الخبّاز

الحكاية تكالب عليها المخصيون وعشرات السنين سيدي القاضي، ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، ورغم ذلك لم تشخ ولم تمت، ظلت حية إلى يومنا هذا، وهذا هو المهم في الأمر كله، والله وحده يعرف إلى متى ستعيش. لكن المؤكد أنها ستظل تُجدد نفسها من تلقاء نفسها، إن قسى عليها أصحابها أو بخلوا عليها أو حتى تقاعسوا عن نسج حكاياها من جديد، دون أن يُعيدوا لها تاريخها الذي توقف منذ ذلك التاريخ.

قيل عنها الكثير سيدي القاضي ومازال، قيل أنها ثابتة ثبات أشجار التين والزيتون، تمتد جذورها عميقاً في أمعاء الأرض، تتشابكان وتتحدان في لحن رياني مثير، راسخة رسوخ الجبال لا تتنازل عن مكانها التي منحته لها الجغرافيا وخصها التاريخ به، لا تبدله أو تغيره، وتحافظ على كل ما لها من رمل وحجر وبشر وأشجار، تحتضنهم حتى لو كانوا جثثاً هامدة، تضمهم في أعماقها ليكون لثمار التين معنى بعد أن تزرع فيه عصارتهم وتمنح روحه طعم الشهد.

كان جدي في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر، يُعمّر الفرن وسيجارة الهيشي المقتلعة من “تتن” الحاكورة تتدلى من بين شفتيه، ويداه تُذري كوماً من الجفت كما تذريان في الخلاء زهور القمح، يدخله الفرن ويضعه فوق بواقي الجمر الذي غفا في ليلته الماضية مخلفاً بعض رماد دون أن يتنازل عن جمراته، فيتحول  كل “الجفت”إلى جمر أحمر يبث حرارته في الأرجاء كلها، ناثراً عبق الزيتون في كل رغيف خبز يدخل بين أحضانه ليتحمص قليلاً. ولما يتعب في آخر النهار يصعد فوق الفرن محتضناً الجفت متمرغاً في حرارته التي طالما شبهها بحرارة حضن جدتي، يرتاح فوقه ساعة أو بضع ساعة، متدثراً بالدفء الذي ينفثه كوم “الجفت” في الهواء المشبع بزيت الزيتون، لكنه يظل معظم الوقت يخبز للقرية كلها دون أجر نقدي، لكن أهل قريتنا لا يأكلون حق أحد، كانوا يعوضونه بالبيض والدجاج والفواكه والخضار، رغم أننا كنا نملك منها الكثير.

كانت حكاياته لا تنقطع ولا تنتهي، والمرحوم والدي يتشرب الصنعة والحكايات منه كما الإسفنجة تتشرب الماء، ويجعل من كل شيء داخل ذاكرته حكاية، من تجاربه المتراكمة هناك في دولاب الذاكرة، من قصص الناس وتجارب القرية يصنع الحكمة، وأبي يُخزن تلك الحكايات ويستلهم الحِكَم ليتلوها علي فيما بعد، كما تتلو آيات من الذكر الحكيم، فصرت أشعر أن جذوري تمتد عميقاً في باطن الأرض لتعانق جذور التاريخ هناك، وتناغي الفرن الذي بناه جدي في تلك القرية التي تكاد تلتقطها العين من الجنوب اللبناني، بناه بيديه وبمساعدة طفيفة من إخوته الكبار، فأنا في ذلك الوقت لم أكن موجوداً، لم أُخلق بعد، جئت بعد أن إقتلعونا من جذورنا من قريتنا في الشمال، أين ومتى وكيف، يمكنني الجزم أنني مثل الكثيرين الذين جاؤوا وحسب، لا يهم كيف ولا أين، المهم انهم جاؤوا بجذور مقطعة وأوصال ممزقة، والله وحده يعلم كيف استطاعوا شبك جذورهم من جديد رغم طول المسافة ومرور الزمن.

منذ ذلك الزمن صرنا لاجئين، وبنى والدي فرنه في مخيم عين الحلوه في لبنان، وصار يعجن ويخبز ويطعم المخيم كله، وفي المساء يجلس في ركن من أركان غرفتنا يعاتب الرب أحياناً ويستعطفه أحياناً أخرى، وكنت أحس دمعاته وأنا في فرشتي، دون أن أملك الجرأة عن الإفصاح عن سهر حاسة السمع عندي إلى تلك الساعة، لكن الأكيد أن الله لم يستمع له في كل تلك السنين.

كان محترفاً إلى حد الذهول، يُلاعب العجين على أصابعه مثل “الجني”، لا تكاد ترى حركة أصابعه، وفي مرات كثيرة كان يحذف بالرغيف في زاوية الفرن البعيدة دون حاجة للمزلاج، لكنه لم ينسَ يوماً ذكرياته في قرية الشجرة التي هجّروه منها ، مُنتزعينه من وسط كرم الدوالي وأشجارالتين والزيتون، لذلك ظلت قرية الشجرة في رأسه ولم تفارقه يوماً، وكلما تقادم الزمن كلما زادت شموخاً في رأسه، كالنبيذ المعتق سيدي القاضي، وزادت أقاصيصه لي عنها، وصارت أمنيته أن يختطف حزمة ضوء  من سمائها بين جفنيه قبل أن يموت، لكنه بعد زمن مات دون أن يختطف تلك الحزمة التي تمنى أو أراد.

وصرت أنا الخبَّاز الجديد سيدي القاضي، كنت أعمل في مكان أبي، في مخيم عين الحلوه قبل أن أنتقل مع القادمين الجدد الى هذه الأرض، التي إعتقدتها ستوصلني لاحقاً إلى قرية الشجرة، قريتي وقرية والدي وجدي الذي لم يسعفهما الزمن ولم تساعدهما القوة في أن يقطفا من حقول سمائها ضمة ورد من ضياء ويموتان. ماتا قبل أن يريا قريتنا، قرية الشجرة، لعلك سمعت بها سيدي؟!!!

ـ ماذا ؟ لم تسمع بها، ليس مهماً على أي حال، إنها هناك في الشمال، أبعد من صفد التي تخلى عنها سيادته وسيادتهم، قالوا أنها لا تهمهم، ومن لا تهمه صفد وحيفا ويافا أتعتقد أنه يمكن أن تهمه قرية الشجرة؟ “مجنون يحكي وعاقل يستمع” سيدي القاضي.

كنت أقف طوال نهاري على قدميّ دون “آه” واحدة، دون ملل أو ضجر، أو حتى حالة تأفف، لأنني ببساطة شديدة كنت أحب عملي، هل قلت كنتُ؟ لا بل ومازلت أحبه، فأنا في متاهات تفاصيله منذ الصغر، لم أترك كبيرة أم صغيرة دون أن أتعلمها حين كنت مساعداً للمرحوم والدي، وبقيت كذلك حتى غيبه الموت وأنا ما أزال طفلاً.

لن تصدق أبداً أنه مات جوعاً والخبز بين يديه، قالوا فقر دم وقالوا هزالاً وقالوا “أنيميا”، لكن النتيجة واحدة وهي نتاج الجوع، أتصدق أن خبازا يموت جوعاً؟ مات هناك مكانه في الحفرة المقابلة للفرن تماماً، تكوم على نفسه ولفظ بقية أنفاسه فارغ الجفنين رغم أن كل ما أراده حزمة ضوء يشم منها تاريخاً حاولوا سلبه، معتقدين أن الأكاذيب يمكن أن تصنع لهم تاريخاً، ما أسخفهم، وهل يُصنع التاريخ بالأكاذيب؟!!!.

كان رحمه الله خبازاً محترفاً سيدي القاضي، لم يترك رغيفاً واحداً طوال حياته يحترق، فبالنسبة إليه الرغيف المحروق وصمة عار في جبين خبّازه لن تُمحى أبداً، لأنك إن صنعت شيئاً عليك أن تصنعه جيداً أو أن تختفي خلف جهلك وتعانق المقهى وألعاب الورق…

حاضر سيدي القاضي، سأتكلم عن نفسي فقط وأوجز، أعرف أن ليس لديك وقتاً تضيعه على أمثالي.

مات واستلمت أنا مهنته، كنت قد تعلمتها وعشقتها، حتى قبل أن أكبر وتستطيع عيناي أن ترى ما بداخل الفرن، كنت قد وضعت كرسياً في حفرة الفرن بجانب المرحوم ليزيد من طولي قليلاً، ورغم أن المرحوم كان يتعثر به إلا أنه لم ينهرني من حواف قدميه.

وكبرت، وكنت أقطع من العجين كتلة صماء فأخلق منها رغيفاً ساخناً يتطاير منه البخار فخوراً مختالاً نحو السماء، أفرش تحتها بعض حبيبات الطحين وكذلك فوقها كي أمنع محاولات إلتصاقها، أضغط الكتلة بأصابع يدي الثمانية، وأقلبها وأحملها وأناغيها وأدللها، فتنفرد أمامي وتتمدد كعاشقة عارية تنتظر حبيبها لتضمه بين أحضانها لعله يُخفف قليلاً من ألم الجوى، أُلقيها في الهواء، فتطير متضاحكة وترتفع دائرة حول نفسها مثل عروس ترقص في يوم زفافها، قبل أن تتهاوى وتنزل بين كفي، تستدير وتتمدد وتظل كما هي وكأنني رسمتها رسما على سطح ورقة، لم تُثقب ولم تتمزق يوماً ولم يختلف شكلها ولم يتعكر صفو حوافها، ثم أضعها على المزلاج الخشبي الذي أمامي رغيفاً من عجين، فأضعه بعيداً على حافة الفرن المقابلة للنار، فقربه من النار يحرقه، وبعده عنها يجففه ويسبغه بلون الموت، يجب أن يظل على مسافة مناسبة… لا ليس وسطياً سيدي، بل في مكان مناسب، فالوسطية لا تصنع رغيفاً من الخبز بمذاق جيد. ثم أبدأ بتحريكه وهو في مكانه، أجعله يدور حول نفسه كمخمور، ليبدأ يكتسي لوناً جديداً، وكم كنت أتمتع وأنا أراه ينتقخ وينتفخ ويبدأ بالإحمرار، فأحركه من جديد لتصل النار ألى كامل سطحه، ويتساوى عليه لون النار دون فروق، المساواة ضرورية حتى للخبز كي لا يكون طرفاً ناضجاً وآخر غير ناضج، ثم أخرجه قبل أن تهزمه النار ويتفجر من أحد أطرافه الضعيفة ويكون البخار مازال يتصاعد عن وجهه كما يتصاعد الدخان من مصباح علاء الدين قبل صعود الجني وتحرره منه . ولا أضع الخبز واحداً على ظهر أخيه قبل أن يبرده الهواء قليلاً، كيلا يتحول البخار الى حبيبات ماء تفسد الرغيف وتفسد أكله، ففي مهنتنا، مثل كل مهنة، هناك أسرار بدونها لن تصل لدرجة خباز محترف كما كان المرحوم والدي وقبله جدي.

وهكذا كنت، أعمل من الفجر الى آخر النهار، وكان معظم المخيم يشتري خبزه مني رغم وجود أفراناً أخرى، ترى رجاله ونساءه مصطفين ليشتروا الخبز الذي تصنعه يداي، نعم سيدي… قبل أن يُحرّموا الإختلاط ويُحرّموا المرأة جسداً وروحاً، وقبل أن تخرج الفتاوى بلفلفتها وبرقعتها وسجنها بين طناجر الطعام وعلى “فرشات” الجنس البارد، بعد أن كانت قد بدأت تقبض على البندقية.

وجاءني جنابه وقتها، نعم في يوم صيفي قائظ، وأنا في الحفرة أواجه النار، وأتصدى لجحيم الطبيعة الذي فجّر ينبوع نهر من العرق يسيل من رأسي حتى تحت خاصري، وطلب مني أن آتيه في يوم الجمعة اللاحق، حيث كان يوم عطلتي.

ذهبت لمقابلته، وسألني:

ـ كم يعطيك، أبو خليل،  مالك الفرن أجرة في الشهر؟

وقلت له بصدق المبلغ والذي لم أعد أذكره، فقال:

ـ كيف إستطعت أن تعمل عنده بعد أن قتل أباك؟

كان يريد أن يزرع الفتنة بينيوبين أبي خليل، وهي مقدمة لفتنة بين أبناء المخيم الواحد!

أنظر إليه، هاهو يضحك من خلفك سيدي القاضي، إن كنت أكذب فليقاطعني، كيف يمكن أن يكون خلفكم أنتم القضاة أيضاً؟ عقلي سيتفجر سيدي القاضي، أجده خلف القضاة وخلف الوزارات وخلف الوزراء والمؤسسات!!! بل صار بديلاً عن كل شيء سيدي القاضي، كيف يتم ذلك؟ كيق وصل تأثيره ألى كل شيء؟.

أعرف سيدي القاضي أنه ليس من شأني، لكنه مجرد فضول…قلت:

ـ مات والدي قضاء وقدراً، فالأعمار بيد الله.

قال:

ـ الأعمار بيد الله لكنه كان المتسبب.

وسكت هنيهة وكأنه يريد أن تدخل الكلمات ثنايا رأسي وتستقر فيه، وقال:

ـ لو كنت مكانك لقتلته… على كل حال ليس هذا موضوعنا، موضوعي أنني رأيت مهارتك، واستشرت القيادة التي وافقت على تسليمك فرناً تخبز به للثوار، للفدائيين، هل تقبل أن تستلم فرن الثورة وتقوده، وتترك أبا خليل، وبهذا تثأر من قاتل والدك؟

لم أعلق على جملته الأخيرة سيدي القاضي، لكنني قلت متسائلاً:

ـ فرن الثورة؟ كيف لا؟ ومن يرفض هذا الشرف؟

لم أكن أعرف أن للثورة فرنها الخاص، وأن للثوار فرنهم وخبازهم الذي يختلف عن فرن المخيم وخبازه، ولم أتردد في الإلتحاق به، فأعطيت أبا خليل مهلة ليجد عني بديلاً، والتحقت للعمل في فرن الثورة، وكان جنابه، ربنا الله، قد زاد معاشي عشرين ليرة لبنانية كاملة، ووضع بجانبي مساعداً أيضاً، لأن عملي لن يستطيع إنجازه شخص واحد أبداً، وصرت أعمل مثلما كنت أعمل هناك، لكن بزيادة طفيفة، قدر ساعة أو ساعة ونصف الساعة في اليوم الواحد، كي نستطيع أن نؤدي عملنا على أكمل وجه، ولا نترك الفدائيين يتضورون جوعاً.

جنابه لم يقصر معي أبداً، دفع أجرتي قبل أن يجف عرقي، ربنا الله، وأحياناً عندما يزيد الخبز عن أكل الفدائيين كان يُحمّلني بضعة أرغفة لبيتي دون أن يأخذ ثمنه إلا آخر الشهر، يخصم ثلاثة أرباع سعرها وليس سعرها كاملاً، لأنها تكون قد فقدت سخنوتها، أو ظلت الى اليوم التالي نائمة في مكان ما. وكونه هو في الأصل محاسباً، دخل الثورة ليضبط حساباتها، واستطاع ضبطها ولملمة تبعثرها لكن لتتوجه إلى جيبه، وكان واضحاً منذ البدء، حدد بوصلته جيداً، البوصلة هي المال العام والمكان هو جيبه كما قال الكثيرون. كان يأتي لي بفواتير يومية أوقعها عن عدد الأرغفة وسعرها… وكانت هذه الأرغفة بعدد ثابت كل يوم، وكان العدد ألف رغيف في اليوم الواحد، لم تزد يوماً ولا تقل، وأنا كنت أعتقد أنه عدّها أو على الأقل قدرها بشكل تقريبي، حتى جاء يوم واستدعاني أحد المسؤولين الكبار عن مخابز الثورة، وأراني أحد الفواتير بتوقيعي وبصمتي أيضاً، فرأيت بأم عيني أن العدد لم يكن ألفاً في أية فاتورة، بل تم تكبير الأصفار وتحريكها لتصبح أرقاما كبيرة، كان جنابه قد حركها بلمساته السحرية الخفيفة، فجعلت من الأرقام الصماء الميتة فوق الأوراق جبالاً من النقود في جيبه، ومن يستطيع أن يفعل ذلك غير محاسب محترف كان قد دخل الثورة لضبط حساباتها؟!!!

ولك أن تعد سيدي القاضي كم ألف من الأرغفة سُحبت من فم الفدائيين لتتحول للنهر المنساب  مالاً قي جيبه كل شهر، دون أن يفرد بأصابعه الناعمة حتى لو رغيفاً واحداً، ودون أن تلفحه نيران الفرن ولو ساعة واحدة، ولا حتى أن بنام ساعة واحدة في “جفت” الزيتون الذي ما زال يحتفظ لنفسه بحصة من الزيت، وحينها تذكرت كلمات المرحوم والدي ناقلاً المأثور الشعبي ” المال السايب يعلم السرقة” ليس هذا فحسب، بل هو يسرق وأنا المتهم وأنا من يُحاسب، فهل يحق لمثله أن يكون خلفكم أنتم القضاة في قضية المتهم فيها غريمه سيدي القاضي؟

ـ حاضر، “سأسد نيعي” مادام الأمر ليس شأني.

لم أعلم شيئاً عن الأمر في مخيمنا اللبناني، وأخذني بمعيته لما رحلنا إلى تونس لأتابع إطعام الفدائيين هناك، وكان قد سافر الى هناك قبل الجميع، فهو لم يكن من أنصار البندقية الفدائية سيدي الرئيس، بل من أنصار تلك البنادق التي بحوزة الأنظمة، البنادق التي تُطلق للخلف سيدي القاضي، لذلك رحل قبلنا جميعاً، وكان يتحدث كثيراً عن السياسة والدبلوماسية والتكتيك، وكان يحب كثيراً “أنصار السلام” عندهم سيدي القاضي ويلتقيهم ويأكلون اللحوم فقط دون خبز المخيم.

أنا لم أعرف شيئاً عن كل ذلك سيدي القاضي، أنا رجل بسيط إلا في فن الخبز أمام  الفرن، فأنا “داهية” ولن أكون متواضعاً ، وأبي وأنا من صححا المأثور الشعبي القائل:”فلان لا يضحك للرغيف الساخن”، بحيث جعلنا “فلاناً” يضحك له رغم أنفه، بل ويقهقه عندما يراه، لكنني فيما عدا ذلك أقر بما يقولون عني، أنني على باب الله، وأنني على نياتي، وأن القطة تأكل عشاي، لكن البعض ممن كانوا يعرفون بالأمر وشمّوا رائحته التي تزكم الأنوف، أوصلوا الأمر للقائد الكبير رحمه الله، والقائد الكبير كان يحب مثل جناب المحاسب ويُقربهم منه، لأنه كما قال بعض المخيم يستطيع أن يقودهم، بعد ذلك، كالأنعام سيدي القاضي، فبعد أن يمسك عليهم المماسك، يهز الأوراق الممسك بها عليهم أمام وجوههم الصلفاء، يشتمهم ويُهزأهم ويقل قيمتهم “بعيدا عن جنابك” وهم لا يجرؤن على الرد، بل يخرون له ساجدين، لأن جلودهم تكون قد تعودت على الشتائم ووجوههم على البصاق وضرب النعال دون أن يرف لهم جفن. وقال القائد الكبير رحمه الله لمن أوصله الخبر بلهجة مصرية:

ـ ده حرامي وشبع حجبلكوا واحد جديد يبتدي من الصفر؟ اعمل ليكو إيه؟ ده قدركم بقه.

وأبقاه محاسباً مؤتمناً كما كان، بل علّا من شأنه أيضاً لأنه زاد بصماً بحافريه كما قال الكثيرون، وأكد البعض أنه فرك له أذنه واستعجله ليعرف نتائج لقاءاته مع “مشجعي السلام ” من الطرف الآخر.

كان هذا قبل أن تنمو له مخالباً وتكبر، قبل أن ننتقل إلى هذه الأرض من حمّام الشط، وقبل أن يبدأ بمد يده إلى ما تحت يد القائد الكبير، ليرثه ويركب فوق ظهورنا نحن العامة، حيث ظل يعتبر نفسه أحد الأسباب الذي أوصلنا لما نحن فيه من هيبة وعنفوان وازدهار!!! وأننا لولاه لما كنا في مثل هذا العز الذي “نتمرغ” في خيره ونرعى كالإبل.

ـ أنا لا أستهزئ سيدي القاضي… حاضر لن أتكلم في السياسة، فهي التي أوصلتني للوقوف هذه الوقفة بين أيديكم.

بعد أن كبر وانتشر خلف كل شيء في البلاد، صار كل ريع الخبز يذهب إلى جيبه وليس الفرن الذي أعمل به فقط، ولم يعد يحاسبه أحد على ذلك، بل سمعت أنه يأخذ الكثير من الأموال من “معسكر السلام” القريب والبعيد، ولم يعد بحاجة إلى هذا الفتات، لكنه رغم ذلك أعطاه لبعض أقاربه كي لا يتسرب هذا المصدر إلى آخرين.

ـ “ما علينا” سيدي القاضي، أنا لن أتنازل عن حقي، والمخيم كله إلّا البعض القليل، كلهم يدعمني ويقف في صفي، تعرف سيدي القاضي أن المسحجين والمطبلين يتواجدون عند كل الشعوب وفي كل الأوقات، لكنني قررت أن لا يستحمرني أحد من جديد…

ـ نعم حقي سيدي القاضي، كيف لا؟ أنا لا أريد مالاً، أنا أريده أن يشرح لسيادتكم وهو الموظف من أين له كل هذه الثروة؟ ومن أين لأولاده وأحفاده كل هذه القصور والعقارات والشركات والأملاك وأنا الذي إشتغلت وتعبت وليس هو، إحسبوا دخله على مدار العمر لتعرفوا بأنفسكم أنه لو عاش مائة حياة لن يكون لديه كل هذه الأموال، التي حول إتجاهها ويتهمني بها، وأنا لا أملك كيس طحين واحد في بيتي.

ربما عمل بأشياءٍ أخرى، إحسبوها له، لكن عليه أن يُرجع ما سرقه من أموال خبز الفدائيين، وأموال خبز أهاليهم الذين كانوا يتلقون جحيم الطائرات في المخيم في كل وقت، وهو سيدي القاضي لم يكن في المخيم ولم يعش فيه يوماً واحداً، حتى أنه لم يمر فيه إلّا ليحادثني وأمثالي من البسطاء الذين يوقعون على الفواتير دون سؤال، أما ماعدا ذلك فلا شأن له بالفقراء…

إسألوه كيف إستجمع كل هذه القوة بين يديه؟ ليس بالمال وحده بالتأكيد، وليس بالتسحيج والتطبيل والتزمير فقط، فعلو النباح لا يجلب القوة ولا يُسنن النيوب ويُنمي المخالب ، إسألوه كيف أحرق كل بنادق الفدائيين الذين أطعمتهم خبزاً من صنع يدي؟ ومن الذي زوده ببنادق الأنظمة هذه التي لا يربطها رابط ببنادق المخيم.

لا أعرف لماذا لا توقفون إبتساماته المتتالية من خلف ظهوركم سيدي القاضي، أإلى هذه الدرجة فرد نفوذه وصار يمسك بكل مفاصل البلد؟

أتعرف سيدي القاضي، لو كان يتعامل معهم كما يتعامل معنا بنفس الطريقة والحدة ما كنت غضبت، لكنه هناك يستجدي ويركع ويسجد بين الأقدام، لا يجرؤ أن يرفع عينه في عيونهم وكأنهم يمسكون عليه المماسك وأوراق الإذلال، وتراه عندنا يمشي مثل طاووس، قلت طاووساً وليس نسراً سيدي القاضي، فمثله لم يكن نسراً يوماً ولن يكون، لا يعرف ولا يستطيع، فللنسور صفاتها وميزاتها التي لن تتوفر به يوماً، النسور شامخة حتى في إحتضارها، وهو ذليل حتى في عز قوته وغناه.

هذه صفات سيدي القاضي وليس قدحاً وذماً، وإن لم تصدقني ضعه أمام التجربة، أمام المواجهة مهما كانت طفيفة وبسيطة، ستجده في الهريبة “كالغزال”. كما تريد، أتعتقد أن الغريق يخاف من البلل؟ سجل تهماً جديدة إن أردت، فأنا “تحت المزراب” سيدي القاضي ولن تُخيفني أمطار الشتاء.

لا يعنيني من يكون ومن وراءه، المهم أصل الفتى، صفاته، معدنه، “سألوا الحمار من أبوك فقال خالي الحصان”، أتعتقد سيدي القاضي أن خاله الحصان كان قادراً على تغيير ماهيتة؟!!! ظل الحمار حماراً وإن إدّعى بأن الحصان خاله، ومهما “طلع أو نزل” سيظل حماراً، “حاشاك” سيدي القاضي.

لا أعرف لماذا تظل تقاطعني سيدي القاضي، فأنا إنسان بسيط وعلى “باب الله”، كلما قاطعتني نسيت ما أريد قوله، وكما ترى فلا محامي لدي يدافع عني وعن حقوقي، كما أنني سمعت أن المحامين في بلدنا لا يستطيعون “حماية مؤخراتهم”، كما أكدت أمي رحمها الله ذات يوم، وأنتم القضاة كما سمعت صرتم تحاكمون الشهداء وتقتصون من الفدائيين، أصحيح هذا أيها القاضي؟

سأقول لك سيدي إن نفيت هذه الأقاويل، إن كان ما سمعته كذباً وتشويهاً، سأقول سيدي وتاج رأسي أيضاً، وإلا فلن تكون سيدي أبداً بل وستسقط من عيني إلى تحت حذائي ولن يرفعك أحد أبداً، تماماً كمن سقط من يقف وراءك، وها هو يقدم لك أقاصيص أوراق تملؤها الكلمات.

ـ لا سيدي لن أكون خبازهم، يستطيع إكتشاف صلة قرابته معهم كما يشاء وكيفما يشاء، “أبناء عمومة” فليكن بالنسبة له، لكنهم بالنسبة لي هم قتلة أبي الحقيقيين… نعم هم، فلولا تهجيرهم لما مات أبي الخباز جائعاً تنخره الأمراض، ولما تيتمت أنا وترملت أمي، لما كنا متهمين في العالم كله وكلٌ يركلنا بقدمه، لما كنت أنا هنا أقف أمام سيادتكم في قفص الأتهام، ولما كنت وقعت على فواتير أحد لأملأ جيوبه مالاً، وكلما إمتلأت جيوبه مالاً كلما جاع الفدائيون الذين جئت خصيصاً لأطعمهم خبزي. لكنت مازلت في قريتي الشجرة، لكنت عشت حياة طبيعية بين أبي وأمي، لما مات والدي في حفرة أمام فرن في الغربة، لما جاع وبين يديه “حاكورة” البيت وزيتونات الحقل وزعتر الجبل وأرغفة الفرن التي يتماوج فوق وجوهها لون النار الذي أعطاها طعمه ، كما أنني لا أريد أن أكون “خباز السلام”، أرفض عرضكم لسحب التهمة عني مقابل ذلك، أريد أن أظل خباز الفدائيين، خباز المخيم وما يحيط به من قرى ومدن…

ـ ماذا؟ لم يعد هناك فداييون!، ليس مهماً، ما تبقّى منهم، مهما كانوا أقلة لن أتركهم يجوعون، “عاقل يتكلم ومجنون يستمع”، أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، أتستدرجني لتعرف أماكنهم؟ سيعرفون هم مكاني إن لم أعرف أنا مكانهم، سيأتون هم عندي لأطعمهم خبزي.

