الخبّاز

الحكاية تكالب عليها المخصيون وعشرات السنين سيدي القاضي، ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، ورغم ذلك لم تشخ ولم تمت، ظلت حية إلى يومنا هذا، وهذا هو المهم في الأمر كله، والله وحده يعرف إلى متى ستعيش. لكن المؤكد أنها ستظل تُجدد نفسها من تلقاء نفسها، إن قسى عليها أصحابها أو بخلوا عليها أو حتى تقاعسوا عن نسج حكاياها من جديد، دون أن يُعيدوا لها تاريخها الذي توقف منذ ذلك التاريخ.

قيل عنها الكثير سيدي القاضي ومازال، قيل أنها ثابتة ثبات أشجار التين والزيتون، تمتد جذورها عميقاً في أمعاء الأرض، تتشابكان وتتحدان في لحن رياني مثير، راسخة رسوخ الجبال لا تتنازل عن مكانها التي منحته لها الجغرافيا وخصها التاريخ به، لا تبدله أو تغيره، وتحافظ على كل ما لها من رمل وحجر وبشر وأشجار، تحتضنهم حتى لو كانوا جثثاً هامدة، تضمهم في أعماقها ليكون لثمار التين معنى بعد أن تزرع فيه عصارتهم وتمنح روحه طعم الشهد.

كان جدي في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر، يُعمّر الفرن وسيجارة الهيشي المقتلعة من “تتن” الحاكورة تتدلى من بين شفتيه، ويداه تُذري كوماً من الجفت كما تذريان في الخلاء زهور القمح، يدخله الفرن ويضعه فوق بواقي الجمر الذي غفا في ليلته الماضية مخلفاً بعض رماد دون أن يتنازل عن جمراته، فيتحول  كل “الجفت”إلى جمر أحمر يبث حرارته في الأرجاء كلها، ناثراً عبق الزيتون في كل رغيف خبز يدخل بين أحضانه ليتحمص قليلاً. ولما يتعب في آخر النهار يصعد فوق الفرن محتضناً الجفت متمرغاً في حرارته التي طالما شبهها بحرارة حضن جدتي، يرتاح فوقه ساعة أو بضع ساعة، متدثراً بالدفء الذي ينفثه كوم “الجفت” في الهواء المشبع بزيت الزيتون، لكنه يظل معظم الوقت يخبز للقرية كلها دون أجر نقدي، لكن أهل قريتنا لا يأكلون حق أحد، كانوا يعوضونه بالبيض والدجاج والفواكه والخضار، رغم أننا كنا نملك منها الكثير.

كانت حكاياته لا تنقطع ولا تنتهي، والمرحوم والدي يتشرب الصنعة والحكايات منه كما الإسفنجة تتشرب الماء، ويجعل من كل شيء داخل ذاكرته حكاية، من تجاربه المتراكمة هناك في دولاب الذاكرة، من قصص الناس وتجارب القرية يصنع الحكمة، وأبي يُخزن تلك الحكايات ويستلهم الحِكَم ليتلوها علي فيما بعد، كما تتلو آيات من الذكر الحكيم، فصرت أشعر أن جذوري تمتد عميقاً في باطن الأرض لتعانق جذور التاريخ هناك، وتناغي الفرن الذي بناه جدي في تلك القرية التي تكاد تلتقطها العين من الجنوب اللبناني، بناه بيديه وبمساعدة طفيفة من إخوته الكبار، فأنا في ذلك الوقت لم أكن موجوداً، لم أُخلق بعد، جئت بعد أن إقتلعونا من جذورنا من قريتنا في الشمال، أين ومتى وكيف، يمكنني الجزم أنني مثل الكثيرين الذين جاؤوا وحسب، لا يهم كيف ولا أين، المهم انهم جاؤوا بجذور مقطعة وأوصال ممزقة، والله وحده يعلم كيف استطاعوا شبك جذورهم من جديد رغم طول المسافة ومرور الزمن.

منذ ذلك الزمن صرنا لاجئين، وبنى والدي فرنه في مخيم عين الحلوه في لبنان، وصار يعجن ويخبز ويطعم المخيم كله، وفي المساء يجلس في ركن من أركان غرفتنا يعاتب الرب أحياناً ويستعطفه أحياناً أخرى، وكنت أحس دمعاته وأنا في فرشتي، دون أن أملك الجرأة عن الإفصاح عن سهر حاسة السمع عندي إلى تلك الساعة، لكن الأكيد أن الله لم يستمع له في كل تلك السنين.

كان محترفاً إلى حد الذهول، يُلاعب العجين على أصابعه مثل “الجني”، لا تكاد ترى حركة أصابعه، وفي مرات كثيرة كان يحذف بالرغيف في زاوية الفرن البعيدة دون حاجة للمزلاج، لكنه لم ينسَ يوماً ذكرياته في قرية الشجرة التي هجّروه منها ، مُنتزعينه من وسط كرم الدوالي وأشجارالتين والزيتون، لذلك ظلت قرية الشجرة في رأسه ولم تفارقه يوماً، وكلما تقادم الزمن كلما زادت شموخاً في رأسه، كالنبيذ المعتق سيدي القاضي، وزادت أقاصيصه لي عنها، وصارت أمنيته أن يختطف حزمة ضوء  من سمائها بين جفنيه قبل أن يموت، لكنه بعد زمن مات دون أن يختطف تلك الحزمة التي تمنى أو أراد.

وصرت أنا الخبَّاز الجديد سيدي القاضي، كنت أعمل في مكان أبي، في مخيم عين الحلوه قبل أن أنتقل مع القادمين الجدد الى هذه الأرض، التي إعتقدتها ستوصلني لاحقاً إلى قرية الشجرة، قريتي وقرية والدي وجدي الذي لم يسعفهما الزمن ولم تساعدهما القوة في أن يقطفا من حقول سمائها ضمة ورد من ضياء ويموتان. ماتا قبل أن يريا قريتنا، قرية الشجرة، لعلك سمعت بها سيدي؟!!!

ـ ماذا ؟ لم تسمع بها، ليس مهماً على أي حال، إنها هناك في الشمال، أبعد من صفد التي تخلى عنها سيادته وسيادتهم، قالوا أنها لا تهمهم، ومن لا تهمه صفد وحيفا ويافا أتعتقد أنه يمكن أن تهمه قرية الشجرة؟ “مجنون يحكي وعاقل يستمع” سيدي القاضي.

كنت أقف طوال نهاري على قدميّ دون “آه” واحدة، دون ملل أو ضجر، أو حتى حالة تأفف، لأنني ببساطة شديدة كنت أحب عملي، هل قلت كنتُ؟ لا بل ومازلت أحبه، فأنا في متاهات تفاصيله منذ الصغر، لم أترك كبيرة أم صغيرة دون أن أتعلمها حين كنت مساعداً للمرحوم والدي، وبقيت كذلك حتى غيبه الموت وأنا ما أزال طفلاً.

لن تصدق أبداً أنه مات جوعاً والخبز بين يديه، قالوا فقر دم وقالوا هزالاً وقالوا “أنيميا”، لكن النتيجة واحدة وهي نتاج الجوع، أتصدق أن خبازا يموت جوعاً؟ مات هناك مكانه في الحفرة المقابلة للفرن تماماً، تكوم على نفسه ولفظ بقية أنفاسه فارغ الجفنين رغم أن كل ما أراده حزمة ضوء يشم منها تاريخاً حاولوا سلبه، معتقدين أن الأكاذيب يمكن أن تصنع لهم تاريخاً، ما أسخفهم، وهل يُصنع التاريخ بالأكاذيب؟!!!.

كان رحمه الله خبازاً محترفاً سيدي القاضي، لم يترك رغيفاً واحداً طوال حياته يحترق، فبالنسبة إليه الرغيف المحروق وصمة عار في جبين خبّازه لن تُمحى أبداً، لأنك إن صنعت شيئاً عليك أن تصنعه جيداً أو أن تختفي خلف جهلك وتعانق المقهى وألعاب الورق…

حاضر سيدي القاضي، سأتكلم عن نفسي فقط وأوجز، أعرف أن ليس لديك وقتاً تضيعه على أمثالي.

مات واستلمت أنا مهنته، كنت قد تعلمتها وعشقتها، حتى قبل أن أكبر وتستطيع عيناي أن ترى ما بداخل الفرن، كنت قد وضعت كرسياً في حفرة الفرن بجانب المرحوم ليزيد من طولي قليلاً، ورغم أن المرحوم كان يتعثر به إلا أنه لم ينهرني من حواف قدميه.

وكبرت، وكنت أقطع من العجين كتلة صماء فأخلق منها رغيفاً ساخناً يتطاير منه البخار فخوراً مختالاً نحو السماء، أفرش تحتها بعض حبيبات الطحين وكذلك فوقها كي أمنع محاولات إلتصاقها، أضغط الكتلة بأصابع يدي الثمانية، وأقلبها وأحملها وأناغيها وأدللها، فتنفرد أمامي وتتمدد كعاشقة عارية تنتظر حبيبها لتضمه بين أحضانها لعله يُخفف قليلاً من ألم الجوى، أُلقيها في الهواء، فتطير متضاحكة وترتفع دائرة حول نفسها مثل عروس ترقص في يوم زفافها، قبل أن تتهاوى وتنزل بين كفي، تستدير وتتمدد وتظل كما هي وكأنني رسمتها رسما على سطح ورقة، لم تُثقب ولم تتمزق يوماً ولم يختلف شكلها ولم يتعكر صفو حوافها، ثم أضعها على المزلاج الخشبي الذي أمامي رغيفاً من عجين، فأضعه بعيداً على حافة الفرن المقابلة للنار، فقربه من النار يحرقه، وبعده عنها يجففه ويسبغه بلون الموت، يجب أن يظل على مسافة مناسبة… لا ليس وسطياً سيدي، بل في مكان مناسب، فالوسطية لا تصنع رغيفاً من الخبز بمذاق جيد. ثم أبدأ بتحريكه وهو في مكانه، أجعله يدور حول نفسه كمخمور، ليبدأ يكتسي لوناً جديداً، وكم كنت أتمتع وأنا أراه ينتقخ وينتفخ ويبدأ بالإحمرار، فأحركه من جديد لتصل النار ألى كامل سطحه، ويتساوى عليه لون النار دون فروق، المساواة ضرورية حتى للخبز كي لا يكون طرفاً ناضجاً وآخر غير ناضج، ثم أخرجه قبل أن تهزمه النار ويتفجر من أحد أطرافه الضعيفة ويكون البخار مازال يتصاعد عن وجهه كما يتصاعد الدخان من مصباح علاء الدين قبل صعود الجني وتحرره منه . ولا أضع الخبز واحداً على ظهر أخيه قبل أن يبرده الهواء قليلاً، كيلا يتحول البخار الى حبيبات ماء تفسد الرغيف وتفسد أكله، ففي مهنتنا، مثل كل مهنة، هناك أسرار بدونها لن تصل لدرجة خباز محترف كما كان المرحوم والدي وقبله جدي.

وهكذا كنت، أعمل من الفجر الى آخر النهار، وكان معظم المخيم يشتري خبزه مني رغم وجود أفراناً أخرى، ترى رجاله ونساءه مصطفين ليشتروا الخبز الذي تصنعه يداي، نعم سيدي… قبل أن يُحرّموا الإختلاط ويُحرّموا المرأة جسداً وروحاً، وقبل أن تخرج الفتاوى بلفلفتها وبرقعتها وسجنها بين طناجر الطعام وعلى “فرشات” الجنس البارد، بعد أن كانت قد بدأت تقبض على البندقية.

وجاءني جنابه وقتها، نعم في يوم صيفي قائظ، وأنا في الحفرة أواجه النار، وأتصدى لجحيم الطبيعة الذي فجّر ينبوع نهر من العرق يسيل من رأسي حتى تحت خاصري، وطلب مني أن آتيه في يوم الجمعة اللاحق، حيث كان يوم عطلتي.

ذهبت لمقابلته، وسألني:

ـ كم يعطيك، أبو خليل،  مالك الفرن أجرة في الشهر؟

وقلت له بصدق المبلغ والذي لم أعد أذكره، فقال:

ـ كيف إستطعت أن تعمل عنده بعد أن قتل أباك؟

كان يريد أن يزرع الفتنة بينيوبين أبي خليل، وهي مقدمة لفتنة بين أبناء المخيم الواحد!

أنظر إليه، هاهو يضحك من خلفك سيدي القاضي، إن كنت أكذب فليقاطعني، كيف يمكن أن يكون خلفكم أنتم القضاة أيضاً؟ عقلي سيتفجر سيدي القاضي، أجده خلف القضاة وخلف الوزارات وخلف الوزراء والمؤسسات!!! بل صار بديلاً عن كل شيء سيدي القاضي، كيف يتم ذلك؟ كيق وصل تأثيره ألى كل شيء؟.

أعرف سيدي القاضي أنه ليس من شأني، لكنه مجرد فضول…قلت:

ـ مات والدي قضاء وقدراً، فالأعمار بيد الله.

قال:

ـ الأعمار بيد الله لكنه كان المتسبب.

وسكت هنيهة وكأنه يريد أن تدخل الكلمات ثنايا رأسي وتستقر فيه، وقال:

ـ لو كنت مكانك لقتلته… على كل حال ليس هذا موضوعنا، موضوعي أنني رأيت مهارتك، واستشرت القيادة التي وافقت على تسليمك فرناً تخبز به للثوار، للفدائيين، هل تقبل أن تستلم فرن الثورة وتقوده، وتترك أبا خليل، وبهذا تثأر من قاتل والدك؟

لم أعلق على جملته الأخيرة سيدي القاضي، لكنني قلت متسائلاً:

ـ فرن الثورة؟ كيف لا؟ ومن يرفض هذا الشرف؟

لم أكن أعرف أن للثورة فرنها الخاص، وأن للثوار فرنهم وخبازهم الذي يختلف عن فرن المخيم وخبازه، ولم أتردد في الإلتحاق به، فأعطيت أبا خليل مهلة ليجد عني بديلاً، والتحقت للعمل في فرن الثورة، وكان جنابه، ربنا الله، قد زاد معاشي عشرين ليرة لبنانية كاملة، ووضع بجانبي مساعداً أيضاً، لأن عملي لن يستطيع إنجازه شخص واحد أبداً، وصرت أعمل مثلما كنت أعمل هناك، لكن بزيادة طفيفة، قدر ساعة أو ساعة ونصف الساعة في اليوم الواحد، كي نستطيع أن نؤدي عملنا على أكمل وجه، ولا نترك الفدائيين يتضورون جوعاً.

جنابه لم يقصر معي أبداً، دفع أجرتي قبل أن يجف عرقي، ربنا الله، وأحياناً عندما يزيد الخبز عن أكل الفدائيين كان يُحمّلني بضعة أرغفة لبيتي دون أن يأخذ ثمنه إلا آخر الشهر، يخصم ثلاثة أرباع سعرها وليس سعرها كاملاً، لأنها تكون قد فقدت سخنوتها، أو ظلت الى اليوم التالي نائمة في مكان ما. وكونه هو في الأصل محاسباً، دخل الثورة ليضبط حساباتها، واستطاع ضبطها ولملمة تبعثرها لكن لتتوجه إلى جيبه، وكان واضحاً منذ البدء، حدد بوصلته جيداً، البوصلة هي المال العام والمكان هو جيبه كما قال الكثيرون. كان يأتي لي بفواتير يومية أوقعها عن عدد الأرغفة وسعرها… وكانت هذه الأرغفة بعدد ثابت كل يوم، وكان العدد ألف رغيف في اليوم الواحد، لم تزد يوماً ولا تقل، وأنا كنت أعتقد أنه عدّها أو على الأقل قدرها بشكل تقريبي، حتى جاء يوم واستدعاني أحد المسؤولين الكبار عن مخابز الثورة، وأراني أحد الفواتير بتوقيعي وبصمتي أيضاً، فرأيت بأم عيني أن العدد لم يكن ألفاً في أية فاتورة، بل تم تكبير الأصفار وتحريكها لتصبح أرقاما كبيرة، كان جنابه قد حركها بلمساته السحرية الخفيفة، فجعلت من الأرقام الصماء الميتة فوق الأوراق جبالاً من النقود في جيبه، ومن يستطيع أن يفعل ذلك غير محاسب محترف كان قد دخل الثورة لضبط حساباتها؟!!!

ولك أن تعد سيدي القاضي كم ألف من الأرغفة سُحبت من فم الفدائيين لتتحول للنهر المنساب  مالاً قي جيبه كل شهر، دون أن يفرد بأصابعه الناعمة حتى لو رغيفاً واحداً، ودون أن تلفحه نيران الفرن ولو ساعة واحدة، ولا حتى أن بنام ساعة واحدة في “جفت” الزيتون الذي ما زال يحتفظ لنفسه بحصة من الزيت، وحينها تذكرت كلمات المرحوم والدي ناقلاً المأثور الشعبي ” المال السايب يعلم السرقة” ليس هذا فحسب، بل هو يسرق وأنا المتهم وأنا من يُحاسب، فهل يحق لمثله أن يكون خلفكم أنتم القضاة في قضية المتهم فيها غريمه سيدي القاضي؟

ـ حاضر، “سأسد نيعي” مادام الأمر ليس شأني.

لم أعلم شيئاً عن الأمر في مخيمنا اللبناني، وأخذني بمعيته لما رحلنا إلى تونس لأتابع إطعام الفدائيين هناك، وكان قد سافر الى هناك قبل الجميع، فهو لم يكن من أنصار البندقية الفدائية سيدي الرئيس، بل من أنصار تلك البنادق التي بحوزة الأنظمة، البنادق التي تُطلق للخلف سيدي القاضي، لذلك رحل قبلنا جميعاً، وكان يتحدث كثيراً عن السياسة والدبلوماسية والتكتيك، وكان يحب كثيراً “أنصار السلام” عندهم سيدي القاضي ويلتقيهم ويأكلون اللحوم فقط دون خبز المخيم.

أنا لم أعرف شيئاً عن كل ذلك سيدي القاضي، أنا رجل بسيط إلا في فن الخبز أمام  الفرن، فأنا “داهية” ولن أكون متواضعاً ، وأبي وأنا من صححا المأثور الشعبي القائل:”فلان لا يضحك للرغيف الساخن”، بحيث جعلنا “فلاناً” يضحك له رغم أنفه، بل ويقهقه عندما يراه، لكنني فيما عدا ذلك أقر بما يقولون عني، أنني على باب الله، وأنني على نياتي، وأن القطة تأكل عشاي، لكن البعض ممن كانوا يعرفون بالأمر وشمّوا رائحته التي تزكم الأنوف، أوصلوا الأمر للقائد الكبير رحمه الله، والقائد الكبير كان يحب مثل جناب المحاسب ويُقربهم منه، لأنه كما قال بعض المخيم يستطيع أن يقودهم، بعد ذلك، كالأنعام سيدي القاضي، فبعد أن يمسك عليهم المماسك، يهز الأوراق الممسك بها عليهم أمام وجوههم الصلفاء، يشتمهم ويُهزأهم ويقل قيمتهم “بعيدا عن جنابك” وهم لا يجرؤن على الرد، بل يخرون له ساجدين، لأن جلودهم تكون قد تعودت على الشتائم ووجوههم على البصاق وضرب النعال دون أن يرف لهم جفن. وقال القائد الكبير رحمه الله لمن أوصله الخبر بلهجة مصرية:

ـ ده حرامي وشبع حجبلكوا واحد جديد يبتدي من الصفر؟ اعمل ليكو إيه؟ ده قدركم بقه.

وأبقاه محاسباً مؤتمناً كما كان، بل علّا من شأنه أيضاً لأنه زاد بصماً بحافريه كما قال الكثيرون، وأكد البعض أنه فرك له أذنه واستعجله ليعرف نتائج لقاءاته مع “مشجعي السلام ” من الطرف الآخر.

كان هذا قبل أن تنمو له مخالباً وتكبر، قبل أن ننتقل إلى هذه الأرض من حمّام الشط، وقبل أن يبدأ بمد يده إلى ما تحت يد القائد الكبير، ليرثه ويركب فوق ظهورنا نحن العامة، حيث ظل يعتبر نفسه أحد الأسباب الذي أوصلنا لما نحن فيه من هيبة وعنفوان وازدهار!!! وأننا لولاه لما كنا في مثل هذا العز الذي “نتمرغ” في خيره ونرعى كالإبل.

ـ أنا لا أستهزئ سيدي القاضي… حاضر لن أتكلم في السياسة، فهي التي أوصلتني للوقوف هذه الوقفة بين أيديكم.

بعد أن كبر وانتشر خلف كل شيء في البلاد، صار كل ريع الخبز يذهب إلى جيبه وليس الفرن الذي أعمل به فقط، ولم يعد يحاسبه أحد على ذلك، بل سمعت أنه يأخذ الكثير من الأموال من “معسكر السلام” القريب والبعيد، ولم يعد بحاجة إلى هذا الفتات، لكنه رغم ذلك أعطاه لبعض أقاربه كي لا يتسرب هذا المصدر إلى آخرين.

ـ “ما علينا” سيدي القاضي، أنا لن أتنازل عن حقي، والمخيم كله إلّا البعض القليل، كلهم يدعمني ويقف في صفي، تعرف سيدي القاضي أن المسحجين والمطبلين يتواجدون عند كل الشعوب وفي كل الأوقات، لكنني قررت أن لا يستحمرني أحد من جديد…

ـ نعم حقي سيدي القاضي، كيف لا؟ أنا لا أريد مالاً، أنا أريده أن يشرح لسيادتكم وهو الموظف من أين له كل هذه الثروة؟ ومن أين لأولاده وأحفاده كل هذه القصور والعقارات والشركات والأملاك وأنا الذي إشتغلت وتعبت وليس هو، إحسبوا دخله على مدار العمر لتعرفوا بأنفسكم أنه لو عاش مائة حياة لن يكون لديه كل هذه الأموال، التي حول إتجاهها ويتهمني بها، وأنا لا أملك كيس طحين واحد في بيتي.

ربما عمل بأشياءٍ أخرى، إحسبوها له، لكن عليه أن يُرجع ما سرقه من أموال خبز الفدائيين، وأموال خبز أهاليهم الذين كانوا يتلقون جحيم الطائرات في المخيم في كل وقت، وهو سيدي القاضي لم يكن في المخيم ولم يعش فيه يوماً واحداً، حتى أنه لم يمر فيه إلّا ليحادثني وأمثالي من البسطاء الذين يوقعون على الفواتير دون سؤال، أما ماعدا ذلك فلا شأن له بالفقراء…

إسألوه كيف إستجمع كل هذه القوة بين يديه؟ ليس بالمال وحده بالتأكيد، وليس بالتسحيج والتطبيل والتزمير فقط، فعلو النباح لا يجلب القوة ولا يُسنن النيوب ويُنمي المخالب ، إسألوه كيف أحرق كل بنادق الفدائيين الذين أطعمتهم خبزاً من صنع يدي؟ ومن الذي زوده ببنادق الأنظمة هذه التي لا يربطها رابط ببنادق المخيم.

لا أعرف لماذا لا توقفون إبتساماته المتتالية من خلف ظهوركم سيدي القاضي، أإلى هذه الدرجة فرد نفوذه وصار يمسك بكل مفاصل البلد؟

أتعرف سيدي القاضي، لو كان يتعامل معهم كما يتعامل معنا بنفس الطريقة والحدة ما كنت غضبت، لكنه هناك يستجدي ويركع ويسجد بين الأقدام، لا يجرؤ أن يرفع عينه في عيونهم وكأنهم يمسكون عليه المماسك وأوراق الإذلال، وتراه عندنا يمشي مثل طاووس، قلت طاووساً وليس نسراً سيدي القاضي، فمثله لم يكن نسراً يوماً ولن يكون، لا يعرف ولا يستطيع، فللنسور صفاتها وميزاتها التي لن تتوفر به يوماً، النسور شامخة حتى في إحتضارها، وهو ذليل حتى في عز قوته وغناه.

هذه صفات سيدي القاضي وليس قدحاً وذماً، وإن لم تصدقني ضعه أمام التجربة، أمام المواجهة مهما كانت طفيفة وبسيطة، ستجده في الهريبة “كالغزال”. كما تريد، أتعتقد أن الغريق يخاف من البلل؟ سجل تهماً جديدة إن أردت، فأنا “تحت المزراب” سيدي القاضي ولن تُخيفني أمطار الشتاء.

لا يعنيني من يكون ومن وراءه، المهم أصل الفتى، صفاته، معدنه، “سألوا الحمار من أبوك فقال خالي الحصان”، أتعتقد سيدي القاضي أن خاله الحصان كان قادراً على تغيير ماهيتة؟!!! ظل الحمار حماراً وإن إدّعى بأن الحصان خاله، ومهما “طلع أو نزل” سيظل حماراً، “حاشاك” سيدي القاضي.

