم العالقة بها، ينظرون الى الرئيس ويضحكون، ويرسلون فروض الطاعة للملك سلمان وبعض جاراته من مشايخ وإمارات، ويتجاذبون أطراف الحديث، عن الطريقة الأمثل ليظل “القطيع قطيعا” في مناطقهم المحاصرة…

تمت

م .ن

”   عزيزي السيد م . ن المحترم:

قرأت ما أسميته أنت مسرحية من فصل واحد، والتي كما تقول أنت لا علاقة لها بالواقع، وأنها من نسج خيالك، وإليك تعليقي:

  • إن مقطوعتك هذه لا علاقه لها لا بالأدب ولا بالشعر ولا  بالزجل ولا بالنظم ولا بالنثر ولا بأي نوع من أنواع الفنون.

  • إنها كالخمر “ملعون كاتبها وناشرها وساردها”، وتودي بصاحبها وقارئها إلى طريق لا يعلم غير الله أين يمكن أن ترمي به، وأنا رجل، طوال حياتي، أمشي بجانب الحائط طالباً السترة من الله وجده.

*وأنا الذي لا أعرفك، وابتليتني بهذه الأمانه لأقرأها وأعلق عليها وأنشرها، حاصداً شرها دون خيرها، حيث لا توجد لها غنائم أو فوائد، لا أريد حتى أن أعرفك ولا أن أقرأك ولا أريدك أن تراسلني بعد الآن، وأنا بريء منك ومن كتاباتك إلى يوم الدين، و”حدّ الله” ما بيني وبينك.

  • وكوني لا أعرف كيف أعيد إليك رسالتك بعد أن أغلقت حسابك الإلكتروني، وعملاً برد الأمانة إلى أصحابها، أنشر لك رسالتك، كما هي دون تعليق ولا حتى إبداء رأي، والساتر هو الله…

محمد النجار

مبروك عليكم بيرس…

أن تتمنى شيئاً ليس عيباً ولا حراماً، أن تحلم أيضاً ليس كذلك، لكن اطلب المستطاع واحلم بالممكن، حتى إذا ما تحقق منه شيئا، تستطيع رسم البسمة على شفاهك.

وهنا أنا لا أتحدث عن الأحلام المشروعة والتمنيات المرتبطة في نفس الشخص وبداخله، بل عندما تكون لا علاقة لها بك البتة، بل مرتبطة مباشرة بالآخرين، مثل المسألة التي بين يدينا، وهي موضوع المشاركة في جنازة أحد أكثر قادة الكيان العبري فاشية وعنصرية، وعداء للعرب وللفلسطينيين على وجه التحديد.

فشمعون بيرس يُعتبر أب المشروع النووي الصهيوني برمته، وهذا المشروع ليس لعبة أطفال، بل سلاح تدميري شامل، الغرض منه تدمير المنطقة الفلسطينية والعربية بشيوخها وشبابها وأطفالها ونسائها، إذا ما استطاع ذلك، وليس رش المنطقة بالورود. وهو صاحب مجزرة قانا الأولى في لبنان التي راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى وجلهم من النساء والأطفال. وهو من المؤسسين الذين قاموا بالمجازر ليقتلعوا شعبنا من جذوره، من أراضيه وبيوته،كما أن كل الحكومات التي شارك بها، وكان جزءاً، في معظم الأوقات، من مجلس وزرائها المصغر، يعني صاحب الحق في اتخاذ قرارات الحرب، وغيرها طبعاً، يعني مشاركاً فعالاً في كل حروب دولته العنصرية ضد شعبنا وشعوب المنطقة بكل ما فيها من مجازر وتقتيل. وهو وحكومات “العمل” التي شنت حرب عام 67 ولاحقاً بالتعاون والمشاركة مع الليكود بحكومات مختلفة، الذين فرضوا السياسة الفاشية في أرضنا المحتلة كاملة، حيث صادروا الأراضي في المحتل من العام 48 ولاحقاً67، وبنوا المستوطنات وقتلو الشعب وسجنوا ما يزيد عن مليون مناضل منذ عام 67 فقط، وما زالوا مستمرين، واقتلعوا الاشجار خاصة الزيتون، ونفوا البشر وهجروهم، كما أنه من أعمدة بناء جدار الفصل العنصري، والحبل على الجرار، والأمر لم ينته بعد… ولن نستطيع في هذه العجالة أن نحيط بكل جرائمهم وجرائمه، وفوق ذلك كله دوره الأكثر أساسية في جر منظمة التحرير وقياداتها إلى مشروع التسوية الذي تُوّج بإتفاق أوسلو، المشروع الأخطر على القضية الوطنية برمتها، والذي في مرحلته فقط أصبحت القضية الوطنية تكاد تكون في مهب الريح، لولا المناضلين الذين ما زالوا متمسكين بسلاحهم “العبثي”.