ـ نعم أقولها بصوتٍ عال، وبكل ثقة أيضاً، أنا لن أتركهم يموتون جوعاً، كما لن أترك مهنتي تموت وأصابع يدي يضخ إليها القلب دماً، فمهنتي مرتبطة بهم، بإشباعهم بعد أن جوّعوهم وأفقروهم وسحبوا منهم قوّتهم ورحّلوهم من المخيم إلى حمام الشط مبعدينهم عن حدود الوطن، كي لا يعودوا يشمون راحة صفد والجليل وقرية الشجرة، كي يموتون غيظاً وجوعاً وإختناقاً، نعم، لقد إختنقوا بعد أن صاروا غير قادرين عل التنفس بهواء الجليل الذي صار بعيداً.

رغم بساطتي فإنني أعرف جيداً كيف حول سعادته كل معظم مَنْ أتي بهم إلى موظفين ومسحجين ومطبلين ينتظرون “مخالي العلف” في آخر الشهر، بعد أن إقتلع نيوبهم وقصقص أجنحتهم فلم يعودوا يحسنوا فن الطيران، ومن ليس لديه أجنحة لن يستطيع التحليق ليرى القدس وعكا وطبريا ونتانيا وصفد والجليل، لن يستطيع السباحة في بحر يافا، ولن يعرف يوماً كيف تنتظرنا الناصرة وكفر قاسم عرائس بلباسها الأبيض.

أما أنا فسأجعل من العجين لآلئ من خبز، ومن الخبز أنواعاً، سأزيد من حجمه ووزنه، وسأضيف إليه “الملاتيت” وأرشها بالسكر،سأصنع لهم أقراص الزعتر والسبانخ وكافة أنواع المعجنات، وإن توافرت في جيوبي نقوداً سأشتري لهم اللحوم وأقطعها بنفسي وأصنع لهم “الصفيحة” ليستعيدوا قوتهم، المهم أن لا يجوعوا، وكما تلاحظ فالأساس هو الخبز، فبدون الخبز سيدي القاضي ما فائدة زيت الزيتون والزعتر؟ ما فائدة الميرامية وابريق الشاي؟ إنها تفقد قيمتها ولا يبقى لوجودها معنى.

أمّا أنا سأظل أعجن وأخبز لأطعم الفدائيين ولن أتنازل أبداً عن هذا الشرف، هدّد كما تريد، فلن “يقطع الرأس إلّا من ركّبها”، أعيد مجدداً أنني لن أكون خباز “السلام”، فأي سلام دون أن أعود لقريتي “الشجرة” وتعود لي، دون أن يلعب أولادي في أزقتها وطرقاتها، دون أن أزرع حكورتها وأدهن خبزي بزيت زيتونها؟!!!

أعرف أنكم جميعاً كما الدجاح “لا تتحكمون حتى في بيضاتكم”، وأن روحكم في يده، وتفتت ضميركم وتبعثر ولن تستطيعوا إسترجاعه أبداً ولا حتى لملمته.

إحكم كما تريد فلن يتذوق خبزي إلا من يستحق، الفدايون، وفقط الفدايون، إفعلوا ما تريدون، فلن تثنوني عن قراري هذا أبداً.

محمد النجار

 

الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار

هذيان…

وُلِدَت، “عائشة” في ليلة ظلماء حالكة، كان الليل خينئذٍ قد إندلق واستحكم في الأشياء، فاقتحمت الظلمة البيوت والطرقات وأشجار الحقول، وكانت الشمس بالكاد تسترق لحظات من طول النهار، وما تكاد تظهر حتى يهاجمها الليل والظلمة وقطاع الطريق، في تلك اللحظات ولدت عائشة، ولدت من رحم الأرض، تحت دالية مجاورة لتينة عتيقة وشجرة زيتون لم يتعدى عمرها الألف عام بعد، ولدت هزيلة ضعيفة بالكاد تستطيع الحركة، مكبلة بقيود من سلاسل صحراوية قاسية، من وهم ووهن وذل وخنوع، خطواتها قصيرة قليلة ضعيفة مترنحة مرتجفة، تمشي بحكم إرادتها وإصرارها فقط، رغم السياط التي تنهال على جسدها الضعيف الرضيع من غير إتجاه، باسم الدين تارة والعادات والتقاليد تارة أخرى، أو بإسم القانون الذكوري الأبوي الحاكم المتحكم بحركات الفتيات في كامل العشيرة والعشائر المجاورة.

هناك ولدت وأسموها “عائشة”، أملا أن تعيش هذه المرة، بعد كل حالات الموت التي أصابت مثيلاتها، أسموها “عائشة” أملا في أن تعيش، صلّوا من أجلها، إمتنعوا عن الأكل وأطعموها، دون أن يعلموا شيئا عن معجزاتها.

كانت “عائشة” من أيامها الأولى تزحف على أربع، على يديها وقدميها، وبالكاد يستطيعان حمل جسدها الضعيف، لكنها، وهذه معجزتها الأولى، وُلدت قادرة على الحركة، قادرة على الزحف على أربع، ورغم ظلام الليل، فقد كانت قادرة على الرؤية، إذا لم يكن ببصرها فببصيرتها، وجاءت للحياة باسمة ضاحكة دون بكاء ولو بدمعة واحدة على عادة المواليد، وهذه معجزتها الثانية، طفلة بريئة نقية جميلة متفائلة، وعلى غير توقع، ورغم كونها فتاة أنثى وليست ولداً ذكراً، جلبت البسمة والفرح لأهلها وعائلتها وعشيرتها جميعاً، وخلقت كمعظم الأطفال حياة وحركة وفرحة داخل البيت رغم هشاشة عظامها، وفقر دمها الذي ولدت به، وعضلاتها الصغيرة الضعيفة.

الغريب أن هذه الطفلة “عائشة” كانت توحي بأشياء غير مألوفة في محيط المنزل والعشيرة كلها، وكانت، ربما الطفلة الوحيدة، التي تولد من رحمٍ رغم خصوبته، إلاّ أنه مُحاط بالخوف والجوع والأمراض، بفقر الدم والسرطان ، وبأرحام هزيلة مريضة عاجزة، يتحكم فيها شيوخ القبيلة وصديقهم الأبيض ذو العينين الزرقاوين، داخل قبائل متخصصة بولادة الأولاد دون البنات، وإذا ما ولدت فتاة كانوا يتحون المآتم ويسكبون الدموع، رغم أن أولادهم كانوا  بقلوب قطط مرتعدة خائفة من الأيام ومن المجهول، أولاد لا يحبون المغامرة، يصلون لله ولزعماء العشيرة وشيوخها مرّات، وربما من باب الأدب والأخلاق والدين، لا يخرجون على رأي الزعيم وطاعته حتى لو كان ظالماً، ويخافون، مثل شيوخ العشائر وزعمائها، من غضب قادم من أرحام النساء، التي ربما تُفاجأهم وتلد ما يردعهم ويضع حداً لذكوريتهم المفرطة، دون علمهم أو في غفلة منهم، الأمر الذي يخافون منه ويهابونه، أو من ولادة قد تُثمر زرعاً غير زرعهم، ونسلاً يعاند نسلهم، فيصير المولود مارداً يُنغص عليهم حياتهم ولا يراعي حرمة لصديقهم الأبيض ذو العينان الأزرقين.

إنتفض زعماء العشائر كلها لمّا علموا بالولادة “الشاذة” من خلف عيون زعماء العشار، إستصرخوا واسعانوا واستدعوا زعيم عشائر الصحراء الذي كان في قيلولة عميقة، صدى شخيره يتردد فوق الرمال، عيناه تائهتان في حلم يتنقل فيه بين نسائه الأثنتان وعشرين، رغم نشاز بعضهن، وكان يود، لو ساعده الحظ قليلاً لجعلهن أربعين أو خمسين، لكن رفض إحداهن وتحريضها ومقاومتها له ولصديقه الأبيض، حرمه من هذا الأمل ومن تحقيق هذا الهدف، كان يحلم حائراً عند أيهن يبيت ليلته القادمة، ويده تناغي خصيتيه اللتين زينهما بالجواهر واللآلئ، وعطّرهما بأجود أنواع الطيب والمسك، وبخّرهما بالبخور الهندي وقرأ عليهما خوفاً من العين والحسد ، تداعبهما يده وتسقيهما من زيت الصحراء، خصيتاه اللتان طالما قرح بهما وكانتا عنوان فخره، فظل يزداد حرصاً عليهما ويود تقبيلهما لتقديم الشكر والعرفان لهما، هو خير من يعرف أن “الذكر” لا يساوي شياً دون خصيتيه، وأنهما عنوان عزته وكرامته وفخره وكبريائه، لذلك عليه حفظ كرامتهما وحفظ الجميل لهما، ولذلك أيضاً نادراً ما كان يتركهما وحيدتين في ظلام الليل، بل يتفقدهما ويداعبهما ويُزينهما ويسقيهما زيت الصحراء بدل الماء إعترافا بجميلهما. كان يحلم مفكراً بفتيات “الفرنجة” اللواتي أحضرهن صديقه الأبيض ذو العينين الأزرقين، هدية خالصة صافية لا يريد لها رد جزاء، أيقظوه من أحلامه الجميلة تلك، رفعوا يده عن خصيتيه ليعاود عقله العمل، أخبروه بالمصيبة التي يمكن أن تحل بالعشائر  كلها نتجة لميلاد طفلة في بلاد التين والزيتون، على أطراف الصحراء البعيدة، باسمة ضاحكة تحب الحياة ، هناك حيث الكلأ والماء والأشجار ونسائم الهواء.

أفهموه بأن البسمة والضحك يجلب الفرح والبهجة، وهذا مسموح للزعماء ممنوع على العامة، كي لا يغويهم الشيطان ويبعدهم عن شرع الله، فيصبحوا متعلقين بالحياة الدنيا الزائلة، فيطالبوا بنصيب من مال زعماء العشائر أو يتشبهوا بهم، وهذا مخالف لدين الله وشرعه وتعاليم شيوخ الإسلام وعلى رأسهم ابن تيمية وتلامذته وصولاً لمحمد ابن عبد الوهاب رضي الله عنهم جميعاً، والله سبحانه يقول “والآخرة خير وأبقى”، فأقلقوا منامه وقطعوا أحلامه، فارجفت خصيتاه وارتعدتا، فشاط  واستشاط وعنّف، وفتى لهم وأمر برقابة تلك الطفلة، حتّى الإمساك بها ووأدها حية تحت تراب الأرض وطينها، فتصير عبرة لمن إعتبر ولمن أرادت أن تولد باسمة ضاحكة ومحبة للحياة، ولمّا ذكّروه بقول الله “وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت” أمر “طال عمره” بحذف هذه الآية من القرآن قبل أن يعود ليناغي خصيتيه مدللاً معتذرا.

ورغم كون الطفلة وحيدة، أو، على الأقل، لم يُبلّغ عن ولادات أخرى مُشابهة، في عشيرة تتفجر أرحام نسائها بالأجنة، حيث كان رجال عشائر الصحراء وصديقهم الأبيض يقتلونهن في الأرحام، أو يُفجرون الأرحام كيلا يفاجأهم حمل أو ولادة لفتاة، تخوفاً من عار يجلبنه للعشيرة، إذا ما كبرن وبان حسنهن ونضجت براعمهن وأثمرت جمالا وحبا وحياة، فتتبدل وتتغير ملامح العشائر الجادة المُهابة بين الناس وبقية عشائر الكون، فيحل الفرح محل الغم والتفاؤل مكان التشاؤم والنور بدل الظلمة والحياة محل الموت، وينتشر هذا المرض المعدي، في المجتمع وبين الناس، كما النار في الهشيم، لذلك يرفض كل زعيم ” أن ينام في القبور كي لا يرى أحلاماً مزعجة”، ويُفضّلوا “إقتلاع الضرس للتخلص من ألامه” .

كان شيوخ العشائر يعتبرون أن الفتيات على وجه التحديد، يُشكلن خطراً على مصالحهم ومصالح المجتمع برمته، فدائماً ما تيقّنوا أنهن يجلبن العار والفتنة، يستقطبن شباب العشيرة و”يُخربن” أخلاقهم، فيُبعدونهم عن ذكر الله فيهجرون بيوته، فشباب العشيرة، كمعظم الشباب وأي شباب، دائماً ما استهوتهم الفتيات الحسان الجميلات، خاصة عندما يكن حاسرات سافرات، فيلحق الشباب جمالهن ويُعجبون به، ثم يقعون فريسة عشقه الذي ينمو ويكبر في الصدور، ولا يستطيع أحد السيطرة عليه بعد ذلك، وهذا وحده كفيل بتعميم ثقافة الحب والعشق والحياة بين الناس، بدلاُ من ثقافة الكره وعذاب القبر وبول البعير، الأمر الذي كان يُخيف شيوخ القبيلة وزعماء العشيرة ويُرعبهم فوجب  الإحتياط منه، الأمر الذي فرض سياسة وأد المولودات في الأرحام، حتى قبل أن يولدن، ليقضون على “المرض” قبل وصوله، ويظلوا في مأمن منه.

أحد لم يعرف كيف إستطاع هذا الرحم إخفاْء الجنين طوال فترة الحمل، كيف تغلّب على حواجز تفتيشهم، أو غلى مداهمة الأرحام المفاجئة، رغم أن عيونهم جمعاء لم تكن لتفارق مراقبة أبوابه، وما أن ينتهي أحد الزعماء من الرقابة أو المداهمة أو التفتيش، حتى يكون هناك من يحل محله، فهذا الرحم، على وجه الدقة، رحم مشاغب متمرد، وكانت لديه محاولات متتالية للولادة، بعضه قتلوه في مهده وبعضه قبل ولادته أو بعدها بقليل أو كثير، لكنه طالما كان ينجح في الولادة، وطالما كانوا هم أيضاً ينجحون بوأد المولود بعد ولادته مباشرة، وأحد أسباب تخوف شيوخ العشائر وزعمائها، وكذلك صديقهم الأبيض ذو العينين الزرقاوين، أن المولودة لا تُشبههم، وترفض أن تُشبههم بشيء، ولا تريد التشبه بهم، وهي عنيدة مخالفة وعصية غلى الكسر، الأمر الذي يجبرهم على المضي بسياسة الوأد في الرحم أو بعد خروجه، دون أن يتركوا أمامها متسعاً من وقت لتعيش أو تكبر، وها هي ترفض أن يكون لها أبٌ ممن يُقررونه لها، وتُفضل أن تظل يتيمة على ذلك، كما أنهم لا يمكنهم التساهل فيما يخص أمر الله، فهم لا يقبلون تجاوزاً أو حتى مجرد حوار في مثل هذا الأمر، ف”المرأة ناقصة عقل ودين” و”لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة”، وهذه الطفلة ستكبر وربما نفضت عن نفسها غبار الماضي وألم السنين وقررت فجأة أن تمسك بيدها قرارها؟!!! فما العمل حينئذٍ؟!!! ويؤكد زعماء العشيرة وشيوخها، أنهم لن يمانعوا لو أن لديهم ضمان واحد، واحد فقط مهما كان صغيراً، لو أنها تقبل أن تكون نسخة عنهم، أو أن تتشبه بهم، أو بالرجل الذي يرتضونه لها أباً، بل وسيساعدونها أيضا بالمال والزيت والرمل والعلف وبول البعير وأبوال الشيوخ، وربما وجدوا لها عريسا من زعماء العشيرة، لأنهم  مؤمنون دوماً بأن “مَنْ شابه أباه ما ظلم”، لكن كل المؤشرات تشير إلى أنها ترفض كل خيوط التشابه مع زعماء العشائر وشيوخها جميعاً، وراحت تتشبه بالرعاع من فقراء العشيرة  و”أرذال” القبيلة وصعاليكها، وهنا مربط الفرس.

لقد ولدت هذه الطفلة وفي جعبتها الكثير من المفاجآت، لا يدري أحد كيف ومن أين أتت بهن، لكن الجميع كان يرى هذه المفاجآت بعد أن تتم، ففجأة ودون سابق إنذار، لا يعرف حتى الآن أحد، رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن على ولادتها، كيف إستطاعت في تلك اللحظة وذاك العمر الغض، أن تقطع القيد الحديدي وتمزقه إرباً إرباً وترميه بعيداً خلف الصحراء، حيث يسكن أصحابه في قصور من رمل هناك، وصارت حرة طليقة لم يعد باليسر والسهولة على أحد ترويضها.

وكيف إستطاعت أن تشب وتكبر وتنضج بين عشية وضحاها، وتصير صبية جميله فارعة الطول والحسن ولا ينقصها المنطق، وكيف كسرت قيد العشائر كلها، كيف قوي واشتد عودها وقست عظام ساعدها بهذه السرعة، رغم تكالب زعماء العشيرة وصراخهم على تجاوزها لقوانين القبيلة ودوسها عليها بأرجلها الجميلة و”بصطارها” الثقيل ولباسها المرقط، وعلى هيبة الزعماء والأمراء ورؤساء العشائر كلها، وبخروجها على عادات القبيلة وتقاليدها التي جنحت للسلم منذ قرون، فتنادوا جميعاً لحماية شرف العشائر التي تهتكه وتنتهكه هذه البنت الشاذة العاقّة كل يوم في كل الميادين، خاصة بعد أن صار شبان القبيلة يمتدحون جمالها وحسنها، ويتغزلون بقوامها وصدرها وحسن وجهها، واصبحوا مفتونين بها وعلى خطواتها أراد معظمهم السير، بل إنها صارت فتنة للرجال من خارج القبيلة، وصارت القبائل البعيدة تحسدها على هذا الجمال الفتّان، إلا القليل منها.

وقيل أن الزعيم الأكبر للعشائر كلها، أكد أن هذه البنت العاق صارت تنافس جمال بنات العشائر كلها، اللواتي كن مكسوّات بالذهب والجواهر من رؤوسهن حتى أخمص أقدامهن، وأنها بأثوابها البسيطة المرقطة وأنوثتها الطاغية جلبت الأنظار إليها ومنعته عن مثيلاتها المذهبات والمتجوهرات، واستقطبت كل نساء العشائر ورجالها من العامة، وفرضت دون كلمة واحدة منها قانون الجمال الطبيعي الذي لا يفوقه جمال، حتى لو ترصع بالذهب والفضة، الأمر الذي يفرض عليه كزعيم أن يقف في صف حماة الذهب والفضة الذي تحاول تلك الفتاة إخفاءه والتقليل من شأنه، وأن يمنع تأثيرات جمالها ونسائم عطرها الفوّاح عن عشيرته وكل العشائر الأخرى المتفرقة، حتى لو كان بقتلها واغتيالها رغم تحريم الله ذلك إلا بالحق، وهو بالحق سيفعل ذلك ويقتلها، لكنه قبل ذلك قرر إغلاق أبواب البيوت ونوافذها، وقيّد رجالها وغمّى عيونهم كيلا يروا ما يغضب الله مما تفعله هذه الفتاة، وغطى آذانهم كي لا تسمع، وأمر بحشر النساء كالإبل في المزارع والبيوت، لأنهن أكثر خطرا وأشد فتنة، فهن يُثرثرن ويحِضن ويلدن،  واستحضر شيوخه المحرمات جميعها وألقوهن على رؤوس النساء، وحرموهن من الجنة إن هن خالفن بعولهن أو رددن له طلبا، وإن حرضنه على ولي الأمر، ثم أمروا بلفلفتهن وبرقعتهن وضربهن ومنعهن من الخروج من بيوتهن إلّا للقبر، لكن الزعيم الأكبر كرجل حسّاس مؤمن بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، يؤمن أيضا بالشورى والديمقراطية كما يقولون، وعملاً بالآية الكريمة “وشاورهم في الأمر” و”وجادلهم بالتي هي أحسن”، فهو سيشاور نُظرائه، حتى لو كان لا يعترف بنظير له، ويجادلهم ويحاورهم ويستمع لأقوالهم جميعاً وأحاديثهم، لكنه سيفعل ما برأسه، رغم قناعبه، وبحمد الله، أنه لن يجد من يخالفه رأيه أو يخرج عن طوعه.

رأى زعيم العشائر وشيخها الهوان والمذلة والإنكسار في عيون سادة القوم جميعهم، كانوا متخوفين جميعاً من العار الذي يمكن أن تجلبه لهم هذه المصيبة التي حلت فوق رؤوس الجميع، والعصيان الذي بدأ يدخله ويمارسه شباب العشائر، وحالة العشق المتفجر التي أصابتهم وما زالت يوماً بعد آخر،  بإغوائها لهم وفتنتها، بجمال مشيتها الأخاذ أثناء إستعراضها للباسها المرقط و”بصطار”رجليها الكبير، الذي لا يعرف أحد سر أو مكمن الجمال فيهما!!!      إقترح بعض الزعماء أن يتركوها مؤقتاً، ويفرضوا حصاراً على الأرحام في بطون النسوة في بقية العشائر الأخرى، خاصة وأن هناك رياح تحمل في طياتها حملاً يلوح بالأفق، حمل ربما يأتي بمعجزات أكثر من المعجزات التي جاءت بها هذه الطفلة، ومن يدري، فربما تكون أكثر جمالاً وأكثر فتنة أيضاً!!! لذلك لا بد من مهاجمة البطون والأرحام، والإستمرار بحجب آذان النسوة عن السمع وعيونهن عن البصر،  كي لا “يَغرن” منها ويفعلن ما فعلت، فالمأثور الشعبي يقول “لولا الغيرة ما حبلت النسوان”، وأن يجعلوا الزعماء يقاطعوا فروج نسائهم ويتوجهوا لغزو فروج الفرنجة، من بلاد بعيدة وقريبة، كي يضمنوا عدم الحمل وإنجاب ما يشبه تلك الفتاة التي نمت رغم أنوفهم جميعاً، لكن البعض قد رد بوضوح مُشككاً بهذه الأقوال، رغم أنهم على أي حال يؤيدون غزو فروج نساء الفرنجة، عملاً بقول رسول الله صلى الله عيه وسلم “غربوا النكاح”، ويقنِّنون الإقتراب من فروج نسائهم منذ زمن، لأنهن صرن مثل أخواتهم، ولا أحد يعرف لماذا،  لكن السر الذي كشفته “عرافة” الشيخ الكبير، زعيم قبيلة رمال الصحراء، هو أنهم مهما أنجبوا لن يستطيعوا أن يورِّثوا مثل هذا الإنجاب، ولا حتى ما يشبهه، فهم لن يُنجبوا سوى أشباههم، الذين لا يجلبون لعشائرهم وقبائلهم سوى العزة والإباء والشموخ والإكبار، فهم ليسوا مثل بقية “خلق الله” وخاصة الرعاع منهم، وذكرتهم بقول الشاعر الحطيئة الفقير لكنه رغم ذلك نطق بكلمة الحق حيث قال:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم                  ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا.

كانت الطفلة قد صارت فتاة تزداد جمالاً مع تقادم الزمن، وكلما مر الزمن فوق جسدها، كلما صقله وجمّله وزاده حسناً، وطالما كانت تلك الفتاة تسير، كانت تزداد محاولات القبيلة التخلص منها لينتهي عارها، لكن امر محاولات قتلها لم يعد سراً أمام شباب القبيلة، الذين صاروا يُحذّرونها، يلتفون حولها، ويسمعونها غزلهم الرقيق بها، وإعجابهم بجمالها الساحر، متمنين عليها أن تبعث بنسائم عطرها ليصل، شبابهم في عشائرهم البعيدة، رحيقة، ليخترق الحصار المفروض على الحدود والفضاء ونسائم الهواء ورمال الصحاري.

وصار الكثير منهم  يزورها ويلبس لباسها، خاصة بعد أن صارت نداً ولو ضعيفا لبنت الرجل الأبيض، صديق الشيخ زعيم قبائل الصحراء والرمال وأتباعه، ذو العينين الزرقاوين، يتحدثون كما تتحدث، ويفتتنون بما يسمعون منها من كلمات وأحاديث، وتحولوا لعاشقين لكل ما تفعل، فالعشق إذا ما دخل قلباً حوّله إلى قمر مشع مضيء، يفرد أنواره عل كل الأشياء، مَن دخل العشق قلبه حسن في عينيه ما ترياه، وفي أذنيه ما تسمعاه وفي أيديه ما تفعله، من يعشق يظل يمارس عشقه بطريقته، ورغم عذابه فهو يرفض أن يتوب.

صار الجميع من علية القوم يرون فيها خطراً أكبر مما ظنوا، وأدركوا أن وجودهم مرهون بوأدها وقبرها دون أن يعلم أحد أو يحس ، فحتى قتلها بطريقة فجة ستجعلهم في مرمى سهام شباب القبيلة، فصارت محاولاتهم متكررة متعددة، لكن الفتاة كانت تشع ذكاء بجانب حسنها، فما فائدة الحسن إذا لم يكتمل بالذكاء؟!!! ما أهميته إن كان مرتعاً للعيون الحاقدة الحاسدة والأيدي الطويلة المتحرشة، إذا لم يكن عقلاً يتدبر التعامل مع الأحداث جميعاً، وأيدٍ قوية تحرسه، يكون مثل وردة ضعيفة هزيلة “تتناتشها” الأيدي العبثية المارة وتعبث بها الأصابع القذرة، وفي حالتها، حيث حالات الولادة صعبة ونادرة و مراقبة وملاحقة، فالحفاظ على الذات أمر في سلم الأولويات،  من أهم الأسس لتنمو وتكبر وتُثمر وتنضج وتعطي الحياة، وكانت دائماً ما تقارن نفسها بشجرة زيتون على بعد نظرة عين واحده، تظل تعطي وتعطي دون كلل أو ملل، دون شكوى أو عتاب، لكنها تدرك أن عطاءها مرتبط بصحة الجذور داخل حبيبات الأرض وبين طيات الصخور، بأوراقها اللواتي إن تنازلت عنهن ولو مرة واحدة سيجف الساق وتنتحر الجذور، فهذه الفتاة كانت تحمل حكمتها، تمتصها من الطبيعة والأرض والهواء وأشجار الزيتون، من حركتها في الليل والنهار، من “بصطارها” وملابسها المرقطة وسواعدها، من مشقات الطريق.

