قبل حزيران بقليل

كنا ملتفين حول التلفاز في تلك اللحظة، وكنت قد أنهيت آخر إمتحان لدي قبل أيام ثلاثة من وصول أواخر أيار الى أوائل حزيران، ليسلّمه أمانة متابعة الطريق، مُحمله كيس الأيام على كتفيه ليمضي بها ويسير. قمت متاخراً من النوم كعادتي في أيام العطل المدرسية، شربت الشاي مع أمي وجدتي، فبقية أخوتي لم ينهوا عامهم الدراسي مثلي بعد، وللحق، فإنني بالقدر الذي أحب فيه الجلوس مع أمي، كنت بذات القدر لا أحب الجلوس مع جدتي، لكنني كنت أحاول التغطية على الأمر كي لا تغضب أمي.

أمي امرأة دائمة الحركة، ليست إلا نحلة تتنقل من مكان إلى آخر، تكاد لا تجلس أبداً، وفي معظم الأحيان لا تتناول طعام الإفطار معنا، وبالكاد تشرب الشاي، وبالتالي لا يشغلنها شيء سوى عمل البيت ، فمن غسيل الملابس والأطباق، لكيِّ الملابس لجميع أفراد البيت، لتهيئة الطعام ليكون جاهزاً مع موعد قدوم أبي من العمل، لتنظيف البيت وغسله، كما إنجاز متطلبات البيت ومشترياته… الامر الذي يجعلها لا تهتم ، أو لا تستطيع، متابعة التلفاز وبرامجه، كما تفعل جدتي، ومصيبة جدتي أنها لا تتفرج على أفلام أو مسلسلات أو موسيقى، بل شغلها الشاغل متابعة الأخبار، والأخبار فقط، ومن هنا تبتدئ القصة وتنتهي أيضاً ، فلولا عادتها هذه لما كانت هناك لا بداية ولا نهاية ولا كان هناك قصة أصلاً، وما تم ما تم.

تسكن عائلتنا في عمارة من طابقين إثنين، نقيم نحن في الطابق الثاني من شارع وادي التفاح في مدينة الخليل، فرندة البيت الأمامية تطل على الشارع الرئيس، وحمام البيت الخلفي يطل شباكه على شارعيين فرعيين في المنطقة، وجدتي التي تجلس في صالون البيت لا تفعل أكثر من تقليب صفحات التلفاز من محطة إلى أخرى، على نشرات الأخبار دون كللٍ أو ملل، نفس الأخبار التي ما فتئت سمعتها منذ لحظات.

كان الشارع الرئيس ممتلئاً بالناس على عادته في كل يوم، أناس يحاولون التصدي للمستوطنين الذين يملؤون المدينة، ويسيرون يستفزون الناس بعد أن سرقوا بيوتهم بمساعدة الجيش وأسلحتهم، بعد أن سرقوا الحرم الإبراهيمي وقسّموه، والناس الذين لا يملكون سوى سواعدهم وبضع حجارة من حجارة الجبل، ظلّوا يدافعون عن المدينة والكرامة، رغم الثمن الذي ظلوا يدفعونه بشكل يومي، وكان طلاب المدارس قد أنهوا يومهم وخرجوا للشارع، أطفال من جيلي، أكبر أو أصغر قليلاً، صاروا يقذفون الجيش المتسكع الذي يحمي مستوطنيه، والجيش الذي كان يُطلق قنابل الغاز والرصاص على صدورهم، كان ما يزال يطلق النار دون توقف.

وكوني لا أحب الأخبار ولا سماعها، أمسكت بهاتفي الخلوي وقمت إلى الفرندة وأخذت أُصوّر مشهد الجيش وراشقي الحجارة، كمخرج من الملل، كوني لا أستطيع أن أشاهد فيلما أو مسلسلاً لأن جدتي إحتلت شاشة التلفاز في صالون البيت، وشدني مشهد الجيش عندما ألقى القبض على “هيثم”، و”هيثم” هو أحد أبناء مدرستي الذي يصغرني بقبضة سنين، وجارنا ، في الوقت نفسه، القاطن في بيت مجاور، كان قد عاد لتوه من المدرسة، بعد أن أنهى إمتحاناته اليوم بالذات، متوجهاً إلى بيته، وأخذت أُصوّره متخيلاً كيف ستكون ردة فعله وانقباضات وجهه، عندما يطلقون سراحه وأريه “الفيلم” الذي وثّقت به إعتقاله وضربه، لكن الأمور لا تسير دائماً كما نشتهي أو نحب، فقد أخذ الجنود “هيثم”، أركبوه مقدمة الدورية العسكرية ليحميهم من حجارة الطفال، درع بشري كما يقولون، وتوجوا به إلى الشوارع الخلفية، حيث يمكنهم ضربه وإهانته دون متابعة وملاحقة من عيون الشهود.                                                                                                                      لاحقت فكرتي، وانتقلت من “الفرندة” إلى حمام البيت لأكمل التصوير، ومررت من أمام جدتي التي كانت ما تزال تتفرج على مشهد على الشاشة، وترغي وتزبد وتعلق وتقول، فسحبت كلماتها فضول عينيّ إلى الشاشة أثناء مروري…

  •     *       *

كان يحتل الشاشة تقريراً يظهر فيه الرئيس مرة وبعضاً من حاشيته مرة أخرى، يتحدثون عن السلام وما جلبه من أمن وأمان للبلاد والعباد، و”أننا نحن الفلسطينيون لن نوقف التنسيق الأمني مهما كثر الرافضون له، فنحن أعرف بمصالأح شعبنا من كل المزايدين”.

وعلقت جدّتي من بين بواقي أسنانها:

ـ طبعاً، أنتم الآلهة والشعب مجرد أصنام، وهل للأصنام كلام إذا ما تحدثت الآلهة؟!!! فمنذ قدومكم و”مصالح”       شعبنا محفوظة ومُصانه والحمد لله…

وأكمل المتحدث، ذو الصلعة الواسعة مثل طريق أسفلتي واسع في غابة هزيلة،حديثه:

ـ وسنعمل على ان يكون هناك تطبيعاً شاملاً من الدول العربية والإسلاميه، كما أكد سيادة الرئيس، إذا ما وافقت حكومتهم على “السلام”…

وعلقت جدتي من جديد:

ـ آه طبعاً، هذا “فوق البيعة”… يعني بالعربي “زيادة البياع”… فعلاً “الشحادة عادة”…و”وين ما ضربت الأقرع يسيل دمه، هذا إذا كان عنده دماً”

وأكمل المتحدث ذو الصلعة الواسعة التي تكاد تُغطي مساحة رأسه، متابعاً ومدافعاً عن مقترح الرئيس:

ـ تطبيع يخدمهم ويخدمنا ويخدم السلام، وأننا ،كإثبات حسن نية، نوافق على تبادل أراضٍ معهم…

فعلقت جدتي وكأنها مصرة على الرد على كل ما يقولونه، متوجهة بكلامها إلى شاشة التلفاز:

ـ ما هي قصتكم؟ تكذبون الكذبة وتصدقونها… تتحدث عن مبادلة الأراضي وكأنها أرض أبوك، ولا تخص هذا الشعب المسكين…صدق من قال” لا تاخذ من الأقرع نصيحة، لو ربك بحبو لجعل راسه صحيحة”

وسرعان ما قال شخص آخر، أظهره التقرير، غير الأول، لكن من الحاشية نفسها، يُكمل ما قاله صاحبه، لكن بصورة  تُظهره وكأنه متمايز عنه:

ـ أنا لا أتفق مع هذا الرأي، التنسيق الأمني لا يجب أن يكون هكذا، عليهم أن يطلبوا منا ما يريدون ونحن من يقوم بالتنفيذ، وليس أن يقتحموا هم بأنفسهم مناطق السلطة ليعتقلوا ويحاصروا ويقتلوا…

وضعت جدتي يدها عل خدها وقالت ترد على ما سمعت:

ـ شوفي ياأختي “جاء ليكحلها… عماها”، فعلاً كما قال المثل” لا تشمتي ياخدّوجة، أنا عورة وأنت عوجة”… لماذا “يستحمرنا” هؤلاء إلى هذه الدرجة؟!!! فعلاً”قال له مَن فرعنك يافرعون قال له لم أجد من يوقفني عند حدي”…

ثم أن جدتي بدا وكأنها لم تعد تسمع كل كلامهم، فكلامهم متشابه ومكرر ومعاد، لكنها ظلت تعلق على ما ترى وتسمع أحياناً، خاصة عندما كان الرجل “الأقرع” في حذاء أحدهم، والذي لم يكن من حاشية الرئيس، وكان يلبس عباءة سوداء كليل شتاء هذا العام ، يحيط بكامل طرفها خطاً ذهبياً يعطي العباءة ثمناً وهيبة، وبدا أنه قد جاء لتوه من الصحراء فاغتسل ولبس واحتل موقعه أمام شاشة التلفاز ليدلي بتصريحه، وظل يردد عبارة واحدة ويكررها ويلف حولها، ” نحن نوافق على ما يوافق عليه الأخوة الفلسطينيين، نحن مع السلام الدائم والعادل…. إيــــــــــــــه”، ولما سأله صحفي عن أي فلسطينيين يتحدث؟ ف”أغلب الفلسطينيين يرفضون أوسلو ومجراه”، قال:

ـ نحن نتحدث عن قيادة الفلسطينيين الحقيقية،  ولا نتحدث عن المغامرين والمتطرفين….

وهنا ثارت ثائرة جدتي، فصارت تتحدث وكأن هؤلاء جميعهم أمامها في الواقع وليسوا في التلفاز، وتريد بكلامها أن تضع لهم حداً:

ـ ظلوا هكذا أيها الأنذال، دافعوا عن سلامهم ومذلتنا، ولتعلموا أننا نحن “المغامرون” في هذا الوطن العربي و “متطرفيه”، الحائل الوحيد بينهم وبين غرف نومكم. ها أنتم خلعتم كل ملابسكم، صرتم عراة كما جئتم لهذه الدنيا أمامهم، قدمتم لهم كل ما طلبوا ولم يطلبوا، ماذا أخذتم مقابل ذلك غير العار؟!! عار لفكم كأشخاص ودول وأشباه دول وممالك وحارات، لماذا لم تكونوا بهذه الحصافة والإنسانية في العراق وسوريا وليبيا واليمن؟!!! لماذا لم تكونوا هناك أيضاَ رجالات سلام؟!!! … نعم، نحن المغامرون الطريق الوحيد لمسح ما جلبتموه لأمتنا من عار، إصمتوا على ذبحنا، وشاركوا في تدمير أوطاننا واستحمار شعوبنا، لكنكم لا أنت ولا هم، تستطيعون وقف تقدمنا أو قتل إرادتنا، أو مسح ما إستجلبتموه من  ذبح وذل وعار، وسندفنه معكم في غياهب صحرائكم…

  •      *        *

كنت قد غادرت الصالون ،إلى الحمام، من أمام جدتي، وكل كلماتها تتساقط في أذني كلمة بعد أخرى، ووقفت على المرحاض لأستطيع إكمال تصوير “هيثم”، الذي أخذه الجنود إلى الشوارع الخلفية شبه الفارغة ليكملوا حلقات التمتع بضربه، وفي ذهني كشف تصويره هذا لأقرابي وأصدقائي، لنضحك عليه ومعه، والتلفاز مازالت الأصوات المتحدثة به تصل لأذني مثل نباح كلب، لا يعرف السكوت، وأدخلت “هيثم” في عدسة تصوير هاتفي، وأكملت التصوير، والرئيس من التلفاز يصرخ غاضباً ويقول:

ـ أنا لست ضد الكفاح المسلح فقط، أنا ضد كل أشكال العنف أيضاً…

فردت عليه جدتي بحنق:

ـ لماذا تترأس شعباً يريد ذلك إذن؟ يا أخي “حل عن ظهرنا”، مدة رئاستك “خلصت، فارقنا”…

لقد قيدوا أيدي هيثم خلف ظهره، وشنطة كتبه معلقة فوق كتفيه، وسرعان ما غمّموا عينيه بشريطة متسخة بيضاء، وألقوا به أرضاً، إقترب منهم أحد المستعربين ،الذي كان قبل قليل ملثماً وبين راشقي الحجارة، بعد أن خلع لثامه المُزيف، وصورته بلثامه ودون لثام، همس في أذن الضابط بكلمات لم أستطع فك طلاسمها لبعدها عن أذني ولكونها، ربما، بلغة لا أعرفها، أمر الضابط جنوده، فرفعوا هيثم عن الأرض التي ألقوه فوقها عند وصولهم للشارع الخلفي، وتوجهوا به إلى الدورية العسكرية ليضعوه في داخلها.

كانت حرارة شمس نهاية أيار قد اندلقت في الشوارع وفوق رؤوس الناس، وكنت أرى بنفسي كيف تفجرت أشعة الشمس ينابيع عرق من على رأس “هيثم” مارّة بعروق رقبته الضعيفة إلى كل أنحاء جسده، وما أن وقف به الجنود مقيداً مغمّى العينين على باب الدورية العسكرية، حتى علا صوت الجهاز في يد الضابط، فتقدم في تلك اللحظة المستعرب وقد تناول مسدسه المختبئ خلف ظهره، وقال الرئيس في تلك اللحظة بالذات مُصرحاً، في جهاز التلفاز الذي تسمعه جدتي، وكلامه يتدفق في أذني رصاصات قاسية صلبة:

ـ أنا ضد الإنتفاضة أيضاً… الإنتفاضة دمرتنا…

وانطلقت رصاصة واحدة من مسدس الضابط المستعرب، بعد أن نظر يميناً وشمالاً، ليتأكد من أن الشارع لا يضم الكثير من الشهود،  ولمّا ظن أن أحداً لا يوثق ما يفعله، وضع رأس المسدس في رأس هيثم، وأطلق طلقة واحدة، طلقة واحدة فقط وكلمات الرئيس الصارخة” الإنتفاضة دمرتنا”، إخترقتا جمجمة “هيثم” الذي إعتلى شهيداً لتوه درجات السماء نحو الشمس. وجدّتي ترد صارخة، تخاطبه وكأنه أمامها:

ـ نسيتَ ان تقول أن المفاوضات أحيتنا، وأوسلو نهض بشعبنا، والتنسيق الأمني حرر أسرانا وحمى شبابنا وأطفالنا من القتل…

واحتضن هيثم الأرض بوجهه، ولثم ترابها وكأنه يُقبّل أمه، واختلط دمه مع التراب بشكل غريب، كأنه أراد أن يجبل التراب بدمه مع سابق إصرار، وكان جدول الدم يسيل ويسيل، ولم أكن لأصدق يوماً ان جسد الشهيد يمكن أن يحوي كل هذا القدر من الدماء، وكأن هذه الدماء تتزايد خصيصاً لتروي تراب الأرض، لتصير كما كانت تقول جدتي دوماً متسائلة بإستنكار وإصرار، عندما يعلو ويرتقي أي شهيد، بعد أن تسقي دماؤه الأرض:

ـ ماذا كنتم تعتقدون؟!!! أم” من أين للزيتون كل هذا الزيت؟”…

  •         *          *

كنت قد بقيت مشدوها جراء ما رأيت، لم أكن مصدقاً عيناي، بل إعتقدت للحظة أنني ما رأيت سوى كابوس، وأن عيناي تكذب عليّ كما تكذب عينا تائه عطش في سراب الصحراء، وبقيت أنظر من شباك الحمام وهاتفي الخلوي في يدي، ومددت جسدي للخارج أكثر وكأنني أريد أن أثبت لنفسي كذب بؤبؤي عيني، وفي تلك اللحظة بالذات رأوني، لم يرتبكوا كثيراً، فستدافع عنهم دولتهم وقضاءهم كما في كل مرة، لكنهم قرروا اخذ الهاتف كي لا أستطيع نشر ما رأيت، والتفّوا إلى الشارع الرئيس ليجدوني ويصادروا هاتفي.

نزلت من على المرحاض، وصرخت:

ـ لقد رأوني يا”ستي”، لقد رأوني وسيحضرون لمصادرة الهاتف…

ولم أفكر للحظة في مجيئهم لإعتقالي، لكنني أجبت على الأسئلة التي كانت تتوالى من عيني جدتي دون كلام، وأكملت:

ـ لقد قتلوا “هيثم” ياجدتي… قتلوه

ولم تسأل جدتي عمّن يكون “هيثم”، فللشهداء نفس الصورة والقيمة في صدرها وقلبها، وأنا لم أكن أعلم قبل ذلك أن جدتي، هذه العجوز المعمّرة، يمكن أن تفهم ما أريد قوله وبهذه السرعة، وأكثر من ذلك أنني لم أتصور يوماً أن جدتي “الحادة” مثل سكين، يمكن أن تكون ببرودة الأعصاب هذه، في وقت الشدة، قالت بهدوء ووضوح، وقد مدت يدها لأسقط فيها هاتفي:

ـ إياك أن تعترف بما فعلت… سيعتقلونك ويعذبونك، سيسألونك عنه، وأشارت بيدها لتريني عما تتحدث، هذه فرصتك لتكون رجلاً، لا تُفرّط بهذه الفرصة التي لا تتكرر كثيراً إلّا للرجال، إجلس الآن وتفرج على التلفاز وكأن شيئاً لم يكن….

وخرجت إلى الغرفة الأخرى، عرفت لاحقاً أنها أعطت الهاتف لأمي وأخرجتها من المنزل لتعطيه لبعض الجيران البعيدين عن بيتنا، وسرعان ما داهم الجنود البيت، وقابلتهم جدتي، وسألتهم وكأنها من باب التحدي ليس أكثر:

ـ ما الذي تريدونه؟ “هي وكالة من غير بواب؟”البيوت لها حرمتها…

وأخذت تدافعهم على الباب، تحاول منعهم بكل السبل، وكأنها تريد تحويل الأمر الذي جاؤوا من اجله وتغيير هدفه، لكنهم دفعوها ودخلوا، فعضلاتهم أقوى من عظام شيخوختها، لكنها ما أن دخل آخرهم حتى دفعته بكل ما استطاعت من قوة، فتدعثر بقدميه وأسقط واحداً من الجنود الذين كانوا أمامه، فارتفعت حالة الخوف لتتحول إلى جبن داخلهم، كما قال أبي، وهوت على رأس من أسقطته ب”بابوج” قدمها البلاستيكي، واخذت تضرب به رأسه ووجهه، وفي مثل هذ الحالات” يتصاعد الجبن داخل الخائف ويكبر، فما بالك بالجبان من الأصل؟”، والسلاح كما أكد أبي، “في يد الجبان يجرح”، فما بالك إن كان هذا الجبان عدواً؟”، وعندما صار الخوف يتصاعد من ضربات بابوج جدتي، وارتفع منسوب الجبن المجبول بالحقد والكره، وصل الجبن إلى أقصاه ومنتهاه، أخذ الضابط بندقيته الرشاش من على كتفه، وافرغ في جسد جدتي مخزناً كاملاً من الرصاص، فانفجرت ينابيع الدم القاني من جسد جدتي، وسال مدراراً على بلاط البيت، وبابوجها ما زال يهوي على رأس الجندي المتمدد أمامها …

قال لي أبي ونحن نستقبل العزاء المشترك، محتفلين ونوزع الحلوى لإستشهاد جدتي وإستشهاد “هيثم”، قبل إعتفالي بيوم واحد فقط:

ـ حتى وإن إستشهدت جدتك في البيت، وسالت دماؤها على “المصطبة”، فإن دمها قد روى الأرض، فلدماء الشهداء طريقتها في الوصول للأرض لترويها، أم من أين تعتقد أن للزيتون كل هذا الزيت؟!!!

محمد النجار

سجن الحساسين…

ـ 1 ـ

                    ظل السجن كما كان منذ قرون، سجن كبير تملؤه أقفاص الحساسين، مغلقة بقضبان حديدية من السقف العالي، مثبتة في الحوائط من أربع زواياها، أقفاص صغيرة لا تتسع لأكثر من حسونين إلى ثلاثة حساسين، وبعضها فقط، لأصحاب الأحكام العالية، لأكثر من ذلك، حول كل قفص أسلاك شائكة كثيرة، فتبدو مثل لفات “تِبن”أو “قشٍ” هائلة لا يكاد يدخلها الهواء، لتُرغم من فيه على عدم التواصل مع الأقفاص الأخرى، فتواصل الحساسين والبلابل واليمام، وكافة أنواع طيور المنطقة خطير على الأمن العام للببغاوات في كافة أرجاء المنطقة، ويتجاوزها إلى الغربان والبوم في المحيط كله وربما أبعد من ذلك بكثير. يحيط السجن أبراج عالية، يقف في كل زاوية منه برجاً منها، يتجاوز طوله حوائط السجن، مثل عملاق يجاوره قزم، فيكشف ما في داخل السجن، ويطل على شوارعه المحاذية، كما ويدور فوق سطح السجن المربع، جنود الغربان والبوم، يُكثِّفون أنظارهم من خلال سقف الأسلاك الشائكة، ليراقبوا ساحات السجن و”فورة” حساسينة القابعة فيه، موجهين فوهات بنادقهم إلى كل ما يتحرك، ويثير الريبة، داخله.

ومنذ قدوم البوم والغربان، إلى بلاد الحساسين الواسعة، مدعوة من ببغاوات المنطقة ومرحب بها، إزداد عدد السجون وارتفعت حوائطها، والشيء الوحيد الذي تم تشييده في طول البلاد وعرضها هو السجون، سواء كان ذلك في مناطق الببغاوات منفردة أو في مناطق البوم، أو في مناطقهم المشتركة، المدعومة من الغربان فُرادى ومجتمعة. فتم تحويل معظم المدارس الى سجون، وكذلك الكثير من المشافي، وفي الكثير من الأحيان كانت تتم الإحتفالات بتشييدها كما لم يُحتفل بأي شيء آخر، وفي أحيانٍ كثيرة، كان يتم إقتلاع الأشجار وهدم المتنزهات، ليرتفع مكانها السجون العالية، المكتوب على بابها: ” العصا لمن عصا” وتحتها عبارة أخرى مكتوبة بحروف مذهَّبة واضحة، وأكثر إتساعاً من العبارة التي سبقتها: ” لا تعصي ملكك، فتنال ذل الدنيا وعذاب الآخرة…فطاعة الملوك من طاعة الله”. وكان يتناوب الحراسه الغربان منذ طلوع الفجر حتى غياب شمس النهار، والبوم منذ غياب الشمس حتى ظهور شعاعات الفجر الأولى، كون قبائل الغربان تميزت بقوة الرؤى في النهار، وقبائل البوم تميزت بها ليلاً.

مازالت قبائل الغربان والبوم تتناوب حراستهم، والحسون الأب والأم وثالثهما حسونهما الصغير داخل القفص، يراقبون الوقت الذي يمر ببطء شديد ثقيل، لم يره أي منهم في حياته قط، فحياة السجن لا تشبهها حياة، وحالة من شبه الصمت تكاد تملأ عليهم القفص كله، لولا بعض أطراف الحديث الذي يتجاذبه أحدهم مع الآخر بين حين وحين. منذ أن تم اصطيادهم ثم حبسهم، وبعد أن زرعوا الرعب في صدور أفواج بقية الحساسين وأدموها بمناقيرهم الجارحة، وهجّروا معظمها من على أراضيها، منذ ذلك الوقت لم يعد يعرف الحسون الزوج كم من الوقت قد مر عليهم، وهم قابعون بؤساء غير قادرين على فعل شيء يذكر، غير بضع رسائل مُهربة من سجنه إلى رفاق الخارج، يساعدهم فيها في رسم بعض برامج وتفاصيل عمل، جراء تجربة طويلة في عمل سري مضني أمضاه في غارب السنين، وها هو حسونه الصغير يكبر أمام عينيه، ويقف ومعه زوجته على أبواب طريق الشيخوخة، المتجهة حتماً إلى الموت، وتمر عليه لحظات يكاد ييأس من كل شيء، لولا تلك الإرادة الصلبة التي طالما امتلكتها الحساسين والبلابل والدوري والكناري وطائر الكروان واليمام والحمام، رغم كل ما مر بها من مآسي داخل أوطانها نفسها، متصدين لها بأجسادها الهزيلة.

نبع الذكريات المتفجر في عروقه يظل يسقي عقله بأحاديث الأجداد، تلك الأحاديث التي تشرَّبها عن كل شيء، عن الحياة والعمل والعشوش والأشجار والأمل، وها هو يسقيها لإبنه الحسون الصغير، منذ أن نقر بطن البيضة بمنقاره الهش ليُفتتها ويخرج للحياة، فوجد نفسه في سجن يحرمه من الحركة أو التنفس أو حتى الطيران، ليعرفها ويحفظها عن ظهر قلب، فالحسون الأب نفسه لم يعد يعرف بالضبط من أين له كل هذه الثقة على مغادرة القفص، والعودة الى الأشجار والطرقات وحياة البراري وفضاء الحرية، وهو لا يمتلك شيئاً سوى إرادة لم تهزمها سنوات السجن ولم تُلغها ثقافة الذل والخنوع، التي تحاول ترويجها قبائل الغربان والبوم وأبواق الببغاوات في كامل السهل ومساحات الأشجار، وربما كان دور حثّ رفيقة عمره له، على التشبث بهذه الإرادة، التي سوف تكسر قوة السجان وعيدان الأقفاص القاسية وأسلاكها، الدور الفصل في ذلك، والتي لا يعرف لا كيف ولا من أين تتسلح بها وتأتي، ولا كيف تعطيها كل هذا الزخم والصلابة والعنفوان، وبجانبها وصايا الأجداد، من تجارب الحساسين والبلابل والحمام واليمام وبقية أصناف الطيور المقيمة في كافة أرجاء المنطقة، فوق مساحات الأشجا المنتشرة وعلى مساحات الأرض القريبة والبعيدة، وفهمه وهضمه لتلك التجارب.