لا أعرف لماذا تظل تقاطعني سيدي القاضي، فأنا إنسان بسيط وعلى “باب الله”، كلما قاطعتني نسيت ما أريد قوله، وكما ترى فلا محامي لدي يدافع عني وعن حقوقي، كما أنني سمعت أن المحامين في بلدنا لا يستطيعون “حماية مؤخراتهم”، كما أكدت أمي رحمها الله ذات يوم، وأنتم القضاة كما سمعت صرتم تحاكمون الشهداء وتقتصون من الفدائيين، أصحيح هذا أيها القاضي؟

سأقول لك سيدي إن نفيت هذه الأقاويل، إن كان ما سمعته كذباً وتشويهاً، سأقول سيدي وتاج رأسي أيضاً، وإلا فلن تكون سيدي أبداً بل وستسقط من عيني إلى تحت حذائي ولن يرفعك أحد أبداً، تماماً كمن سقط من يقف وراءك، وها هو يقدم لك أقاصيص أوراق تملؤها الكلمات.

ـ لا سيدي لن أكون خبازهم، يستطيع إكتشاف صلة قرابته معهم كما يشاء وكيفما يشاء، “أبناء عمومة” فليكن بالنسبة له، لكنهم بالنسبة لي هم قتلة أبي الحقيقيين… نعم هم، فلولا تهجيرهم لما مات أبي الخباز جائعاً تنخره الأمراض، ولما تيتمت أنا وترملت أمي، لما كنا متهمين في العالم كله وكلٌ يركلنا بقدمه، لما كنت أنا هنا أقف أمام سيادتكم في قفص الأتهام، ولما كنت وقعت على فواتير أحد لأملأ جيوبه مالاً، وكلما إمتلأت جيوبه مالاً كلما جاع الفدائيون الذين جئت خصيصاً لأطعمهم خبزي. لكنت مازلت في قريتي الشجرة، لكنت عشت حياة طبيعية بين أبي وأمي، لما مات والدي في حفرة أمام فرن في الغربة، لما جاع وبين يديه “حاكورة” البيت وزيتونات الحقل وزعتر الجبل وأرغفة الفرن التي يتماوج فوق وجوهها لون النار الذي أعطاها طعمه ، كما أنني لا أريد أن أكون “خباز السلام”، أرفض عرضكم لسحب التهمة عني مقابل ذلك، أريد أن أظل خباز الفدائيين، خباز المخيم وما يحيط به من قرى ومدن…

ـ ماذا؟ لم يعد هناك فداييون!، ليس مهماً، ما تبقّى منهم، مهما كانوا أقلة لن أتركهم يجوعون، “عاقل يتكلم ومجنون يستمع”، أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، أتستدرجني لتعرف أماكنهم؟ سيعرفون هم مكاني إن لم أعرف أنا مكانهم، سيأتون هم عندي لأطعمهم خبزي.

ـ نعم أقولها بصوتٍ عال، وبكل ثقة أيضاً، أنا لن أتركهم يموتون جوعاً، كما لن أترك مهنتي تموت وأصابع يدي يضخ إليها القلب دماً، فمهنتي مرتبطة بهم، بإشباعهم بعد أن جوّعوهم وأفقروهم وسحبوا منهم قوّتهم ورحّلوهم من المخيم إلى حمام الشط مبعدينهم عن حدود الوطن، كي لا يعودوا يشمون راحة صفد والجليل وقرية الشجرة، كي يموتون غيظاً وجوعاً وإختناقاً، نعم، لقد إختنقوا بعد أن صاروا غير قادرين عل التنفس بهواء الجليل الذي صار بعيداً.

رغم بساطتي فإنني أعرف جيداً كيف حول سعادته كل معظم مَنْ أتي بهم إلى موظفين ومسحجين ومطبلين ينتظرون “مخالي العلف” في آخر الشهر، بعد أن إقتلع نيوبهم وقصقص أجنحتهم فلم يعودوا يحسنوا فن الطيران، ومن ليس لديه أجنحة لن يستطيع التحليق ليرى القدس وعكا وطبريا ونتانيا وصفد والجليل، لن يستطيع السباحة في بحر يافا، ولن يعرف يوماً كيف تنتظرنا الناصرة وكفر قاسم عرائس بلباسها الأبيض.

أما أنا فسأجعل من العجين لآلئ من خبز، ومن الخبز أنواعاً، سأزيد من حجمه ووزنه، وسأضيف إليه “الملاتيت” وأرشها بالسكر،سأصنع لهم أقراص الزعتر والسبانخ وكافة أنواع المعجنات، وإن توافرت في جيوبي نقوداً سأشتري لهم اللحوم وأقطعها بنفسي وأصنع لهم “الصفيحة” ليستعيدوا قوتهم، المهم أن لا يجوعوا، وكما تلاحظ فالأساس هو الخبز، فبدون الخبز سيدي القاضي ما فائدة زيت الزيتون والزعتر؟ ما فائدة الميرامية وابريق الشاي؟ إنها تفقد قيمتها ولا يبقى لوجودها معنى.

أمّا أنا سأظل أعجن وأخبز لأطعم الفدائيين ولن أتنازل أبداً عن هذا الشرف، هدّد كما تريد، فلن “يقطع الرأس إلّا من ركّبها”، أعيد مجدداً أنني لن أكون خباز “السلام”، فأي سلام دون أن أعود لقريتي “الشجرة” وتعود لي، دون أن يلعب أولادي في أزقتها وطرقاتها، دون أن أزرع حكورتها وأدهن خبزي بزيت زيتونها؟!!!

أعرف أنكم جميعاً كما الدجاح “لا تتحكمون حتى في بيضاتكم”، وأن روحكم في يده، وتفتت ضميركم وتبعثر ولن تستطيعوا إسترجاعه أبداً ولا حتى لملمته.

إحكم كما تريد فلن يتذوق خبزي إلا من يستحق، الفدايون، وفقط الفدايون، إفعلوا ما تريدون، فلن تثنوني عن قراري هذا أبداً.

محمد النجار

 

الفارس

تصادف وجودي عند صديقي “أبو أسعد”، في ذاك النهار المشؤوم، كنا لم نتقابل منذ فترة طويلة مضت إلّا لماما، وكنت خارجاً لتوي من العزاء بموت والدي، وما أن رآني حتى حذف كلماته في وجهي مثل لوح صبار:

ـ لقد توفي المناضل تيسير قبعة… جاءتني رسالة على هاتفي تؤكد ذلك…

قلت:

ـ أنا لم أسمع الخبر من أيٍ من وسائل الإعلام…

قال:

ـ لم يعلنوا الأمر بعد…

وكان قد بدأ يُجهز صور الشهيد تمهيداً للعزاء، وقال من جديد:

ـ إنه يستحق الوفاء…أستأتي؟

قلت:

ـ نعم… ربما مجيئي من مدينتي البعيدة في يوم العزاء هو جزء من وفاء أيضاً، وفاء له ولهذه المدرسة التي قادها الحكيم وأبوعلي مصطفى، والشهيد أحد أعمدتها.

كل ما أعرفه عن هذا الشهيد، أنه لم يكن سوى “بلدوزر” عمل، لا يهدأ ولا يستكين، وكان يظل في حالة من الحركة الدائمة، في حياته ومكتبه وحتى بيته، الذي كان يعج بالناس عديمي الحيلة، الذين يبحثون عمن يساعدهم ويساندهم في حل مشكلاتهم المتعددة، خاصة بعد أن جاءت السلطة وزادت من همومهم ومشاكلهم على نحو ملحوظ.

ظل الشهيد “فارساً” يمتطي صهوة جواده ويقاتل، لم يترجل يوما أو يرتاح، لم يهن أمام عدو  ظل يتربص به على مدى عمره كاملاً، ولم يحنِ رأسه خوفاً من موت قادم مع العواصف التي ظلت تشتد على مدى عمر الثورة كلها، حتى مسألة موته لم تكن ،برأيي، إلا غدراً، فالموت لم يأته وجهاً لوجه، جاءه متخفياً غدّاراً، طعنه في قلبةأثناء لحظة نوم عميقة مسروقة، بعدأن تكالب عليه تعب الأيام والسنين، وأغرته لحظات نعاس لعوب، فنام، لحظتها فقط انقض الموت حاملاً جُبنه وغدره وسكاكينه، لينهي حياة زاخرة بالعمل والعطاء والتضحية والمرض، حياة ميزتها الأساسية رفض الخنوع ممن كان ومن أيٍ كان.

حتى قبل أن يتوصل حزبه إلى صياغة شعار “الإعتراف خيانة”، وجسّده بدماء أعضاءه وكادراته، في نهاية السبعينات، كان هو قد طبق الأمر قبل ذلك بعقد كامل ويزيد، عندما رفض الإعتراف حتى بإسمه في زنازين الإحتلال، حينما تسلل عائدا إلى الداخل وتم إلقاء القبض عليه، قبل أن يتم نفيه مجدداً خارج الوطن بعد أن أمضى فترة محكوميته، وهذه الحالة، حالة عدم الإعتراف حتى بالإسم لم تتكرر، كما أعرف، إلّا مرة أخرى من قائد وطني كبير ومناضل رائع شرفني لقاءه والتعلم منه في المعتقل الإداري في النقب، والذي لم يعترف حتى بإسمه، وأمضى أطول فترة حكم إداري في تاريخ الحركة الأسيرة كاملة، وكانت تهمته أنه قائد في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إنه المناضل الكبير والمفكر العربي أحمد قطامش. تُرى أهذه مجرد صدفة، أم معدن أصيل صقلته التجربة والمبدئية ونكران الذات لدى الإثنان؟!!!

وبجدارة، تبوأ الشهيد، المناصب في حزبه، وفي مؤسسات منظمة التحرير وفي المؤسسات العالمية. وبعد أن استجلبوا أوسلو قاطعين الخط على الإنتفاضة الأولى كي لا تصل إلى تحقيق حلم الدولة الفلسطينية التي صارت أقرب إلى الواقع، وبعد تشكيل السلطة، رويداً رويدا تحولت الى أداة في يد المحتل، وصار التنسيق الأمني سيفاً مسلطاً على أعناق البلاد والعباد، وفتحت السجون للمناضلين، وصارت السلطة للمنتفعين والمارقين والفاسدين والمفسدين، وكان هو نائب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، وكانوا غير قادرين على إبعاده أو تغييره إلا بعقد جلسة لم يريدونها للمجلس الوطني، وظل يناضل لإعلاء كلمة قضيته الوطنية في أي جبهة أو محفل في الخارج، ويلاحق كل من حاول تقزيم القضية الوطنية الفلسطينية، خاصة في إجتماعات منبثقة عن الجامعة العربية واتحاد البرلمانيين العرب، المختصة بهذا الشأن، وظلت كلماته ومتابعاته سكاكين تلاحق الرجعيين العرب، وتقف لتنازلاتهم بالمرصاد.

أخرج “أبو أسعد” مجموعة من الرسائل ، منها رسالة إحتجاج قوية على حالة الإنقسام، تحت عنوان “كفــــــــــــــــــــــى”، ورسالة للرئيس، منذ عام 2012، إلى عدد من المؤسسات الفلسظينية، تحمل قرارات مبنية على شكاوى أصحاب الجلالة والسمو، والسادة الرؤساء ووزراء خارجيتهم، بحق “المشاغب” الفلسطيني تيسير قبعة، وازدادت الشكاوى منهم للقيادة الفلسطينية، فكيف يمكن أن يتحدث شخص عن دعم القضية، بالمال والسلاح، في هذا الزمن؟ كيف يمكن أن يقف في وجوه “مدمري الأوطان” العربية خاصة آل سعود؟ آل سعود أنفسهم أصحاب الحل والربط والعلف لمن يرغب بأن يكون نذلاً؟ كيف يمكن أن تقاوم النذالة ياتيسير؟ النذالة المخلوطة بالعلف وببول البعير الذي تحتسيه سلطتك، ويشرب منه الإخوان المسلمين الأنخاب مع دويلة قطر ومملكة آل سعود،  وتحلف بحياتهم، بعد أن دعمهم الإخوان بالحثالات البشرية، مقابل المال،  التي دمرت أوطاننا؟

وبشيء من التفصيل، كان الشهيد “حاداً” مع هؤلاء العربان، ومع “أصحاب القرار” الفلسطيني في غزة أو الضفة، وأطلق صرخته المعروفة في وجوههم، “كفــــــــــــــــــــــى”، كفى تقسيماً للشعب والوطن، كفى إختزالاً للشعب في فصيلين، كفى تمزيقاً للوطن لخدمة مشاريع الكيان بأيدٍ عربية، كفى خدمة لمشروع الصهيونية العربية، فالقضية الوطنية أكبر منكما ومن خلفكما كل الرجعيات القابضة على أكياس المال التي تعبدون، كفاكم عبثاً، كفاكم استهتاراً بالوطن والقضية، فقضييتنا لا يمكن التساهل فيها، كما لا يمكن المجاملة على حسابها.

قامت الدنيا ولم تقعد وراء الكواليس، وصار لزاماً أن تدفع ثمن صرختك في وجه قادة الإنقسام، وصرختك في وجه ممثلي انظمة الصهاينة العرب بقيادة آل سعود، فاستدعى آل سعود وجوقة العربان سفراء فلسطين محتجين على هذا “المشاغب” الذي يحاول إفشال مشروعهم، وطرحوا عليهم السؤال الكبير:

ـ كيف يمكن أن يكون ما يزال لديكم، أنتم الفلسطينيون أناسا بكرامة؟!!! كيف يمكن أن تكون لديهم العزة والشموخ والأمل؟!!!كيف يمكن أن يكون هناك من يحاول توحيد الشعب الفلسطيني الذي فعلنا كل ما بإستطاعتنا لنوصله لما هو عليه الآن؟كيف يمكن أن لا يكون اليأس الذي تسرّب إلى كل النفوس، لم يصلهم بعد؟ بعد كل ما قدمناه من “علف” وجهد في سبيل ذلك؟ كيف يمكن أن لا يعيش العرب أذلّاء حقراء بعد كل هذا التدمير والخراب في البشر والحجر والنفوس؟

وصرخوا في أصحاب القرار الوطني الفلسطيني:

ـ ألم نقل لكم أعلفوهم؟

وجاء الرد الفلسطيني “المستقل”:

ـ هؤلاء يرفضون العلف، طال عمرك، لقد حاول معهم ومنذ إنطلاقتهم كل أصحاب الجلالة والسيادة والسمو، وهم “والعياذ بالله” يكفرون بالسلطان وأصحاب الجلالة والسيادة والسمو وأولي الأمر، وبهم ملحدون طال عمرك، شموخ الأنوف لا ينحنون أبداً “لمخلاة” السلطان ولا لسيفه ولا لأوامره، حتى لو كان السلطان من آل سعود، طال عمرك.

فكر حينها صاحب الجلالة، وقال:

ـ جوعوهم إذن، جوعوهم…

فقال القرار الفلسطيني “المستقل”، بعد أن إنحنى أكثر بقليل، كعادته، عند مخاطبة أصحاب السعادة والسيادة والسمو:

ـ لقد فعلنا طال عمرك، مرات ومرات، لكنهم شدوا الأحزمة وأكملوا الطريق بعد أن زادهم الجوع ثورة.

فقال صاحب الجلالة:

ـ إذن لاحقوهم، أفلتوا عليهم كلابكم، هؤلاء خطرٌ عليكم وعلينا، وسنوصي بهم حلفاءنا من “آل موسى” ليستأصلوهم من الحياة.

كرر القرار الوطني لفلسطيني”المستقل” مجدداً:

ـ لقد فاضت بهم السجون لدينا ولدى “آل موسى”، وكما تعلم طال عمرك، هل تنسيقنا الأمني إلا لمثل هؤلاء “المارقون المتطرفون”، الذين يرفضون الخنوع والذل والإنحناء؟!!!

واقترب القرار الفلسطيني “المستقل” من عباءة صاحب الجلالة، قبّل ذيلها المذهب، انحنى أكثر، وأكمل:

ـ هؤلاء، طال عمرك، أصحاب شعار “وراء العدو في كل مكان”، والعدو عندهم كما تعرف هو أنتم وحليفنا الجديد وحليفكم القديم، وهذا “التيسير” الذي نشكون منه جميعاً، هو من كان يقود فرعهم الخارجي في العالم كله، أعني إنه “وديع حداد” بصورة سياسية، ومن يدري إن كان فقط بصورة سياسية؟ فربما كان أحد روافده وروافد بندقيتهم أيضاً!!!

صرخ صاحب الجلالة غاضباً:

ـ هذا يعني أنه ما زال لديكم رجال بكرامة وعزة نفس وإباء وشموخ!!!

قال القرار الفلسطيني المستقل:

ـ للأسف نعم يا صاحب الجلالة، لكننا نعدكم….

قاطعه صاحب الجلالة قائلاً:

ـ هذا يعني أن حربنا لم تنتهِ بعد، وأننا وحلفاؤنا لسنا في مأمن، إنكم تعرفون ما يجب عليكم فعله…

وغادر يقطر قطرات غضب ونتانة قائلاً:

ـ أمعقول أنه لم يزل هناك بشر لا يفضلون سماع المطرب “موشي إلياهو”؟ ولا يفتشون حقائب طلاب المدارس عن سكاكين؟ أمعقول هذا بعد كل هذا العلف؟!!!

ومد يده في حزام نقوده، أخذ حفنة من علف، وضعها في مخلاة القرار الفلسطيني “المستقل”، جزء في غزة وآخر في رام الله، ليزداد استقلال القرارين استقلالاً، فيزداد انتفاخ رصيد البعض، وتتعمق الهوة بينهما وتزداد اتساعاً، فزاد رأس القرار “المستقل” في الجانبين إنحناءً، وعضّا على لسانهما خوف أن تصدر كلمة تُغضب صاحب الجلالة، لا سمح الله، فيوقف البرسيم والعلف، وقال البعض أنه قد تغير صوتهما ولم بعودا يتكلمان مثل البشر أبداً.

وعملاً بمشورة صاحب الجلالة ،أطال الله في عمره، وتوجيهاته، جاء قرار الإخوان المسلمين في غزة، بتغيير اسم مدرسة الشهيد غسان كنفاني، أبرز الكتاب الفلسطينيين والعرب، الذي “كتب بدمه لفلسطين”، ومن   أبرز الشهداء ، بإسم مدرسة أبو حُذيفة!!! كي يمحو الأصل والجذر والذاكرة والتاريخ، وترافق ذلك برسالة “عبد ربه منصور هادي” الفلسطيني، الرئيس منتهي الولاية ومنتهي “الصلاحية”،قرار رئيس السلطة نفسه، عباس بشحمه وعظمه، بتوقيف راتبك الذي تأكل منه وتعيش، وأنت لست مثله ومثل أولاده وأحفاده، ولا حتى مثل حاشيته من لاعقي الأحذية المسحجين، لم “يفتح” عليك الله بالملايين لتستغني عن معاشك، أن يُقطع عنك المعاش؟ “ومن مهازل المرحلة أن عميل المخابرات الصهيوني الذي أتى بالأثاث الذي كان مزروعاً في مكتب الرئيس عرفات في تونس، وأدى لمعرفة أسرار المنظمة وقتل الكثير من قيادتها، ما زال معاشه غير مقطوع حتى هذه  اللحظة؟!!!”

وأكمل الرئيس المنتهية “صلاحيته”أوامره، بسحب أرقام سيارتك، وبوقف علاجك وإغلاق مكتبك، “مكتبك الذي ذهبت ودُسته مع أمر الرئيس بحذاء قدمك لتفتحه، فهكذا أوامر لا تستحق إلا حذاء لتُداس به، وحتى حذاءك يشرفها”، تخيل رئيس إنتهت مدة رئاسته وانتهت مدة “صلاحيته” يتحكم في حيوات مناضلي شعبنا؟!!! فهو لا يستطيع أن يتخيل بعد، أن هناك من لم ينحنِ لأسياده من أعراب جهلة ودول مانحة، وأن هناك يداً وعيناً يمكنها أن تجابه المخرز، وأن سياسة التذليل والتجويع والتسحيج والحمرنة، لم تعمم كما أرادوها، وأنه ما زال هناك بشراً ترفض العلف وترفض أن تكون قطيعاً.

هذه الجوقة التي ظلت، كلما وصل العلف تُسحج، وكلما تأخر وصول العلف، تُسحج مذكرة بنفسها وبخنوعها وركوعها، وكلما تناقصت كميته في “مخاليهم”، سحجوا وازدادوا إنحناءٍ، كي لا يفهم تسحيجهم خطأ من أولي الأمر، هاتفين بأنهم دون شرف أو كرامة أو ضمير، وأنهم أزلام السلطان وأذناب أصحاب الجلالة والسمو، وأنهم يستحقون مخلاة العلف بكل جدارة، مذكرين أنهم منذ ما قبل أوسلو كانوا أصحاب السبق في لقاءات الصهاينة، أيام كان ذلك في باب “التكتيك” وليس “الإستراتيجيا” كما هو عليه الأمر الآن.

قالوا أنك خالفت أوامر الرئيس، ولم يفهم هؤلاء كيف أنك لم “تُدجن” على مدى ربع قرن من استدخال الهزائم والتطبيع والنذالة؟ وكيف ترفض العلف منهم ومن أولي الأمر، وكيف أنك ما زلت لا ترى في الرئيس”الحاكم بأمر الله” إلا مشروع تصفوي فاشل، رغم أنهم يؤمنون بأنه “وحي يوحى”، وكلما رش العلف عليهم أو ملأ “مخاليهم” بالبرسيم، كلما تيقنوا من “نبوءته”، ومن الوحي الذي مازال عليه ينزل، هل معقول أن يكون في هذه الدنيا من يرفض “النعمة”؟ ورفضت نعمتهم، وبقيت تطالب بإصلاح المنظمة وبقيادة جماعية وتتحدث عن الثورة وعن حتمية الإنتصار، وتحدثهم عن دماء الشهداء والجرحى والأسرى وأنّات اليتامى والأرامل، أمعقول هذا؟ أمعقول التحدث بمثل هذه “الأحاجي والطلاسم”؟ أمعقول التمسك “بالأساطير” في زمن الردة والعهر والتدمير؟!!! أمعقول أيها الفارس أن تظل فارساً بعد أن ترجل معظم الفرسان؟ بعد أن باعوا أحصنتهم في سوق النخاسة المملوك لآل سعود، وسلموا سيوفهم؟

صدقني أيها الشهيد الوفي، إنهم فرحين بوفاتك، ويتمنون لو أن الأمر تم قبل ذلك بسنوات، من حاول مسح اسم غسان كنفاني كان يريد قتلك، ومن يشرفه أن يكون من “حريم السلطان أو غلمانه” كان يتمنى قتلك، ومن يعتقل المناضلين تحت أي حجة أو مُسمى كان يتمنى قتلك، ومن أنغرس في الفتنة ليدمر أوطاننا ويهجر مخيماتنا أراد قتلك، ومن أوقف مرتبك كان يقصد قتلك، ومن أعطى أمراً بوقف علاجك كان يقصد قتلك، ومن أغلق مكتبك كان يقصد إغتيالك في منتصف النهار حياً، لأنه يعرف أن الموت عندك أفضل ألف مرة من أن تقف متفرجاً، رغم كل ما سيقولونه في التعزية من المديح والتغني بالوحدة الوطنية، فوحدتهم الوطنية تعني الفساد والإفساد والتحكم بصندوق المال للتدجين وامتلاك القرار، وكي يسلبوا بندقية آخر الفرسان، ليسلموها للمحتل.

لقد عشت فارساً يا أبا فارس، ومت فارساً، لم تنحنِ يوماً لا لعاصفة ولا لهبة ريح، فهنيئاً لك كل ما قدمت من عطاء، وهنيئاً لشعبك بك، شعبك الذي سجلك في سجل الخالدين، ورمى الحثالات أحياء في مزابل التاريخ.

محمد النجار

قبل حزيران بقليل

كنا ملتفين حول التلفاز في تلك اللحظة، وكنت قد أنهيت آخر إمتحان لدي قبل أيام ثلاثة من وصول أواخر أيار الى أوائل حزيران، ليسلّمه أمانة متابعة الطريق، مُحمله كيس الأيام على كتفيه ليمضي بها ويسير. قمت متاخراً من النوم كعادتي في أيام العطل المدرسية، شربت الشاي مع أمي وجدتي، فبقية أخوتي لم ينهوا عامهم الدراسي مثلي بعد، وللحق، فإنني بالقدر الذي أحب فيه الجلوس مع أمي، كنت بذات القدر لا أحب الجلوس مع جدتي، لكنني كنت أحاول التغطية على الأمر كي لا تغضب أمي.

أمي امرأة دائمة الحركة، ليست إلا نحلة تتنقل من مكان إلى آخر، تكاد لا تجلس أبداً، وفي معظم الأحيان لا تتناول طعام الإفطار معنا، وبالكاد تشرب الشاي، وبالتالي لا يشغلنها شيء سوى عمل البيت ، فمن غسيل الملابس والأطباق، لكيِّ الملابس لجميع أفراد البيت، لتهيئة الطعام ليكون جاهزاً مع موعد قدوم أبي من العمل، لتنظيف البيت وغسله، كما إنجاز متطلبات البيت ومشترياته… الامر الذي يجعلها لا تهتم ، أو لا تستطيع، متابعة التلفاز وبرامجه، كما تفعل جدتي، ومصيبة جدتي أنها لا تتفرج على أفلام أو مسلسلات أو موسيقى، بل شغلها الشاغل متابعة الأخبار، والأخبار فقط، ومن هنا تبتدئ القصة وتنتهي أيضاً ، فلولا عادتها هذه لما كانت هناك لا بداية ولا نهاية ولا كان هناك قصة أصلاً، وما تم ما تم.