رأى قادة العشائر أنهم عاجزون عن وأدها واغتيال الحياة فيها، وربما هي عصية على ذلك، فقرروا تغيير الأساليب ويظل الهدف نفسه واحد، “واحد لا شريك له”، القتل مع سبق الإصرار والترصد، لكن كيف وبيد مَنْ؟

كان زعيم القبيلة، الشيخ الكبير لا يخفي عن صديقه الأبيض الذكي ذو العينين الزرقاوين سراً، وشريك له في بعض تجارة، ويأتمنه على نفسه وماله كما لم يأتمن أحداً من أبناء عشيرته، حتى أنه يُخزّن هناك في خزائنه أموال العشيرة كلها، مطمئناً عليها أكثر من إطمئنانه لو كانت بين يديه، وكانا يجلسان يتسامران بين فينة وأخرى، يشكو فيها زعيم العشيرة الكبير ما ينغص عليه لصديقه الأبيض، يستمع منه لنصائحه ويقوم بتنفيذها وكأنها أوامر من الله رب العباد سبحانه، لأنه خير من يعلم أنه لا يريد به وبعشيرته إلّا خيراً، فرد عليه صديقه قائلاً:

ـ ألم أحذرك من هذا الخطر منذ سنوات؟ ليس أمامك سوى أن تضع يدك بيد إبنتنا، فهي جميلة وأكثر حسناً وأكثر ذكاء، وذات حسب ونسب، وفي الوقت نفسه أغرقها بالمال!!!

لكنه هذه المرة لم يكن مقتنعا بهذه النصيحة، بل أجابه زعيم العشيرة:

ـ نحن لم نقصر بحق إبنتك الحسناء، أما بما يخص تلك الفتاة، فيقولون إن “المال قوة”، هل تريدني أن أزيدها قوة فوق قوتها، كي تقوى عظامها وتقسى ويشتد ساعدها أكثر، ولا يعود بالإمكان ترويضها؟”

فقال له بثقة كما يفعل دائماً:

ـ الملابس المرقطة والمال لا يجتمعان، فإما أن تلبس “البصطار” والبدلات المرقطة، وإما أن تمتلك المال، فالمال يشبه الماء، إن أردت أن تقتل أحداً أغرقه بالمال، فما أن يصل إلى فوق رأسه حتى يغرق ويموت…

وهز رأسه إلى الأعلى والأسفل، كعلامة للتأكيد على أقواله، فقال الزعيم:

ـ لكنها ستنقذ نفسها لمّا تراها في خطر…

كان صديق الزعيم، الرجل الأبيض ذو العينين الزرقاوين يُعبئ غليونه بنوع من “التتن” الفواح، أخذه من ظرف بلاستيكي أزرق، مكتوب عليه شيء أو مرسوم، فالشيخ زعيم القبيلة لا يجيد القراءة ولا يعرف من الرسوم  غير رسم النوق، ولكن وكون الرسم حرام، فهو لا يقترب من الحرام إلّا إذا كان مضطراً، وكان صديقه يأخذ حبات من التتن بين إصبعيه ويحشو بها فتحة الغليون، ثم يدكّها بقطعة معدنية فبل أن يشعلها بولاعتة ذات الشعلة الطويلة، واستغرب زعيم القبيلة لماذا لا يتركه ليُحضر أحد الخدامين أو العبيد ليحشو له غليونه، وظن أنه لا يريد أن يكشف غليونه على عبيد القصر، وقال صديقه مراجعا نفسه ناقدا:

ـ لا لا لا، المال ليس كالماء، مَنْ يُغرقه المال لا نجاة له…

ونفث دخان غليونه في وجه الشيخ زعيم قبيلة رمال الصحراء، فامتلأ صدر الشيخ بما يشبه البخور، ورغم عدم قناعته إلا أنه لا يرفض طلبا لصديقه الأبيض، وبدأ يُغدق المال على أهل “الفتاة”، ومنذ ذلك اليوم صاروا يسمونها ب”العروس”، وصارت تكتب عن “العروس” الأقلام وتتحدث الأفواه، وانتشر ، عملاً بنصيحة صديق الشيخ، الأمن في البلاد، وصاروا يصطادون من حمد أو شكر الله لسماعه شيئاً من الفتاة أو عنها، أو صفق لجمالها الأخاذ، أو لم يستبدل إسمها بالعروس، وفتحوا باب التبرع بالمال لها، فصار المال نهر جار على أهلها وأصحابها وعشاقها، وبذلك إتضح لأمن العشيرة المؤيدين “للعروس”، فصار يتلقطهم ويودعهم سجون الصحراء “جزاء بما كانوا يفعلون”، وكانت تُهمهم جاهزة ” الخروج عما هو معروف من الدين بالضرورة” وهو “الخروج على الحاكم حتى لو كان ظالماً”، فما بالك والحاكم عادل كالفاروق؟!!! وطبقوا بحق البعض منهم الحد بالقتل ذبحا بحد السيف، أو رمياً من طائرة عمودية في وسط الصحراء، أو داخل فرش من الباطون تحت عمارة من عشر طوابق.

ابتلت ملابس العروس، حيث كان المال يتدفق فوق رأسها مثل الماء، وصار لا بد من تغيير الملابس المرقطة التي صارت تذوب تدريجياً ألوانها، فتشوّه شكلها ولم يعد جمالها أخّاذاً كما كان، فغيروها واستبدلوها بأخرى تليق بالعروس، فألبسوها الفساتين البيضاء، بدلا للبدلات المرقطة، وحذّروها من أن تبان عورتها، وعلموها أنها كلها عورة من رأسها حتى اخمص قدميها، ثم بدأوا بتجميل العروس، مادامت عروساً، بطريقتهم، بالمكياج المستورد عن طريق بلاد صديق الزعيم، فكيف ستكون عروساً دون مكياج، ولم ينفع كل تمنعها كي لا يغيروا ملابسها ويصبغوا وجهها، فأمرها صار بأمر ولي أمرها، وتكثّفت طبقات المكياج الثقيلة غلى وجهها، فلم يعد يتنفس، وامتلأ بالبثور والحبوب، وصار يفقد جماله الطبيعي يوماً بعد يوم، وزال الترقيط وذاب نهائياً عن ملابسها، وتحول “بصطارها” الكبير إلى حذاء جلدي بكعب عال، لا تستطيع به صعود الجبال ولا مجرد السير، وتكاثرت عليها أشياء تشبه الحشرات، بل صارت كالمستنقع الذي يفيض بها، وتكاثرت فوق جسدها الطفيليات، وصار لها الكثير من الآباء بعد أن صار للأبوة مكاسب، وأزاغت قوة المال الأبصار، و تجرأ رجال العشيرة وأصدقاؤهم وصاروا يغتصبون الفتاة، وقدموها هدية لصديق الزعيم لينتقم لنفسه ولإبنته التي أزعجها جمالها، وزادت حالات الإغتصاب تحت أسماء مختلفة، بعضها باسم الدين وأخرى باسم التحضر، وبأسماء لم يسمع بها أحد من قبل.

ظلوا معتقدين أن رحم الفتاة يمكن أن يحمل، فحاولوا إنتزاع الرحم من جسدها ورميه بعيداً، لكنهم فشلوا، فبعض أعضائها كانت متمسكة به، مراهنة ربما على حمل جديد، ورغم أنهم قيدوها ليسهل إغتصابها، فقد كان بعض أعضائها ما يزال يتمرد رافضاً، حاولوا تغيير الرحم، إستبداله برحم يشبههم، أن يحمل بأشباههم، لكن الرحم كان عنيداً غاضباً رغم القيد وحالات الإغتصاب المتكررة، فتمزق وتهاوت جدرانه، ورغم ذلك أدرك الزعيم وعلية القوم كلهم، أنهم مهما كبروا وامتلكوا وتملكوا وتمادوا واحتكموا وتحكموا، ومهما تزاوجوا واغتصبوا وانجبوا وكبروا، فإنهم كان لديهم إحساس وشعور وحتى تيقن أنهم لن يستطيعوا استيلاد ولو طفل صغير واحد بمستوى أي صغير يخرج من رحمها، لذلك قرروا إحراق الرحم في جسدها الحي، كي لا تفكر عائشة مجدداً أن تخلق حياة.

كانت “عائشة” كلما كبرت كلما زادت حسناً وجمالاً، فصارت الآن تزداد ضعفاً وتشويهاً وحتى قبحاً، لكنها لم تفقد كل لمسات الجمال بعد، وظلت تزداد ضعفاً خاصة بعد أن أحرقوا رحمها ، وظل يضمحل جسدها وعضلات بدنها، وكان من إدّعى أبوتها يشارك الآخرين إغتصابها، وصار الزعيم وصديقه الأبيض ذو العينين الأزرقين وابنته، يتضاحكون ويشربون الأنخاب على إقتراب موت “عائشة”، ومن مكان قريب من رأسها، شمال الرأس تماما، كانت قد أطلت مولودة جديدة تمشي، وتلبس “البصطار والملابس المرقطة”، في غفلة من أمرهم جميعاً ورغماً عنهم، وكانت حسناء جميلة ذكية، استجلبت من جديد شباب العشائر جميعاً وإعجابهم، فعاد في رحم “عائشة”، في مكان منزو وفي قلب الرماد قلب ينبض بخفوت من جديد، يعارك من أجل الحياة، كان يغيب عن الوعي طويلاً، لتبدأ دقاته من جديد، كان قلباً غريباً، يأخذ مواصفات أمه، بدأ يرفرف بجناحين كبيرين، وصار يتعلم الطيران في رحم”عائشة” بعيداً عن عيون زعماء القبيلة كلهم وأصدقاؤهم، وهمس صوت من مكان فقير…إنه طائر الفنيق…

صحوت من نومي، وأمسكت بأطراف حلمي كي لا يغادرني كما في كل صباح، حمدت الله على أنه كابوساً وليس حقيقة، لكنني شاهدت سيوف القبيلة مشرعة فوق جثة عائشة الممزقة الممدة أمامي، يصرخون لقتل هذه الفتاة الداعرة، وسمعت صوت قلب ينبض، يكاد يغطي على صهيل السيوف.

محمد النجار

إنهم يقتلون الخيول…

أجلستني عناصر الشرطة والمحققون على باب غرفة التحقيق، لأكون قريباً منهم وقتما يحتاجونني للإدلاء بشهادتي، فيبدو أن هذا الرجل “الأكتع” خطير على الأمن العام، خطر ذئب جائع على قطيع غنم، فكما يقول المأثور الشعبي “كل ذي عاهة جبار”، ما بالك وهذا “الجبار” حر طليق يجوب الشورع والطرقات دون رقابة، ومن أمام الباب يمكن سماع نتفاً من التحقيق المتسرب من تحته ومن مساماته الخشبية، ويصير الأمر أوضح عندما يفتحون الباب لأسباب متعددة، دخول أو خروج، قهوة أو شاي، أو لإستحضار أحد الضباط نتيجة لخطورة الوضع والموضوع، أو عندما يتطلب الأمر إستدعاء شاهد ما، حينها ترى وتسمع بكل وضوح، كيف يتدفق نهر الكلمات جملاً بكاملها وفواصل وحروف ونقاط، خارجة من باب الغرفة، متدافعة مع دخان السجائر المكبوت في تلك المساحة الضيقة، ليغطي الرواق الذي نقف على بابه، كما الغرف المجاورة أيضاً . ولست أدري كيف كانت أذناي، حتى والباب مغلق، كالمغناطبس تلتقط الحروف، تجلبها، تُجمّعها، تلملمها من الهواء وتنقيها، كإمرأة موهوبة تلتقط حبات الزوان والحجارة الصغبرة من بين حبيبات الأرز بسرعة فائفة، ثم تصهرها وتُِشكلها كلمات وجمل مترابطة داخل رأسي، رغم أنني رجلاً لا يحب الفضول، بل يمقته، لكن يبدو أن للخوف قوانينه، له إنعكاسات وسلوك وطقوس، الأمر الذي لم أكن أعرفه قبل ذلك أبداً إلا لماماً، في مناسبات متباعدة تكاد لا تُذكر، ما زلت أتذكر تفاصيلها رغم كل محاولاتي الفاشلة لنسيانها، متذكراً في كل لحظة كلمات المرحومة أمي، وهي تقول لي آسفة على الرعب الذي يتلبسني:

ـ يا حسرة يابني، أعلم أن “الرجولة” والشهامة والعزة والإباء لا تُورّث، وعبثاً ذهبت كل محاولاتي والمرحوم والدك أن نحشوها في أوصالك، فهي ليست مثل حبيبات الأرز هذه داخل حبة من “الكوسا”ـ مشيرة إلى ما كانت تحضره من طعام بين يديهاـ من سوء حظك يابني أنها تنمو وتكبر وتبرعم وتثمر في معمعان المعارك، في الزمن الصعب، تتطلب الحكمة والوضوح والتحدي والإقدام، تماماً كما جذور الزيتون التي تخترق الصخور وتُفتتها، في لحظات تمتحنك بها الحياة، لحظات الحسم التي لا مجال فيها لتردد أو تسويف، خوفي يابني من نهر الخوف الذي يندلق في عروقك في اللحظات الصعبة، وينازع دمك على لونه، خوفي أن ينتصر عليه ويغير لونه، أن يحوله الى ماء مُعكّر نجس، ويحولك إلى جبان رعديد، يمقتك بسببه الناس والمجتمع، وحتى زوجتك التي تستقبلك بداخلها ظانة أنك أمين عليها، وتشكل لها السند القوي وحائط الأمان…تماسك يابني تماسك، فبين الخوف والجبن لحظة واحدة أرق من ورقة السيجارة وكم هائل من الدمار، تماسك يابني، إن كل العالم لن يستطيع إصلاح لحظة جبن واحدة إن تفلتت منك وانكسرت، لأن أول خساراتك هي نفسك، وخسارة النفس ليس يوازيها خسارات.

كما أنني لا يمكن أن أنسى توصيات والدي المرحوم منذ صغري، وتنبيهاته لي بأن لا أثق مطلقاً بسلطة أو ملك أو رئيس أو أمير أو عاهرة، لأن كل منهم “عاهر” بطريقته، والعهر واحد لا ينقسم، حتى وإن اختلفت أشكاله وطرائقه، فالعاهرة تبيع جسدها، وهم يبيعون بلادهم ومصالح شعبهم، ولوحدي أضفت اليهم لاحقاً الكتبة والمسحجين والمطبلين من لاعقي الصحون والأحذية، لكنني لم أبح بذلك لأحد.

وعليه وكي أحمي نفسي، فإنني أطلقت العنان لحواسي مجتمعة، لكل قرون الإستشعار عندي، خافية وظاهرة، لتعرف كل ما يدور داخل غرفة التحقيق، فلا أحد ضامن أن لا أتحول من شاهد إلى متهم، ورغم أنني لعنت اليوم بل اللحظة التي أخرجتني من باب منزلي في ذلك الصباح، التي لولاها لما وصلت أمام غرفة التحقيق في قسم الشرطة هذا، بسبب ذلك  “الرجل الأكتع”، إلا أنني لمت نفسي أكثر ولعنتها مراراً على شفقتي عليه، وضعف قلبي على حِنيّته المفرطة، قبل التأكد من أن هذه الشفقة وهذا الحنين لن يكونا في غير مكانهما، لكن ما العمل أمام مثل هذه الطيبة المفرطة والسذاجة القاتلة؟نعم “ليس باليد حيلة” كما يقول المأثور الشعبي…

خرجت من باب منزلي صباحاً كعادتي في الفترة الأخيرة، بسبب دخولي عالم العاطلين عن العمل منذ شهور عدة، لأتفرج على ذلك الرجل الطيب الهرم، الذي يأتي كل يوم ليطعم الحمام البري، فازداد إيماني وثقتي بالله الذي “يرزق الدودة في باطن الأرض”، ولا ينسى من فضله أحدا، ورأيت التفاؤل هذا والإيمان يزيدان التفاؤل داخلي بأن أجد عملاً من جديد، فالدنيا لا تخلو من “أولاد الحلال”، وأنها “إن خلت بلت” كما يقول المأثور الشعبي، وحلمت واعياً أنني ربما وجدت عملي القادم عند هذا الرجل الطيب، مبتعداً عن غابة البطالة الكثيفة هذه، التي تمتد وتكبر وتنتشر مثل النار في الهشيم، حاصدة آلاف الأيدي الباحثة عن رغيف خبز يوما بعد آخر، وعدت أنظر لهذا العجوز المنقذ الذي يأتي للحمام بالخبز و الحبوب من منزله في كل يوم.

لا أستطيع القول من “بيته”، فكلمة “بيت” فيها الكثير من الغبن والإجحاف، ربما الكلمة الأصح هي من “قصره”، وبغض النظر عن المعنى لهذه الكلمة وهذا التوصيف، فالرجل كان يأتي، دعني أقول، من “بيته الكبير”، المؤلف من عدة طبقات، لا أعرف ماذا يحوي أي منها،  لكنني أعرف أن البيت محاط من كل جوانبه ببساط أخضر وشجر مثمر من كل صنف، تلفه الرعاية والشمس والمياه والحنين، وأي تقاعس من قبل العاملين فيه يواجه بالتوبيخ والتعزير والخصم من الراتب الشهري وحتى الفصل من العمل، لدرجة قال البعض أن أحداً من الذين عملوا في هذا “القصر” لم يأخذ يوماً راتباً كاملاً أبداً، وكنت أقول في نفسي “أن الله يعطي اللحمة لمن ليس له أسناناً”، فهؤلاء العاملون الحمقى لا يعرفون ماذا يعني أن يكون لديك عمل، أن تكون ضامناً لرغيف خبزك لليوم التالي، أن لا تسمع بكاء أطفالك متضورين جوعاً وتعنيف زوجتك لأنك لم تجد ملاً، وكأنك قادر على ذلك وترفض أو تتمنع، لذلك هم يتكاسلون ولا يقومون بعملهم كما يجب، وكذّبت صديقي الذي يعمل هناك، عند العجوز الطيب منذ شهرين ويزيد، عندما إدعى أن الرجل العجوز يفتعل القصص ليخصم عليهم أجورهم.

كما يوجد في البيت حمام سباحة في المنطقة الخلفية، ومظلات للحماية من الشمس، كي لا تؤذي أحفاد العجوز وأولاده، ويقول بعض “المبالغين” أن الماء الذي تُسقى به الأشجار والبساط الأخضر يتعدى كثيراً ما يشرب المخيم القريب ويغتسل، وكان للقصر طريق معبد لعبور سيارات أولاده وزائريه من البوابة الحديدية الضخمة، قيل أن تختفي في مكان ما تحت القصر.

لا أعرف لماذا أظل أثرثر بعيدا عن لب الموضوع، فالأمر ببساطة شديدة، أن ذلك الرجل العجوز الطيب لا يستطيع تجنب قعل الخير، فكان يخرج في كل صباح باكر ليطعم الحمام خارج قصره، باقياً حتى ساعات الظهيرة القاسية، يخرج ببنطال رياضي طويل، وبلوزة أو سترة من اللون نفسه، يفوح منهما رائحة النظافة والنقود، متوجهاً إلى ظل شجرة قريبة من الطريق العام، يجلس على كرسيه الذي يحمله أحد عمال القصر يُجلس عليه العجوز قبل أن يعود.

يبدأ العجوز بتقطيع الخبز ونثره على بعد خطوات من قدميه، وكان الحمام يأتي حائماً تحت سقف السماء، سابحاً على أمواج الهواء، مقترباً من أرض الطريق، ثم سرعان ما يشق الهواء بمنقاره ورأسه الى الأعلى، يعاود “الكر والفر” مرات ومرات قبل أن ينزل بحذر بعيداً عن الرجل في أول الأمر، ليلتقط ما تيسر من غذاء، ثم يأخذ بالإقتراب قليلاً قليلاً، وسرعان ما صار يتخلى عن حذره رويداً رويداً، لمّا رأى  الرجل لا يضمر له أي سوء، صار الحمام يقترب أكثر وأكثر، ويوماً بعد آخر صار يتخلى عن حذره، ثم تحولت رؤيته للرجل العجوز إلى عادة، فصار يتجمع أكثر وأكثر، ويأخذ الفتات المتساقط تحت أقدام العجوز، ومرات ينقر الخبز من بين يدي العجوز نفسها، الذي تتفتح شفتاه مظهرة اسناناً اصطناعية بيضاء مثل زهرة، مطلقة ابتسامة طفولية بريئة، تزيد في طمأنينة أسراب الحمام التي تتكاثر بين يديه يوماً بعد آخر، ممزقة حذرها قاذفة به، إلى الصخر، من أعالى السماء، وتجعل من يرى المشهد مثلي يكن للعجوز كل المودة والحب والإحترام، ويدعو له الله في كل صلاة.

جاء نفس هذا “الرجل الأكتع” كما في كل يوم، خرج من مخيم قريب، حيث يمكنه أن يغتسل وينام أحياناً على حصائر المسجد أو مقاعد الكنيسة المتجاورين، جاء هذا المشرد بملابسه الرثة، بحذائه البالي، بشعره الأسود الأجعد الكثيف، شعر طويل يغطي وجهه كاملاً، حتى لا تستطيع أن ترى منه شيئاً، حتى أثناء التحقيق معه، كان كلما أمره المحقق أن يرفع شعره ليستطيع رؤية وجهه، يرفعه من جانب لتنهال بقية الخصل من جوانب مختلفة لتغطي الجزء الذي تم كشفه، أقول أنه جاء كما في كل يوم، وكنت أنا مثل كل يوم أيضاً، أفترش الأرض في ظلال شجرة وحيدة مقابل الرجل العجوز، أتمتع برؤية الحمام المتطاير بين يدي الرجل ومن حواليه، وهي تنقر خبزها، وهي “تهدل” متغازلة متمايلة متهادية، وهي تسير الهوينى عارضة رويشاتها البيضاء والسوداء والبنية والرمادية والزرقاء، كأنها في عرض أزياء طبيعي فاتن، كل حمامة تعرض أكثر من لونين من الريش الجميل، بعضها تفرد أجنحتها لتساعدها أكثر في الحركة، بعض الذكور تغازل أناثيها، يداعبونهن بمناقيرهم، والأناثي ترنو إليهم وتبتعد ، يتبادلون تنظيف رويشات بعضهم بعضاً، ثم تبتعد الإناث لتقترب من جديد، ذكور أخرى تطعم أناثيها بمناقيرها، ربما لتسرق قبلة تظهر من خلالها حباً، تطير الإناث متدللة إلى مسافة قصيرة قريبة، تعود لتلتقط حبات الحبوب أو كسرات الخبز الصغيرة، قبل أن تعود الى عشوشها في سويعات الظهيرة أو قبل مداهمة الظلام، في أعالي الأشجار، كانت تظل تسير برأسها المرفوع الشامخ، ترى نفسها أكثر بكثير من مجرد سرب حمام، ترى في حمائميتها نسوراً جارحة قوية، لا تدرك أن النسور لا تستجدي غذاءً، ولا تنتظر أحداً أن يلقي لها بقطعة لحم، فما بالك بكسرة خبز، وأن “نسوريتها” تلك من كونها ترفض أن تعتاش على فتات، من قدرتها على أن تستحضر الطعام بقوة مخالبها ومنقارها المعقوف، من صبرها على الجوع، فهي ك”الحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها”.

كنت أراقبها في مجيئها وذهابها، في أكلها، في حركة طيرانها، وهي تجلس بعد أن تشبع في ظلال الشجرة الآمن، متخلية عن كامل حذرها إلا قليلاً، ،وكنت أفكر قائلاً لنفسي، أنه حتى اسراب الحمام لها رونقها وجمالها عندما تشعر بالأمان، عندما تنام مطمئنة بين يدي إنسان عطوف مثل هذا العجوز، ولو لم يكن هذا الرجل طيب القلب أبيضه، لأحس به الحمام وتفاداه، لابتعد عنه وجافاه، لو لم يشعر بحبه له لما وثق به واقترب منه هذا الإقتراب، فالحمام يحس الحب والكره، ومن الصعب خديعة الحمام.

لكن “الأكتع” عكر ابتسامتي وقتل فرحتي  بلحظة واحدة، عندما نظر من بين خصلات شعره الأجعد الكثيف، نظرات كره من عينيه السوداويتن الحاقدتين، ورأيته يتجه مباشرة الى تجمع أسراب الحمام بين يدي الرجل الطيب العجوز، ينحني ويلتقط قطعة خبز جافة، لكن الحمام الذي كان حتى تلك اللحظة يشعر  بالطمأنينة والأمان، تطاير مرعوباً من هذا “الكائن” الذي عكر عليه صفوه، ومزق طمأنينته ورماها في غير اتجاه، تاركاً غذاءه والعجوز وظلال الشجرة وبعض رويشاته تتطاير في المكان، راكباً من الخوف أمواج الهواء، محاولاً التسلق إلى أعالي السطوح والشجر وأعمدة الكهرباء ورؤوس تلال الهواء الساخن، والرجل العجوز الذي فجعه ما رأى لسرب الحمام، كاد يبكي من الألم، وسرعان ما فتح هاتفه الخيلوي معرفاً عن نفسه طالباً قدوم الشرطة، لإعتقال الرجل “الأكتع”، الرجل الذي لا قلب له، وسرق طمأنينة وطعام الحمام وشتت شمله…

 

  •              *              *

قال له الضابط المحقق:

ـ ما هذا الشكل؟ لماذا هذا الشعر الطويل؟ ألكي لا يتعرف عليك الناس؟

فأجاب بصلف ناتج عن ثقة أو وقاحة:

ـ لماذا أتخفى؟ وهل أنا مطلوب ياسيدي؟!!!

فقال الضابط غير متجاهل لسؤاله مجيبا:

ـ لا أستطيع الجزم بذلك، فأنت لا تملك حتى بطاقة لتثبت بها هويتك، لكن كوننا ديمقراطيون ولا نتهم الناس جزافاً، فأستطيع القول أنك لست مطلوباً، لكنك سارق، أنت لصٌ…إعترف لتختصر الوقت عليك وعلينا.

وضحكوا، عندما رد هو:

ـ أنا لست لصاً، أنا مجرد مواطن جاع وتشرد في وطنه مثل الآلاف ياسيدي، لوكنت سارقاً لما قطعوا يدي…

واقترب من أذن الضابط وقال:

ـ في بلادنا يقطعون الأيدي النظيفة يا سيدي، الأيدي العفيفة التي لم تمتد يوماً الى أملاك الغير ولا إلى حقوق الناس….

قطع الضابط ضحكته، نظروا بدلالات لوجوه بعضهم البعض، ثم قال موجهاً كلماته الى زملائه قبل أن يوجه سؤاله الى الرجل “الأكتع”، الذي لم نعرف له إسماً بعد:

ـ هذا رجل مجنون أم ماذا؟ ماذا يقول هذا المعتوه؟ من الذي قطع يدك؟

أشار “الأكتع” بإصبعه إلى الأعلى، فسأل الضابط:

ـ الله؟!!! الله من قطع يدك؟!!!