يتذكر الآن عندما إلتقاها للمرة الأولى، كانت تطير في سرب غير سربه، لفت انتباهها بتغريده المميز والمستمر مع بقية الذكور، كي يحافظ غلى السرب ولا تتوه الحساسين وتتفرق،خاصة الصغبرة منها، والتحق بسربه سربها، فكما يقول المثل”الموت مع الجماعة رحمة”، فما بالك بالحياة مع الجماعة؟!!! ورآها هو في ذات اللحظة التي تداخلت بها حساسين السربين، وكانت ما تزال طائرة راكبة موجات الهواء وتتمايل مع نسماته، تحلق فاردة أجنحتها عائمة بجسدها فوق موجات الهواء، وريش جناحيها كشعر ناعم أملس يشاكس الهواء ويتمنع أمام محاولات اقتحاماته المتتالية، وريشات ذيلها تنفرد وتتكاثف وتتتحرك ذات اليمين وذات الشمال لتساعدها في تغيير اتجاه حركتها المتكرر، وجسدها المنساب الملون يحمله الجناحان، ويقتحم جموع الهواء كفارس مقدام يعتلي صهوة حصان جامح لم ينفض عن جسده غبار المعركة بعد، شاقاً صفوف جيش الأعداء متقدما بحد السيف، رأى سهام عينيها السوداء المحاطة بدائرتين ذهبيين، فأضحت مثل هدف داخل دائرة تقتحم عليه نشاطه وتربك ألحان تغريده، لكنه تمالك نفسه ولم يستسلم لحالة الإرباك هذه، وافتعل أنها بحركاتها تلك تريد أن تحييه، وما عليه بالتالي إلّا رد “التحية” بمثلها بل بأحسن منها، مطلقاً العنان لدقات قلبه لتكمل لحن غنائه، وفي تلك اللحظة التي حط السربان على مجموعة من أشجار الفاكهة وبضع أشجار صبار، وشجيرات أشواك من أشواك “إكليل المسيح”،وقبل أن يُكمل رقصاته، ذهبت هي لتلك الشجيرات، شجيرات “إكليل المسيح”الشائكة على وجه التحديد، وكأنها تلمح له بأن الحياة بجانبها لن تكون سهلة، وأن عليه التفكير قبل أن يبدأ مغامرته معها، فحلاوة الحياة بقربها لن تخلو من المرارة ، وأن الراحة بين رويشاتها تمر عبر تذليل الصعاب، فهي تماماً مثل الشجيرات الشائكة هذه، لا تأخذ بذور طعامك منها دون آلام شوكها، وكادت تستحضر له ماقاله أمير الشعراء،الشاعر الحكيم أبي الطيب المتنبي الذي قال:

                      “تريدين” لقيان المعالي رخيصة                       ولا بد دون الشهد من إبر النحل

لكنها عدلت، رمت نفسها في حضن موجة هواء هادئة، وتركت له أن يفهم الأمر وحده، قبل أن تتوقف وسط أشواك “إكليل المسيح”، لتلقط بذوراً من بذورها وتبتلعها، حتى إذا حام حولها فارداً أجنحته، مبرزاً ألوان جسده مزهواً بها الى درجة الغرور ربما، حيث رفع رأسه واشرأب بعنقه عالياً ليظهر عليهما  اللون الأبيض والأسود والأحمر القاني، فارداً جناحيه لترى كيف يغطيهما اللون البني الفاتح  والأصفر اللامع ، وعليهما الأسود الليلي المرسوم كأنه بيديي خطاط مُحترف، وتمتد الألوان ليغطي بهما ريشات ظهره، وسرعان ما تقلب أمامها على موجة هواء حارة أشعلتها الشمس بروية منذ اختفى الصباح، ليريها اللون الأبيض الصافي كأشعة فجر هذا اليوم وقطرات نداه، قبل أن تذيبها شمس الصباح وتذهب، الأبيض المحاذي لللون الفاتح من البني والمجاور له، المتطاول على طول بطنه والذي عمّق البياض في بياض أبيضه بياضاً.

في هذه اللحظة بالذات، قفزت لتظهر له أنها ليست أقل منه ألواناً ونشاطاً وحيوية وجمالاً بالتأكيد وحُسناً، وأن أنوثتها الشابة المتفلتة، طاغيةفوق ذلك كله، تزيد جمالها جمالاً، وألوان ريشها بريقاً وجذباً،  وتكاد ـ لو تركت العنان لنفسهاـ أن توصلها إلى درجة الغرور.

وحلّقت قليلاً في الهواء وتمايلت عل أجنحتة، وحطت على شجرة صبار، وتبعها هو أيضاً، طار حواليها، تبعها دون أن يقطع حبل طيرانها ولا وجهته، ووقف على “كوز” صبار آخراً مقابلها، وغردت قليلاً، وغرد هو أكثر، وتقافزت طائرة في الهواء، وتقافز خلفها، وسرعان ما ارتفع عالياً في السماء، وبمنقاره كان يشق الهواء ويرتفع مثل صقر، ثم توقف فجأة، توقف في مكانه، وكأنه معلق مشنوق يتدلى في الهواء دون حبل،  وأخذ يغرد ويغرد ويغرد، وأطلق العنان لقلبه وحنجرته فأخرجتا ألواناً من الألحان والأنغام لم يعرفها معشر الحساسين من قبل، ودقات قلبه تكمل اللحن وتدق وتدق وتدق، عازفة ألحاناً لم يسبق له أن تصور أن جسده يضمها ويحويها، ثم غير اتجاه حركته، بإنقلاب فريد في الهواء، فأصبح الرأس المتسلح بمنقار صغير في الأسفل والذيل في الأعلى، ثم ضم الجناحين وأرجعهما لمكانهما حول جسده الفتي، ممدداً رجليه إلى الخلف لتصل إلى منتصف ذيله، وانطلق كالسهم من ذلك العلو، تحت شهقات عجائز الحساسين اللواتي إعتقدن أنه فعلاً “من الحب ما قتل”، ووصفته الببغاوات المجاورة بالمغامر، لكنه لم يُصغِ لكلام أحد، خاصة الببغاوات، لأنه كان يدرك في صميم نفسه أن الببغاوات لا تتكلم، لا تعرف أن تتحدث رغم إفتعالها ذلك، لكنها تردد فقط ما يقوله الآخرون، وكاد يقول ما قاله سيد الشعراء أبو الطيب المتنبي ذاته، رداً على إتهامه بالمغامر:

  إذا غامرت في أمر مروم                                 فلا تقنع بما دون النجوم                                              فطعم الموت في أمر حقير                               كطعم الموت في أمر عظيم

وقال في قريرة نفسة:” وهل هناك أعظم من الحب ليموت، إن كان سيموت، من أجله؟!!!”  وهوى بجسده مثل نسر جارح إلى شجرة الفاكهة حيث كانت من على غصنها تنظر إليه، إنقض وكأنه نسر على فريسة، حتى إذا وصل على مقربة منها تقدم برجليه إلى الأمام متزلجاً بهما على صدر موجات الهواء، مخففاً من سرعته حتى توقف تماماً في بطن موجة هوائية حارة، مطلقاً العنان لجناحيه لتتراقص متحركة للأعلى والأسفل، حركات قصيرة سريعة متسارعة، دون أن يتوقف عن التغريد، مزغرداً زغروداتٍ طويلة متعالية، تتطاول وتتمدد وتتوسع وتتعالى، وهو يهز رأسه يميناً وشمالاً فارداً عضلات جناحيه، وكاشفاً عن قوة جسده وفتوته، وأكثر من تودده لها راقصاً قافزاً عارضاً مهاراته في الهواء، ثم تقافز من لوح صبار إلى آخر غير عابئ بالشوك الإبري الذي يملئ الشجيرات .

وابتسمت هي، واقتربت منه بكامل حسنها، بجمال ريشها المنفوش وألوانه الصافية، بجسدها الذي ما تزال تؤرجحه وتتراقص به أمام عينيه، وسكبت كل أنوثتها من طرف عينها ،دفعة واحدة، في قلب عينيه، وابتسمت من جديد، فارتبكت دقات قلبه وتلعثمت ابتساماته، فازداد لون ريشات عنقه الأحمر ورأسه إحمراراً، بعد أن تدفق لون دم شرايينه فوقها واندلق، ولم يعد، أي منهما، يحس بوجود الحساسين الأخرى حواليه، ولا بالبلابل والحمام والدوري واليمام، ولا الكناري وطائر الكروان، ولا حتى بطائر الفر ، القادم من هجرته مقيماً على  شواطئ البحر، خصيصاً، باحثاً عن مصدر هذه الألحان. وعاد وارتفع عالياً في عين الشمس، وارتفعت هي أيضاً لملاقاته، وتقابلا تحت ظلال غيمتين ممتلئتين ظهرتا فجأة ،على غير توقع، في المكان، ونظرا الى عيون بعضهما، وشاهدا سنابل القمح وزهور الأقحوان في أقاصي كل بؤبؤة، وسرعان ما ارتفعت دقات القلب، كأنها تقف على أبواب الإنفجار، رغم أن هذه الأجساد الفتية ربما لا تحتمل مثل هذا الإنفجار، أطلقا ألحانهما من جديد،  ورغم عنف صوت دق القلب الكبير، كانت تتفتح أزهاراً وشمساً وربيعاً وظلالاً،  لعلاقة حب بين حسونين جميلين، أسرتهما لحظة عشق ستبقى فارقة في حياتهما، وأخذت الطيور تبتسم، وتتقافز فرحاً وطرباً، وصار هو يذهب ليلتقط حبات بذور ليطعمها ويسرق قُبلة، مدللاً على بذرة حب أخذت تتنامى وتكبر وتتفتح بسرعة مدهشة مع توالي الأيام.

لم يمر طويل وقت حتى قررا الزواج، وتشكل وفد من أهل الحسون الذكر ليطلب يد الحسون الأنثى، ترأس الوفد أكبر أعضاء الحساسين سناً، وتبرع الحساسين بالهدايا والطعام ليظهروا لعائلة الحسون العروس مدى جديتهم واهتمامهم بموضوع هذا الزواج، وكذلك ليظهروا كرمهم وتكاثفهم ووحدتهم أيضاً، وليبينوا لبقية الطيور،  إيمانهم  بما وصل اليه تطور الحسانين، على مدى تاريخهم كله، بوحدانية الزواج، وبعمق قناعتهم بالمساواة بين الذكور والإناث، وبجدية “إبنهم”في طلبه ومسعاه، وقالوا:

ـ مِثْلُنا لا “يمزح” في مثل هذه الأمور الجادة، وحسوننا والحمد لله قليلة أمثاله، سواء في النشاط في طلب الرزق أو الشجاعة أو في مواجهة الصعاب، ومجيؤنا لحد بابكم تقدير واعتراف لقيمتكم ومكانتكم أيضاً، وحسونكم الأنثى ستكون محل تقدير العائلة كلها، ونرجوا أن لا تردوننا خائبين.

فقالت عائلة الحسون الأنثى، رادة ومتجاوبةً مع كلمات أهل الحسون الذكر:

ـ نحن نتشرف بكم ونقدر قدومكم، وطائركم أظهر شجاعة مميزة، من خلال العرض الذي قدمه أمام الطيور جميعها، وليس أمام عوائل طائر الحسون فقط، ولقد رأيناه جميعاً في لاحق الأيام أيضاً مظهراً حبه وعشقه، رأيناه وهو يجلب لها بضع حبات من بذور الأشواك ويضعه في فمها، مظهراً لها حبه، ورأيناه وهو يغرد مغنياً بأهازيج الحساسين ومواويلها، وكي لا نكون متواضعين فقط، بل نرى الأشياء والأمور كما هي، فللحق فإبنتنا أيضاً لا تقل عن إبنكم، فهي قابلته التغريد بالتغريد، والحب بالحب، والجمال والشباب والحيوية بمثلها.

فقال كبير الوفد الضيف مؤكداً:

ـ صدقت، وتأكيدي هذا ليس من باب المجاملة، فكلنا راى ما رأيت، ولا مجال هنا لقول ما ينفي ما رأته العيون.      فقالت أم الحسون الأنثى من باب التباهي:

ـ ولا تنسوا أيضاً أننا في داخل عائلتنا، نمتاز والحمدلله، بالصبر والتحمل والمثابرة مثل بقية الحساسين وكافة طيور المنطقة في البلاد كلها، وفوق ذلك كله بالخصوبة، نعم الخصوبة، انظروا بأنفسكم وسترون أن أناثينا قادرة على خلق الحياة مرة أو مرتين في نفس العام، كما أنها تستمر تعمل رغم رقودها على البيض، وتدافع عن عشوشها جناحاً بجناح وقوائم بقوائم مع ذكورها، ولم تعتد على تركهم في النائبات وصعوبات الزمن وغدره.            لذلك لا  ينطبق علينا قول الشاعر:

   ما أكثر الأصدقاء حين تعدهم                                 لكنهم في النائبات قليل

فنحن والحمدلله تجدنا أول ما تجدنا حاضرين جاهزين، عندما تعز الطيور ويتفرق شملها في أيام الشدة، عندما تصير للمواقف أثمان وتضحي الكلمات مِخرزاً والأفعال سيوفا، تجدنا في لحظات الحقيقة حاملين لواءها، لا يوقفنا عن مناصرة الحق لومة لائم.

وطال الحديث، وتعارفوا وتحاوروا وتضاحكوا وتمازحوا ، وشربوا المياه وأكلوا الثمار، واتفقوا على تفاصيل الأحتفال بعقد القران لهذين الحسونسن الشابين، وابتدأ الجميع بالتحضير للإحتفال.

وجاء الموعد، وكانت الدعوات قد وجهت الى جميع الحساسين والطيور المُسالمة في المنطقة، من خلال التغاريد المنتشرة من حناجر الحساسين الشابة المتنقلة في كافة الأرجاء، فأقبلت الحساسين من كافة أماكن تواجدها، جاءت من أعشاشها في المتنزهات العامة، من الحدائق، من البساتين والأراضي الزراعية، من المقالع الحجرية والكروم وأشجار الصبار، جاءت حاملة للأزهار وورود الحدائق، محملة ببذور الأشجار وببعض الحبوب التي تكفي لأطعام الضيوف المحتفلين جميعاً، كما وحضرت وفود عديدة من بقية أنواع الطيور الأخرى وأشكالها المختلفة، وكانت المفاجأة كبيرة عندما جاءت الحساسين الأقارب من المتنزهات والصخاري المجاورة، ومن على مناطق “شرق المتوسط وجنوبه أيضا”، كما من مناطق عديدة مجاورة، للمباركة والمشاركة بهذه الفرحة وهذا الإحتفال. ورقصوا وغنوا مغردين وكان الغناء يكمل بعضه بعضاً، ورغم بعد المسافات التي أتى منها المحتفلين، إلا أنه لم يكن بينهم أي صوت نشاز، قد يُشوّه صوت ألحان الغناء المنساب جدولاً جميلاً متتابعاً، الذي ملأ الأجواء فرحاً وحباً وابتسامٍاتٍ وحياة.

وقبل أن تنتهي الإحتفالات كان الحسونان العروسين قد توجها الى شجرة فاكهة مثمرة، حيث ينتظرهما عشاً مؤقتاً لقضاء شهر العسل، حيث أمضيا أجمل الأوقات، فازداد حبهما حباً، وحياتهما قرباً، وتغريدهما تداخلاً وجمالا وتكاملاً، وكانت تلك اللحظات هي التي وضعت اللبنة الأولى لحياة مشتركة صلبة لا يمكن هدم أسوارها القوية.    وما أن انتهى شهر عسلهما، حتى عادا ليبنيا عشهما منقاراً بجانب منقار وجناحاً بجناح مع بعضهما البعض، وعادت تغريداتهما تتوالى وتتعالى، منبهة بقية حساسين المنطقة بأن هناك بيتاً جديداً سوف يُبنى، وأن عائلة جديدة تتشكل، ومن الواجب على الجميع الحفاظ غلى “حق الجيرة”، وبدلاً من أن يُقال”كوم حجار ولا هالجار” فقد سألا هما عن “الجار قبل الدار” ، فجاءتهما المساندة والمساعدة والترحيب والتبريك، مؤكدين لهما أن حق الجيرة لديهم هو حق لا يُناقش، كونه حق مقدس.

  ـ 2 ـ

إنه يتذكر الآن بعض ما تم بعد عرسهما في تلك الأيام، وهذا ما ظل يشرحه لإبنه الحسون الصغير بالتفصيل، منذ تلك اللحظة التي بدأت تتشكل مجموعات بين الحساسين الذكور، يملؤها الحقد والتعصب وعمى البصيرة، مجموعات مدفوعة من طيور صحراوية مجاورة، متحالفة مع “الغربان والبوم”، استعار بعضها ألوان الحساسين، واستُجلبت الببغاوات من أماكن بعيدة، لتوهم جهلاء الحساسين أنها من جلدتها، مُستغلين تشابه ألوانها مع ألوان الحساسين، ولم يُدرك الكثير من الحساسين، أن “القطة المتربصة ليس من أجل جمال أصواتهم، بل من أجل لحومهم”، لكن مع ذلك، وكي لا “تدفن الحساسين رؤوسها كالنعامة في التراب”، فلا بد للتنويه أن قوي البصيرة لا يعوزه كثير ذكاء ليدرك أن تغريد تلك الطيور، كان تغريداً شاذاً، وألوانها باهتة ونظراتها حاقدة، لكن ما جعل بعضها ينخدع، كونها ركبت موجة سذاجة بعض الحساسين لتنتشر داخل مجتمعها وتحاول تصحيره، وما دام هناك سُذج، فالنتيجة بشكل أو بآخر نوع من المأساة، لأنه “ما دام في السماء نسوراً هائمة، فهناك على الأرض جثث هامدة”، فالسذاجة و”عمى الألوان”، وتراكم الأخطاء لبعض قادة الحساسين، جعلت من عامة الحساسين تساهم، دون وعي أو إدراك، بتسريع ما يُخطط لها ويحاك، وانطبق عليها المأثور الشعبي “دجاجة حفرت على رأسها عفرت”، واتبعت في البدء ما رددته الببغاوات من أقوال دون وعي، ولاحقاً ما خططته أسراب البوم والغراب، و”من يتبع البوم لن يصل إلّا للخراب”.

رمت الكثير من الحساسين بصيرتها من أعالي السماء إلى وديان سحيقة، ولم تلحظ أن هذه الطيور تأكل دون أن تُنتج أو تتعب، وتجلس معظم أوقاتها تدعو وتستغفر، وكأن معشر الحساسين لم تفعل سوى الموبيقات في حياتها، وبدأت تبني المعابد المعتمة من الحجارة الثمينة، ولا أحد يعلم من أين أتت وبأي أموال ولا كيف أتوا بها، لكن ما لفت الإنتباه أن معظم الداعين في هذه المعابد كانوا من اللصوص وقطاع الطرق، لكن الحساسين قابلتهم بالقول الساذج القائل” سبحان مُغير الأحوال، ليس بكثير على الله هدايتهم”، فصارت اللصوص من علية القوم وأئمة معابده وكهنوته، وبدأوا يُغدقون الأموال على “نُخب” الحساسين وقادتها وعلمائها ومعلميها، وما أن قويت شوكتهم قليلاً حتى بدأوا يحاولون فرض قوانين لم تعرفها الحساسين، فأخذوا يُفرّقون بين ذكور الحساسين وإناثهم، ثم حرّموا عمل الأنثى ومشاركتها في بناء العشوش وفي إحضار الطعام، ولمّا رأوا أن بعض الأناث إستحسن الراحة وسمعن أقوالهم، قالوا أن الأنثى تنقصها القوة والعضلات للعمل، كما ينقصها العقل للتفكير والتجريد، والحساسين التي لم تُعطِ وزناً في بداية الأمر، ولم تدقق في داعميهم وعلاقاتهم وانتماءاتهم، وجدت نفسها في معركة داخلية، تحاول فيه الطيور الوافدة تحييد نصف مجتمع الحساسين، من خلال زج إناثه في أعشاشها وتحريم خروجها، وأن “أحد جناحيها” قد يُقطع من أُصوله بمثل هذه القوانين .

وكما يقول المأثور الشعبي، “إن أول الرقص حجلان”، فقد إبتدأ الأمر بتحريم ظهور ألوان ريشات الحساسين الإناث، على الذكور من الحساسين في أول الأمر، ثم على ذكور”الطير من كل جنس”، ثم تحريم رؤيتها من ذكور قبائل الحيوان!!!، ولم يمر طويل وقت حتى حرّمت صوت تغريد إناث الحساسين واعتبرته “عورة” يحاسب عليه الإله يوم الحساب، وتحاسب عليه القوانين في الدنيا، وتم تحريم ظهور مناقيرها وعيونها، وأوصت بتغطية رؤوسها والإقلال من خروجها، وإن اضطرت فعليها أن تغض من بصرها وتحني رؤوسها، وبدا إنحناء الرؤوس يجد له طريقاً عند بعض الحساسين، وصار مألوف رؤية طوابيراً من الحساسين طائرة محنية الرؤوس بعد أن كانت رؤوسهم مرفوعة دوماً وتعانق السماء.

وأمام رفض معظم إناث الحساسين للقوانين الجديدة التي استهدفتهن، سرعان ما أخذت القيادة الجديدة وتحالفاتها من البوم والغربان وببغاوات المنطقة، بتُجميع قمامات البيض الفاسد، ورجم من لم يلتزمن بإرشاداتها وقوانينها، في المتنزهات والطرقات والأسواق، وحتى في أعشاشها على الأشجار، ثم تغادر هاربة كي لا يراها أحد.

إزدادت مطالب التحالف الجديد في بلاد الحساسين الواسعة، وتم تحويل ما سبق الى قوانين يُمنع تجاوزها، ويعاقب عليها، وبدأت القوانين تزداد بإضطراد، فتم تحريم ألوان الحساسين الذكور، لأن سلف الحساسين لم يكونوا ذووا ألوان كما زعموا، وأن الإبقاء على الألوان عند الذكور ليس إلّا تشبهاً بالإناث، فصارت الكثير من ذكور الحساسين تصبغ ريشها باللون الأسود. ولم يمر طويل وقت حتى إلتحق بهم جهلة الحساسين ومنبوذيهم، كذلك إنتهازييهم ومنتفعيهم، وكل الكسالى الذين لم يعملوا يوماً في حياتهم، كما ومن تغيَّب وعيهم أيضاً.

بعد أن سبغوا ريشهم وتوشحوا بالسواد فوق سواد ريشهم، أخذوا يحملون مخالب الحيوانات الكاسرة ومناقيرهم الحادة، وبدأوا بمحاولة فرض ألوان ريشهم الأسود على بقية الحساسين، معتبرين أنها قوانيناً إلهية صالحة لكل زمان ومكان، وأنها أيضاً من قوانين الحساسين المتوارثة، المتناسبة مع عصور الحساسين ومناخات بلادهم على مر العصور، وأن ما تم إلغاءه من قوانين، كونها  ليس لها  مصداقية ولاقداسة لأنها قوانين وضعية، وصاروا يرجمون الإناث الرافضة للتخلي عن ألوان ريشها بالحجارة، وأحيانا بقص بضع ريشات من ريشهن المفرود متباهيات بألوانه، ويطيرون مختبئون بين أسراب الحساسين الأخرى، وما فتئوا أن تبنوا رسمياً قوانين الببغاوات والغربان التي دعمتهم بالعلف والمخالب والمناقير الحادة، ليفرضوا قوانينهم على كافة معشر الحساسين، وصار مألوفاً رؤية هذه الطيور الكاسرة في سماء بلاد الحساسين وأراضيها، وصار هذا التحالف مكشوف ودون مواربة.

وابتدأت هموم الحساسين ومشاكلها تتزايد، وأخذت تقسمهم حالات الجدل وتوسع الهوة بينهم، فصارت تتباين آراؤهم، وتحتد أكثر ساحات نقاشاتهم، وبدأوا ينقسمون إلى فئات حسب اللون والنوع والجنس والإنتماء للمعبد، ما أدّى لإضعاف قوتهم وتراجع مكانتهم، بين أمم الحساسين المختلفة والطيور عموماً، وازدادت المحرمات أكثر وأكثر داخل مجتمعاتهم، فقدسوا القدم اليمين على الشمال، والعين اليمين على العين الشمال، والجناح اليمين على الشمال، وصار الذيل الأسود فخراً، فربوا ذيولهم وصبغوها بالسواد، وكحل ذكورهم العيون، وسرعان ما إعتلى السلطات أصحاب الأذناب الطويلة، وكلما إزداد ذنب الحسون طولاً كلما علا قدراً، وبدأت ظاهرة التزاوج بين كهول الحساسين المقتدره مع إناثه القاصرات، وابتدأت ظاهرة تعدد الزوجات، وصاروا يُحرمون الرسوم والتغريد والغناء والدوح، ويحللون ويحرّضون على الحزن والبكاء، وأباحوا شراء أناثي الحساسين للذكور الغنية المقتدرة، وأحلوا العقاب للمخالفين في الرأي بدل الحوار والإقناع، وكلما ازدادوا تحريماً للاشياء، كلما إزدادت صداقتهم ودعمهم أكثر وأكثر مع قبائل الغربان والبوم، وكذلك من ببغاوات الشجر والحجر وصحاري المنطقة.

ولم يتوقف باب التحريم يوماً، بل إزداد وتعمق، فصار الفصل بين طيور المنطقة كلها، فصل على أساس نوعها ولونها و حجمها و مساحة صوتها وشكل تغريدها، عدا عن شكلها وجنسها وماهية طعاما، وابتدأوا بتحريض كل نوع على آخر، فخلقوا عدواً وهمياً لكل نوع وحجم ولون، فصار صديق الأمس عدو اليوم، وأخ الأمس ورفيقه ألد عداوة لما سيأتي من أيام، ولم يعد يتحدث إلّا القليلون عن العدو الحقيقي من غربان وبوم وببغاوات ولابسي السواد.

وكي يكتمل المشهد ويبدأ مسلسل الإقتتال بين طيور الحساسين، وبينها وبين الطيور الأخرى، ابتدأ طائر الغراب وطائر البوم وأدواتهما، بسياسة التجهيل ومسح التاريخ، فقاموا بحرق المكتبات العامة وكل ما تحويه من كتب، حيث أكدوا أن الأمية هي الطريق الأكيد إلى الجنة، على قاعدة” ما أنا بقارئ”؟!!! فالجهل المقرون بالإيمان خير من العلم والفهم المقرون بالكفر، فمقياس حسنات وسيئات الحسون لن تكون بالتعليم أو الشهادات.

كما تم تحريم الطبابة “لأن الأعمار بيد الله”، والعلاج ليس إلّا شكلاً من أشكال التدخل بما حدده الله من أعمار الطيور في اللوح المحفوظ، وتم إغلاق المسارح ودور السينما، وصارت الكتابة جريمة قد توصل صاحبها لحبل المشنقة، وتم تحريم الرسم والتصوير، وصار نحت “الأصنام” من أعظم الكبائر وأكثرها كلفة.

وتم تقليص الإحتفالات والأعياد، حيث الأعياد تستوجب الفرح، والفرح يخلق التفاؤل، الأمر الذي “لا يُرضي الله ولا ملائكته ولا كهنة المعابد”، وبالتأكيد لن يرضي معشر البوم والغربان. فتم تحريم عيد الأم، كون الأم أنثى، وهي ناقصة عضل وعقل، ولأن الله لو أراد لها عيداً لأنزل لها نصاً، وهذا ليس على الله بكثير، كما تم وقف العمل بعيد الربيع، فلا يعقل الإحتفال بالربيع بحفنة ورود متخفية مطاردة لم تصلها أيديهم بعد، وببضعة أشجار ظلت مستعصية على الموت بجذور متمسكة بالصخور، وتم تحريم عيد الحب،  لأن الحب بدعة وضعية لا تتناسب ونصوص المعابد ولا توجيهات كهنتها، ولا يُعقل أن يكون هناك حب في مجتمع  متعدد متنوع وبألوان وأنواع مختلفة وُجدت لتكره وتفرق لا لتحب وتجمع، أما عيد رأس السنة فهذا فحش لا يمكن الحديث فيه أو عنه، خاصة أن من يحتفل به هم الفاسقون والزنادقة فقط من قبائل بعض أنواع الطيور المشركة أو المرتدة.

