إنهم يشوهون وجه السماء

وصعد أبو علي إلى السماء شهيداً، ذهب إلى هناك كي لا يترك الرضيع وحيدا، صعد ليضمد جروحه مع ملائكة الرحمة، ليرى علياً طائراً من طيور الجنة، منتظرا القدر ليجتمع بعائلته الصغيرة من جديد. فالله وحده يعلم ما تُخبئ الأقدار. ولعله رفض العلاج على يد الفاشيين الجدد، الذين كانوا يتلذذون بالنظر الى جروحه وحروق زوجته وطفله الآخر، وربما شربوا الأنخاب متلذذين بصراخ الرضيع متألماً، ليحرمهم ربما من هذه المتعة، نعم ، إنهم أنفسهم الذين كانوا متجمعين يحتفلون ويهللون فرحاً بأن لا مدارس في غزة هذا العام، لأن قصف طائراتهم لم يُبقِ أطفالاً في غزة في الحرب الأخيرة!!!.

نعم، إنه هناك في عليائه، جالساً مع الشهداء، مع الأوفياء، مع الفقراء والمعذبين والمظلومين، محتضناً طفله الرضيع علياً، يهدهده، يدلله، ويناغيه، وعليّ الذي يضحك ويبتسم، سرعان ما ينادي أمه، لا يدري ولا يعلم بعد أنها لم تتركه، وأنها اقتحمت النيران بصدرها في محاولة فاشلة لإنقاذه، وأن النيران التي كانت تلتهم البيت كله، لم تكن لتؤثر في نفسها شيئاً لو استطاعت إنقاذه، ولهانت كل حروق الجسد أمام ذلك، بل لأعطت عمرها كله دون أن ىتتردد لحظة واحدة أمام بضع سويعات من حياة ينعم بها رضيعها، ولربما ارتضت أن تُحرق مرات ومرات في ذات النار الحاقدة، ليظل ابنها سليماً معافىً بعيداً بجسده عن تلك النيران.

لكنه القدر، قدر الفلسطيني أن يعيش هذا البؤس، أن يظل يرى مآسيه تتكرر بأشكال مختلفة أمام عينيه، دون أن تتم محاسبة القاتل، لا القاتل الفرد، ولا دولة القَتَلَة، ومجتمع دولي منافق (نقصد الحكومات)، إن لم يدافع عن الجريمة، فإنه لا يتحدث عنها، وإن تحدث فإنه يُبررها، وهكذا نلف وندور في ذات الحلقة منذ عشرات السنين.

القاتل نفسه، والمقتول نفسه، والقاتل تزداد ترسانته التسليحية والنووية، تحت شعار الدفاع عن النفس، تخيلوا… الدفاع عن النفس، والمقتول يُعدم إن وجد في جيب بنطاله سكين برتقال، ويُقتل إن ظل في أرضه كما كان في اللد والرملة ودير ياسين، ويقتل إن كان عائداً من عمله بتصريح منهم، ألم يقوموا بمجزرة كفر قاسم ضد العمال العائدين من العمل، والنساء والأطفال، تسع وأربعون شخصاً تُطلق عليه النيران على أبواب المساء، منهم ثلاث وعشرون طفلاً أعمارهم أقل من سبع عشرة عاماً، ومعظم الباقي نساء، لكنهم ألقوا القبض على الضابط الذي أعطى الأمر بإطلاق النار هذه المرة، لم يستطيعوا أن يقولوا أنهم لم يجدوا الفاعل كما حالهم في كل مجازرهم، “آسف” مجرد خطأ ورد في كلماتي إقتضى هذا التوقف، قلت ألقوا القبض عليه؟ معاذ الله، فشعب الله المختار لا يُعتقل، لقد تم استدعائه، ولاحقاً محاكمته، ولقد حكمت عليه المحكمة الإسرائيلية العادلة بالتوبيخ ودفع شاقلاً اسرائيلياً واحداً، رماه على الطاولة وخرج مبتسماً، معلناً انتصار جيشٍ لا يُقهر على نساء وأطفال عُزّل…. يابلاش، تسع وأربعون حياة لإنسانٍ فلسطينيٍ في السوق الإسرائيلي بشاقلٍ إسرائيلي واحدٍ وتوبيخ، وهذا أعلى سعر تم دفعه ثمناً لحياة الفلسطينيين!!!