تسكن عائلتنا في عمارة من طابقين إثنين، نقيم نحن في الطابق الثاني من شارع وادي التفاح في مدينة الخليل، فرندة البيت الأمامية تطل على الشارع الرئيس، وحمام البيت الخلفي يطل شباكه على شارعيين فرعيين في المنطقة، وجدتي التي تجلس في صالون البيت لا تفعل أكثر من تقليب صفحات التلفاز من محطة إلى أخرى، على نشرات الأخبار دون كللٍ أو ملل، نفس الأخبار التي ما فتئت سمعتها منذ لحظات.

كان الشارع الرئيس ممتلئاً بالناس على عادته في كل يوم، أناس يحاولون التصدي للمستوطنين الذين يملؤون المدينة، ويسيرون يستفزون الناس بعد أن سرقوا بيوتهم بمساعدة الجيش وأسلحتهم، بعد أن سرقوا الحرم الإبراهيمي وقسّموه، والناس الذين لا يملكون سوى سواعدهم وبضع حجارة من حجارة الجبل، ظلّوا يدافعون عن المدينة والكرامة، رغم الثمن الذي ظلوا يدفعونه بشكل يومي، وكان طلاب المدارس قد أنهوا يومهم وخرجوا للشارع، أطفال من جيلي، أكبر أو أصغر قليلاً، صاروا يقذفون الجيش المتسكع الذي يحمي مستوطنيه، والجيش الذي كان يُطلق قنابل الغاز والرصاص على صدورهم، كان ما يزال يطلق النار دون توقف.

وكوني لا أحب الأخبار ولا سماعها، أمسكت بهاتفي الخلوي وقمت إلى الفرندة وأخذت أُصوّر مشهد الجيش وراشقي الحجارة، كمخرج من الملل، كوني لا أستطيع أن أشاهد فيلما أو مسلسلاً لأن جدتي إحتلت شاشة التلفاز في صالون البيت، وشدني مشهد الجيش عندما ألقى القبض على “هيثم”، و”هيثم” هو أحد أبناء مدرستي الذي يصغرني بقبضة سنين، وجارنا ، في الوقت نفسه، القاطن في بيت مجاور، كان قد عاد لتوه من المدرسة، بعد أن أنهى إمتحاناته اليوم بالذات، متوجهاً إلى بيته، وأخذت أُصوّره متخيلاً كيف ستكون ردة فعله وانقباضات وجهه، عندما يطلقون سراحه وأريه “الفيلم” الذي وثّقت به إعتقاله وضربه، لكن الأمور لا تسير دائماً كما نشتهي أو نحب، فقد أخذ الجنود “هيثم”، أركبوه مقدمة الدورية العسكرية ليحميهم من حجارة الطفال، درع بشري كما يقولون، وتوجوا به إلى الشوارع الخلفية، حيث يمكنهم ضربه وإهانته دون متابعة وملاحقة من عيون الشهود.                                                                                                                      لاحقت فكرتي، وانتقلت من “الفرندة” إلى حمام البيت لأكمل التصوير، ومررت من أمام جدتي التي كانت ما تزال تتفرج على مشهد على الشاشة، وترغي وتزبد وتعلق وتقول، فسحبت كلماتها فضول عينيّ إلى الشاشة أثناء مروري…

  •     *       *

كان يحتل الشاشة تقريراً يظهر فيه الرئيس مرة وبعضاً من حاشيته مرة أخرى، يتحدثون عن السلام وما جلبه من أمن وأمان للبلاد والعباد، و”أننا نحن الفلسطينيون لن نوقف التنسيق الأمني مهما كثر الرافضون له، فنحن أعرف بمصالأح شعبنا من كل المزايدين”.

وعلقت جدّتي من بين بواقي أسنانها:

ـ طبعاً، أنتم الآلهة والشعب مجرد أصنام، وهل للأصنام كلام إذا ما تحدثت الآلهة؟!!! فمنذ قدومكم و”مصالح”       شعبنا محفوظة ومُصانه والحمد لله…

وأكمل المتحدث، ذو الصلعة الواسعة مثل طريق أسفلتي واسع في غابة هزيلة،حديثه:

ـ وسنعمل على ان يكون هناك تطبيعاً شاملاً من الدول العربية والإسلاميه، كما أكد سيادة الرئيس، إذا ما وافقت حكومتهم على “السلام”…

وعلقت جدتي من جديد:

ـ آه طبعاً، هذا “فوق البيعة”… يعني بالعربي “زيادة البياع”… فعلاً “الشحادة عادة”…و”وين ما ضربت الأقرع يسيل دمه، هذا إذا كان عنده دماً”

وأكمل المتحدث ذو الصلعة الواسعة التي تكاد تُغطي مساحة رأسه، متابعاً ومدافعاً عن مقترح الرئيس:

ـ تطبيع يخدمهم ويخدمنا ويخدم السلام، وأننا ،كإثبات حسن نية، نوافق على تبادل أراضٍ معهم…

فعلقت جدتي وكأنها مصرة على الرد على كل ما يقولونه، متوجهة بكلامها إلى شاشة التلفاز:

ـ ما هي قصتكم؟ تكذبون الكذبة وتصدقونها… تتحدث عن مبادلة الأراضي وكأنها أرض أبوك، ولا تخص هذا الشعب المسكين…صدق من قال” لا تاخذ من الأقرع نصيحة، لو ربك بحبو لجعل راسه صحيحة”

وسرعان ما قال شخص آخر، أظهره التقرير، غير الأول، لكن من الحاشية نفسها، يُكمل ما قاله صاحبه، لكن بصورة  تُظهره وكأنه متمايز عنه:

ـ أنا لا أتفق مع هذا الرأي، التنسيق الأمني لا يجب أن يكون هكذا، عليهم أن يطلبوا منا ما يريدون ونحن من يقوم بالتنفيذ، وليس أن يقتحموا هم بأنفسهم مناطق السلطة ليعتقلوا ويحاصروا ويقتلوا…

وضعت جدتي يدها عل خدها وقالت ترد على ما سمعت:

ـ شوفي ياأختي “جاء ليكحلها… عماها”، فعلاً كما قال المثل” لا تشمتي ياخدّوجة، أنا عورة وأنت عوجة”… لماذا “يستحمرنا” هؤلاء إلى هذه الدرجة؟!!! فعلاً”قال له مَن فرعنك يافرعون قال له لم أجد من يوقفني عند حدي”…

ثم أن جدتي بدا وكأنها لم تعد تسمع كل كلامهم، فكلامهم متشابه ومكرر ومعاد، لكنها ظلت تعلق على ما ترى وتسمع أحياناً، خاصة عندما كان الرجل “الأقرع” في حذاء أحدهم، والذي لم يكن من حاشية الرئيس، وكان يلبس عباءة سوداء كليل شتاء هذا العام ، يحيط بكامل طرفها خطاً ذهبياً يعطي العباءة ثمناً وهيبة، وبدا أنه قد جاء لتوه من الصحراء فاغتسل ولبس واحتل موقعه أمام شاشة التلفاز ليدلي بتصريحه، وظل يردد عبارة واحدة ويكررها ويلف حولها، ” نحن نوافق على ما يوافق عليه الأخوة الفلسطينيين، نحن مع السلام الدائم والعادل…. إيــــــــــــــه”، ولما سأله صحفي عن أي فلسطينيين يتحدث؟ ف”أغلب الفلسطينيين يرفضون أوسلو ومجراه”، قال:

ـ نحن نتحدث عن قيادة الفلسطينيين الحقيقية،  ولا نتحدث عن المغامرين والمتطرفين….

وهنا ثارت ثائرة جدتي، فصارت تتحدث وكأن هؤلاء جميعهم أمامها في الواقع وليسوا في التلفاز، وتريد بكلامها أن تضع لهم حداً:

ـ ظلوا هكذا أيها الأنذال، دافعوا عن سلامهم ومذلتنا، ولتعلموا أننا نحن “المغامرون” في هذا الوطن العربي و “متطرفيه”، الحائل الوحيد بينهم وبين غرف نومكم. ها أنتم خلعتم كل ملابسكم، صرتم عراة كما جئتم لهذه الدنيا أمامهم، قدمتم لهم كل ما طلبوا ولم يطلبوا، ماذا أخذتم مقابل ذلك غير العار؟!! عار لفكم كأشخاص ودول وأشباه دول وممالك وحارات، لماذا لم تكونوا بهذه الحصافة والإنسانية في العراق وسوريا وليبيا واليمن؟!!! لماذا لم تكونوا هناك أيضاَ رجالات سلام؟!!! … نعم، نحن المغامرون الطريق الوحيد لمسح ما جلبتموه لأمتنا من عار، إصمتوا على ذبحنا، وشاركوا في تدمير أوطاننا واستحمار شعوبنا، لكنكم لا أنت ولا هم، تستطيعون وقف تقدمنا أو قتل إرادتنا، أو مسح ما إستجلبتموه من  ذبح وذل وعار، وسندفنه معكم في غياهب صحرائكم…

  •      *        *

كنت قد غادرت الصالون ،إلى الحمام، من أمام جدتي، وكل كلماتها تتساقط في أذني كلمة بعد أخرى، ووقفت على المرحاض لأستطيع إكمال تصوير “هيثم”، الذي أخذه الجنود إلى الشوارع الخلفية شبه الفارغة ليكملوا حلقات التمتع بضربه، وفي ذهني كشف تصويره هذا لأقرابي وأصدقائي، لنضحك عليه ومعه، والتلفاز مازالت الأصوات المتحدثة به تصل لأذني مثل نباح كلب، لا يعرف السكوت، وأدخلت “هيثم” في عدسة تصوير هاتفي، وأكملت التصوير، والرئيس من التلفاز يصرخ غاضباً ويقول:

ـ أنا لست ضد الكفاح المسلح فقط، أنا ضد كل أشكال العنف أيضاً…

فردت عليه جدتي بحنق:

ـ لماذا تترأس شعباً يريد ذلك إذن؟ يا أخي “حل عن ظهرنا”، مدة رئاستك “خلصت، فارقنا”…

لقد قيدوا أيدي هيثم خلف ظهره، وشنطة كتبه معلقة فوق كتفيه، وسرعان ما غمّموا عينيه بشريطة متسخة بيضاء، وألقوا به أرضاً، إقترب منهم أحد المستعربين ،الذي كان قبل قليل ملثماً وبين راشقي الحجارة، بعد أن خلع لثامه المُزيف، وصورته بلثامه ودون لثام، همس في أذن الضابط بكلمات لم أستطع فك طلاسمها لبعدها عن أذني ولكونها، ربما، بلغة لا أعرفها، أمر الضابط جنوده، فرفعوا هيثم عن الأرض التي ألقوه فوقها عند وصولهم للشارع الخلفي، وتوجهوا به إلى الدورية العسكرية ليضعوه في داخلها.

كانت حرارة شمس نهاية أيار قد اندلقت في الشوارع وفوق رؤوس الناس، وكنت أرى بنفسي كيف تفجرت أشعة الشمس ينابيع عرق من على رأس “هيثم” مارّة بعروق رقبته الضعيفة إلى كل أنحاء جسده، وما أن وقف به الجنود مقيداً مغمّى العينين على باب الدورية العسكرية، حتى علا صوت الجهاز في يد الضابط، فتقدم في تلك اللحظة المستعرب وقد تناول مسدسه المختبئ خلف ظهره، وقال الرئيس في تلك اللحظة بالذات مُصرحاً، في جهاز التلفاز الذي تسمعه جدتي، وكلامه يتدفق في أذني رصاصات قاسية صلبة:

ـ أنا ضد الإنتفاضة أيضاً… الإنتفاضة دمرتنا…

وانطلقت رصاصة واحدة من مسدس الضابط المستعرب، بعد أن نظر يميناً وشمالاً، ليتأكد من أن الشارع لا يضم الكثير من الشهود،  ولمّا ظن أن أحداً لا يوثق ما يفعله، وضع رأس المسدس في رأس هيثم، وأطلق طلقة واحدة، طلقة واحدة فقط وكلمات الرئيس الصارخة” الإنتفاضة دمرتنا”، إخترقتا جمجمة “هيثم” الذي إعتلى شهيداً لتوه درجات السماء نحو الشمس. وجدّتي ترد صارخة، تخاطبه وكأنه أمامها:

ـ نسيتَ ان تقول أن المفاوضات أحيتنا، وأوسلو نهض بشعبنا، والتنسيق الأمني حرر أسرانا وحمى شبابنا وأطفالنا من القتل…

واحتضن هيثم الأرض بوجهه، ولثم ترابها وكأنه يُقبّل أمه، واختلط دمه مع التراب بشكل غريب، كأنه أراد أن يجبل التراب بدمه مع سابق إصرار، وكان جدول الدم يسيل ويسيل، ولم أكن لأصدق يوماً ان جسد الشهيد يمكن أن يحوي كل هذا القدر من الدماء، وكأن هذه الدماء تتزايد خصيصاً لتروي تراب الأرض، لتصير كما كانت تقول جدتي دوماً متسائلة بإستنكار وإصرار، عندما يعلو ويرتقي أي شهيد، بعد أن تسقي دماؤه الأرض:

ـ ماذا كنتم تعتقدون؟!!! أم” من أين للزيتون كل هذا الزيت؟”…

  •         *          *

كنت قد بقيت مشدوها جراء ما رأيت، لم أكن مصدقاً عيناي، بل إعتقدت للحظة أنني ما رأيت سوى كابوس، وأن عيناي تكذب عليّ كما تكذب عينا تائه عطش في سراب الصحراء، وبقيت أنظر من شباك الحمام وهاتفي الخلوي في يدي، ومددت جسدي للخارج أكثر وكأنني أريد أن أثبت لنفسي كذب بؤبؤي عيني، وفي تلك اللحظة بالذات رأوني، لم يرتبكوا كثيراً، فستدافع عنهم دولتهم وقضاءهم كما في كل مرة، لكنهم قرروا اخذ الهاتف كي لا أستطيع نشر ما رأيت، والتفّوا إلى الشارع الرئيس ليجدوني ويصادروا هاتفي.

نزلت من على المرحاض، وصرخت:

ـ لقد رأوني يا”ستي”، لقد رأوني وسيحضرون لمصادرة الهاتف…

ولم أفكر للحظة في مجيئهم لإعتقالي، لكنني أجبت على الأسئلة التي كانت تتوالى من عيني جدتي دون كلام، وأكملت:

ـ لقد قتلوا “هيثم” ياجدتي… قتلوه

ولم تسأل جدتي عمّن يكون “هيثم”، فللشهداء نفس الصورة والقيمة في صدرها وقلبها، وأنا لم أكن أعلم قبل ذلك أن جدتي، هذه العجوز المعمّرة، يمكن أن تفهم ما أريد قوله وبهذه السرعة، وأكثر من ذلك أنني لم أتصور يوماً أن جدتي “الحادة” مثل سكين، يمكن أن تكون ببرودة الأعصاب هذه، في وقت الشدة، قالت بهدوء ووضوح، وقد مدت يدها لأسقط فيها هاتفي:

ـ إياك أن تعترف بما فعلت… سيعتقلونك ويعذبونك، سيسألونك عنه، وأشارت بيدها لتريني عما تتحدث، هذه فرصتك لتكون رجلاً، لا تُفرّط بهذه الفرصة التي لا تتكرر كثيراً إلّا للرجال، إجلس الآن وتفرج على التلفاز وكأن شيئاً لم يكن….

وخرجت إلى الغرفة الأخرى، عرفت لاحقاً أنها أعطت الهاتف لأمي وأخرجتها من المنزل لتعطيه لبعض الجيران البعيدين عن بيتنا، وسرعان ما داهم الجنود البيت، وقابلتهم جدتي، وسألتهم وكأنها من باب التحدي ليس أكثر:

ـ ما الذي تريدونه؟ “هي وكالة من غير بواب؟”البيوت لها حرمتها…

وأخذت تدافعهم على الباب، تحاول منعهم بكل السبل، وكأنها تريد تحويل الأمر الذي جاؤوا من اجله وتغيير هدفه، لكنهم دفعوها ودخلوا، فعضلاتهم أقوى من عظام شيخوختها، لكنها ما أن دخل آخرهم حتى دفعته بكل ما استطاعت من قوة، فتدعثر بقدميه وأسقط واحداً من الجنود الذين كانوا أمامه، فارتفعت حالة الخوف لتتحول إلى جبن داخلهم، كما قال أبي، وهوت على رأس من أسقطته ب”بابوج” قدمها البلاستيكي، واخذت تضرب به رأسه ووجهه، وفي مثل هذ الحالات” يتصاعد الجبن داخل الخائف ويكبر، فما بالك بالجبان من الأصل؟”، والسلاح كما أكد أبي، “في يد الجبان يجرح”، فما بالك إن كان هذا الجبان عدواً؟”، وعندما صار الخوف يتصاعد من ضربات بابوج جدتي، وارتفع منسوب الجبن المجبول بالحقد والكره، وصل الجبن إلى أقصاه ومنتهاه، أخذ الضابط بندقيته الرشاش من على كتفه، وافرغ في جسد جدتي مخزناً كاملاً من الرصاص، فانفجرت ينابيع الدم القاني من جسد جدتي، وسال مدراراً على بلاط البيت، وبابوجها ما زال يهوي على رأس الجندي المتمدد أمامها …

قال لي أبي ونحن نستقبل العزاء المشترك، محتفلين ونوزع الحلوى لإستشهاد جدتي وإستشهاد “هيثم”، قبل إعتفالي بيوم واحد فقط:

ـ حتى وإن إستشهدت جدتك في البيت، وسالت دماؤها على “المصطبة”، فإن دمها قد روى الأرض، فلدماء الشهداء طريقتها في الوصول للأرض لترويها، أم من أين تعتقد أن للزيتون كل هذا الزيت؟!!!

محمد النجار

لمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذا؟!!!

ظلّت الكثير من الأسئلة تدق رأسي دون هوادة، خاصة بعد بعض الحوارات ،المُصرّة على قلب الحقائق، مع البعض، والذين لا يريدون أن يروا ما يدور في منطقتنا، من حرب كونية على مقدراتنا وتاريخنا وبلادنا وشعوبنا ، إلا حرباً طائفية!!! فلا أمريكا تطمع بنا وبخيرات بلادنا، ولا “آل سعود” هم رأس الأفعى في المنطقة، ولا ما يتم لمصلحة الكيان الصهيوني!!! ولا….إلخ، بل إن إيران”الشيعية”، هي فقط السبب وراء الحروب وإدامتها واستدامتها، ومعها حزب الله طبعاً، ولا يمكن أن تنتهي الحرب إلًا بعد الخلاص من إيران “الشيعية”، تاريخاً وطوائف ومذاهب وحتى جغرافيا إن أمكن!!! الأمر الذي يعني طبعاً إدامة الصراع واستمراره إلى آخر إنسان في الجانبين، وبهذا نكون نحن”السنة” قد نظفنا بيتنا من الداخل ونتفرغ لحرب الكيان الصهيوني!!! كلام خالٍ من أي منطق، فلماذا لا يمكننا أن نضع أيدينا مع إيران، ونتخلص من الكيان الصهيوني أولاً، فهذا لا يصح، ولماذا لا نتخلص من الصهاينة وحدنا ثم نرى أمورنا مع إيران فلا يصح أيضاً، فلا يصح معنا نحن “السنة” إلا إستعداء إيران فقط، وتحويل الصهاينة إلى حلفاء محتملين!!!

هكذا قال محاوري في حوارنا الأخير، فازداد طرق السؤال رأسي، لماذا، وازدادت الأسئلة التي تبدأ به أكثر، فتجاهلت “كيف ومتى وأين وهل ومن وإلى متى”، لأنني لو طرحت كل ما يدور في رأسي من أسئلة لما أنهيت مقالتي هذه أبداً، وعليه سأطرح فقط بعض ما يدور في رأسي من أسئلة تتعلق ب”لماذا”، منوهاً أنني لست من أنصار لا الدول الدينية ولا الأحزاب الدينية، وأنني أرى أن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة تخصه وحده، ولا يحق لأي كان التدخل بها، لا من قريب ولا بعيد، كما أنني لاحظت أن كل أصحاب النظرة الطائفية والمتمسكين بها، معجبين أشد الإعجاب بالنظام “الغربي”، والذي لا يفرق بين أبنائه لأي بسبب، دين أو لون أو جنس أو معتقد، لكنهم “عندنا” يريدون مجتمعاً بلون واحد فقط، هذا إذا ظل هناك لون بعد الصراع الدائر….

ولنبدأ بالأسئلة، التي أرجوا أن لا يجيب عليها أو يقرأها أحداً من المتعصبين، من أي طرف كان، وهي أسئلة برسم التفكير لكل مَنْ يدعي أن الصراع الدائر في منطقتنا ما هو إلا صراع طائفي، وليس صراعاً سياسياً في جوهره، مغلفاً بغلاف طائفي:

  • لماذا إصرار الدول “السنية” على حرف إتجاه البوصلة، من فلسطين وتحريرها، ومن العداء للصهيونية إلى جعل العداء لإيران؟ وهل صحيح أن “طويل العمر” ملك آل سعود، دعم بناء المستوطنات بعشرات ملايين الدولارات؟ ودعم حملة إنتخابات نتنياهو ب80 مليون دولار، كما نؤكد الصحافة العبرية؟

  • إذا كان الصراع طائفياً لماذا إذن لم تقم “الدول السنية”، وعل رأسها دولة “آل سعود”، بمحاربة إيران أيام الشاه؟ أم أن إيران كانت “سنية”آنذاك؟

  • لماذا تم افتعال حروب متتالية مع إيران بعد إنتصار الثورة مباشرة؟ رغم أن الإنجليز “حلفاء” الدول السنية “وأبرز داعميهم حتى اليوم (هم مَن سلم الأهواز لإيران، تماماً كما سلّم الفرنسيون لواء الإسكندرونة لتركيا والإنجليز  لمناطق نجران وعسير وجيزان لآل سعود أنفسهم)، وكذلك سيطرت إيران على الجزر الإماراتية أثناء حكم الشاه، فلماذا لم تحارب الدول “السنية” وعلى رأسها آل سعود الشاه “الشيعي” ولم نسمع من هذه “الدول السنية” ولو كلمة واحدة بهذا الشأن آنذاك؟. بل إن علاقتهم مع الشاه كانت استراتيجية، وهو من ساعدهم على ضرب القوى الثورية التي نشأت في بلادهم!!! ولم نسمع “بسنة أو شيعة”، ولا عن اي دور “تشييعي” لإيران في المنطقة.!!!

  • لماذا اكتشف حكام الدول “السنية”، “شيعية إيران” بعد أن تم رفع العلم الفلسطيني فوق سفارة”إسرائيل” الموروثة من عهد الشاه، وتحويلها لسفارة “فلسطين”؟ وفي نفس الوقت الذي إبتدأت أمريكا بفرض حصارها على إيران؟

  • وما دام الموضوع هو “سنة وشيعة”، فلماذا تقيم هذه الممالك والدول والحكام “السنة”، أرفع العلاقات وأكثرها تطوراً، مع دولة أذربيجان “الشيعية”، صاحبة العلاقات الأكثر تميزاً بالكيان الصهيوني، وخاصة من الناحية الأمنية، التي تضر أول ما تضر بقضية”العرب السنة” في فلسطين؟!!!

  • لماذا، والأمر كذلك، لم تدعم الدول “السنية”وعلى رأسها بلاد “مملكة الخير” وقيادتها، آل سعود، الفصائل “السنية” في فلسطين، بعُشر ما قدمته لما إستجلبته من حثالات بشرية لتدمير أوطاننا في سوريا والعراق وليبيا واليمن و”الحبل على الجرار”؟ وتركت الأمر لإيران”الشيعية” لدعم فلسطين “السنية” وفصائلها؟ وتركت خلايا “حزب الله الشيعي” يدرب ويعلم وينقل السلاح ويُهربه إلى القطاع المحاصر، وتُعتقل بعض خلاياه في الدولة المصرية “السنية”؟ ولم تقدم أي نوع من الدعم للقضية الفلسطينية “السنية”، على مدار 68 سنة من عمر القضية، ولا حتى فتوى واحدة من شيوخ “السنة” العباقرة في بلاد آل سعود، بل أنها أوقفت حتى التبرعات لهذه القضية…

  • لماذا لم تقم الدول “السنية” بمحاربة محتلي المسجد الأقصى المبارك” أولى القبلتين وثالث الحرمين” رغم مرور 49 عاماً على إحتلاله، وشيوخ فتنتها كما القرضاوي “ينبحون” لمحاربة سوريا لنشر الديموقراطية هناك؟!!! ويستعيذ الله متبرئاً ممن يقولون بمحاربة “إسرائيل” بعد الإنتهاء من سوريا، ويشحذ من أمريكا المزيد من التدمير لبلداننا، ” ضربات لسوريا من أجل الله ياأمريكا”، الغريب أن البلاد والمقدسات محتلة من”اليهود الصهاينة” وهم ينادون بالديمقراطية في بلدان يحكمها “مسلمون”!!! والأغرب أنهم يريدون الديمقراطية التي يمنعونها في بلادهم، والإنتخابات التي لم يجرونها يوماً، والدستور وهم لا يملكون دستوراً… مع ملاحظة أن كاتب هذه السطور من أشد مؤيدي حرية الرأي والفكر والتعبير والإختيار، وضد كل أنواع التمييز الديني أو العرقي أو المذهبي والطائفي، أو اللون أو الجنس أو العرق، ومع تشكيل الأحزاب إلّا الدينية منها، والتبادل السلمي للسلطة.