لذلك لن تكون هناك أعياد غير الأعياد الإلهية، ويكون الإحتفال بها بلبس السواد وبلطم الخدود والغم وبتنكيس الأعلام، وبإنتشار حلقات الإستغفار والتوبة والصلوات والتعبد، ليقبل الله من كامل مملكة الطيور توبتها، كطريق أكيد للوصول الى الفردوس، حيث هناك، وفقط هناك، الفرح والمرح والشجر والمطر والماء والورد والبحر والنهر والسهر والخمر والحب والعشق، وليس فى هذه الأرض الفانية.

وصار طائر الغراب والبوم يصول ويجول في البلاد، وصار يحفر تحت الأشجار لتجف وتسقط، ونقل جذورها الى مناطقه وبلاده، وتدريجياً أخذت مساحة الظلال في بلاد الحساسين تتقلص وتتناقص، ولهيب الشمس لا يجد من يصده ويتصدى له. وتم نهب أعشاش الحساسين وأثاثها، وتكسير بيوض عائلاتها الرافضة لما يدور، وصاروا ينهبون المياه ويُحولون مجراها،  ومنعوا حفر الآبار وإعادة زراعة الأشجار، وقتلوا الحب ومنعوا المطر وقطفوا الورود و حملوها على أجنحة أسرابهم إلى بلدانهم البعيدة، تحت أعين الببغاوات في وضح النهار.

ومع اختفاء الزهور وجفاف الشجر، ابتدأوا بالمجازر لتهجير طيور الحساسين،فهجروا عائلات كاملة من الطيور، وقتلوا ولاحقوا، واستجلبوا العربات الكبيره لدهس جرحاها، وعيون الغربان والبوم لملاحقة الحساسين الطائرة وتمزيقها بمناقيرها ومخالبها، فصار الحزن يتعمق في النفوس، ويتجذر الغضب والنكد، وصارت الطيور تتفشش ببعضها البعض، فتقلصت مساحة العلاقات، وصار الحسون الأخ يكره أخيه، والحسون الأب يتشكك بإبنه، وأصبح “الخل الوفي” من عجائب الدنيا التي بالكاد توجد في عالم الحساسين الجديد، ولم يعد قلب أخ عل أخ، ولا صديق على صديق  ولا قلب جارٍ على جار، وصار شعار”اللهم نفسي” يتفشى وينتشر بين الحساسين، وتمدد الشؤم في البلاد طولا وعرضاً، وصار التفائل من نوادر الحياة.

سنوات عديدة مرت على ذلك، فاكتشف الحسون الأب أنه تم تغيير قبلتهم، فصارت في منتصف الجانب الغربي، وأنهم أصبحوا يعبدون إلهاً غير الإله الذي عبدوه، وأن هذا الإله الجديد إله لا يعرف الرحمة بصغير أو أنثى أو حسون كهل، كما أنه لا رأفة لديه بطير أو حيوان، وأن جل همه تمزيق مملكة الحساسين، وتفريق حساسينها وتمزيقها إلى فئات متصارعة متحاربة، لنقل خيرات مملكتها الى تلك البلاد البعيدة التي ظلت عالة على خيرات طيور الأرض وحيواناتها.

ظل الحسون الأب يتذكر أحداث عمره وعائلته، ويتقاسم شرح الأمر لإبنه مع زوجته القابعة معه خلف القضبان، موضحَين له تاريخ “آل حسون” كما هو، إيجاباً وسلباً، وظلت الحسون الأم تكرر دائماً وأبداً، أن تزوير التاريخ لن يخدم بناء المستقبل، وأن شعب الحساسين الممتد في كافة الأنحاء، لن يخدمه سوى فتح الماضي بكل وضوح، ونقد كل سيئاته، كما استخلاص العبر من دروسه، فقالت لإبنها، ممسكة طرف الكلام من حنجرة زوجها:

ـ أمام كل ما حدث، رفض أبوك أن يظل جالساً “منتظراً الفرج”، وقرر أن لا يُبقي منقاره مغلقاً وحنجرته صامتة، كما رفض أن تُقص جناحيه وتُكتف رجليه، فالوقت كان قد صار ثميناً كما لم يكن من قبل، والزمن الذي يمر تسيل منه الدماء، ويهرب معه مستقبل أمة الحساسين جميعها، وقرر أن يعمل ، مهما كان هذا العمل بسيطاً، لكنه أفضل من السكون والسكوت والبكاء على أطلال بلاد الحساسين، “ففي الحركة بركة”كما يقولون، وعلى قاعدة “أن البعوضة تُدمي مقلة الأسد”، فصار يذهب في منتصف الليالي، يسقي ما تبقى من زهور وورود وبقايا أشجار لم يقتلعوها بعد، بمنقاره الصغير، وصار يحاول إخفاء الكتب عن عيونهم، ينقلها إلى مُغُر الجبال وكهوفها، وبدأ بالتحريض بكل ما في حنجرته من قوة على الأعداء كلهم، غرباء ومحليين، وصار يطبع البيانات ويكتب على ألواح الصبار وورق الدوالي محرضاً عليهم، ومن أغصان الزيتون بدأ بصناعة السهام، وصار بمساعدة حساسين المحاجر ، يُخزِّن الحجارة ليحارب بها أعداءنا، وانضم إليه أخوتك أول الأمر، أخوتك الذين لم ترهم أبداً بحكم ولادتك في هذا السجن اللعين، ثم أبناء الجيران، وبدأت تتشكل الزنود التي ترفض ذل قبيلتي الغربان والبوم، كما ترفض خداع الببغاوات وتحريضاتها التي حاولت تقسيم الحساسين ونجحت الى حدٍ بعيد، متعاونة مع حساسين باعت نفسها وضمائرها بأبخس الأثمان… المال.

وظل ينشر والدك خارطة بلاد الحساسين، ويحتفظ بمفاتيح قلاعها، يطبعها ويعلقها على الأشجار المثمرة والمحاجر والمتنزهات ، التي حولوها خراباً، وعلى شجيرات “إكليل المسيح الشائكة”، وأصبح ينظم مجموعات الحساسين في مجموعات صغيرة لئلا يتم إكتشافها، فشكل مجموعات لإعادة قراءة التاريخ كما هو، ومجموعات أخرى لنشره وشرحه، وشكل مجموعات للكتابة على ألواح أشجار الصبار وأوراق التين، ومنشورات على ورق الدوالي يسهل إخفاؤها وحملها وتوزيعها، كما شكل مجموعات لسقاية الزهور كي لا تفنى وتموت وتندثر، ويندثر معها الحب والصفاء والبسمة والتفاؤل، وفوق ذلك كله شكل مجموعات الحجارة والسهام، لأنه “لا يفل الحديد سوى الحديد” يابني، ونحن بأجنحتنا الصغيرة من الصعب أن نقاومهم، فكان لا بد من مواجهة مخالبهم الحادة ومناقيرهم المعكوفة القاطعة، بسلاح ما، اهتدينا إليه من واقعنا، سهام من خشب أغصان أشجار الزيتون، وحجارة من حجارة محاجرنا. وقدرني الله أن أضم جناحي إلى جناحي أبيك وأساعده بقدر إستطاعتي.

إن من أهم ما قمنا به يابني، الإتصال بحساسينا التي أجبروهها على النزوح والهجرة، ونشرنا التفاؤل رغم كل السواد الليلي الذي نشروه وما زالوا ينشرونه حتى الآن، فنحن أمة “بني حسون”، لسنا من الطيور المهاجرة التي لا وطن لها، أو التي تُبدل أوطانها في كل موسم وفصل، فلم نغادره يوماً إذا ما قسى علينا، بل كلما قسى علينا بطبيعته كلما تمسّكنا به أكثر وتكيفنا مع ظروفه، وكلما إزددنا حناناً نحوه، وإذا ما غادرناه قسراً زدنا له شوقاً وعشقاً، وإزدادت مشاعرنا للقائه لهفة، نحن أمة مستقرة ثابتة عاملة منذ آلااف السنين، لا نتخلى عن متنزهاتنا أو أشجارنا أو مقالعنا ، ولا عن بحرنا وجبالنا وسهولنا، فصحارينا نحبها كما سهولنا، ومياه بحرنا المالحة مثل أنهارنا وجداولنا العذبة، ونحب بعضنا وأهلنا وجيراننا، وعندما تحين لحظة الحقيقة تجدنا في الصفوف الأمامية للذود عنها كما نفعل الآن.

وكما ذكرت لك قمنا بنشر التفاؤل ورسمنا اللوحات بكل الألوان، وصار اللون الأسود مثل أي لون آخر لا ميزة له، وزرعنا ما أستطعنا من ورود، وصارت، من جديد، وردة شقائق النعمان بلونه الأحمر تملأ الحقول، وكذلك النرجس والسوسن وعصاة الراعي والأقحوان والطيّون والجوري والزعفران والزنبق، حتى ملأنا السهول ألواناً وعطراً، وصرنا نؤلف النكات ونكتب المسرح البيتي والأدب الساخر، وكتبنا الرواية والمقال والقصة الطويلة والقصيرة، وجمعنا شعرنا وزجلنا، وثقناه وكتبناه، كذلك ووثقنا أهازيجنا وتراثنا وقصصنا الشعبية وحكاياتنا، كما وثقنا جرائمهم وقتلهم اليومي “لأمة بني حسون”، وأساليبهم الخادعة المخادعة في تحقيقات زنازين سجونهم مع شباب الحساسين، وكذلك استخدمنا الحيوان في أدبنا كي نضللهم أكبر قدر ممكن.

لكن كما هناك حساسين تقدم دماءها من أجل قضيتها وانعتاق حساسينها، فهناك يابني أيضا حساسين تبيع قضيتها ودماء حساسينها، والفرق بينهما هو ما يحمله الصف الأول من عزة وكرامة يفتقدها الصف الثاني، ورغم أن الصف الآخر يمكن أن يخدعك حيناً لكنه لن يستطيع خداعك طيلة الأوقات جميعها، لذلك عملت عيون الغربان والبوم وتابعيهم من ببغاوات وحساسين خائنة، في الرقابة ومتابعة من يقوم بنشر ثقافة الحياة على ثقافة الموت ويُفشل مخططاتهم، واستطاعوا كشف أبوك وكشفي، ولحسن حظنا كنا حريصين في حركة طيراننا، نحوم لنكتشف آلية الحركة على أبواب عشنا، وصرنا نُموه أشكالنا والواننا، ولا نجلس في مكان واحد أكثر مما يجب، كما أكثرنا من المبيت بعيداً عن عشنا، وأصبحت حركتنا للضرورات، وصار جل إهتمامنا بإستمرار مواجهة كل أعداء بني حسون، وصار عملنا سري وبعيد عن الأعين الخائنة، حتى أن أخوتك الصغار أودعناهم لدى أجدادك حتى يكتمل نموهم وتقسى ريشات أجنحتهم، لتستطيع حملهم فوق موجات الهواء.

وسكتت الحسون الأم قليلاً، وطارت من مكانها إلى قضيب حديدي من قضبان سجنهم، وكأنها ملت وقوفها في ذات المكان، وأكملت من جديد:

ـ كنا حريصين على التمويه عند الإقتراب من عُشّنا كما شرحت لك، وذات يومٍ، والمساء قد دلق ظلمته فوق الأشجار، لم نستطع أن ندقق كما العادة، لكن هاجساً قد تملكني في تلك اللحظات، هاجس يكاد يحملني ويرمي بي خارج العش، وللأنثى حواسها التي لا تُخطئ أبداً، قد تضل أحياناً، أو تنحرف، لكنها لا تخطئ، قلت لأبيك:

ـ أنا غير مرتاحة لهذه الليلة، قلبي يقبضني وكأنني على مرجل يغلي، ينقبض وينفرج ويدق بعنف متوتر غاضب.      وقمت واقفة معلقة جناحي اليمين على ريشات جناحه الشمال، وكنا لا نترك ما يُثير الشكوك في أماكن تواجدنا المكشوفة، بما في ذلك عشنا نفسه، الأمر الذي سرع في حركتنا، وكمنا لرقابة ما حول العش قبل خروجنا، ثم تقافزنا من باب سري خلفي للعش، كنا قد فتحناه لظروف الطوارئ،  على غصن قريب، وتوقفنا من جديد، ثم قفزنا حول عش لزوج حساسين هرم كان على مسافة أمتار من مكاننا الأول، وتقافزنا إلى شجرة أخرى وثالثة ورابعة، واعتلينا قمة الشجرة الكثيفة، بحيث لا يهرب عشنا من بيابي عيوننا، وما هي إلّا لحظات، حتى كان العش محاصراً من كل الجوانب، وأنوار صفراء تغطي الشجرة برمتها، وغرابين وأربع بومات يداهمون العش ويقتحمونه، يحطمون جدران العش، ينزعون بابه ويلقون به الى أسفل الشجرة، ثم ينتزعون كامل فراشه ويمزقونه، بقدر الحقد الذي كان يملأُ قلوبهم، وانتهت المداهمة، أو كما قال الشاعر “أحمد فؤاد نجم”  “وانتهى التفتيش مفيش”، ورأينا طائر البوم وطائر غراب يتركون البقية، ثم يركبون موجة هواء ويتوجهان لشجرة قريبة، يلتقط كل منهما جناحاً لطائر حسون خائن دلهم على “عشنا”، القيا به في عشنا سائلين:

ـ لقد أكدت لنا مجيئهما ووجودهما، أيمكن أن تخبرنا أين هم؟

فقال وريشات ذيله الطويل ترتعش، ووسط حالة من الذهول والإستغراب والخوف:

ـ أقسم أنني رأيتهما هنا ولم تفارق عيني العش أبداً…

ـ ماذا قلتً؟ أتقسم؟!!! أنسيت أيها الوغد أننا من علمناكم الضحك على ذقون الأغبياء من بوابة الدين؟ أم أنك صدقت الكذب وآمنت به؟!!! حسابك ليس الآن على أية حال أيها التافه…

ونقراه عدة نقرات في جناحيه وظهره، وأمرا حراستهما بأن يسجنوه شهراً عقاباً له، ليتعلم كيف يكون دقيقاً ومعلوماته أكيدة.

ومنذ تلك اللحظة أصبحنا نتعامل مع أنفسنا كمطاردين رسمياً، وما عدنا ننام في العش الذي بنيناه بأيدينا، وصارت حياتنا أصعب وأصعب، لكن عزاءنا أننا نعمل من أجل معشر الحساسين.

لكن مثل هذا العمل يتطلب الحركة، وكلما زادت الحركة زادت الأخطار، وقررنا سوياً عدم السكون، والغوص في البحر حتى بره الآمن، لأن:

“مَنْ لا يُحب صعود الجبال       يعش أبد الدهر بين الحفر”

ونحن سنصعد الجبال مهما كان إرتفاعها وعلوها، حتى لو تقطعت أجنحتنا وتمزقت ريشاتنا، سنصعد الجبال ونصعد ونصعد، ولن نظل في الأودية الواطئة وحفرها، تحت أقدام الطيور الخائنة الخائبة، ولا الحيوانات الضالة التائهة.

ـ 3 ـ

ـ  لكن، إن كنت تريد أن تكون متفرجاً، فعليك أن تُهيء نفسك لتدفع الثمن، فالحياد في زمن الشدة جبن، والتفرج على الدماء النازفة، جريمة، ورؤية الوطن يتحطم أمام عينيك، وأنت تتشبث بالذرائع ولا تفعل شيئاً، خيانة، ونحن لم  نكن يوماً جبناء أو مجرمين أو خونة، صحيح أن ما فعلناه بالمقارنة مع من قدموا الدماء بسيط وقليل، لكن “الصرارة تسند الصخرة” يابُني أيضاً.

قالت الحسون الأم شارحة لإبنها، وكأنها حفظت قصيدة عن ظهر قلب، وتلقيها متخلصة من عبئ ثقيلٍ ظلت تحمله منذ سنوات وسنوات، وتابعت من جديد:

ـ إستمر حالنا كمطاردين سنوات، الأمر الذي جعلنا نعتاد الأمر رغم صعوبته، لكن كما قالوا “مَنْ لا يعمل لا يُخطئ”، وكان خطؤنا سبباً في وضعنا الذي تراه الآن، حيث عملنا مع الكثير من الحساسين في مرحلة المطاردة، وكانت مهمة بعضهم تأمين الملاذ الآمن لنا لنستطيع الإستمرار في عطائنا، ولم نكن نعرف الكثير عمّن يعمل معنا غير أنهم مؤتمنون، وكان آخرهم حسوناً يمتاز بالصوت العالي، تراه يسبح في الفضاء مثل صقر، غناؤه ذكرنا بالأيام الخوالي التي تميزت بالأهازيج الشعبية والمواويل، وكان يبدو أنه من أشد الحساسين تحمساً للعمل، لكنه لا يريد العمل إلّا في أصعب الأعمال، نقل السهام المصنوعة من أغصان الزيتون وحجارة المقاليع، الأمر الذي جعلنا نتأنى كوننا لا نعرفه كما ينبغي، أو كوننا لا نعرف عنه لكثير، وبدأنا نستفسر من الذين بعثوا به لمساعدتنا، لكنهم لم يكونوا يعرفون عنه أكثر مما نعرف، فآثرنا التريث والتروي، وصرنا نسوق الحجج كي نحجب عنه الرؤى، ونبعده عن مكامن أسرارنا، ولما يأس من الأمر ومنا، واعتقد أننا لا نعرف شيئاً عما يريد، لجأ للخيار الآخر.

جاْءنا يوماً مع بدايات الظلام، على ورقة شجرة خروب تحاذي كرم زيتون، قريباً من مكان إعتاد رؤيتنا به، وعلى غير العادة تأخرنا قليلاً قبل أن نغادر إلى المبيت، كان يلهث لهاثاً متعباً وكأن أحداً كان يطارده، ولحظنا قدومه في غير موعد أو إتفاق، فقررنا المبيت في بطن الجبل على أن نذهب لبيتنا السري، وازدادت شكوكنا وقررنا الحذر أكثر، لكنه فاجأنا وقال:

ـ هيا أيها الحسونين بسرعة، حلّت ساعة الرحيل، يبدو أن مكانكما هذا قد تسللت أخباره وانكشف أمره، ووجودكما هنا حتى لساعات مملوءة بالخطر، ولقد أمّنت لكم مرقداً جديداً أكثر سرية وأماناً.

وفكرنا بسرعة تليق بلحظتنا تلك، وقدّرنا، إن كان “عميلاً” لقبائل البوم والغربان، فلا فائدة من الهروب من المكان في تلك اللحظة، فربما يكونون مختفين في أي مكان، وسيلقون القبض علينا، وإن لم يكن، فلن يضرنا إتباعه، وإتخذنا قرارنا بسرعة، ورأينا أن إتباعه أقل خطورة من أي شيء آخر، فعلى الأقل لن نكشف أي من أسرارنا لأحد؟ وركب موجات الهواء أمامنا، وكان ظلام الليل قد بدأ يسكب نفسه فوق الأشجار وفي الفضاء، وصارت عيوننا تعجز عن رؤية الأشياء، وسرعان ما حط بجانب حوض ماء ليشرب ونرتاح قليلاً، قبل أن نُكمل طيراننا وتحملنا أجنحتنا إلى المجهول، وما أن حطت أرجلنا على الأرض، وقبل أن تهدأ أجنحتنا عن الحركة، كانت شباكهم قد إنقضت علينا تعصر أجسادنا، ووجدنا أنفسنا بين أيدي البوم والغربان، تُكتفنا حبائل مصائدهم، وتعتصر عظامنا وريشاتنا بقوة، وكان هو خارج الشِباك، ينظر إلينا ويضحك، ويشير إلينا ويخاطب غراباً قائلاً:

ـ إنهما في حوزتكم الآن، إعرفوا منهما ما عجزت عنه أنا… وذهب.

وأدركنا في تلك اللحظة بالذات، أننا كنا ضحية “عصفور” خائن أحمق، باع نفسه بثمنٍ بخس، ومن يضع ثمناً لنفسه يابني، وبغض النظر عن هذا الثمن، لا يمكنك الوثوق به، لأنه ببساطة يكون قد غادر طبائع الحساسين وتاريخها وموروثها.

إبتدأ التحقيق معنا من المكان الذي كان يريد معرفته “العصفور المُغيث”، عن سهام الحساسين وحجارة المقالع، عن الحساسين الأشداء الذين يستخدمونها، أين هم ومن هم، من يصنع ومن ينقل ومن يُدرِّب؟ وكانت زنازين أقفاصهم قبراً لم نعتقد يوماً أننا سنخرج منها أحياء أبداً، كان الموت المتربص معلقاً على كامل جدران الزنزانة، يهاجمنا مع كل غرزة مخلب حاد أو طعنة منقار معكوف، مع غياب وعينا المتكرر جراء شراسة التعذيب، مع دمائنا النازفة وريشنا المنتوف، هل رأيت يوماً حسونين عاريين من ريشهما؟!! هكذا كنا نحن الإثنان، مقتلعي الريش والأظافر، على حافة الموت، وما أن نفتح أعيننا حتى يختفي الموت من جديد، وما أن يختفي في زاوية الزنزانة حتى يظهر من جديد، وظل على حاله متربصاً طيلة شهور، لكنه غادر بعدها هارباً مهزوماً، أمام رؤيته تدفق نبع الحياة المتواصل من إرادة أجسامنا الهزيلة الضعيفة، تلك الإرادة التي لم تستعصِ على الموت فقط، بل هزمته أيضاً.

كان تعذيبهم أصعب من الموت وأقسى، كم تمنينا الموت ولم نجده، كانوا يوصلوننا إلى حافة الموت ثم يسحبوننا من بين مخالبه، فالميت لا يتحدث ولا يكشف أسراراً، هكذا كانوا يقولون، لهذا لم يقتلوننا، فمن الطبيعي أن يعتقدوا ذلك، بعكسنا نحن، فنحن نعتقد أن الحسون الحي فقط هو من لا يتحدث، يسكت في وقت السكوت، يحافظ على أسرار وطنه ولا يكشفها، مهما عذبوه ونتّفوا ريشه وأدموا جلده أو كسروا عظمه، وأن الإنتصار عليهم واجب بالحياة أولاً، وإن تعذر ذلك، فبالموت.

إنتهى التحقيق بعد شهور، وأمام سكوتنا المنتصر، صار لزاماً عليهم إختراع تهمة ما ليدخلوننا السجن بقرار من محاكمهم الصورية، فوجهوا لنا تهمة أكل اللحم، وتهمة أكل اللحم من قبل الحساسين تهمة يعاقب عليها قانون البوم والغربان، ونحن كما تعلم لا نأكل اللحم ولا ننوي ذلك، وأضافوا لها تهمتين سنظل نمارسهما مهما طال الزمن أم قصر، حيازتنا لريشنا الملوّن غير المصبوغ بالسواد الليلي، وتهمة الغناء والصدح والتغريد المتواصل الداعي للتفاؤل، ومثل هذه التهم تُغيبك في سجونهم سنوات وسنوات.

تناول الحسون الأب، مجدداً، الحديث من منقار زوجته، واستمر في الحديث وكأنهما قد حضرا لأمر سرد حكايتهما منذ زمن، وقال:

ـ مرت على قصتنا هذه سنين، لم نعد نعرف لها عددا، وحركة حساسيننا التي لعبنا دوراً وساهمنا في وقوفها على ساقيها، قد اشتد عودها، وصارت تُرعب البوم والغربان، وإن كان بعض حساسيننا يصادقون هؤلاء الأعداء، ويسامحونهم في دماء حساسيننا، كما ويطاردون معهم شباب الحساسين، ويحاولون إسكات تغريداتهم، لكنهم لن ينجحوا ما دامت الحساسين تبيض وتفقص وتربي أجيال الحساسين على العزة والكرامة، وها هي أمك أمامك مثالاً، فنحن الحساسين كما البلابل” لا نحوك عشاً داخل القفص، كي لا نورثه العبودية”، فإن أمك حافظت على حمل البيضة التي أفقستك، من الخارج، من عشنا في زمن المطاردة، حافظت عليها لتتحدى موتهم بالحياة التي وهبتها لك، رغم كل محاولاتهم لقتل الحياة فينا وفيك.

سكت قليلاً، وتلفت حواليه محركاً رأسه في كل الإتجاهات، وعينيه تحاول إلتقاط أي تغيير في حركة حراس البوم والغربان، ونظر إلى زوجته نظرة فهمت منها أن تتابع اليقظة أكثر من المعتاد، وأكمل:

ـ إنك يابني ما تزال تسير في أزقة مراهقتك، وقريباً ستطير في فضاءات شبابك وطرقاته، وما زال أمامك الكثير لتصل عتبات الشيخوخة التي وصلناها نحن، وعليك أن تدرك، أن الحياة ليست بطول السنين، بل بعدد البصمات التي تتركها فيها، فإما أن تعيش كما يتوجب العيش، برأس شامخة في السماء، أو تموت كما يتوجب الموت، وتظل بموتك حياً، أو أن تمر من الحياة خاضعاً ذليلاً دون أن يشعر بك أو يحس أحداً…واعلم أن الحساسين مثل البلابل، “لا تصدح إلا خارج القفص”.

بدأ الحسون الأب يتحدث خافضاً صوته وكأنه يخاف أن يسمعه أحد، واقترب من أذني إبنه وتابع الحديث:

ـ ستخرج من هنا هذا المساء، ستذهب إلى هذا العنوان، يجب أن تحفظ العنوان عن ظهر قلب، وأن تُحلق بحذر، فعيون البوم كما القطط، ترى أفضل في الظلام، في هذه الليلة عليك أن تُثبت أنك حسون من ظهر حسون، وأنك تنتمي لأمة الحساسين وليس الببغاوات، عليك الوصول لشجرة الصبار على ضفاف المدينة، ومن هناك ستأتي لتوصلك ،البلابل واليمام، الى حيث يجب أن تصل.

ـ لكنني لا أعرف الطيران يا أبي…

ـ ماذا؟ لا تعرف الطيران؟!!! وهل هناك طائر لا يعرف الطيران؟!!! أهناك سمكة لا تعرف العوم؟!!! الأمر ببساطة شديدة أن ترمي نفسك في بحر الهواء، أن تركب موجاته، وستجد نفسك لا تريد النزول…

فقالت أمه بعد أن اقتربت بدورها من أذنه الأخرى:

ـ وإياك بعد وصولك إلى بر الأمان أن تكف لحظة عن التغريد…

اقترب الليل، وكانت بقايا النهار تنسحب من أمامه بتراجع مدروس، وسارت أمه أمامه خطوتين وقفزة، أزاحت بعض الريشات اللواتي كن يُغطين زاوية القفص المثبت بقوة في حائط السجن، وكان الحائط يحاذي واد سحيق، وكانت الحسون الأم وزوجها قدحفرا حديد القفص على مدار سنوات بمنقاريهما الأعزلين الضعيفين، كما حفرا الحائط فاتحين خندقاً يوصل إلى أطراف باب الحرية.