الآن القاتل ليس فرداً أو عصابة كما الهاغاناة أو إتسل أو بالماخ، التي كانت أيام الغزو الأولى لقلسطين، الغزو الصهيوني الإنجليزي، الآن الدولة كلها عصابة وقطاع طرق وقتلة، العصابات تحولت بالإنتخابات إلى حكومات وقادتها إلى رؤسا ورؤساء ووزراء، وظلت الدولة كما كانت دائماً، الدولة نفسها، وما المستوطنون سوى ذراع من أذرع الدولة القاتلة، تماماً كما الجيش، فهم دون دولتهم أجبن من أن يفعلوا شيئاً رغم ترسانة أسلحتهم، ولو أطلقت القيادة الفلسطينية اليد الفلسطينية عليهم لفروا منذ زمن ولم يبقَ أحد منهم، إن أعدادهم تزايدت وتضاعفت مرات ومرات منذ توقيع إتفاق أوسلو المُذل فقط، أما قبل ذلك فرغم الإغراءات والتشجيع فأعدادهم لم تتجاوز الآلاف ـ كعدد فقط ـ أمّا المستوطنات فكانت فارغة، أما اليوم فبوجود السلطةـ حماها الله ـ والحكومات الصهيوعربية، فالأمر مختلف، فالأعداد تضاعفت والمستوطنات إكتملت وتوسعت أيضاً.

لكن لماذا هذا الإستغراب من القيادة الفلسطينية والعربية أيضاً؟ ألم تكافئ قيادتنا الفلسطينية المناضل الحجازي ناصر السعيد بأن سلمته جثة مُخدرة إلى سفارة مملكة آل سعود في بيروت، لترمي به من طائرة في براري الربع الخالي، لتأكله الوحوش وهو محطم العظام؟ نعم كافأته بعد ما يقارب ثلاثة عقود ونصف على أول مظاهرة يقودها هذا المناضل في الحجاز رغم أنف آل سعود عام 1947 احتجاجاً على قرار التقسيم، الذي يقتسم فلسطين معطياً نصفها للكيان الصهيوني دون وجه حق، وأسمى المظاهرة “يوم فلسطين” وطالب حكومة آل سعود آنذاك بقطع النفط عن أمريكا وبريطانيا!!!واستمر نضاله من أجل فلسطين والحجاز ولم يتوقف يوماً، وهل يمكن فصل النضال مهما كان وطنياً أم طبقياً في أي قطر عربي عن القضية الفلسطينية؟!!! وألم تكافئ ذات القيادة المناضل الكبير الفنان الموهوب ناجي العلي، بإغتياله على يد عميلها وعميل الموساد الأسرائيلي (عميل مشترك، يالمساخر القدر) لأنه لم يكن على مقاس تلك القيادة؟!!! نعم إغتالته رصاصاتهم بيد الموساد  “الفلسطيني”، بعدما لاحقته حتى بلقمة عيشه، وفعلت الفعل نفسه بالكثيرين، وها هي تعاقب الشعب كله بمناضليه وقواه لأنه يصر على مقاومة العدو بكل الوسائل المتاحة أمامه، فأدانت نضاله وشوهته، واعتقلت واغتالت وقمعت مناضليه، ووقعت على سحب إدانة الأمم المتحدة التي وصفت كيان العدو الغاصب بالكيان العنصري، فهو لم يعد عنصرياً ولا فاشياً ولا قاتلاً ولا محتلاً!!! إذن لماذا الإستغراب ياعلي الرضيع، فربما النار التي التهمت جسدك خداع تصوير أو مجرد كذبة سمجة من أصحاب شعار تحرير كامل التراب الفلسطيني!!!نعم لا غرابة فعلاً في أيما شيء عند هذه القيادة، فالقيادة الحالية هي إمتداد للقيادة السابقة في أحسن الأحوال، فما بالك في أسوأها؟

حقنا يجبرنا على تحرير كامل أرضنا، وقرار التقسيم يعطينا نصف فلسطين، وقيادتنا تطالب بأقل من ربع فلسطين وتنسق أمنياً وتقهر وتعتقل وتكمم الأفواه!!! إنها من مهازل الأقدار… لكن من قال أن رغائب مثل هذه القيادات هي أقدار؟ ومن قال بأن دماء الشهداء لن تغلي في عروق الأحياء من جديد لتتفجر براكينا؟ ومن قال أن الإحتلال قدر الشعوب المناضلة؟ أو أن القيادات مهما بطشت وشوهت الحقائق واعتقلت أو اغتالت ستبقى دائمة الحضور فوق رؤوس الشعوب؟ من قال وقال وقال؟؟؟ فنم قرير العين ياعلي الرضيع في حضن أبوك الشهيد، ونم قرير العين يا أبوخضير وناموا قريروا العين ياأيها الشهداء العظماء أينما كنتم وقدر ما كنتم وكيفما كنتم في عليائكم، فدماؤكم لن تذهب هدراً، وبضع سنين لا تساوي الشيء الكثير في تاريخ الشعوب… انظروا أيها الشهداء إلى فلسطين من عليائكم، لا تقتلعوها من أعينكم، لكن لا تُشرّفوا هذه القيادة المساومة ولا حتى بنظرة عتاب أو إشمئزاز، ولا حتى إحتقار، لا تشرفهم بنظرك إليهم ياعليّ الرضيع، كي لا يتشوه وجه السماء، ويبقى نقياً ناصعاً كما نعرفه…