  • بل لماذا تبرعت “مملكة الخير” أطال الله عمر قادتها آل سعود”، بفلسطين، في رسالة موثقة عبر الحلفاء الإنجليز، إلى “المساكين اليهود” أو حتى “إلى غيرهم “كما ورد في الرسالة؟ أعيد “تبرعت” بفلسطين وكأنها من بقايا موروث آبائهم العملاء الفاسدين المتخلفين الجهلة”!!!

  • لماذا لم تستخدم “مملكة الخير”ودول النفط “السنية”علاقاتها بالغرب، أو بالنفط، أو أموال النفط، لدعم قضيتها الأولى قضية فلسطين”السنية”؟

  • لماذا حارب آل سعود “السنة، الثورة الناصرية”السنية”، متحالفاً مع شاه إيران “الشيعي”؟ وراعيتهما أمريكا، أم أنه لم يكن “شيعياً” وإنما نحن الجهلة  المفتقدين للثقافة نعتقد ذلك؟ ولماذا إستدعت الحرب عليه من إسرائيل في حرب 67، معتبرة في رسالتها أن نظام ناصر إذا إستمر دون تدمير حتى سنة 70 فإن نظام “آل سعود” لن يعيش أبداً ليصل لعام 1970، أم أن الصهاينة هم صهاينة “سنة”؟

  • وما دام الأمر طائفي، لماذا إستُجلبت “القاعدة “من العالم إلى ليبيا لتدمير بناها التحتية، وذبح عشرات الآلاف من البشر “السنة”، وتدمير أول شيء النهر العظيم الذي خضّر حتى الصحراء الليبية؟ وأين الشيعة في ليبيا؟ وأين الشيعة من مصر التي يحاولون تدميرها وتقسيمها ؟

  • لماذا ترتضي الدول “السنية”، قائدة الثورة”السنية” في الوطن العربي، ل”تنظيماتها ومناضليها في جبهة النصرة وداعش وأحرار الشام وجيش الإسلام في سوريا” أن يُعالجوا في المستشفيات”الصهيونية” ويزورهم ويلتقيهم “نتنياهو” نفسه، وكل وسائل إعلامهم، ووسائل إعلام الأنظمة “السنية” تغطي على الأمر وتمنع نشره في وسائل إعلامها، وكأنها بذلك تحجب الحقيقة؟ وكيف ترتضي لقيادة الثورة “السنية” في سوريا بالتبرع بهضبة الجولان لإسرائيل مقابل دعمها بإسقاط الأسد؟ كما وكيف ترتضي للثوار”السنة” بالتدرب على أيدي ضباط الصهاينة، وأن يقود عملياتهم في غرفة عمليات “موك” في الأردن ضباطاً “إسرائيليين” بجانب ضباط من طرف آل سعود وأمريكا والأردن؟ والآن يقوم الصهاينة بإنشاء غرفة عمليات مشتركة مع ” المناضليين الجهاديين السنة” من “جبهة النصرةـ تنظيم القاعدة في بلاد الشام ـ لإقامة شريط عازل في الجولان على غرار ما تم في جنوب لبنان؟

  • لماذا لا يُحارب آل سعود، كقيادة للدول “السنية” أمريكا، التي أسقطت القيادة العراقية السنية “صدام حسين” ، بل إستدعت أمريكا وتحالفاتها لإسقاطه بعد أن رفع شعار”نفط العرب للعرب”؟ وفي الوقت الذي رفضت فيه إيران “الشيعية” أن تفتح أراضيها للغزو الأمريكي للعراق ، رغم محاربته لها 8 سنين طوال، فعلت ذلك دول النفط وغير النفط “السنية”، من مصر إلى دولة آل سعود إلى دولة “النعاج” كما سمّاها رئيس وزرائها آنذاك حمد الصغير، إلخ؟  بعد أن حاصروه وقتلوا من شعب العراق ما يزيد عن مليون طفل فقط بسبب حصارهم…

  • لماذا لا تُحرضون “السنة” في لبنان وتدعمونهم بالصواريخ كما فعلت إيران مع حزب الله، لمحاربة إسرائيل، خاصة وأن لديهم قيادة ثورية مثلكم (من الحريري إلى السنيورة إلى فتفت “شرّيب الشاي” مع الجيش الإسرائيلي، إلى ريفي)؟ ولماذا تحالفاتهم فقط مع جعجع وأمثاله، أحد أهم أبطال مجزرة صبرا وشاتيلا، القاتل المحكوم في المحاكم اللبنانية نفسها؟

  • لماذا دعمتم يا آل سعود، ياقادة “السنة”، إثيوبيا، الدولة التي ـ ربماـ من أكثر الدول الإفريقية تعاوناً مع “إسرائيل”، في بناء سد النهضة الذي يحرم الدول “السنية” العربية”مصر والسودان”من المياه، يعطش شعبهما ويصحر أراضيهما، وبتعاون مباشر مع إسرائيل؟

  • لماذا أصبحت إيران دولة نووية رغم حصاراً أمريكياً ودولياً ومنكم أنتم أنفسكم أيها الدول “السنية”، وآل سعود على رأسكم، وصار عندها ما يقرب من الإكتفاء الذاتي إقتصادياً، وأنتم بدلاً من أن تتعلموا منها، وتثبتوا لها أنكم “السنة” لستم بأقل شأنا، فإنكم ما زلتم تعتمدون في إقتصادكم بنسبة أكثر من 90% على النفط، وبدلاً من طلب مساعدتها تحاربونها، وأنتم أيها الكسالى الخائبين، يا آل سعود، ما زلتم تستوردون خضارا ،فقط خضـــــــــــــار، من مختلف دول العالم بأكثر من 30 مليار دولار، أقول مليار وليس مليون، في العام الواحد، وتستوردون المياه بأعلى من أسعار نفط شعبكم المنهوب…وصارت “سلة غذاء الوطن العربي”، السودان، التي تمتلك 30 مليون رأساً من الأبقار، وخمسين مليون رأساً من الماعز ومياه النيل وعشرات الأنهار الأخرى، صارت صحراء وجائعة وجاهلة ومتخلفة وتبيع أبناؤها لآل سعود ليقتلونهم في حرب اليمن، ويمزقها الفساد والبيروقراطية,… رغم “سنيتها” وتطبيقها للشريعة الإسلامية السنية أيضاً.” في هولندا مجرد مليون رأس من الأبقار، وبدون “سِنّة” ولا “شريعة”، صارت من صفوف الدول الأولى في العالم في تصنيع الأجبان والشوكولاتة، وبدون أمية ولا فساد ولا إفساد. أما السودان الذي  إتبع نصائح “سنة” قطر وآل سعود فتقسمت بلاده إلى قسمين، وبدلاً من الإهتمام بمصالح الوطن والمواطن، يقوم بمحاكمة فتاة تلبس بنطالاً أو أخرى تتزوج مسيحياً، لكنها لم تحاسب فاسداً واحداً أو لصاً واحداً.

  • لماذا تتقدم الدول “السنية” دول العالم في الفشل والجهل وتفشي الأمراض والأمية، مصر والصومال وموريتانيا واليمن والسودان والباكستان وأفغانستان.

  • لماذا لم تستثمر الدول الغنية “السنية” أموال خيرات شعبها، في الدول “السنية” المحتاجة لذلك، بدلاً من إبقائها في بلاد الغرب وبنوكها؟ مثل مصر والسودان واليمن، الأمر الذي يُطور هذه الدول ويقضي على البطالة والفقر، ويجعل الدول المستَثمِرة رابحة في نفس الوقت. أم أنهم يدركون أن أمريكا لن تسمح لهم بذلك، وربما تصادر هذه الأموال شاهرة في وجوههم ملف حقوق الإنسان كما هو متوقع!!!

  • لماذا تصر قيادة الدول “السنية” لمحاربة كل من يحارب أمريكا وإسرائيل، ولشيطنته وملاحقته وتوقبف قنواته الإعلامية؟، وكما دفعت أمريكا بإعترافها، ما يفوق على 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله، هكذا تفعل الدول “السنية” بقيادة آل سعود مع فصائل المقاومة العراقية التي طردت الأمريكي خارج العراق في 2011، ومن بينها بعض فصائل الحشد الشعبي في العراق، أو مناهضوا سياسة التدمير التي أنتجها آل سعود في اليمن من “أنصار الله” وغيرها من فصائل إسلامية ويسارية…

  • لماذا يُحارب آل سعود”السنة”، أعداء أمريكا وإسرائيل، ليس في المنطقة فقط بل والعالم أيضاً؟ وتكيل لهم كل التهم وتدفع الأموال من جيب شعبها، لتحصد أمريكا الثمار، وهذه مجرد أمثلة على ذلك:

ـ دفع آل سعود “السنة” مبالغ طائلة بعد فوز الحزب الشيوعي الفرنسي، وكذلك الحزب الشيوعي الإيطالي في إنتخابات بلادهم، للأحزاب الأخرى كي لا يدخلوا في تحالفات معهما كي لا يستطيعا تشكيل حكومات كل في بلدهما، هل كان أولئك شيعة؟ وهل إعتدوا على سيادة بلدان العرب أو المسلمين؟ وبأي حق يتدخل آل سعود في شؤونهم الداخلية؟ ولمصلحة مَنْ؟ أليس لمصلحة أمريكا وبأموال العرب؟!!!

ـ دفع الأموال لشراء البشر والسلاح وبشعارات دينية لمحاربة الإتحاد السوفييتي السابق، لتعود أفغانستان للحظيرة الأمريكية وبأموال عربية، هل كان السوفييت شيعة وأمريكا دولة سنية؟!!! وما شأن آل سعود بذلك؟ ولماذا سكتوا عن تحويل أفغانستان “السنية” إلى دولة فاشلة؟

ـ دعم آل سعود أعداء الثورة الساندينية، بالمال والسلاح، الكونتراس، كي لا يصل أعداء أمريكا للحكم آنذاك، وزهقت نتيجة ذلك عشرات آلاف الأرواح، ودمرت البلاد، بأموال العرب ولمصلحة أمريكا، فهل كانت الثورة الساندينية “شيعية”؟ وبماذا أساءت للسعودية لتقف موقفها ذلك؟

ـ أغرق آل سعود السوق بالنفط وأنزلوا سعره من 120 دولاراً للبرميل إلى أقل من 30 لكي يضربوا الإقتصاد الفنزويلي المعادي للأمريكي وكذلك الروسي المنافس له، وليضربوا الإقتصاد الإيراني أيضاً، فإن كان هناك خسارة بيِّنة لإيران في مليون برميل تصدره في اليوم الواحد كبيرة ومؤثرة، فإن خسارة آل سعود كانت أحد عشر ضعف الخسارة الإيرانية، كونها كانت تبيع أحد عشر ضعف المنتج الإيراني، ومن الرابح من جراء ذلك؟ أمريكا بالتأكيد، وآل سعود”جكر في الطهارة يشخون في لباسهم”.

  • ما دام “الدواعش” وجبهة النصرة، وما شابههم من حثالات بشرية “ثواراً”، لماذا يذبحون الناس ويفجرون أنفسهم في المساجد والأسواق الشعبية، ويصرخون”جئناكم بالذبح” هل هذا الإسلام “السني” الذي يريدون حكمنا به؟ وهل لائحة النساء في زواج النكاح اللواتي يُطلقن ويُزوجن بأوامر “سنية شرعية”ما يقرب من عشرين مرة في اليوم الواحد، ويدفع لها ثمن النكاح، هل هذا من الإنسانية في شيء؟ وهل هو من الديانات لا سيما المذهب السني في شيء؟ وهل يختلف عن بيوت الدعارة في شيء؟ولماذا تركت الدول الغربية القتلة للقدوم إلى سوريا والعراق وسهلت مرورهم؟ ولماذا ساعدتهم أمريكا وقطر وآل سعود؟ وإن كانت تريد أمريكا محاربتهم لماذا تركتهم يتدربون تحت سلطتها وبسلاحها وفي معسكراتها في تركيا وليبيا، ولماذا لم تقدم للجيش العراقي حتى الآن السلاح المطلوب، رغم أنه دفع ثمنه منذ سنوات؟ وماداموا يريدون محاربتهم لماذا جلبوهم إلى ليبيا “السنية”، والتي ليس بها من الشيعة أحد؟ وكيف لم يروا الأسطول البحري الذي يزيد عن 3000 صهريج وينقل النفط المسروق من العراق وسوريا ويتوجه الى تركيا واسرائيل؟ وكيف سمحوا لدويلة الشيخة موزة بشراء 3200 عربة تويتا مجهزة للقتال من اليابان ويدخلونها من تركيا إلى سوريا؟ وكيف لم يرَ الأمريكان مئات الآليات والدبابات ومدافع الهاون والصواريخ التي تتنقل في العراق وسوريا وما بينهما على مساحة آلاف الكيلومترات المربعة؟ في الوقت الذي ترى فيه لو مجرد مناضل فلسطيني واحد في قطاع غزة وتقصفه، لكنها لا تقصفهم؟ وكيف لم تر نقلهم بطائرات تركية وقطرية إلى جنوب اليمن؟ ولماذا قام آل سعود “السنة”وكذلك دولة قطر”السنية” بعزل الجنرال “السني” السوداني”الدابي”، الذي بعثته الجامعة العربية للتحقيق في أحداث سوريا منذ بدايات احداثها، عندما إتهموا النظام بقتل المتظاهرين، وعاد ليقول لرئيس وزراء قطر السابق “حمد الأصغر”، إوقفوا دعمكم وتسليحكم للإرهاب، تتوقف الحرب في سوريا، فكان نتاج تقريره عزله ووقف مهمته.
  • لماذا لم نرَ أو نقرأ أو نسمع رغم كل عمليات التفجير في المساجد والكنائس والأسواق، وتدمير الآثار والتاريخ، والتقتيل والذبح في كامل الفسيفساء العربية، من المناضلين “السنة”، عن أي عملية ضد الكيان الصهيوني، ولو عن طريف الخطأ؟ ولماذا يقتلون من “السنة” أكثر ما يقتلون من المذاهب والطوائف الأخرى، لكل من لا يتطابق وآراءهم؟ وفي المقابل لماذا لم نسمع عن “شيعي”يفجر نفسه في مناطق السنة؟بل أن “الشيعة”في الحشد الشعبي، “والذي يضم في صفوفه عشرات آلاف “السنة”، هم مَنْ يُحرر المناطق “السنية”، لاحظ “السنية” من براثن داعش وأخواتها، ولماذا لم يتوجه الدواعش للمناطق الشيعية في وسط العراق وجنوبه ليحتلوه ماداموا يريدون القضاء على “الرافضة”؟ بل داهموا المناطق “السنية” فقط وذبحوا أهلها ودمروا بنيانها واغتصبوا نساءها؟ ولماذا لم نسمع هذا التقسيم الطائفي عن “سنة وشيعة” بين الأكراد؟

  • لماذا، وهذه ال”لماذا”، كان يجب أن تكون في البداية ربما، لماذا يعتقد هؤلاء “المناضلين السنة”، ومن خلفهم داعميهم وأولهم آل سعود، أن الجنة من حقهم ونصيبهم حصراً ودون غيرهم؟ فلا نصاً يؤكد ذلك، ولا منطق أيضاً، فمذاهب الإسلام من”سنية بمذاهبه الأربعة” الشافعي والحنفي والحنبلى والمالكي” وفرقها من السنية والإباضية والشيعية، يتفرع عنها: أهل الحديث والسلفية والأشاعرة والماتريدية والمرحبة والمعتزلة والجهمية والصوفية والإثنا عشرية والزيدية والأصولية والأخبارية والشيخية والإسماعيلية والنزارية والمستعلبة والعلوية والأذارفة والنجدات والأحمدية والقرآنيين والبهرة  …إلخ والتي تصل الى 73 فرقة، كلها تدّعي أنها تمثل الإسلام “الصحيح”، وكيف  يستطيع هؤلاء التفكير أن لهم ميزة على الطوائف الأخرى وعلى الأديان الأخرى بما فيها الديانات الوضعية، عدا أن ليس لهم فضلاً أو ميزة حتى على ما في طائفتهم نفسها، ألم يحن الوقت ليتدينوا كما يريدون لكن بإبعاد الدين عن السياسة، ألا يكفي ما فعله الدين المسيس في البشرية جمعاء؟ تخيلوا 73 فرقة ومذهب إسلامي، ومثلها أو أقل قليلاً من الديانات الأخرى، والجميع بدون إستثناء يدعي أنه الصحيح، وإلا لغير مذهبه لو كان لديه شك فيه، فلو أراد كل طرف فرض رؤيته على الآخر ماذا يمكن أن يتم في عالمنا العربي؟ تخيلوا إلى أين يمكن أن توصلنا التقسيمات الطائفية والدينية، وربما لو تبعنا العرقية والقومية أيضاً، ستصبح أكبر دولة عربية حسب طائفتها ومذهبها أصغر بكثير من ملعب كرة قدم، دولاً متحاربة متذابحة إلى مالا نهاية، هذا إذا لم نفنِ بالحروب بعضنا بعضا!!!

  • لماذا لا يترك هؤلاء الدين لصاحبه، الله، ولماذا يتدخلون بصنع الله بخلقه؟ ومن أعطاهم الحق بذلك؟ فالدين كما ذكرنا لله والوطن للجميع، فلنترك ما لله لله، ولنتضافر لإعلاء صرح الوطن، ولا نترك أحداً ليتدخل في شؤون الله تحت أي إسم أو ذريعة، فهذه العلاقة بين الإنسان وربه من أشد العلاقات شخصية وخصوصية، ولا يحق لكائن من كان أن يتدخل بها، أما شيوخ الفتنة الذين بحرضون على العنف في أوساط فقراء الشعب وبغض النظر من أي ديانة أو طائفة هم، فنسألهم لماذا لا تبعثون أبناءكم ليفجرون أنفسهم ويصعدون ليحجزوا لكم مكاناً في الجنة؟ وإن كانوا “ملوا زوجاتهم”ويريدون الحوريات، فلماذا لا يذهبون هم أنفسهم ليفجروا أنفسهم ويصعدون الى السماء، بدلاً من تحريض الفقراء ؟ ولماذا لا يعطون الفقراء جزءً من جنانهم الأرضية إن كانوا بهذا الإيمان الذي يدّعون؟ولماذا يبعثون أولادهم وبناتهم إلى بلاد الغرب “الكافرة”، ويبعثون أبناء الفقراء لتفجير أنفسهم في خلق الله وعباده؟ وأكرر من أين لهم التأكد من صحة طائفتهم أو مذهبهم؟ ومن أين يعرفون أن لهم الجنة دون غيرهم؟ بل من قال أصلاً أن لهم الجنة؟، فالله ،حتى الله الرؤوف الرحيم، لا يرحم العملاء والمجرمين…

محمد النجار

أصابع الببو ياخيار

ما زالت تدق تلافيف رأسي بقوة، كلمات أمي وزوجتي حتى هذه اللحظات، وهذا الهجوم علي وكأنني لا أعني لهما شيئاً، وما يربكني أكثر اتحادهما ضدي في الفترة الأخيرة، فما أن أفتح فمي متحدثاً أو معلقاً في أمور السياسة وشؤونها حتى تنقضّان على عقلي، مشككتان في أهليته، رغم أنهما تعرفان جيداً أنني أنهيت دراستي الجامعية، رغم أنني أبيع بعض إنتاجهما من خضار حديقة بيتنا الريفي، على عربة في سوق المدينة، كوني لم أجد مكاناً أعمل به في شهادتي هذه، حتى أصبحت الشهادة تُستخدم كسلاح ضدي في بعض الأحيان، فتقول أمي مثلاً ” أحمد الله” أنهم لم يقبلوك حتى معلماً في مدارس أطفالنا، كي لا تسمم عقولهم بأفكارك هذه، فمثل أفكارك لا تنقصهم أبداً”.

ـ “أصابع الببو يا خيار”

ناديت لترويج ما لدي من خيار على عربتي، علّني أبيعها قبل العصر لأستطيع العودة في باص القرية مبكراً هذا النهار، وكلامهما ما زال يدق رأسي كمهدةٍ حديدية ضخمة، ينهال بها عامل قوي فوق سكة حديدية برتابة صلبة لا تنتهي، حتى وأنا أوزن للزبائن طلباتهم لم ينقطع هذا الطرق ولا هذا الرنين، لدرجة أن أرجع لي أحدهم مشكوراً بعض النقود التي أعطيتها له قائلاً لي منبهاً:

ـ إصحَ يا رجل لقد أعطيتني “كيس الخيار”، وأرجعت لي كل المبلغ كبقية لورقة “المية”، حدّ الله ما بيننا وبين الحرام.

كنا ننتظر خبراً عن ذكرى “منتصف أيار”، لنعرف أين سنتفاعل والآخرون بهذه الذكرى، فمنذ سنوات وزوجتي وأمي تشاركان في معظم المناسبات الوطنية ما أمكنهما ذلك، خاصة ذكرى النكبة منها على وجه التحديد، الذي تظل أمي تسأل عنها منذ مغادرتها حتى قدومها في العام الذي سوف يأتي.

وما أخذ يُزعجني في السنوات القليلة الماضية، أكثر من أي شيء، هذا الحلف الذي تشكل ضدي بين أمي وزوجتي، كما أنني لم أسمع بمثل هذا الحلف بين “الحماة وكنتها” إلّا في بيتي، وعلى من؟ على الإبن، أو الزوج، يعني علي أنا، أنا بالذات، ويتكرر الأمر كثيراً لأنني لا أعرف أن أغلق فمي عندما يقتضي الأمر ذلك، لأجد الهجوم أول ما أجده من أمي، التي تبدأ بالقول عند تعليقي الأول على حدث ما:

ـ  لو إنخرست لكان أفضل من أن تبول من فمك، ألم تتعلم بعد أن “السكوت لأمثالك من ذهب”؟

وكنت أقول من باب تكملة الحكمة الشعبية:

ـ نعم و”الكلام من فضة”.

لكنها قالت معلقة:

ـ “بل من تنك صدئ”، لو كان من فضة أو حتى من نحاس لما علقت.

وتكمل زوجتي معلقة في ثنائية عجيبة:

ـ “إذا بُليتم فاستتروا”.

بدأ الأمر كله منذ بضع ليال، عندما رأيت “المناضل الكبير”، كبير المفاوضين الفلسطينيين، وأمين سر منظمة التحرير، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والله وحده يعلم كم من المواقع والمراكز يحتلها أيضاً، وهذا دليل ذكاء وقدرة وعطاء، ولعله شرف كبير لأي كان أن يحتل هذه المواقع، أقول أنني مجرد أن رأيته إنتابني شعور فُجائي بضرورة القيام لتوي والصلاة “ركعتين وربما ثلاثاً” لله عز وجل، على مِنته ونعمته علينا بمثل هذه القيادات، وقلت عندما رأيته بوجهه ” المِسْمَرّ” من أشعة الشمس كوجهي :

ـ وجه المسكين محروق من الفِلاحة…

نظرت أمي الى زوجتي، وأزاحت وجهها كي لا تراني، وعلقت زوجتي:

ـ مثله لا يعرفون فلاحتنا نحن، يعرفون الفلاحة في الشعب، قل ربما من شواطئ بحر تل الربيع…

كنت أنظر إليها وأفكر بصوت مسموع، وكلمات تفكيري تندلق في آذانهما ككتل من رصاص مغلي ذائب لا أعرف له سبباً، قلت عندما رأيته يمرر يديه أو إحداها فوق رأسه، ويضغط معتصراً أفكاره:

ـ كم هو عميق التفكير!، فعلاً كما يقولون أن الرأس كثيف الشعر أو  الرأس الصلعاء من علائم الذكاء، أنظرن إليه بربكن كيف يحاول إعتصار الكلمات من رأسه، حتي ليبدو لمن لا يعرفه، أنه “يستخسر” الكلمات فينا نحن الشعب،  الذين لا نستطيع فهم الأمور على حقيقتها، كوننا لا نفهم كل شيء.

وأنهيت عبارتي لا أعرف لماذا بالقول:

ـ وأكثر ما يعجيني بهذه القيادة شيئين إثنين، وأشرت بإصبعي موضحاً وأكملت، الوعي بالقضية الوطنية، ونظافة اليد…

ويا ليتني لم أقل ما قلت، فسرعان ما قالت أمي بكلمات مستهزئة قاسية:

ـ صدقت، إن كل ما نراه من فلل وعمارات وسيارات وعقارات من معاشهم الشهري فقط…

وصرخت كأن نكبة جديدة اغرقت رأسها من كلملتي:

ـ متى ستتعلم أيها الدابة أن تستخدم رأسك؟ والله أحياناً أفكر أن خلفة أمثالك ما هي إلا إمتحان من رب العالمين وإختبار لصبرنا.

فقلت محتجاً:

ـ أرجوكِ يا أمي أخفضي صوتك، نحن في الليل و”الصوت يُجيب”، ولا أريد أن يسمعنا الجيران.