ـ 4 ـ

كانت الأضواء الصفراء، قبل لحظات، قد أضاءت القفص، وانتهى غراب وبومة، كالعادة، من العدد داخل القفص كما في كل ليلة، ومباشرة أزاحت الحسون الأم الريشات عن الحفرة، دخلت أمام إبنها قبل أن يعيد زوجها الريشات وكأنهن بقايا ريش كبر وضعفت أوصاله فتساقط، ويراقب المكان خوف إنكشاف سرهما الذي بنياه على إمتداد سنوات من الصبر، ومشت أمام إبنها زاحفة، حتى أوصلته الى نهاية النفق ، إحتضنته، فرجاها أن يأتيان معه، فأخبرته قائلة:

ـ هروبنا جميعاً مستحيل، سيكتشفون أمرنا بعد دقائق، وسيرجعوننا قبل أن نصل إلى أي مكان، فأنت تعرف أنهم يظلون طوال الليل يضيئون الأقفاص ليتأكدوا أن أحداً لم يفر، أما أنت فيمكنك ذلك، وسنحاول التمويه على وجودك بريشنا الذي نتفناه خصيصاً لهذا الأمر، الآن هي اللحظة المناسبة، قبل تغيير الحراسة، فالغراب عدا عن تعبه المتراكم، فعيناه لا تساعداه على الرؤيا في مثل هذا الوقت، وعليك التحرك قبل إستلام البوم حراسته الليلية، هيا تحرك…

وكررت على مسامعه، وكأنها توصيه بأهم أمر في حياة الحساسين:

ـ بعد وصولك لبر الأمان، إياك أن تُغير لون ريشك، أو أن تكف عن التغريد…

وقذفت به على موجه هواء كان يحملها معه النهار المنسحب، ليصل هناك بعيدا، إلى مكان رفاقه وأخوته الحساسين، إلى بر الأمان، مع خيوط فجر النهار القادم….

محمد النجار

أصابع الببو ياخيار

ما زالت تدق تلافيف رأسي بقوة، كلمات أمي وزوجتي حتى هذه اللحظات، وهذا الهجوم علي وكأنني لا أعني لهما شيئاً، وما يربكني أكثر اتحادهما ضدي في الفترة الأخيرة، فما أن أفتح فمي متحدثاً أو معلقاً في أمور السياسة وشؤونها حتى تنقضّان على عقلي، مشككتان في أهليته، رغم أنهما تعرفان جيداً أنني أنهيت دراستي الجامعية، رغم أنني أبيع بعض إنتاجهما من خضار حديقة بيتنا الريفي، على عربة في سوق المدينة، كوني لم أجد مكاناً أعمل به في شهادتي هذه، حتى أصبحت الشهادة تُستخدم كسلاح ضدي في بعض الأحيان، فتقول أمي مثلاً ” أحمد الله” أنهم لم يقبلوك حتى معلماً في مدارس أطفالنا، كي لا تسمم عقولهم بأفكارك هذه، فمثل أفكارك لا تنقصهم أبداً”.

ـ “أصابع الببو يا خيار”

ناديت لترويج ما لدي من خيار على عربتي، علّني أبيعها قبل العصر لأستطيع العودة في باص القرية مبكراً هذا النهار، وكلامهما ما زال يدق رأسي كمهدةٍ حديدية ضخمة، ينهال بها عامل قوي فوق سكة حديدية برتابة صلبة لا تنتهي، حتى وأنا أوزن للزبائن طلباتهم لم ينقطع هذا الطرق ولا هذا الرنين، لدرجة أن أرجع لي أحدهم مشكوراً بعض النقود التي أعطيتها له قائلاً لي منبهاً:

ـ إصحَ يا رجل لقد أعطيتني “كيس الخيار”، وأرجعت لي كل المبلغ كبقية لورقة “المية”، حدّ الله ما بيننا وبين الحرام.

كنا ننتظر خبراً عن ذكرى “منتصف أيار”، لنعرف أين سنتفاعل والآخرون بهذه الذكرى، فمنذ سنوات وزوجتي وأمي تشاركان في معظم المناسبات الوطنية ما أمكنهما ذلك، خاصة ذكرى النكبة منها على وجه التحديد، الذي تظل أمي تسأل عنها منذ مغادرتها حتى قدومها في العام الذي سوف يأتي.

وما أخذ يُزعجني في السنوات القليلة الماضية، أكثر من أي شيء، هذا الحلف الذي تشكل ضدي بين أمي وزوجتي، كما أنني لم أسمع بمثل هذا الحلف بين “الحماة وكنتها” إلّا في بيتي، وعلى من؟ على الإبن، أو الزوج، يعني علي أنا، أنا بالذات، ويتكرر الأمر كثيراً لأنني لا أعرف أن أغلق فمي عندما يقتضي الأمر ذلك، لأجد الهجوم أول ما أجده من أمي، التي تبدأ بالقول عند تعليقي الأول على حدث ما:

ـ  لو إنخرست لكان أفضل من أن تبول من فمك، ألم تتعلم بعد أن “السكوت لأمثالك من ذهب”؟

وكنت أقول من باب تكملة الحكمة الشعبية:

ـ نعم و”الكلام من فضة”.

لكنها قالت معلقة:

ـ “بل من تنك صدئ”، لو كان من فضة أو حتى من نحاس لما علقت.

وتكمل زوجتي معلقة في ثنائية عجيبة:

ـ “إذا بُليتم فاستتروا”.

بدأ الأمر كله منذ بضع ليال، عندما رأيت “المناضل الكبير”، كبير المفاوضين الفلسطينيين، وأمين سر منظمة التحرير، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والله وحده يعلم كم من المواقع والمراكز يحتلها أيضاً، وهذا دليل ذكاء وقدرة وعطاء، ولعله شرف كبير لأي كان أن يحتل هذه المواقع، أقول أنني مجرد أن رأيته إنتابني شعور فُجائي بضرورة القيام لتوي والصلاة “ركعتين وربما ثلاثاً” لله عز وجل، على مِنته ونعمته علينا بمثل هذه القيادات، وقلت عندما رأيته بوجهه ” المِسْمَرّ” من أشعة الشمس كوجهي :

ـ وجه المسكين محروق من الفِلاحة…

نظرت أمي الى زوجتي، وأزاحت وجهها كي لا تراني، وعلقت زوجتي:

ـ مثله لا يعرفون فلاحتنا نحن، يعرفون الفلاحة في الشعب، قل ربما من شواطئ بحر تل الربيع…

كنت أنظر إليها وأفكر بصوت مسموع، وكلمات تفكيري تندلق في آذانهما ككتل من رصاص مغلي ذائب لا أعرف له سبباً، قلت عندما رأيته يمرر يديه أو إحداها فوق رأسه، ويضغط معتصراً أفكاره:

ـ كم هو عميق التفكير!، فعلاً كما يقولون أن الرأس كثيف الشعر أو  الرأس الصلعاء من علائم الذكاء، أنظرن إليه بربكن كيف يحاول إعتصار الكلمات من رأسه، حتي ليبدو لمن لا يعرفه، أنه “يستخسر” الكلمات فينا نحن الشعب،  الذين لا نستطيع فهم الأمور على حقيقتها، كوننا لا نفهم كل شيء.

وأنهيت عبارتي لا أعرف لماذا بالقول:

ـ وأكثر ما يعجيني بهذه القيادة شيئين إثنين، وأشرت بإصبعي موضحاً وأكملت، الوعي بالقضية الوطنية، ونظافة اليد…

ويا ليتني لم أقل ما قلت، فسرعان ما قالت أمي بكلمات مستهزئة قاسية:

ـ صدقت، إن كل ما نراه من فلل وعمارات وسيارات وعقارات من معاشهم الشهري فقط…

وصرخت كأن نكبة جديدة اغرقت رأسها من كلملتي:

ـ متى ستتعلم أيها الدابة أن تستخدم رأسك؟ والله أحياناً أفكر أن خلفة أمثالك ما هي إلا إمتحان من رب العالمين وإختبار لصبرنا.

فقلت محتجاً:

ـ أرجوكِ يا أمي أخفضي صوتك، نحن في الليل و”الصوت يُجيب”، ولا أريد أن يسمعنا الجيران.

التقطت زوجتي الكلمات مانعة مماحكتي لأمي من الإستمرار، وقالت بدورها مستهزئة، منادية أمي كما كانت تناديها دوماً منذ بداية زواجنا:

ـ نعم يا “أمي”، كل ما ذكرت من معاشهم فقط…

وكدت للحظات أظن أنها واقفة في صفي، لكن كلماتها لطمتني كحذاء على رأسي، الذي ظلت تدور به الأفكار قبل أن تتشتت وتتفرق، مثل سحابات متقطعة في يوم صيفي عابر، وتابعت:

ـ هذه القيادة يا “أمي” لم تساوم على وطن، ولم تتنازل عن شبر منه، ولم تحوّل ما تبقى منه لتجارة رابحة لها، فلم تُبدل أراضٍ من مناطق c بمناطق من  b ولا من b بمناطق من a، بصفقات مشبوهة مع الإحتلال، لتجني من خلفها الملايين، ولم تقيم الشركات لها ولأولادها لنهب المال العام، ولم تسرق أموال الشعب، وتفاجئنا كل يوم بمحاسبة الفاسدين والمُفسِدين ولصوص المال العام، وبإعتقال العملاء والخونة وسجنهم وإفشال مخططاتهم، وهي لم تعتقل مناضلاً ولم تستهدف مواطناً، لم تختطف طالباً ولم تقمع رأياً ولم توقف عملية فدائية، كما أنها و”الحمد لله” لم تلحس حذاء أمير أو ملك أو رئيس، ولم تبع موقف لأحد، ولديها القرار الفلسطيني المستقل مستقل فعلاً وقولاً، وهي يا “أمي”قيادة جماعية، قراراتها بالإجماع ومؤسساتها تعمل بفعالية، وتنفيذ مهام مؤسساتها لم تنقطع يوماً، الأمر الذي أبقى البنادق موجهة للإحتلال وليس لصدر الشعب. وفوق ذلك كله، ومهما بحثت، فلن تجدي لهم أرصدة في البنوك الغربية ولا العربية ولا المحلية، لا بالملايين ولا حتى بمليون واحد، دليل على نظافة اليد كما أكد زوجي الحبيب!!!

سكتت قليلاً وتابعت وكأنها تحفظ قصيدة عن ظهر قلب:

ـ و”الحمد لله” أن زميلاً لهذا، “وأشارت بيدها الى القائد المناضل المفاوض على التلفاز”، المناضل العبقري الكبير عزام الأحدب أو الأحمق، فأنا لا أحفظ أسماءهم، كان قد أوضح لنا مُفسراً أيضاً، “أن إضراب المعلمين من أجل نيل حقوقهم، يمس بالأمن القومي الفلسطيني!!! “أرأيتِ يا “أمي” ؟ يخبرنا بما لم نكن نعلم، يخبرنا أن هناك أمن قومي فلسطيني، وأنا مثل الكثيرين كنت جاهلة بالأمر!!! كنت جاهلة أن هناك أمن قومي فلسطيني والبلد كله مستباح؟ أمن قومي والصهاينة يطاردون شبابنا ويقتلونهم كل يوم بدم بارد، أمن قومي وجنود الإحتلال يفتشون في غرف نوم هذه القيادة وفي سراويل نسائها؟!!! إضراب المعلمين هو ما يؤثر على الأمن القومي وليس التنسيق الأمني مثلاً، أرأيت؟ فلولا عبقريته في فن إدارة التفسير وطريقته ما كان لنا ، نحن الجهلاء،  أن نفهم الأمر على حقيقته، وكان التبس الأمر علينا وتهنا وأضعنا البوصلة مصدقين المعلمين لا سمح الله ولا قدر.      هؤلاء لا يرون فينا إلّا مجرد قطيع، يتحرك كما يريدون، يسمع ما يقولون، يفهم كما يشتهون ويصدق ما يكذبون.

في تلك اللحظة بالذات، كان المناضل المفاوض الكبير، يقول مفسراً التنسيق الأمني وماذا يعني، موضحاً لمن يريد أن يفهم، ودون أن يترك مجالاً لشك أو تحريف أو تدوير:

ـ التنسيق الأمني يعني أنه عندما يقتل “اسرائيلياً” زوجته، ويتخفى بين الناس في الضفة أو القطاع، ننسق معهم لإرجاعه.

فقلت فوراً في زهوٍ منتصر، موجهاً الكلام لأمي مهملاً زوجتي:

ـ أرأيتِ يا أمي؟

فقالت أمي مباشرة ودون تلعثم:

ـ ومنذ متى يحتمي الصهاينة بيننا يا غبي؟ وهل مثل هذا الأمر إن حصل يحتاج لتنسيق أمني؟ ألهذا يصر الرئيس على أن التنسيق الأمني مقدساً؟ وتصر أمريكا و”إسرائيل” على إستمراره؟ إلى متى سيبقى عقلك مُعطلاً يا ولد؟

ورغم أنني لم أقتنع بكلمة من كلماتهن، إلّا أنني فضلت أن لا أعلق على كل ما يقوله المناضل المفاوض الكبير، كي لا أستمع لمزيد من التوبيخ والإستهزاء منهما، لذلك لم أعلق بأكثر من ابتسامة غامضة عندما فسر لنا كلمات الرئيس، وفي أي إطار كانت، عندما قال أنه يبعث الأمن الفلسطيني ليفتش حقائب طلبة المدارس بحثاً عن سكاكين، لكن زوجتي التي تزداد تطرفاً يوماً بعد آخر مدعومة من تشجيع أمي قالت:

ـ ومنذ متى يحمل أطفالنا السكاكين؟ أيريد رئيسك أن يحولنا إلى قطاع طرق لمجرد أن يُرضي أسياده الإسرائيليين؟!!! بدل أن يدافع عن “السكين” كوسيلة لرد الظلم ومقاومة المحتل، قي ظل غياب وسائل أخرى.

فقالت أمي جملة من جملها القصيرة الحادة:

ـ طبعاً، فالسلاح أرسلوه ليدمروا سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولم يبق شيء يرسلونه لفلسطين، يا حيف على هذه الأمة يا حيف.

لا أعرف ما الدي أصاب أمي بالضبط، فكل يوم تزداد إنتقاداً وحِدّة على قيادات فلسطين والعرب، لكنني يوم عزاء الشهيد أمجد الذي إغتالوه واقفاً على باب داره برصاصة قناص، قبل شهر من الآن، استمعت لحديث الدكتور خالد، الذي فسر الأمر قائلاً :

ـ أن أمهاتنا وآباءنا بعد أن مر الزمن وهم ينتظرون العودة مُصدقين وعود الأنظمة، سرعان ما تهاوى شبابهم واندثر وهم يأملون خيراً في القيادة الفلسطينية بعدهم، ورأوا أنفسهم يتدثرون في أحضان شيخوخة بائسة، غير قادرة لحملهم لأي شاطئ آمن في بلادهم، التي يرونها بعيونهم المجردة، ولا يبتعدون عنها سوى بضعة كيلومترات، وبعد ما رأوا من تهاون القيادات وتفريطها بالقضية، أخذوا يزدادون ميلاً للمواقف الجذرية الحاسمة، في محاولة للإستفادة من تجربتهم المرة مع المحتل، وفي نفس الوقت لتقريب حظهم في الرجوع والعودة، فهم أكثر من يدرك أن عودتهم مرهونة بصلابة أولادهم، فصاروا يزدادون صلابة خاصة وأنه لم يبق من العمر بقية، وحلمهم بالعودة يدق بعنف تلافيف أدمغتهم…

ورغم أنني لا أتفق مع هذا التفسير الذي يحاول المس بقيادتنا، إلا أن بعضه، خاصة ما يخص أمي على وجه الدقة، صحيحاً، لكن زوجتي وكرهها أو حقدها أو على أقل تقدير عدم إحترامها لهذه القيادة، شيء لم أفهمه ولن أفهمه أبداً.

وسرعان ما أخذ “المناضل المفاوض”، يُدافع عن الرئيس المصري، معيداً كلماته بأن “فلسطين في سلم أولوياته”، فثارت أمي قائلة:

ـ طبعاً، فهو منكم وإليكم، وإلّا لما أغرق أنفاق غزة بمياه البحر، ومنع الطعام عن الغزيين والذي يشترونه بأموالهم، ويغلق المعبر الوحيد أمام الجرحى والمرضى والطلاب والأقارب، حتى لا أقول السلاح الذي كان يجب تقديمه بكل الطرق للغزيين، ليدافعوا به عن الأمة العربية وأولها مصر قبل فلسطين…

فقالت زوجتي بإبتسامة حزينة:

ـ مادامت مصر لم تكن يوماً أولوية لديه هل ستكون فلسطين كذلك؟ من يُهدي الجزر المصرية لآل سعود، ويبقي على أبواب مصر مفتوحة للنهب الأمريكي الإسرائيلي، ويعتقل عشرات الآلاف من شباب الثورة الذين أوصلوه لسدة الحكم، وزاد الجهل جهلاً وعمّق الأمية ورفع نسبتها، ورفع الأسعار وزاد نسبة الدين العام، ورفع الدعم عن المواد الرئيسية، ولم يبنِ مصنعاً أو يدافع عن ماء نيله ضد المشروع الإثيوبي الإسرائيلي، وكمم الأفواه ومنع التظاهر، أتريد من مثل هؤلاء أن يدافعوا عن فلسطين؟!!!

فقالت أمي معلقة من جديد، وكأنهما يعزفان لحناً واحداً ألّفتاه سوياً:

ـ يا طالب الدبس من طيز النمس!!!

فقلت بغباء لكن بحسم واضح:

ـ الرئيس إن قال فهو لا يكذب

فقالت زوجتي بطريقة حاسمة لا تقبل التأويل:

ـ لا يوجد رئيس لا يكذب

فقلت سائلاً بسذاجة طفل، لا أعرف كيف أو لماذا:

ـ والملوك أيضاً؟!!

فردت أمي هذه المرة قائلة:

ـ الملوك والأمراء أبداً لا يَصْدُقون…

ظل “المناضل المفاوض” يلوك كلماته وسط تعليقات أمي وزوجتي، وكلما كان ينطق بشيء لا يعجبهن كن يعلقن عليه بتكامل غريب، وكان حديثه وكأنه مفصل ليستطعن التعليق عليه، خاصة عندما بدأ بالدفاع عن آل سعود كما تسميهم زوجتي، “بأنهم لم ولن يتآمروا على قضية فلسطين”، ودون أن أنبس ببنت شفة قالت زوجتي معلقة:

ـ هؤلاء إما جهلة لم يقرأوا التاريخ يوماً، وإما أعمتهم أموال آل سعود ويكذبون بالمجان، ألم يقرأ  هذا كيف تبرع ملوك آل سعود بفلسطين “للمساكين اليهود” كما وصفوهم؟ ألم يقرأوا كيف تآمروا وتحالفوا مع شاه إيران “حيث إيران لم تكن شيعية في ذلك الوقت!” على عبد الناصر وثورته ومشروعه العروبي؟ وكذلك على نظام الجمهورية في اليمن؟ ألم يستدعوا ويطلبوا برسائل واضحة تدمير الدولة المصرية وهزيمة ناصر بهجوم اسرائيلي وإلاّ فالمخاطر كبيرة على نظام العائلة بأكمله، قبل شهور من حرب الخامس من حزيران 1967؟ وإن كان هذا من الماضي فماذا عن لقاءات مخابرات البلدين الدائم؟ وماذا عن لقاءات الأمراء مع “موسادهم” والتنسيق المشترك؟ وهل فعلاً لم يسمع عن لقاءات الأمراء مع الصهاينةفي الأردن؟ وزيارات بعض وزراء آل سعود للقدس المحتلة نفسها؟ أم كل ذلك لجس نبض المحتل ليعرف آل سعود كيف يحاربونه؟!!!

وضحكت بألم قلّما رأيته عل صفحة وجهها وتابعت بجديتها نفسها:

ـ هؤلاء يعلمون أن مستقبل عائلتهم معلق في أيدي “أمريكا وربيبتها اسرائيل”، والأخيرة هي الأقرب الآن بعد  ما يجري من تدمير للأوطان، لذلك كل هذا التحالف الذي أصبح علنياً الآن ولا يريدنا أن نراه صاحبك القائد.

فقالت أمي رادة على كل أسئلة زوجتي دفعة واحدة:

ـ إنه ثمن المال المدفوع يا بنيتي، والمال إن دخل ثورة أفسدها، أغنى قادتها وأذل شعبها وأضاع قضيته، لهذا بالضبط يابنيتي، نحن على ما نحن عليه من وهن وتبعية وخنوع، وحزب الله على ما هو عليه من عزة وعنفوان وصلابة، رغم أننا سبقناه بعدة عقود بحمل السلاح، لكننا أضعنا إتجاه البوصلة، أو غيرنا إتجاهها بثمن بخس.

كنت أحاول الإبتسام على كلام زوجتي قبل أن تبدأ والدتي حديثها، لكن كلماتها الجافة مزقت محاولات ابتسامتي الفاشلة ورمتها بعيداً خلف جدران الغرفة، كل ذلك و”القائد المناضل المفاوض”، ما زال يتحدث شارحاً تأييده للمبادرة الفرنسية التي لا يعرف نقاطها كما قال، كون القيادة ملّت من التفاوض مع “اسرائيل”، التي لا تفاوض بل تُملي شروطاً كما أكد، وهنا قالتا الإثنتان دفعة واحدة وبنفس الكلمات:

ـ إذن لماذا ما زلتم تتمسكون بالتفاوض كطريق وحيد أيها الأنذال؟

وأكملت زوجتي، وكأنها لا تريد أن تترك شيئاً من الحديث يفوتها التعليق عليه:

ـ إنهم يوافقون على مبادرة لا يعرفون مضمونها كما يدعون، ورغم رفض أغلبية الفصائل الوطنية والإسلامية، إلّا أنهم يعطون لأنفسهم الحق في الموافقة والمشاركة!!! من هم ليفعلوا ذلك؟ من أعطاهم الحق بتمثيل الأرض والعباد؟

فقلت صارخاً بزوجتي بعد أن “بلغ السيل الزبى”، ولم أعد احتمل كل هذا القدح والذم الذي تسيله فوق رؤوس القيادة:                                                                                                                               ـ كفى… لماذا لا تغلقين فمك هذا الذي لم يكف عن الحديث الهدّام؟!!!

وما فاجأني رد أمي التي علا صوتها صوتي قائلة:

ـ لأننا نتحدث عن وطن وعن قضية… نتحدث عن شيء ليس من حق أي كان التفريط به أو التسامح فيه… أفهمت أم علي إفهامك بطريقة أخرى…

كانت ربما المرة الأولى التي تخاطبني بها والدتي بهذه القسوة منذ فترة مراهقتي، وربما طفولتي أيضاً، وما كان مني أن انسحبت بهدوء غاضب لف جسدي كله، اتجهت لغرفة نومي، ودفنت رأسي في ظلام فراشي، وحيداً، طردت أحلامي واستسلمت للنعاس.

استيقظت مع الفجر، حملت صناديق “الخيار”إلى مؤخرة الباص المتوجه للمدينة، وأخذت عربتي ذو العجلات الثلاث، من مكانها الذي أؤمنها كل يوم فيه، أفرغت صناديق الخيار فوقها، ثم أخذت أرتبه حتى جعلته هرماً جميلاً يشد الإنتباه، مع شروق شمس الصباح كنت أنادي عل بضاعتي، “خيــــــــــــــــــــــــــــار… أصابع الببو ياخيـــــــــــــــــــار، أصابع الببو ياخيــــــــــــــــــــار”، وهجم الناس يشترون كما لم يفعلوا يوماً من قبل، فعرفت حينها أن أمي رغم غضبها مني ومن غبائي أحياناً كما تقول، إلّا أنها رضيت علي وعني، ولم تبخل علي بدعواتها بعد صلوات الفجر التي لم تهملها يوماً.

ومع الضحى، امتلأت المدينة بالبشر حتى فاضت بهم، وبدأت تتشكل جماعات بشرية تهتف بحياة فلسطين، وبدأت “الإحتفالات” بيوم النكبة، وكنت أجر عربتي وأنادي ترويجاً لبضاعتي، وفجأة ودون سابق إنذار، داهمت الشرطة الفلسطينية المتجمهرين وعربتي فقلبتها، وانهار بقايا “هرم الخيار” الذي كنت حريصاً على بقائه ليجلب مزيداً من الزبائن، ووقع الميزان بأوزانه وكفتيه، وداست أقدامهم الخيار والميزان وطيق العربة الخشبي، ووقعت أنا بين يدي العربة، ودون تأخير حاولت إعادة عربتي، لكن أيادٍ قوية إنتزعتني، فصرخت”إنها عربتي، أنا بائع الخيار”، وهوت على رأسي هراوة لم أستطع تحديد ضاربها، وتهاويت حتى وقعت على وجهي مثل لوح خشبي، وللحظات لم أعد أرى، وأحسست فقط بلزوجة دافئة تتدفق من الجرح على وجهي ورقبتي، وبقايا كلمات آتية من مكان بعيد تصرخ بي” بائع خيار ياابن الكلب”، وأطل والدي ببارودته، شاباً قوياً لم يعرف الشيخوخة أبداً، تماماً كما صُورته التي أخفتها أمي ولم تُظهرها إلّا بعد استشهاده، والدي الذي استشهد بعد ولادتي بشهور عدة، ورفضت أمي الزواج بعده قائلة، “أنها لن تبدل ذكرياتها مع الشهيد بأي كان أو بأي شيء كان”، لهذا بقيت وحيدها، وكان شيء يصرخ في داخلي” أنا ابن الشهيد ولست ابن كلباً”، أنا ابن الشهيد بائع الخيار، وكان صوت يأتي من بعيد بعيد وكأنه من أعلى طبقات السلطة، من فوق، هناك من العمارة التي يعتليها رأس السلطة، يكرر “شهيد… بائع خيار… ابن كلب”، وعلى مجموعات من البشر بعيدة عن مدى سمعي، كانت تتفجر قنابل الغاز السام من جنود الإحتلال وكأنهم يساعدون شرطة السلطة للسيطرة على الأمور.

وصحوت وأنا في زنزانة في السجن، يقف على بابها شرطي ببارودة طويلة، قال زميلي الذي يبدوا عارفاً بأنواع السلاح، أن هذا النوع من البنادق لا يُطلق إلّا للخلف، ولمّا قرأ الغرابة فوق وجهي أضاف ” إن الخيل من خيّالها”، وكان هناك على أبواب المدينة ضابط عسكري يحمل على كتفه نجمة داوود، يخاطب ضابطاً فلسطينياً، ينسق معه أمنياً، تماماً كما شرح وفسّر “القائد المناضل المفاوض”، يطالبه أن يبحث له عن “يهودي قتل زوجته واختبأ بين أهل المدينة”، وكانت الهراوات ما تزال تدق عظام “المنكوبين” منذ ما يقرب من سبعة عقود في الخارج، والزنازين تمتلئ بالأجساد المنهكة، وكلمات أمي وزوجتي تتعالى وترتفع في أذني صارخة” إننا نتحدث عن وطن وعن قضية…ليس من حق أحد التفريط به… التفريط به…التفريط بــــــــــــــــــــــــــــــــــه”.