محمد النجار

أبشروا وهللوا… السُلطة “ستطول الزير من البير”

ليست سوى جريمة أخرى تُضاف إلى سجل الدولة الصهيونية، جريمة إحراق الطفل الرضيع علي الدوابشة وأخيه ووالديه، بالنسبة لهم لا تزيد ولاتُنْقص في سجلهم الإجرامي شيئاً، بل إنها الطريقة الأنسب لبقاء دولتهم أطول مدة ممكنة على قيد الحياة، ألم يقل رئيس وزرائهم الأسبق ورئيس عصابة الهاغاناة مناحيم بيغن”في بداية غزوهم المدعوم من بريطانيا العظمى”، أنه “لولا المجازر لما قامت دولة إسرائيل”*، وربما سيطالبون “سلطتنا المُبجلة” بالتعويضات ، ألم تُقرر جولدا مئير أنهم “لن يسامحوا الشعب الفلسطيني لأنه يُجبرهم على قتل أطفاله”، وبتفسيرهم، لو كانت هذه العائلة قد غادرت أو هاجرت لما كان بالإمكان حرقها، لكنها بقيت في أرضها وصمدت وعاشت على الزيتون والزيت والزعتر والميرامية ، وبضع دجاجات سارحة في الحقل، الأمر الذي “أجبر” المستوطنين مدعومين بقوات جيش الدفاع ـ لاحظوا الدفاع ـ الإسرائيلي، ليقوموا بحرق هذه العالة أحياء وهم نيام، وبما يقومون به كل يوم، على قاعدة مناحيم بيغن نفسه،”العربي الجيد هو العربي الميت”،وبالنسبة إلى عائلة الشهيد الصغيرة، إن عاش أحد أفرادها بعد أن أكلت النيران أجسادهم بهذه النسبة الكبيرة”الأب60% والأم 90%والأخ 80%”، وبعد أن يفيقوا من غيبوبتهم، ستكون فاجعة عند إكتشافهم لإستشهاد رضيعهم، وفاجعة أكبر لكيفية الإستشهاد، وأما الشعب فسيزداد غضبا وغلاً، وسيزداد تأكُداً أنه “لا يفل الحديد غير الحديد”، لكنه سيواجَه أولاً وقبل كل شيء بالسلطة التي ستحاول وضع حد ولو بالقمع أو السجن أو التسليم للإحتلال دون ضجيج، بمجرد هاتف واحد عن المكان المتواجد فيه المعني ـ ، وينتهي الأمر بإستشهاده ـ ، أو إعتقاله ـ ، وستدين بدورها الجريمة وتستنكرها و”يا دار ما دخلك شر”.

الأمر الذي ما يزال يُحيِّر الكثيرون، أن هذه السلطة ما تزال تتعامل مع شعبها كقطيع أغنام، وكأن الشعب “بصم” لها على “بياض”أو خوّلها لتفعل ماتريد وبمن تريد ومع من تريد من أعدائه وأعداء الأمة، ودليلنا أنها حتى لم تستشره مرة واحدة لأي من تنازلاتها المستمرة وغير المتناهية، ونتيجة طبيعتها المتآمرة التي تأصلت وتعمقت فيها منذ سنوات، منذ فترة ما قبل التفاوض، واستمرت في سنوات التفاوض وظلت حتى الآن، فإن جل ما تحاول فعله هو إخفاء الحقائق عن الناس وليس تغيير نهجها الفاشل والمذل في الوقت نفسه، فعلى الأقل طالِبوا  الصهاينة أيها السادة أن يتم التعامل بالمثل في القضايا المتشابهة ـ إذا كنتم تعتقدون أن الجلاد والضحية متشابهان ـ، فمثلاً في الوقت الذي امتلأت به سجونكم ضد المناضلين حتى الإشباع، حتى مِن الذين لم يمارسوا الكفاح المسلح، واعتبرتموهم محرضين، فعلى امتداد ربع القرن الماضي من مفاوضاتكم الهزيلة العبثية، لم يتم إعتقال أي صهيوني واحد ولم تُقدم ضد أي مجرم منهم أي لائحة إتهام واحدة، “حتى بمن فيهم من إعتدى أو قتل أبناء الشعب الفلسطيني المحتل منذ عام 48 “المحسوبون أنهم “مواطنوا دولة” ولهم نفس الحقوق!!!”، بل إن القضاء الصهيوني في الدولة العبرية رفض إعتبار  وتصنيف هذه المنظمات الفاشية التي تعمل ضد العرب أنها منظمات إرهابية. في الوقت الذي وافقتم حتى على عدم مُساءلة أو التحقيق مع أي من عملائه “الذين تركهم ليستمروا في العبث بأمن الوطن والمواطن وتحت أعينكم وبحمايتكم”حتى ولو كان قاتلاً!!! يالها من ثورة وسلطة ثورية على أي شبر “يتم “تحريره!”!! أنسيتم شعاراتكم التي كنتم تحاولون فيها تبرير إتصالاتكم مع الصهاينة أمام الرفض الفصائلي والشعبي والمؤسساتي أيضاً؟!!!