هذا هو جزء من رجل “السلام”، صاحب نوبل للسلام!!! بيرس، وهذا ما يريد تسويقه لنا أنذال السلطة والأنظمة الصهيونية العربية، ف”المناضل” عباس وحاشيته من مناضلين “مجددين في مفهوم النضال”، انتظروا أن يعطف عليهم نتنياهو متكرماً متنازلاً مانحاً لهم “شرف” أن يشاركوا في جنازة الفاشي بيرس الذي دمر شعبهم وقتل أبناءه، وفعل نتنياهو “متنازلاً” وأعطاهم تصاريح بذلك، ولا يعلم إلا الله كم فرحوا بالموافقة على تصاريحهم ،شاكرين حكومة وشعب ودولة إسرائيل الديموقراطية

المثل الشعبي يقول “إذا لم تستح فافعل ما شئت”، وهؤلاء ليس فقط لا يستحون، بل قطعوا ما كان يربطهم بالحياء أصلاً، ووصلوا من الهوان والنذالة مالا يقبله عقل ولا منطق، إبتداء من الرئيس فاقد الشرعية ومنتهي “الصلاحية” إلى آخر من هم معه وعلى شاكلته، كل أولئك الذين يدوسون الدم الفلسطيني بأحذيتهم، مهما كانوا ومن كانوا ومهما علت مناصبهم، أن يخرج علينا المدعو يحيى رباح ليقول أن “ثلثي الشعب الفلسطيني حثالات” وأن يمدح بيرس متجاهلاً جرائمه كما لو كان من بقية أهله، فهو ليس إلا إنحطاطاً ما بعده إنحطاط، فليستحمر نفسه، وليقنعها بما أراد، وليحتفظ بقناعاته المبنية على مصلحته لنفسه، ولا ينطق بها لأحد، لأن الخيانة والإنحطاط ليستا وجهة نظر، والحثالة هو ومن معه وليس ثلثي الشعب الفلسطيني، الذي يحاول ومن معه كسر شوكة ثورته التي تدافع عن أمة عاجزة تركب ظهورها الرجعيات العربية منذ قرن كامل، ويكفي الصراخ الفارغ بأنكم مناضلين، حتى أننا صرنا نشك إن كنتم أصلاً مناضلين، وإن كنتم فلم تعودوا كذلك منذ عشرات السنين، منذ ارتضيتم أن يركبكم الإحتلال وتركبوه ظهورنا، وارتضيتم أن تكونوا جزءا من الإحتلال لقمع شعبنا، وصرتم تلاحقونه وتسجنونه وتقتلونه وتمنعونه من استمرار نضاله باسم الوطن والوطنية لمصلحة ممولينكم من إحتلال ومن معه.