ـ لا ياسيدي، معاذ الله، الله لا يقطع أيدي رعاياه، بل من نصّبوا أنفسهم مكانه، إنهم أولئك الجالسون فوق، على الأكتاف ياسيدي…

فكر الضابط بأن يواصل أسئلته كي يتعرف على الرجل الذي أمامه، فربما كان أمام حالة خطرة متخفية وراء هذا الشعر الأشعث الكثيف، قال:

ـ وكيف قُطعت يدك؟

أسند “الأكتع” ظهره الكرسي، رفع رأسه عاليةً وكأنما أراد استحضار الزمن أمامه كي لا ينسى شيئاً، وكانت عيناه الشيء الوحيد المتوهج اللامع داخل كتلة رأسه، قال:

ـ في ذلك الزمن سيدي، كان الوطن مختلفاً عما هو عليه هذه الأيام، له طعم آخر وشكل آخر ورونق آخر ومضمون مختلف، كان الناس يتسابقون لخدمته، والموت من أجله شرف لا يناله أيٍ كان، يناله من يستحقه فقط، والجريح يمشي في الشارع مزهواً بجرحه، معتداً به ليراه الناس، كان مهر العروسة علامة جرح أو سنين سجن، لم يكن يسجنك أحد إلّا عدوك، وكان الناس سيدي وكأنهم كتلة واحدة، متعاونيين متضامنيين، قلب كل منهم على الآخر، الفرد في خدمة الكل والكل في خدمة الفرد، إلا القليل منهم الذين ركبوا لاحقاً على الأكتاف، بعد أن تهدمت بمعاول غريبة، من الجذور، تلك الأخلاق وبشكل مدروس مقصود، كان الوطن زينة الناس وشرفها، كان الهم والألم والأمل، كان البيت وكان الحب وكان الجنة، عصارة كل جميل وحلو ولذيذ، رغم مرارة الأشياء كلها التي تحيط به، رغم الثمن الغالي الذي تدفعه من أجل هذا الحب، الذي قد يودي بك لدفع حياتك ثمناً، ورغم ذلك كان الشباب يتسابق ليدافع عنه ويفديه، فارشاً حياته جسراً للآخرين مضحياً بها، لتستمر المسيرة وتنمو شجرة الأخلاق التي قطعوها من جذورها لاحقاً، هل تتخيل يا سيدي، أن إمرأة أو شيخاً أو ولداً كانوا يحتضنون أشجار الزيتون المقتلعة ويبكونها كما يبكون شهيداً؟ يفتحون لها بيوت عزاء، هل تتخيل أن حيازة بندقية صدئة أو مسدس كان يودي بك الى التهلكة وغياهب السجون؟ لا تتعجب سيدي، فبنادقنا الصدئة تلك تختلف عن بنادقكم هذه، بنادقنا تلك لم تعرف يوماً كيف يكون الإطلاق للخلف، لم تعرف الغدر ولا المناورة ولا الخيانة تحت شعار التكتيك أو أي من المسميات، كان لها اتجاه واحد فقط …قلب العدو…

شكراً سيدي لم أعد أدخن، الظروف أجبرتني على تركه، من لا يجد خبز يومه لا يجب أن يدخن أيضاً، حاولت العمل مراراً، لكنني ما لقيت إلا فشلاً، حاولت حمالاً وعتالاً، أن أعمل في مقهى، أن أبيع جرائد لكن دون فائدة، من سيُشغل رجلاً “أكتعاً” مثلي؟ حاولت العمل مع الحكومة ، طالبوني بنقل أخبار المخيم، قلت ها هو المخيم أمامكم، ينخره الجوع والعطش، يعمل به الأطفال تاركين المدارس ليعيلون أسرهم، متحولون إلى جهلة يطاردون رغيفاً، أخبرتهم بجوع أسر الشهداء والجرحى العاطلين مثلي عن العمل، قالوا أنهم يعرفون كل ذلك، وهذا كله لا يعنيهم، وأنهم يريدون أخبار الرجال، رجال الليل على وجه التحديد، وكوني أنام بعد العَشاء مباشرة لم أستطع أن أكون ذو فائدة لهم يا سيدي.

نسيت أن أخبرك أنني لم أتسول يوماً حتى من أجل الخبز، لم أمد يدي الباقية لأحد، أأمد اليد التي حملت تلك البندقية لتتسول؟!!! ومن أجل سيجارة؟!!! ربما لو كان لدي فائض من قروش لدخنت من جديد، لكن لا، لا ياسيدي، لن أدخن من جديد، ربما اشتريت بها خبزاً لأناس مثلي يعج بهم المخيم، كي أكفيهم شر الحاجة والعوز ياسيدي….

تَحَمّلني قليلاً، في تلك الأيام حملت بندقيتي مع بضع رفاق درب، كنا جاهزين للقتال دائماً، نتنقل ببنادقنا من مكان إلى مكان، حيثما هناك حاجة تجدنا، لسنا وحدنا، مثلنا كان “مثايل” سيدي، كنا قد قررنا أن نحرر المسجد والكنيسة المتجاورين في مخيمنا، حيث أنام في هذه الأيام، ونحرر شجيرات الزيتون المحيطة بهما، كان الجند قد إغتصبوها، كانو فد إعتلوا المسجد والكنيسة وحولوهما لمكان لأصطياد الناس وقنصها، وكانوا يدوسون المسجد والكنيسة والأرض وأشجار الزيتون بأحذيتهم، وأنت تعرف سيدي أن بيوت الله والأرض وأشجار الزيتون مقدسة، كما الإنسان تماماً، ولا يجدر بنا تركها تُداس بأحذية الأعداء، مهما كانت قدرتهم وتضخم جبروتهم، فذهبنا واشتبكنا وحررنا المقدسات كلها في المخيم، واستقدموا قواهم وبنادقهم وآلياتهم، وهاجمونا من جديد، وقاتلنا بدورنا حتى لم يبق لدينا ذخيرة نكمل حربنا معهم، وكنا نسمع أصواتاً تأتي من بعيد بعيد، من داخل الحدود وخارجها، وكلها من الراكبين على ظهور الناس وفوق أكتافهم سيدي…

وأشار بإصبع يده الى فوق من جديد، وقال:

ـ وكانوا بنا يصرخون: “العين لا تجابه المخرز”… يكفي ما قمتم به… “بوس الكلب من تمه تتاخذ غرضك منه”… “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”…”يكفيكم مغامرات غير محسوبة”… “ستدمرون كل جدران السلام التي بنيناها”… “انتظروا جيش العرب” “إلتزموا بأوامر الحاكم” وافقوا على “هدنة”لنستطيع مساعدتكم… يكفي أوقفوا إطلاق للنار…

كلما كنّا في قمة انتصارنا، كانت نفس تلك الأصوات تطالبنا بالتوقف والهدنة، وتساءلنا مرّات مع أنفسنا، هدنة ماذا تلك التي يريدون؟ وعلمنا دون عناء كبير، أنهم يريدون دعم الجند الذين كانوا أمامنا يتقهقرون، لماذا لم يطلبوا هدنة ولو مرة واحدة عندما كان رفاقنا بحاجة لها؟ هل هذه مجرد صدف؟ ونحن لم نكن بحاجة الى الهدنة ولا الى كل هذا النعيق سيدي، كنا نأمل أن يمدوننا ب”كمشة رصاص”، بدل هذا العويل، لكن “لا حياة لمن تنادي”، لم يكن أحد ليستمع لمطالبنا ولا احتياجاتنا، ولم نستمع نحن أيضاً لنعاقهم…

كانت معركة صعبة ياسيدي، كانوا أضعافنا عدداً وعدة، فاستشهد رفاقي كلهم، وأصبت أنا سيدي، رصاصة في خاصرتي، ضلت طريقها فخرجت من الجانب الآخر إلى مكان لا أعرفه ، وثلاث رصاصات في يدي، يدي تلك التي إنتزعوها وقطعوها في لحظات ضعفي.

زحفت في المكان لأخرج من المكان الذي كنت فيه محاصراً، زحفت كما لو أنني لم أكن مصاباً، فالحياة جميلة ونحبها حتى عندما نضحي بها، ربما أننا نضحي بها لشدة حبنا لها ياسيدي، زحفت وزحفت وزحفت، ونوافير الدم تتسابق لتعانق جذور الزيتون، كان دمي قد اختلط بدماء رفاقي الشهداء، لدرجة أنني لم أعد قادراً على تمييزه، نفس اللون ونفس الرائحة ونفس الطريق، وظنّي أنه وصل لأساسات الكنيسة والمسجد ليقوي صمودهما، وربما ليشد من أزرهما، ليطمئنهما واعداً بدماء جديدة قادمة… وفجأة… دون مقدمات أو سابق إنذار، فسحب المياه من البئر مهما كان عميقاً يؤدي إلى جفافه، فما بالك بجسد ضعيف مثل جسدي هذا؟!!! سرعان ما أخذ يجف الينبوع في جسدي، ولم يمر طويل وقت حتى غبت عن الوعي، ليس بسبب الألم سيدي، بل ربما بسبب فقداني لكمية كبيرة من الدم، كما قال أحد الأطباء، بعد ذلك وبصراحة سيدي لا أعلم كيف صار الأمر بالضبط.

علمت لاحقاً أنهم أخذوني الى الكنيسة أولاً، أخفوني هناك مستعينين بطبيب شاب ليوقف نزيف دمي، ثم إلى أحد المستشفيات بعد أن هدأ البحث والتفتيش، وكنت أسمع كلاماً كما في أحلام اليقظة سيدي، كان من غامر وساعدني يستجدي الأطباء، وكان بعض الأطباء يهزون أكتافهم، يريدون القول أن “ليس باليد حيلة”، فأحد الحكام أو الجنرالات سيدي، كان قد جاء لعلاج إنتفاخ في خصيتيه، في تلك الليلة وذات اللحظة، ويبدو أن هذا بسبب سوء طالعي، فخصيتا أي حاكم أو جنرال أو مسؤول، كما تعلم، لا تضاهيها أرواح مَنْ هم مثلي من الناس، فما بالك بمجرد يد؟!!! فبين أفخاذ الحكام والرؤساء والملوك والأمراء، تُطبخ وتنضج وتترتب أصعب الأمور، تتفتح وتحل أكثر الأمور تعقيدا، لكن لا تنمو زهرة واحدة!!! ربما بسبب الزيوت والعطور والمنشطات الكيماوية سيدي!! أنا لم أكن أعلم بالضبط كيف تسير الأمور، كيف تأخذ مساراتها، لكن بعد أن فكرت في الأمر أكثر، وكي أكون صادقاً وجاداً أيضاً، تساءلت: ماذا يساوي ذراع رجل فقير “نكرة” مثلي أمام خصيتي أي من الحكام؟ بل ماذا يساوي بضعة رجال من أمثالي أمام خصيتيه؟ أنا رجل واقعي وأعرف حجمي سيدي، وأعلم أنهم لو وضعوا “خصيتي اصغر حاكم” في كفة، وعشرة رجال من أمثالي في الكفة الأخرى، لرجحتا خصيتي الحاكم، “مجنون يتكلم وعاقل يستمع”، ما هذه المقارنة الفاشلة، وغير المتوازنة ياسيدي؟!!!

نعم سيدي، تجمع كل الأطباء في غرفة الحاكم، ومن كان لديه الحظ سيدي، فقط من كان لديه الحظ، استطاع أن يلمس خصيتي الحاكم، أن يتحسسها ويتلمسها، سعيد من استطاع أن يبدي إعجابه بها، ليرضى عنه وعليه الحاكم، فالحكام تحب أن “نُرطل بيضاتها” سيدي، وتفرح كالأطفال عندما نعجب بأي شيء عندها، فما بالك بخصياتها؟، أما بقية الأطباء، الذين لم يكن لديهم ذلك الحظ، فرؤوهما من بعيد فقط، “وكما يقول المأثور الشعبي” اللي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى”، لكن المأثور الشعبي نفسه يؤكد قائلاً “الريحة ولا العدم”، ولا أخفيك كم كان هؤلاء حزانى لعدم قدرتهم للوصول لتدليك خصيتي الحاكم، ولا أستطيع الجزم سيدي، ففي أحلام يقظتي تلك تهيأ لي أن بعضهم كان ساجداً بين خصيتيه، وكأنه أراد عبادتها أو تقديم فروض الطاعة لها…وربما تقديم الأضاحي على أبواب حصونها سيدي.

أحد الأطباء همس للبقية المتحولقة حول “خصيتي” الحاكم، أن هناك حالة طارئة، وأن عليهم تحضير غرفة العمليات، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد سيدي، حيث صرخ به الحاكم قائلاً:

ـ كيف تجرؤ على التفكير بذلك؟ أتريدهم ترك خصيتي لمجرد وجود حالة طارئة؟!!! لقد هزلت، أتساوي بخصيتي حالة طارئة؟ وأكثر من ذلك أتساويهما بحالة طارئة من العامة؟ من الرعاع؟ حتى الله يقول” وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات، أكافر أنت أم مرتد أم زنديق؟أتساوي خصيتي بحياة شخص “نكرة”؟ ألا ترى أنه يشبه الإرهابيين؟ ألا يكفي أن مثل هؤلاء من يعطل الأمن والسلام والإستقرار في المنطقة؟

حاول الطبيب الدفاع عن نفسه قائلاً:

ـ إن يد الرجل ستقطع يامولاي، إن لم نسارع في استخراج الرصاص المتفجر من داخلها…                       فقال له المسؤول جازماً:

ـ للخرى….فلتقطع…

وقطعوها سيدي فداءً لخصيتي الحاكم…

  •           *            *

طرقت الباب مستأذناً للذهاب للمرحاض في آخر الممر الطويل، أبعدتني الطريق فلم أعد أسمع لبقية قصته، وأصدقك القول أنني لم أكن لأصدقه لمّا كان يرفع إصبعه متهماً الحكام، أو ساكني القصور كما قال أكثر من مرة، فها هو الرجل العجوز الذي يفني عمره ويقضي وقته لإسعاد وإطعام بضعة حمامات ضعيفات يبحثن عن فتات خبز، أليس هو من ساكني القصور؟!!! فكيف تريدني تصديق أقواله؟ لكن دعك من هذا وانظر ماذا سمعت عند رجوعي مرتاحاً من المرحاض أعزك الله، إلى حيث كنت أمام باب غرفة التحقيق، فاتحاً بابه مخبراً عن قدومي، متحملاً كلمات الضابط الذي عبر عن إحتجاجه قائلاً ” جيت؟الله لا يجيبك… إرتزي بره”…

و”إرتزيت”كما أمر، لكنني كنت قد رأيت وسمعت، رأيت كيف كانت عيناه تلمعان من تحت شعره الكثيف، حين كان الضابط الكبير ناظراً إليه محاولاً تفسير كل كلماته وحركات جسده، ومن على الكرسي المقابل سمعت ماذا سأله ضابط كبير آخر ، قائلاً:

ـ لماذا أخذوك جريحاً للكنيسة وليس للمسجد؟ أأنت مسلم أم مسيحي؟

سمعته بأذني عندما توتر كما لم يكن من قبل، وهاج وماج وقال للضابط:

ـ وما علاقتك أنت بديانتي؟ هذا الأمر بيني وبين الله ولا دخل لأي كان به، الزموا حدودكم ولا تسألوا مالا يعنيكم…

ولم يقل له حينها “ياسيدي”، فقال الضابط الأول مجدداً حازماً متشككاً:

ـ أجئت لتعمل علينا بطلاً أيها اللص المتشرد؟ لو كنت ذكياً، ومادمت قد قررت السرقة، فما كان عليك إلّا أن “تسرق جملاً”؟ لكن رائحة غبائك تزكم أنوفنا…

وانهال بكفه فوق وجه الرجل “الأكتع”، فتح الباب النادل في تلك اللحظة بالذات، ليدخل بكؤوس الشاي لطاقم التحقيق، فرأيت كيف تلقّف “الأكتع” بيده المتبقية يد الضابط ممسكاً بها مثل ملزمة، وقال:

ـ لو فعلتها ثانية سأكسرها لك، أفهمت؟

وظل قابضاً على يد الضابط وقال دون أن يترك يده:

ـ لم آت لأعمل بطلاً على أحد، مثلي لا يفتعل شيئاً ليس به، لأنني في الأصل بطل فعلاً، ولو كنت لصاً و”سرقت جملاً” كما تقول، لربما كنت في مكانك الآن… سيدي.

كانت كلمة سيدي هذه المرة، أكثر استهزاءً من أي مرة أخرى، ثم أفلت ذراعه، وأكمل الضابط بالعاً الأهانة:

ـ لقد ألقينا القبض عليك متلبساً، كسرة الخبز ما تزال في جيبك أليس كذلك؟

ـ بلا، لكنني لم أسرقها، أنا وجدتها على الأرض، قطعة ناشفة جافة ملقاة في وسط الشارع…

ـ لكنها طعام الحمام، نعم الحمام، رمز السلام والمحبة والتعايش، لكن مثلك من تعود أن يعطي قيمة للرصاص، لا يمكن أن يفهم ماذا يعني ذلك، كما أن الرجل العجوز الطيب القاها للحمام وليس لك أنت، وأنت تجرأت على الحمام فأرعبته وأخذت أكله…

قال الضابط مؤنباً “الأكتع”، الذي دس يده في جيبه وأخرج كسرة الخبز وقال:

ـ أيمكن للحمام أن يأكل مثل قطعة الخبز هذه سيدي؟

كانت القطعة بحجم نصف الكف، الأمر الذي جعل الضابط يكمل التحقيق دون تعليق مهم:

ـ يمكن أو لا يمكن، أنت سرقت الخبزة وأرعبت الحمام، وعقابك السجن….لكن قل لي من أين أنت؟ فأنت لا تملك حتى اثبات شخصية.

ـ من المخيم سيدي…

ـ أي مخيم؟ المخيم الصيفي؟

قال الضابط مستهزئاً، حين رد “الأكتع” مجيباً:

ـ لا يا سيدي، مخيمنا شيء آخر يختلف عمّا في ذهنك، مخيمنا بدأ بالخيمة والطين والبرد والأمطار، ثم تحول الى طوب وصفيح وأمطار وبرد ومجاري وأزقة ضيقة وأشباه طرقات، إلى وكالة للغوث والتدجين ومحاولات تمرير الأمر الواقع، بيوت صغيرة سيدي لكن يسكنها عدد كبير من الناس، كما جاء في مناهجكم الجديدة سيدي” تجمع بشري كبير” بعد أن أسقطم عنه، معهم، جميع ميزاته وأبقيتموه عارياً…سيدي

وأشار بإصبعه الى فوق مرة جديدة… وأكمل:

ـ وما دمت ترى أن السجن مكاني المناسب، إذن فليكن السجن، أتعتقد أن “مَنْ تحت المزراب يخشى من المطر”؟!!! رحمك الله ياطرفة بن العبد:

” وظلم ذوي القربى أشد مضاضة        على المرء من وقع الحسام المهند”

فقال الضابط الأول متفاجئاً بالرجل “الأكتع”، وكأنه لم ينتظر أن يحوي رأسه أكثر من أطياف جهل وغباء:

ـ ماذا قلت؟ أعد…

ـ ليس مهماً سيدي، ليس مهما…

صار الضابط يشعر أن من أمامه ليس رجلاً معتوهاً كما يبدو، فحاول أن يسأل ليتعرف عليه أكثر، قال:

ـ لماذا لم يساعدك من أعطوك البندقية إذن؟

نظر في أعماق عيني الضابط، وقال وكأنه ينتزع سكيناً غرسه الضابط بسؤاله في قلبه:

ـ لأنهم يقتلون الخيول سيدي، يقتلونها بكل أشكالها وأنواعها وحجوما وجنسها، فالحصان إن ترافق مع المهرة يخلقون الزلازل ويفجرون البراكين، لذا يقتلونها وهي ماتزال تسير، وهي جامحة شامخة، يقتلونها وهي ما تزال تعدو، يقتلونها فرادى وجماعات، فالخيول تظل تحن الى أرض المعركة، وإن لم يصحبها أحد تعود وحيدة الى هناك، تظل تصهل وتعدو وتحفر الأرض بحافرها، وإن منعتها تغضب وتصهل وتقطع الحبال وتعدو في البراري والسهول، لذا توجب قتلها، ومطاردة مُهُرها قبل أن تشب وتكبر وتتعلم العدو والصهيل، فهي تذكرهم بواجباتهم التي أغمضوا عنها عيونهم.

وسكت هنيهة وأكمل أسئلة إستنكارية لم ينتظر عليها أي جواب:

ـ أما زلت تسأل لماذا سيدي؟ ألم تسمع ب”الأم التي تقتل أبناءها”؟!!! أُدرك أنهم قد غيروا الزمن وقلبوا المفاهيم، وأنهم قتلوا الخيول الأصيلة وروضوا بعضها محولينها بإرادتها إلى بغال، ونقلونا من زمن الخيول الأصيلة الى زمن البغال والحمير، وفي مثل هذه الأزمان يصير قتل الخيول، وفي وضح النهار، واجب ، فرؤية الخيل تصهل وتعدو تذكرهم بزمن لا يريدون تذكره… لكن أتعتقد أن هذا الزمن سيستمر طويلاً سيدي؟!!!.

كان الباب مغلقاً في تلك اللحظات، وسرعان ما فُتح ليأخذ الضابط عناويننا وأسماءنا، للشهادة على سارق أكل الحمام ومرعبه، وفي تلك اللحظة رأيت كيف عجز الضابط عن تقييد يده الوحيدة، فاستعاض عن ذلك بتقييد قدميه، ولشدة خطورته قيدوا يده الوحيدة بالقدمين أيضاً، وقال الضابط وهو يسحبه إلى خارج الغرفة لأحد المجندين:

ـ إياك أن يهرب منك…إنه خطير…                                                                                                                                           *            *            *

عدت الى بيتي ذلك المساء، بقيت أفكر في ذلك الرجل، رث الثياب فقيرها، “أكتع” اليد حاد البصر كصقر بري لن يتروض أبداً، والذي منع عن عيني النوم معظم مساحة الليل كله، وأنا أقلب كلماته داخل حجرات رأسي.

ولأن “الطبع غلب التطبع”، عدت الى طبعي للخروج في صباح اليوم التالي، للإستلقاء تحت تلك الشجرة لأراقب الرجل الصالح وهو يطعم الحمام، وفعلاً خرج من قصره، حاملاً أكل الحمام في كيس بلاستيكي، وأنا أراقبه كيف ينثره لها، والحمام يأتي بأسرابه بين يديي الرجل العجوز وبين أقدامه، ويكون قد عاد الى مغادرة حذره، واثقاً بالرجل البشوش الطيب، آكلاً من بين يدي هذا الرجل العجوز، ومنذ خرج العجوز من قصره، كان أكثر بشاشة وحيوية وابتسام، لم ينتظر ليصل إلى مكانه تحت الشجرة، بل صار يلقي الحبوب منذ خروجه من بوابة قصره العملاقة، في الشارع والطريق وضفتيه، استغربت لما رأيته يطعمها بحبوب لا أعرفها، لكنني “حسدته” على كرمه، كيف يشتري للحمام الحبوب إن نقص الخبز من بيته!!! وكدت أذهب لحد بيته لأهنئه وأقبله.

لم يمر طويل وقت، حتى بدأ الحمام يترنح في الطريق وعلى جانبيه، ثم يقع على أحد جنبيه أو ظهره، وبعض اللواتي حاولن الطيران منها، خدعتاه جناحاه اللذان أصابهما الوهن والخدر، ووقعت على سطح بيت العجوز أو في حديقته الخضراء، فأخذ العجوز يصرخ بالعاملين :”إحذروا أن يتسخ القصر، إذبحوها في الخارج قبل أن تموت، إياكم أن يتشوه وجه الحديقة الأخضر ويتسخ، كي لا أخصم ما تبقى من راتبكم هذا الشهر”، واستل سكينه وأخذ يذبح بدوره الحمام الغائب عن الوعي، يلقيه أرضاً ليخفي التراب دماءه النازفة، ويتمتم مع نفسه ” ما كان يجب أن تطعمهن هذا الكم من المواد المخدرة، نصف الكمية كانت تكفي…كيف استطعت أن تنفق كل هذا المال؟!!!” ثم أحضر أكثر من عامل من قصره، ابتدأوا يجمعون جثث الحمام المذبوح الهامد داخل أكياس بلاستيكية ويدخلونها داخل القصر.

كان الرجل العجوز يأكل الحمام ويأكل عظمه الطري على أسنانه الإصطناعية الماضية، يأكل حتى حد ما فوق التشبع، فالعجوز يحب الحمام ولحمه، يسند ظهره على ظهر كرسيه على طاولة السفرة، يأخذ نفساً عميقاً، ثم ينقضّ على الحمام المحمر الذي أمامه، ويبدأ الأكل وكأنه ابتدأ لتوه، كما وصف لي صديقي العامل داخل القصر عنده، منذ ما يزيد على شهرين بقليل، ثم يأخذ يلعق ما علق فوق أصابعه، مدخلاً أصابعه داخل فمه، أو مخرجاً لسانه ليلعق ما تبقى فوقها من بقايا طعام، وكأنه يستهزئ بعقل الحمام الذي صدق خديعته. دون أن يفقد ابتسامته لحظة واحدة طيلة فترة غدائه.

قام من على طاولته، وقال:

ـ يقول المأثور الشعبي ” تغدى وتمدى، تعشى وتمشى”، لا أريد أن أسمع صوتاً الآن، جاء وقت قيلولتي بعد هذه الوجبة الدسمة… يا أبو محمد… حضِّر الخبز لأطعم، صباح غد، هذا الحمام المسكين الذي لا يجد من يطعمه… “إفعل الخير وارمه البحر” يارجل ، لا تنسَ أبداً هذا الأمر…

واستلقى على كنبته الفارهة بعد أن غسل يديه بالماء دون الصابون، مسحهما بفوطته الصغيرة، ثم صار كعادته يشم رائحة لحم الحمام الطري المتشبثة بيديه، وبقع الدم ما تزال متشبثة بساعديه وفوق قميصه…

عدت إلى بيتي مغموماً ذلك النهار، وقد اتخذت قرارين مهمين، أولهما أن لا أتقدم لوظيفة في قصر العجوز، وأن لا أشهد ضد الرجل “الأكتع” مهما هددوا أو حاولوا إجباري، ولسبب ما تذكرت المرحومة أمي، فقررت أن أزور قبرها وأقرأ الفاتحة على روحها الطاهرة…

محمد النجار

ب”التركي” الفصيح…

إستحضر الرئيس التركي أردوغان السيد خالد مشعل لأنقرة، أبلغه بما أتمّه من صفقة مع الكيان الصهيوني، نصحه، كما ذكرت بعض وسائل الإعلام، باللقاء مع رئيس الموساد، ورغم تأكيد البعض بوقوع الإتصال، إلا أن هذا بعيدا عن موضوعنا، فأردوغان الذي لم تنقطع علاقاته يوماً واحداً مع الكيان العبري، ولا مع اللوبي اليهودي في بلاد العم سام، وكان التاجر “الشاطر” والرابح الأكبر لبيع نفط سوريا والعراق للكيان العبري، بشركات أولاده وصهره، وقبض الثمن على كل “رأس” من الإرهابيين الذين ادخلهم لتدمير سوريا والعراق، كما وثمن كل قطعة سلاح أو آلية أدخلها لهما، وتطور في عهده التبادل التجاري مع “إسرائيل”إلى حوالي ثلاث أضعاف ما كان عليه قبل وصوله للسلطة، رغم كل الضجة والضجيج والمزايدات على القضية الفلسطينية، “ورغم أن تدمير سوريا والعراق بالتأكيد ليس في صالح القضية الفلسطينية”، التي طالما تغنى بها أردوغان نفسه.