محمد النجار

ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا

من كان يعتقد أن السلطة ومؤسساتها يمكن أن تشكل حماية لشعب فلسطين كشعب أو كأشخاص، فقد خابت آماله وربما يكون قد فقد عقله، فهؤلاء وصلوا من الخساسة والمهانة والنذالة وفقدان الكرامة وعزة النفس والعهر السياسي والتبعية للإحتلال وأمريكا والصهاينة العرب الى درجة اللاعودة، ورغم أنني أو بالأصح لأنني فاقد الأمل منهم وبهم منذ سنوات، ورغم أنني مدرك أن “الضرب في الميت حرام”، إلا أنني لم أستطع السكوت امام الجريمة النكراء بإعدام الشهيد عمر النايف الذي قتلوه بتواطؤهم أو بسكينهم مع الصهاينة والسلطة البلغارية المتصهينة، ولهم في ذلك “فخر” السبق، حيث نفذوا بأيديهم وبموافقة الموساد قتل المناضل الكبير ناجي العلي، وسلموا بأيديهم المناضل الكبير ناصر السعيد لآل سعود ليقتلوه رمياً من طائرة مروحية حياً في صحراء الربع الخالي، تماماً كما يسلمون الآن الكثيرين من المناضلين للإحتلال الصهيوني دون أن يرفّ لهم جفن. لذلك سأتطرق للموضوع ـ ربما ـ بطريقة مختلفة عما أثُير حتى الآن:

  • وعليه، من يظن أو يعنقد أن حالة السفارة الفلسطينية في بلغاريا، هي حالة شاذة وسط هذا البحر الهائج من السفارات، فهو قطعاً مخطئ بإمتياز، لأنه من الصحيح القول والتأكيد أن وضع وتشكيلة وتركيبة السفارة الفلسطينية في بلغاريا، وآلية عملها وطبيعته تمثل الشكل العام لسفارات فلسطين، فعادة ما يكون السفير والقنصل والناطق السياسي والثقافي وأمن السفارة والعاملين بمجملهم، ليس لهم أي علاقة بالثورة ولا بالثوار، وإن كانوا مناضلين سابقاً فهم على الأغلب لم يعودوا كذلك، وسرعان ما يتم تدجينهم عبر تسعير الفئوية وتغليب المصالح الذاتية الخاصة على حساب أي شيء آخر، بما في ذلك على حساب الإنسان نفسه، وعلى حساب القضية الوطنية برمتها.

وعادة ما يكون العاملين في السفارة “من الكبير للمقمط في السرير”، إما تجارا يعملون مع أمن البلدان التي تحويهم، أو عملاء مباشرين لمخابرات هذا البلد، أو فاسدين ومفسدين ويعملون مع الصهاينة أنفسهم تحت شعار تمثيل سياسة المنظمة وعدم الخروج عليها، أو تجار على شعبهم نفسه، حيث تكلف أي ورقة يحتاجها الفلسطيني من سفارته مبلغاً لا يُستهان به. وإن صدف وكان السفير مناضلاً كما في بعض الحالات، فتبدأ كتابة التقارير به وتشويه صورته من العاملين معه و”المتبسمين” الدائمين له، للخارجية الفلسطينية حتى يتم تغييره و”يخلو الميدان لحميدان” ويعود الجميع لممارسة “أشغالهم وأعمالهم وتجارتهم”، التي لا يربطها رابط بالقضية الوطنية.

وعليه فالسفير “المذبوح” الذي لاحق الشهيد مع رجالات أمنه في بلغاريا، ورفضوا حمايته وطالبوه بمغادرة السفارة، ورفضوا  وضع حماية له أو حتى تركيب كاميرات في السفارة وحواليها، عليه وعلى زمرته كلها دفع الثمن نتيجة ما فعلت يداه وأيديهم، “حتى لو كان بحسن نية وهذا ما لا أعتقده”، ويجب أن يذوقوا من نفس الكأس الذي أذاقوه للشهيد، وبغض النظر عن أي إعتبار آخر، وخاصة لأصحاب شعار “من أجل الوحدة الوطنية”، فالوحدة تكون وتتعمق عندما يريدها ويعمل لأجلها كل الأطراف ويستفيد منها الشعب كله، وليس طرفاً واحداً كما كان حتى الآن، كما أن الوحدة لا تكون بأي ثمن، كي لا يتحول الشعار للتغطية على العجز الذي ينخر صدور البعض ويتحول لتغطية الجبن والهوان، هذا إذا لم يعتبر هؤلاء من عقود مما سُمي زوراً وبهتاناً بالوحدة الوطنية، التي هيمن فيها فصيل واحد على الثورة ومقدراتها وسلاحها وعلاقاتها وماليتها وقرارها الذي سُمي “مستقلاً”، هذا الإستقلال الوهمي الكاذب وبهذا النوع من القيادات هي التي أوصلتنا إلى “أوسلو”، كون المتغيرات الطبقية التي جرت عليها لا تؤهلها للوصول أبعد من ذلك أصلاً، فما بالكم بقيادة على يمين تلك القيادة وكل طموحها واسترتيجيتها مبنية على رضى المحتل عنها، واستكمال طريق الإستسلام عبر المفاوضات العبثية،  مُضيعة عشرات أخرى من السنين ودون نتيجة طيعاً.

  • وعليه فإن “مشروع المصالحة” إن لم يكن على أساس برنامج عمل مقاوم ، “ينفض” منظمة التحرير ويغربلها ويرمي من يستحقون الرمي على مزابل الشعب، وغربلة مؤسسات المنظمة مؤسسة مؤسسة وفرداً فرداً دون استثناءات، ودون تنازلات أو مجاملات، وإلا فإن كل ما يسقط من شهداء لهذا الشعب العظيم وكل جرحاه وأسراه لن يكونوا إلا لخدمة هذه القيادات وأمثالها ومشروعها الإستسلامي في الداخل أم في الخارج.

  • الأمر الذي يفرض على اليسار القلسطيني، وعلى الفصيل الذي ينتمي اليه الشهيد على وجه الدقة، تعاطياً مختلفاً على كافة الأصعدة، ولأسباب عدة أهمها أنه تاج اليسار الفلسطيني والذي له باع طويل في العمل الوطني المبدئي والتنظيمي والسياسي والعسكري منذ عشرات السنين، وعليه هو مسؤولية تشكيل “جبهة إنقاذ وطني” قبل أن تأخذ السلطة ومن لف لفها القضية والشعب الى الهاوية، التي نحن على أبوابها أو حافتها، الأمر الذي سيلقى معارضة من داخل صف اليسار نفسه من “حملة الحقائب” للسلطة، والمستفيدين منها كقادة في المنظمة أو موظفين أو كعلاقات، هؤلاء الذين يحيون حياة البذخ وأبناؤهم لا يدرسون إلا في المدارس غير الناطقة للعربية ومن ثم في جامعات العم سام وحارتها أو دول أوروبا الغربية وعلى حساب الثورة طبعاً، أما كيف حصلوا على هذه الأموال أو المنح وماذا دفعوا ويدفعون بالمقابل، فلا جواب، هؤلاء الذين يحاولون تغيير الحزب الى منظمة شئون اجتماعية أو الى مؤسسة أو منظمة غير حكومية ممولة من موظفيهم، هؤلاء لو دخل بيتهم انسان عادي سيكفر بالثورة عندما يرى ما لديهم وما يأكلون وما يلبسون، احسبوا فقط ثمن ملابسهم في يوم واحد أو ما يشترون من بضاعة اسرائيلية وأمريكية”وهم يدَّعون المقاطعة”، ستجدونها أضعاف معاشهم الشهري… فلا تنتظروا الّا معارضة شرسة من هؤلاء “اليساريون البرره”، باسم الثورة والشعب والحفاظ على الوحدة الوطنية.

  •  طبعاً لا يفوتنا التنبيه لما يحصل في مؤسسات م ت ف وسفاراتها، أنه ليس إلا شكل من أشكال الفساد الذي ينهش جسد المنظمة ككل، والذي بدونه سيخسر المنتفعين مكانتهم الإقتصادية والمعنوية وقدرتهم على الأمر والنهي داخل المنظمة، وعلى رأسهم الرئيس عباس، فليس صدفة أن يعترض هؤلاء الطفيليين على دعم ايران لعائلات الشهداء ما لم تمر من خلالهم، وإن مرت من خلالهم لن تصل لأسر الشهداء وستتوقف في جيوبهم، فهم اعتادوا على العيش على دم الشهداء ولن “يَزْوَروا” ببضعة آلاف من الدولارات إضافية عن كل شهيد إضافي. والشعار نغسه دائماً وأبداً” القرار الفلسطيني المستقل”، لكن أي قرار وأي مستقل؟ فالسؤال ممنوع.

  • الرئيس عباس يقول لأحد من حاول التوسط للنائب نجاة أبو بكر ابنة حركة فتح، التي كانت خطيئتها الكشف عن فساد مالي والمطالبة بالمحاسبة، يقول له الرئيس:”لو ينزل ربك نجاة ستسجن”، فعباس أولا وأخيرا لن يدقق أو يحقق أو يحاسب أي فاسد، فهو نفسه كرأس للفساد لن يجيب أحداً كيف شكل ثروته وثروة أبنائه وأحفاده وعائلته، وقبله الرئيس المرحوم عرفات، رغم الفارق الشاسع بينهما، أجاب عندما قالوا له أن من حواليه مجموعة لصوص وعليه تغييرهم قائلاً:”هؤلاء سرقوا وشبعوا، ولن أغيرهم لآتي بآخرين يسرقون من البدء من جديد”، العقلية ربما لا تكون بهذا التشايه، لكن النتيجة واحدة، هدر اموال الثورة وشهدائها وجرحاها وأسراها دون حسيب أو رقيب، ألم تصل أموال المنظمة كلها الى أيدي طليقة عرفات؟ أكثر من خمسة مليارات دولار وكأنها ملك شخصي له؟!!! وكذلك انظروا لعائلته أيضاً، ومن لا يعرف فتحي عرفات وموسى عرفات فلا يعرف شيئاً، وعليه قراءة التاريخ الفلسطيني “الحديث جدا”.

  • أما ما يخص نظرة الرئيس عباس الى القضية والشعب فحدث ولا حرج، فهو أبو المقدسات كلها، من التنسيق الأمني الى عدم تقديم أوراق لمحاكمة جرائم الصهاينة، مروراً بالقمع والسجن للمناضلين، ومحاولاته لإسقاط حق العودة ، ومحاولاته كذلك لسحب سلاح غزة وتدجينها، وهو كما يقول لن يسمح لأحد أن يجره لمعركة لا يريدها!!! وكأنه يخوض المعارك التي يريدها هو وما أكثرها، فالرجل يسير من معركة الى أخرى!!!، “الله يعطيه العافيه” ويعمق صموده، فهو لا يريد أن يشغله أحد عن معاركه تلك، وأن يترك له “المزاودون أمر تحديد مواعيدها” بنفسه!!!.

  • ظني أن الجميع عليه أن يدرك أن الدخول في نفق “أوسلو” مهما كان الذي يدخل أو من كان، فهو يدخل نفقاً مظلما، جل ما يفعله هو تنفيذ أوامر الصهاينة والأمريكان. وكي نكون صادقين، ألم يودع الرئيس عرفات المناضل أحمد سعدات بعد أن دعاه لإجتماع فصائلي، في سجن رام الله نزولاً عند أوامر الصهاينة؟ ولم يخرجه رغم كل قرارات المحكمة الفلسطينية العليا التي أمرت بذلك مبطلة قرار الإعتقال؟!!! ورغم ذلك لم يستطع الرئيس عرفات مخالفة أوامرهم وإطلاق سراحه، ليسار الى تسليمه للصهاينة بعد ذلك بمؤامرة خسيسة منحطة من قبل أجهزة السلطة التي نسقت الأمر مع الصهاينة والأنجليز المشرفون على السجن في مدينة أريحا عام 2008، على يد أبطال التنسيق الأمني بقيادة الرئيس عباس، والأمر نفسه يتكرر الآن بذات الطريقة في السفارة البلغارية، فما جرى ليس سوى إمتداد التنسيق الأمني الى ساحاتٍ خارجية بعد أن كان محصوراً في الداخل، فعلام الغرابة في الأمر كله.؟.. ببساطة إنه أوسلو، الذي حول فصائل وقوى وشخصيات إلى قوات لحد الفلسطيني.

  • وها هي السلطة الفلسطينية، تؤيد نظام آل سعود المعادي ليس فقط لقضية فلسطين، بل لكل ما هو انساني، بإعتباره “حزب الله” منظمة ارهابية!!!، باعوا الحزب، باعوا حامل لواء القضية الفلسطينية بحفنة دولارات كما باعوا سوريا لقطر مسلمينها قيادة فلسطين للجامعة العربية، وكما باعو ا الموقف من داعش والنصرة في مخيم اليرموك نزولا عند رغبة آل سعود، فهم مستعدون لبيع اي شيء وكل شيء بأي شيء، وحتى حماس التي دربها وسلحها ودعمها حزب الله بالمال والسلاح، لم تتجرأ على قول “كلمة حق عند سلطان جائر”، ولم تعترض على ما يقوله آل سعود، تغطي موقفها بنذالة وصمت مهينَين من أجل المال، تماماً كما فعلت مع سوريا بعد كل الدعم السوري لها واحتضانه لقادتها، ورفضه المطالب الأمريكية لطردهم، فتُدخل السلاح من خلال حثالات الأرض المتأسلمة لمخيم اليرموك وللعاصمة دمشق، مُنشئةً منظمة “أكناف بيت المقدس” بقيادة مساعدي خالد مشعل الأمنيين، متحالفة مع تنظيم القاعدة في بلاد الشام”جبهة النصرة”، وتشرد ربع مليون فلسطيني ضاربة بذلك حق العودة بعرض الحائط، ذلك الحق الذي تتشدق به صبحاً ومساءً وفي كل الأوقات، ومحاولة تمزيق سوريا.

  • وسرعان ما تعمل على عقد صفقة مع “اسرائيل” من خلال طوني بلير بوساطة “العثماني الجديد” السلطان أردوغان التركي، وبدعم من الحارة القطرية…

  • أيها السادة… أيها القادة… أيها اليسار الذي تبقى… إنه أوسلو … إنه مشروع الموت الفلسطيني… إنه مشروع “قبر” القضية الوطنية، ومشروع الكسب المالي للطبقة السياسية الطفيلية الفاسدة المفسدة الحاكمة، بما فيه من فُتات لأشباه اليسار وأشباه المناضلين وأشباه القادة…فكل من لف حواليه أغرقه، ولا سبيل لإنقاذ من ذهب للمستنقع بقدميه، لكن الحذر الحذر من أن يسحبوا معهم ما تبقى من “يسار” ومن مناضلين الى ذلك المستنقع، وكي لا نصل المستنقع، وكي نحمي القضية الوطنية، وكي نقطع الطريق على كل محاولات الشطب للقضية، على اليسار وجبهته الشعبية على وجه الخصوص، البدء في العمل على تشكيل “جبهة إنقاذ وطنية” بعيدة عن “أوسلو” وقياداته الفاسدة، وقطع الطريق على هذه القيادة كي لا تُحوّل قوى هذا الشعب الى سعد حداد ـ لحد فلسطيني، وينبوأ اليسار فيها موقعه القيادي الفاعل، ضمن إطار قيادة جماعية حقيقية، بعيدة عن هذه القيادة التي حددت خياراتها، وصارت استراتيجيتها واضحة، ولم تعد تصلح لقيادة “قطيع من الغنم” فما بالكم بقيادة شعب كشعب فلسطين العظيم؟!!! فمأثورنا الشعبي وأهازيجنا الوطنيه لطالما رددت :

” يما مويل الهوى يما مويلية                                         ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا”…

فهل من مستمع أو مجيب؟!!!

محمد النجار

ماذا تبقّى من منظمة التحرير؟!!!

لعله من نافل القول أن إنطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لهي من أهم الأحداث الهامة في تاريخ الثورة الوطنية المعاصرة، لما أضافته للثورة الفلسطينية من إضافة فكرية وتقافية ونضالية ونوعية أيضاً، فمنذ إنطلاق الثورة الفلسطينية كانت الجبهة هي الرقم الثاني بعد حركة التحرير الوطني الفلسطيني”فتح”، على الصعد كافة، الجماهيرية منها والنضالية في الخارج وفي الوطن المحتل وفي كامل التواجد الفلسطيني، هذا عدا عن دورها المميز على صعيد علاقاتها مع حركة التحرر الوطني العربية وكذلك علاقاتها النوعية مع حركات التحرر العالمية، “لكن لهذا وذاك بحث آخر أوسع من هذه العجالة بكثير”.

أما ما ميز الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن كامل فصائل العمل الوطني الفلسطيني، أنها:

  • أول من أرست الإستراتيجيةالسياسية التي ربطت بين التكتيكي والإستراتيجي، ووضعت الأول في خدمة الثاني، ببرنامج عمل مبني على تبني النظرية العلمية.

  • الحرص الكبير على ارساء أجواء الديمقراطية في الساحةالفلسطينية، وظلت نائية بنفسها عن كل مشاريع الإقتتال الفلسطيني الداخلي الكثيرة والمتعددة.                                   * ظلت قياداتها الأقل تورطاً في الفساد المالي والسرقات التي اشتهرت بها قيادات وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية.

  • على مستوى الداخل تميزت بتفردها في “إنتاج” قيادات ثورية سرية العمل والحركة، الأمر الذي أذهل الإحتلال الصهيوني وقياداته، فكلما أعلن عن إعتقال قياداتها تفاجأ بأنهم وفي الكثير من الأحيان لم يكونوا حتى أعضاء في الجبهة ناهيك على أنهم قيادات!!!

  • تفردت أيضاً بخلق تجربة الإختفاء للكثير من القيادات والكادرات الحزبية ولسنوات طوال وصلت حتى سبعة عشر عاماً كما صرّح الإحتلال نفسه، وقيادة العمل الحزبي والجماهيري والنضالي، وأحياناً الوطني العام، ومن أهم أركانه الإنتفاضة الشعبية الأولى.

  • كانت من السباقين أيضاً في رفع شعار”عدم تسليم الذات” كالخراف للإحتلال وجنوده، وبالتالي ظهور ظاهرة “المطاردين” وانتشارها على نطاق شعبي ووطني في المدن والريف والمخيمات، وخاصة في الزمن الصعب، في المفترقات الوطنية الهامة.

  • كذلك تفردت في رفع شعار” الإعتراف خيانة”، وتطبيقة بالدماء والشهداء، وأصبح هو الشعار الجامع لممارسة أعضاؤها وكادراتها داخل زنازين الإحتلال، وأصبح من أهم بنود المحاسبة التنظيمية والتقييم الحزبي الكادري، وأصبح على أبواب “الحزب” حُماة أشداء، تحمي أعضاءه وأسراره وبرامجه.

  • كانت من أشد الحريصين على الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولو كانت على حسابها كفصيل، في الكثير من الأحيان. وهذه النقطة بالذات التي أريد نقاشها ولو بشكل سريع ماراً على أهم محطات مسيرة الثورة الفلسطينية الحديثة :

منذ إنطلاق الثورة الفلسطينية، وأثناء تواجد الثورة في الأردن ظلت القيادة الفلسطينية الفردية والمتفردة قابضة على القرار الوطني الفلسطيني، والذي تم تتويجه بعدم دعم الحركة الوطنية الأردنية، وإلغائها والحلول محلها، كما والقرار الأخطر بالخروج من المدن والمخيمات إلى الأحراش حيث تم القضاء على القوة العسكرية الفلسطينية، واستشهاد على ما يزيد عن ثلاثين ألف شهيد. رغم آراء كل الفصائل الأخرى والتي لم تؤخذ بعين الإعتبار.

وبعد إنتقال المنظمة إلى لبنان، ورغم كون الحركة الوطنية اللبنانية متبلورة وذات تاريخ نضالي طويل، إلا أن نفس القيادة الفردية وبنفس الطريقة ألغت دور الحركة الوطنية اللبنانية، بل وحاولت أن تخلق “بالمال” منظمات رديفة سريعة “البصم” وتم فرضها على الحركة الوطنية اللبنانية، تماماً كما تفعل الأنظمة الرجعية العربية في المنطقة.

بعد الأجتياح للبنان ودخول بيروت، ورغم شعار الحركة الوطنية اللبنانية ـ الفلسطينية، الذي نادى بالمقاومة، “جاؤوا لعندنا بأرجلهم”،وبأن ما تم هو فرصة لإيلام الإحتلال، حيث كان الوصول له أمراً صعباً بسبب الحدود والأسلاك الشائكة والألغام، والآن جاؤوا هم بأنفسهم، إلا أن نفس القيادة وبنفس الطريقة وبشكل فردي، ساومت وعقدت الصفقات، واتفقت مع فيليب حبيب، على سحب المقاتلين ودخول الدهليز الأمريكي، ووزعت مقاتليها على بلدان تبعد آلاف الكيلومترات عن حدود فلسطين، حيث تم إغتيال القيادات من الصفوف الأولى في تونس، وتحول الكثيرين الى شؤونهم الخاصة.

وأيضاً وبشكل فردي تم افتعال حرب المخيمات والتي تورطت بها فصائل فلسطينية أخرى.

كما أنه وبشكل فردي تم تفريغ برنامج العمل الوطني الفلسطين من ميزاته من خلال التعامل مع المشاريع التسووية التصفوية في المنطقة، ابتدأت بشعار”لعم” للإعتراف بالكيان الصهيوني، ولاحقاً بالغاء الميثاق الوطني الفلسطيني، وسرعان ما وافقت القيادة الفردية بإلغاء صفة “العنصرية” عن الكيان العبري.

وبعد أن نقلت الإنتفاضة الأولى إمكانية تحرير الأرض وجعل من إقامة الدولة الفلسطينية “إمكانية واقعية”، دخلت نفس القيادة وبفرديتها المعهودة، التفاوض بوفد أردني فلسطيني مشترك، لتفاجئ الجميع بالتوقيع على اتفاق “أوسلو” والذي يبدو أنها حتى لم تقرأه، ناهيك عن بحثه فلسطينياً من متخصصين وأكاديميين وفصائل واستراتيجيين، وكان أبرز ما تم فيه وعلى هامشه، إبقاء ما يزيد عن 12000 أسيراً فلسطينياً في السجون الصهيونية، والذي ما زال بعضهم حتى الآن. كما عدم المس بالعملاء وأدوات الإحتلال بأي شكل من الأشكال بما في ذلك عملاء روابط القرى، كما إعتقال “المحرضين” و”المخربين” وقمع التظاهرات وعدم المس بالمستوطنين لأنهم شأن إسرائيلي.

كما أن القيادة المتنفذة الفردية لم توافق يوماّ على إقرار قانون التمثيل النسبي داخل المؤسسات الفلسطينية، وأغرقت المجالس الوطنية كما اللجنة التنفيذية للمنظمة بمن أسمتهم بالمستقلين والذين لم يكونوا في أغلبيتهم الساحقة سوى مجموعة من المرتزقة، ممثلين لأنظمة الردة، من رجعيات عربية في المنطقة، كل ما يقومون به هو “البصم”، أو رفع الأيدي وهز الرؤوس حسب الطلب.

كما كانت الأغلبية الساحقة من المنح الدراسية والسياسية والعسكرية،هي من نصيب تنظيم القيادة”حركة فتح” وتوزع على المحاسيب والمعارف، ويتم بيع الكثير منها لصالح تجار السفارات.

معظم مدراء المكاتب ولاحقاً السفارات الفلسطينية كانت من نصيب تنظيم فتح، “ونحن هنا لا نتحدث عن مناضلين” بل عن أناس في معظمهم محاسيب وتجار وعملاء أنظمة، ولم يكن للفصائل إلا ما ندر حتى من العاملين داخل هذه السفارات، الوضع الذي ما زال مستمراً حتى وقتنا هذا.

مالية منظمة التحرير لم تكن سوى بأسماء القائد الأعلى بالأساس وما زالت بالطبع، وبعض قيادات الصف الأول بنسب لا تتعدى” بضع ملايين”، وإذا نظرنا الآن لورثة هؤلاء القادة سنجدهم أصحاب ملايين من دماء الشهداء وآلام الجرحى والأسرى، وميزانية المنظمة كلها والتي لم يعرف قيمتها أحد، تجزم بعض المصادر أنها تجاوزت الخمس مليارات بقليل، أصبحت من نصيب أرملة الرئيس السابق، والأمر الآن كما هو ولم يتغير منه شيء. والمفارقة أن تنظيم الجبهة الشعبية كلما كان لديه موقف رافض للقرارات الفردية، كلما قطعت عنه القيادة الرسمية مخصصاته المالية، وكأن هذه الأموال ملك شخصي لهم ورثوها عن آبائهم وليست أموال الشعب الفلسطيني.

وكي لا نضيع في التفاصيل نقول، أن هذه القيادة، قيادة منظمة التحرير ومنذ وجود المنظمة، قد أمسكت بالمنظمة من عنقها حتى قتلتها، وأبقتها منظمة ميتة لا قيمة لها ولا أهمية ولا قرار، وأنها تتذكر المنظمة والوحدة الوطنية إن أرادت تمرير قرار أو مشروع تصفوي ما ويلزمها “ختم” المنظمة.

أنها أفرغت المنظمة ومجلسها الوطني وكافة هيئاتها  ومؤسساتها الشعبية من كل محتوى وطني ورسمي وأبقتها جثة هامدة ميتة، كما فعلت باللجنة التنفيذية والمجلس الوطني والمجلس المركزي، ولاحقا حتى بالمجلس التشريعي.

إن شعار الوحدة الوطنية، هو بالنسبة لها شعار حق يراد به باطل، ترفع لواءه وقتما كانت بحاجة إليه، والمطلوب من الآخرين احترامه دائماً حتى النخاع، ومن الواضح أن معظم “إن لم تكن كل” القرارات المفصلية المهمة لم يتم استشارة القوى الفلسطينية بها، بل وفي مرات كثيرة كانت تتفاجأ بالأمر من وسائل الإعلام.