قولوا لنا بربكم، كم مرة قمتم بتعزية شهيد فلسطيني أو حتى عربي؟ كما تفعلون مع موتى وقتلى الصهاينة؟ كم مرة تضامنتم مع جريح أو أسير؟ كم مرة أوقفتم قتل طفل أو حرق عائلة أو قطع شجرة زيتون؟ أخبرونا كم من قضية رفعتم لمحكمة الجنايات الدولية لمصلحة شعبكم وهذا أضعف الإيمان؟ وتستغربون كيف يبكي آل سعود وبرميل الأوساخ، وزير خارجية البحرين، على رجل الحرب والسلام بيرس، وغيرهم الكثيرون؟ طبعاً يبكون، لأنه ودولته قامت بحروبها من أجل “عيونهم” أيضاً، أخبرونا لماذا صارت تتجرأ علينا وعلى قضيتنا كل الحثالات البشرية المهزومة النتنة؟ أليست بسبب سياساتكم المستسلمة الفجة؟ أنتم السبب وأنتم العلة، أنتم من أوصلنا إلى ذلك، إذهبوا الى مزبلة التاريخ متى شئتم لوحدكم، لكن ليس بإسمنا، ونرفض أن تجروا شعبنا معكم، كفاكم استهتاراً بالشعب ومشاعره ومصالحه، كفاكم عبثاً، ومبروك عليكم بيرس وشمعون وبن غوريون ومائير وبيغن، إبكوا على مقابرهم قدر ما استطعتم، ألطموا خدودكم غضباً على فقدانهم، خذوا حتى موقفاً من الله لأنه حرمكم من متعة مجالستهم وشرب الأنخاب معهم، لكن اتركوا الشعب ولاتتحدثوا باسمه، من أنتم لتفعلوا ذلك؟ من أعطاكم هذه الشرعية؟ متى استفتيتم شعبكم بقضية؟ متى أخذتم رأيه بشيء؟ منذ متى لم تقوموا بأي إجراء إنتخابي ديمقراطي في مؤسسات المنظمة؟ من أنتم وبأي حق تشوهون نضال شعب كامل لقرن كامل ويزيد؟ من أعطاكم الحق بذلك؟ خزاكم الله من قيادة فاسدة مفسِدة مستسلمة، يغطيها الروث والعار وتعتقد أنها تستطيع أن تغطي عارها برزمة مال.

أعرف أنني وأمثالي ينفخون في قربة مخرومة، بل قربة ممزقة، لكن هذه الكلمات ليس موجهة لكم ، بل لمن ما زال يسمع من شعبنا ويرى، وهم كثر إن كنتم لا تعلمون، ففي هذا الزمن، زمن الخضوع والإنحطاط، زمن قراركم الفلسطيني المستقل أيها “الديمقراطيون المستقلون”!!! نعلم أن الضرب في الميت حرام، وأنتم أموات وفاحت رائحتكم، لكن جثثكم الهامدة النتنة تنتظر من يواريها التراب، إن كانت ستجد من يواريها التراب.

محمد النجار

لقد إخترع العرب الإسطرلاب…

كنا، نحن معشر الشيوخ، عندما نراه قادماً وقد بدأ يبتسم، ندرك أن لديه شيئاً يريد قوله لنا، لتأخذ سهرتنا الريفية طابعاً مختلفاً، طابع تفاؤل الأطفال وآمال الشباب، فالهم كبير واسع يملأ المكان كله، لذا كلما كان يصطاد أحدنا ضحكة يضحك من أعماقه، وتزداد الضحكات من عمق الآلام ورغماً عنها، ونتهيأ لنسمع “اسطوانة” أبي فهمي الدائمة الجاهزة لمثل هذه الحالات:

ـ على ماذا تضحكون؟ أتضحكون على خيبتكم؟!!! ألم تتعلموا بعد “أن الضحك بلا سبب قلة أدب”؟

وتستمر ضحكاتنا دون أن نعير كلماته إنتباهاً يُذكر، “قابرين” جملته بين صدى ضحكاتنا، متخلصين من واجب المجاملة ومن صدق كلماته في آن …

جاء، من بعيد، رافعاً ابتسامته مثل علم، وكلما اقترب منا اتسعت ابتسامته لتتحول إلى ضحكة دون أن يقول كلمة واحدة، وكنا نحن بدورنا نبدأ بالإبتسام، وكلما أعلنت ابتسامته أكثر، عن نفسها، كلما أحدثت ابنتساماتنا ضجيجاً عالياً مسموعاً، متساوقاً أو متآمراً مع مشروع ضحكته الفاجرة.

