وصعد أبو علي إلى السماء شهيداً، ذهب إلى هناك كي لا يترك الرضيع وحيدا، صعد ليضمد جروحه مع ملائكة الرحمة، ليرى علياً طائراً من طيور الجنة، منتظرا القدر ليجتمع بعائلته الصغيرة من جديد. فالله وحده يعلم ما تُخبئ الأقدار. ولعله رفض العلاج على يد الفاشيين الجدد، الذين كانوا يتلذذون بالنظر الى جروحه وحروق زوجته وطفله الآخر، وربما شربوا الأنخاب متلذذين بصراخ الرضيع متألماً، ليحرمهم ربما من هذه المتعة، نعم ، إنهم أنفسهم الذين كانوا متجمعين يحتفلون ويهللون فرحاً بأن لا مدارس في غزة هذا العام، لأن قصف طائراتهم لم يُبقِ أطفالاً في غزة في الحرب الأخيرة!!!.
نعم، إنه هناك في عليائه، جالساً مع الشهداء، مع الأوفياء، مع الفقراء والمعذبين والمظلومين، محتضناً طفله الرضيع علياً، يهدهده، يدلله، ويناغيه، وعليّ الذي يضحك ويبتسم، سرعان ما ينادي أمه، لا يدري ولا يعلم بعد أنها لم تتركه، وأنها اقتحمت النيران بصدرها في محاولة فاشلة لإنقاذه، وأن النيران التي كانت تلتهم البيت كله، لم تكن لتؤثر في نفسها شيئاً لو استطاعت إنقاذه، ولهانت كل حروق الجسد أمام ذلك، بل لأعطت عمرها كله دون أن ىتتردد لحظة واحدة أمام بضع سويعات من حياة ينعم بها رضيعها، ولربما ارتضت أن تُحرق مرات ومرات في ذات النار الحاقدة، ليظل ابنها سليماً معافىً بعيداً بجسده عن تلك النيران.
لكنه القدر، قدر الفلسطيني أن يعيش هذا البؤس، أن يظل يرى مآسيه تتكرر بأشكال مختلفة أمام عينيه، دون أن تتم محاسبة القاتل، لا القاتل الفرد، ولا دولة القَتَلَة، ومجتمع دولي منافق (نقصد الحكومات)، إن لم يدافع عن الجريمة، فإنه لا يتحدث عنها، وإن تحدث فإنه يُبررها، وهكذا نلف وندور في ذات الحلقة منذ عشرات السنين.
القاتل نفسه، والمقتول نفسه، والقاتل تزداد ترسانته التسليحية والنووية، تحت شعار الدفاع عن النفس، تخيلوا… الدفاع عن النفس، والمقتول يُعدم إن وجد في جيب بنطاله سكين برتقال، ويُقتل إن ظل في أرضه كما كان في اللد والرملة ودير ياسين، ويقتل إن كان عائداً من عمله بتصريح منهم، ألم يقوموا بمجزرة كفر قاسم ضد العمال العائدين من العمل، والنساء والأطفال، تسع وأربعون شخصاً تُطلق عليه النيران على أبواب المساء، منهم ثلاث وعشرون طفلاً أعمارهم أقل من سبع عشرة عاماً، ومعظم الباقي نساء، لكنهم ألقوا القبض على الضابط الذي أعطى الأمر بإطلاق النار هذه المرة، لم يستطيعوا أن يقولوا أنهم لم يجدوا الفاعل كما حالهم في كل مجازرهم، “آسف” مجرد خطأ ورد في كلماتي إقتضى هذا التوقف، قلت ألقوا القبض عليه؟ معاذ الله، فشعب الله المختار لا يُعتقل، لقد تم استدعائه، ولاحقاً محاكمته، ولقد حكمت عليه المحكمة الإسرائيلية العادلة بالتوبيخ ودفع شاقلاً اسرائيلياً واحداً، رماه على الطاولة وخرج مبتسماً، معلناً انتصار جيشٍ لا يُقهر على نساء وأطفال عُزّل…. يابلاش، تسع وأربعون حياة لإنسانٍ فلسطينيٍ في السوق الإسرائيلي بشاقلٍ إسرائيلي واحدٍ وتوبيخ، وهذا أعلى سعر تم دفعه ثمناً لحياة الفلسطينيين!!!