والإخوان المسلمون ،كعادتهم، لم يحتجوا ولو بكلمة واحدة على محاولات أردوغان، على مدى عمر الأزمة السورية، اقتطاع الشمال السوري ليلحقه بتركيا، ولا لمطالباته الوقحة بالموصل ليصير جزءا من تركيا، وبالمقابل لم يتذكروا يوماً إغتصاب تركيا للواء الإسكندرون السوري، الذي ضموه لتركيا بالإتفاق مع بريطانيا، عند تقاسم “الغنائم” المحتلة سابقاً من الدولة العثمانية… لكن كل هذا بعيد عن موضوعنا.

وما أن عرف جماعة الإخوان المسلمين بأمر الصفقة، حتى قبل أن يعرفوا تفاصيل ملحقاتها السرية، ورغم أن “بطلهم” أردوغان تنازل عن قَسَمِه ووعوده بما يخص رفع الحصار عن قطاع غزة، إلّا أنهم انبروا للدفاع عن “إمامهم” ب”الباع والذراع”، لدرجة شبهه البعض منهم بالرسول الذي قام بصلح الحديبية، وأن صفقته تخدم الإسلام والمسلمين، وتخدم القضية الفلسطينية حتى وإن بدى غير ذلك، ومن جديد وكعادتهم، يوظفون الدين لخدمة تبرير أفعالهم المشينة، بدلاً من سياسة النقد والنقد الذاتي التي يمارسها معظم الأحزاب السياسية بغض النظر عن توجهاتها وعقائدها، لكنهم وكونهم ينظرون لأنفسهم كوكلاء “حصريون” لله على الأرض، لا يحق لأحد منازعتهم عليها، وربما لا يحق للخالق نفسه إلغاء هذه الوكالة! فإن إعترافهم بالأخطاء ينزلهم في نظر معظم “القطيع” الذي يصدقهم، من المنزلة “الربوبية” إلى المنزلة “الطينية” التي يتشكل البشر منها، فيظهروا على حقيقتهم، التي ليس لها علاقة لا بالآلهة، ولا بالبشر في أحيان كثيرة. لكن كل هذا بعيد عن موضوعنا أيضاً.

لم تتوقف نرجسية أردوغان يوماً حتى وهو في قمة ذُله، وبدلاً من أن يفسر أويبرر سبب خضوعه وخنوعه للكيان الصهيوني الغاصب،  فأخذ يخاطب، متوعداً، الذين أشرفوا على سفينة مرمرة، صارخاً “مَنْ الذي سمح لكم لتفعلوا ذلك؟ هل أخذتم الإذن لتقوموا بذلك؟”، يعني جعل الضحايا من المناضلين هم المذنبون، حتى لوكانوا أتراكاً ومنهم الشهداء والجرحى !!! ولم نلحظ أيضاً أي تعليق على هذا الأمر من كل جماعة الإخوان المسلمين، وكأن شيئا لم يحصل ولم يُقال، وقبل ذلك، قام أردوغان “صاغراً”، بالإعتذار عن إسقاطه الطائرة الروسية، ووعد بأشياء كثيرة “خصمه” الروسي، رغم كل جعجعته ورفضه الإعتذار طوال الفترة الماضية، وأيضاً لم نسمع لو مجرد نقد أو عتاب من كل زعامات الإخوان المسلمين في كل الأقطار التي يتواجدون فيها، لكن هذا أيضاً بعيد عن جوهر موضوعنا.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ماذا لو جاء “أو سيجيء” في الإنتخابات حزباً آخر بقيادة أخرى غير قيادة الإخوان في تركيا، وقام “أو سيقوم”بما قام به أردوغان، يعني، إعتذر للروس باسم تركيا عن اسقاط طائرتهم وقتل طيارهم، وعقد الصفقة المخزية مع الكيان الصهيوني، وتنازل عن رفع الحصار عن غزة، ورفض تنفيذ سياسة أمريكا وحلف الناتو في المنطقة، من سياسة تقسيم سوريا والعراق، ألا يصبح في نظرهم وإعلامهم وتنظيراتهم أنه دكتاتوراً وفاسداً، ما دام ليس من “قبيلة” الإخوان، وسيتذكرون فجأة لواء الإسكندرون المحتل من تركيا؟!!! تماماً كما يفعلون مع إيران بعد سقوط الشاه الذي كانوا يلعقون قدميه صبحة وأصيلا، وربما لم تكن إيران “شيعية”في عهده؟!!! لكن هذا بعيد عن موضوعنا أيضاً.

صدرت، قبل أيام من توقيع الصفقة الأردوغانية ـ الصهيونية، تصريحات متتالية، لأكثر من مسؤول من قيادة  الإخوان المسلمين، فرع فلسطين”حماس”، سواء داخل غزة أو خارجها، بالإطراء على طهران، واصفينها بأنها الداعم الحقيقي للمقاومة، تسليحياً ومالياً، نفس الشخوص الذين طالما امتدحوا قطر وآل سعود والسودان و…إلخ، متجاهلين دور إيران حضورها الدائم بشكل متعمد، منكرين ومستكثرين تصريحات “مناضلي القسام”، حينها، الذين لطالما أعطو إيران حقها في هذا المجال، وتساءلت مثل الكثيرين، مع نفسي، لماذا تأكيد المؤكد هذا، لماذا الآن وفي هذا الوقت بالذات؟ ورأيتني أحيل أسباب ذلك لعدة أسباب منها:

  • أن هؤلاء أرادوا الضغط بطريقة فاشلة على قادة الكيان، بأنه إن لم يتنازل بشيء ما لأردوغان، فإنهم سيتجهون إلى إيران، يعني إحفظي يا”إسرائيل” ماء الوجه لقائد العثمانية الجديدة أردوغان، كي نبقى تحت إبطه، وإلا فإنكِ تجبريننا للتوجه إلى عدوك اللدود إيران.

*أمر آخر ربما يكون وراء ذلك، هو أن قيادة الحركة تعرف جيداً أن إيران ، وبعد موقفهم، من سوريا واليمن وتحريضاتهم المذهبية والطائفية في فلسطين، ربما جعل إيران تدعم القوى الأكثر جذرية في الساحة الفلسطينية، على حساب دعمهم، الذي لم ينقطع أبداً ولكنه، ربما، تراجع قليلاً، الأمر الذي قد يطيح بزعامتهم من القطاع، فكما تقول بعض المصادر، أن إيران دعمتهم بثلاثمائة مليون دولار في ثلاث سنين فقط، يعني لو إمتلكها أي حزب أو تنظيم آخر سيجعل لديه جيشاً جراراً، وسيفرض قوته على الأرض دون كثير من الجهد.

  • الأمر الآخر الذي يجعلهم يتنافسون في هذا المديح، أنه وبعد الرفض المتزايد لبقاء خالد مشعل في منصبه على رأس المكتب السياسي لحماس، وتتزايد المطالبة في تغييره في مؤتمرهم القادم، فإن الكثيرين يريدون الوصول لهذا المنصب، وكون “القساميون” لهم وزنهم وكلمتهم، فمن يريد تبوء هذا المنصب عليه أن يقدم أوراق إعتماده لهم أولاً وقبل أي شيء آخر، وهؤلاء الذين رفعوا إسم حماس عالياً، ولولاهم لظلت الحركة لا تعدو عن فرع للإخوان المسلمين في أي بلد آخر، لا بل هؤلاء القساميون هم النقطة المضيئة الوحيدة في تاريخ حركة الإخوان المسلمين في العالم كله، وعلى المتبارزين في سباق رئاسة الحركة، تقديم ما يُرضي هؤلاء، مرحلياً على الأقل، لأنهم “الإخوان” كصاحبهم وقائدهم أردوغان، سيفعلون ما يريدون ويتغيرون ويتبدلون ما أن تنتهي الإنتخابات… لكن هذا بعيد عن موضوعنا أيضاً.

إذن ما هو الموضوع، ما دام كل ما سبق بعيداً عنه؟ الأمر بإختصار شديد، أن قيادة الإخوان تعرف أردوغان جيداً، فهو منهم وإليهم، مثلهم تماماً، حرباء تُغير لون جلدها كلما غيرت مكانها، يعني “إذا الريح مالت مال حيث تميل”، كما قال الشاعر الإمام الشافعي، وهم يتناسون الشطر الأول من البيت ” لا خير في ود إمرء متلونٍ”، لأنهم كلهم متلونون بكل ألوان الطيف، وكلهم لو كانوا مكانه لفعلوا الأمر نفسه، فهم لا ذمة ولا ضمير ولا موقف واحد ثابت من شيء، لا موقف مبدئي إلا إذا خدم مصالحهم، والوطن لا يعدو أرضاً من أرض الله لا أكثر ولا أقل، أهميتها في كونها بقرة حلوب لمصالحهم ومشاريعهم، وكله بالطبع بشعارات الدين والقرآن والسنة، ففي اليمن كانوا مع علي عبدالله صالح حتى قامت الثورة، فتحولوا لهادي حتى سقط، وكانوا كلما توصلوا لإتفاق مع أنصار الله وباقي قوى اليمن، ولوح لهم آل سعود بالريال تراجعوا عما وقعوا عليه. وها هم يؤيدون عدوان آل سعود على شعبهم وتاريخ اليمن وحضارته. وفي مصر عقدوا صفقة مع السادات لضرب قوى اليسار، ثم تحالفوا مع مبارك ورفضوا المشاركة في الثورة حتى قبل سقوطه بأيام، ثم عقدوا صفقة الحكم مع العسكر، الذين عادوا لينقلبوا عليهم بمساندة شعبية “قرفت” منهم ومن أفعالهم في مدة لم تتجاوز عام واحد فقط، رغم كل الشعارات الدينية لشعب مؤمن بفطرته و70% منه أمياً وتحت خط الفقر المدقع، فما بالك لو كانت نسبة الجهل تقارب الصفر كما كانت في عهد المرحوم عبد الناصر؟!!! كذلك الحال، شكل لنا خالد مشعل عصابة”أكناف بيت المقدس” في مخيم اليرموك، واستحضر لنا جبهة النصرة التي استحضرت بالمال الدواعش، ليقتلع شعبنا من أكبر تجمع فلسطيني، رمز “حق العودة” ويدمروه على رأس قاطنيه، ليعيدوا تهجير من نجا من سكانه في بلاد العالم باسم الدين، والمخيم الذي ناهز ال180 ألفاً، لم يعد به ثمانية آلاف، بعد ما قدمت لهم، على وجه التحديد، سوريا من دعم غير محدود…. والأمثلة على ذلك كثيرة منذ نشأتهم بقرار من “بريطانيا العظمى”حتى هذه الساعة، فهم لم يكونوا يوماً إلّا في صف الثورة المضادة، لم يكونوا يوماً واحداً في صفوف شعبهم أم معه، وكل ذلك مبررا بالدين والشريعة وبإسمهما. لذا نقولها بالصوت العالي، وب”التركي” الفصيح، ما دام “هيدا العربي ما بفيد”كما قال الفنان الكبير زياد رحباني، أنكم ورغم كل نفاقكم، واستخدامكم الإنتهازي للدين، وبعد تدميركم لأوطاننا ولأوطان غيرنا أيضاً، وبعد تهجيركم مسيحيي شعبنا العربي، ومسلميه خاصة “السنة” منهم ،والذين تدّعون الإنتساب إليهم، وقتلهم في البيوت والطرقات والصحاري، وبعد سبي نسائنا من غير ديانة، واغتصاب “السنيات منهن” بمسمى جهاد نكاحكم، حتى للأب مع إبنته ياقذارات الأرض، ووليتم علينا العثمانية الجديدة دون استشارة من الشعب أو حتى استمتزاجه، رغم أن العثمانية القديمة هي مَنْ أوصتنا إلى أذيال الأمة بعد أن كنا في طليعتها، واُخرجوا من بلادنا تاركين شعبنا أسوأ من الزمن الذي دخلوا به واحتلوه، يعني أسوأ مما كنا عليه قبل أربعمائة عام!!!، هذا بعد أن نهبوا ثروات بلادنا وخيراته، وأخذوا رجالنا وقوداً لحروبهم مع شعوب العالم، وأخذوا أطفالنا كجنود للمستقبل، ودمروا حضارتنا وأقاموا المجازر ضد شعبنا وشعوب الكثير من العالم، وغادرونا بعد أن سلموا بلادنا للإستعمار الجديد، وبعد أربعة قرون لم يبنوا فيها جامعة ولم يقيموا مشفى، ولم يعبدوا طريقاً ولم يحفروا بئراً. وها أنتم ما زلتم تنتجون كل الحثالات البشرية من أكلة لحوم البشر وقلوب الناس، وقاتلي أبناءنا الأسرى ومنكلين بهم، تماماً كما فعل الصهاينة في فلسطين، ووزعتم دماءنا في كل بقاع الأرض، من أفغانستان إلى باريس إلى اليمن والصومال، لكننا لم نسمع عن صولات وجولات لكم مع الصهاينة في فلسطين منذ قرن كامل.

وأخيراً، وليس آخراً، لماذا لم نرَ الإحتفالات بيوم القدس، نعم القدس التي تقع في فلسطين وتحوي المسجد الأقصى إن كنتم ما زلتم تتذكرون، إلا في الدول “الشيعية” ومن ال”الشيعة” عرباً وفرساً، كما في تونس المعادية لمشروعكم الإخواني، وفي سوريا والعراق واليمن الذي تدمرون، ولم نرَ ولو مظاهرة واحدة في بلدانكم “السنية” الداعمة للقتل في بلادنا، من دويلات الخليج أو مملكة آل سعود، أو تركيا قائدة “التدمير” في بلادنا “الكافرة”؟ !!! أم أن القدس والأقصى يتبعون “الشيعة” وليس “السنة”؟!!! كي لا نقول لماذا لم تدعموا الشعب بالمال والسلاح بربع ما دعمتم الحثالات البشرية التي تُقتل بشعبنا وتدمر أوطاننا؟ وكما تدعمون القتلة في سوريا والعراق وتونس والجزائر ومصر واليمن و….و…و….

نقولها بكل وضوح، أن نهايتكم السياسية تلوح في الأفق، فالشعوب لن تسامحكم عما فعلتموه وما زلتم بأموال النفط المنهوبة من قِبل آل سعود، قسمتم بلادنا إلى “سنة وشيعة وعلويين ودروز و…و… من الملل والمذاهب والطوائف، وإلى أديان من “مسيحيين ومسلمين” وقوميات”عرب وأكراد”، وقتلتم الجميع بما فيه من تدعون أنكم إليهم تنتمون، فالقطيع بعد أن بدأت تتضح له الرؤيا لن يظل، على الأقل، كله قطيعاً، فمرحلتكم في أفول ومستقبل شعبنا تبنيه الدماء التي هدرتموها على مدى السنوات الماضية، وبالسواعد التي ما تزال تدافع عن الوطن العربي في وجه حثالاتكم البشرية … إنكم نسيتم  أو لا تعلمون، كونكم لا تقرأون ولا تعرفون تاريخ شعبنا العربي، أن طائر الفنيق ،كلما إحترق، يقوم من تحت الرماد، وطائرنا بدأ يتململ ويحرك أجنحته لينطلق محلقاً في السماء من جديد.

محمد النجار

“قوة الرئيس في ضعفه”…

جاءني الكهل أبو عمر مُجَدداً، حاملاً بيده، كعادته، لعبة صغيرة لإبنتي، وجريدة لم أعد أذكر إسمها، رماها أمامي على الطاولة وهو يضحك بدموع مدرارة، لم أدرك حينها أبسبب الفرحة الكبيرة أم الحزن اللامتناهي، فأزحت الجريدة جانباً من أمامي، وشكرته على هديته، وأصغيت لما يريد قوله، غير مدرك أن الجزء الأساس فيما يريد قوله ينام متمددا في بطن “جريدته” تلك، ولما رآني أزحتها جانباً، أوقف ينبوع ضحكاته وأبقى على دموعه تتسايق للوصول إلى تجاعيد وجهه، قبل أن يُوزّعها على مساحة وجهه بظاهر يده، وقال وكأنه جاء مُصادفة فقط، وليس خصيصاً ليراني، ويُروّح قليلاً عن نفسه:

ـ ما هي آخر الأخبار يا أستاذ؟

تربطني بهذا الكهل علاقة غريبة نوعاً ما، فلا صلة قرابة بيننا ولا صداقة ربطتني، في سابق الأيام، مع أولاده الذين هم بمثل سني ومن جيلي، ولست من مخيمه القابع على مدخل المدينة لإستقبال كل قادم وزائر إليها، وكل ما في الأمر أننا إلتقينا مرة واحدة، واحدة فقط، في زيارة لأحد السجون، هو لزيارة حفيده الشاب وأنا لزيارة أخي، تجالسنا في مقعدين متجاورين في باص الصليب، دردشنا في أمور شتى، في السياسة، في أمور الناس المعيشية، في ظروف وحاجات الأسرى وهمومهم، وكان أكثر ما شرح صدره حينها، كما أذكر، تلك الإرادة “الهائلة”، كما سمّاها، لبناتنا ونسائنا، اللواتي يُهربن السائل المنوي من رجالهن لينتصرن على مشروعهم القاتل، بمشروعنا الحياتي الإنساني، وهن ، كما قال، يستطعن الإنفصال والزواج والإنجاب، بعيداً عن كل هذه الهموم، دون أن يخشين لائمة أو عتاب، ولما قلت له “أنها االإرادة والتحدي التي طالما إنتصرت على القمع والقهر وكل مشاريع الموت، التي تنتهجها “هذه الدولة” ودول العرب جميعها”، نظر إليّ مستغرباً بعض الشيء وقال: “إنه الإخلاص والأصالة قبل ذلك كله”، ثم التقط جرعة هواء وأضاف: ” إنهما الأصل في كل ذلك، لولاهما لما كان ما ذكرت أبداً”.

وسرعان ما إلتقينا بعدها في المدينة، وكنت قادماً لمكتبي الهندسي، ولا أعرف ما الذي إستحضره في تلك اللحظة بالذات، وما أن رأيته حتى توجهت إليه ودعوته لمكتبي ليشرب شيئاً، فهو من الكهول الذين لا تملّ أبداً من الجلوس معه، ولا يغادرك ولو مرة واحدة دون أن يترك أثراً أو بصمة، كما أنه من القلائل الذين لا يمكنك نسيانهم بسهولة.

وقبل دعوتي شاكراً “لطفي”، وكانت دعوتي تلك جسرا يربط بيننا، وصارت أحاديثنا تُمتّن هذه العلاقة وتقوي الجسر، بعد أن تكررت زياراته لي بشكل متباعد، وفي كل مرة كان يحمل شيئاً ليخبرني به، كما لعبة صغيرة لإبنتي مها، التي أخبرته عنها وعن عمرها في لقائنا الأول… ولم يأت يوماً لمكتبي بيدٍ فارغةٍ أبداً.

قلت وقد مددت يدي بكأس عصيرٍ أمامه:

ـ الأخبار كثيرة يا أبا عمر، ولا أدري كيف يحتملها الناس؟!!!

فقال مؤكداً قولي:

ـ صدقت والله يا أستاذ، كيف يحتملها الناس فعلاً؟!!! إن كل ما فعلوه لم يريدوا منه سوى خلق حفنة من المرتزقة المسحجين للرئيس وحاشيته، وشعب من البُلداء وغير المبالين، الذين لا يعرفون أكثر من “شعار” اللهم نفسي، ونجحوا في الأولى كما ترى، لكنهم فشلوا في الثانية وإن بدا أحياناً أن الناس مُحبطين… أم بماذا يمكن أن تُسمي تصريح الرئيس بأن” مُنفذ عملية تل أبيب إرهابياً ويجب إعدامه”؟!!!، هذا الكلام لم يقله الرئيس عن أي مجرم منهم، ولم يطالب يوماً بإعدام من أحرقوا أطفالنا ولا من قتلوا نساءنا وأولادنا… وتجد المرتزقة والطفيليين يسحجون ويكررون كالببغاوات ما يقول، ويبررون أقاويله ويفسرونها ويشرحونها وكأنهم يفسرون “القرآن الكريم”، معتقدين أن الشعب سيبتلع تفاهاتهم ويظل بالعاً لسانه ومقيداً يديه إلى الأبد.

كعادته، إبتدأ أبو عمر الحديث مباشرة ودون مراوغة، فهو، كما بدا لي، لم يتجنب يوماً قول الحقيقة مهما بدت قاسية ومهما كان ارتدادها عليه سلباً، وإلا كيف يمكنك تفسير أن إنساناً يُعتقل إدارياً في مثل سنه؟!!! وأكمل وكأنه لم ينهِ حديثه بعد:

ـ وها هو نفسه يبعث مندوباً عن منظمة التحرير بجانب مندوب عن “الجيش الحر” وبعض الدول العربية، للمشاركة في “مؤتمر هرتسيليا للمناعة القومية” الصهيوني، يبعث أو يؤيد أو يتغاضى، لا فرق، عضو لجنة تنفيذية للمنظمة، أتتخيل ذلك يا أستاذ؟ منذ متى “المناعة القومية للصهاينة كانت مفيدة لفلسطين والفلسطينيين؟!!!

وسرعان ما ابتدأت تتسع فتحة فمه وتظهر عدة أسنان متباعدة في فمه، لتلد ضحكة مصاحبة لبضع دموع من عينيه مجدداً، وقال:

ـ منظمة التحرير؟!!! أما زالت تُدعى كذلك يا أستاذ؟ ألم يُغيروا إسمها بعد؟!!! قال التحرير قال!!!

سكت قليلاً وأطلق ضحكة جديدة وزخة دموع، وأكمل متهكماً:

ـ منظمة التحرير والجيش الحر!!! كلاهما حراً وللتحرير… أرأيت المصادفة يا أستاذ؟!!!

قلت عندما أبعد دموع عينيه وأوقف ضحكته:

ـ لكن الرئيس إحتج على تصريحات حاخاماتهم ودعوتهم “لتسميم” مياه الفلسطينيين…

فقال وكأنه يحتج على كلامي:

ـ وهل المطلوب أن يسكت على ذلك أيضاً؟ السؤال الصحيح ياأستاذ، لماذا لم يقدم شكوى للمؤسسات الدولية لحقوق الإنسان بسبب ذلك وغيره أيضاً، أليس ذلك “أضعف الإيمان”؟ فبالنسبة لهم إن إحتج الرئيس أو لم يحتج، إن قال أو لم يقل، فالأمر سيّان، يعني كما قال المأثور الشعبي” قروا أبناء يعبد والّا لعمرهم قرروا”، الأمر ليس في القول أو الإحتجاج، هل رأيت يوماً طريق عودة مرصوفاً بالكلمات؟ السواعد هي الأساس ياأستاذ، مهما كانت هذه الكلمات منمقة أو ملونة أو جميلة!!!

سكتنا قبل أن يرتشف شيئاً من كأس العصير الذي ظل واقفاً أمامه مثل صنم، وسألني وكأنه يريد أن يفتح باباً لتعليقاته أكثر من محاولات معرفة الخبر:

ـ ماذا جرى في مؤتمرهم ذاك؟

فقلت فاسحاً له المجال ليعلق كما يريد، ربما تقديراً لسني عمره أو لإعجابي بتعليقاته:

ـ “كبيرهم كيسنجر”مذعور على مستقبل إسرائيل، خاصة بعد أن صارت يد “حزب الله” تُناطح مخرزهم وتنتصر عليه أيضاً، ورغم كل جبروتهم لا يستطيعون كسرها…

فقال مباشرة ودون تردد:

ـ ليبقى مذعوراً إذن، وما دام هذا مذعور، عليهم أن يقلقوا فعلاً بشأن مستقبل دولتهم…. وماذا أيضاً ياأستاذ؟

ـ يقول قادتهم أنهم لن يسمحوا للجيش السوري بالإنتصار على الدواعش والقاعدة في سوريا، فهؤلاء لم يفعلوا شيئاً ضد إسرائيل، ولن يستبدلونهم بإيران وحزب الله كما يقولون…

قلت مكملاً ما بدأته، وانتظرت تعليقاته من جديد:

ـ طبعاً يا أستاذ، أم لماذا تعتقد أن أمريكا تحاول إدراج “جبهة النصرة، تنظيم القاعدة في بلاد الشام، ضمن ما تُسميهم التنظيمات المعتدلة؟ ولماذا كل هذا التدفق بالسلاح النوعي والآلاف من المرتزقة والأموال من آل سعود والحدود التركية المفتوحة، في الوفت الذي يُحاولون فيه تجفيف كل منابع حزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية،  المالية والتسليحية ؟ ولماذا التدريب والعلاج من “إسرائيل”وفيها؟ أم أنك تعتقد ان كل ذلك عملاً خيّراً؟ هؤلاء لم يكونوا يوماً جمعيات خيرية، إنهم قساة الأرض ومجرموها، لكن ما داموا يعلنون ذلك على الملأ، هناك سببان ياأستاذ، أولهما كونهم لم يعودوا يحسبون حساباً لشعوبنا، معتقدين أنهم ليسوا أكثر من قطيع غنم أو ماعز، وهذا ما يؤلمني، لكنهم في نفس الوقت يستشعرون خطراً جدياً على مشروعهم التكفيري في المنطقة، الأمر الذي يعني أن في هذه الأمة بقايا رجال، تغرق على أبواب سواعدهم كل هذه الحثالات.

قال واقترب بالجريدة ووضعها أمامي مجدداً:

ـ أرأيت هذا يا أستاذ؟

أخذت الجريدة من يده، وبدأت أقرأ الخبر الذي كان يتصدر الجريدة، وكان يبدو مكتوباً من أحد “المسحجين” الذين شغلهم الشاغل “إستحمار” البشر ، ووضع أنفسهم في مكان المكتشفين أو الفلاسفة. وبإختصار شديد، كان الموضوع يتغنى بالرئيس، ليس من حيث طوله أو عرضه، ولا عن “عبقريته” في التوصل إلى إتفاق “أوسلو”، ولا “شطارته” وجمعه لكل ثروته، ولا عن عمله ليلاً نهاراً ليشكل كل هذه الشركات لأولاده وأحفاده وبكل رأس المال هذا …لا…لا … لا، بل كونه “أخطر رجل دبلوماسي على إسرائيل”!!! أتلاحظ معي؟ الأخطر دون جدال أو منافسة، فعلاقات إسرائيل “السيئة” مع أصدقائها بسبب حنكته!!! وتنازلاتهم للفلسطينيين دون أي مقابل بسبب سياسته!!! وتقهقر وضعها الأمني بسبب هذه السياسة أيضا!!!