وكما يطالب الرئيس وسلطته مُحقين حركة حماس بالإفراج عن معتقلي الفصائل الأخرى،”وكذلك تفعل حماس محقة”، إذن لماذا لا يطالب الرئيس الفلسطيني بأن يعتقل الإحتلال أيضاً من يهاجم أو يطلق النار أو يدمر المقدسات أو يقتلع اشجار الزيتون أو يسمم المياه أو يقتل الحيوانات أو يقتل البشر من الفلسطينيين بدم بارد؟ ولماذا لا يهدد هو أيضاً بأن يقتحم المستوطنات ويعتقلهم كما فعلت وتفعل الحكومات الصهيونية المتعاقبة مُستبيحة مدننا وقرانا ومخيماتنا وأحياءنا؟ وليرى أنه لو فعل ذلك مرة واحدة كيف ستتغير الأمور، و”أكثر من القرد قبحاً لن يخلق الله” كما يقول المأثور الشعبي، وحتى لو رأيتم أنفسكم ضعفاء، فمن باب ” إن البعوضة تدمي مُقلة الأسد”، أم أنكم “أسد علي”نا “وفي الحروب نعامة” وإن كان الخوف يأكل عباس وفريقه، فليسمح للشعب بفعل ذلك ويختبئ خلفه، أم أن الأمر له علاقة بالمصالح التي تراكمت حتى وصلت للأبناء والأحفاد، الذبن “والحمد لله” يتمرغون في عزّها؟

نعم ، لقد سمعناه يلوح بتقديم “اسرائيل” لمحكمة الجنايات الدولية، وليته يفعل، لكن  تقرير غولدستون ما زال ماثلاً في الذهون، الذي طالبت سلطتكم بسحبه، وسحبته، تجاوبا مع مصالحكم رغم رجاء كل المنظمات الحقوقية المناضلة لكم، وضربتم بعرض الحائط مصالح الشعب العربي الفلسطيني برمته، وبررتم ذلك بالضغوطات العربية، ونسيتم أن القرار الفلسطسني مستقلاً كما أخبرتمونا أمام كل تنازلاتكم، ولماذا لم تفعلوا شيئاً حتى الآن لنفس المحكمة على جرائم الصهاينة في حرب غزة الأخيرة التي مر عليها ما يزيد عن عام كامل، والتي  ـ في حال نسيتم ـ حرقت بالقنابل المحرّمة دولياً حوالي 2500 شهيد وما يزيد عن عشرة آلاف جريح معظمهم من الأطفال والنساء؟!!! وما دامت تؤثر بكم الحالات الفردية أكثر، أخبرونا ماذا فعلتم بقضية الشهيد محمد أبو خضير الذي أحرقوه حياً ومثلوا في جثته أيضاً؟!!!