الآن القاتل ليس فرداً أو عصابة كما الهاغاناة أو إتسل أو بالماخ، التي كانت أيام الغزو الأولى لقلسطين، الغزو الصهيوني الإنجليزي، الآن الدولة كلها عصابة وقطاع طرق وقتلة، العصابات تحولت بالإنتخابات إلى حكومات وقادتها إلى رؤسا ورؤساء ووزراء، وظلت الدولة كما كانت دائماً، الدولة نفسها، وما المستوطنون سوى ذراع من أذرع الدولة القاتلة، تماماً كما الجيش، فهم دون دولتهم أجبن من أن يفعلوا شيئاً رغم ترسانة أسلحتهم، ولو أطلقت القيادة الفلسطينية اليد الفلسطينية عليهم لفروا منذ زمن ولم يبقَ أحد منهم، إن أعدادهم تزايدت وتضاعفت مرات ومرات منذ توقيع إتفاق أوسلو المُذل فقط، أما قبل ذلك فرغم الإغراءات والتشجيع فأعدادهم لم تتجاوز الآلاف ـ كعدد فقط ـ أمّا المستوطنات فكانت فارغة، أما اليوم فبوجود السلطةـ حماها الله ـ والحكومات الصهيوعربية، فالأمر مختلف، فالأعداد تضاعفت والمستوطنات إكتملت وتوسعت أيضاً.
لكن لماذا هذا الإستغراب من القيادة الفلسطينية والعربية أيضاً؟ ألم تكافئ قيادتنا الفلسطينية المناضل الحجازي ناصر السعيد بأن سلمته جثة مُخدرة إلى سفارة مملكة آل سعود في بيروت، لترمي به من طائرة في براري الربع الخالي، لتأكله الوحوش وهو محطم العظام؟ نعم كافأته بعد ما يقارب ثلاثة عقود ونصف على أول مظاهرة يقودها هذا المناضل في الحجاز رغم أنف آل سعود عام 1947 احتجاجاً على قرار التقسيم، الذي يقتسم فلسطين معطياً نصفها للكيان الصهيوني دون وجه حق، وأسمى المظاهرة “يوم فلسطين” وطالب حكومة آل سعود آنذاك بقطع النفط عن أمريكا وبريطانيا!!!واستمر نضاله من أجل فلسطين والحجاز ولم يتوقف يوماً، وهل يمكن فصل النضال مهما كان وطنياً أم طبقياً في أي قطر عربي عن القضية الفلسطينية؟!!! وألم تكافئ ذات القيادة المناضل الكبير الفنان الموهوب ناجي العلي، بإغتياله على يد عميلها وعميل الموساد الأسرائيلي (عميل مشترك، يالمساخر القدر) لأنه لم يكن على مقاس تلك القيادة؟!!! نعم إغتالته رصاصاتهم بيد الموساد “الفلسطيني”، بعدما لاحقته حتى بلقمة عيشه، وفعلت الفعل نفسه بالكثيرين، وها هي تعاقب الشعب كله بمناضليه وقواه لأنه يصر على مقاومة العدو بكل الوسائل المتاحة أمامه، فأدانت نضاله وشوهته، واعتقلت واغتالت وقمعت مناضليه، ووقعت على سحب إدانة الأمم المتحدة التي وصفت كيان العدو الغاصب بالكيان العنصري، فهو لم يعد عنصرياً ولا فاشياً ولا قاتلاً ولا محتلاً!!! إذن لماذا الإستغراب ياعلي الرضيع، فربما النار التي التهمت جسدك خداع تصوير أو مجرد كذبة سمجة من أصحاب شعار تحرير كامل التراب الفلسطيني!!!نعم لا غرابة فعلاً في أيما شيء عند هذه القيادة، فالقيادة الحالية هي إمتداد للقيادة السابقة في أحسن الأحوال، فما بالك في أسوأها؟
حقنا يجبرنا على تحرير كامل أرضنا، وقرار التقسيم يعطينا نصف فلسطين، وقيادتنا تطالب بأقل من ربع فلسطين وتنسق أمنياً وتقهر وتعتقل وتكمم الأفواه!!! إنها من مهازل الأقدار… لكن من قال أن رغائب مثل هذه القيادات هي أقدار؟ ومن قال بأن دماء الشهداء لن تغلي في عروق الأحياء من جديد لتتفجر براكينا؟ ومن قال أن الإحتلال قدر الشعوب المناضلة؟ أو أن القيادات مهما بطشت وشوهت الحقائق واعتقلت أو اغتالت ستبقى دائمة الحضور فوق رؤوس الشعوب؟ من قال وقال وقال؟؟؟ فنم قرير العين ياعلي الرضيع في حضن أبوك الشهيد، ونم قرير العين يا أبوخضير وناموا قريروا العين ياأيها الشهداء العظماء أينما كنتم وقدر ما كنتم وكيفما كنتم في عليائكم، فدماؤكم لن تذهب هدراً، وبضع سنين لا تساوي الشيء الكثير في تاريخ الشعوب… انظروا أيها الشهداء إلى فلسطين من عليائكم، لا تقتلعوها من أعينكم، لكن لا تُشرّفوا هذه القيادة المساومة ولا حتى بنظرة عتاب أو إشمئزاز، ولا حتى إحتقار، لا تشرفهم بنظرك إليهم ياعليّ الرضيع، كي لا يتشوه وجه السماء، ويبقى نقياً ناصعاً كما نعرفه…
محمد النجار