التقطت زوجتي الكلمات مانعة مماحكتي لأمي من الإستمرار، وقالت بدورها مستهزئة، منادية أمي كما كانت تناديها دوماً منذ بداية زواجنا:

ـ نعم يا “أمي”، كل ما ذكرت من معاشهم فقط…

وكدت للحظات أظن أنها واقفة في صفي، لكن كلماتها لطمتني كحذاء على رأسي، الذي ظلت تدور به الأفكار قبل أن تتشتت وتتفرق، مثل سحابات متقطعة في يوم صيفي عابر، وتابعت:

ـ هذه القيادة يا “أمي” لم تساوم على وطن، ولم تتنازل عن شبر منه، ولم تحوّل ما تبقى منه لتجارة رابحة لها، فلم تُبدل أراضٍ من مناطق c بمناطق من  b ولا من b بمناطق من a، بصفقات مشبوهة مع الإحتلال، لتجني من خلفها الملايين، ولم تقيم الشركات لها ولأولادها لنهب المال العام، ولم تسرق أموال الشعب، وتفاجئنا كل يوم بمحاسبة الفاسدين والمُفسِدين ولصوص المال العام، وبإعتقال العملاء والخونة وسجنهم وإفشال مخططاتهم، وهي لم تعتقل مناضلاً ولم تستهدف مواطناً، لم تختطف طالباً ولم تقمع رأياً ولم توقف عملية فدائية، كما أنها و”الحمد لله” لم تلحس حذاء أمير أو ملك أو رئيس، ولم تبع موقف لأحد، ولديها القرار الفلسطيني المستقل مستقل فعلاً وقولاً، وهي يا “أمي”قيادة جماعية، قراراتها بالإجماع ومؤسساتها تعمل بفعالية، وتنفيذ مهام مؤسساتها لم تنقطع يوماً، الأمر الذي أبقى البنادق موجهة للإحتلال وليس لصدر الشعب. وفوق ذلك كله، ومهما بحثت، فلن تجدي لهم أرصدة في البنوك الغربية ولا العربية ولا المحلية، لا بالملايين ولا حتى بمليون واحد، دليل على نظافة اليد كما أكد زوجي الحبيب!!!

سكتت قليلاً وتابعت وكأنها تحفظ قصيدة عن ظهر قلب:

ـ و”الحمد لله” أن زميلاً لهذا، “وأشارت بيدها الى القائد المناضل المفاوض على التلفاز”، المناضل العبقري الكبير عزام الأحدب أو الأحمق، فأنا لا أحفظ أسماءهم، كان قد أوضح لنا مُفسراً أيضاً، “أن إضراب المعلمين من أجل نيل حقوقهم، يمس بالأمن القومي الفلسطيني!!! “أرأيتِ يا “أمي” ؟ يخبرنا بما لم نكن نعلم، يخبرنا أن هناك أمن قومي فلسطيني، وأنا مثل الكثيرين كنت جاهلة بالأمر!!! كنت جاهلة أن هناك أمن قومي فلسطيني والبلد كله مستباح؟ أمن قومي والصهاينة يطاردون شبابنا ويقتلونهم كل يوم بدم بارد، أمن قومي وجنود الإحتلال يفتشون في غرف نوم هذه القيادة وفي سراويل نسائها؟!!! إضراب المعلمين هو ما يؤثر على الأمن القومي وليس التنسيق الأمني مثلاً، أرأيت؟ فلولا عبقريته في فن إدارة التفسير وطريقته ما كان لنا ، نحن الجهلاء،  أن نفهم الأمر على حقيقته، وكان التبس الأمر علينا وتهنا وأضعنا البوصلة مصدقين المعلمين لا سمح الله ولا قدر.      هؤلاء لا يرون فينا إلّا مجرد قطيع، يتحرك كما يريدون، يسمع ما يقولون، يفهم كما يشتهون ويصدق ما يكذبون.

في تلك اللحظة بالذات، كان المناضل المفاوض الكبير، يقول مفسراً التنسيق الأمني وماذا يعني، موضحاً لمن يريد أن يفهم، ودون أن يترك مجالاً لشك أو تحريف أو تدوير:

ـ التنسيق الأمني يعني أنه عندما يقتل “اسرائيلياً” زوجته، ويتخفى بين الناس في الضفة أو القطاع، ننسق معهم لإرجاعه.

فقلت فوراً في زهوٍ منتصر، موجهاً الكلام لأمي مهملاً زوجتي:

ـ أرأيتِ يا أمي؟

فقالت أمي مباشرة ودون تلعثم:

ـ ومنذ متى يحتمي الصهاينة بيننا يا غبي؟ وهل مثل هذا الأمر إن حصل يحتاج لتنسيق أمني؟ ألهذا يصر الرئيس على أن التنسيق الأمني مقدساً؟ وتصر أمريكا و”إسرائيل” على إستمراره؟ إلى متى سيبقى عقلك مُعطلاً يا ولد؟

ورغم أنني لم أقتنع بكلمة من كلماتهن، إلّا أنني فضلت أن لا أعلق على كل ما يقوله المناضل المفاوض الكبير، كي لا أستمع لمزيد من التوبيخ والإستهزاء منهما، لذلك لم أعلق بأكثر من ابتسامة غامضة عندما فسر لنا كلمات الرئيس، وفي أي إطار كانت، عندما قال أنه يبعث الأمن الفلسطيني ليفتش حقائب طلبة المدارس بحثاً عن سكاكين، لكن زوجتي التي تزداد تطرفاً يوماً بعد آخر مدعومة من تشجيع أمي قالت:

ـ ومنذ متى يحمل أطفالنا السكاكين؟ أيريد رئيسك أن يحولنا إلى قطاع طرق لمجرد أن يُرضي أسياده الإسرائيليين؟!!! بدل أن يدافع عن “السكين” كوسيلة لرد الظلم ومقاومة المحتل، قي ظل غياب وسائل أخرى.

فقالت أمي جملة من جملها القصيرة الحادة:

ـ طبعاً، فالسلاح أرسلوه ليدمروا سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولم يبق شيء يرسلونه لفلسطين، يا حيف على هذه الأمة يا حيف.

لا أعرف ما الدي أصاب أمي بالضبط، فكل يوم تزداد إنتقاداً وحِدّة على قيادات فلسطين والعرب، لكنني يوم عزاء الشهيد أمجد الذي إغتالوه واقفاً على باب داره برصاصة قناص، قبل شهر من الآن، استمعت لحديث الدكتور خالد، الذي فسر الأمر قائلاً :

ـ أن أمهاتنا وآباءنا بعد أن مر الزمن وهم ينتظرون العودة مُصدقين وعود الأنظمة، سرعان ما تهاوى شبابهم واندثر وهم يأملون خيراً في القيادة الفلسطينية بعدهم، ورأوا أنفسهم يتدثرون في أحضان شيخوخة بائسة، غير قادرة لحملهم لأي شاطئ آمن في بلادهم، التي يرونها بعيونهم المجردة، ولا يبتعدون عنها سوى بضعة كيلومترات، وبعد ما رأوا من تهاون القيادات وتفريطها بالقضية، أخذوا يزدادون ميلاً للمواقف الجذرية الحاسمة، في محاولة للإستفادة من تجربتهم المرة مع المحتل، وفي نفس الوقت لتقريب حظهم في الرجوع والعودة، فهم أكثر من يدرك أن عودتهم مرهونة بصلابة أولادهم، فصاروا يزدادون صلابة خاصة وأنه لم يبق من العمر بقية، وحلمهم بالعودة يدق بعنف تلافيف أدمغتهم…

ورغم أنني لا أتفق مع هذا التفسير الذي يحاول المس بقيادتنا، إلا أن بعضه، خاصة ما يخص أمي على وجه الدقة، صحيحاً، لكن زوجتي وكرهها أو حقدها أو على أقل تقدير عدم إحترامها لهذه القيادة، شيء لم أفهمه ولن أفهمه أبداً.

وسرعان ما أخذ “المناضل المفاوض”، يُدافع عن الرئيس المصري، معيداً كلماته بأن “فلسطين في سلم أولوياته”، فثارت أمي قائلة:

ـ طبعاً، فهو منكم وإليكم، وإلّا لما أغرق أنفاق غزة بمياه البحر، ومنع الطعام عن الغزيين والذي يشترونه بأموالهم، ويغلق المعبر الوحيد أمام الجرحى والمرضى والطلاب والأقارب، حتى لا أقول السلاح الذي كان يجب تقديمه بكل الطرق للغزيين، ليدافعوا به عن الأمة العربية وأولها مصر قبل فلسطين…

فقالت زوجتي بإبتسامة حزينة:

ـ مادامت مصر لم تكن يوماً أولوية لديه هل ستكون فلسطين كذلك؟ من يُهدي الجزر المصرية لآل سعود، ويبقي على أبواب مصر مفتوحة للنهب الأمريكي الإسرائيلي، ويعتقل عشرات الآلاف من شباب الثورة الذين أوصلوه لسدة الحكم، وزاد الجهل جهلاً وعمّق الأمية ورفع نسبتها، ورفع الأسعار وزاد نسبة الدين العام، ورفع الدعم عن المواد الرئيسية، ولم يبنِ مصنعاً أو يدافع عن ماء نيله ضد المشروع الإثيوبي الإسرائيلي، وكمم الأفواه ومنع التظاهر، أتريد من مثل هؤلاء أن يدافعوا عن فلسطين؟!!!

فقالت أمي معلقة من جديد، وكأنهما يعزفان لحناً واحداً ألّفتاه سوياً:

ـ يا طالب الدبس من طيز النمس!!!

فقلت بغباء لكن بحسم واضح:

ـ الرئيس إن قال فهو لا يكذب

فقالت زوجتي بطريقة حاسمة لا تقبل التأويل:

ـ لا يوجد رئيس لا يكذب

فقلت سائلاً بسذاجة طفل، لا أعرف كيف أو لماذا:

ـ والملوك أيضاً؟!!

فردت أمي هذه المرة قائلة:

ـ الملوك والأمراء أبداً لا يَصْدُقون…

ظل “المناضل المفاوض” يلوك كلماته وسط تعليقات أمي وزوجتي، وكلما كان ينطق بشيء لا يعجبهن كن يعلقن عليه بتكامل غريب، وكان حديثه وكأنه مفصل ليستطعن التعليق عليه، خاصة عندما بدأ بالدفاع عن آل سعود كما تسميهم زوجتي، “بأنهم لم ولن يتآمروا على قضية فلسطين”، ودون أن أنبس ببنت شفة قالت زوجتي معلقة:

ـ هؤلاء إما جهلة لم يقرأوا التاريخ يوماً، وإما أعمتهم أموال آل سعود ويكذبون بالمجان، ألم يقرأ  هذا كيف تبرع ملوك آل سعود بفلسطين “للمساكين اليهود” كما وصفوهم؟ ألم يقرأوا كيف تآمروا وتحالفوا مع شاه إيران “حيث إيران لم تكن شيعية في ذلك الوقت!” على عبد الناصر وثورته ومشروعه العروبي؟ وكذلك على نظام الجمهورية في اليمن؟ ألم يستدعوا ويطلبوا برسائل واضحة تدمير الدولة المصرية وهزيمة ناصر بهجوم اسرائيلي وإلاّ فالمخاطر كبيرة على نظام العائلة بأكمله، قبل شهور من حرب الخامس من حزيران 1967؟ وإن كان هذا من الماضي فماذا عن لقاءات مخابرات البلدين الدائم؟ وماذا عن لقاءات الأمراء مع “موسادهم” والتنسيق المشترك؟ وهل فعلاً لم يسمع عن لقاءات الأمراء مع الصهاينةفي الأردن؟ وزيارات بعض وزراء آل سعود للقدس المحتلة نفسها؟ أم كل ذلك لجس نبض المحتل ليعرف آل سعود كيف يحاربونه؟!!!

وضحكت بألم قلّما رأيته عل صفحة وجهها وتابعت بجديتها نفسها:

ـ هؤلاء يعلمون أن مستقبل عائلتهم معلق في أيدي “أمريكا وربيبتها اسرائيل”، والأخيرة هي الأقرب الآن بعد  ما يجري من تدمير للأوطان، لذلك كل هذا التحالف الذي أصبح علنياً الآن ولا يريدنا أن نراه صاحبك القائد.

فقالت أمي رادة على كل أسئلة زوجتي دفعة واحدة:

ـ إنه ثمن المال المدفوع يا بنيتي، والمال إن دخل ثورة أفسدها، أغنى قادتها وأذل شعبها وأضاع قضيته، لهذا بالضبط يابنيتي، نحن على ما نحن عليه من وهن وتبعية وخنوع، وحزب الله على ما هو عليه من عزة وعنفوان وصلابة، رغم أننا سبقناه بعدة عقود بحمل السلاح، لكننا أضعنا إتجاه البوصلة، أو غيرنا إتجاهها بثمن بخس.

كنت أحاول الإبتسام على كلام زوجتي قبل أن تبدأ والدتي حديثها، لكن كلماتها الجافة مزقت محاولات ابتسامتي الفاشلة ورمتها بعيداً خلف جدران الغرفة، كل ذلك و”القائد المناضل المفاوض”، ما زال يتحدث شارحاً تأييده للمبادرة الفرنسية التي لا يعرف نقاطها كما قال، كون القيادة ملّت من التفاوض مع “اسرائيل”، التي لا تفاوض بل تُملي شروطاً كما أكد، وهنا قالتا الإثنتان دفعة واحدة وبنفس الكلمات:

ـ إذن لماذا ما زلتم تتمسكون بالتفاوض كطريق وحيد أيها الأنذال؟

وأكملت زوجتي، وكأنها لا تريد أن تترك شيئاً من الحديث يفوتها التعليق عليه:

ـ إنهم يوافقون على مبادرة لا يعرفون مضمونها كما يدعون، ورغم رفض أغلبية الفصائل الوطنية والإسلامية، إلّا أنهم يعطون لأنفسهم الحق في الموافقة والمشاركة!!! من هم ليفعلوا ذلك؟ من أعطاهم الحق بتمثيل الأرض والعباد؟

فقلت صارخاً بزوجتي بعد أن “بلغ السيل الزبى”، ولم أعد احتمل كل هذا القدح والذم الذي تسيله فوق رؤوس القيادة:                                                                                                                               ـ كفى… لماذا لا تغلقين فمك هذا الذي لم يكف عن الحديث الهدّام؟!!!

وما فاجأني رد أمي التي علا صوتها صوتي قائلة:

ـ لأننا نتحدث عن وطن وعن قضية… نتحدث عن شيء ليس من حق أي كان التفريط به أو التسامح فيه… أفهمت أم علي إفهامك بطريقة أخرى…

كانت ربما المرة الأولى التي تخاطبني بها والدتي بهذه القسوة منذ فترة مراهقتي، وربما طفولتي أيضاً، وما كان مني أن انسحبت بهدوء غاضب لف جسدي كله، اتجهت لغرفة نومي، ودفنت رأسي في ظلام فراشي، وحيداً، طردت أحلامي واستسلمت للنعاس.

استيقظت مع الفجر، حملت صناديق “الخيار”إلى مؤخرة الباص المتوجه للمدينة، وأخذت عربتي ذو العجلات الثلاث، من مكانها الذي أؤمنها كل يوم فيه، أفرغت صناديق الخيار فوقها، ثم أخذت أرتبه حتى جعلته هرماً جميلاً يشد الإنتباه، مع شروق شمس الصباح كنت أنادي عل بضاعتي، “خيــــــــــــــــــــــــــــار… أصابع الببو ياخيـــــــــــــــــــار، أصابع الببو ياخيــــــــــــــــــــار”، وهجم الناس يشترون كما لم يفعلوا يوماً من قبل، فعرفت حينها أن أمي رغم غضبها مني ومن غبائي أحياناً كما تقول، إلّا أنها رضيت علي وعني، ولم تبخل علي بدعواتها بعد صلوات الفجر التي لم تهملها يوماً.

ومع الضحى، امتلأت المدينة بالبشر حتى فاضت بهم، وبدأت تتشكل جماعات بشرية تهتف بحياة فلسطين، وبدأت “الإحتفالات” بيوم النكبة، وكنت أجر عربتي وأنادي ترويجاً لبضاعتي، وفجأة ودون سابق إنذار، داهمت الشرطة الفلسطينية المتجمهرين وعربتي فقلبتها، وانهار بقايا “هرم الخيار” الذي كنت حريصاً على بقائه ليجلب مزيداً من الزبائن، ووقع الميزان بأوزانه وكفتيه، وداست أقدامهم الخيار والميزان وطيق العربة الخشبي، ووقعت أنا بين يدي العربة، ودون تأخير حاولت إعادة عربتي، لكن أيادٍ قوية إنتزعتني، فصرخت”إنها عربتي، أنا بائع الخيار”، وهوت على رأسي هراوة لم أستطع تحديد ضاربها، وتهاويت حتى وقعت على وجهي مثل لوح خشبي، وللحظات لم أعد أرى، وأحسست فقط بلزوجة دافئة تتدفق من الجرح على وجهي ورقبتي، وبقايا كلمات آتية من مكان بعيد تصرخ بي” بائع خيار ياابن الكلب”، وأطل والدي ببارودته، شاباً قوياً لم يعرف الشيخوخة أبداً، تماماً كما صُورته التي أخفتها أمي ولم تُظهرها إلّا بعد استشهاده، والدي الذي استشهد بعد ولادتي بشهور عدة، ورفضت أمي الزواج بعده قائلة، “أنها لن تبدل ذكرياتها مع الشهيد بأي كان أو بأي شيء كان”، لهذا بقيت وحيدها، وكان شيء يصرخ في داخلي” أنا ابن الشهيد ولست ابن كلباً”، أنا ابن الشهيد بائع الخيار، وكان صوت يأتي من بعيد بعيد وكأنه من أعلى طبقات السلطة، من فوق، هناك من العمارة التي يعتليها رأس السلطة، يكرر “شهيد… بائع خيار… ابن كلب”، وعلى مجموعات من البشر بعيدة عن مدى سمعي، كانت تتفجر قنابل الغاز السام من جنود الإحتلال وكأنهم يساعدون شرطة السلطة للسيطرة على الأمور.

وصحوت وأنا في زنزانة في السجن، يقف على بابها شرطي ببارودة طويلة، قال زميلي الذي يبدوا عارفاً بأنواع السلاح، أن هذا النوع من البنادق لا يُطلق إلّا للخلف، ولمّا قرأ الغرابة فوق وجهي أضاف ” إن الخيل من خيّالها”، وكان هناك على أبواب المدينة ضابط عسكري يحمل على كتفه نجمة داوود، يخاطب ضابطاً فلسطينياً، ينسق معه أمنياً، تماماً كما شرح وفسّر “القائد المناضل المفاوض”، يطالبه أن يبحث له عن “يهودي قتل زوجته واختبأ بين أهل المدينة”، وكانت الهراوات ما تزال تدق عظام “المنكوبين” منذ ما يقرب من سبعة عقود في الخارج، والزنازين تمتلئ بالأجساد المنهكة، وكلمات أمي وزوجتي تتعالى وترتفع في أذني صارخة” إننا نتحدث عن وطن وعن قضية…ليس من حق أحد التفريط به… التفريط به…التفريط بــــــــــــــــــــــــــــــــــه”.

محمد النجار

خفافيش الليل تخشى ضوء النهار

تقابلنا بعد مرور ما يزيد عن حفنتين كاملتين من السنين، بل لقد عرفني من مشيتي وأوقفني، مشيتي العوجاء التي لطالما أضحكته وأنا أدور في “فورة” سجن رام الله في دائرة مثل أبقار الساقية، قبل أن ينقلونا سوياً الى سجن النقب الصحراوي مُحوليننا الى الإعتقال الإداري بعد إنتهاء تحقيقاتهم معنا دون نتيجة، حيث “الفورة” أوسع وأكثر شمساً وأعلى حرارة، لكن كل ذلك لم يغير طريقة مشيتي العوجاء كما ظل يسميها، والتي كان طول قامتي يجعلها كبيت تهالك وتآكل جانب من أساسه فمال جانباً وأصبح آيلاً للسقوط.

أوقفني فتوقفت ناظراً في صفحة الوجه المفرود أمامي، لكنني لم أعرفه، فابتسم الرجل كاشفاً عن سنٍ واحدٍ فقط تبقى في منتصف فكه العلوي، قاسماً فمه الى قسمين متساويين، فزاد الأمر تعقيداً على عقلي، فأطلق ضحكته المعهودة الصاخبة وسأل سؤالاً معاتباً:

ـ ألم تعرفني ياصديقي؟                                                                                                     وكلمة “صديقي” هذه هي ميزته الأولى قبل ضحكته الصاخبة، فهو لم يكن يستعمل الكلمات “التنظيمية” للتخاطب كما كنا نفعل نحن، فلم ينادي أحداً ب”الأخ” أو “الرفيق” يوماً، بل بكلمة “صديقي”، حتى لو لم يرَ المُخاطَب إلّا في تلك اللحظة، فكان يخاطبه بنفس الخطاب كما أصدقاءه الحقيقيين أو زملاء السجن العاديين.

وأمام ذهولي المؤقت، حاول أن يوقظ فيّ ذكريات غطتها السنون، فوضع إصبعه على سنه الوحيد الذي ما زال واقفاً وأفلت ضحكته الصاخبة من جديد وقال:

ـ آه… قبل سنوات لم يكن وحده، أما الآن فأصبح وحيداً مثلي، تخيل أنني وكي أحافظ على صديقي الوحيد الذي تبقى، فإنني أقوم كل صباح وأغسله بالفرشاة والمعجون حتى “أهلكه”، ويكاد يأخذ بالصراخ ويقول”اتركني من أجل الله”، أتتخيل كيف أدور حوله بالفرشاة و”أفعكه” و”أُحممه” و”أشطفه”، في محاولة ليظل يسليني فيما تبقى لي من عمر.

عانقته فوراً بعد أن سمعت ضحكته الصاخبة الثانية، وقلت صادقاً حتى وإن لم أكن صادقاً تمام الصدق:

ـ طبعاً عرفتك يا صديقي، وكيف لي أن لا أعرفك، وهل يخفى القمر يا أبا خالد؟

وخالدٌ هو الإبن الذي لم يرَه، حيث كانت زوجته حاملاً به في الشهر الخامس في الإنتفاضة الأولى، عندما تلقت قنبلة غاز في صدرها، في مسيرة نسائية على باب الكلية الأهلية في مدينة رام الله، فأوقعتها، وأخذ الغاز ينتشر بكثافة في المكان، ودخل دفعة واحدة في فمها وأنفها، فلم تعد قادرة على التنفس عِوضاً عن النهوض، وكلما اقتربت منها امرأة لسحبها من المكان كان الرصاص يطلق نحوها، وحتى عندما حضرت سيارة الأسعاف، أوقفوها ومنعوها من التقدم الى المكان، وسرعان ما اعتقلوا الطبيب المناوب فيها لإحتجاجه على الأمر وحولوه الى الإعتقال الإداري، وظلت هي في مكانها تحاول جاهدة انتزاع حزمة هواء نقي خالٍ من السموم ،للطفل على الأقل، دون فائدة، متناسية آلام حروق صدرها، حتى صعدت روحها الى السماء مع طفلهما الجنين، وربما تمتم هو في صدره”جاءت من القرية ليكرمها الله بالإستشهاد في المدينة”، ووفاء منه وحباً، لم يتزوج أبداً، حتى أن أمه قبل موتها لم تلح عليه كثيرا، وقدّرت واحترمت موقفه، وقالت في سرها “إن إبنها من صنف بعض الرجال الذين حتى لو لم يُخلِّف فهو لن يموت”، وظل هو يزور قبرهما وقبر أمه المجاور، ما دام خارج السجن.

شكرني على كلماتي “الطيبة” كما وصفها، واحتضنْتُ عضده، ودون مقدمات أقسمت بأن يأتي للغداء عندي، ولا أدري لماذا اجتاحتني ” موجة الكرم الحاتمي” هذه، والتي لم أكن أعلم أنها متأصلة في عقلي الباطني، بل في مرات عديدة كانت زوجتي تصدمني بكلماتها وهي تقول لي معاتبة عندما لا أقوم بدعوة الناس الذين ألتقيهم:      ـ لماذا وقفت مثل الأبله؟لماذا لم تدعهم على وجبة غداء؟

وعندما كنت أنظر اليها منبهاً بكلماتٍ من عيني، بأن ثلاجتنا خاوية من كل أصناف اللحوم كانت تكمل وتقول:

ـ الجود من الموجود…. على فنجانٍ من القهوة على الأقل…

قال محاولاً التفلت من قبضة يدي:

ـ بارك الله فيك، لا أستطيع، وهل أنا أريد تجربة كرمك؟

لكني أقسمت على غير عادتي من جديد.

كان يكبرني بجيل كامل ونصف الجيل، يعني أنه ربما يقف على أبواب السبعين، لكن جسده الرفيع ما زال رفيعاً، وما زال منتصبا مثل جذع زيتونة صلب ليس من عادته الإنحناء، وكان في كل فترة السجن من أكثر الناس قراءة، وعادة ما كان وقته مقسوماً إلى أشياء ثلاث يفعلها في سجن النقب على وجه التحديد ، القراءة والمشاركة في البرنامج الثقافي و ساعة من المشي يوميا في ساعات ما قبل الغروب، وكنت أحب الإستماع لشروحاته وغناها، وأحاول أن أقرأ ما يقرأه علّني أصبح فاهماً ومثقفاً مثله، وعندما رآني أستعير ذات الكتب التي يقرأها، سألني:

ـ هل قرأت كتاب كذا وكذا؟

ولما أجبت بالنفي قال :

ـ أنصحك بقراءتها أولاً كي تستطيع فهم هذا الكتاب بطريقة أفضل.