كان أصغر من جيلنا بعقد واحد أو يزيد قليلاً، لكنه دخل، لا يدري أحد كيف أو متى، تحت جلودنا، وصار واحداً منا في أول الأمر، ثم صرنا نفتقد غيابه لاحقاً، دون أن يؤثر على تجمعنا الليلي أمام دكان أبي صابر، وسرعان ما تحول وجوده إلى ضرورة، إلى لازمة، لا تستقيم جلساتنا دونها، أصبح حضوره كملح الطعام، لا تستقيم جلساتنا دونها، وصار بعضنا يغادر إن لم يره بيننا، وكنّا أحياناً نستعجل حضوره بإرسالنا أحد أولادنا لإستعجاله، قائلاً له:

ـ أبي يريدك في موضوع مهم ياعمي أبو خالد… بسرعة إن تكرمت…

كي لا نترك له مجالاً للتفلت أو التأخير، ثم صرنا نقول له، أننا نفعل ذلك لنخلصه من كلمات زوجته التي تنزل على رأسه مثل السّوت، فيضحك ويقول:

ـ “ضرب الحبيب كأكل الزبيب”… علي شكركم على حرصكم عليّ … ما شاء الله عليكم، “محمليني جميلتكم أيضاً!!!

قال من بعيد هذه المرة، على غير عادته، بعد أن لوّح بيده في السماء، وكأنه زعيم سياسي يلقي خطاباً:

ـ و”قد إخترع العرب الإسطرلاب”… أإخترعه العرب أم لم يخترعوه، ما هم عليه العرب الآن؟… إنهم لم يتعلموا بعد أن “أصل الفتى ما قد فعل”…

وأعاد ضاحكاً كعادته:

ـ قال “إخترعوا الإسطرلاب” قال!!!

قلت دون أن أُغلق فمي أمام ضحكتي المتدفقة من بين أسناني:

ـ نعم، “إنما الفتى من قال ها أنا ذا”، لكن ما الذي استحضر هذا الأمر على بالك اليوم؟ أفي كل يوم لك “نهفة” جديدة؟!!

فقال الشيخ سالم وهو يُمسّد لحيته وبلغته الفصحى كعادة الشيوخ:

ـ قاتلك الله يارجل، كيف تستحضر هذه الأمور؟

قال وقد توقفت ضحكته على باب فمه، وكأنه ثبتها بيده:

ـ والله يا شيخ عندما أنظر لهذا الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، أكاد أنفجر غيظاً، لكن كما تعلمون “ليس باليد حيلة”.

قال الحاج أبو عماد معلقاً كعادته، الأمر الذي جعل أترابه يلقبونه بأبي عماد السياسي، كونه يعلق على كل خبر سياسي يسمعه، وربما لأنه ما زال من جماعة سلطة “أوسلو”، ويستفيد من خيراتها كما يؤكد أبو فهمي بين وقت وآخر:

ـ فعلاً صار الأمر يُفقد المرء عقله، أنظروا آخر خبر، مفتي المملكة السعودية لا يكفر المسيحيين فقط، بل يُكفر الشيعة أيضاً…

فرد أبو صابر صاحب الدكان الذي نجلس أمامه قائلاً:

ـ وما الغريب في الأمر؟!!! هؤلاء يُكفرون كل من خالفهم، ليس فقط في الأمور الكبيرة، بل وفي أبسط الأمور أيضاً، إنهم يدعون لقتل الذي يسهى عن إقامة أحد الصلوات سهواً وليس عمداً…فماذا يمكن أن تنتظر منهم؟!!!

فرد أبو علي قائلاً:

ـ لكنهم يفعلون السبعة وذمتها أينما حلّوا، ألم يطرد المتظاهرون الفرنسيون الملك وابنه والحاشية كلها من فرنسا قبل شهور؟!!!

لكن أبو محمد الذي يشعر الجميع بتوتره عندما يسمع بمملكة آل سعود، والتي يسميها ب”مملكة الذل والعهر”، قال ماداً يده بإستغراب وغضب:

ـ اتركوا المفتي وشأنه، فهو مجرد ببغاء، يردد ما يطلبون منه، وانظروا ل”غلام” ملوكهم وأمرائهم، الغلام الجبير، قائلاً “أن الأسد كالمغناطيس يجلب الإرهابيين”!!! يعني آل سعود مساكين، إنهم مظلومون، لا دخل لهم في دعم أو تمويل، ولا دخل لأمريكا بتسليح، وقصف الطيران الصهيوني للجيش السوري وعلاجه جرحى الإرهابيين ليس إلّا أكاذيب!!! مادام غلام صار سيحدد مصائر الرؤساء فقد هزلت والله يا جماعة… أسمعتم ؟ هزلت…