وعليه، أعتقد أن موضوع الوحدةالوطنية الفلسطينية هو من أهم المواضيع إذا كان الجميع يريدها، ويُحاسَب بموادها، وتكون قيادة المنظمة قيادة جماعية “لكل حسب وزنه الفعلي في الساحة”، لكن أن يريدها البعض والآخر يستغلها ويستفيد منها فقط، إذن عن أي وحده وطنية نتحدث؟!!! بل إنني أرى إن التعايش مع مثل هذا الشكل من” الوحدة الوطنية” إنما يخلق داخل تنظيم الجبهة الشعبية، حفنة من أشباه المناضلين والذين لا يهمهم سوى قدوم آخر الشهر ليقبضوا المعاش، مع ما لهذا الأمر من إنعكاسات خطيرة جداً على مستقبل الجبهة نفسها، كوننا نتحدث عن قبادات من المفروض أن تكون قيادات من الصف الأول. فما قيمة الوحدة الوطنية إن ظلت على حالها الذي كانت عليه منذ البدء حتى الآن؟!!! وما قيمتها إن كانت الجبهة الشعبية رغم ما لها من وزن ونضالات وتاريخ غير فاعلة ولا كلمة لها ولا تأثير داخلها؟!!! وهل هناك وحدة وطنية بمؤسسات منظمة ميتة كما هي الآن؟!!! وهل هناك وحدة وطنية إن كان من يتحكم بالموقف السياسي والمقدرات المالية شخص واحد حتى وإن كان رئيساً للسلطة أو لحركة فتح أو أي كان؟!!! وهل هناك وحدة وطنية داخل ثورة دون برنامج كفاحي ثوري، مستنداً على برنامج سياسي واضح وميثاق وطني جامع؟!!! وهل هناك وحدة وطنية تحت سقف قيادة ما تزال تحاصر القطاع مع نظام مصر لتعميم الإستسلام فيه، بعد أن وصفت أسلحته بالعبثية؟!!! وهل هناك وحدة وطنية مع من ما يزال يضع يده في يد القاتل نتنياهو، ولم يستنكر اقتحام العدو لمناطق ا، ولا لقتله اليومي واعداماته بدم بارد، بل يساعده في الإعتقالات تاركاً له المدن متى أراد ليدخل ويعبث بها وبأبنائها كما يريد ووقتما يريد؟!!! وهل هناك وحدة وطنية مع من لا يلتزم بمقررات هيئة في المنظمة كالمجلس المركزي، تطالبه بوقف التنسيق الأمني، وهو يرفض بإصرار الإلتزام بذلك رغم وعوده المكررة الكاذبة؟

لست أدري كم هو صعب الإجابة على مثل هذه الأسئلة وغيرها الكثير الكثير، وهل يجب أن تظل الجبهة إسمياً داخل المؤسسات الميتة كشاهد زور على كل موبيقات القيادة دون أن تستطيع أن تفعل شيئاً؟ أم أن تبدأ بالعمل على تطوير الذات تنظيمياً، وأنعكاس ذلك كفاحياً ونضالياً على أرض الواقع، لتشكل مركز استقطاب يساري ثوري جامع  لا نقاش فيه ولا منازعة عليه، في قادم الشهور أو السنين القليلة المقبلة، لتشكل قاطرة العمل الوطني الموحد القادم ضد الإحتلال ؟!!!

محمد النجار

الجيش الذي لا يُقهر…….صفات ومميزات

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح، كيف يهاجم الأطفال العزّل ـ بطبيعة الحال ـ ويستكلب في ضربهم وإيذائهم، خاصة والأطفال فُرادى وهم تكتل كبير من الجيش أشبه بقطيع كلاب برية جائعة، تعرف أنك أمام جيش لا يُقهر.

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح وهم مُتكتلين مع بعضهم البعض كيف يهاجم الفتيات والنساء اللواتي لا يحملن حتى حجر في أيديهن ، تدرك أنك أمام جيش لا يُقهر.

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح كيف يهاجم رجلاً مُسنا بالكاد يستطيع السير وكيف يتفنن الجنود بضربه ببنادقهم وعصيهم، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى هذا الجيش كيف يقنص الأطفال بقناصات بنادقه، وكيف يشعر بزهو الإنتصار أمام هذا الإنجاز الدموي، تدرك أنك امام جيش لا يُقهر.

*عندما ترى كيف يعذب هذا الجيش المدجج بالسلاح ضحاياه العزل أنفسهم، ويعتقلهم ويقتلهم ويهدم بيوتهم  تدرك أنك أمام جيش لايقهر.

*عندما ترى هذا الجيش كيف يفر من أمام أطفال الإنتفاضة وشبابها الذين لا يملكون سوى حجارة الطريق بأيديهم ، تدرك أنك أمام جيش لا يُقهر.

*عندما ترى هذا الجيش كيف يقصف بطائراته ودباباته وصواريخه المحرمة دولياً، النساء والأطفال والعجز والمدارس والمستشفيات ورياض الأطفال والبيوت ويدمرها فوق رؤوس ساكنيها، والمساجد والكنائس ومحطات الكهرباء والورش الصناعية والسيارات، ولا يجرؤ أن يتقدم مترا واحداً مُترجلاً تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح كيف يحاصر 2 مليون إنسان مانعاً عنهم الماء والدواء والطعام،  والعلاج والتعليم والسفر وعيادة أم لأبنتها وحرمان أم من رؤية أبنها، ومنع شمل عائلاتهم تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح يُقطّع أوصال بقية وطن، ويملأه بالحواجز والمستوطنات، وكيف تتناثر عنصريته وتقتيله بهم، وبمن تبقى من سكان فلسطين في الداخل الفلسطيني، وهم عزل من السلاح، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى نفس الجيش المدجج يالسلاح، يُحرّض مستوطنيه ويقودهم لحرق الأطفال الرضع والفتيان، ويهدم المنازل ويقتلع الأشجار تدرك أنك أمام جبش لا يقهر.

*عندما ترى هذا الجيش المدجج بالسلاح ، وأنت في الزنازين مقيد بالسلاسل، وأيديك خلف ظهرك، يطلب تعزبزات ليقودك من غرفة التحقيق إلى الزنزانة خوفاً من غضب عينيك، رافضاً أمراً مباشراً من المخابرات، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى كيف يفر هذا الجيش وقادته ليختبئوا في الملاجئ، هروباً من الصواريخ “العبثية” المصنعة يدوياً، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى كيف يهاجر المستوطنون الذين في أغلبيتهم الساحقة إن لم يكونوا كلهم جيشاً، بعشرات الآلاف وبغير عودة، من نفس الصواريخ التي “تتساقط” من الباتريوت، ولا تقع إلّا على أبواب المستوطنات ولا تؤذي أحداً، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما تراهم كيف يصرخون ويبكون أمام عمليات المقاومة اللبنانية التي يقودها حزب الله، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى كيف يأسر هذا الجيش وقادته الإنسان الفلسطيني “إدارياً” دون محاكمة، على اعتبار ما يفكر به، وعندما يحتجز جثامين الشهداء، وعندما يجعل من تجارة الأعضاء البشرية تجارة رابحة رائجة بعد تصفية الجرحى أحياء، فاعرف أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما ترى كيف كان يدخل هذا الجيش القرى الفلسطينية ، ويطلق النار على الفلاحين متنقلاً من بيت إلى بيت، قاتلاً الشيوخ والشباب والنساء والأطفال، باقراً بطون الحوامل، كما في دير ياسين، و على المصلين في المساجد والكنائس كما في مدينة اللد، أو على العمال العزل العائدين من عملهم كما في دير ياسين، يصفهم إلى الحائط ويطلث النار عليهم حتى الموت، فاعلم أنك أمام جيش لا يقهر.

والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى….. لكن دعنا نعود إلى التاريخ قليلاً، لتدرك معي وتوافقني الرأي، بأننا يجب أن ندرك مرة وإلى الأبد أننا أمام جيش لا يقهر!!!.

*بعد أن أحضر البريطانيون هؤلاء المستوطنون، مستغلين طيبة وسذاجة البسطاء الفلسطينيين، واستقبلهم الناس من باب القناعة بضرورة”نجدة الملهوف” الهارب من نار الحرب العالمية الثانية، قامت نواة هذا الجيش بالتفجيرات في الأسواق والمساجد والأماكن العامة ضد من نجدهم وحماهم وقدم لهم الأكل والشرب والفراش والأمان، كي يثبتوا لنا ويقنعوننا بأننا أمام نواة جيش لا يقهر.

*عندما تدرك أن “مسرحية حرب التحرير” التي يدّعيها، ما هي سوى التطبيق العملي المتفق عليه بين الحركة الصهيونية والأمبريالية الإنجليزية لتطبيق وعد بلفور، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*وعندما تدرك أن المشروع الإنجليزي كان يتلخص بإستقدام” أرخص سمسار” وزرعه في المنطقة مدعوماً بالرجال والسلاح للحفاظ على مصالح الإستعمار، وليكون أحد ضمانات التمزق العربي وعدم وحدته، لذلك جلبوهم من كل أقطار العالم ومنعوهم “بديمقراطية لا مثيل لها” من التوجه الى أي بلد آخر في العالم إلّا لفلسطين، وبنوا لهم المستوطنات وأغدقوا عليهم الأموال، وأفرغت بريطانبا العظمى ترسانتها التسليحية بين أيديهم، ودربتهم، وكبلت الإنسان الفلسطيني وسجنت مناضليه ولاحقتهم مع بقية الأنظمة التابعة لها، ولم تسمح له بحمل سكين برتقال صغير في “أرض البرتقال”، وعلقت له المشانق ، ورغم ذلك كان هذا الجيش يجبن ويتراجع ويفر من أمام بضعة ثوار ملاحقين في الجبال، ببنادق قديمة وبضع رصاصات إشتروها بعدما باعوا صيغة نسائهم وأمهاتهم، تدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*عندما تدرك بأن الأنظمة العربية كانت تضغط على الجماهير الفلسطينية مع القيادة الإقطاعية الفلسطينية ـحيث نحن الفلسطينيون على مدار تاريخنا نتمتع بقيادات ثورية لا تساوم!!! ـ ليغادروا البلاد ويفروا من وجه المجازر الصهيونية، ويتعهدون لتلك الجماهير بإرجاعها بعد بضعة أيام وليس أسابيع، ثم تبدأ تعد “الخيل في الليل” وتحشد الجيوش والجِمال والأفيال و”ترسانات” الأسلحة لإعادة تحرير فلسطين، تدرك كم أن جيش الدفاع الإسرائيلي جيشا لا يقهر.

*وعندما تدرك أن حرب التحرير التي شنتها الأنظمةالعربية، جمّعت بها ومن كل الدول العربية ـ انتبه للرقم رجاءً ـ عشرين ألف جندي، بأسلحة هزيلة ضعيفة صدئة، في حين جمع الصهاينة تسعين ألفاً بأكثر أنواع الأسلحة البريطانية والغربية تطوراً، وقاد الجيوش العربية ـ انتبه مجدداً من فضلك ـ الجنرال الإنجليزي”غلوب باشا”، الذي تحتل بلاده فلسطين ومعظم الدول العربية، وسلمت بلده البلاد والعباد للصهاينة إيفاءً بالإلتزام بوعد بلفور، تدرك ماهية الحرب التي انتصر بها جيشهم، وتدرك أنك أمام جيش لا يقهر.

*وإذا علمت ورأيت بأم عينك الآن ماهية القيادات العربية، وما تحضره “لغزوة تحرير فلسطين”، لكن بعد تفكيك جيوش العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن، وبعد تولي داعش والنصرة وأخواتهما القيادة الإسلامية وخلافة المسلمين السنة، “المبشرين وحدهم بالجنة”، وبعد ذبح الكفار والملحدين والزنادقة والمرتدين والروافض والنصارى بإختلاف فرقهم ومذاهبهم، كي يتفرغ “القوم” لإذلال الصهاينة، لأنه بعد كل ذلك لا يوجد مبرر لتحرير فلسطين، لأن الصهاينة سيكونوا خائفين مرعوبين وغير قادرين على الإتيان بأي فعل سيء، عندما ترى ذلك تدرك لماذا هذا الجيش هو جيش لا يقهر.

*وعندما ترى القيادة الفلسطينية مستسلمة مستكينة صامتة مرعوبة معلنة في كل زمان، تخليها عن حقوق شعبها، وأنها لا تستطيع مواجهة إسرائيل، تدرك لماذا ظل هذا الجيش جيش لا يقهر.

*وعندما ترى نفس القيادة تعتقل مَنْ فكّر ورفض وقاوم بالكلمة أو بالحجر أو بالسلاح، وتحمي المستوطنين والجنود بدلاً من حماية شعبها، “كما أوضح شعث اليوم بأن السلطة قامت بمسؤوليتها في حماية المستوطنين “، تدرك لماذا أنت ما زلت أمام جيش لا يقهر.

*لكنك عندما ترى أن هذا الجيش والمستوطنون يفرون من حجارة هذا الشعب، وتُفرغ شوارعهم وأسواقهم عندما يبدأ الشعب بإستخدام “عضلات يديه” فقط ، قبل الرصاص والمدافع والصواريخ، وأنه كف عن سماع تبريرات القيادة المهزومة، تدرك أن الجيش الذي لا يقهر، ما هو إلا “نمر من ورق”، يمكن أن يهزم في أي مواجهة جدية قادمة، وأنك بهزيمته هذه تُخلّص العالم من آخر نظام عنصري إستيطاني، وتدرك أن لعبته الكاذبة إنتهت إلى غير رجعة.

*ملاحظة:

ألم تلحظ معي أن ما يفعله الدواعش والنصرة وأخواتهما ما هو إلّا نسخة كربونية لما فعله الجيش الذي لا يقهر؟ (مضيفًا إليه سبي النساء وإعادة فتح أسواق العبيد)، وبدعم من نفس الرجعيات العربية ومن نفس الدول الإمبريالية مضيفاً إليها الأمريكية!!! ياسبحان الله على هذا التطابق، لكن لله في خلقه شئون!!!

محمد النجار

قال ذات يوم …أبي

ـ “رئيسنا” زين الشباب… زين الشباب “رئيسنا”.                                                                                          قلت ذلك لصديقي إبراهيم وكدت أكمل”” رئيسنا” عنتر عبس… عنتر عبس ” رئيسنا””، لولا أنني تذكرت أن في عنتر خصائص ومواصفات ليست موجودة في السيد الرئيس، قلت عندما كان قد انتهى من سحق رأس سيجارته في منفضة أمامه وكأنه بذلك ينتقم من شيء ما، وسرعان ما أشعل سيجارة أخرى، في عجالة غريبة لحرق رئتيه، وأكملت:

ـ أرأيت ذلك الثمانيني الهرم كيف يقف”منتصب القامة” في الأمم المتحدة؟ رجل ولا كل الرجال، يحمل سنون عمره فوق ظهره دون أن تحنيه أو تتعبه، ودون حتى أن تُسئمه كما أسأمت الشاعر زهير بن أبي سلمى… “فحل” يا ما شاء الله عليه…يسير بخطىً واثقة كأنه هو “القضاء المبرم”، يا ماشاء الله عليه…

أكملت ما بين الشهادة بقدرات الرئيس وإستفزاز صديقي الذي كانت أجهزة السلطة قد إعتقلته “لطول لسانه”، وتخوفاً من ـ باب الإحتياط ـ من أن يكون وراء طول اللسان أفعال مخفية عنهم، وفي بلادنا عيب كبير على السلطة أن لا تعرف كل أمور مواطنيها، بدءاً من غرف نومهم نهاية بما يدور في رؤوسهم، وذلك حرصاً على حيواتهم، وكلما عرفت السلطة أكثر كلما استطاعت حمايتهم أكثر وأكثر، فمن يدري فربما لو لم يعتقلوه فربما كان الإحتلال قد إغتاله!!! لكنهم أطلقوا سراحه بعد أشهر قليلة ليعتقله الإحتلال لسنة في السجن الإداري، حيث تم إطلاق سراحه منذ ما يزيد عن اسبوعين اثنين بقليل.

كانت لفافات دخان سيجارته تتسابق نحو سقف الغرفة، وفمه وأنفه يضخان الدخان مثل نافورة ماء كسرت ولم تُصلح بعد، وأنا ما زلت أتحدث قائلاً:

ـ فجّرها السيد الرئيس… أرأيت؟ بالمختصر المفيد فجرها .

فقال وافتعال الهدوء يعلو جبينه، خاصة وأنه ضيف على مائدتي، وليس من اللياقة إلّا أن يكون في قمة أدبه، وكي أصدقك القول هو كذلك دائماً، وإن علا صوته وارتفع أحياناً لكنه دائماً ضمن حدود الأدب، رغم ان كلماته تكون حادة مثل حد السيف:

ـ إن من يريد أن يفجر قنابله فالساحة هنا وليست في الجمعية العامة، فهنا الإحتلال والمستوطنون، وهنا الأقصى والقيامة وكنيسة المهد وجامع عمر، والحواجز والجنود والطرق المقطعة والوطن الممزق….

قاطعته قائلاً:

ـ أتفتعل أنك لا تفهم ما أقول؟ إنني أتحدث عن القنبلة السياسية…

فقال مستغرباً سؤالي:

ـ وأنا أتحدث عن ذات الأمر، فأنا مثلك ومثل الجميع يعرف أن رئيسك هذا لم يمسك قنبلة ولا بندقية ولا حتى حجراً في حياته، كما إعترف هو نفسه في أكثر من مكان، في عز تسليح الثورة، ومن لم يحمل سلاحا آنذاك لن يحمله الآن، لذلك أقول لو أراد فعلاً تفجير قنبلة لفجرها هنا ولأسمع هديرها العالم كله….. لكن ما فجره الرئيس إن كان قد فجر شيئا هو ليس أكثر من قنبلة “عبثية”، سرعان ما تم نسيانها

ـ أعتقد أنك تتجنى على الرئيس، إنه “غاندي” القرن الواحد والعشرين، رجل لا يؤمن بالعنف، لديه وجهة نظر مختلفة…. يقول البعض أنه كذلك منذ الصغر، وأنه كان ميالاً في طفولته المبكرة للعب بألعاب الفتيات ويفضلها على ألعاب الصبية الأولاد، ونشأ وكبر على تجنب العنف وكرهه، وازدادت توجهاته السلمية مع زيادة تجربته وكبر سنه.     قلت موضحا مدافعاً حين قاطعني بدوره قائلاً:

ـ وربما ازدادت قناعته ترسخاً مع تكدس الملايين من الدولارات والدراهم والريالات، أم أنك تعتقد أن الأموال التي نثرها آل سعود لم يكن لها مردود؟ لأن أهم وليس أول مردود لها هو “أوسلو” الذي وقعه الرئيس الحالي والرئيس السابق… وكي لا نبتعد عن صلب الموضوع، أدعي أن رئيسك لم يقل شيئاً سوى التهديد، نعم التهديد بأنه سيتنصل من الأتفاق المشؤوم إذا لم تلتزم به “إسرائيل”، وكأن “إسرائيل” التزمت بأي إتفاق أو معاهدة من الأساس!!! و”إسرائيل” تعرف أن كل هذه الفيادة لن تفعل شيئاً، فمصالحها أصبحت مترابطة ومتداخلة مع مصالح الإحتلال، وهي لن تتنازل عن مصالحها تلك، لذلك يقول الصهاينة” دعهم ينبحون”، وكما قال ذات يوم أبي ” الكلاب التي تنبح لا تعض”، إن ما قاله ياعزيزي ليس سوى من باب استغباء الناس والضحك على “لحاهم”، فلو كان لديه الحد الأدنى من الجدية فلماذا لم يعلن عن حل السلطة بشكل واضح؟ أو لماذا لم يُعطِ أمراً لأجهزة السلطة بالإستقالات الجماعية؟ أو لماذا لم يوقف التنسيق الأمني رغم وجود قرار مجلس مركزي به؟ ومن يظل يُنسق من الأجهزة فليُعتبر خارج الصف الوطني؟ لماذا لم يُطلق سراح المناضلين المعتقلين ويعتذر عن ممارسات أجهزته الامنية بحق الشعب الذي يقوده؟لماذا ما زال يلاحق المنظمات التي تُحاول التسلح لمقاومة الإحتلال؟ ألا تعتقد أن من لا يريد “أوسلو” لا يجب أن يتمسك بالمبادرة الفرنسية التي لا تتحدث حتى عن دولة ولا حتى في أراضي ال67، وتتحدث عن تبادل أراضٍ ل”لتنقية” الدولة العبرية وتؤسس ليهوديتها، ولا تأت بأي ذكر عن حق العودة….المهم الأفعال يا عزيزي وليس الكلام، وهؤلاء لا بهذا ولا بذاك، وكما قال ذات يوم والدي “لا في الهدة ولا في الردة ولا في عثرات الزمان”.

قلت من وسط ضباب دخان سجائره المتبقي في سماء الغرفة رغم شبابيكها المشرعة:

ـ ألا ترى أن ذلك بداية تحرك على الصعيد العالمي، ألم تر أنه أكد على ملاحقتهم في المحاكم الدولية؟

ـ ومن الذي أوقفه حتى الآن؟ دعني أقول لك شيئا من التحقيق الذي تم معي في هذه المرة على يد مؤسسات “الرئيس” الذي تُدافع عنه، أثناء فشل رجل المخابرات “الفلسطيني” تزيين “أوسلو”، قلت له: ” منذ ما يُقارب الربع قرن وأنتم تفاوضون وحصلتم على الخيبة فقط، وها هم يأخذون منكم الأمن ويجعلونكم مجرد موظفين تابعين لأجهزتهم الأمنية، ماذا بعد؟ لماذا لا تتراجعون؟ فقال لي مستغرباً وكأنه يسمع الأمر للمرة الأولى:”نتراجع؟!!! سنفاوضهم حتى لقرن كامل… ما الذي يزعجك؟” مثل هؤلاء تريدهم أن يلغون “أوسلو”؟!!! ما الذي تتحدث عنه يارجل؟ هو لا يزعجه الأمر بتاتاً فالوطن عنده أصبح مجرد معاشاً، وربما إن تبرع بمعلومات أكثر يتضاعف هذا المعاش، وتُستبدل القضية ودماء شهدائها وآلام جرحاها وأنات نسائها إلى حفنة أموال في حساباتهم في مصارف البنوك….. إذا أصبحت القضية غائبة عن بعض أصحابها لا تستغرب غيابها عن المسرح الدولي؟

أستغرب الآن كيف تحولت إلى مدافع الآن بعدما حاولت أن أكون مهاجماً، وأكمل هو قائلاً:

ـ ألم تلاحظ رد الرئيس على سياسة الإحتلال بعد إغتيال الشهيد التلاحمة والشهيدة الهشلمون؟

وأجاب دون انتظار إجابة:                                                                                                                         ـ “أحذركم من إنتفاضة لا نريدها”، لماذا لا يريدها؟ لا أحد يعلم ، وإن كان لا يريدها لماذا يصرح بذلك لأعدائه أصلاً؟ الشعب يعطيه نقاط قوة مغمسة بالدم وهو يتنازل عنها!!! يالمساخر القدر، لماذا تتعرى هذه القيادة وهي تعرف أن لا شيء عندها لتتباهى به وتفتخر ؟ لا شيءعندها ليراه الأقربون والأبعدون سوى ضعفها وخواءها؟

سكت قليلاً، إرتشف ما تبقى من قهوة من فنجانه، وقبل أن يُشعل سيجارته قال:

ـ ألم تر كيف فعل رجال الأمن الفلسطيني بفتيان مدينة بيت لحم؟ أهكذا يكون أمن الثورة؟ تماماً مثلما تفعل أجهزة الأمن للرجعيات العربية، وكما كانت تفعل دكتاتوريات أمريكا اللاتينية قبل أن تنتهي الى مزابل التاريخ، والرئيس الذي لا يؤمن بالعنف بكافة أشكاله كما يعلن عن ذلك في كل المناسبات، ليكن عادلاً على الأقل، فليؤمن به ويطبقه على الجانب الفلسطيني أيضاً، فليس من الإنصاف أو العدل أن يُطبقه مع الأعداء ويمارسه بأبشع صوره كما رأيت في الجانب الفلسطيني.

فقلت في محاولة دفاع يائسة:

ـ سيقدمونهم إلى المحاكمة بسبب ذلك…..

فقال محتجاً:

ـ إحترم عقلي قليلاً يارجل، لقد قام هؤلاء بتنفيذ التعليمات، فعلوا ما تعلموه، ولولا أنه تم تصويرهم لتم نفي ذلك أو حتى لن يسمع به أحد، فالأمر ليس بمستجد ولا فردي ولا خارج عن سياقه، كل ما في الأمر أنه قد تم اكتشافه.        سحب سحبات متعاقبة من سيجارته كعادته في حالات غضبه وأكمل:

ـ ثم من سيحاسبهم؟ ألم تذكر أنه تم محاكمة أحد القتلة في عهد الرئيس السابق، وحُكم بالسجن المؤبد، ثم سرعان ما تم نقله حراً طليقاً من سجن في الضفة إلى غزة، وبعد إنكشاف أمره تم تحويله ملحقاً في أحد سفاراتنا في أحد الدول الأوروبية!!!

فقلت محتجاً:

ـ لا… لقد خرجت عن الحدود، غير معقول، هذا لا يعجبك وذاك لا يعجبك، ما الذي تريده؟

فقال بهدوء كامل وبثقة لم أعهدها كثيراً:

ـ يعني لم تحتج على ما قلت لأنه صحيح، هذا جيد… على كل حال أنا أتحدث عن بشر وليس عن ملائكة، ومهما كان هؤلاء ومهما فعلوا من الإيجابيات، لكنهم من أوصلنا إلى “أوسلو”، من أوصلنا إلى هذه الحالة التي نحن بها، وكما قال ذات يوم أبي “غلطة الشاطر بمئات الغلطات”، وكي يغلقوا فمي وفم أمثالي عليهم أن يخرجونا من هذه المصيبة التي وضعونا بها، عليهم اخراجنا من المستنقع الذي ما زالوا يُغرقون شعبنا به يوماً بعد آخر، وإن أرادوا البقاء بعد ذلك وحدهم فهذا شأنهم.

فقلت لأوضح الأمر له:

ـ يقولون أنه محبط من سياسات الإحتلال… فكما ترى كل يوم عليه أسوأ من الذي قبله…

فقال جازماً:

ـ وما الذي ينتظره من إحتلال إستيطاني إقتلاعي؟ فكما ترى “معادلة” الإحتلال واضحة تماماً، وهي تتناسب تناسباً عكسياً لسياسات السلطة، يعني كلما زادت تنازلات السلطة كلما زاد الإحتلال عنجهية وكبرياء ، وكلما أصبحت السلطة أكثر رضوخاً كلما أصبح هو أكثر تعنتاً، ألم يرَ الرئيس بعد أن الإستيطان تضاعف عدة مرّات في سنوات “أوسلو”؟ ألم يرَ أن عددالشهداء قد تضاعف ونسبة العنف وقتل وسجن الأطفال؟ ألم يرَ بعد ما يفعله المستوطنون بحماية الجيش من قتل وحرق للبشر وتدمير للممتلكات واقتلاع الأشجار؟ ألم يرَ ما يتم في القدس والأقصى والمقدسيين؟ وكما قال ذات يوم أبي نقلاً عن أحد الشعراء” إن كان لا يدري فتلك مصيبة     وإن كان يدري فالمصيبة أكبر”،  لذلك فعلى الرئيس أن ييأس من سياسات سلطته وليس من سياساتهم، لأن سياسات سلطته أضحت جزءا لا يتجزء من سياسة الإحتلال، جزء مكمل وضروري، لا تكتمل سياسة الإحتلال دونها، لذلك عليه تغيير هذه السياسة والتعامل بالمثل على الأقل ، فلو اوعز لإحتجاز “أو أغمض عينيه” مجموعة مستوطنين وطالب بإطلاق   سراح المعتقلين، سوف ترى كيف سيرضخون….