وأمام إصراري على دعوته قال:

ـ جيد، نشرب القهوة… ولا شيئاً آخراً…

ومشينا نحو منزلي القديم على طرف المدينة البعيد، غرفة وصالة صغيرة ومترين مربعين حولتهما لمطبخ، ومرحاض، سألني:

ـ ماذا تفعل هذه الأيام؟

فقلت:

ـ كما تعلم مع هذا الحصار وهذه الحواجز، وكوني معتقل سابق يمكنهم توقيفي واعتقالي على أي حاجز، لم يعد بإمكاني متابعة عملي كعامل مياوم خارج المدينة، على الأقل كي لا أُذَكَّرهم بنفسي، وكي أظل أقتنص وأصيد الرغيف بين فترة وأخرى ما دمت خارج السجن…

قال:

ـ نعم ياصديقي، الأوضاع صعبة وعليك الحفاظ على نفسك وعائلتك… لأن هذا نضال أيضاً، وكيف هي  إبنتي؟!!      سأل عن زوجتي التي كان يطلق عليها لقب”ابنتي” في أحيانٍ كثيرة، واكتفى بهزة رأس وكلمتين مني ،”ماشي الحال”

كان حديثه سرعان ما يجد طريقه الى العقل والقلب، وأذكر عندما قال زعيم إحدى فصائل الإسلام السياسي، الذي لقبوه ب”أميرالمؤمنين” ، الذي ظل يتغنى “بأن الله ميزنا على غيرنا عندما أكرمنا ب”الإسلام”، قال له أبو خالد:

ـ كما أكرمنا الله بديننا أكرم الآخرين بدينهم أيضاً، وهنا لا ميزة لأحد على الآخر، فكلنا وُلدْنا بديننا ولم نختره، أم تعتقد أنه أكرمنا بديننا وأذل غيرنا بدينه؟!!!

ثم حذّر الرجل بالتروي والتنبه فيما يقول، كي لا يكون الأمر موضوع فتنة داخل السجن، خاصة وأن الإحتلال يتربص ليجد ما يفرق به المناضلين. ومع تعنت “أمير المؤمنين” سأله أبو خالد مجدداً:

ـ يا صديقي، بأي حق تريد فرض معتقداتك على الآخرين؟ من أعطاك هذا الحق؟

فقال الشيخ:

ـ إن من واجبي أن أقيم “شرع الله”.

فقال أبوخالد:

ـ وهل أعطاك الله أمراً بذلك؟ كل معتقِد يعتقد أن دينه أو مذهبه هو الأصح وهو “شرع الله”، وكلهم مؤمن بذلك، لكن لا أحد من كل الديانات أو المذاهب والطوائف يستطيع ان يجزم بذلك، وإن كان كل واحد سيطبق ما يسميه ب”شرع الله” ويقيم حدوده وقوانين دينه على الآخر، فسندخل في مجازر وحروب لن تنتهي.

فقال الشيخ بثقة وتأكيد:

ـ بلى، إننا نستدل على ذلك بقول الله وبالمنطق.

فرد أبو خالد قائلاً:

ـ كلٌ يعتقد أن الله أمره بتطبيق ما ورد في كتبه المقدسة، ويؤمن أن منطقه هو المنطق الأسلم والأصح يا صديقي الشيخ.

وبالمناسبة سأل أبو خالدُ “الشيخ”:

ـ منذ متى أنت معتقل؟

ـ ثلاثة شهور.

ـ وبكم أنت محكوم؟

ـ ست شهور إدارية

ـ وهل هذه أول مرة تُعتقل فيها؟

ـ إنها الثالثة

فقال أبو خالد مشيراً بإصبعه نحو شخص كان يتمشى في ساحة “الفورة”:

ـ أترى ذلك الشخص ذو البنطال الأسود والقميص الأزرق؟

ـ نعم.

ـ قبل عشرين عاماً من الآن، أمضى هذا الرجل عدة سنوات في السجن،  وبعد فترة من خروجه تمت مطاردته وجرت محاولات لإلقاء القبض عليه، فاختفى واختفت أخباره معه، ليكتشف الجميع أنه بقي يناضل متخفيّاً عشر سنين كاملة قبل أن يتم إعتقاله مجدداً، أتتخيل الأمر؟ عشر سنوات لم يستطيع الإحتلال بأجهزته ومخابراته القبض عليه، وبعد اعتقاله حاكموه بالسجن الفعلي لخمس سنوات، وبعد أن أمضاها حولوه مباشرة للإعتقال الإداري، وها هم يمددون له للمرة الرابعة على التوالي  و”الحبل على الجرّار”، ست شهور في كل مرة.              وسكت قليلاً وأكمل:                                                                                                              ـ إن هذا الرجل مسيحي الديانة، ومثله الكثيرون إن كان الأمر يعنيك إلى هذا الحد،  فمن تعتقد أنه يمتاز عن الآخر برأيك ياصديقي، أنت أم هو؟ أم تعتقد أن الله سيدخلك الجنة كونك مسلم ويدخله النار كونه مسيحي دون النظر في أعمال كل منكما؟!!!

ولما لم يجد الشيخ ما يجيب به اتهم أبي خالد بأنه علماني الهوى، فقال أبو خالد حينها:

ـ وهل العلمانية تهمة؟ أنا لا أراها كذلك، وهي لو علم المتدينون الأفضل بالنسبة لهم، فهي تمكن كل متدين مهما كانت ديانته ومهما كان حجم تمثيلها ونسبتها في المجتمع، بأن تمارس طقوسها وعباداتها وشعائرها دون حق الإعتراض أو الرفض أو التهديد أو حتى حق الممانعة من أحد، لكن المذهبيين أو الطائفيين أو المتعصبين من أصحاب الديانات المختلفة، يرون في مذاهبهم حصراً أنها الصالحة والصحيحة دون غيرها، أما الديانات أو المذاهب والطوائف الأخرى، فيرونها خارجة عن قوانين الله وشرعه، وبالتالي وجب إيقافها ومعتقديها عن “غيهم” و”فسقهم” وعن “ردتهم”إن شئت، ليعودوا لرشدهم  وبحد السيف إن تطلب الأمر ذلك، يعني تحت شعارات دينية زائفة تعتقد أنها تملك الحقيقة دون غيرها، وتُدخل مجتمعاتنا في أتون حروب لن تنتهي، فكما قلت لك ياصديقي لا أحد يستطيع التأكد بأن دينه أو طائفته هي الصحيح المطلق .

ومن يومها عمم “أمير المؤمنين” : مقاطعة أبي خالد، وحرّم الحوار معه.                                                    وذكّرته بالأمر الآن ونحن نسير نحو بيتي، فقال:

ـ إن ما تراه أمامك الآن من تدمير للأوطان ما هو سوى نتيجة لمثل أفكار ما أسموه ب”أمير المؤمنين” ذاك وأمثاله، أعني أن “الغرب” وجد ضالته بهؤلاء، فدعمهم وسلّحههم وموّلهم من جيوبنا ليدمر بهم أوطاننا ويقسمها.، يعني يخوض حروباً بدمنا وأموالنا ويدمر حضاراتنا وتاريخنا ليحقق مصالحه، أرأيت المأساة؟!.

وتابعنا مشينا نحو بيتي، وأكمل وكأنه يكمل موضوعاً لم يكتمل بعد، فقال مستبقاً ما أراد قوله بضحكة مجلجلة صاخبة:

ـ يريدون إقناعنا بأن ما يدور في منطقتنا بأنه “ثورة شعب”، مستخفين بعقولنا وكأننا قطيع ماشية وليس بشر، تخيل “ثورة” تقودها أمريكا وبريطانيا العظمى وفرنسا الإستعمارية وتدرب قواتها “إسرائيل” كما وتعالج جرحاها، وتمولها “حارة الشيخة موزة” وعائلة آل سعود، فهل هذه ثورة؟ ويخوضون الحرب علينا تحت شعارات الديمقراطية!!! أي ديمقراطية هذه التي تدعمها أكثر الدول فساداً ولصوصية وفاشية وعنصرية ومعاداة للديمقراطية؟!!! وأي ديمقراطية هذه التي تُدمر الأوطان وتحاول تقسيمها وتستجلب دول “الناتو” لغزوها؟!!! ببساطة ياصديقي، لا يمكن لثوار أن يأتوا محمولين على ظهور دبابات الأعداء، لا يمكن لثوار أن يتنازلوا عن جزء من أوطانهم للأعداء مقابل دعمهم في تدمير بلدهم، بحجة فساد النظام كما فعل “أبطال الثورة السورية”، متنازلين عن الجولان المحتل لإسرائيل مقابل دعمهم، ولا يمكن لثورة ولا لثوار معاداة كافة قوى التحرر وبناء التحالفات مع القوى الرجعية في المنطقة.

ـ يا صديقي، إن كان صحيح أن العنف ضرورة للثورة في معظم الأحيان، فمن الصحيح أيضاً أن ليس كل عنف ثورة، وأكثر صحة أن لا الإستعمار ولا الرجعية يمكنهما أن يقودا ثورة، عوضاً عن أنهم يُقاتلون وربما يُقتلون من أجل أن ننعم نحن بالديمقراطية، ألا يكفينا “ديمقراطيتي” العراق وليبيا كي نفهم الأمور؟!!!.

سكت قليلاً وقال من جديد:

ـ كثيراً ما تذكرت في الفترة الأخيرة الماضية، كلمات المناضل كاسترو الذي قال” إذا ما إمتدحت أمريكا والغرب سياستنا علينا إعادة النظر بهذه السياسة”، أرأيت آلية تفكير الثوار الحقيقيون ياصديقي!! ونحن يقودنا ويوجهنا ويهدر دمنا ويدمر أوطاننا الأمريكان وحلفاؤهم وتابعيهم في المنطقة، وندّعي أن ما لدينا ثورة!!!

كنا قد وصلنا البيت، ورحبت به زوجتي، بل وقبلته من خديه، فما أكثر ما رأته سواء في زيارتي في زنازين سجن رام الله، حيث كانت محاكمات التمديد تجمعني والكثيرين بما فيهم هو، وكذلك في بعض زيارات سجن النقب، أثناء زيارة أمه العجوز قبل أن يُغيبها الموت.

وتقابلنا على فنجان قهوة، وأكمل هو وكأنه تذكر شيئاً لم يقله:

ـ تخيل!!! آل سعود يريدون الديمقراطية في سوريا والعراق وليبيا!!! والكثيرون يصدقون ذلك!!! لا أحداً من أولئك يدرك أن فاقد الشيء لا يعطيه!!! وأن من يقطع الرؤوس التي تعبر عن رأيها في بلده يعطينا دروساً دامية في الديمقراطية!!! يالله ياصديقي، آل سعود!!! هزلت ورب العزة، رحمك الله يا ناصر السعيد.

وأكمل وكأنه يريد تعريفي بناصر السعيد:

ـ ذلك المناضل الحجازي الذي اختطفته جماعة من”قيادتنا الفلسطينية” في بيروت، وسلمته لآل سعود ليلقونه من طائرة عمودية في صحراء الربع الخالي، أيمكن تخيل مثل هؤلاء المتوحشون الذين بشرونا بنشر ديقراطيتهم هذه في سوريا والعراق واليمن وليبيا؟ . لقد قال ذلك المناضل:”لن تنتصر قضية فلسطين ما دام آل سعود في سدة الحكم”، وها نحن نرى تحالفهم مع الصهاينة لمحاربة ما تبقى من قوى الثورة والممانعة بإسم الإسلام “السني”مرة والعروبة مرة أخرى، وكأن العروبة مقتصرة على السنة فقط في الإسلام، فكما حاربوا عروبة المرحوم “عبد الناصر” بإسم الإسلام “السني والشيعي” بتحالفهم مع إيران الشاه، يحاربون قوى الثورة العربية باسم السنة والعروبة الآن.   طبعاً إنهم “ثوار” آل سعود.!.!.!

وضحك بصخب أكثر هذه المرة، وقال عائدا الى صلب الموضوع،

ـ أتساءل أحياناً، هل الله فعلاً هو من خلق آل سعود ،أم أنهم نبتاً شيطانياً فاسداً ظهر فجأة وفي غفلة من الزمن؟!!! أستغفر الله العظيم، ولا أخفيك أنني أستصعب تصديق ذلك، إلا إذا كان الأمر إبتلاءً من الله واختباراً لصبرنا وقدرتنا على التحمل. لأن نسبة الذل والهوان والفساد والجهل والضلال والعفن والوقاحة والغرور في طينتهم عالية جداً، لكنني أعود وأقول أن هذه الصفات ما هي إلا صفات مكتسبة لا علاقة للإله بها، ولا يستطيع اكتسابها إلا كل نذل خسيس.

فقلت من باب المجاملة والمشاركة في الحديث:

ـ أنظر ماذا يفعلون في “حلب”، يقصفون ويدمرون وينهبون خيرات المدينة، ويصرخون “حلب تحترق”، وهم من يحرق ويدمر ويُزوِّر الوقائع، وتصرخ معظم كل الدول “العاهرة” في هذا العالم “أنقذوا حلب”!!!…

فقال:

ـ طبعاً ياصديقي، بعد أن فشلوا في تحييد تنظيم القاعدة في بلاد الشام المعروف بإسم “جبهة النصرة”، وجعله تنظيماً “معارضاً معتدلاً” لجأوا لخطوة زعيمهم الأمريكي للخطة “ب”، حيث دعموا هؤلاء التكفيريون بآلاف المقاتلين الجدد وبالعدة والعتاد من بلاد “العثمانيين الجدد”، وبضخ الأموال من حثالات آل سعود، ليكسروا شوكة جيشنا العربي السوري، “ودق على صدره عندما ذكر كلمة جيشنا وأكمل”، لكني أعتقد أن الأمور في نهاياتها، وأن قوى الظلام هذه ستحترق مع شروق شمس الصباح، فهذه الخفافيش لا تستطيع الحياة إلا في بين تلال العتمة ومنحنيات الظلام.

أحضرت زوجتي صحنين من الزعتر والزيت، وصحن جبنة بيضاء، وأربع بيضات مسلوقة مقطعة مبهرة تزينها كمية من زيت الزيتون، وصحناً من دبس الخروب الذي صنعته بيديها، وبضعة أرغفة من خبز الطابون، وقالت :

ـ هيا على ما قُسم…

وأمام محاولات رفضه الخجول قالت زوجتي:

ـ وهل هناك من يخجل من أبنائه؟!!!

ودون أي كلام تقدم وقسم الرغيف من طرفه، محاولاً منع بضع دمعات كانت تتفلت للإنسياب على وجهه.

قلت مغيراً الموضوع:

ـ أنا آسف، لم أعرفك للوهلة الأولي، تهيأ لي أنك قد تغيرت .

فقال بطريقة حاسمة:

ـ بالتأكيد، كلنا نتغير، يفعل الزمن فعله فينا بصمت وهدوء، وننخدع نحن بشبابنا أو بأموالنا أو بقوتنا، ولا ندري كيف يتقدم العمر بنا ولا كيف تدخل الشيخوخة أجسادنا، وللشيخوخة مظاهرها ورائحتها، فما أن تضع قدمها في حياتنا حتى تأخذ أيامنا تركض وتتسارع نحو نهاياتها، لنجد الموت مختبئاً لنا في أي زاوية ومكان، هكذا هو الأمر ببساطة يا صديقي…

وضحك أيضاً بعد هذه الكلمات بصخبه نفسه، متجاوزاً الحالة التي تركتها كلمات زوجتي على ملامح وجهه.

أنهى طعامه قبلنا ، كعادته في السجن، كان يغادر جلسة الطعام قبل الجميع، وكثيراً ما كنت أشعر أنه يريد توفير الطعام ليشبع الآخرين قدر الإمكان، ولما حاولت الإحتجاج قال:

ـ إنك تعرفني جيداً، هكذا كنت وما زلت.

ساعدت زوجتي في رفع الصحون وعدت لأشرب الشاي معه، وقلت:

ـ تبيت الليلة عندنا، وتغادر في الغد…

فقال:

ـ بارك الله فيك، لكني لا أستطيع.

قلت:                                                                                                                                  ـ كيف لا تستطيع؟

وكدت أكمل “فأنت بعد وفاة أمك أصبحت وحيداً”، و “وأصبحت مقطوعاً من شجرة”، ولشدة غبائي لم أفكر لحظة بأن هذا الرجل ربما تزوج وأنجب أيضاً في كل تلك السنوات التي إنقضت ولم أره بها.

قال :                                                                                                                                  ـ صدقني يا صديقي، فأنا فعلاً لا أستطيع…

فقلت مصراً على بقائه:

ـ هل تزوجت في لاحق السنين؟

فضحك بصخب وقال:

ـ أبعد كل هذا العمر؟!!! لا يا صديقي لا.

واقترب من أذني وقال:

ـ أتذكر صديقنا صلاح؟

وأمام سكوتي الأبله قال موضحاً:

ـ الذي أرجعوه من الإداري الى التحقيق؟

وبقيت ساكتاً غير مجيب فقال:

ـ الذي كان مصاباً في ساقه يا رجل…

وعندها هتفت متذكراً:

ـ آه … صلاح، ماهي أخباره؟ ماذا به؟

فقال ودون أن يضحك هذه المرة:

ـ بعد أن أخرجوا الرصاصة من ساقه، ابتدأت الساق تضعف وتتقلص وكأنها تسير نحو الإضمحلال، يبدو أن العصب تمزق وبعضه قد جف، ولم يعد بالإمكان فعل شيء…                                                                          فقلت من باب الشفقة والألم:                                                                                                   ـ مسكين ياصلاح…                                                                                                                   قال:                                                                                                                                 ـ لا أستطيع تركه لوحده، فهو في استضافتي، ونعيش سوياً من “حاكورة” المنزل…

ورأيت التبدلات التي تعصف بوجهه، وأكمل وبركان قلبه يكاد يتفجر، وقال:

ـ لا أريد التعليق على ترك فصائلنا لمثل هذا الشاب هكذا دون علاج، لكن أن تتركه دون مساعدة مالية يستطيع أن يعيل نفسه برغيف خبز؟ إنها والله لا تُفهم ولا تُصدق… والأكثر إيلاماً أنه يمكن أن يُعتقل من بيته وتكون نهايته الأكيدة…

سكت قليلاً وقال من جديد:

ـ وسمعت أن “مثله مثايل”، والموضوع ليس متعلقاً بسلطة أوسلو وحدها، فهؤلاء لا خير فيهم ولا أمل منهم، بل بفصائل تاريخها ظل تاريخاً مشرفاً، ما الذي يحصل يا صديقي؟ أإلى هذه الدرجة وصلت بنا اللامبالاة ؟ألهذا الحد فقدنا إنسانيتنا؟ أم أن أمراض “أوسلو” توغلت فينا وأخضعتنا لذاتية قاتلة مفرطة؟!!!

فقلت في محاولة للدفاع فاشلة، ولا أعرف السبب وراء ذلك، فأنا لم أقدم مثله للقضية الوطنية، ولست بأحرص منه عليها:

ـ ربما نسوا أمره!!

فقال ساخراً دون أن يضحك ضحكته الساخرة، صدق الشاعر حينما قال:

“إن كنت تدري فتلك مصيبة                            وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم”

وأكمل بجدية صادقة لم أرها عند أحد من قبل:

ـ أقصد كيف يمكنهم نسيان ذلك، إن من نسي جرحك وألمك اليوم سينسى دمك لا محالة غداً، فمثل هذا النسيان ليس من شيم الثوار ، ومن ينسى دماء ثوّاره كيف يمكن إإتمانه على القضية ياصديقي.

وقف على رجليه وأكمل دون أن يطلق ضحكته الصاخبة وقال:

ـ لم يبق على موعد الباص المتوجه لقريتنا كثيراً، وأعتقد أنه الباص الأخير، إذهب وأحضر إبنتي لأودعها، فربما كان الوداع الأخير، فلا أحد يستطيع أن يعلم متى ترميبه الشيخوخة في أحضان الموت.

محمد النجار

أم عمر تريد نصيحة الرئيس…

كانت تتردد بشكل يومي تلك المرأة الثمانينية على مقر المقاطعة حيث أعمل حارساً، تمر بخطوات متثاقلة حاملة كل سنوات عمرها الثقيلة فوق كتفيها، مستعينة بحديد السلالم عندما تصعد الدرجات، وتقف لتلتقط أنفاسها بين درجة وأخرى، تأتي مع شمس الصباح وتغادر مع النهار عند مغادرته، تجلس على مقعد خشبي بانتظار ان يسمحوا لها بمقابلة الرئيس، لكنهم كانوا يمنعونها من ذلك، بل لا يعيرونها انتباه ولا يعطون مطلبها اهتمام، فالرئيس ليس لديه وقتاً لأي كان من أمثالها، ولا “لكل منْ  هب ودب” كما قال أحدهم، لو كانت صحافية من البيت العبري لفردوا لها الأرض رملاً واستقبلها الرئيس خارج مكتبه وأجلسها بنفسه على مقعدها، فالرئيس يكرس كل وقته الآن في خدمة القضية الوطنية وليس لديه وقتاً ليضيعه مع مثل هذه المرأة الهرمة، فجل وقت الرئيس يبذله مع “أبطال التنسيق الأمني”، كي لا يفلت من بين أيديهم “لا سمح الله ولا قدّر” لا من يُحرِّض وينشر”الكراهية” مع الجيران الجدد، ولا خلية”تخريبية”، ولا قطعة سلاح “عبثية”، من جهة، ومع الصحافة بشكل عام والعبري منها على وجه التحديد،  كونه وعد نفسه بأنه سَيُحْدِث التغيير في المجتمع “الإسرائيلي” كي يضغط على حكومته من أجل السلام، غير عابئ بكل استطلاعات الرأي التي تؤكد نقيض ذلك!!.

وأم عمر التي لا تعرف هذا الأمر، ظلت تتردد ومنذ ما يزيد على أسبوع وما تزال للقاء السيد الرئيس. وكانت حاشية الرئيس ووزرائه في بداية الأمر لا تعيرها انتباه يُذكر، لكن أم عمر التي كانت تجلس صامتة في بداية الأمر، أخذت مع طول قعدتها ومرور الوقت الثقيل تزداد سؤالا عن موعد قدوم الرئيس، وبعد أيام أخذت تقول شيئا من مكنونات صدرها، الأمر الذي جعل بعض “أبطال التنسيق الأمني” يستشعرون “الخطر الكبير” الذي تحويه هذه المرأة العجوز في صدرها وكلامها، مما “اضطرهم لأخذها الى أحد المكاتب للتحقيق معها فربما تكون مدسوسة لتعكر صفو الرئيس أو لتجلب له الغضب و لأيامه التعاسة.

قال لها المحقق العقيد أبو هاني، أحد “أبطال التنسيق الأمني”، والذي كان بعض أصدقائه يتهكمون عليه مازحين قائلين، “أن عليه أن يأخذ معاشه من حكومة “إسرائيل” مباشرة وليس من السلطة، لعظمة ما يقدمه لها من خدمات”، والذي كان مثاله الأعلى المحقق “شلومو”، الذي على يديه تمت أعلى نسبة من الإعترافات في العامين الأخيرين، بهدوء وبخبث كعادته:

ـ أهلاً وسهلاً ياأمي، لماذا تريدين مقابلة الرئيس؟

فقالت الحاجة أم عمر:

ـ لا أخفيك يابني أنني في الفترة الأخيرة أسمع الكثير من الرئيس أو على لسانه، وأنني أكاد لا أصدق ما أسمع، فقررت أن أقابله كي أسأله وأقدم له نصيحة أيضاً….

فقال العقيد أبو هاني :

ـ لنبدأ من” ماذا سمعت منه أو على لسانه وبماذا تريدين سؤاله” ومن الذي أسمعك أو حثك وجعلك تقررين مقابلته؟

لم يعجب الحاجة أم عمر سؤال المقدم أبو هاني، لذلك تجاهلت مالا يعجبها في السؤال، وأجابت بنفس الهدوء، لكن بكلمات متعبة لاهثة:

ـ سمعت الكثير يابني، الكثير، لدرجة أنني أحياناً كنت أفكر وأقول أنه ليس من المعقول أن الرئيس “يبول من فمه”، وكنت أُكَذِّب أذني، لكن “الشمس لا يمكن إخفاؤها بغربال”.