عاد أبو عماد “السياسي” للإمساك بخيط الحوار قائلاً:

ـ ماذا تريدون أكثر من أن المنهاج المصري الذي يدرسونه للأطفال، صار يعتبر القدس عاصمة إسرائيل!!! حتى أمريكا ومعظم دول الغرب والعالم لا تعترف بذلك!!! أما العرب فالكرم من أخلاقهم، يتبرعون بما لنا للصهاينة…

فقال أبو خالد وقد بدأ يبتسم من جديد:

ـ لا والله يا “سياسي”، هذه عليك وليست لك، من الذي جعل الحكام العرب يتجرؤون على مثل ذلك؟ أليست قيادتك؟ يعني بصراحة “عاقل يتكلم ومجنون يستمع” كما يقول المثل الشعبي، القيادة تنازلت ، لا تؤاخذني، حتى عن “كلاسين” نسائها، وتلوم الأنظمة؟ لوم قيادتك أولاً…

وضحك أبو خالد بحزن، حين رد الحاج أبو عماد “السياسي” قائلاً:

ـ والله هذه السلطة مليئة بالمناضلين، لو دققتم قليلاً في الأمر لما قلتم عنهم ما قلتموه منذ لحظات…

قال أبو صابر متهكماً، أثناء ذهابه لزبون دخل دكانه:

ـ صدقت والله يا “سياسي”، فها هم حازوا على موافقة الصهاينة ليجمعوا منا فواتير الكهرباء، “إتفاقية تاريخية” كما قالوا، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟

سألت أنا كالأبله، دون أن أميز الإستهزاء بين الكلمات:

ـ وما التاريخي في جمع فواتير الكهرباء؟

فقال أبو فهمي مُتندراً هازاً برأسه هزة لا تعرف أمن الغيظ أم من الإستهزاء بالأمر، أم من القرف منها جميعاً:

ـ آه، صناديد رجال هذه السلطة، أجبروا الإحتلال على أن يجمعوا فواتير الكهرباء… سلطة ولا كل السلطات…قاتلكم الله، كيف لو أنكم حررتم شبراً من أرض؟ لما كانت الدنيا كلها تتسع لكم…

فقال أبو خالد موجهاً كلامه لأبي عماد رغم ضحكات الجميع التي غطت عليها ضحكة الشيخ سالم:

ـ أه…ـ مهما كانوا أبطالاً في الماضي، فهذا لا يبرر أفعالهم المشينة الآن، “ياما ناس” كانوا مناضلين وخانوا يا أبا عماد، انت رجل سياسي وتعرف أكثر من أمثالي…

فقال ابو علي مجدداً، مشعلاً سيجارة “هيشي”، نافخاً دخانها بعيداً عن أبي فهمي، متجنباً كلماته: “عميت ضوي يارجل، أنفخ دخان سيجارتك بعيدا عني”، معلقاً على جماعة السلطة وجماعة الإخوان المسلمين معاً:

ـ حتى الإنتخابات المحلية حرمتمونا منها أنتم وهم..

فقال أبو عماد السياسي:

ـ نحن لا دخل لنا في الأمر، إننا إلتزمنا أمر المحكمة فقط…

قال أبو فهمي معلقاً، محاولاً إبعاد وجهه عن دخان سيجارة أبي علي:

ـ ولماذا لم تلتزموا بقرارت المحكمة عندما أمرتكم مرات، بإطلاق سراح زعيم الجبهة الشعبية الذي سلمتموه ل”ليهود”؟!!!

فقال أبو عماد مبتعداً قليلا عن كلمات أبي فهمي، محاولاً تحييدها لتفقد أهميتها ومعناها:

ـ نحن لا مصلحة لنا في تأجيل الإنتخابات، سنفوز سنفوز، ولكن الآخرين هم من ليس لديهم مصلحة…

وأشار برأسه إلى الشيخ سالم متهكماً، حين رد الشيخ سالم بشيء من العنف:

ـ “فشرت”، هذه “نطة فاتتك”، نحن كنا مَنْ سيفوز لذلك ألغيتموها…

فقال أبوفهمي من جديد:

ـ تتحدثان وكأن الناس في جيوبكما، كأن الشعب قطيع من الغنم يتبع الحمار الذي يسير أمامه “لا تؤاخذونني”، من أكد  لكما هذه النتائج الخادعة؟!!!