وما دامت سلطتكم” أدامها الإحتلال” وليس الله كما تعلمون، ترغي وتزبد وتهدد بالجنائية الدولية، وبأنكم “ستطولون الزير من البير”،فلماذا تواطأتم وكنتم السبب في عدم طرد “اسرائيل ” من الفيفا؟ ولماذا أسقطم الدعوى ضدهم في سويسرا؟ ولماذا رفضتم وما زلتم رفع قضايا ضد جرائمهم في الكثير من الدول الأوروية رغم أنها لن تكلفكم شيئاً ومنظمات حقوق الإنسان ستتابع القضايا برمتها؟ وفي النهاية ما هي الضمانة بأن سلطتكم لن تسحب الدعوى كما سحبتم ما قبلها في أكثر من مكان؟!!! أأنتم تعتقدون أننا سنصدق “أيمانكم” ووعودكم؟ ألم يقل المأثور الشعبي:”قالوا للحرامي إحلف، قال جاء الفرج”…

اسألوا أنفسكم ماذا فعلتم بهذا الشعب؟ أين أوصلتموه؟ إلى أي حضيضٍ تسيرون به؟ فالثورة الفييتنامية رفضت إلاّ أن يظل هدفها الإستراتيجي توحيد شطري فييتنام، إعتمدت على شعبها وانتصرت، والجزائريون قدموا مليون ونصف المليون شهيد ولم يتنازلوا عن شبر واحد من أراضيهم، وحزب الله رفع شعار تحرير الأرض والأسرى وانتصر دون أي تنازل، والإيرانيون حققوا ويحققون ما يشاؤون بإعتمادهم على شعبهم، لكن الصحيح أيضاً أن الجميع منهم امتلك قيادة ثورية لا تساوم ولا تُفرّط، قيادات لديها كرامة شعبها من كرامتها، وكل شيء يهون أمام الكرامة والعزة، وليست  قيادات فاسدة ومُفسِدة وكل كرامتها محصور في المبلغ القادم من محور آل سعود ـ قطر والإتحاد الأوروبي، نعم أين أنتم من تلك القيادات؟ أنتم تتنازلون عن ثلاثة أرباع فلسطين، وتساهمون في تقسيم ما تبقى منه، فإما أن يلتزم الجميع ببرنامجكم الإستسلامي وإما لا وحدة ولا برنامج وطني ولا إصلاح ولا حتى فتح معبر ليعيش 2 مليون محاصرون ومسجونون منذ عقد تقريباً دون غذاء ولا مياه صالحة للشرب، وتحت أنقاض بيوت مدمرة جراء حروب عدة، وأنتم تبيعونه في سوق النخاسة.

حتى قي قضية الأسرى الإثنى عشر ألفاً حينئذٍ، والتي سقطت سهواً ـ حسب تصريحاتكم أنتم ـ عند توقيعكم على اتفاق أوسلو، قضية الأسرى، تخيلوا أيها السادة تسقط سهواً من قيادة وطنية وثورية تخوض معركة تحرر وطني وربما ديمقراطي أيضاً!!! يا لمهازل القدر، يا لمساخر الزمان، قضية 12000 أسير تسقط سهواً، الأمر الذي دلل بوضوح على مدى انسجامكم مع قضايا شعبكم وإحساسكم به!!!، إنها مهزلة من مهازل القدر وجود قيادة هزيلة وبهذه المواصفات تقود شعباً بهذه العظمة والرفعة والصمود، شعب كلما زفّ إلى الأر ض شهيداً، عانقت زغاريد أمه وجه السماء، وصاح رفاقه بأن تطلب الأرض من الدم المزيد!!! انظروا كيف سخّفتموه وحقّرتموه وأوصلتموه لدرجة من البؤس والإنحطاط للدرجة التي رفض الأحتلال الإفراج عن عشرين أسيراً معظمهم من حركتكم التي وقعت الصلح المذل، مسجونون منذ عشرات السنين، انظروا الى قضية مبعدوا كنيسة المهد كيف حرموهم من العودة الى مدنهم بعد صفقتكم المشبوهة مع الإحتلال على حساب قضيتهم ونضالهم وعائلاتهم، ورغم ذلك نسألكم لماذا أعدتم عشرات المرات “المستوطنين” الضالين أو الهاربين من حجارة الصبية الى مناطق السلطة في المدن؟ لماذا لم تحتجزونهم وتطالبون من عقدتم معهم الإتفاقيات بإطلاق سراح اسرانا ـ الذين فقدوا الأمل او كادوا بكل قضية ـ مقابل إرجاع مستوطنيهم؟ قولوا أنكم جبناء أو لا تريدون المواجهة لئلا تتضرر مصالحكم، أم أنكم تقومون بكل ما يلزم ليعيش هذا الكيان كما يحب وكم يريد؟ وها أنتم ما زلتم حاملين “حرف السين” على أطراف ألسنتكم التي خدّرها “الويسكي” هاتفين سنفعل وسنقوم وسندافع وسنقاتل و سَ وسَ وسَ…، حتى إذا راجعكم الصهاينة أقسمتم صادقين أنكم كنتم سكارى، وليس عليكم بذلك حرج، وأمام شعبكم يمنحكم الويسكي شيئاً من الشجاعة لتكذبون وتزايدون… لكنكم أيها السادة لن تستطيعوا أن تفعلوا شيئاً، فأنتم مكبلون وكبلتم شعبكم، وخرساء وتحاولون إخراس شعبكم وجبناء رغم كل “الخطابات” والوعودات و”التهديدات” التي تُطلقونها دون جدوى في الفضاء، وينطبق عليكم قول جرير في الفرزدق:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً………………… أبشر بطول سلامة يا مربع