ابتلع العقيد أبو هاني ريقه، لكنه فضل أن يظل على هدوئه ليعرف ما تريد هذه المرأة بالضبط، ومَنْ الذي وراءها، وسأل مجدداً:

ـ كيف ياأمي؟ كيف؟

فقالت العجوز مستغربة:

ـ وتسألني كيف؟ ألم تسمعه يستجدي الصحفية قائلاً أنه يريد لقاء زعيمهم في أي مكان وزمان، ويقول”جربوني أسبوعاً وإن لم أنجح أعيدوا الأمر على ما هو عليه،  أإلى هذه الدرجة وصلت المهانة؟ يجربوه في ماذا؟ إن كان يقتل ويعتقل ويعذب أم لا؟ وهل هناك شيء آخر يريدونه منه؟ ألم يدرك الرئيس بعد أن “من ليس لديه خميرة لا يخمر له عجينن”؟ وهو كما ترى لا خميرة ولا عجين، مأثورنا الشعبي يقول يابني” المنايا ولا الدنايا”، وهو رجل هرم مثلي ويعرف ذلك جيدا، وإن كان لا يعرف ليستقيل ويترك الأمر لمن يعرف، ألم يقل ذات يوم أنه لو خرج ضده شخصين اثنين في مظاهرة سيستقيل؟ لماذا لا يستقيل إذن وضده كل هذه “الأمة”؟ لا أحد يريده نتيجة أفعاله تلك سوى المستفيدين من وجوده، أم يعتقد أن “المسحجين” يمثلون شعبنا؟ الإنسان يابني يرتبط من لسانه وليس من “حافره”، ليعش “ديكاً يوما واحداً أفضل من أن يظل فرخة العمر كله”، وهو ماذا تبقى له من الأيام بعد هذا العمر الطويل؟ ليطالب بحقوق شعبه كاملة غير منقوصة إن أراد أن يظل رئيساً، و”أكثر من القرد لن يسخط الله”.

سكتت الحاجة قليلاً ثم أكملت من جديد:

ـ أنا أعرف أنهم لن يعطوه شيئاً، كما أنهم لن يعطوه شيئاً من القليل الذي يطلبه، لكن “لا يضيع حق وراءه مُطالب” يابني، وما عليه كرئيس إلا تثبيت مطالب شعبه وترسيخها، وقصتنا قصة تحلها الأجيال وليس جيلاً واحداً، فليترك الأجيال تقوم بمهامها.

أخذت الدماء تغلي في عروق بطل “التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني، لكن تجربته علمته أن يظل مستمعاً حتى النهاية ليعرف كل شيء عمَّن أمامه، فقال:

ـ لكن هذه المظاهرات يقوم بها فصيل واحد ياحاجة، وليس كل الشعب الفلسطيني…

فقالت الحاجة أم عمر:

ـ “أول الرقص حجلان” يا بني، ثم هل سينتظر الرئيس ليقوم ضده كل الشعب الفلسطيني؟ إنه يعرف أن معظم الشعب لا يؤيد سياسته، فالشعب يعرف أن “عدو جدك ما بودك، ولو عبدته مثل ربك”، وأن عدوا سلب الأرض وانتهك العرض، ويقتل كل يوم ويعتدي ويعذب ويقمع ويسجن لا يمكن التعايش معه، وهذا الفصيل الذي تتحدث عنه لم يقم لا بإنقسام ولا بحرب داخلية ولم ينجر لفتنة، وقدم من الشهداء من القيادة حتى الأعضاء، وظل شريكا بالعمل الوطني منذ عشرات السنين ومن الأوائل، والسجون مليئة بأعضائه، وأنا لدي اثنين من أبنائي في السجون منهم …

أدرك أبوهاني من أين لهذه المرأة تلك الأفكار “الهدامة الحاقدة”، فقال:

ـ لكنهم أحرقوا صوره ياحاجة، أليس من المعيب فعل ذلك؟

فردت الحاجة أم عمر وقد رأت نفسها في معركة مع هذا الذي يجلس أمامها:

ـ ألم يحرق هو قلوبهم وقلوبنا بتصرفاته وأقواله؟!!! وإن كان هؤلاء قد حرقوا صوره فعلى أبناء تنظيمه أن يرموه بعيداً ويزيحونه من القيادة كما أكد ابني الثالث القابع في السجن منذ سنوات، والذي هو من أبناء التنظيم الذي يدعي الرئيس أنه ينتمي اليه، ثم كيف يمنع عنهم مستحقاتهم المالية؟ من هو وبأي حق يفعل ذلك؟ هذه الأموال يابني هي أموال الشعب وليس ملكاً شخصياً لهذا الزعيم أم ذاك، وكما قال أحد أبنائي أن تلك المستحقات ربما تكون اقل من مصروف أحد أبناء الرئيس الأسبوعية، فهل يُعقل ذلك؟ هذا الأمر يعني إما أن “تبصموا”على ما أفعل أو أن تموتوا جوعاً…. وهؤلاء يعرفون أن “الشعير للبعير”، لذلك ظلوا طوال حياتهم رافضين أن يكونوا قطيعاً، رغم أن القليلين منهم ارتضى هذه المهانة، وسكت ليصله “الشعير” في آخر الشهر…

كان “بطل التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني يعرف أن ما تقوله الحاجة صحيحاً، ومهمته الحد من مثل هؤلاء المتطرفون الذين ما زالوا يحرضون على الرئيس وعلى قطار التسوية الذي ما يزال يسير، وها هو يعرف أن أبناء تلك المرأة في السجون ما زالوا يحرضون، وهي معلومة جيدة يمكن البناء عليها، فأكمل مع الحاجة محاولاً كشف المزيد، قال:

ـ يظل الرئيس ياحاجة رئيساً، ونحن لا نعرف كل أمور السياسة، لكنه رغم كل ذلك يحب وطنه مثلك تماماً…

فقالت الحاجة أم عمر وهي تنظر مباشرة في عيني بطل التنسيق الأمني:

ـ من يحب بلده عليه التقدم بالقرابين، شهداء أم جرحى أم أسرى، وأنا لم أرَ الرئيس قدم أحداً من أبنائه أو أحفاده، بل إن الشعب يُقدم وهو يكنز لهم الأموال، وها هو  وبعض أزلامه يبعثون أولادهم وأحفادهم ليشاركوا في مخيمات “اسرائيلية” تطبيعية!!!، وجاءهم الرد من الصهاينة أنفسهم، “أنكم لو قدمتم رؤوس قادة المقاومة على طبق من فضة، ودخل الرئيس حزب السلطة “الإسرائيلي”، فلن يغير هذا الأمر من توجهات الإسرائيليين”، “إن العدو ما بيصير حبيب ولا فرخ الحية بنحط في العب” يابني، الأمر مبتوت ومعروف، على الرئيس أن يترك الناس لتتصدى لعنصريتهم، أن يفضح ممارساتهم، أن يسلط الضوء على ممارسات جيشهم وقادتهم، من تقتيل وسجن وتعذيب بحق أطفالنا ونسائنا وشبابنا، ليعرف العالم كله أن “هذا لجيش الذي لا يقهر “هو في حقيقة الأمر الجيش الأكثر جبناً، والجيش الذي ليس لديه ذرة أخلاق، هذا إذا كان الرئيس لا يريد أن يظل حاملاً معولهم ويهدم في مقاومتنا وحقوقنا وتاريخنا…

سكتت الحاجة أم عمر قليلاً، وقالت موجهة كلامها من جديد الى أحد أهم أبطال التنسيق الأمني العقيد أبو هاني، دون أن تعرف ذلك:

ـ أتعرف ما يدهشني؟ أن الرئيس لا يعرف أن هؤلاء الصهاينة كلما ازدادوا تطرفاً وعنصرية وفاشية، كلما كان يوم نهايتهم يقترب، إنهم يعتقدون أنهم بذلك يدافعون عن نهايتهم القادمة لا محالة…

سكتت من جديد دون مقاطعة وأكملت:

ـ إذا كان الرئيس فعلاً حريصاً على الشعب والقضية لماذا لم نرَ ولا مرة واحدةً تحقيقاً مع عميل أم حبس مرتبط أو محاسبة فاسد؟ بدلا من اعتقال المقاومين ومطاردتهم وتعذيبهم كما لدى الإحتلال؟!!! أنظر يابني، “كلمة بت ولا عشرة لت”، الأمر أصبح في غاية الوضوح، والذي “لا يفهم بالوما الحكي معه خسارة”، التركيبة كلها فاسدة ومفسدة ومخترقة كما لم تكن يوماً، وهذا هو المطلوب من الغرب كله وعلى رأسه الدول …. ما اسمها؟ التي تعطي الرئيس “المصاري”، لقد قالوا لي أبنائي ذلك ونسيت…

فقال العقيد أبو هاني موضحاً:

ـ المانحة، الدول المانحة.

ـ المانحة نعم، يسلم لسانك، هذه الدول التي لا تقدم “الشعير للقطيع” مجاناً، المطلوب فاسدين ومفسدَين ومفسِدين وعملاء ومشاريع عملاء فقط، فهؤلاء فقط هم المستعدون للتنازل عن الأرض والشعب والوطن والتاريخ، هؤلاء فقط من يستطيعون التنازل عن مستقبل هذا الشعب مقابل حفنة من المال، لهذا لا مكان للمقاومين والشرفاء والأحرار في قيادة سلطة أوسلو…

إزداد ضغط “بطل التنسيق الأمني” العقيد أبو هاني، ولم يعد قادراً على تحمل المزيد، والحاجة أم عمر التي أخذت المزيد من الهواء، ما يكفي لقول بقية كلماتها، قالت:

ـ وعلى كل حال، ورغم ذلك كله فقد جئت لأقل كل ذلك للرئيس مباشرة، وأقدم له نصيحة عله يُنقذ شعبه ونفسه من كل ماجرى، رغم أن “الضرب في الميت حرام”.

ـ وما هي هذه النصيحة؟

سأل العقيد ابو هاني ولم يعد قادراً على مجاملة هذه “العجوز” حتى لو كان من أجل معلومات توقع أن يسمعها، حين أكملت الحاجة أم عمر قائلة:

ـ جئت لأطالبه بأن يكون رجلاً مرة واحدة، وأذكره أن الذئب عندما قبل التدجين أصبح كلباً…

كنت في نوبة الحراسة آنئذٍ عندما سمعت صريخ “بطل التنسيق الأمني” أبو هاني من وسط مكتبه، منادياً عليَّ قائلاً:

ـ خذوا هذه “العجوز الشمطاء” خارجاً، ولا أريد أن أراها مرة ثانية بعد الآن…”خلِّيها تحل عن قفانا”

وأخذتها وأنزلتها الدرجات معتذراً عن كلماته بعيني، لكنها ظلت مصرة على مقابلة الرئيس، تأتي يومياً الى المقاطعة رغم منعها من الدخول، فعملت من صُخيرة مقعداً لها مقابلي بجانب البوابة، تجلس عليها منذ شروق الشمس حتى مغيبها، عدا بضعة أيام في الشهر حيث تذهب لزيارة أبنائها الثلاثة في سجون الإحتلال المختلفة، وتأخذ تحدثني عن أمور شتى خاصة بما قالته “لبطل التنسيق الأمني” العقيد ابو هاني، قبل أن تعرف مني أنه أحد “أبطال التنسيق الأمني”، تحدثني منذ لحظة دخولها واستدراجها بالحديث، حتى أقسم لها بأن يعمل على أن يتحول أبناؤها المحرضين، بعد انقضاء فترة محكوميتهم للسجن الإداري، طالباً ذلك رسمياً من الصهاينة.

كنت أنظر لهذه المرأة الثمانينية وأزداد استغراباً لشدة هذا الأمل والإصرار والعنفوان التي يتمتع به مثل هؤلاء البشر.

محمد النجار

الأسود أسود والكلاب كلاب

جاءتني على غير عادتها قبل أن أفتح عيني، كنت قد أطلت السهر مع مجموعة من الأصدقاء في الليلة الماضية، ما جعلني أظل نائماً حتى هذه الساعة التي تجاوزت الثامنة بقليل، دخلت غرفتي الصغيرة حاملة فنجانين من القهوة، وجلست على كرسي مكتبي. خلتها أمي عندما استيقظت على وقع أقدامها، فوقع أقدامهن متشابه، وأكاد أجزم أنه متطابق في الكثير من الحالات إن لم يكن في معظمها، قالت:

ـ يسعد صباحو… “من سرى باع واشترى” يابني، وأنت مازلت نائماً والشمس غمرت المدينة كلها، هيا لتشاركني شرب القهوة قبل أن تبرد…

فركت عيني بقبضة يميني على عادتي، أسندت ظهري على ظهر تختي، ورددت الصباح وزدته ترحيباً، وعلت شفتاي ابتسامة عندما رأيتها. وبدأنا نشرب القهوة، قبل أن تأتي أمي التي كانت قد بدأت منذ ساعة بشطف البيت على عادتها في كل يوم جمعة، خاصة إن غابت زوجتي، عادة لم تفارقها منذكانت في سن المراهقة.

قدّرت أنها جاءت لتقول لي شيئاً ما، أو لتسمعني رسالة ما، أو ربما تريد أن تفرغ غضباً جماً في صدرها لسبب ما، ولم يخب ظني، قالت:

ـ لا أراك تسمع الموسيقى، كل الشباب تفعل ذلك!!

أوقفتني كلماتها عن التفكير وتساءلت عمّا تريد قوله، فأنا لم أستيقظ من النوم بعد حين اقتحمت عليّ سكون نومي وطرقت بكلماتها باب نعاسي، كما أنني لم أعرفها من محبي الموسيقى لتسألني عنها، لكنني قلت مجاملاً:

أي شباب ياخالتي أم علي؟ إنني أقف على أعتاب الخمسين…

فقالت سريعاً وكأنها كانت تعرف إجابتي:

ـ يعطيك طيلة العمر يابني، فالشباب شباب القلب والعقل، وأنا كما تعلم تجاوزت الثمانين قليلاً وما زلت أسمع الأهازيج والعتابا والميجنا…

فقلت متجاوزاً زلة لساني التي طالما انتقدتني على مثلها زوجتي، التي غادرتني مع أبنائنا الى مدينة نابلس لزيارة أهلها منذ يوم أمس، مذكراً هذه المرأة العجوز بسنها:

ـ صدقت والله ياخاله، قصدت أنني أستمع للموسيقى لكن ليس كما مضى…

فقالت وما زالت تقود دفة الحوار:

ـ كلنا كذلك يابني ولست وحدك، حتى أذواقنا تتغير مع مرور الزمن وجريان العمر…

سكتت هنيهة، وقبل أن أحاول المجاملة سألت من جديد:

ـ أي المطربين تحب الإستماع إليه؟

وأجبت أنا حتى دون أن افكر بمغزى سؤالها:

ـ فيروز ياخالتي، وأنت تعرفين ذلك…

لم تعقب على الجزء الثاني من سؤالي، وقالت دون أن تنظر نحوي:

ـ إنك لست مثل الرئيس الذي يحب الإستماع الى “موشي إلياهو”… العظيم.

ومطت كلمة العظيم تماماً كما مطّها الرئيس في لقائه المتلفز، وأخذت ترتشف من قهوتها بصمت عجيب، ورأيت عينيها وكأنها تغادر الغرفة وتصرخ عالياً مستنجدة بإبنها علي، الذي استشهد قبل عقود ثلاثة وزنده قابضاً على حجر، عندما اخترقت رصاصة قناص قلبه عن بعد مئات الأمتار، وكأنها تستنجد به من مرحلة الإنحطاط هذه التي لفت السلطة وغطتها بردائها…. وسكت أنا، لم ارد أن أقول شيئاً يثير فيها الغضب والذكريات المؤلمة، وأخذت أرتشف شيئاً من فنجان قهوتي التي أحضرته بيدها، لكنها سألت من جديد دون انتظار اجابة:

ـ أتعتقد أنهم فقدوا الحياء أم الكرامة أم عزة النفس أم الشهامة أم الرجولة أم فقدوا كل شيء؟ أم كانوا يفتعلون أنهم يمتلكونها فقط؟

عرفت الآن لماذا جاءت ولأي سبب، لكنني كعادتي بقيت مصغياً لكلماتها التي تبدأ عادة كزخات من قطرات مطر قليلة مستكشفة، قبل أن تطلق العنان لرشات الأمطار الكثيفة المتتابعة…  وأكملت لتقول ما تفكر به أو ما جمعته من معلومات وأخبار في الأيام الأخيرة، ترميها أمامي قبل أن تعود خائبة الى بيتها:

ـ أصحيح ما يقولون من أن السلطة وآل سعود سهلوا هجرة اليهود اليمنيين الذين جاؤوا قبل أيام؟

فقلت وقد تهيأت للإجابة على أسئلتها:

ـ هذا ما يقوله البعض، لكن الله وحده يعلم ما في الصدور…

فقالت وكأنها تريد تفنيد أقوالي:

ـ لا ليس الله وحده يابني، فلا دخان دون نار، كما أن “الصهاينة” شكروهم على ذلك، هل كانوا ليشكرونهم لو لم يساعدونهم في ذلك؟!!!

وسكتنا من جديد، قبل أن تكمل متداركة ناثرة بوجهي كلمات أخرى، لتؤكد المعلومات التي بحوزتها:

ـ أم لماذا تعتقد أن بعض “الحاخامات” الذين يُحرّضون ليل نهار على قتل أبنائنا، يأتون لعنده ويباركونه داعين الله أن يبقيه في خدمة “بني اسرائيل”!!!

وأمام الصمت الذي كان يخلفه سؤالها من جانبي كانت تظل تزداد اصراراً على ايصال ما لديها، فقالت من جديد:

ـ قالوا أن الرئيس بعث بوفد لتعزية رئيس الإدارة المدنية السابق، أليس هو من أفلت جنوده لقتل المنتفضين؟ ألا تعتقد أنه هو من أعطى الأمر بقتل ابني علي؟ أم ربما هو شخصياً من أطلق النار عليه في ذلك الوقت؟

كان سؤالها ثقيلاً بثقل ما تفعله تلك القيادات التي لم تعد تقيم وزناً للشهداء والجرحى والأسرى، ولا حتى لأي من أفراد الشعب، أو مثل سكيناً كالذي تطعننا به ذات القيادة المخصية في كل يوم وكل لحظة، غير مهتمة بمن تطعن أو تصيب أو تقتل، وكل ما يهمها تقديم”صكوك” الطاعة والغفران والحماية للصهاينة، وأبقاني ثقل السؤال عاجزا عن الإجابة عليه، وأكملت هي وكأنه لا يهمها ما سأقوله لوقلت شيئاً:

ـ ألم تلاحظ أن الصهاينة يكافئونهم أمام سيل التنازلات هذه بمزيد من مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والتهديد بمصادرة منطقة c. يعني كلما ازدادوا جماعتنا خضوعاً كلما ازدادوا هم عنصرية وعنجهية وتطرف… لكن “العلة” مش فيهم فقط يابني، قيادتنا نحن التي تستحق الضرب “بالصرامي”…

وشددت على كلمتها الأخيرة وكأنها تضربهم الآن في هذه اللحظة بالذات بها، وقلت أنا دون قصد هذه المرة:

ـ أأكثرمن ذلك؟

قلت وفي ذهني اللطمات التي يصفعهم بها الصهاينة كل يوم، فقالت:

ـ منّا نحن هذه المرة وليس منهم، “ضرب صرامي” الصهاينة لهم يعتبرونه مفخرة وعزة، لنرى ماذا سيعتبرون ضرب “صرامي” الشعب لهم!!! ربما حركت فيهم شيئاً من الرجولة المفقودة!!! لكن من أين ستأتي الرجولة لأناس مخصيين؟!!!

عادت تجمعنا حالة الصمت من جديد، ودخلت أمي الغرفة وجلست على كرسي مقابل للحاجة أم علي مرحبة باسمة، وردت الحاجة التحيةبمثلها وعادت لتقول:

ـ رأيته بالأمس يتحدث على التلفاز، كان يتحدث العربية وفجأة أخذ”يرطن” بلغة أجنبية، وقال أنه حزن عندما طعنوا المستوطنة، لكنه لم يقل أنه يحزن على قتل أولادنا، لم يقل أنه يحزن على الإعدامات الميدانية بحق فتياتنا وشبابنا، قال أن كل ما يريده هو محاكمات عادلة!!! منذ متى كانت لديهم محاكمات عادلة لأولادنا؟ لكنه لا هو ولا أبناءه ذاقوا مرارة السجن ولا جربوا المحاكم الصورية ليعرفوا ماهية محاكمهم!!!  وكيف يمكن أن تكون محاكمة طفل لم يتجاوز الثانية عشر محاكمة عادلة، أو قتل طفل بدم بارد أو أم في سيارة متوقفة على حاجز في أرض محتلة دون حتى أن تنزل منها، أو عجوز تحت زيتونة زرعها وسقاها وكبرها وقنّبها وفتت حبات التراب تحت جذورها، بذريعة أنهم يشكلون خطرا عليهم، من لم يجرب شيئاً من هذا لا يحق له إعطاء الفتاوى والنصائح والأحكام، ومن لم يقل يوماً اتبعوني ولم يتقدم الصفوف يوماً لا يحق له أن يقول لهم تقدموا، فما بالك بمن لم يقل يوماً اتبعوني ويكسر مع الأعداء أرجل المتقدمين!!!… نعم يابني هؤلاء لا يهمهم سياسة القتل والتقتيل والسجن لأبنائنا، هؤلاء منذ اليوم الذي عبدوا فيه المال وكفروا فيه بالثورة، منذ ذلك الحين لم يعد يؤتمن لهم جانب.

وأمي التي كادت أن تكسر التلفاز عندما رأت الرئيس يتذلل ويتزلف للصحفية “الإسرائيلية”،  في ذات المقابلة التي تتحدث عنها الحاجة أم علي، علقت كعادتها عند أي حوار سياسي يتم أمامها:

ـ أسمعته ياحاجة؟ يقول أنهم يفتشون طلاب المدارس باحثين عن سكاكين!! إنه يكذب بالطبع فأطفالنا لم يحملوا يوماً سكيناً عندما يذهبون لمدارسهم، لكنه تزلف وانحناء وخضوع، يريدهم أن يعطوه “جائزة” لأنه يحفظ أمنهم، ألم تسمعينه يقول أنه طلب مرات لقاء زعيمهم ومستعد للقائه!!! يريد لقاءه بأي ثمن بعد أن كان يقول أنه لن يلتقيه دون أن يوقف الإستيطان!!! تماماً كما كان يقول بأنه أوقف التنسيق الأمني ليقول لاحقاً أنه “مقدس”.

وأم علي التي أنهت فنجان قهوتها، قالت معقبة:

ـ ويفتخر أنهم اجتمعوا سراً عشرات المرات للتنسيق الأمني وأنه أحبط عمليات وصادر أسلحة واعتقل مناضلين!!! الله يرحمك ياعلي يابني، لقد أكرمك الله بالشهادة قبل أن ترى هؤلاء الأوباش الذين باعوا دمك ودم رفاقك على مدى مائة عام، وربما لو بقيت لليوم لمت غيظاً وقهراً ياولدي….

واستدارت بعينيها الى أمي وقالت: الله لا يوفقهم، أذلونا هؤلاء السفلة، الل لا يوفقهم…

وساد الصمت الثقيل المتوتر الغاضب، وملأ جو الغرفة الصباحي المشمس حزناً، وكانت رشفات أمي لقهوتها تمزقه للحظات قبل أن يتجمع متكاثفاً ويعود، الى أن قطعته الحاجة أم علي قائلة من جديد:

ـ قولي لي يا أم جمال، أأعطوك هذه المرة تصريح زيارة لأبنك عمر أم رفضوك من جديد؟ ربما زرنا أولادنا في السجن سوياً هذه المرة…

وقمت متسللاً خارجاً من غرفتي الى الحمام، مستعيداً مع نفسي كلمات الشاعر الذي قال، واصفاً مثل هذا الزمان وهؤلاء الناس:

لا تأسفن على غدر الزمـــــــــــــــــــان لطالمـــــــــــا                       رقصت على جثث الأســـــــود كلاب       لا تحسبن برقصهـــــــــــــا تعلو على أسيادهــــــــــــا                       تبقى الأسود أسودا والكلاب كــــلاب

محمد النجار

ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا

من كان يعتقد أن السلطة ومؤسساتها يمكن أن تشكل حماية لشعب فلسطين كشعب أو كأشخاص، فقد خابت آماله وربما يكون قد فقد عقله، فهؤلاء وصلوا من الخساسة والمهانة والنذالة وفقدان الكرامة وعزة النفس والعهر السياسي والتبعية للإحتلال وأمريكا والصهاينة العرب الى درجة اللاعودة، ورغم أنني أو بالأصح لأنني فاقد الأمل منهم وبهم منذ سنوات، ورغم أنني مدرك أن “الضرب في الميت حرام”، إلا أنني لم أستطع السكوت امام الجريمة النكراء بإعدام الشهيد عمر النايف الذي قتلوه بتواطؤهم أو بسكينهم مع الصهاينة والسلطة البلغارية المتصهينة، ولهم في ذلك “فخر” السبق، حيث نفذوا بأيديهم وبموافقة الموساد قتل المناضل الكبير ناجي العلي، وسلموا بأيديهم المناضل الكبير ناصر السعيد لآل سعود ليقتلوه رمياً من طائرة مروحية حياً في صحراء الربع الخالي، تماماً كما يسلمون الآن الكثيرين من المناضلين للإحتلال الصهيوني دون أن يرفّ لهم جفن. لذلك سأتطرق للموضوع ـ ربما ـ بطريقة مختلفة عما أثُير حتى الآن:

  • وعليه، من يظن أو يعنقد أن حالة السفارة الفلسطينية في بلغاريا، هي حالة شاذة وسط هذا البحر الهائج من السفارات، فهو قطعاً مخطئ بإمتياز، لأنه من الصحيح القول والتأكيد أن وضع وتشكيلة وتركيبة السفارة الفلسطينية في بلغاريا، وآلية عملها وطبيعته تمثل الشكل العام لسفارات فلسطين، فعادة ما يكون السفير والقنصل والناطق السياسي والثقافي وأمن السفارة والعاملين بمجملهم، ليس لهم أي علاقة بالثورة ولا بالثوار، وإن كانوا مناضلين سابقاً فهم على الأغلب لم يعودوا كذلك، وسرعان ما يتم تدجينهم عبر تسعير الفئوية وتغليب المصالح الذاتية الخاصة على حساب أي شيء آخر، بما في ذلك على حساب الإنسان نفسه، وعلى حساب القضية الوطنية برمتها.