قال أبو خالد من جديد، وكأنه يريد تقويم الأمور:

ـ حتى لو فزتما فهذا ليس نجاح لكما بالمعنى الحقيقي للفوز، أعطوني “تلفزيوناً” وعدة صحف وعدة ملايين كي لا أقول مئات الملايين كما لديكما، وأردفوني بجهاز قمع لأسجن وأعتقل كل صاحب رأي مخالف، وأوقف تمويلكما متى شئت، وأغلق صوتكما متى أردت، تماماً كما تفعلان مع خصومكما السياسيين، لأرينكم، وأنا مجرد فرد ولست فصيلاً، كيف يكون الفوز، كلاكما، لولا صناديق المال وأجهزة القمع ما كنتما لتحققا الشيء الكثير…لكن…

وسكت قليلاً، وكأنه يريد إعلام الجميع أنه لم ينتهِ من كلامه بعد، وتابع في سياق آخر، مقترباً بفمه من أذن الحاج أبي عماد، مثيراً فضولنا، رغم أنه سأل بصوت مسموع:

ـ مَنْ ستبعث “قيادتنا المناضلة” للتعزية ب”رجل السلام” الإسرائيلي شمعون بيرس هذه المرة؟

وأطلق ضحكة مجلجلة هذه المرة أيضاً، حين أجاب أبو علي:

ـ من سيكون غير “محمد المدني” رجل التواصل مع “المجتمع الإسرائيلي”….

فقال أبو علي في ذات السياق:

ـ طبعاً ، هذا من باب الرسميات، لأن الرئيس يذهب بنفسه إذا ما أعطوه تصريح زيارة، وسيتصل بنفسه ليقوم بالواجب، أما مشروع الرئيس المقبل “الدحلان”، ربما فتح بيت عزاء في مكان إقامته، أما المدني…

فقال أبو خالد من وسط ضحكاته مقاطعاً:

ـ ماذا سيفعل الرجل ياجماعة؟ رجل “اسمه على جسمه”، يعني الشكل والمضمون واحد، إنه “المدني”، لم يقل مرة أنه العسكري لا قدر الله…

اتسعت الضحكات وتعمقت وانتشرت في فضاء القرية وفوق أسطح منازلها، وبعضها تسلل من الشبابيك المفتوحة ومن شقوق الابواب، وكانت ضحكة الشيخ سالم الشامتة أعلى الضحكات، فقال أبو فهمي هازاً برأسه موجهاً كلامه للشيخ سالم:

ـ مبسوط أنت؟ وكأن أحداً “يحك لك على جَرَب”، وكأن جماعتك أفضل بكثير؟

تنحنح الشيخ سالم وعدّل من جلسته قليلاً، عدل من وضع عمامته، ولم يحاول أن يقول شيئاً، فالمتحدث هو أبو فهمي، أكبر الرجال سناً وقدراً، كما أن هذا العجوز العتيق حمل السلاح في أكثر من وقت ليدافع عن الثورة، ومعارفه ليست من بطون الكتب داخل السجن وحسب، بل من “معمعان” الحياة التي لم ترحمه على طول عمرها، وظل رغم ذلك لا يحيد عن الحق أبداً، يقول “للأعور أنه أعور أمام عينه الباقية” و”لا يخشى في الحق لومة لائم”، وقال أبوصابر مكملاً كلام أبي فهمي:

ـ ألم تر ما يتم عندهم في القطاع المحاصر؟ صار الناس أكثر بؤساً وأكثر فقراً رغم مئات الملايين التي تصلهم، صارت الملايين في جيوب القيادات فقط، يكررون خطيئة قيادات منظمة التحرير نفسها…

ووجه حديثه مباشرة للشيخ سالم مكملاً:

ـ إنتخبكم الناس في الماضي عقاباً لقادة المنظمة الفاسدة، لقد رأوا فيكم مشروع حلمهم في التحرير، وسينبذونكم ما دمتم لا تختلفون بشيء عنهم، وعلى خطاهم المفسدة تسيرون.