فقلت معترضاً:

ـ قل سيمزقون السلطة كلها

فقال بذات الهدوء:

ـوماذا سنخسر؟ بالعكس، هذا هو المطلوب، أن تتحول السلطة إلى سلطة مقاومة بدلاً من أن تظل مكملة لسياسات الإحتلال ومنفذة لها، وكما قال ذات يوم والدي” قال الله للقرد سأسخطك، فقال القرد مستغرباً: أكثر من ذلك؟ لقد خلقتني قرد وطيزي حمراء”.

كنت أحاول أن أقرّب المسافات، أن أطرح الأمور بشكلها الجميل، الحسن، فقلت:

ـ لا عليك … ها هو  أجل عقد المجلس الوطني نزولاً عند مطالبة الفصائل

لكن رده أعاد المسافات إلى بعدها السابق، فعدنا “يا رب كما خلقتني”….  قال:

ـ ولماذا حدده أصلاً دون استشارة الفصائل؟ إلى متى لا يريد هؤلاء الإعتراف ب”الآخر” ولماذا يكررون الأمر نفسه دائماً وأبداً؟ لماذا ما زالوا يعتقدون أن ما يحق لهم لا يحق لغيرهم ؟ وأنهم الذين يقررون وعلى الأخرين السمع والطاعة، وإن رفض الآخرون حينها يشهرون في وجوههم “سيف” الوحدة الوطنية، وكأن الوحدة الوطنية مشروطة بأن يكون القرار والمال والسلطة في أيديهم دون حسيب أو رقيب؟

افتعلت الإنشغال، سكبت له ولي فنجانين آخرين من القهوة، لأن عقلي لم يكن يستطيع تجميع كلمات قادرة على تشكيل جملة واحدة لأقذفها في وجهه، فظللت أستمع لما يقول:

ـ سيعود ياعزيزي ويقوم بذات الطريقة التي قام بها المرحوم سلفه، وسيملأ المجلس بأشباه القوى والفصائل التي لا حضور ولا تفاعل ولا جمهور ولا مؤسسات، على حساب القوى الفاعلة والرافضة لنهجه، مضيفاً إليهم مئات “المستقلين” شرط أن يكونوا من مؤيدي نهجه وجاهزين للبصم في كل الأحوال، ويتم انتخاب قيادة جديدة من نفس “الطينة” والمواصفات، لتكون النتائج بذلك محسومة وديمقراطية ومحققة للوحدة الوطنية!!!، ولا تحلم أن يشكل قيادة موحدة للفصائل ويبني وحدة وطنية بشكل جاد وحقيقي على أساس التمثيل النسبي.

صمت طويلاً على غير عادته، ارتشف من فنجان قهوته رشفة وحيدة من بين “مصّات” عدة من طرف سيجارته، وقال:

ـ أخشى ما أخشاه ما قاله ذات يوم والدي” الخْرَى خْرَى إن كان مكسي أم عْرَى”.

اسند ظهره ظهر الكنبة في صالون بيتي، نفث دخان سجائره في سماء الغرفة، وأكمل سارحاً وكأنه لا يراني:

ـ وأنت ربما لا تعرف والدي… فوالدي إنسان قديم قديم… تخاله جاء من عمق الأرض حاملاً على ظهره عبق التاريخ، وكأنه ترك جده كنعان لتوه، تراه حاملاً رأس الفلسطيني يوحنا المعمدان جاداً في البحث للثأر له، متسلحا بعكازة المسيح سائقاً أمامه بضع غنمات من غنمات محمد…..

ظل الصمت يلفني كالمشدوه، وكأنني لا أعرف صديقي الذي أمامي، وكأنه شخص آخر لا أعرفه، وخلت أن أصابه مسٌ من الجنون بعد اعتقاله الأخير، وأكمل هو قائلاً:

ـ وقد أوصاني والدي هذا ذات يوم قائلاً  “إياك أن تنام على ظيم”، ومنذ ذلك الحين بقيت أقاوم بساطير الإحتلال وأحذية الحثالات…. ألا تعتقد أن معهم كل الحق لإعتقال أمثالي؟!!!

رمى سؤاله بوجهي مثل حجر، شكرني على دعوته واستأذنني وخرج، وبقيت والصمت يتعالى داخل رأسي ويكاد يفجّره.

محمد النجار

الطحالب لا تعيش إلّا في المياه الراكدة

قال:

ـ إنها ليست أكثر من مداهمات، بعني “شوية” اعتقالات…بسيطة…

كان هادئاً، يتحدث ويشرب قليلاً من النبيذ بهدوء، ويلعن السجائر التي يمتصها حتى آخرها، ويلعن اليوم الذي تعلم به التدخين، ويتحدث كعادته بطلاقة معروفة، لا تقل عن تلك التي نراها عندما يتحدث في كثير من الأحيان على صفحات التلفاز، وإن كان يحاول جاهدا إظهار تأثره بالأحداث، خاصة بدماء الشهداء، الأمرالذي لم يبرز كثيراً في حديثه معنا في تلك الليلة.

كنا عند صديق مشترك، نتحدث ونتسامر ونشرب النبيذ، كنا نعمل في وزارات مختلفة، عدا ذلك الطبيب الذي لم يكن يعمل في وزارات السلطة، وكان قد رفض احتساء شيئاً من النبيذ، معلناً أنه لا يشرب الخمر، عندما قال له مضيفنا مازحاً:

ـ مسيحي ولا تشرب؟!! أمرك غريب يانهاد، ماذا تركت للمسلمين يارجل؟

وضحكنا، وقال هو موضحاً:

ليس للأمر علاقة بالدين، كل ما في الأمر أنني لا استسيغ الخمر ولا أحبذه…

ثم أضاف وكأنه يلوم صديقنا ويعاتبه:

ـ منذ متى تُقسّم تصرفات الناس وسلوكم حسب دياناتهم، أراك قد بدأت تتراجع عما كنت عليه، أم أنك تأثرت بالدواعش والقاعدة؟

ـ متأثر؟!!! هذا ما تبقّى… أعوذ بالله، لكن أتعلم أنك محق، الأمور تبدأ بهذا التقسيم للبشر، تقسيمهم دينيا ومذهبيا وطائفيا وجنسيا ، لقد وضعت يدك على الجرح فعلاً….

فقال رجل التلفاز ممسكاً طرف الحديث من ألسنة البقية:

ـ لا تُفلسفوا الموضوع وتنزعوا “السكرة” من رؤوسنا، اتركوه، إذا أراد الشرب فليشرب، وإن لم يشرب فالخاسر هو وحده، يعني ” على نفسها جنت…. جنت… شو اسمها…”

ـ براقش

أجاب أحد المتحولقين حول الطاولة، حين رد رجل التلفاز قائلاً:

ـ آه، براقش أو مراكش، لم تعد تفرق، المهم الفكرة وليس شيء آخر

كان يحتسي النبيذ وكأنه يشرب الماء، يسكب الخمر في فمه دفعة واحدة كأساً بعد آخر، وكأنه يسابق الزمن ليشرب أكثر ما يمكن، قال البعض لاحقا أنه أصبح كحولياً، ولا يمكنه الإستغناء عن الخمر، بل لا يستطيع الحديث دون شراب، وأنه يبدأ نهاره به وينهيه كذلك، وكلما شرب أكثر كلما ازداد حديثه وكشف أسراراً جديدة، وعندما تساءل أحدنا في اليوم التالي عن أسباب إبقائه في السلطة، أجاب مضيفنا قائلاً وحاسماً،” من منهم ليس مثله… فهو ليس أفضل منه”، هذا ممن كانوا مناضلين ذات يوم، وأنتم لم تتعرفوا غلى بعض القادة الذين كانوا عسكريين، من أبي فلان إلى أبي علان، يفرضون أنفسهم في المقاهي والمطاعم وأسواق الخضار والمحلات… شيء أقرب إلى البلطجة والخاوة، متروكون ليفعلوا ما يريدون….ويُقال أن أحدهم يداوم بشكل دائم أمام مطاعم الشواء، ليستغل هذا و”يتسلبط” على ذاك، حتى أن الناس يتهامسون مازحون، بأنه يضع مكان نياشينه العسكرية على كتفيه، سيخين وفحمة، وقوّلوه بيت شعر كان ذات يوم للمتنبي ، محورينه بطريقة كوميدية لاذعة، وبعضهم كتبه على باب محله بخط بارز، موقع بإسم أبي جلال، وهو الإسم الذي أطلقوه عليه دون علمه، يقول بيت الشعر:

“الهش والنش والكانون يعرفني                                 والشحم واللحم والسلطات والبصل”

لا أعرف من ابتدأ الحديث في موضوع “جنين”، الذي لم يكن مر على مداهمته سوى يومين اثنين، وكان جو التوتر والغضب يلف المدن كلها، والغضب على السلطة ورئيسها وقياداتها في ذروتها، حين قال رجل التلفاز:

ـ لا “توجعوا” رأسنا، “جنين …جنين …جنين…” هو الذي خلقها لم يخلق مثلها ولا غيرها؟! كفى، كل يوم تدخلوننا في مشكلة جديدة، ألا تريدون أن تفهموا أن هذه المرحلة هي مرحلة العمل السياسي، لقد إنتهت مرحلة البندقية، لنعطي المرحلة حقها…

لم يتوقع أن يناقشه أحد كمعظم المرات، كونه يحقد على الآخرين ولا يختلط بهم، لكن وعلى غير توقعه رد الطبيب بهدوئه المعتاد، رغم الإستفزاز الذي كاد يغطي وجهه كاملاً:

ـ لقد أضعتم ربع قرن من التفاوض، وماذا أثمرتم؟ لقد أخذوا منكم حتى مناطق”ا” التي أعطوكموها في أوسلو، وبدل دولتكم الموعودة، وضعتم أنفسكم وشعبكم تحت أحذية الإحتلال.

ـ ربع قرن؟!!! حتى لو نصف قرن ما الذي يزعجك أنت؟

ـ يُزعجني كل شيء، أأتيتم بشيء جيد حتى يعجبني؟ أم تعتقدون أن البلد من حقكم، كونكم “ورثتموها” عن آبائكم وأجدادكم، وربما تعتقدون أن شعبها جزءً من عبيدكم الموروث أيضاً، ثم إن كنت أنت مستفيداً وكل يوم في سهرة في تل أبيب أو في تلفزيونات السلطة أو اسرائيل فالناس ليسوا كذلك.  والأهم عندي من ذلك أن المداهمات تتضاعف يوماً بعد يوم تحت أعينكم ، فبالأمس مخيم جنين واليوم مخيم الأمعري وغداً مخيم بلاطة وبعده مخيمي الدهيشة والعرّوب، ناهيك عن القرى والمدن التي أصبحت مداهمتها بشكل يومي، وأصبحتم حتى لا تحتجون، دجنتم أنفسكم وذواتكم على رغبات الإحتلال، وتريدون ترويض شعبكم ليصبح على شاكلتكم!!!

كانت كلماته مُستفزة، ورجل التلفاز الذي يحمل على أكتافه سنوات من النضال لا يحتمل النقد بأي شكل، بل كان يرى بالنقد جزءً من الهجوم عليه، وانتقاد القيادة تمسه، لأنه يرى نفسه جزءً منها رغم أنه من قيادات الصف الثاني… سكب الكأس في فمه وقال مفتعلاً الهدوء:

ـ إن كنتُ أسهر في أي مكان فبنقودي، أو في مهام نضالية يتطلبها عملي وهذا ليس شأنك

ـ أما زلتم تعتقدون أننا أغبياء؟ صدقناكم عقود وانتهى ، ثم انني لم أعلم أن معارك التحرير انتقلت إلى مطاعم وبيوت وبارات تل أبيب.

شرب من كأس الماء الذي أمامه، وقال وكأنه يدلي بنصيحة:

ـ فكروا بماذا تفعلون، الناس لم تعد تحتملكم، والقمع لم يعد قادراً على تكميم أفواه الناس

رد رجل التلفاز في محاولة بائسة لإستحضار الماضي، فقال:

ـ نحن من أطلق الرصاصة الأولى، نحن من قاد الشعب…..

فرد عليه بصورة حاسمة:

ـ نعم أطلقتم وقدتم وكنتم، و”كان” فعل ماض ناقص لن يكتمل أبداً، عليكم أن تكونوا من جديد وإلّا اتركوا غيركم ليكون ويفعل….

ـ إفعلوا أنتم!! وهل نحن ممسكون بكم؟

ـ نعم أنتم ممسكون بكل من يريد العمل أو حتى يفكر به، أم أنكم مصدقون أن إعتقالاتكم مناضلي شعبنا هي ليتنزهوا أم لحمايتهم كما تُشيعون؟ و”مخيم جنين” هذا الذي تصدع رأسك به لم يترك حلفاءكم الجدد أن يستفردوا به، وبعد فشلكم أنتم في اعتقال المطلوبين للإحتلال، جاؤوا هم بدباباتهم، لكنهم مثلكم لم يحصدوا سو الخيبة، مخيم جنين هذا المكتظ بالمناضلين قزّم دولة الكيان كله لمدة خمسة عشر يوماً، كان القصف ينزل على رؤوس سكانه وهم قابضون على البندقية ويتصيدون الجنود، حتى دباباتهم لم تستطع السير في أزقته، فكانت تسير من بيت إلى بيت فوق البشر أحياء، وفوق جثث الشهداء والجرحى، ولم يستسلم، عض على جراحه وقاوم وصمد، ولم يستطيعوا إعادة إحتلاله إلاّ بعد إنتهاء الرصاص من مقاوميه الذين لم يملكوا سوى بنادق مُشتراة من أثمان ذهب عرس أمهاتهم ونساءهم وأخواتهم، ولم يكن عندهم ما تسمونه سلاحا ثقيلاً أو متوسطاً، فقط مجموعة من البنادق كبد بها “الجيش الذي لا يقهر “خسائر فاقت توقعاته وتوقعات قادتكم،  وها هو الآن يتصدي لأسياد سلطتكم مجدداً، فيتراجعون مستذكرين عام ألفين واثنين، تاركين لكم “شرف” إعتقال المناضلين.

سكت قليلاً وسط استغراب رجل التلفاز، الذي كان مبهوراً بهذه الجرأة التي إعتقد أنهم قد أنهوها في ربع القرن الماضي من قمعهم ومطارداتهم للمناضلين واعتقالاتهم أو تصفيات بعضهم أحياناً، وأكمل الطبيب:

ـ وكما في السابق، حيث لم يجرؤ أحد منكم بما فيه رئيس سلطتكم  السابق على زيارة المخيم والتضامن معه، لم يجرؤ كذلك رئيس سلطتكم الجديد لزيارة المخيم، من يدري فربما رفضوا إعطاءهما تصريحاً للقيام بذلك، كي لا أقول لم يتملكا الجرأة. بل ربما يقايضون على المخيم هذه المرة كما قايضوا على مناضلي كنيسة المهد في مدينة بيت لحم وتم نفيهم لخارج البلاد مقابل رفع الحصار عن رئيس السلطة السابق، أو كما قايضتم على موقفكم من مخيم اليرموك وتراجعتم بعد أن أغراكم بأموالهم آل سعود!!!.، أو كما قايضتم وبعتم رئاسة الجامعة العربية لمشيخة قطر لتتخذ ما تتخذ من إجراءات لتدمير سوريا، مشكلة قيادتكم ياعزيزي أنها تؤمن أن كل شيء قابل للبيع، مادام هناك من يشتري!!! وإن “تدلل” المشتري لا يتراجعون عن قرار البيع، بل يُنزلون بالسعر، المهم أن تنفذ بضاعتهم ولا يعودوا بها خائبين، لكن المعروض الآن هو الوطن، أتفهم؟ الوطن بترابه وسمائه وزيتونه وصخره وشهدائه وجرحاه وأسراه، بهوائه وتراثه وتاريخه وعاداته وتقاليدة، أتفهمون ذلك، إنكم تعملون على اقتلاع التاريخ والجغرافيا أيضاً، الأمر الذي نادراً ما حدث في التاريخ.

كان رجل التلفاز ما زال يشرب المزيد من النبيذ، وقد بدأ يكتسب وجهه اللون الأبيض الشمعي، وكأنه ما زال غير قادر على تصديق ما تسمع أذنيه، في الوقت الذي تابع الدكتور حديثه مُصعداً أكثر وأكثر، قائلاً:

ـ وأخطر ما تقومون به تشويه العقول وتسميمها، إبتدأتموها بالتطبيع، ثم بتعريفكم للمخيم بأنه تجمع سكاني كثيف في بقعة جغرافية صغيرة، وها أنتم تتحفونا وتبشرونا بأن “ثورتنا مش إرهابية، وازرع ليمون ازرع تفاح… ثورتنا سلمية من غير سلاح”، من خلال أغان تافهة من المفروض أن تكون أغانٍ وطنية محرضة على الثورة وعلى مواجهة الإحتلال،  إلى أين تأخذوننا ؟ أتريدون سياقتنا مثل قطيع؟ ومن يدري ربما إن زرعنا برقوق مثلاً أن نعفيكم من كلمة “ثورة” من الأساس، ونمهد لكم الطريق لتستمروا في خياركم البائس….

كان رجل التلفاز ما يزال يستمع، ويبدو انه أقنع نفسه أن “قلة الرد رد” على مثل هؤلاء، وأن من الأفضل أن لا يدخل بحوار قد يُخرجه عن طوره، ويعود ليندم على ذلك، فاستل “سيجارة” من علبة سجائره، أشعلها وظل يستمع، حين قال أحد زملائي العاملين في الوزارة نفسها، محاولاً تخفيف الأمر عن رجل التلفاز:

ـ إن القيادة مشغولة الآن لترتيب البيت الفلسطيني، نرجو أن يهديهم الله ويقومون بتعديل ما يجب تعديله….           يبدو أن الكلام لم يخلق أي أمل عند الطبيب الذي فقد كل الثقة بالقيادة مثل الكثيرين، وكما علمت لاحقاً من قريبه الذي أحضره معه في سهرتنا تلك أنه كان خارجاً لتوه من سجون السلطة، بسبب “أفكاره الهدامة والمحرضة”، فكما قالوا له” بإمكانك أن تُشكل الرأي الذي تريد، ولك كامل الحرية، لن يمنعك أحد من ذلك، هذا حق يكفله لك القانون، لكن ليس من حقك نشره وتحريض الآخرين ليقتنعوا به، يعني رأيك يظل لك، ملكك، لنفسك ولا لأي أحد آخر” …

فرد الطبيب قائلاً:

ـ نعم … ترتيب البيت الفلسطين ليظل خانعاً مُهانا، مثل هذه القيادة ياعزيزي لا تستطيع العيش في جو صحي، لذلك فالمطلوب تدجين المنظمة بشكل كامل، لذلك ستبقى المنظمة ومؤسساتها وقيادتها بنفس السوء ونفس الأمراض إن لم تزد أكثر، فمنظمة فقط بهذه المواصفات تكون قادرة أن تستوعب مثل هذه القيادة، فالطحالب يا عزيزي لا يمكن أن تعيش سوى في المياه الراكدة.

فقال رجل التلفاز مستفَزاً، وكأنه يريد رمي الكرة في مكان آخر:

ـ إن لم تُعجبك هذه القيادة إذهب إلى قيادة حماس!!!

وضحك، لكن الطبيب ظل على جديته، وقال:

ـ لولا ديانتي التي عرفتها لتوك لاتهمتني بأنني من حماس، انتم وقيادة حماس ولا أقول “قساموها” تتشاهبهون حد التطابق، ولإن استمروا بما هم سائرون عليه سيصلون إلى حيث وصلتم، إلى “المستنقع”، فخلافكم معهم أنكم تريدون احتكار الإستسلام وتعميمه وتعميقه، وجر الشعب كله بتضحياته كلها إلى مزبلة التاريخ، والأمر بالنسبة لي بسيط جداً، اذهبوا هانئين غانمين إلى هناك، لكن أتركوا شعبنا ليكمل مسيرته كما يشاء وبالطريقة التي يريد، ولا تحاولوا جرّه معكم مرة بالخداع وأخرى بالقمع.

كان كلامه قاطعاً كحد السيف، ورجل التلفاز الذي أخذت يداه بالإرتجاف، يحاول تغطيتها بتركه لسيجارته لتأكل نفسها في منفضة على الطاولة، وبتركه لكأسه ربع ممتلئ بجانب المنفضة وكأنه شاهداً على ما يدور من حديث.

نظر الطبيب في ساعة يده، استأذن وخرج معتذراً عن الإزعاج الذي سببه، لكنه بصراحة أثلج صدري، كوني لا أستطيع البوح بما في صدري مثله، كي لا يتم فصلي من عملي من الوزارة التي أعمل بها، وأجد نفسي في غياهب سجونهم، تاركاً خلفي طفلين وأمهم….

محمد النجار

لم يبق في الخم إلّا ممعوط الذنب

تجهم وجهه فجأة حتى قبل أن أكمل عبارتي، كاد أن يتشنج، وقال:

لا، إنه ليس ممعوط الذنب، بل إن ذنبه يكاد يشبه ذيل البراق، لم أقصد المعنى الحرفي للكلمة كما تعلم…                ويبدو أنه أدرك أنه تورّط بسبب اندفاعه في الحديث، فحاول أن يضبط أعصابه أكثر، غبّ من كوم الهواء المتناثر حواليه، وأعاد صياغة كلماته من جديد

ـ نعم لقد أتحفنا ياسر عبد ربه بذلك الرد الرائع على من أرادوا توريطه بالإستقالة من لجنة منظمة التحرير التنفيذية، لذلك يحقدون عليه ولذلك أسماه البعض “ياسر عبد ياسر”، ونتيجة لعلاقته المميزة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، أقول المميزة وليس التابعة، وكل ما يُقال حول تبعيته ليس له أي مصداقية، والمصداقية الوحيدة أنه كان ناصحاً مفكراً راسماً للبرامج، التي سرعان ما يتبناها المرحوم لدقتها وشفافيتها وعمق مشروعيتها النضالية. لذلك حقد عليه الحاقدون والمستسلمون الذين وصلوا للقيادة في غفلة من الزمن، حيث كان هو من يستحق القيادة وليس أحد آخر، الأمر الذي يعرفه القاصي والداني والذي ترك المرحوم  ياسر عرفات بها توصية مكتوبة حجبها هؤلاء الخلف الطالح عن الأنظار بشكل متعمد، وأكثر من يعرف بذلك حركة فتح وكوادرها وأعضاؤها وقياداتها الذين أوقفوا العمل بإغنية “أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها” تمهيدا لترئيس ياسر عبد …. “سأترك المكان خالياً كي لا نختلف، وكي لا تقاطعني” أقول لترئيسه للمنظمة وربما لفتح أيضاً، لإدراكهم لأهميته وصلابته وقوة شكيمته. وأمام أسئلتك الخبيثة حول رسالته ولماذا الآن يكشف بعضاً من صفحات أوسلو؟ ويكشف كيف أن السلطة لم تقدم شكوى لمحكمة الجنايات الدولية بسبب إحراق الرضيع علياً وأخوه وأبويه أحياء، بل قدمت مجرد توصيف ومعلومات لا تغني ولا تسمن من جوع، أقول أنه كشف ذلك الآن كونه ظل حريصاً على أسرار المنظمة من جانب وعدم نشر غسيلها المتسخ، كما أنه لم يرد أن يحرجها آملاً ان تصحح مسارها وتتراجع عن أفعالها القذرة من جانب آخر، لكن بعد أن رأى أن لا حياة لمن تنادي، أو على رأي المأثور الشعبي “يا طالب الدبس من ……. النمس”، قرر بأن ينشر شيئا من معلوماته كي تعود القيادة المتنفذة إلى رشدها وتعود عن إقالته، سائلة نفسها سؤالاً بديهياً واحداً: كيف يمكن أن تستقيم لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير خالية من إسم ياسر واحد على الأقل، ألا وهو ياسر عبد…، بعد أن أخذ الله أمانته من رئيس اللجنة التنفيذية ياسر عرفات؟ وكي لا تتعبني أكثر سأسرد لك صفحة واحدة من حياة هذا المناضل الكبير، علّ وعسى أن تفهم ولا تظل تستمع إلى أقوال المغرضين والجاحدين بهذه النعمة الإلهية على شعبنا والمسماة ياسر عبد….، أرجوك لا تنظر إليّ هكذا كي لاأنسى ما أريد قوله أو كي لا أخطىء وأردد أقوال البعض وأقول ياسر عبد ياسر…..