*الأمر نفسه يفعله حثالات داعش والنصرة وأخواتهما                                                                                    محمد النجار

أمي رأت أمك

ـ سيدي، الأمر ليس كذلك، لماذا تصدقوه وتكذّبونني؟ ألسنا متساوين أمام القانون؟ ولماذا أنا في هذه الزنزانة وهو حر طليق ينتقل من قناة تلفزيونية إلى أخرى مثل الإعلانات التلفزينية، أو مثل المسلسلات الهابطة؟ بالطبع لا، لم أقصد إهانته ولا إهانة أحد بكلامي هذا، أقصد… إنك تعرف تماماً ماذا أقصد… ماذا؟ إذا لم يكن هو السبب فمن إذن؟ فأنا منذ تشريفكم إلى “البلد””بَطّلت” السياسة والحديث بها، خلعتها ورميتها بعيداً، طلّقتها ياسيدي، والدليل أنكم لم تعتقلوني قبل الآن ولا مرة واحدة، صحيح أنكم استدعيتموني لكنكم لم … ماذا؟ بلد ديمقراطي؟ نعم …أراه وأحسه على جلدي كما ترى، والله لا أتحدى ولا “أتخوّت” ولا زفت… قل لي ماذا تريد مني!!!

يشعل سيجارة، ينفخ دخانها في سماء غرفة التحقيق ويقول:

ـ  طبعاً كنت معتقلاً قبل دخول سلطتكم، ومَنْ لم يُعتقل؟ فملفي بين يديك كما أرى، نفس اللون وأكاد أجزم أنها صورة عن نفس الأوراق… وما زالت الكلمات العبرية تتصدر معظم صفحاته، وأنا لم أُهدده ولم أهدد أحداً، ثم أنك قلت أنه ليس المقصود، وأنا لا يوجد لدي قصصاً لأحكيها لا لك ولا لغيرك…

يستمع الى المحقق، وما زال يدخن ثم يقول:

ـ ربما، أعتقد أن هناك بعض التغيير، حينها كانت هذه الزنزانة بالذات أكثر نظافة، كنا نغسلها بأيدينا أكثر من مرة في الأسبوع، لكنكم ومنذ أسبوع كامل بالكاد تعطونا مياه للشرب، كما أننا كنا ندخن على حساب الصليب الأحمر والآن أدخن من سجائري، لكن وللحق فالشبح نفسه والضرب نفسه، كل شيء يبدو متشابه من” إحكي القصة حتى … لا أعرف بعد فالأمر لم ينتهِ بعد لأعرف”… وعلى كل حال قصتي الوحيدة هي التالية:

ـ كثيرة كانت الإنتقادات في الفترة الماضية لحركة حماس، بسبب المفاوضات التي تجريها سراً مع الكيان الصهيوني، ماذا؟ لا، أقصد الكيان الصهيوني وليس “إسرائيل”، فأنا مهما جرى لن أعترف بدولة أُقيمت على أرضي وأرض شعبي أسموها “إسرائيل”…  وإن كان أمر المفاوضات صحيحاً، فإنتقادها صحيح أيضاً، الأمر الذي كان سبباً في حوار أخذ أحياناً طابع الحدية مع ذلك السيد، والذي كان كثير النقد لما يجري حسب، و هو من رجالاتكم ومن رجالات الحزب الحاكم أيضاً، وأنا لم أدعوه، لقد لبى دعوة زميلي الذي يشرب الشاي معي ويدخن النرجيلة في مقهى المدينة، جالسنا ليري الناس أنه ما زال رجلاً شعبياً يجالس البسطاء حتى بعد أن كَبُر شأنه. وكي تكون الأمور واضحة، سأقول لك بعض المعلومات عن محاوري هذا، فهو مثلاً كان من أحد أقطاب اليسار الفلسطيني، يعرف عن الماركسية أكثر مما يعرف عن التاريخ العربي الإسلامي، يحفظ فقرات منها ويستشهد بها أكثر من استشهاده بالمأثورات الشعبية، بل أكثر من إستشهاد شيخ بآيات من القرآن والأحاديث، وفجأة أخذ يقلل من إستشهاداته تلك، واستبدلها بإستشهادات بأقوال “الأخ القائد”، فأخذت تظهر صوره ولقاءاته على التلفاز بشكل مفاجيء، ليتبين لي وللجيران الآخرين أن إحدى بنات “قادة الصف الأول”معجبة به أشد الإعجاب، بل إنها أحبته من النظرة الأولى، وكون الحب يصنع المعجزات، فبدأت المعجزة الأولى بتردده على بيتهم معزوماً من أمها، و”كرّت” المسبحة بمعجزات متتالية، والأم كانت قد ورثت عن زوجها المتوفى بضع عشرات من ملايين الدولارات، ف”المغرفة في يد القيادة،” ومن بيده المغرفة لا يجوع”، وما زالت تعمل في القيادة ومعها، ومشهورة بهز الرأس بالإيجاب دائماً، ولا تعرف كلمة “لا” الى لسانها طريق، وقال عارفوها أن بيت الشعر القائل:

ما قال قط لا إلّا في تشهده …… لولا التشهد لكانت لاؤه نعم

ينطبق عليها أشد الطباق، لذلك مازال لها حظوة لدى كل القادة الأكثر تنفذ.

وسرعان ما تزوج عريسنا، وبدلاً من أن تنتهي القصة هنا وعند هذا الحد، فقد كانت البداية من هنا بالذات “لعريسنا الكبير”،  فأُقيمت الأفراح والليالي المِلاح، واستمرت الإحتفالات أياماً بلياليها كما لا بد تعلم إن لم تكن معزوماً، و”للحق” وكي أكون مُنصفاً، لم تدم الأفراح لدينا في المدينة سوى ثلاث ليالٍ، وذلك بسبب أوضاع الضفة، حيث الشهداء والأسرى،كما قال مؤكداً لبعض عارفيه، ومن ثم انتقلت الأفراح لمدينة عمان في الأردن لتكمل أسبوعها ، وبعدها غادر العريسان إلى باريس لتقضية شهر العسل هناك، وبعد عودته إزداد حضوره على الشاشات وبطون الصحف ونشرات المذياع، حتى غدا كما تعرف ويعرف الجميع، من الوجوه الأولى التي يصعب تجاوزها. قال لي حينها مفسراً موضحاً:

ـ إن ما يقومون به من مفاوضات سرية، ما هي إلّا لفصل القطاع عن الضفة، وليُثبِتوا هدنة يستمروا بعدها في الحكم هناك، وهذه والله خيانة عظمى!!!

فقلت:

ـ هل فعلأ يقومون بذلك أم مجرد دعاية؟ ف”الجماعة” ما زالوا متمسكين بالبندقية كما نرى، والحرب الأخيرة لم يمر عليها سوى عام واحد

ـ دعاية؟!!! إننا نعرف ذلك جيداً، فمصادرنا موثوقة… وكل ما تراه ما هو إلّا لذر الرماد في العيون…

ـ مصادركم؟!!! وحرب تدمر القطاع لذر الرماد في العيون؟

سألت مستهجناً مستغربا حين قال:

ـ نعم مصادرنا…

وضحك مكملاً:

ـ محاوريهم أنفسهم أخبرونا بذلك

قلت سائلاً من جديد:

ـ لكنكم قلتم أنكم أوقفتم المفاوضات معهم احتجاجاً على الإستيطان، ألم توقفوها؟

قال :

ـ بلا، لكن يوجد خطوط مفتوحة هنا وهناك كما تعلم

قلت:

ـ لا والله لا أعلم، وكل ما أعلمه أنكم قلتم أنكم أوقفتم كل الخطوط عندما أوقفتم التنسيق الأمني، أكان ذلك كذبة أم مزحة ثقيلة سمجة؟ وما دام الأمر كذلك لماذا تزايدون عليهم إذن؟!!! إنكم تعملون كما يقول المأثور الشعبي”قال له أمي رأت أمك في الكرخانة، فقال له جيد، أمي تعمل هناك ولكن ماذا كانت تفعل أمك؟” وأنتم ماذا كنتم تفعلون مع الصهاينة الذين أخبروكم بالأمر؟!!!