شعرت وأنا أقرأ أننا نحن من ندخل مدنهم ونقتل أطفالهم، وأننا نحن من نصادر أراضيهم ونبني مكان زيتونهم “مستوطناتنا”، وأن أمريكا ودول الغرب الإستعمارية تضغط عليهم لإرضائنا، ولوهلة ظننت أن الرئيس أخطر من كل الفصائل المقاومة، وأنه أخطر من الصواريخ والمدافع والرصاص.

ونظرت إلى أبي عمر الذي كان، على ما يبدو، يتدارس تضاريس وجهي، وأخذت أبتسم، وتتسع إبتسامتي لتصبح ضحكة تتعالى، وسرعان ما التقت بضحكة أبو عمر، التي إنطلقت مجدداً مفجرة لحفنة دموع، سرعان ما أزاحها قبل أن تنزلق في الهاوية ما بين نهاية خديه وجسده الضعيف، وأوقف ضحكته فجأة وقال محدثني بحكاية من حكاياته، فقال لكن من نهاية القصة هذه المرة:

ـ كان الرجل يحدث زوجته عن معركته مع خصمه اللدود في الحارة، وعلائم الهزيمة على وجهه وجسده، لكنه لن يعترف لها بهزيمته فقال لها متباهياً متنافخاً:” تعاركنا… فلاحني ولحته… ومن شدة قوتي أصبحت تحته… وانظري لعروق رقبتي من كثر ما خنقته…”!!!

وقام أبو عمر مودعاً، وكان قد أوقف ينبوع ضحكاته لكنه لم يستطع أن يوقف نزيف دمعاته.

محمد النجار

قبل حزيران بقليل

كنا ملتفين حول التلفاز في تلك اللحظة، وكنت قد أنهيت آخر إمتحان لدي قبل أيام ثلاثة من وصول أواخر أيار الى أوائل حزيران، ليسلّمه أمانة متابعة الطريق، مُحمله كيس الأيام على كتفيه ليمضي بها ويسير. قمت متاخراً من النوم كعادتي في أيام العطل المدرسية، شربت الشاي مع أمي وجدتي، فبقية أخوتي لم ينهوا عامهم الدراسي مثلي بعد، وللحق، فإنني بالقدر الذي أحب فيه الجلوس مع أمي، كنت بذات القدر لا أحب الجلوس مع جدتي، لكنني كنت أحاول التغطية على الأمر كي لا تغضب أمي.

أمي امرأة دائمة الحركة، ليست إلا نحلة تتنقل من مكان إلى آخر، تكاد لا تجلس أبداً، وفي معظم الأحيان لا تتناول طعام الإفطار معنا، وبالكاد تشرب الشاي، وبالتالي لا يشغلنها شيء سوى عمل البيت ، فمن غسيل الملابس والأطباق، لكيِّ الملابس لجميع أفراد البيت، لتهيئة الطعام ليكون جاهزاً مع موعد قدوم أبي من العمل، لتنظيف البيت وغسله، كما إنجاز متطلبات البيت ومشترياته… الامر الذي يجعلها لا تهتم ، أو لا تستطيع، متابعة التلفاز وبرامجه، كما تفعل جدتي، ومصيبة جدتي أنها لا تتفرج على أفلام أو مسلسلات أو موسيقى، بل شغلها الشاغل متابعة الأخبار، والأخبار فقط، ومن هنا تبتدئ القصة وتنتهي أيضاً ، فلولا عادتها هذه لما كانت هناك لا بداية ولا نهاية ولا كان هناك قصة أصلاً، وما تم ما تم.

تسكن عائلتنا في عمارة من طابقين إثنين، نقيم نحن في الطابق الثاني من شارع وادي التفاح في مدينة الخليل، فرندة البيت الأمامية تطل على الشارع الرئيس، وحمام البيت الخلفي يطل شباكه على شارعيين فرعيين في المنطقة، وجدتي التي تجلس في صالون البيت لا تفعل أكثر من تقليب صفحات التلفاز من محطة إلى أخرى، على نشرات الأخبار دون كللٍ أو ملل، نفس الأخبار التي ما فتئت سمعتها منذ لحظات.

كان الشارع الرئيس ممتلئاً بالناس على عادته في كل يوم، أناس يحاولون التصدي للمستوطنين الذين يملؤون المدينة، ويسيرون يستفزون الناس بعد أن سرقوا بيوتهم بمساعدة الجيش وأسلحتهم، بعد أن سرقوا الحرم الإبراهيمي وقسّموه، والناس الذين لا يملكون سوى سواعدهم وبضع حجارة من حجارة الجبل، ظلّوا يدافعون عن المدينة والكرامة، رغم الثمن الذي ظلوا يدفعونه بشكل يومي، وكان طلاب المدارس قد أنهوا يومهم وخرجوا للشارع، أطفال من جيلي، أكبر أو أصغر قليلاً، صاروا يقذفون الجيش المتسكع الذي يحمي مستوطنيه، والجيش الذي كان يُطلق قنابل الغاز والرصاص على صدورهم، كان ما يزال يطلق النار دون توقف.

وكوني لا أحب الأخبار ولا سماعها، أمسكت بهاتفي الخلوي وقمت إلى الفرندة وأخذت أُصوّر مشهد الجيش وراشقي الحجارة، كمخرج من الملل، كوني لا أستطيع أن أشاهد فيلما أو مسلسلاً لأن جدتي إحتلت شاشة التلفاز في صالون البيت، وشدني مشهد الجيش عندما ألقى القبض على “هيثم”، و”هيثم” هو أحد أبناء مدرستي الذي يصغرني بقبضة سنين، وجارنا ، في الوقت نفسه، القاطن في بيت مجاور، كان قد عاد لتوه من المدرسة، بعد أن أنهى إمتحاناته اليوم بالذات، متوجهاً إلى بيته، وأخذت أُصوّره متخيلاً كيف ستكون ردة فعله وانقباضات وجهه، عندما يطلقون سراحه وأريه “الفيلم” الذي وثّقت به إعتقاله وضربه، لكن الأمور لا تسير دائماً كما نشتهي أو نحب، فقد أخذ الجنود “هيثم”، أركبوه مقدمة الدورية العسكرية ليحميهم من حجارة الطفال، درع بشري كما يقولون، وتوجوا به إلى الشوارع الخلفية، حيث يمكنهم ضربه وإهانته دون متابعة وملاحقة من عيون الشهود.                                                                                                                      لاحقت فكرتي، وانتقلت من “الفرندة” إلى حمام البيت لأكمل التصوير، ومررت من أمام جدتي التي كانت ما تزال تتفرج على مشهد على الشاشة، وترغي وتزبد وتعلق وتقول، فسحبت كلماتها فضول عينيّ إلى الشاشة أثناء مروري…

  •     *       *

كان يحتل الشاشة تقريراً يظهر فيه الرئيس مرة وبعضاً من حاشيته مرة أخرى، يتحدثون عن السلام وما جلبه من أمن وأمان للبلاد والعباد، و”أننا نحن الفلسطينيون لن نوقف التنسيق الأمني مهما كثر الرافضون له، فنحن أعرف بمصالأح شعبنا من كل المزايدين”.

وعلقت جدّتي من بين بواقي أسنانها:

ـ طبعاً، أنتم الآلهة والشعب مجرد أصنام، وهل للأصنام كلام إذا ما تحدثت الآلهة؟!!! فمنذ قدومكم و”مصالح”       شعبنا محفوظة ومُصانه والحمد لله…

وأكمل المتحدث، ذو الصلعة الواسعة مثل طريق أسفلتي واسع في غابة هزيلة،حديثه:

ـ وسنعمل على ان يكون هناك تطبيعاً شاملاً من الدول العربية والإسلاميه، كما أكد سيادة الرئيس، إذا ما وافقت حكومتهم على “السلام”…

وعلقت جدتي من جديد:

ـ آه طبعاً، هذا “فوق البيعة”… يعني بالعربي “زيادة البياع”… فعلاً “الشحادة عادة”…و”وين ما ضربت الأقرع يسيل دمه، هذا إذا كان عنده دماً”

وأكمل المتحدث ذو الصلعة الواسعة التي تكاد تُغطي مساحة رأسه، متابعاً ومدافعاً عن مقترح الرئيس:

ـ تطبيع يخدمهم ويخدمنا ويخدم السلام، وأننا ،كإثبات حسن نية، نوافق على تبادل أراضٍ معهم…

فعلقت جدتي وكأنها مصرة على الرد على كل ما يقولونه، متوجهة بكلامها إلى شاشة التلفاز:

ـ ما هي قصتكم؟ تكذبون الكذبة وتصدقونها… تتحدث عن مبادلة الأراضي وكأنها أرض أبوك، ولا تخص هذا الشعب المسكين…صدق من قال” لا تاخذ من الأقرع نصيحة، لو ربك بحبو لجعل راسه صحيحة”

وسرعان ما قال شخص آخر، أظهره التقرير، غير الأول، لكن من الحاشية نفسها، يُكمل ما قاله صاحبه، لكن بصورة  تُظهره وكأنه متمايز عنه:

ـ أنا لا أتفق مع هذا الرأي، التنسيق الأمني لا يجب أن يكون هكذا، عليهم أن يطلبوا منا ما يريدون ونحن من يقوم بالتنفيذ، وليس أن يقتحموا هم بأنفسهم مناطق السلطة ليعتقلوا ويحاصروا ويقتلوا…

وضعت جدتي يدها عل خدها وقالت ترد على ما سمعت:

ـ شوفي ياأختي “جاء ليكحلها… عماها”، فعلاً كما قال المثل” لا تشمتي ياخدّوجة، أنا عورة وأنت عوجة”… لماذا “يستحمرنا” هؤلاء إلى هذه الدرجة؟!!! فعلاً”قال له مَن فرعنك يافرعون قال له لم أجد من يوقفني عند حدي”…

ثم أن جدتي بدا وكأنها لم تعد تسمع كل كلامهم، فكلامهم متشابه ومكرر ومعاد، لكنها ظلت تعلق على ما ترى وتسمع أحياناً، خاصة عندما كان الرجل “الأقرع” في حذاء أحدهم، والذي لم يكن من حاشية الرئيس، وكان يلبس عباءة سوداء كليل شتاء هذا العام ، يحيط بكامل طرفها خطاً ذهبياً يعطي العباءة ثمناً وهيبة، وبدا أنه قد جاء لتوه من الصحراء فاغتسل ولبس واحتل موقعه أمام شاشة التلفاز ليدلي بتصريحه، وظل يردد عبارة واحدة ويكررها ويلف حولها، ” نحن نوافق على ما يوافق عليه الأخوة الفلسطينيين، نحن مع السلام الدائم والعادل…. إيــــــــــــــه”، ولما سأله صحفي عن أي فلسطينيين يتحدث؟ ف”أغلب الفلسطينيين يرفضون أوسلو ومجراه”، قال:

ـ نحن نتحدث عن قيادة الفلسطينيين الحقيقية،  ولا نتحدث عن المغامرين والمتطرفين….

وهنا ثارت ثائرة جدتي، فصارت تتحدث وكأن هؤلاء جميعهم أمامها في الواقع وليسوا في التلفاز، وتريد بكلامها أن تضع لهم حداً:

ـ ظلوا هكذا أيها الأنذال، دافعوا عن سلامهم ومذلتنا، ولتعلموا أننا نحن “المغامرون” في هذا الوطن العربي و “متطرفيه”، الحائل الوحيد بينهم وبين غرف نومكم. ها أنتم خلعتم كل ملابسكم، صرتم عراة كما جئتم لهذه الدنيا أمامهم، قدمتم لهم كل ما طلبوا ولم يطلبوا، ماذا أخذتم مقابل ذلك غير العار؟!! عار لفكم كأشخاص ودول وأشباه دول وممالك وحارات، لماذا لم تكونوا بهذه الحصافة والإنسانية في العراق وسوريا وليبيا واليمن؟!!! لماذا لم تكونوا هناك أيضاَ رجالات سلام؟!!! … نعم، نحن المغامرون الطريق الوحيد لمسح ما جلبتموه لأمتنا من عار، إصمتوا على ذبحنا، وشاركوا في تدمير أوطاننا واستحمار شعوبنا، لكنكم لا أنت ولا هم، تستطيعون وقف تقدمنا أو قتل إرادتنا، أو مسح ما إستجلبتموه من  ذبح وذل وعار، وسندفنه معكم في غياهب صحرائكم…

  •      *        *

كنت قد غادرت الصالون ،إلى الحمام، من أمام جدتي، وكل كلماتها تتساقط في أذني كلمة بعد أخرى، ووقفت على المرحاض لأستطيع إكمال تصوير “هيثم”، الذي أخذه الجنود إلى الشوارع الخلفية شبه الفارغة ليكملوا حلقات التمتع بضربه، وفي ذهني كشف تصويره هذا لأقرابي وأصدقائي، لنضحك عليه ومعه، والتلفاز مازالت الأصوات المتحدثة به تصل لأذني مثل نباح كلب، لا يعرف السكوت، وأدخلت “هيثم” في عدسة تصوير هاتفي، وأكملت التصوير، والرئيس من التلفاز يصرخ غاضباً ويقول:

ـ أنا لست ضد الكفاح المسلح فقط، أنا ضد كل أشكال العنف أيضاً…

فردت عليه جدتي بحنق:

ـ لماذا تترأس شعباً يريد ذلك إذن؟ يا أخي “حل عن ظهرنا”، مدة رئاستك “خلصت، فارقنا”…

لقد قيدوا أيدي هيثم خلف ظهره، وشنطة كتبه معلقة فوق كتفيه، وسرعان ما غمّموا عينيه بشريطة متسخة بيضاء، وألقوا به أرضاً، إقترب منهم أحد المستعربين ،الذي كان قبل قليل ملثماً وبين راشقي الحجارة، بعد أن خلع لثامه المُزيف، وصورته بلثامه ودون لثام، همس في أذن الضابط بكلمات لم أستطع فك طلاسمها لبعدها عن أذني ولكونها، ربما، بلغة لا أعرفها، أمر الضابط جنوده، فرفعوا هيثم عن الأرض التي ألقوه فوقها عند وصولهم للشارع الخلفي، وتوجهوا به إلى الدورية العسكرية ليضعوه في داخلها.

كانت حرارة شمس نهاية أيار قد اندلقت في الشوارع وفوق رؤوس الناس، وكنت أرى بنفسي كيف تفجرت أشعة الشمس ينابيع عرق من على رأس “هيثم” مارّة بعروق رقبته الضعيفة إلى كل أنحاء جسده، وما أن وقف به الجنود مقيداً مغمّى العينين على باب الدورية العسكرية، حتى علا صوت الجهاز في يد الضابط، فتقدم في تلك اللحظة المستعرب وقد تناول مسدسه المختبئ خلف ظهره، وقال الرئيس في تلك اللحظة بالذات مُصرحاً، في جهاز التلفاز الذي تسمعه جدتي، وكلامه يتدفق في أذني رصاصات قاسية صلبة:

ـ أنا ضد الإنتفاضة أيضاً… الإنتفاضة دمرتنا…

وانطلقت رصاصة واحدة من مسدس الضابط المستعرب، بعد أن نظر يميناً وشمالاً، ليتأكد من أن الشارع لا يضم الكثير من الشهود،  ولمّا ظن أن أحداً لا يوثق ما يفعله، وضع رأس المسدس في رأس هيثم، وأطلق طلقة واحدة، طلقة واحدة فقط وكلمات الرئيس الصارخة” الإنتفاضة دمرتنا”، إخترقتا جمجمة “هيثم” الذي إعتلى شهيداً لتوه درجات السماء نحو الشمس. وجدّتي ترد صارخة، تخاطبه وكأنه أمامها:

ـ نسيتَ ان تقول أن المفاوضات أحيتنا، وأوسلو نهض بشعبنا، والتنسيق الأمني حرر أسرانا وحمى شبابنا وأطفالنا من القتل…

واحتضن هيثم الأرض بوجهه، ولثم ترابها وكأنه يُقبّل أمه، واختلط دمه مع التراب بشكل غريب، كأنه أراد أن يجبل التراب بدمه مع سابق إصرار، وكان جدول الدم يسيل ويسيل، ولم أكن لأصدق يوماً ان جسد الشهيد يمكن أن يحوي كل هذا القدر من الدماء، وكأن هذه الدماء تتزايد خصيصاً لتروي تراب الأرض، لتصير كما كانت تقول جدتي دوماً متسائلة بإستنكار وإصرار، عندما يعلو ويرتقي أي شهيد، بعد أن تسقي دماؤه الأرض:

ـ ماذا كنتم تعتقدون؟!!! أم” من أين للزيتون كل هذا الزيت؟”…

  •         *          *

كنت قد بقيت مشدوها جراء ما رأيت، لم أكن مصدقاً عيناي، بل إعتقدت للحظة أنني ما رأيت سوى كابوس، وأن عيناي تكذب عليّ كما تكذب عينا تائه عطش في سراب الصحراء، وبقيت أنظر من شباك الحمام وهاتفي الخلوي في يدي، ومددت جسدي للخارج أكثر وكأنني أريد أن أثبت لنفسي كذب بؤبؤي عيني، وفي تلك اللحظة بالذات رأوني، لم يرتبكوا كثيراً، فستدافع عنهم دولتهم وقضاءهم كما في كل مرة، لكنهم قرروا اخذ الهاتف كي لا أستطيع نشر ما رأيت، والتفّوا إلى الشارع الرئيس ليجدوني ويصادروا هاتفي.

نزلت من على المرحاض، وصرخت:

ـ لقد رأوني يا”ستي”، لقد رأوني وسيحضرون لمصادرة الهاتف…

ولم أفكر للحظة في مجيئهم لإعتقالي، لكنني أجبت على الأسئلة التي كانت تتوالى من عيني جدتي دون كلام، وأكملت:

ـ لقد قتلوا “هيثم” ياجدتي… قتلوه

ولم تسأل جدتي عمّن يكون “هيثم”، فللشهداء نفس الصورة والقيمة في صدرها وقلبها، وأنا لم أكن أعلم قبل ذلك أن جدتي، هذه العجوز المعمّرة، يمكن أن تفهم ما أريد قوله وبهذه السرعة، وأكثر من ذلك أنني لم أتصور يوماً أن جدتي “الحادة” مثل سكين، يمكن أن تكون ببرودة الأعصاب هذه، في وقت الشدة، قالت بهدوء ووضوح، وقد مدت يدها لأسقط فيها هاتفي:

ـ إياك أن تعترف بما فعلت… سيعتقلونك ويعذبونك، سيسألونك عنه، وأشارت بيدها لتريني عما تتحدث، هذه فرصتك لتكون رجلاً، لا تُفرّط بهذه الفرصة التي لا تتكرر كثيراً إلّا للرجال، إجلس الآن وتفرج على التلفاز وكأن شيئاً لم يكن….

وخرجت إلى الغرفة الأخرى، عرفت لاحقاً أنها أعطت الهاتف لأمي وأخرجتها من المنزل لتعطيه لبعض الجيران البعيدين عن بيتنا، وسرعان ما داهم الجنود البيت، وقابلتهم جدتي، وسألتهم وكأنها من باب التحدي ليس أكثر:

ـ ما الذي تريدونه؟ “هي وكالة من غير بواب؟”البيوت لها حرمتها…

وأخذت تدافعهم على الباب، تحاول منعهم بكل السبل، وكأنها تريد تحويل الأمر الذي جاؤوا من اجله وتغيير هدفه، لكنهم دفعوها ودخلوا، فعضلاتهم أقوى من عظام شيخوختها، لكنها ما أن دخل آخرهم حتى دفعته بكل ما استطاعت من قوة، فتدعثر بقدميه وأسقط واحداً من الجنود الذين كانوا أمامه، فارتفعت حالة الخوف لتتحول إلى جبن داخلهم، كما قال أبي، وهوت على رأس من أسقطته ب”بابوج” قدمها البلاستيكي، واخذت تضرب به رأسه ووجهه، وفي مثل هذ الحالات” يتصاعد الجبن داخل الخائف ويكبر، فما بالك بالجبان من الأصل؟”، والسلاح كما أكد أبي، “في يد الجبان يجرح”، فما بالك إن كان هذا الجبان عدواً؟”، وعندما صار الخوف يتصاعد من ضربات بابوج جدتي، وارتفع منسوب الجبن المجبول بالحقد والكره، وصل الجبن إلى أقصاه ومنتهاه، أخذ الضابط بندقيته الرشاش من على كتفه، وافرغ في جسد جدتي مخزناً كاملاً من الرصاص، فانفجرت ينابيع الدم القاني من جسد جدتي، وسال مدراراً على بلاط البيت، وبابوجها ما زال يهوي على رأس الجندي المتمدد أمامها …

قال لي أبي ونحن نستقبل العزاء المشترك، محتفلين ونوزع الحلوى لإستشهاد جدتي وإستشهاد “هيثم”، قبل إعتفالي بيوم واحد فقط:

ـ حتى وإن إستشهدت جدتك في البيت، وسالت دماؤها على “المصطبة”، فإن دمها قد روى الأرض، فلدماء الشهداء طريقتها في الوصول للأرض لترويها، أم من أين تعتقد أن للزيتون كل هذا الزيت؟!!!

محمد النجار

لمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذا؟!!!

ظلّت الكثير من الأسئلة تدق رأسي دون هوادة، خاصة بعد بعض الحوارات ،المُصرّة على قلب الحقائق، مع البعض، والذين لا يريدون أن يروا ما يدور في منطقتنا، من حرب كونية على مقدراتنا وتاريخنا وبلادنا وشعوبنا ، إلا حرباً طائفية!!! فلا أمريكا تطمع بنا وبخيرات بلادنا، ولا “آل سعود” هم رأس الأفعى في المنطقة، ولا ما يتم لمصلحة الكيان الصهيوني!!! ولا….إلخ، بل إن إيران”الشيعية”، هي فقط السبب وراء الحروب وإدامتها واستدامتها، ومعها حزب الله طبعاً، ولا يمكن أن تنتهي الحرب إلًا بعد الخلاص من إيران “الشيعية”، تاريخاً وطوائف ومذاهب وحتى جغرافيا إن أمكن!!! الأمر الذي يعني طبعاً إدامة الصراع واستمراره إلى آخر إنسان في الجانبين، وبهذا نكون نحن”السنة” قد نظفنا بيتنا من الداخل ونتفرغ لحرب الكيان الصهيوني!!! كلام خالٍ من أي منطق، فلماذا لا يمكننا أن نضع أيدينا مع إيران، ونتخلص من الكيان الصهيوني أولاً، فهذا لا يصح، ولماذا لا نتخلص من الصهاينة وحدنا ثم نرى أمورنا مع إيران فلا يصح أيضاً، فلا يصح معنا نحن “السنة” إلا إستعداء إيران فقط، وتحويل الصهاينة إلى حلفاء محتملين!!!

هكذا قال محاوري في حوارنا الأخير، فازداد طرق السؤال رأسي، لماذا، وازدادت الأسئلة التي تبدأ به أكثر، فتجاهلت “كيف ومتى وأين وهل ومن وإلى متى”، لأنني لو طرحت كل ما يدور في رأسي من أسئلة لما أنهيت مقالتي هذه أبداً، وعليه سأطرح فقط بعض ما يدور في رأسي من أسئلة تتعلق ب”لماذا”، منوهاً أنني لست من أنصار لا الدول الدينية ولا الأحزاب الدينية، وأنني أرى أن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة تخصه وحده، ولا يحق لأي كان التدخل بها، لا من قريب ولا بعيد، كما أنني لاحظت أن كل أصحاب النظرة الطائفية والمتمسكين بها، معجبين أشد الإعجاب بالنظام “الغربي”، والذي لا يفرق بين أبنائه لأي بسبب، دين أو لون أو جنس أو معتقد، لكنهم “عندنا” يريدون مجتمعاً بلون واحد فقط، هذا إذا ظل هناك لون بعد الصراع الدائر….

ولنبدأ بالأسئلة، التي أرجوا أن لا يجيب عليها أو يقرأها أحداً من المتعصبين، من أي طرف كان، وهي أسئلة برسم التفكير لكل مَنْ يدعي أن الصراع الدائر في منطقتنا ما هو إلا صراع طائفي، وليس صراعاً سياسياً في جوهره، مغلفاً بغلاف طائفي:

  • لماذا إصرار الدول “السنية” على حرف إتجاه البوصلة، من فلسطين وتحريرها، ومن العداء للصهيونية إلى جعل العداء لإيران؟ وهل صحيح أن “طويل العمر” ملك آل سعود، دعم بناء المستوطنات بعشرات ملايين الدولارات؟ ودعم حملة إنتخابات نتنياهو ب80 مليون دولار، كما نؤكد الصحافة العبرية؟

  • إذا كان الصراع طائفياً لماذا إذن لم تقم “الدول السنية”، وعل رأسها دولة “آل سعود”، بمحاربة إيران أيام الشاه؟ أم أن إيران كانت “سنية”آنذاك؟

  • لماذا تم افتعال حروب متتالية مع إيران بعد إنتصار الثورة مباشرة؟ رغم أن الإنجليز “حلفاء” الدول السنية “وأبرز داعميهم حتى اليوم (هم مَن سلم الأهواز لإيران، تماماً كما سلّم الفرنسيون لواء الإسكندرونة لتركيا والإنجليز  لمناطق نجران وعسير وجيزان لآل سعود أنفسهم)، وكذلك سيطرت إيران على الجزر الإماراتية أثناء حكم الشاه، فلماذا لم تحارب الدول “السنية” وعلى رأسها آل سعود الشاه “الشيعي” ولم نسمع من هذه “الدول السنية” ولو كلمة واحدة بهذا الشأن آنذاك؟. بل إن علاقتهم مع الشاه كانت استراتيجية، وهو من ساعدهم على ضرب القوى الثورية التي نشأت في بلادهم!!! ولم نسمع “بسنة أو شيعة”، ولا عن اي دور “تشييعي” لإيران في المنطقة.!!!

  • لماذا اكتشف حكام الدول “السنية”، “شيعية إيران” بعد أن تم رفع العلم الفلسطيني فوق سفارة”إسرائيل” الموروثة من عهد الشاه، وتحويلها لسفارة “فلسطين”؟ وفي نفس الوقت الذي إبتدأت أمريكا بفرض حصارها على إيران؟

  • وما دام الموضوع هو “سنة وشيعة”، فلماذا تقيم هذه الممالك والدول والحكام “السنة”، أرفع العلاقات وأكثرها تطوراً، مع دولة أذربيجان “الشيعية”، صاحبة العلاقات الأكثر تميزاً بالكيان الصهيوني، وخاصة من الناحية الأمنية، التي تضر أول ما تضر بقضية”العرب السنة” في فلسطين؟!!!