نعم لا تنظر إلي بهذا الإشمئزاز وكأني أسب الذات الإلهية، إنني أفرد أمامك رداً على ما يدور برأسك أنت وغيرك من الأسئلة من خلال صفحة حياته هذه، والتي تشبه إلى حدٍ كبير كلمات أغنية المطرب الشعبي حسن الأسمر التي تقول ” كتاب حياتي ياعين… ما شفت زيُّ كتاب… الفرح فيه سطرين …والباقي كله عذاب”، وتحسدونه “يللي ما تخافوا الله” على بضعة ملايين من الدولارات جمّعها بعرق جبينه أيها الحاقدون الحاسدون.                               اسمع وتعلم أيها المتفلسف، لقد بدأ هذا المغوار النضال منذ نعومة أظفاره، وأول ما قام به في حياته من مهمة نضالية هو المساهمة في شق صف اليسار الفلسطيني، حيث أراد سحب اليساريين من الجبهة الشعبية اليمينية في ذلك الوقت، أثناء وجود أمينها العام المرحوم جورج حبش في السجون السورية في ذلك الوقت، وعندما حرر المرحوم وديع حداد الحكيم من السجن بإحدى عملياته النوعية، كان من المحتجين على ذلك والرافضين لحضور المؤتمر الثاني للتنظيم رافعاً شعار” كان يجب إبلاغنا بتفاصيل العملية قبل البدء بها”، لا … ليس صحيحاً …الأمر يختلف عن مطالبة حكومة لبنان محتجة على حزب الله الذي لم يبلغها عن عملية اسر الجنديين قبل القيام بالعملية، إنه أمر مختلف، على كل حال، ولكي تعرف رصيده الجماهيري والحزبي في ذلك الوقت، أخبرك أنه قد حصل في المؤتمر الذي عقدوه بعد أن جمعوا كادرات الجبهة على أعلى الأصوات، وأعلى من الحكيم نفسه، هذا فقط لتعرف كم كان الجسم التنظيمي ملتفاً حولة!!!، ماذا؟ نعم لم تتم أي إنتخابات قاعدية حينها وأحضروا من يريدون للمشاركة في المؤتمر ، أم تريدهم أن يحضروا من يريد المرحوم وديع حداد و”جماعته”؟!!! وعلى كل حال ليس صحيحاً ما أُشيع بأن هذا هو أحد أسباب إضعاف اليسار الذي كان يوازي اليمين في ذلك الوقت، كما أنه ليس صحيحاً أنه من أوائل من وضع أسس المساومات من خلال النقاط العشرة ولا بموافقته على مؤتمر جنيف ولا بطرح الدولة المستقلة على حساب كامل التراب…. كل ذلك هراء. صحيح أنه فعل كل ما سبق، لكن من باب تثبيت مبدأ  “التكتيك” أيها الجاهل… أفهمت؟

ماذا؟ نعم إنني أؤمن بأن الله يمهل ولا يهمل، لكنني لا أوافقك الرأي أن ما تم في مؤتمر الإنفصال الذي عقده ليخرج من الديمقراطية هو بالشكل الذي يُشاع، الأمر بكل بساطة أنه عند حساب الأصوات في انتخابات المؤتمر كان هناك خطأ، وأن أحدهم كان قد تفوق عليه، الأمر الذي جعله هاج وماج وأرعد وأزبد محقاً، كيف لا وهو ياسر عبد ي…أن لا يحصل على أعلى الأصوات؟ فما كان من بعض رفاقه وجماعته إلّا أن يرفع أعمال المؤتمر، ويعيدون فرز الأصوات أكثر من مرة حتى يأخذ حقه ويعود مؤَيَداً مُسَيَدا للمؤتمر ويحصل على مُراده بأن يكون الحاصل على أعلى الأصوات، وبصراحة”مش معقول رئيس الحزب الجديد ومدبر أمره والصديق الشخصي للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ولا يحصل على أعلى الأصوات، لا إنه ليس تزويراً، إنه مجرد تعديل بالأرقام”، كما أن الأمر ليس محصوراً به، وصحيح أنه لا تجوز للميت غير الرحمة، لكن المرحوم الرئيس ياسر عرفات، في مؤتمر فتح الرابع ألم “يحرد” ويغادر المؤتمر احتجاجاً على نتيجة الإنتخابات القاعدية التي أفرزت الأغلبية للمرحوم أبي جهاد، وظل رافضاً الرجوع حتى عدّل موازين قوى المؤتمر بنفسه من خلال إغراق المؤتمر بمن أسماهم بالفعاليات الفلسطينية المستقلة، الذين كانوا مناصرين له!!! ثم لماذا تتحدث عنه لوحده؟ لقد كان الأمر وما يزال عادة عند القيادة الفلسطينية، ألم تر كيف فعلت القيادة الحالية عندما فازت حماس وما زالت تفعل؟ ألا ترى ماذا تفعل حماس بالمقابل كي تبقى مستأثرة بالقرار في غزة؟ ألم تسمع كم من المؤتمرات النقابية ألغيت نتيجتها لأن هذا أو ذاك من القيادة المتنفذة لم يستأثر بالقرار نتيجة فوز الآخرين؟ فألغوا النتائج كاملة عملاً بالمأثور الشعبي ” علي وعلى أعدائي” أو عملاً بقول الشاعر”إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر”، إذن لماذا، لماذا الإحتجاج عليه وحده؟ وكل ما فعله بالضبط كما يفعل الآخرون حتى لو وصل الأمر إلى “شعار” “شريك الخراء إخسر وخسّره” .

كما أن الأمر الذي لا يعرفه الكثيرون عن صاحبنا أنه هو من صاغ الجانب الإيجابي في أوسلو، أما الجانب السلبي من تنسيق أمني ومن نسيان للأسرى فكان من نصيب أبي مازن، وليس صحيحاً أنهما صاغاه سوياً وقدماه للرئيس عرفات، كما أن ياسر عبد …كان يرغب بعرضه على الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده قبل الموافقة عليه، لكنه تخوف مع الآ خرين من ظهور بعض جوانبه السلبية، الأمر الذي يمكن أن يفهمه الناس بشكل خاطىء، وبالتالي يفسد المشروع برمته.

إن المناضل ياسر أمين سر اللجنة التنفيذية في المنظمة، كان من أوائل من ابتدأوا الإتصالات مع الأمريكان، لكن ليس بأي ثمن ، كما فعلت قيادة المنظمة التي نتيجة إتصالاتها تلك غير المحسوبة، تم اختراق المخابرات لها، حيث تمكنت من  زرع أجهزة التنصت للموساد والcia في مكاتب الرئيس وبعض القيادات الأخرى، ولم يعرفوا أو يريدوا أن يعرفوا من أين أو كيف وصلت إلى مكاتبهم، لكنهم لم يستطيعوا ذلك في حالة ياسر عبد … أليس هذا بحد ذاته إعجازاً يستحق التكبير والتهليل؟ نعم الله أكبر ولله الحمد !!! وليس صحيحاً أنهم لم يكونوا بحاجة إلى معلومات عنه  لهامشية، ولا لأنه يصلهم ما يريدون بطريقة أيسر، ولا لأنهم يعرفون كيف وبماذا يفكر ودون جهود أو مصاريف إضافية، كل ذلك مزايدات رخيصة، لتشويه صورته الناصعة.

نعم، لقد أقام علاقة ندية مع القيادة المتنفذة وليس علاقة التابع بالمتبوع، أما مظاهر الفساد والعهر بالمعنى الحرفي للكلمة، وكذلك الإفساد وسرقة أموال الشعب وآخرها أموال التلفزيون الفلسطيني، فهي دعايات فارغة وكاذبة، وأنني أقسم لك، وليس من باب”قالوا للحرامي إحلف،  قال جاءك الفرج” بل بشكل صادق، أن ما يشاع هو في معظمه ـ كي أكون صادقاً ـ  ليس إلا تغطية على سرقات الآخرين، أم أنك تعتقد أن كل هذه الأملاك من معاشاتهم؟ أما ما يُشاع عن تغطيته على ما يُقال من غسيل الأموال التي يقوم بها رئيس الوزراء السابق الحمدالله، فهذا غير صحيحٍ أيضاً، صحيح أنه تربطه علاقة صداقة بالحمدالله بعد ترأس الأخير للحكومة، لكن نشأت الصداقة لخدمة الشعب ومصالحه، طبعاً أقصد مصالح الشعب وليس مصالح المناضل ياسر أو اخيه رئيس الحكومة، ثم لماذا لم يُعلنوا عن غسيل الأموال هذا إلّا بعد أن ترك الحمدلله رئاسة الحكومة واختلف مع الرئيس عباس؟ لماذا هذا الإستيقاظ المتأخر دائماً؟ إننا لم نعد سذجاً لنصدق كل أكاذيبهم.

ثم لماذا “كل ما دق الكوز في الجرة” يسحبون أحد أسلحتهم المُثلمة؟ أتذكر عندما وضعوا مخدراتٍ لأحد المناضلين على طريقة المخابرات المصرية التي عفا عليها الزمن؟ وهاهم يتهمونه بلقاء محمد الدحلان وكأن الدحلان ليس منهم واللقاء معه تهمة؟ فأنت خير من تعرف أنهم والدحلان كوم أوساخ مقسوماً بخيط، فلا فرق بين حرف الخاء سواء كان في أول الكلمة أو آخرها سوى بطول الذنب، فمثل هذه القيادات لا تستطيع أن تنتج إلاّ أمثال الدحلان أو أمثالهم، ثم ماذا يريد ياسر العبد من الدحلان مثلاً؟ فياسر والحمد لله أعطاه الله ثروة يستطيع العيش بها الف حياة وحياة، وهو ليس بحاجة لأموال الدحلان، والدحلان يستطيع حك جلده بظفرة داخل فتح، أم تعتقد أن المستفيدين من الشق السلبي لأوسلو الذي وقع عليه أبو مازن ولم يوقع عليه ياسر العبد … إنهم لا يفضلون الدحلان على أبي مازن أو العكس، إنهم يُفضلون أي شخص سيبصم بحافره للإسرائيليين مهما كان إسمه، بل ليس لإسمه أية أهمية، لأنهم يريدون أن يوقعوا ويقبضوا الثمن بالجملة وليس بالمفرق كما هو الآن وينتهوا من الأمر برمته، والدحلان هو الأكثر تأهيلاً والأكثر قبولاً اسرائيلياً وأمريكياً الآن كما تعلم، كما أنه بالتالي الأكثر دعماً من النظام الرسمي العربي وعلى رأسه نظام الحكمة، نظام آل سعود، وبرأيهم أن هذا الهرم أبو مازن لن يعيش للأبد، ولقد قام الرجل بدوره، والآن يريدون شخصاً أكثر انبطاحاً وأكثر شباباً وأكثر سمعاً وطاعة، وإن ظلت الأمور كما هي عليه الآن سترى بأم عينك ماذا سيحدث داخل عُش القيادة نفسها….

أما وثيقة التخلي عن حق العودة كما يحلو لك أن تسميها، فهي ليست كذلك، إنها مجرد اقتراح أو مبادرة أو سمها ما شئت، وكون ياسر العبد بقلب طيب، يمكنك القول أنه صدّق كلمات الصهيوني المتغلف بغلاف الحمل “يوسي بيلين”، الذي خدعه وجعله يوقع عليها دون قراءتها، وفي النهاية “جل من لا يُخطىء”، كما أنني أطالبك بأن تتذكر تصريحات الرئيس عباس كما تتذكر وثيقة ياسر  ـ بيلين، الذي أعلن تخليه عن حق العودة من على صفحة التلفاز بكل صفاقة ووقاحة ولم تعلق على ذلك بشيء، وكما ياسر أعلن رفضه لكل أنواع “الشَغَب والعمل المسلح الإرهابي، والإنتفاضات العنيفة”، كذلك أعلنها عباس، ولا أعتقد أن أجداً نسي عبارة “الصواريخ العبثية”لكنك أنت تريد أن تنسى،  وأظن أن الهجوم الذي قاده عباس على المقاومة لم تستطع إسرائيل نفسها القيام به رغم كل أخطبوطها الإعلامي، أليس كذلك؟ أم أنك ستنكر هذا أيضاً؟!!!ودعني أبوح لك بسرٍ يؤكد بأن كل ذلك وكل المواقف والتصرفات كانت دائماً وأبداً بطلب من الرئاسة بشكل مباشر، وأن ياسر” العبد” إن شئت لم يفعل سوى ما أُمر به ياسر “الحر”، زمن الرئيس ياسر عرفات ثم زمن الرئيس عباس، وأبوح لك بما هو أكثر، لو كان ياسر هو “ياسر عبد عباس” مثلاً، لما كان أقاله من لجنته التنفيذية أبداً، لكنه لا يستطيع التعايش مع الأنداد من أمثال ياسر العبد”وأقولها للإختصار فقط، كي لا يذهب ذهنك بعيداً”، والعبد ياسر على كل حال سيحاول جسر الخطوة بينه وبين الرئيس من أجل المصلحة الوطنية ، وليس لأسباب ذاتية وشخصية، وسيظل “العبد ياسر”، أقصد العبد لله ياسر عبد ربه طال الزمن أم قصر ومهما خبأ له القدر رمزاً من رموز الوطن التي تتغنى بإسمه كافة الجماهير…..                                                               وإنني أعلمك وأحذرك في ذات الوقت من مجرد التفكير ، بغير ما أوضحته لك، نحن صحيح ديمقراطيون، لكن لكل شيء حدود ، حتي في طريقة التفكير… أفهمت؟!!!

محمد النجار

شهاب الدين وأخوه

الأمر ليس بجديدٍ على الشعب الفلسطيني، فمشكلته قديمة جديدة، فدائمًا يكون في قمة عطائه وقيادته في قمة مساومتها وتبعيتها وتنازلاتها، والأمر لم يعد محصوراً بعائلات الإقطاع التي قادته في ثوراته وانتفاضاته الفاشلة القديمة، بل والحديثة أيضاً، لذلك ينطبق عليه المأثور الشعبي بأسطع تجلياته،” طول عمرك يازبيبة في …. عود”… وكيلا نتوه في التاريخ ونبتعد عن جوهر موضوعنا، سنركز موضوعنا في قيادات الشعب الفلسطيني التي قادت الثورة الفلسطينية الحديثة، حيث ابتدأت قيادة الثورة البرجوازية الصغيرة، في قمة عنفوانها وعطائها الثوري، فساهمت في رسم الميثاق الوطني وحددت البرنامج الإستراتيجي والتكتيكي، وحملت البندقية وناضلت وقاتلت…لكنها تدريجياً أخذت تتماهى مع الرجعية العربية، وارتضت أن تزرع بها الأنظمة رجالاتُها، وقبلت بالمال المشروط، وأخذت تتذاكى لنراها مرة مع الأنظمة الوطنية ومرات مع الرجعية، وبنت “ترسانة” مالية ضخمة، تجاوزت الميزانية السنوية لبعض الدول العربية، حتى أنها أقرضت بعض الدول العربية أكثر من مرة، لتذهب هذه الترسانة المالية إلى يد أرملة الرئيس وكأنها أمواله الخاصة!!!، وكون المال لم يُستخدم لخدمة القضية الوطنية بشكل صحيح، فقد أضعفتها قوة المال فهانت دماء الشهداء وآهات شعبها، فتراجعت عن شعاراتها نفسها، وبدل المراجعة النقدية تاهت بين هدفها الإستراتيجي والتكتيكي، وغلبت التكتيك على الإستراتيجيا، وتنازلت عن الإستراتيجيا والتكتيك معاً، وأخذت هذه القيادة تتذاكى أكثر، فاتصلت بالصهاينة متجاوبة مع سماسرة الصهاينة ووعودهم فتنازلت عن الميثاق الوطني، وزيادة في التذاكي ساومت من خلف الشعب ودون علمه متنازلة عن كل ثوابته، وجلبت اتفاق أوسلو  بكل مآسيه للشعب الفلسطيني، محملاً بالتنسيق الأمني واعتقال المناضلين، ناشرة الفساد والإفساد، وثقافة البؤس والإستهلاك بدل الثقافة الثورية والوطنية، محاولة تحطيم المعنويات والتجهيل والتعتيم والمضايقة والملاحقة الأمنية، والسجن للوطن والناس، تاركة عملاء الإحتلال يصولون ويجولون دون رادع ولا حتى سؤال. هذا ما حصل مع قيادة حركة فتح ، وهو ما يتكرر ويحصل اليوم مع قيادة حركة حماس، فبعد أن انطلقت مع بداية الإنتفاضة الأولى في قطاع غزة، وبعد عام كامل من بدء الإنتفاضة في الضفة الفلسطينية، جاءتنا بشعارها الأول “حماس هي الأساس”، حتى أنها لم تعتبر نفسها امتداداً لقوى الثورة الفلسطينية كما يفعل حزب الله مثلاُ، بل اعتبرت نفسها بديلاً عن المنظمات جميعها، فمن حيث المبدأ لم تكن هي الأساس ، فهي جاءت بعد أربع عقود تقريبا من عمر الثورة الحديثة بشهدائها وجرحاها وأسراها، وفي الوقت الذي كانت فصائل المقاومة تقدم الشهداء وتثبت القضية الوطنية على “أجندات” العالم، وبغض النظر عن الأخطاء والخطايا التي تمت، فإن حركة الإخوان المسلمين في فلسطين، كانت ترفع شعار” لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها” وفي محاولات الهروب للأمام كانت تطرح”تحرير الأندلس قبل فلسطين”، ولم تقدم على مدى عمر الثورة حتى الإنتفاضة أسيراً واحداً فما بالك بالشهداء !!! وهي بذلك لم تختلف عن حركة الإخوان المسلمين العامة التي لم تقم يوما بتأييد أي حركة ثورية في العالم العربي، بل كانت دائماً وأبداً مع الثورة المضادة في أي مكان تواجدت به، والمثال الساطع وقوفها في وجه ثورة الشعب المصري التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في الوقت الذي دعمت به كل الأنظمة الرجعية!!!… والشعار الثاني الذي رفعته كان “الإسلام هو الحل”، الأمر الذي يعني في أحسن صوره تحييد مسيحيوا فلسطين وإبعادهم عن النضال، ثم أنهم بذلك جعلوا من أنفسهم أوصياء على الدين واختزال الدين بمفهومهم له، وفي سياق الإنتفاضة خاصة سنواتها الأولى، لم نر منهم اسلاماً وأكاد أقول ولا مسلمين أيضاً، فهم مثلاً لم يوافقوا يوماً على برامج مشتركة مع القيادة الوطنية الموحدة للإنتفاضة، ولم يوافقوا على بيان مشترك ، ولم يوافقوا على فعالية مشتركة، وكانت بياناتهم مربكة لحركة الشارع كونها كانت وفي معظم الأحيان في تناقض مع بيانات وبرامج القيادة الوطنية الموحدة للإنتفاضة!!! ولم تُجدي كل المحاولات، وفشلت كل الجهود لتوحيد جهودهم مع العمل الإنتفاضي، لدرجة أن الشعور العام الذي كان سائداّ آنئذٍ،  أن هؤلاء جاؤوا للإلتفاف على وحدانية تمثيل م.ت. ف. بدعم أمريكي لخدمة الكيان الصهيوني…

ومع محاولات القيادة المتنفذة في المنظمة، جني ثمار الإنتفاضة قبل نضوجها، بعد مهاجمة العراق من الإمبريالية الأمريكية، وعلى أثر اعتقال الآلاف من مناضلي الإنتفاضة وتحديداً من حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتحديداً الإعتقال الإداري، وفشل مشروع الجبهة لنقل الإنتفاضة إلى العمل العسكري الذي كانت قد بدأته في أوائل سنوات التسعينات من القرن الماضي لأسباب لم توضحها حتى الآن، ابتدأت حركة حماس الأعمال النوعية المميزة ، والأعمال الإستشهادية التي ازدادت وتنامت بعد رجوع المئات من مبعدي الحركة من الجنوب اللبناني، والتي كانت جهود حزب الله وبصماته واضحة على كل أعمالها تقريبا، في نفس الوقت الذي أخذت تظهر بجلاء مساومات القيادة الفردية وممارساتها وفسادها وما تقوم به من شراء للذمم ودعم البرجوازية التجارية ذات الطابع التكاملي مع الإحتلال، ومع الإعتقالات الهائلة لمناضلي اليسار وقياداته والتي كانت تعمل من تحت الأرض، بعد أن تم اكتشافها بعد عشرات السنين من نضالها، إضافة إلى شعارات حماس التي ركزت على الهدف الإستراتيجي من جديد، وبتحالفاتها مع حزب الله والدعم الإيراني والسوري لها، أخذ جزء مهم من جسمها التنظيمي ينحاز للعمل المسلح ويزيد من قدراتها، وأخذ يزداد إلتفاف الجماهير حولها الأمر الذي مكنها من كسب الإنتخابات لاحقاً وتشكيل حكومتها ، والإنتصار على محاولات” فتح” الإنقلاب عليها في غزة، من خلاال محمد دحلان المدعوم من أكثر من دولة رجعية عربية، ومن فتح نفسها بالطبع، وبعد أن أخذت تتفولذ حركة القسام وتزداد تجربة ومعرفة، وتتعمق تحالفاتها مع حزب الله وإيران وسوريا، كان جزء من القيادة السياسية بقيادة خالد مشعل وموسى أبومرزوق (الذي سرعان ما يلبس ثوب المفتي بعد أن يقلع ثوب المناضل، “أفتى بأن التفاوض مع الكيان الصهيوني لا يخالف الشرع، ومن يدري فربما يفتي لاحقاً بأن من لا يُفاوض الكيان يُخالف الشرع)، والمقيم في مصر (رغم معاداة النظام المصري لبندقية الثورة المنتصرة في غزة والتي تسبب له إحراجاً كبيراً)، والذين”مشعل ـ أبو مرزوق” أهم ما يميزهما “مع آخرين من القيادة السياسية، هو سياسة التذلل المالي والسياسي، وبناء “ترسانة” مالية كما فعلت قيادة فتح واستغلالها في الضغط على حركتهم نفسها لفرض مواقفهم التي ليس لها علاقة بالعمل الثوري، رغم أنهم تسلقوا وبشكل انتهازي على ظهر  إنتصارات “القسام” التي حققها بالدم والجهد والمثابرة، لتحقيق مآربه ومصالحه، مبقين الحركة مرتبطة مع المحور الرجعي العربي، ومع قيادات الإخوان المسلمين الرجعية التي لا تستطيع الحياة سوى في المياه الآسنة، ومع العثماني الجديد أردوغان. ويزداد تذاكيهم من خلاال خالد مشعل، الذي تفوق على قيادة م ت ف في “تبويس” اللحى وفي النفاق، فإيران وحزب الله تدعم وتدرب وتنقل التكنولوجيا في تصنيع الصواريخ، وينتصر الشعب الفلسطيني في القطاع، وخالد مشعل يوزع الشكر على “والي” قطر ووالي السودان وأردوغان وملك آل سعود، مبتعداً وبشكلٍ متعمد عن محور المقاومة، ليصل إلى اللقاءات غير المباشرة من خلال”مُدمر العراق” طوني بلير، واصلاً إلى حيث وصلوا بدعم ما تقدم من دول رجعية لن توصل شعبنا إلّا إلى “أوسلو جديد”، والشعارات نفسها كما كانت مع قيادة المنظمة، فك الحصار وبناء الميناء وإعادة الإعمار، مجمَلاً بشعارات تحرير كل فلسطين من هذا الزعيم أم ذاك، ألا يُذكرنا هذا بنفس أسلوب قيادة م ت ف والتي ما زال بعض قادتها يستعملونه حتى الآن؟!!!

والمهم إذا كان اتفاق أوسلو قد أوصل شعبنا إلى الهاوية، فإن الهدنة المقترحة ستمزق ما تبقى من وطن ومواطن، وواهم من يعتقد أن بمثل هذه المساومات الرخيصة وبموازين القوى هذه، أن يكون هناك أي مرفأ أو مكان دون رقابة إسرائيلية، أو أن يظل السلاح الفلسطيني كما هو وأن يتطور، أو أن لا يسلم مشعل ـ مرزوق السلاح كما فعلت قيادة فتح،  وفي الحالتين تفريغ الوطن من مصادر قوته ومن سلاحه!!! وغزة لن تصبح “سنغافورة” كما أن الضفة لم تصبح “هونغ كونغ” إقتصادية. فقيادة حماس ستصبح صورة مسخ عن قيادة المنظمة، فستعتقل (وهي تفعل)، وستُفسد وترشي وستكون الوساطة هي أساس التعامل ، وستتهم الآخرين بكل شيء وأي شيء لتُنَمّي مصالحها الطبقية، وكما أن “الطاسة ضايعة” لدى السلطة، بين قيادة حركة فتح وقيادة السلطة” عندما يعجبهم ففتح التي فعلت وعندما تكون الرائحة تزكم الأنوف، لا علاقة لفتح والسلطة المذنبة”، وكذلك الحال بين قبادة حماس وحكومة غزة، فالوساطة والبيروقراطية والفساد هي أساس الملك، ولا مَنْ يحاسِب أو يحاسَب ، وستصبح الديمقراطية “بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”، وتداول السلطة خروجاً عن طاعة الله وزندقة وفجور، وحرية الرأي والتعبير وحق الإختيار والتعبير “رجس من عمل الشيطان”، يعني كما هو الحال في الضفة الفلسطينية، وستُبنى الشركات المكملة وستُسوّق بضائع المصانع الإسرائيلية، وستأخذ الحكومة الموقرة حصتها من الضرائب… أليس الأمر مُشجعاً على التفاوض وقبول الإسرائيلي كجار لا بد منه في المنطقة؟!!!

فحركة الإخوان المسلمين كانت في كل أماكن تواجدها حركة منافقة ، مناوئة للثورات، مع الأنظمة الفاسدة، وها نحن نراهم في سوريا، كيف أدخلوا حثالات الأرض الدواعش القاعدة”النصرة”، وكانوا مصنعاً لتفريخهم، ورأيناهم خلال سنة كاملة في مصر وما زلنا، وكيف كان رئيسهم يناشد بيرس ويناغيه ويصفه بالرجل العظيم، وكيف قادوا سياسة التجهيل ورفض الآخر والهجوم على لقمة الشعب والإستدانة من البنك الدولي والصفقات مع العم سام، ورأينا مشعل نفسه يوعز لمرافقيه لتأسيس”أكناف بيت المقدس” التي استجلبت النصرة لمخيم اليرموك وأفرغته من سكانه، كما في الكثير من المخيمات الأخرى، في الوقت الذي كانت الصواريخ السورية تتدفق إلى غزة!!!، ورأيناهم في تونس وحالات الإغتيالات السياسية لليسار وقادته، وأنزلهم الشعب عن العرش كما في مصر، وها هم في السودان حيث قسّموا السودان بمساعدة مشيخة قطر وصحّروه وجوعوا شعبه، وها هم قسّموا ليبيا فعلياً بمساعدة “الأطلسي”، وفي اليمن يؤيدون عدوان أمريكا ـ  آل سعود ويحاربون ثورة الشعب اليمني بقوة السلاح، لكنهم لم يحركوا ساكناً في أي دولة رجعية في المنطقة. النقطة الوحيدة المضيئة لهم “القسّام” يريدون إطفاءها بكل السبل وبدعم عثماني وأموال قطرية سعودية وبإتفاق مع الكيان الصهيوني. وفي النهاية، إن القيادتين متشابهتان حد التطابق، والشعارات لوحدها لا تحرر أوطاناً، وسيظل “شهاب الدين أظرط من أخيه”…

لذلك، وكون محور المقاومة جاداً في دعم قضية فلسطين، فعليه فعل ذلك كما يجب وبشكل مكثف، وأعتقد أنه لا يجب أن يظل أسيراً في تكثيف دعم التيارات الدينية فقط، أو أكثر من اليسارية، فهو خير من يعلم أن “ليس كل ما يلمع ذهباً”، بل إن تكثيف دعم اليسار الفلسطيني وبقوة حاجة ضرورية ومستعجلة وماسة، فلدى رأس اليسار من الخبرة والإستعداد والإرادة ما يجعله ربما الأقدر على القيام بهذه المسؤلية، وهو بالتأكيد الأكثر أصالة ووفاء، بجانب حركة الجهاد الإسلامي، رغم ما أصاب بعض أطراف جسده من ترهل، لأنه يدرك جيداً أن هذا الزمن ” لا كما يتخيلون…. بمشيئة الملّاح تجري الريح… والتيار يغلبه السفين” كما قال الشاعر الكبير محمود درويش ذات يوم، وتاريخه حافل بالإبداع والمبادرات، وهو لم يهن يوماً وعمل وما يزال يعمل على أن ينفض طائر العنقاء “الفلسطيني” الرماد عن نفسه ويُحلّق من جديد ، ممزقاً إتفاقاتهم وراميها في مزابل التاريخ.

محمد النجار