فهب فيّ صارخاً عندما لم يستطع إجابتي، واتهمني أنني أشتم السلطة والقيادة، فأجبته بدوري أنني لا أشتم أحداً، وإن كان مايقوله صحيحاً فهم يستحقون الشتيمة، وتطور الأمر لا أعرف كيف، ولكني أضفت:

ـ “مَنْ بيته من زجاج لا يحذف الناس بالحجارة”، فأنتم أول من إبتدأ المفاوضات، قمتم بها متجاوزين منظمة التحرير وقيادة الفصائل والمنظمات الجماهيرية والإتحادات الشعبية والشعب كله، وجئتم حاملين لنا “إتفاق أوسلو” وشعار غزة وأريحا أولاً، وبغض نظر منكم وتواطئ وموافقة، ملؤوا السجون بالمعتقلين قبل تسليمكم للمدن كي لا تواجهكم أي معارضة، ووقفوا لنا على أبواب المدن بدورياتهم وجنودهم، وفاوضتم من جديد، فأخذوا المدن التي أعطوكموها حتى بعد أن كنتم مثل الطفل المؤدب، وقمتم بكل ما طلبوه منكم، إعتقلتم وسلمتم أسلحتكم وأسلحة المطاردين، وأغمضتم أعينكم عن تضاعف عدد الشهداء والجرحى والمعتقلين، وعن مصادرة الأراضي والمستوطنات والطرق الإلتفافية، واختصرتم القدس بالمسجد الأقصى ووافقتم على عدم دخول مواطنيكم القدس أو ألأراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين على إعتبار أنها أراٍ ض إسرائيلية لدولة جارة صديقة، وبصمتم على أراضي ”  bو c” لتكون تحت السطرة العسكرية، واستنكرتم العمل المسلح وتنازلتم عن حق العودة وكأن فلسطين مُلكُ عائلاتكم أو ورثتموها عن السيد الوالد، وها أنتم أعجز من أن تحترموا قراراً اتخذتموه بأنفسكم، وفي المحصلة فإنهم إن كانوا يفعلون ما فعلتم، فهم أيضاً مدانون مثلكم، وشعبنا لن ينسى من يفرط بحقوقه، وإن كان لأحد الحق في الإعتراض والحديث فهو ليس أنتم، فهم إن فتحوا سجوناً فأنتم سبقتموهم في ذلك، وإن إعتقلوا فأنتم السابقون وهم اللاحقون،  ويظلوا هم متميزين عنكم بأنهم ما زالوا قابضين على البندقية، ربما ليس إلى فترة طويلة إن ظلوا وراء إمارة قطر والعثمانيون الجدد، أوحتى خلف مشورة آل سعود، وفي كل الأحوال أنتم وهم مدانون وتستحقون الشفقة…

إشتد غضبه، وبدأت أرى شرراً يتصاعد من بؤبؤي عينيه، وأخذ يرعد ويزبد، فقررت أن استمر بعنادي وأقول رأيي لهذا “الطفيلي” مهما كان الأمر، فتابعت:

ـ إن كل ما تريدونه أن تحكموا غزة أيضاً، أن لا تتركوا بندقية تؤلم الإحتلال وتؤذيه، لتصبح غزة كسيحة مثل الضفة الفلسطينية، وإلا لماذا لا تقوموا بإصلاح المنظمة وتوحيدها على أساس كفاحي؟ على مشروع وطني يقاوم الإحتلال ويؤلمه، لماذا لا تريدون إصلاح مؤسسات المنظمة التي تعفنت وعفى عليها الزمن؟ أم أنكم لم تعودوا قادرين على الحياة في أجواء صحية وهواء نقي؟ إن كنتم تريدون التحرير فطريقه ليست مفروشة بالورود، وإن كان الأمر صعباً ولا تستطيعون القيام به، اتركوا الأمر لمن يستطيع…

أشعل الضابط  سيجارة هذه المرة،وظل المعتقَل يتابع موجهاً كلامه للمحقق الذي أمامه :

ـ وهل يجب أن أكون أخرساً؟ ومنذ متى عدم العمل في السياسة تعني أن لا يكون لدى المرء رأياً؟ لكن دعني أسألك أنت، فربما تستطيع أن تشفي غليلي بإجابة شافية:

ـ هل فعلاً ما زلتم تفاوضون وتنسقون أمنياً من تحت الطاولة؟

وأمام ابتسامة الضابط ونظرات عينيه، وقبل أن يجيبه، رد الضابط المحقق على هاتفه الخيلوي الذي كان في درج مكتبه، وهو ليس الهاتف الذي فوقه وقال:

ـ شالوم… ماشلم خا.. كين…أني….*

وخرج من مكتبه ليكمل الحديث…

  • لغة عبرية تعني: مرحباً… كيف أنت… نعم… أنا…                                                                                                                                                                                                                         محمد النجار