قال الحاج أبو عماد معقباً وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة:

ـ أصبحت الأنفاق المتصلة بمصر ، لتهريب المخدرات وحبوب الهلوسة، وما دام التاجر يدفع لحماس فهي تحميه بدلاً من إعتقاله، والمعبر الذي يغلقه نظام مصر، لم يعد للحالات الإنسانية من مرضى وطلاب وكبار سن، بل لمن يدفع أكثر، تدفع تخرج، لا تدفع تموت منتظراً دورك الذي لن يأتي أبداً… إنكم أفضل من يحول بؤس الناس وألامهم إلى تجارة رابحة…

كان الجميع يعرف أن كلام “السياسي” صحيح رغم مآربه، وفكر الشيخ سالم الذي سمع الكثير عن حالات الفساد والإفساد الممنهج لدى جماعته، أن كلام السياسي هذا “كلام حق يراد به باطل”، وكي لا تبدأ السهام تلقى في وجهه، فكر بالسكوت كوسيلة ناجحة في الدفاع عن النفس، ف”السكوت من ذهب” في مثل هذه الحالات، لكن الحديث أيضا ببعض آيات من الذكر الحكيم ستلجم كل هؤلاء المتقولين، قال:

ـ “بسم الله الرحمن الرحيم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. صدق الله العظيم.”

لم يعرف أحد سر قول هذه الآية، لكن الرد جاء على غير توقعه، جاء من صديقه أبو أحمد الذي لم يقل شيئاً، كعادته، حتى هذه اللحظة:

ـ ما دام “الله يهدي من يشاء” ما قصة موضوع زندقتكم للناس والفصائل، التي يطرحها بعض مُفتي حماس هناك في غزة؟ لماذا لا تتركوا الأمر لرب العزة وحده؟ لماذا تدخلون “على خطه”وتحاولون إغتصاب عمله وإرادته؟ اتركوا الخلق للخالق، فتقييم الناس وتوصيفها الديني ومحاكمتها ليس شأنكم ياشيخ…

قال أبو محمد الذي ظل بنفس التوتر الذي كان عليه عندما تحدث عن آل سعود، خاصة أنه يعلم أن فتح وحماس يمولهما آل سعود بسخاء، لهذا لا يخرجا أبداً عن أوامرها:

ـ “مَنْ علمني حرفاً صرت له عبداً”، إنهم تربوا على يد وهابيوا آل سعود، الذين يتهمون بالردة ويُكفرون ويزندقون من أرادوا وكلما أرادوا ووقتما شاؤوا…

فقال أبو عماد من جديد:

ـ إنه بعض سلوكهم في قمع معارضيهم بإسم الدين…

فقال أبو صابر:

ـ يُصورون للناس أن من ينتقدهم ينتقد الدين، ويصورون أنفسهم حماة الدين…

فقال أبو فهمي ضارباً بعكازه وجه الأرض القاسي:

ـ يعني مَنْ يعادي أفكارهم هو عدو الله، وعدو الله يجب قتله أو تصفيته أو سجنه، وذلك أضعف الإيمان…

ثم صرخ غاضباً:

ـ مَنْ نصّب هؤلاء للوصاية على الدين؟ من وضعهم مكان الله؟!!!

سكتنا جميعنا أمام أسئلة أبي فهمي، ولم تعد تُسمع سوى ضربات عكازته لوجه الأرض القاسي الجاف، وسرعان ما قال:

ـ قيادة الإخوان المسلمين هؤلاء مثل قيادة شعب فلسطين التي لا تريد النزول عن ظهورنا، ينطبق عليهم المأثور الشعبي “ذنب الكلب لا يمكن أن ينعدل حتى لو وضعته في مائة قالب”، نسخة كربونية عن القيادات ذاتها، لكن بغطاء ديني هذه المرة…. ما أردت قوله أنه، بعد هزيمة حزيران سبعة وستين، “ونظر في وجوهنا ليرى أي منا قد عاصرها واعياً وليس طفلاً، وأكمل”:قال أحد أإمة الإخوان آنذاك، الشيخ محمد متولي شعراوي، أنه صلى لله شكراً لأنه نصر دولة اليهود “المؤمنة” على دولة عبد الناصر الكافرة… أرأيتم؟ أسمعتم أم أعيد؟ تماماً كما يطالب القرضاوي من أمريكا المؤمنة بضربة”للـــه” في سوريا الفاسقة الكافرة، ويستعيذ بالله ممن يفترض بوجوب حرب الصهاينة!!! ولم نسمعهم مرة واحدة في تاريخهم كله، يقولون كلمة واحدة أويقومون بفعل واحد ضد دولة رجعية، مهما فعلت ضد قضايا أمتنا، هؤلاء كانوا دائماً وأبداً معادين لأي ثورة في الوطن العربي، وها هم الآن يريدون إطفاء نقطة ضوئهم الوحيدة، “القساميون”، بأفعالهم المشينة…