وعادة ما يكون العاملين في السفارة “من الكبير للمقمط في السرير”، إما تجارا يعملون مع أمن البلدان التي تحويهم، أو عملاء مباشرين لمخابرات هذا البلد، أو فاسدين ومفسدين ويعملون مع الصهاينة أنفسهم تحت شعار تمثيل سياسة المنظمة وعدم الخروج عليها، أو تجار على شعبهم نفسه، حيث تكلف أي ورقة يحتاجها الفلسطيني من سفارته مبلغاً لا يُستهان به. وإن صدف وكان السفير مناضلاً كما في بعض الحالات، فتبدأ كتابة التقارير به وتشويه صورته من العاملين معه و”المتبسمين” الدائمين له، للخارجية الفلسطينية حتى يتم تغييره و”يخلو الميدان لحميدان” ويعود الجميع لممارسة “أشغالهم وأعمالهم وتجارتهم”، التي لا يربطها رابط بالقضية الوطنية.

وعليه فالسفير “المذبوح” الذي لاحق الشهيد مع رجالات أمنه في بلغاريا، ورفضوا حمايته وطالبوه بمغادرة السفارة، ورفضوا  وضع حماية له أو حتى تركيب كاميرات في السفارة وحواليها، عليه وعلى زمرته كلها دفع الثمن نتيجة ما فعلت يداه وأيديهم، “حتى لو كان بحسن نية وهذا ما لا أعتقده”، ويجب أن يذوقوا من نفس الكأس الذي أذاقوه للشهيد، وبغض النظر عن أي إعتبار آخر، وخاصة لأصحاب شعار “من أجل الوحدة الوطنية”، فالوحدة تكون وتتعمق عندما يريدها ويعمل لأجلها كل الأطراف ويستفيد منها الشعب كله، وليس طرفاً واحداً كما كان حتى الآن، كما أن الوحدة لا تكون بأي ثمن، كي لا يتحول الشعار للتغطية على العجز الذي ينخر صدور البعض ويتحول لتغطية الجبن والهوان، هذا إذا لم يعتبر هؤلاء من عقود مما سُمي زوراً وبهتاناً بالوحدة الوطنية، التي هيمن فيها فصيل واحد على الثورة ومقدراتها وسلاحها وعلاقاتها وماليتها وقرارها الذي سُمي “مستقلاً”، هذا الإستقلال الوهمي الكاذب وبهذا النوع من القيادات هي التي أوصلتنا إلى “أوسلو”، كون المتغيرات الطبقية التي جرت عليها لا تؤهلها للوصول أبعد من ذلك أصلاً، فما بالكم بقيادة على يمين تلك القيادة وكل طموحها واسترتيجيتها مبنية على رضى المحتل عنها، واستكمال طريق الإستسلام عبر المفاوضات العبثية،  مُضيعة عشرات أخرى من السنين ودون نتيجة طيعاً.

  • وعليه فإن “مشروع المصالحة” إن لم يكن على أساس برنامج عمل مقاوم ، “ينفض” منظمة التحرير ويغربلها ويرمي من يستحقون الرمي على مزابل الشعب، وغربلة مؤسسات المنظمة مؤسسة مؤسسة وفرداً فرداً دون استثناءات، ودون تنازلات أو مجاملات، وإلا فإن كل ما يسقط من شهداء لهذا الشعب العظيم وكل جرحاه وأسراه لن يكونوا إلا لخدمة هذه القيادات وأمثالها ومشروعها الإستسلامي في الداخل أم في الخارج.

  • الأمر الذي يفرض على اليسار القلسطيني، وعلى الفصيل الذي ينتمي اليه الشهيد على وجه الدقة، تعاطياً مختلفاً على كافة الأصعدة، ولأسباب عدة أهمها أنه تاج اليسار الفلسطيني والذي له باع طويل في العمل الوطني المبدئي والتنظيمي والسياسي والعسكري منذ عشرات السنين، وعليه هو مسؤولية تشكيل “جبهة إنقاذ وطني” قبل أن تأخذ السلطة ومن لف لفها القضية والشعب الى الهاوية، التي نحن على أبوابها أو حافتها، الأمر الذي سيلقى معارضة من داخل صف اليسار نفسه من “حملة الحقائب” للسلطة، والمستفيدين منها كقادة في المنظمة أو موظفين أو كعلاقات، هؤلاء الذين يحيون حياة البذخ وأبناؤهم لا يدرسون إلا في المدارس غير الناطقة للعربية ومن ثم في جامعات العم سام وحارتها أو دول أوروبا الغربية وعلى حساب الثورة طبعاً، أما كيف حصلوا على هذه الأموال أو المنح وماذا دفعوا ويدفعون بالمقابل، فلا جواب، هؤلاء الذين يحاولون تغيير الحزب الى منظمة شئون اجتماعية أو الى مؤسسة أو منظمة غير حكومية ممولة من موظفيهم، هؤلاء لو دخل بيتهم انسان عادي سيكفر بالثورة عندما يرى ما لديهم وما يأكلون وما يلبسون، احسبوا فقط ثمن ملابسهم في يوم واحد أو ما يشترون من بضاعة اسرائيلية وأمريكية”وهم يدَّعون المقاطعة”، ستجدونها أضعاف معاشهم الشهري… فلا تنتظروا الّا معارضة شرسة من هؤلاء “اليساريون البرره”، باسم الثورة والشعب والحفاظ على الوحدة الوطنية.

  •  طبعاً لا يفوتنا التنبيه لما يحصل في مؤسسات م ت ف وسفاراتها، أنه ليس إلا شكل من أشكال الفساد الذي ينهش جسد المنظمة ككل، والذي بدونه سيخسر المنتفعين مكانتهم الإقتصادية والمعنوية وقدرتهم على الأمر والنهي داخل المنظمة، وعلى رأسهم الرئيس عباس، فليس صدفة أن يعترض هؤلاء الطفيليين على دعم ايران لعائلات الشهداء ما لم تمر من خلالهم، وإن مرت من خلالهم لن تصل لأسر الشهداء وستتوقف في جيوبهم، فهم اعتادوا على العيش على دم الشهداء ولن “يَزْوَروا” ببضعة آلاف من الدولارات إضافية عن كل شهيد إضافي. والشعار نغسه دائماً وأبداً” القرار الفلسطيني المستقل”، لكن أي قرار وأي مستقل؟ فالسؤال ممنوع.

  • الرئيس عباس يقول لأحد من حاول التوسط للنائب نجاة أبو بكر ابنة حركة فتح، التي كانت خطيئتها الكشف عن فساد مالي والمطالبة بالمحاسبة، يقول له الرئيس:”لو ينزل ربك نجاة ستسجن”، فعباس أولا وأخيرا لن يدقق أو يحقق أو يحاسب أي فاسد، فهو نفسه كرأس للفساد لن يجيب أحداً كيف شكل ثروته وثروة أبنائه وأحفاده وعائلته، وقبله الرئيس المرحوم عرفات، رغم الفارق الشاسع بينهما، أجاب عندما قالوا له أن من حواليه مجموعة لصوص وعليه تغييرهم قائلاً:”هؤلاء سرقوا وشبعوا، ولن أغيرهم لآتي بآخرين يسرقون من البدء من جديد”، العقلية ربما لا تكون بهذا التشايه، لكن النتيجة واحدة، هدر اموال الثورة وشهدائها وجرحاها وأسراها دون حسيب أو رقيب، ألم تصل أموال المنظمة كلها الى أيدي طليقة عرفات؟ أكثر من خمسة مليارات دولار وكأنها ملك شخصي له؟!!! وكذلك انظروا لعائلته أيضاً، ومن لا يعرف فتحي عرفات وموسى عرفات فلا يعرف شيئاً، وعليه قراءة التاريخ الفلسطيني “الحديث جدا”.

  • أما ما يخص نظرة الرئيس عباس الى القضية والشعب فحدث ولا حرج، فهو أبو المقدسات كلها، من التنسيق الأمني الى عدم تقديم أوراق لمحاكمة جرائم الصهاينة، مروراً بالقمع والسجن للمناضلين، ومحاولاته لإسقاط حق العودة ، ومحاولاته كذلك لسحب سلاح غزة وتدجينها، وهو كما يقول لن يسمح لأحد أن يجره لمعركة لا يريدها!!! وكأنه يخوض المعارك التي يريدها هو وما أكثرها، فالرجل يسير من معركة الى أخرى!!!، “الله يعطيه العافيه” ويعمق صموده، فهو لا يريد أن يشغله أحد عن معاركه تلك، وأن يترك له “المزاودون أمر تحديد مواعيدها” بنفسه!!!.

  • ظني أن الجميع عليه أن يدرك أن الدخول في نفق “أوسلو” مهما كان الذي يدخل أو من كان، فهو يدخل نفقاً مظلما، جل ما يفعله هو تنفيذ أوامر الصهاينة والأمريكان. وكي نكون صادقين، ألم يودع الرئيس عرفات المناضل أحمد سعدات بعد أن دعاه لإجتماع فصائلي، في سجن رام الله نزولاً عند أوامر الصهاينة؟ ولم يخرجه رغم كل قرارات المحكمة الفلسطينية العليا التي أمرت بذلك مبطلة قرار الإعتقال؟!!! ورغم ذلك لم يستطع الرئيس عرفات مخالفة أوامرهم وإطلاق سراحه، ليسار الى تسليمه للصهاينة بعد ذلك بمؤامرة خسيسة منحطة من قبل أجهزة السلطة التي نسقت الأمر مع الصهاينة والأنجليز المشرفون على السجن في مدينة أريحا عام 2008، على يد أبطال التنسيق الأمني بقيادة الرئيس عباس، والأمر نفسه يتكرر الآن بذات الطريقة في السفارة البلغارية، فما جرى ليس سوى إمتداد التنسيق الأمني الى ساحاتٍ خارجية بعد أن كان محصوراً في الداخل، فعلام الغرابة في الأمر كله.؟.. ببساطة إنه أوسلو، الذي حول فصائل وقوى وشخصيات إلى قوات لحد الفلسطيني.

  • وها هي السلطة الفلسطينية، تؤيد نظام آل سعود المعادي ليس فقط لقضية فلسطين، بل لكل ما هو انساني، بإعتباره “حزب الله” منظمة ارهابية!!!، باعوا الحزب، باعوا حامل لواء القضية الفلسطينية بحفنة دولارات كما باعوا سوريا لقطر مسلمينها قيادة فلسطين للجامعة العربية، وكما باعو ا الموقف من داعش والنصرة في مخيم اليرموك نزولا عند رغبة آل سعود، فهم مستعدون لبيع اي شيء وكل شيء بأي شيء، وحتى حماس التي دربها وسلحها ودعمها حزب الله بالمال والسلاح، لم تتجرأ على قول “كلمة حق عند سلطان جائر”، ولم تعترض على ما يقوله آل سعود، تغطي موقفها بنذالة وصمت مهينَين من أجل المال، تماماً كما فعلت مع سوريا بعد كل الدعم السوري لها واحتضانه لقادتها، ورفضه المطالب الأمريكية لطردهم، فتُدخل السلاح من خلال حثالات الأرض المتأسلمة لمخيم اليرموك وللعاصمة دمشق، مُنشئةً منظمة “أكناف بيت المقدس” بقيادة مساعدي خالد مشعل الأمنيين، متحالفة مع تنظيم القاعدة في بلاد الشام”جبهة النصرة”، وتشرد ربع مليون فلسطيني ضاربة بذلك حق العودة بعرض الحائط، ذلك الحق الذي تتشدق به صبحاً ومساءً وفي كل الأوقات، ومحاولة تمزيق سوريا.

  • وسرعان ما تعمل على عقد صفقة مع “اسرائيل” من خلال طوني بلير بوساطة “العثماني الجديد” السلطان أردوغان التركي، وبدعم من الحارة القطرية…

  • أيها السادة… أيها القادة… أيها اليسار الذي تبقى… إنه أوسلو … إنه مشروع الموت الفلسطيني… إنه مشروع “قبر” القضية الوطنية، ومشروع الكسب المالي للطبقة السياسية الطفيلية الفاسدة المفسدة الحاكمة، بما فيه من فُتات لأشباه اليسار وأشباه المناضلين وأشباه القادة…فكل من لف حواليه أغرقه، ولا سبيل لإنقاذ من ذهب للمستنقع بقدميه، لكن الحذر الحذر من أن يسحبوا معهم ما تبقى من “يسار” ومن مناضلين الى ذلك المستنقع، وكي لا نصل المستنقع، وكي نحمي القضية الوطنية، وكي نقطع الطريق على كل محاولات الشطب للقضية، على اليسار وجبهته الشعبية على وجه الخصوص، البدء في العمل على تشكيل “جبهة إنقاذ وطنية” بعيدة عن “أوسلو” وقياداته الفاسدة، وقطع الطريق على هذه القيادة كي لا تُحوّل قوى هذا الشعب الى سعد حداد ـ لحد فلسطيني، وينبوأ اليسار فيها موقعه القيادي الفاعل، ضمن إطار قيادة جماعية حقيقية، بعيدة عن هذه القيادة التي حددت خياراتها، وصارت استراتيجيتها واضحة، ولم تعد تصلح لقيادة “قطيع من الغنم” فما بالكم بقيادة شعب كشعب فلسطين العظيم؟!!! فمأثورنا الشعبي وأهازيجنا الوطنيه لطالما رددت :

” يما مويل الهوى يما مويلية                                         ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا”…

فهل من مستمع أو مجيب؟!!!

محمد النجار

وأمك بنت

كان قد خرج لتوه من السجن، حيث أمضى آخر عامين من حياته، بعد أن تم إعتقاله من بيته في مدينة رام الله، قال لي باسماً عندما إلتقينا في بيته عندما ذهبت لتهنئته، رغم البيت الممتلئ حتى آخره بالزوّار المهنئين:

ـ لم أستمع لكلامك، كنت أعتقد أنك تبالغ في الأمور عند حديثك عن السلطة، وكنت ربما نكاية بك أذهب للنوم في بيتي في معظم الأيام، وكنت أتذكرك في كل صباح عندما أستيقظ، وتكون كلماتي قد بدأت تتلاعب فوق لساني وتدغدغه، فأقول بنوع من الإستهزاء بك” ها أنا لم أُعتقل، فالسلطة تعرف على ماذا وقَّعت”، وأكاد أهتف مع كلماتي هذه، “أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها”، كون السلطة هي التعبير الأبرز عن حركة فتح، وحركة فتح هي الشريان الرئيس للسلطة بالبشر، وبقيت أعتقد أن جيش الإحتلال لن يجرؤ على إقتحام المدن، وإنْ فعل فحركة فتح وعلى رأسها الرئيس عباس والناطق باسم جهاز الأمن وجهاز المخابرات والجهاز التنظيمي والجهاز السياسي وكبير المفاوضين وأوسطهم وصغيرهم، سيقلبون الطاولة على رأس الدولة العبرية، وستقوم الدولة ولن تقعد جراء إعتقال أحد كادرات حركة فتح…

وسكت “رفعت”، على اعتبار أنني أعرف بقية القصة، فكوني حذرته من المبيت في البيت، اعتبر أن ذلك يجعل من القصة معروفة عندي، لذلك تفاجأ عندما سألته عما حصل في ذلك المساء، وقال:

ـ أعرف لماذا تريد أن تفرد صفحة ذلك اليوم أمامي، أكيد أنه ليس من باب التشفي، فمثلك لا يعرف التشفي، لكنه من باب العتاب القاسي، الذي يجبر المرء على التفكير في كافة الجوانب، ولعلي أصدقك القول عندما أخبرك أنني لم أصدق الأمر في فترته الأولى، وكنت أعتقد أنني في حلم وليس حقيقة، وعندما أكتشفت العكس صرت أقول لنفسي أن في الأمر خلل ما، فأنا ابن فتح التي وقعت “أوسلو”، والتي أخبرتنا أن “أوسلو” هو جزء من اتفاق مرحلي، وأنه تكتيك كما اسقاط الميثاق الوطني وتفريغه من مضمونه، وكما إسقاط حق العودة في مبادرة “عبدربه ـ بيلين”، أو من مقابلات وتصريحات الرئيس نفسه، وكما قصة “الصواريخ العبثية”، وكما إلقاء القبض على المناضلين وزجهم في السجون، وكما التنسيق الأمني، يعني كلها أمور تكتيكية “لنضحك” بها على “لحية” الإحتلال، بنفس القياس، وتماماً كما كنا “نتكتك” في علاقتنا مع الأنظمة الرجعية العربية وعلى رأسها مملكة آل سعود من أجل موضوعة الدعم المالي!!!.

نظر نحوي مباشرة وقال:

ـ ابتسم كما تريد، أو إضحك بأعلى صوتك، بكل ما فيك من قوة، إضحك لأنني كنت أصدق كل ذلك، كنت أصدق أن هذه القيادة لم تُخْصَ بعد، وأن رائحة الرجولة ما زالت تفوح منها، وأنها لن ترتضي أن تكون قوات لحد جديدة، خاصة أنها ترى بأم عينيها ماذا كان مصير لحد وسعد حداد وكل من اتبعهما بعد أن إن إنتهى دورهم، لكن ماذا تريدني أن أفعل والخصاء ينجب في العقل أولاً، وهؤلاء فقدوا الشجاعة والرجولة منذ الزمن الذي ارتضوا فيه نسج العلاقات مع أمريكا مستمعين لنصائح آل سعود و”مماليك” مصر، منذ أصبحت “الريالات” أكثر أهمية من دماء الشهداء، وأصبحت “المحرمات” وجهة نظر لتنتقلنا إلى أن الخيانة وجة نظر.

قلت لهم حين رأيتهم يحاصرون البيت وكأن “أوسلو” لم يكن:

ـ هذه مناطقنا، مناطق أ، مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية ومسؤوليتها الحصرية، بأي حق تقتحمونها؟

قال أحد الضباط بعد أن نظر في عيني طويلاً، والذي شعرت أن سبب حضوره هو لإسماعي هذه الكلمات:

ـ نحن حتى الآن نعمل ضمن القانون، مناطق أ نقتحمها إن كان هناك خطر علينا منها، لنا الحق في متابعة واعتقال أو قتل من يشكل خطراً علينا، هذا ما ينص عليه “أوسلو”، إحمد الله أننا لم نقتلك…

وتابع بعد أن أسكت لساني عن النطق:

ـ ليست مشكلتنا نحن إن كذبت عليكم قيادتكم، ولبست مشكلتنا إن صدقتموها أنتم لأنكم تريدون تصديقها، رغم معرفتكم أكثر من أي شخص كم هي كاذبة.

واقترب مني أكثر وقال وكأنه لا يريد أن يسمع جنوده ما يقول:

ـ فكيف إذا عرفت أننا أبلغنا السلطة عن نيتنا بإعتقالك، وقدموا لنا هم المعلومات عن تحركاتك ليسهلوا لنا إعتقالك؟!!.

وكالعادة ظننت أنه من باب اللعب بالأعصاب، الحرب النفسية ليس أكثر، قلت له:

ـ خسئت أن تُشككني بقيادتي، أعرف أساليبكم منذ سنوات، لا تُحاول…..

قال بثقة:

ـ أعرف أنك ستقول ذلك، إبقَ على ما أنت عليه، هذا ما نريده نحن وقيادتك، لكن أن تبدأ تلعب “بذنبك”، هذا لن نسمح به لا نحن ولا هم كذلك…

وأكمل ناظراً حواليه وكأنه يحتمي من آذان متنصتة:

ـ بالمناسبة، إذا بقيت على ما أنت عليه، واستمريت بهذه الطريقة، سَ”تتبهدل” وستبقى معظم وقتك داخل السجن، وداخل تنظيمك لن تكون يوماً ذا شأن، يعني أنت الخسران في كافة الأحوال والأزمان.

وتابع “رفعت” قائلاً بأسى:

ـ وفي التحقيق وجدت أن “أمعاءنا” أمامهم على الطاولة، كل ما تحدثت به أمام قيادة السلطة كان عندهم… ورغم ذلك ظلت ثقتي بالسلطة قائمة، حتى رأيت أعداد المعتقلين من مناطق أ تتزايد، ووصل الأمر أنهم دخلوا بيت الرئيس مفتشين في حديقته عن مطلوبين!!!

سكت من جديد، عانق أحد القادمين لتهنئته، وأكمل كما فعل حتى هذه اللحظة، وكأنه لم يعد يهمه شبئاً:

ـ ولماذا نستغرب بعد كل ذلك ما تفعله السلطة بالمعلمين؟!!! هل من يعاقب شعبه بالسجن لكونه يريد النضال بمستغرب على أن يضع على رأس المعلمين قيادة تبيع المعلمين ومصالحهم منذ اللحظة الأولى؟ فيتساقطوا تحت أقدام السلطة منذ اللحظات الأولى في محاولة منهم لإفشال هذا النضال المطلبي المحق، إسألوهم كنقابيين من أين لهم ما لديهم من أموال وامتيازات؟ وكيف حصلوا عليها ومن أين؟

إلتفت هذه المرة الى الآخرين وكأنه يريد أن يشرح لهم الأمر:

ـ منذ ثلاثة أعوام وقعوا مع المعلمين على زيادة بعشرة في المائة، لم يعطهم سوى حمسة منها فأين الباقي ؟ولماذا لم تُعطلم بعد سنين ثلاث؟ فالسلطة لا تريد أن يسد المعلمين رمق جوعهم، وإلّا لما جندت كل طاقتها لإفشال إضرابهم، ولما قامت بتجييش “حركة فتح” لتقوم بمظاهرة داعية لحقوق الطلاب !!!، يا لمساخر القدر عندما تُوَظَّف حركة محسوبة على حركات التحرر لتكون حجر عثرة لتمنع قطاع شعبي واسع من أخذ حقوقه؟!!! ليتحول دورها من النضال ضد الإحتلال الى نضال لتثبيت مصالح الطبقة الحاكمة في سلطة “أوسلو” وموظفة عندها. وكأن “شَبَع المعلم” يتعارض مع حقوق الطالب!!!   كذلك تقوم السلطة بإستنفار طاقتها كما لم تفعل من قبل مع الإحتلال، وتنصب الحواجز لتمنع تدفق المعلمين على الإعتصام السلمي!!!، ليأتي أحد أقطاب السلطة كاذباً ليخبرنا أن بعض الضباط قاموا بذلك بشكل فردي وليس بقرار سلطوي مركزي ومن أعلى السلطات، أي من الرئاسة مباشرة، بعد تجييش الإعلام “العاهر” المقروء والمسموع والمرئي على المعلمين أكثر مما جيشوه غلى المحتل في ريع قرن مضى!!! يا سلام كم يستخف هؤلاء بعقولنا!!! كم يعتقدون أنهم أذكياء وأغبياء نحن!!!

سكت قليلاً، وأكمل بإصرار لم أعهده به من قبل:

ـ الغلاء يأكل المعلم كما بقية أفراد الشعب الأخرى، فمعاش المعلم لن يوصله إلى منتصف الشهر بأي شكل من الأشكال، لن يحمله الى أبعد من ذلك، والحل الذي تراه السلطة  لكنها تتعامى عنه هو حل سهل وبسيط، وهو أن”يوقفوا السرقات عندهم في مؤسساتنا التي تحت سيطرتهم، أن يحاربوا الفساد ويتوقفوا عن الإفساد، أن يستعيدوا الأموال المنهوبة، ويوزعونها غلى الشعب ومؤسساته ونقاباته، فينهون بذلك أزمة المعلمين والعمال والأطباء وغيرها من الأزمات الكثيرة أيضاً، فأزمة المعلمين هي جزء من كل، وما يُحيرني ويستفزني أيضاً أنه وفي الوقت الذي يستعملون فيه كل إمكاناتهم لإفشال إضراب المعلمين، فهم لم يوقفوا لصاً واحداً أو يحاسبوا فاسدا واحداً أو حتى يعتقلوا عميلاً  واحداً ومرة واحدة في الربع قرن الماضي، ولم يحاولوا !!!

فقال أحد المتواجدين والقادمين للتهنئة، والذي كان جالساً على أحد كراسي القش الذي وضع مع كراسي مشابهة أخرى، بجانب كنبات البيت القديمة التي لم تتسع لهذا العدد من القادمين، قال على غير توقع:

ـ سيفعلوا…

فسأل رفعت بغضب باحثاً بعينيه عن مكان الصوت:

ـ متــــــــــــــــــــــــــــــــــــى؟!!!

فقال نفس الصوت من ذات المكان:

ـ وأمك بنت………….

أغرقت الكلمات صالون البيت بالضحك الصاخب، وضحك رفعت أيضاً، ولم أدر إن كانت ضحكته تلك خففت عنه همومه أم زادت من أعبائها فوق جسده.

محمد النجار