  • لماذا، والأمر كذلك، لم تدعم الدول “السنية”وعلى رأسها بلاد “مملكة الخير” وقيادتها، آل سعود، الفصائل “السنية” في فلسطين، بعُشر ما قدمته لما إستجلبته من حثالات بشرية لتدمير أوطاننا في سوريا والعراق وليبيا واليمن و”الحبل على الجرار”؟ وتركت الأمر لإيران”الشيعية” لدعم فلسطين “السنية” وفصائلها؟ وتركت خلايا “حزب الله الشيعي” يدرب ويعلم وينقل السلاح ويُهربه إلى القطاع المحاصر، وتُعتقل بعض خلاياه في الدولة المصرية “السنية”؟ ولم تقدم أي نوع من الدعم للقضية الفلسطينية “السنية”، على مدار 68 سنة من عمر القضية، ولا حتى فتوى واحدة من شيوخ “السنة” العباقرة في بلاد آل سعود، بل أنها أوقفت حتى التبرعات لهذه القضية…

  • لماذا لم تقم الدول “السنية” بمحاربة محتلي المسجد الأقصى المبارك” أولى القبلتين وثالث الحرمين” رغم مرور 49 عاماً على إحتلاله، وشيوخ فتنتها كما القرضاوي “ينبحون” لمحاربة سوريا لنشر الديموقراطية هناك؟!!! ويستعيذ الله متبرئاً ممن يقولون بمحاربة “إسرائيل” بعد الإنتهاء من سوريا، ويشحذ من أمريكا المزيد من التدمير لبلداننا، ” ضربات لسوريا من أجل الله ياأمريكا”، الغريب أن البلاد والمقدسات محتلة من”اليهود الصهاينة” وهم ينادون بالديمقراطية في بلدان يحكمها “مسلمون”!!! والأغرب أنهم يريدون الديمقراطية التي يمنعونها في بلادهم، والإنتخابات التي لم يجرونها يوماً، والدستور وهم لا يملكون دستوراً… مع ملاحظة أن كاتب هذه السطور من أشد مؤيدي حرية الرأي والفكر والتعبير والإختيار، وضد كل أنواع التمييز الديني أو العرقي أو المذهبي والطائفي، أو اللون أو الجنس أو العرق، ومع تشكيل الأحزاب إلّا الدينية منها، والتبادل السلمي للسلطة.

  • بل لماذا تبرعت “مملكة الخير” أطال الله عمر قادتها آل سعود”، بفلسطين، في رسالة موثقة عبر الحلفاء الإنجليز، إلى “المساكين اليهود” أو حتى “إلى غيرهم “كما ورد في الرسالة؟ أعيد “تبرعت” بفلسطين وكأنها من بقايا موروث آبائهم العملاء الفاسدين المتخلفين الجهلة”!!!

  • لماذا لم تستخدم “مملكة الخير”ودول النفط “السنية”علاقاتها بالغرب، أو بالنفط، أو أموال النفط، لدعم قضيتها الأولى قضية فلسطين”السنية”؟

  • لماذا حارب آل سعود “السنة، الثورة الناصرية”السنية”، متحالفاً مع شاه إيران “الشيعي”؟ وراعيتهما أمريكا، أم أنه لم يكن “شيعياً” وإنما نحن الجهلة  المفتقدين للثقافة نعتقد ذلك؟ ولماذا إستدعت الحرب عليه من إسرائيل في حرب 67، معتبرة في رسالتها أن نظام ناصر إذا إستمر دون تدمير حتى سنة 70 فإن نظام “آل سعود” لن يعيش أبداً ليصل لعام 1970، أم أن الصهاينة هم صهاينة “سنة”؟

  • وما دام الأمر طائفي، لماذا إستُجلبت “القاعدة “من العالم إلى ليبيا لتدمير بناها التحتية، وذبح عشرات الآلاف من البشر “السنة”، وتدمير أول شيء النهر العظيم الذي خضّر حتى الصحراء الليبية؟ وأين الشيعة في ليبيا؟ وأين الشيعة من مصر التي يحاولون تدميرها وتقسيمها ؟

  • لماذا ترتضي الدول “السنية”، قائدة الثورة”السنية” في الوطن العربي، ل”تنظيماتها ومناضليها في جبهة النصرة وداعش وأحرار الشام وجيش الإسلام في سوريا” أن يُعالجوا في المستشفيات”الصهيونية” ويزورهم ويلتقيهم “نتنياهو” نفسه، وكل وسائل إعلامهم، ووسائل إعلام الأنظمة “السنية” تغطي على الأمر وتمنع نشره في وسائل إعلامها، وكأنها بذلك تحجب الحقيقة؟ وكيف ترتضي لقيادة الثورة “السنية” في سوريا بالتبرع بهضبة الجولان لإسرائيل مقابل دعمها بإسقاط الأسد؟ كما وكيف ترتضي للثوار”السنة” بالتدرب على أيدي ضباط الصهاينة، وأن يقود عملياتهم في غرفة عمليات “موك” في الأردن ضباطاً “إسرائيليين” بجانب ضباط من طرف آل سعود وأمريكا والأردن؟ والآن يقوم الصهاينة بإنشاء غرفة عمليات مشتركة مع ” المناضليين الجهاديين السنة” من “جبهة النصرةـ تنظيم القاعدة في بلاد الشام ـ لإقامة شريط عازل في الجولان على غرار ما تم في جنوب لبنان؟

  • لماذا لا يُحارب آل سعود، كقيادة للدول “السنية” أمريكا، التي أسقطت القيادة العراقية السنية “صدام حسين” ، بل إستدعت أمريكا وتحالفاتها لإسقاطه بعد أن رفع شعار”نفط العرب للعرب”؟ وفي الوقت الذي رفضت فيه إيران “الشيعية” أن تفتح أراضيها للغزو الأمريكي للعراق ، رغم محاربته لها 8 سنين طوال، فعلت ذلك دول النفط وغير النفط “السنية”، من مصر إلى دولة آل سعود إلى دولة “النعاج” كما سمّاها رئيس وزرائها آنذاك حمد الصغير، إلخ؟  بعد أن حاصروه وقتلوا من شعب العراق ما يزيد عن مليون طفل فقط بسبب حصارهم…

  • لماذا لا تُحرضون “السنة” في لبنان وتدعمونهم بالصواريخ كما فعلت إيران مع حزب الله، لمحاربة إسرائيل، خاصة وأن لديهم قيادة ثورية مثلكم (من الحريري إلى السنيورة إلى فتفت “شرّيب الشاي” مع الجيش الإسرائيلي، إلى ريفي)؟ ولماذا تحالفاتهم فقط مع جعجع وأمثاله، أحد أهم أبطال مجزرة صبرا وشاتيلا، القاتل المحكوم في المحاكم اللبنانية نفسها؟

  • لماذا دعمتم يا آل سعود، ياقادة “السنة”، إثيوبيا، الدولة التي ـ ربماـ من أكثر الدول الإفريقية تعاوناً مع “إسرائيل”، في بناء سد النهضة الذي يحرم الدول “السنية” العربية”مصر والسودان”من المياه، يعطش شعبهما ويصحر أراضيهما، وبتعاون مباشر مع إسرائيل؟

  • لماذا أصبحت إيران دولة نووية رغم حصاراً أمريكياً ودولياً ومنكم أنتم أنفسكم أيها الدول “السنية”، وآل سعود على رأسكم، وصار عندها ما يقرب من الإكتفاء الذاتي إقتصادياً، وأنتم بدلاً من أن تتعلموا منها، وتثبتوا لها أنكم “السنة” لستم بأقل شأنا، فإنكم ما زلتم تعتمدون في إقتصادكم بنسبة أكثر من 90% على النفط، وبدلاً من طلب مساعدتها تحاربونها، وأنتم أيها الكسالى الخائبين، يا آل سعود، ما زلتم تستوردون خضارا ،فقط خضـــــــــــــار، من مختلف دول العالم بأكثر من 30 مليار دولار، أقول مليار وليس مليون، في العام الواحد، وتستوردون المياه بأعلى من أسعار نفط شعبكم المنهوب…وصارت “سلة غذاء الوطن العربي”، السودان، التي تمتلك 30 مليون رأساً من الأبقار، وخمسين مليون رأساً من الماعز ومياه النيل وعشرات الأنهار الأخرى، صارت صحراء وجائعة وجاهلة ومتخلفة وتبيع أبناؤها لآل سعود ليقتلونهم في حرب اليمن، ويمزقها الفساد والبيروقراطية,… رغم “سنيتها” وتطبيقها للشريعة الإسلامية السنية أيضاً.” في هولندا مجرد مليون رأس من الأبقار، وبدون “سِنّة” ولا “شريعة”، صارت من صفوف الدول الأولى في العالم في تصنيع الأجبان والشوكولاتة، وبدون أمية ولا فساد ولا إفساد. أما السودان الذي  إتبع نصائح “سنة” قطر وآل سعود فتقسمت بلاده إلى قسمين، وبدلاً من الإهتمام بمصالح الوطن والمواطن، يقوم بمحاكمة فتاة تلبس بنطالاً أو أخرى تتزوج مسيحياً، لكنها لم تحاسب فاسداً واحداً أو لصاً واحداً.

  • لماذا تتقدم الدول “السنية” دول العالم في الفشل والجهل وتفشي الأمراض والأمية، مصر والصومال وموريتانيا واليمن والسودان والباكستان وأفغانستان.

  • لماذا لم تستثمر الدول الغنية “السنية” أموال خيرات شعبها، في الدول “السنية” المحتاجة لذلك، بدلاً من إبقائها في بلاد الغرب وبنوكها؟ مثل مصر والسودان واليمن، الأمر الذي يُطور هذه الدول ويقضي على البطالة والفقر، ويجعل الدول المستَثمِرة رابحة في نفس الوقت. أم أنهم يدركون أن أمريكا لن تسمح لهم بذلك، وربما تصادر هذه الأموال شاهرة في وجوههم ملف حقوق الإنسان كما هو متوقع!!!

  • لماذا تصر قيادة الدول “السنية” لمحاربة كل من يحارب أمريكا وإسرائيل، ولشيطنته وملاحقته وتوقبف قنواته الإعلامية؟، وكما دفعت أمريكا بإعترافها، ما يفوق على 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله، هكذا تفعل الدول “السنية” بقيادة آل سعود مع فصائل المقاومة العراقية التي طردت الأمريكي خارج العراق في 2011، ومن بينها بعض فصائل الحشد الشعبي في العراق، أو مناهضوا سياسة التدمير التي أنتجها آل سعود في اليمن من “أنصار الله” وغيرها من فصائل إسلامية ويسارية…

  • لماذا يُحارب آل سعود”السنة”، أعداء أمريكا وإسرائيل، ليس في المنطقة فقط بل والعالم أيضاً؟ وتكيل لهم كل التهم وتدفع الأموال من جيب شعبها، لتحصد أمريكا الثمار، وهذه مجرد أمثلة على ذلك:

ـ دفع آل سعود “السنة” مبالغ طائلة بعد فوز الحزب الشيوعي الفرنسي، وكذلك الحزب الشيوعي الإيطالي في إنتخابات بلادهم، للأحزاب الأخرى كي لا يدخلوا في تحالفات معهما كي لا يستطيعا تشكيل حكومات كل في بلدهما، هل كان أولئك شيعة؟ وهل إعتدوا على سيادة بلدان العرب أو المسلمين؟ وبأي حق يتدخل آل سعود في شؤونهم الداخلية؟ ولمصلحة مَنْ؟ أليس لمصلحة أمريكا وبأموال العرب؟!!!

ـ دفع الأموال لشراء البشر والسلاح وبشعارات دينية لمحاربة الإتحاد السوفييتي السابق، لتعود أفغانستان للحظيرة الأمريكية وبأموال عربية، هل كان السوفييت شيعة وأمريكا دولة سنية؟!!! وما شأن آل سعود بذلك؟ ولماذا سكتوا عن تحويل أفغانستان “السنية” إلى دولة فاشلة؟

ـ دعم آل سعود أعداء الثورة الساندينية، بالمال والسلاح، الكونتراس، كي لا يصل أعداء أمريكا للحكم آنذاك، وزهقت نتيجة ذلك عشرات آلاف الأرواح، ودمرت البلاد، بأموال العرب ولمصلحة أمريكا، فهل كانت الثورة الساندينية “شيعية”؟ وبماذا أساءت للسعودية لتقف موقفها ذلك؟

ـ أغرق آل سعود السوق بالنفط وأنزلوا سعره من 120 دولاراً للبرميل إلى أقل من 30 لكي يضربوا الإقتصاد الفنزويلي المعادي للأمريكي وكذلك الروسي المنافس له، وليضربوا الإقتصاد الإيراني أيضاً، فإن كان هناك خسارة بيِّنة لإيران في مليون برميل تصدره في اليوم الواحد كبيرة ومؤثرة، فإن خسارة آل سعود كانت أحد عشر ضعف الخسارة الإيرانية، كونها كانت تبيع أحد عشر ضعف المنتج الإيراني، ومن الرابح من جراء ذلك؟ أمريكا بالتأكيد، وآل سعود”جكر في الطهارة يشخون في لباسهم”.

  • ما دام “الدواعش” وجبهة النصرة، وما شابههم من حثالات بشرية “ثواراً”، لماذا يذبحون الناس ويفجرون أنفسهم في المساجد والأسواق الشعبية، ويصرخون”جئناكم بالذبح” هل هذا الإسلام “السني” الذي يريدون حكمنا به؟ وهل لائحة النساء في زواج النكاح اللواتي يُطلقن ويُزوجن بأوامر “سنية شرعية”ما يقرب من عشرين مرة في اليوم الواحد، ويدفع لها ثمن النكاح، هل هذا من الإنسانية في شيء؟ وهل هو من الديانات لا سيما المذهب السني في شيء؟ وهل يختلف عن بيوت الدعارة في شيء؟ولماذا تركت الدول الغربية القتلة للقدوم إلى سوريا والعراق وسهلت مرورهم؟ ولماذا ساعدتهم أمريكا وقطر وآل سعود؟ وإن كانت تريد أمريكا محاربتهم لماذا تركتهم يتدربون تحت سلطتها وبسلاحها وفي معسكراتها في تركيا وليبيا، ولماذا لم تقدم للجيش العراقي حتى الآن السلاح المطلوب، رغم أنه دفع ثمنه منذ سنوات؟ وماداموا يريدون محاربتهم لماذا جلبوهم إلى ليبيا “السنية”، والتي ليس بها من الشيعة أحد؟ وكيف لم يروا الأسطول البحري الذي يزيد عن 3000 صهريج وينقل النفط المسروق من العراق وسوريا ويتوجه الى تركيا واسرائيل؟ وكيف سمحوا لدويلة الشيخة موزة بشراء 3200 عربة تويتا مجهزة للقتال من اليابان ويدخلونها من تركيا إلى سوريا؟ وكيف لم يرَ الأمريكان مئات الآليات والدبابات ومدافع الهاون والصواريخ التي تتنقل في العراق وسوريا وما بينهما على مساحة آلاف الكيلومترات المربعة؟ في الوقت الذي ترى فيه لو مجرد مناضل فلسطيني واحد في قطاع غزة وتقصفه، لكنها لا تقصفهم؟ وكيف لم تر نقلهم بطائرات تركية وقطرية إلى جنوب اليمن؟ ولماذا قام آل سعود “السنة”وكذلك دولة قطر”السنية” بعزل الجنرال “السني” السوداني”الدابي”، الذي بعثته الجامعة العربية للتحقيق في أحداث سوريا منذ بدايات احداثها، عندما إتهموا النظام بقتل المتظاهرين، وعاد ليقول لرئيس وزراء قطر السابق “حمد الأصغر”، إوقفوا دعمكم وتسليحكم للإرهاب، تتوقف الحرب في سوريا، فكان نتاج تقريره عزله ووقف مهمته.
  • لماذا لم نرَ أو نقرأ أو نسمع رغم كل عمليات التفجير في المساجد والكنائس والأسواق، وتدمير الآثار والتاريخ، والتقتيل والذبح في كامل الفسيفساء العربية، من المناضلين “السنة”، عن أي عملية ضد الكيان الصهيوني، ولو عن طريف الخطأ؟ ولماذا يقتلون من “السنة” أكثر ما يقتلون من المذاهب والطوائف الأخرى، لكل من لا يتطابق وآراءهم؟ وفي المقابل لماذا لم نسمع عن “شيعي”يفجر نفسه في مناطق السنة؟بل أن “الشيعة”في الحشد الشعبي، “والذي يضم في صفوفه عشرات آلاف “السنة”، هم مَنْ يُحرر المناطق “السنية”، لاحظ “السنية” من براثن داعش وأخواتها، ولماذا لم يتوجه الدواعش للمناطق الشيعية في وسط العراق وجنوبه ليحتلوه ماداموا يريدون القضاء على “الرافضة”؟ بل داهموا المناطق “السنية” فقط وذبحوا أهلها ودمروا بنيانها واغتصبوا نساءها؟ ولماذا لم نسمع هذا التقسيم الطائفي عن “سنة وشيعة” بين الأكراد؟

  • لماذا، وهذه ال”لماذا”، كان يجب أن تكون في البداية ربما، لماذا يعتقد هؤلاء “المناضلين السنة”، ومن خلفهم داعميهم وأولهم آل سعود، أن الجنة من حقهم ونصيبهم حصراً ودون غيرهم؟ فلا نصاً يؤكد ذلك، ولا منطق أيضاً، فمذاهب الإسلام من”سنية بمذاهبه الأربعة” الشافعي والحنفي والحنبلى والمالكي” وفرقها من السنية والإباضية والشيعية، يتفرع عنها: أهل الحديث والسلفية والأشاعرة والماتريدية والمرحبة والمعتزلة والجهمية والصوفية والإثنا عشرية والزيدية والأصولية والأخبارية والشيخية والإسماعيلية والنزارية والمستعلبة والعلوية والأذارفة والنجدات والأحمدية والقرآنيين والبهرة  …إلخ والتي تصل الى 73 فرقة، كلها تدّعي أنها تمثل الإسلام “الصحيح”، وكيف  يستطيع هؤلاء التفكير أن لهم ميزة على الطوائف الأخرى وعلى الأديان الأخرى بما فيها الديانات الوضعية، عدا أن ليس لهم فضلاً أو ميزة حتى على ما في طائفتهم نفسها، ألم يحن الوقت ليتدينوا كما يريدون لكن بإبعاد الدين عن السياسة، ألا يكفي ما فعله الدين المسيس في البشرية جمعاء؟ تخيلوا 73 فرقة ومذهب إسلامي، ومثلها أو أقل قليلاً من الديانات الأخرى، والجميع بدون إستثناء يدعي أنه الصحيح، وإلا لغير مذهبه لو كان لديه شك فيه، فلو أراد كل طرف فرض رؤيته على الآخر ماذا يمكن أن يتم في عالمنا العربي؟ تخيلوا إلى أين يمكن أن توصلنا التقسيمات الطائفية والدينية، وربما لو تبعنا العرقية والقومية أيضاً، ستصبح أكبر دولة عربية حسب طائفتها ومذهبها أصغر بكثير من ملعب كرة قدم، دولاً متحاربة متذابحة إلى مالا نهاية، هذا إذا لم نفنِ بالحروب بعضنا بعضا!!!

  • لماذا لا يترك هؤلاء الدين لصاحبه، الله، ولماذا يتدخلون بصنع الله بخلقه؟ ومن أعطاهم الحق بذلك؟ فالدين كما ذكرنا لله والوطن للجميع، فلنترك ما لله لله، ولنتضافر لإعلاء صرح الوطن، ولا نترك أحداً ليتدخل في شؤون الله تحت أي إسم أو ذريعة، فهذه العلاقة بين الإنسان وربه من أشد العلاقات شخصية وخصوصية، ولا يحق لكائن من كان أن يتدخل بها، أما شيوخ الفتنة الذين بحرضون على العنف في أوساط فقراء الشعب وبغض النظر من أي ديانة أو طائفة هم، فنسألهم لماذا لا تبعثون أبناءكم ليفجرون أنفسهم ويصعدون ليحجزوا لكم مكاناً في الجنة؟ وإن كانوا “ملوا زوجاتهم”ويريدون الحوريات، فلماذا لا يذهبون هم أنفسهم ليفجروا أنفسهم ويصعدون الى السماء، بدلاً من تحريض الفقراء ؟ ولماذا لا يعطون الفقراء جزءً من جنانهم الأرضية إن كانوا بهذا الإيمان الذي يدّعون؟ولماذا يبعثون أولادهم وبناتهم إلى بلاد الغرب “الكافرة”، ويبعثون أبناء الفقراء لتفجير أنفسهم في خلق الله وعباده؟ وأكرر من أين لهم التأكد من صحة طائفتهم أو مذهبهم؟ ومن أين يعرفون أن لهم الجنة دون غيرهم؟ بل من قال أصلاً أن لهم الجنة؟، فالله ،حتى الله الرؤوف الرحيم، لا يرحم العملاء والمجرمين…

محمد النجار

أصابع الببو ياخيار

ما زالت تدق تلافيف رأسي بقوة، كلمات أمي وزوجتي حتى هذه اللحظات، وهذا الهجوم علي وكأنني لا أعني لهما شيئاً، وما يربكني أكثر اتحادهما ضدي في الفترة الأخيرة، فما أن أفتح فمي متحدثاً أو معلقاً في أمور السياسة وشؤونها حتى تنقضّان على عقلي، مشككتان في أهليته، رغم أنهما تعرفان جيداً أنني أنهيت دراستي الجامعية، رغم أنني أبيع بعض إنتاجهما من خضار حديقة بيتنا الريفي، على عربة في سوق المدينة، كوني لم أجد مكاناً أعمل به في شهادتي هذه، حتى أصبحت الشهادة تُستخدم كسلاح ضدي في بعض الأحيان، فتقول أمي مثلاً ” أحمد الله” أنهم لم يقبلوك حتى معلماً في مدارس أطفالنا، كي لا تسمم عقولهم بأفكارك هذه، فمثل أفكارك لا تنقصهم أبداً”.

ـ “أصابع الببو يا خيار”

ناديت لترويج ما لدي من خيار على عربتي، علّني أبيعها قبل العصر لأستطيع العودة في باص القرية مبكراً هذا النهار، وكلامهما ما زال يدق رأسي كمهدةٍ حديدية ضخمة، ينهال بها عامل قوي فوق سكة حديدية برتابة صلبة لا تنتهي، حتى وأنا أوزن للزبائن طلباتهم لم ينقطع هذا الطرق ولا هذا الرنين، لدرجة أن أرجع لي أحدهم مشكوراً بعض النقود التي أعطيتها له قائلاً لي منبهاً:

ـ إصحَ يا رجل لقد أعطيتني “كيس الخيار”، وأرجعت لي كل المبلغ كبقية لورقة “المية”، حدّ الله ما بيننا وبين الحرام.

كنا ننتظر خبراً عن ذكرى “منتصف أيار”، لنعرف أين سنتفاعل والآخرون بهذه الذكرى، فمنذ سنوات وزوجتي وأمي تشاركان في معظم المناسبات الوطنية ما أمكنهما ذلك، خاصة ذكرى النكبة منها على وجه التحديد، الذي تظل أمي تسأل عنها منذ مغادرتها حتى قدومها في العام الذي سوف يأتي.

وما أخذ يُزعجني في السنوات القليلة الماضية، أكثر من أي شيء، هذا الحلف الذي تشكل ضدي بين أمي وزوجتي، كما أنني لم أسمع بمثل هذا الحلف بين “الحماة وكنتها” إلّا في بيتي، وعلى من؟ على الإبن، أو الزوج، يعني علي أنا، أنا بالذات، ويتكرر الأمر كثيراً لأنني لا أعرف أن أغلق فمي عندما يقتضي الأمر ذلك، لأجد الهجوم أول ما أجده من أمي، التي تبدأ بالقول عند تعليقي الأول على حدث ما:

ـ  لو إنخرست لكان أفضل من أن تبول من فمك، ألم تتعلم بعد أن “السكوت لأمثالك من ذهب”؟

وكنت أقول من باب تكملة الحكمة الشعبية:

ـ نعم و”الكلام من فضة”.

لكنها قالت معلقة:

ـ “بل من تنك صدئ”، لو كان من فضة أو حتى من نحاس لما علقت.

وتكمل زوجتي معلقة في ثنائية عجيبة:

ـ “إذا بُليتم فاستتروا”.

بدأ الأمر كله منذ بضع ليال، عندما رأيت “المناضل الكبير”، كبير المفاوضين الفلسطينيين، وأمين سر منظمة التحرير، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والله وحده يعلم كم من المواقع والمراكز يحتلها أيضاً، وهذا دليل ذكاء وقدرة وعطاء، ولعله شرف كبير لأي كان أن يحتل هذه المواقع، أقول أنني مجرد أن رأيته إنتابني شعور فُجائي بضرورة القيام لتوي والصلاة “ركعتين وربما ثلاثاً” لله عز وجل، على مِنته ونعمته علينا بمثل هذه القيادات، وقلت عندما رأيته بوجهه ” المِسْمَرّ” من أشعة الشمس كوجهي :

ـ وجه المسكين محروق من الفِلاحة…

نظرت أمي الى زوجتي، وأزاحت وجهها كي لا تراني، وعلقت زوجتي:

ـ مثله لا يعرفون فلاحتنا نحن، يعرفون الفلاحة في الشعب، قل ربما من شواطئ بحر تل الربيع…

كنت أنظر إليها وأفكر بصوت مسموع، وكلمات تفكيري تندلق في آذانهما ككتل من رصاص مغلي ذائب لا أعرف له سبباً، قلت عندما رأيته يمرر يديه أو إحداها فوق رأسه، ويضغط معتصراً أفكاره:

ـ كم هو عميق التفكير!، فعلاً كما يقولون أن الرأس كثيف الشعر أو  الرأس الصلعاء من علائم الذكاء، أنظرن إليه بربكن كيف يحاول إعتصار الكلمات من رأسه، حتي ليبدو لمن لا يعرفه، أنه “يستخسر” الكلمات فينا نحن الشعب،  الذين لا نستطيع فهم الأمور على حقيقتها، كوننا لا نفهم كل شيء.