أراد الحاج أبو عماد “السياسي” أن يُضيف على كلمات أبي فهمي، لكن أبو فهمي تابع ناظراً في عينيه نظرة فهمها جيداً، فكف عن محاولته، وأشار إلى الشيخ سالم بإصبع يده قائلاً لأبي عماد السياسي:

ـ هم يريدون إقناعنا أنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة، وأنهم ليسوا وكلاء الله فقط، بل أنهم الله ذاته، من خالفهم كفر، ومن عمل بعيداً عن توجيهاتهم سيتبوأ مكانه من نار جهنم، وأنتم تريدون إقناعنا، نحن القطيع، أنكم أنتم، وفقط أنتم أصحاب الحق الحصري في قيادة هذا الشعب والتحدث بإسمه، كونكم الوحيدون الذين تفهمون في السياسة ودهاليزها، وأنكم الوحيدون أصحاب الحق في التكسب من أكياس المال ـ العلف القادمة من آل سعود، لذا لا تتجرآن أنتما معاً على إدانة تدمير أوطاننا الذي يقوده آل سعود، كي لا أتحدث عن تساوقكما معه، وتعتقدان أن الوطن مختصر بكما، بأنكما الوطن والشعب والقضية… أنتما متشابهان حد التطابق، رغم كل الشعارات الفسفورية البراقة، كلاكما يرفض الآخر بطريقته، جُل القضية الوطنية بالنسبة إليكما مدى تطابقها مع مصالحكما الفئوية والشخصية، تتغنيان بها مادامت “بقرة حلوب” تشربان حليبها وتبيعان ما تبقى، حتى وإن كان حلق الشعب جاف وينتظر حتى قطرة الماء فما بالكما بالحليب؟!!! كُفَّا عن هذا العبث، كفاكما إختصاراً لشعب كامل في فصيلين إثنين، فوالله هذا الشعب أكبر منكما ومن كل الفصائل مجتمعة، ولن يكون قطيعاً مهما حاولتما، مهما دعموكما آل سعود وغير آل سعود، مهما كنتما وصرتما وستصيران… إذهبا إلى الجحيم أنتما معاً، فربما توحدتما في الطريق إلى هناك، أو عندما تقابلان “العادل”، والذي ظني، أنه لن يكون غفورا معكما، لأنه غفور رحيم في كل شيء إلّا في دم الشهداء وأنين الجرحى واليتامى والثكالى، الذي أكلتماه مالاً وبعتماه رخيصاً وشربتماه ذلاً حتى الثمالة، وما تزالان…

وقام أبو فهمي يساعده عكازه، مشى بضع خطوات إلى الأمام، توقف لحظات واستدار قائلاً:

ـ كيف كان يمكن أن يكون حالكما لو حررتما أرضاً؟ ربما كنتما ستنصبان لنا المشانق….

وأكمل طريقه دون تعليق من أحد، ظل يمشي ويهز برأسه ساخطاً، وصعد بنظره بعيداً نحو نجمة ظلت منذ سني شبابه الأولى تتألق في السماء، وكنا ننظر إليه كالبلهاء دون أن ننطق بكلمة واحدة.

أغلق أبو صابر دكانه، وتفرقنا إلى بيوتنا، تطرق رؤوسنا مطارق من كلماته، وفي تلك الليلة ظلت عيون القرية، ببيوتها وأشجارها وآبار مياهها الجافة، معلقة في تلك النجمة المتألقة الساهرة في سماء قريتنا، والتي ترفض المغادرة أو المبيت.

محمد النجار