وأنهيت عبارتي لا أعرف لماذا بالقول:

ـ وأكثر ما يعجيني بهذه القيادة شيئين إثنين، وأشرت بإصبعي موضحاً وأكملت، الوعي بالقضية الوطنية، ونظافة اليد…

ويا ليتني لم أقل ما قلت، فسرعان ما قالت أمي بكلمات مستهزئة قاسية:

ـ صدقت، إن كل ما نراه من فلل وعمارات وسيارات وعقارات من معاشهم الشهري فقط…

وصرخت كأن نكبة جديدة اغرقت رأسها من كلملتي:

ـ متى ستتعلم أيها الدابة أن تستخدم رأسك؟ والله أحياناً أفكر أن خلفة أمثالك ما هي إلا إمتحان من رب العالمين وإختبار لصبرنا.

فقلت محتجاً:

ـ أرجوكِ يا أمي أخفضي صوتك، نحن في الليل و”الصوت يُجيب”، ولا أريد أن يسمعنا الجيران.

التقطت زوجتي الكلمات مانعة مماحكتي لأمي من الإستمرار، وقالت بدورها مستهزئة، منادية أمي كما كانت تناديها دوماً منذ بداية زواجنا:

ـ نعم يا “أمي”، كل ما ذكرت من معاشهم فقط…

وكدت للحظات أظن أنها واقفة في صفي، لكن كلماتها لطمتني كحذاء على رأسي، الذي ظلت تدور به الأفكار قبل أن تتشتت وتتفرق، مثل سحابات متقطعة في يوم صيفي عابر، وتابعت:

ـ هذه القيادة يا “أمي” لم تساوم على وطن، ولم تتنازل عن شبر منه، ولم تحوّل ما تبقى منه لتجارة رابحة لها، فلم تُبدل أراضٍ من مناطق c بمناطق من  b ولا من b بمناطق من a، بصفقات مشبوهة مع الإحتلال، لتجني من خلفها الملايين، ولم تقيم الشركات لها ولأولادها لنهب المال العام، ولم تسرق أموال الشعب، وتفاجئنا كل يوم بمحاسبة الفاسدين والمُفسِدين ولصوص المال العام، وبإعتقال العملاء والخونة وسجنهم وإفشال مخططاتهم، وهي لم تعتقل مناضلاً ولم تستهدف مواطناً، لم تختطف طالباً ولم تقمع رأياً ولم توقف عملية فدائية، كما أنها و”الحمد لله” لم تلحس حذاء أمير أو ملك أو رئيس، ولم تبع موقف لأحد، ولديها القرار الفلسطيني المستقل مستقل فعلاً وقولاً، وهي يا “أمي”قيادة جماعية، قراراتها بالإجماع ومؤسساتها تعمل بفعالية، وتنفيذ مهام مؤسساتها لم تنقطع يوماً، الأمر الذي أبقى البنادق موجهة للإحتلال وليس لصدر الشعب. وفوق ذلك كله، ومهما بحثت، فلن تجدي لهم أرصدة في البنوك الغربية ولا العربية ولا المحلية، لا بالملايين ولا حتى بمليون واحد، دليل على نظافة اليد كما أكد زوجي الحبيب!!!

سكتت قليلاً وتابعت وكأنها تحفظ قصيدة عن ظهر قلب:

ـ و”الحمد لله” أن زميلاً لهذا، “وأشارت بيدها الى القائد المناضل المفاوض على التلفاز”، المناضل العبقري الكبير عزام الأحدب أو الأحمق، فأنا لا أحفظ أسماءهم، كان قد أوضح لنا مُفسراً أيضاً، “أن إضراب المعلمين من أجل نيل حقوقهم، يمس بالأمن القومي الفلسطيني!!! “أرأيتِ يا “أمي” ؟ يخبرنا بما لم نكن نعلم، يخبرنا أن هناك أمن قومي فلسطيني، وأنا مثل الكثيرين كنت جاهلة بالأمر!!! كنت جاهلة أن هناك أمن قومي فلسطيني والبلد كله مستباح؟ أمن قومي والصهاينة يطاردون شبابنا ويقتلونهم كل يوم بدم بارد، أمن قومي وجنود الإحتلال يفتشون في غرف نوم هذه القيادة وفي سراويل نسائها؟!!! إضراب المعلمين هو ما يؤثر على الأمن القومي وليس التنسيق الأمني مثلاً، أرأيت؟ فلولا عبقريته في فن إدارة التفسير وطريقته ما كان لنا ، نحن الجهلاء،  أن نفهم الأمر على حقيقته، وكان التبس الأمر علينا وتهنا وأضعنا البوصلة مصدقين المعلمين لا سمح الله ولا قدر.      هؤلاء لا يرون فينا إلّا مجرد قطيع، يتحرك كما يريدون، يسمع ما يقولون، يفهم كما يشتهون ويصدق ما يكذبون.

في تلك اللحظة بالذات، كان المناضل المفاوض الكبير، يقول مفسراً التنسيق الأمني وماذا يعني، موضحاً لمن يريد أن يفهم، ودون أن يترك مجالاً لشك أو تحريف أو تدوير:

ـ التنسيق الأمني يعني أنه عندما يقتل “اسرائيلياً” زوجته، ويتخفى بين الناس في الضفة أو القطاع، ننسق معهم لإرجاعه.

فقلت فوراً في زهوٍ منتصر، موجهاً الكلام لأمي مهملاً زوجتي:

ـ أرأيتِ يا أمي؟

فقالت أمي مباشرة ودون تلعثم:

ـ ومنذ متى يحتمي الصهاينة بيننا يا غبي؟ وهل مثل هذا الأمر إن حصل يحتاج لتنسيق أمني؟ ألهذا يصر الرئيس على أن التنسيق الأمني مقدساً؟ وتصر أمريكا و”إسرائيل” على إستمراره؟ إلى متى سيبقى عقلك مُعطلاً يا ولد؟

ورغم أنني لم أقتنع بكلمة من كلماتهن، إلّا أنني فضلت أن لا أعلق على كل ما يقوله المناضل المفاوض الكبير، كي لا أستمع لمزيد من التوبيخ والإستهزاء منهما، لذلك لم أعلق بأكثر من ابتسامة غامضة عندما فسر لنا كلمات الرئيس، وفي أي إطار كانت، عندما قال أنه يبعث الأمن الفلسطيني ليفتش حقائب طلبة المدارس بحثاً عن سكاكين، لكن زوجتي التي تزداد تطرفاً يوماً بعد آخر مدعومة من تشجيع أمي قالت:

ـ ومنذ متى يحمل أطفالنا السكاكين؟ أيريد رئيسك أن يحولنا إلى قطاع طرق لمجرد أن يُرضي أسياده الإسرائيليين؟!!! بدل أن يدافع عن “السكين” كوسيلة لرد الظلم ومقاومة المحتل، قي ظل غياب وسائل أخرى.

فقالت أمي جملة من جملها القصيرة الحادة:

ـ طبعاً، فالسلاح أرسلوه ليدمروا سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولم يبق شيء يرسلونه لفلسطين، يا حيف على هذه الأمة يا حيف.

لا أعرف ما الدي أصاب أمي بالضبط، فكل يوم تزداد إنتقاداً وحِدّة على قيادات فلسطين والعرب، لكنني يوم عزاء الشهيد أمجد الذي إغتالوه واقفاً على باب داره برصاصة قناص، قبل شهر من الآن، استمعت لحديث الدكتور خالد، الذي فسر الأمر قائلاً :

ـ أن أمهاتنا وآباءنا بعد أن مر الزمن وهم ينتظرون العودة مُصدقين وعود الأنظمة، سرعان ما تهاوى شبابهم واندثر وهم يأملون خيراً في القيادة الفلسطينية بعدهم، ورأوا أنفسهم يتدثرون في أحضان شيخوخة بائسة، غير قادرة لحملهم لأي شاطئ آمن في بلادهم، التي يرونها بعيونهم المجردة، ولا يبتعدون عنها سوى بضعة كيلومترات، وبعد ما رأوا من تهاون القيادات وتفريطها بالقضية، أخذوا يزدادون ميلاً للمواقف الجذرية الحاسمة، في محاولة للإستفادة من تجربتهم المرة مع المحتل، وفي نفس الوقت لتقريب حظهم في الرجوع والعودة، فهم أكثر من يدرك أن عودتهم مرهونة بصلابة أولادهم، فصاروا يزدادون صلابة خاصة وأنه لم يبق من العمر بقية، وحلمهم بالعودة يدق بعنف تلافيف أدمغتهم…

ورغم أنني لا أتفق مع هذا التفسير الذي يحاول المس بقيادتنا، إلا أن بعضه، خاصة ما يخص أمي على وجه الدقة، صحيحاً، لكن زوجتي وكرهها أو حقدها أو على أقل تقدير عدم إحترامها لهذه القيادة، شيء لم أفهمه ولن أفهمه أبداً.

وسرعان ما أخذ “المناضل المفاوض”، يُدافع عن الرئيس المصري، معيداً كلماته بأن “فلسطين في سلم أولوياته”، فثارت أمي قائلة:

ـ طبعاً، فهو منكم وإليكم، وإلّا لما أغرق أنفاق غزة بمياه البحر، ومنع الطعام عن الغزيين والذي يشترونه بأموالهم، ويغلق المعبر الوحيد أمام الجرحى والمرضى والطلاب والأقارب، حتى لا أقول السلاح الذي كان يجب تقديمه بكل الطرق للغزيين، ليدافعوا به عن الأمة العربية وأولها مصر قبل فلسطين…

فقالت زوجتي بإبتسامة حزينة:

ـ مادامت مصر لم تكن يوماً أولوية لديه هل ستكون فلسطين كذلك؟ من يُهدي الجزر المصرية لآل سعود، ويبقي على أبواب مصر مفتوحة للنهب الأمريكي الإسرائيلي، ويعتقل عشرات الآلاف من شباب الثورة الذين أوصلوه لسدة الحكم، وزاد الجهل جهلاً وعمّق الأمية ورفع نسبتها، ورفع الأسعار وزاد نسبة الدين العام، ورفع الدعم عن المواد الرئيسية، ولم يبنِ مصنعاً أو يدافع عن ماء نيله ضد المشروع الإثيوبي الإسرائيلي، وكمم الأفواه ومنع التظاهر، أتريد من مثل هؤلاء أن يدافعوا عن فلسطين؟!!!

فقالت أمي معلقة من جديد، وكأنهما يعزفان لحناً واحداً ألّفتاه سوياً:

ـ يا طالب الدبس من طيز النمس!!!

فقلت بغباء لكن بحسم واضح:

ـ الرئيس إن قال فهو لا يكذب

فقالت زوجتي بطريقة حاسمة لا تقبل التأويل:

ـ لا يوجد رئيس لا يكذب

فقلت سائلاً بسذاجة طفل، لا أعرف كيف أو لماذا:

ـ والملوك أيضاً؟!!

فردت أمي هذه المرة قائلة:

ـ الملوك والأمراء أبداً لا يَصْدُقون…

ظل “المناضل المفاوض” يلوك كلماته وسط تعليقات أمي وزوجتي، وكلما كان ينطق بشيء لا يعجبهن كن يعلقن عليه بتكامل غريب، وكان حديثه وكأنه مفصل ليستطعن التعليق عليه، خاصة عندما بدأ بالدفاع عن آل سعود كما تسميهم زوجتي، “بأنهم لم ولن يتآمروا على قضية فلسطين”، ودون أن أنبس ببنت شفة قالت زوجتي معلقة:

ـ هؤلاء إما جهلة لم يقرأوا التاريخ يوماً، وإما أعمتهم أموال آل سعود ويكذبون بالمجان، ألم يقرأ  هذا كيف تبرع ملوك آل سعود بفلسطين “للمساكين اليهود” كما وصفوهم؟ ألم يقرأوا كيف تآمروا وتحالفوا مع شاه إيران “حيث إيران لم تكن شيعية في ذلك الوقت!” على عبد الناصر وثورته ومشروعه العروبي؟ وكذلك على نظام الجمهورية في اليمن؟ ألم يستدعوا ويطلبوا برسائل واضحة تدمير الدولة المصرية وهزيمة ناصر بهجوم اسرائيلي وإلاّ فالمخاطر كبيرة على نظام العائلة بأكمله، قبل شهور من حرب الخامس من حزيران 1967؟ وإن كان هذا من الماضي فماذا عن لقاءات مخابرات البلدين الدائم؟ وماذا عن لقاءات الأمراء مع “موسادهم” والتنسيق المشترك؟ وهل فعلاً لم يسمع عن لقاءات الأمراء مع الصهاينةفي الأردن؟ وزيارات بعض وزراء آل سعود للقدس المحتلة نفسها؟ أم كل ذلك لجس نبض المحتل ليعرف آل سعود كيف يحاربونه؟!!!

وضحكت بألم قلّما رأيته عل صفحة وجهها وتابعت بجديتها نفسها:

ـ هؤلاء يعلمون أن مستقبل عائلتهم معلق في أيدي “أمريكا وربيبتها اسرائيل”، والأخيرة هي الأقرب الآن بعد  ما يجري من تدمير للأوطان، لذلك كل هذا التحالف الذي أصبح علنياً الآن ولا يريدنا أن نراه صاحبك القائد.

فقالت أمي رادة على كل أسئلة زوجتي دفعة واحدة:

ـ إنه ثمن المال المدفوع يا بنيتي، والمال إن دخل ثورة أفسدها، أغنى قادتها وأذل شعبها وأضاع قضيته، لهذا بالضبط يابنيتي، نحن على ما نحن عليه من وهن وتبعية وخنوع، وحزب الله على ما هو عليه من عزة وعنفوان وصلابة، رغم أننا سبقناه بعدة عقود بحمل السلاح، لكننا أضعنا إتجاه البوصلة، أو غيرنا إتجاهها بثمن بخس.

كنت أحاول الإبتسام على كلام زوجتي قبل أن تبدأ والدتي حديثها، لكن كلماتها الجافة مزقت محاولات ابتسامتي الفاشلة ورمتها بعيداً خلف جدران الغرفة، كل ذلك و”القائد المناضل المفاوض”، ما زال يتحدث شارحاً تأييده للمبادرة الفرنسية التي لا يعرف نقاطها كما قال، كون القيادة ملّت من التفاوض مع “اسرائيل”، التي لا تفاوض بل تُملي شروطاً كما أكد، وهنا قالتا الإثنتان دفعة واحدة وبنفس الكلمات:

ـ إذن لماذا ما زلتم تتمسكون بالتفاوض كطريق وحيد أيها الأنذال؟

وأكملت زوجتي، وكأنها لا تريد أن تترك شيئاً من الحديث يفوتها التعليق عليه:

ـ إنهم يوافقون على مبادرة لا يعرفون مضمونها كما يدعون، ورغم رفض أغلبية الفصائل الوطنية والإسلامية، إلّا أنهم يعطون لأنفسهم الحق في الموافقة والمشاركة!!! من هم ليفعلوا ذلك؟ من أعطاهم الحق بتمثيل الأرض والعباد؟

فقلت صارخاً بزوجتي بعد أن “بلغ السيل الزبى”، ولم أعد احتمل كل هذا القدح والذم الذي تسيله فوق رؤوس القيادة:                                                                                                                               ـ كفى… لماذا لا تغلقين فمك هذا الذي لم يكف عن الحديث الهدّام؟!!!

وما فاجأني رد أمي التي علا صوتها صوتي قائلة:

ـ لأننا نتحدث عن وطن وعن قضية… نتحدث عن شيء ليس من حق أي كان التفريط به أو التسامح فيه… أفهمت أم علي إفهامك بطريقة أخرى…

كانت ربما المرة الأولى التي تخاطبني بها والدتي بهذه القسوة منذ فترة مراهقتي، وربما طفولتي أيضاً، وما كان مني أن انسحبت بهدوء غاضب لف جسدي كله، اتجهت لغرفة نومي، ودفنت رأسي في ظلام فراشي، وحيداً، طردت أحلامي واستسلمت للنعاس.

استيقظت مع الفجر، حملت صناديق “الخيار”إلى مؤخرة الباص المتوجه للمدينة، وأخذت عربتي ذو العجلات الثلاث، من مكانها الذي أؤمنها كل يوم فيه، أفرغت صناديق الخيار فوقها، ثم أخذت أرتبه حتى جعلته هرماً جميلاً يشد الإنتباه، مع شروق شمس الصباح كنت أنادي عل بضاعتي، “خيــــــــــــــــــــــــــــار… أصابع الببو ياخيـــــــــــــــــــار، أصابع الببو ياخيــــــــــــــــــــار”، وهجم الناس يشترون كما لم يفعلوا يوماً من قبل، فعرفت حينها أن أمي رغم غضبها مني ومن غبائي أحياناً كما تقول، إلّا أنها رضيت علي وعني، ولم تبخل علي بدعواتها بعد صلوات الفجر التي لم تهملها يوماً.

ومع الضحى، امتلأت المدينة بالبشر حتى فاضت بهم، وبدأت تتشكل جماعات بشرية تهتف بحياة فلسطين، وبدأت “الإحتفالات” بيوم النكبة، وكنت أجر عربتي وأنادي ترويجاً لبضاعتي، وفجأة ودون سابق إنذار، داهمت الشرطة الفلسطينية المتجمهرين وعربتي فقلبتها، وانهار بقايا “هرم الخيار” الذي كنت حريصاً على بقائه ليجلب مزيداً من الزبائن، ووقع الميزان بأوزانه وكفتيه، وداست أقدامهم الخيار والميزان وطيق العربة الخشبي، ووقعت أنا بين يدي العربة، ودون تأخير حاولت إعادة عربتي، لكن أيادٍ قوية إنتزعتني، فصرخت”إنها عربتي، أنا بائع الخيار”، وهوت على رأسي هراوة لم أستطع تحديد ضاربها، وتهاويت حتى وقعت على وجهي مثل لوح خشبي، وللحظات لم أعد أرى، وأحسست فقط بلزوجة دافئة تتدفق من الجرح على وجهي ورقبتي، وبقايا كلمات آتية من مكان بعيد تصرخ بي” بائع خيار ياابن الكلب”، وأطل والدي ببارودته، شاباً قوياً لم يعرف الشيخوخة أبداً، تماماً كما صُورته التي أخفتها أمي ولم تُظهرها إلّا بعد استشهاده، والدي الذي استشهد بعد ولادتي بشهور عدة، ورفضت أمي الزواج بعده قائلة، “أنها لن تبدل ذكرياتها مع الشهيد بأي كان أو بأي شيء كان”، لهذا بقيت وحيدها، وكان شيء يصرخ في داخلي” أنا ابن الشهيد ولست ابن كلباً”، أنا ابن الشهيد بائع الخيار، وكان صوت يأتي من بعيد بعيد وكأنه من أعلى طبقات السلطة، من فوق، هناك من العمارة التي يعتليها رأس السلطة، يكرر “شهيد… بائع خيار… ابن كلب”، وعلى مجموعات من البشر بعيدة عن مدى سمعي، كانت تتفجر قنابل الغاز السام من جنود الإحتلال وكأنهم يساعدون شرطة السلطة للسيطرة على الأمور.

وصحوت وأنا في زنزانة في السجن، يقف على بابها شرطي ببارودة طويلة، قال زميلي الذي يبدوا عارفاً بأنواع السلاح، أن هذا النوع من البنادق لا يُطلق إلّا للخلف، ولمّا قرأ الغرابة فوق وجهي أضاف ” إن الخيل من خيّالها”، وكان هناك على أبواب المدينة ضابط عسكري يحمل على كتفه نجمة داوود، يخاطب ضابطاً فلسطينياً، ينسق معه أمنياً، تماماً كما شرح وفسّر “القائد المناضل المفاوض”، يطالبه أن يبحث له عن “يهودي قتل زوجته واختبأ بين أهل المدينة”، وكانت الهراوات ما تزال تدق عظام “المنكوبين” منذ ما يقرب من سبعة عقود في الخارج، والزنازين تمتلئ بالأجساد المنهكة، وكلمات أمي وزوجتي تتعالى وترتفع في أذني صارخة” إننا نتحدث عن وطن وعن قضية…ليس من حق أحد التفريط به… التفريط به…التفريط بــــــــــــــــــــــــــــــــــه”.

محمد النجار

خفافيش الليل تخشى ضوء النهار

تقابلنا بعد مرور ما يزيد عن حفنتين كاملتين من السنين، بل لقد عرفني من مشيتي وأوقفني، مشيتي العوجاء التي لطالما أضحكته وأنا أدور في “فورة” سجن رام الله في دائرة مثل أبقار الساقية، قبل أن ينقلونا سوياً الى سجن النقب الصحراوي مُحوليننا الى الإعتقال الإداري بعد إنتهاء تحقيقاتهم معنا دون نتيجة، حيث “الفورة” أوسع وأكثر شمساً وأعلى حرارة، لكن كل ذلك لم يغير طريقة مشيتي العوجاء كما ظل يسميها، والتي كان طول قامتي يجعلها كبيت تهالك وتآكل جانب من أساسه فمال جانباً وأصبح آيلاً للسقوط.

أوقفني فتوقفت ناظراً في صفحة الوجه المفرود أمامي، لكنني لم أعرفه، فابتسم الرجل كاشفاً عن سنٍ واحدٍ فقط تبقى في منتصف فكه العلوي، قاسماً فمه الى قسمين متساويين، فزاد الأمر تعقيداً على عقلي، فأطلق ضحكته المعهودة الصاخبة وسأل سؤالاً معاتباً:

ـ ألم تعرفني ياصديقي؟                                                                                                     وكلمة “صديقي” هذه هي ميزته الأولى قبل ضحكته الصاخبة، فهو لم يكن يستعمل الكلمات “التنظيمية” للتخاطب كما كنا نفعل نحن، فلم ينادي أحداً ب”الأخ” أو “الرفيق” يوماً، بل بكلمة “صديقي”، حتى لو لم يرَ المُخاطَب إلّا في تلك اللحظة، فكان يخاطبه بنفس الخطاب كما أصدقاءه الحقيقيين أو زملاء السجن العاديين.

وأمام ذهولي المؤقت، حاول أن يوقظ فيّ ذكريات غطتها السنون، فوضع إصبعه على سنه الوحيد الذي ما زال واقفاً وأفلت ضحكته الصاخبة من جديد وقال:

ـ آه… قبل سنوات لم يكن وحده، أما الآن فأصبح وحيداً مثلي، تخيل أنني وكي أحافظ على صديقي الوحيد الذي تبقى، فإنني أقوم كل صباح وأغسله بالفرشاة والمعجون حتى “أهلكه”، ويكاد يأخذ بالصراخ ويقول”اتركني من أجل الله”، أتتخيل كيف أدور حوله بالفرشاة و”أفعكه” و”أُحممه” و”أشطفه”، في محاولة ليظل يسليني فيما تبقى لي من عمر.

عانقته فوراً بعد أن سمعت ضحكته الصاخبة الثانية، وقلت صادقاً حتى وإن لم أكن صادقاً تمام الصدق:

ـ طبعاً عرفتك يا صديقي، وكيف لي أن لا أعرفك، وهل يخفى القمر يا أبا خالد؟

وخالدٌ هو الإبن الذي لم يرَه، حيث كانت زوجته حاملاً به في الشهر الخامس في الإنتفاضة الأولى، عندما تلقت قنبلة غاز في صدرها، في مسيرة نسائية على باب الكلية الأهلية في مدينة رام الله، فأوقعتها، وأخذ الغاز ينتشر بكثافة في المكان، ودخل دفعة واحدة في فمها وأنفها، فلم تعد قادرة على التنفس عِوضاً عن النهوض، وكلما اقتربت منها امرأة لسحبها من المكان كان الرصاص يطلق نحوها، وحتى عندما حضرت سيارة الأسعاف، أوقفوها ومنعوها من التقدم الى المكان، وسرعان ما اعتقلوا الطبيب المناوب فيها لإحتجاجه على الأمر وحولوه الى الإعتقال الإداري، وظلت هي في مكانها تحاول جاهدة انتزاع حزمة هواء نقي خالٍ من السموم ،للطفل على الأقل، دون فائدة، متناسية آلام حروق صدرها، حتى صعدت روحها الى السماء مع طفلهما الجنين، وربما تمتم هو في صدره”جاءت من القرية ليكرمها الله بالإستشهاد في المدينة”، ووفاء منه وحباً، لم يتزوج أبداً، حتى أن أمه قبل موتها لم تلح عليه كثيرا، وقدّرت واحترمت موقفه، وقالت في سرها “إن إبنها من صنف بعض الرجال الذين حتى لو لم يُخلِّف فهو لن يموت”، وظل هو يزور قبرهما وقبر أمه المجاور، ما دام خارج السجن.

شكرني على كلماتي “الطيبة” كما وصفها، واحتضنْتُ عضده، ودون مقدمات أقسمت بأن يأتي للغداء عندي، ولا أدري لماذا اجتاحتني ” موجة الكرم الحاتمي” هذه، والتي لم أكن أعلم أنها متأصلة في عقلي الباطني، بل في مرات عديدة كانت زوجتي تصدمني بكلماتها وهي تقول لي معاتبة عندما لا أقوم بدعوة الناس الذين ألتقيهم:      ـ لماذا وقفت مثل الأبله؟لماذا لم تدعهم على وجبة غداء؟

وعندما كنت أنظر اليها منبهاً بكلماتٍ من عيني، بأن ثلاجتنا خاوية من كل أصناف اللحوم كانت تكمل وتقول:

ـ الجود من الموجود…. على فنجانٍ من القهوة على الأقل…

قال محاولاً التفلت من قبضة يدي:

ـ بارك الله فيك، لا أستطيع، وهل أنا أريد تجربة كرمك؟

لكني أقسمت على غير عادتي من جديد.

كان يكبرني بجيل كامل ونصف الجيل، يعني أنه ربما يقف على أبواب السبعين، لكن جسده الرفيع ما زال رفيعاً، وما زال منتصبا مثل جذع زيتونة صلب ليس من عادته الإنحناء، وكان في كل فترة السجن من أكثر الناس قراءة، وعادة ما كان وقته مقسوماً إلى أشياء ثلاث يفعلها في سجن النقب على وجه التحديد ، القراءة والمشاركة في البرنامج الثقافي و ساعة من المشي يوميا في ساعات ما قبل الغروب، وكنت أحب الإستماع لشروحاته وغناها، وأحاول أن أقرأ ما يقرأه علّني أصبح فاهماً ومثقفاً مثله، وعندما رآني أستعير ذات الكتب التي يقرأها، سألني:

ـ هل قرأت كتاب كذا وكذا؟

ولما أجبت بالنفي قال :

ـ أنصحك بقراءتها أولاً كي تستطيع فهم هذا الكتاب بطريقة أفضل.

وأمام إصراري على دعوته قال:

ـ جيد، نشرب القهوة… ولا شيئاً آخراً…

ومشينا نحو منزلي القديم على طرف المدينة البعيد، غرفة وصالة صغيرة ومترين مربعين حولتهما لمطبخ، ومرحاض، سألني:

ـ ماذا تفعل هذه الأيام؟

فقلت:

ـ كما تعلم مع هذا الحصار وهذه الحواجز، وكوني معتقل سابق يمكنهم توقيفي واعتقالي على أي حاجز، لم يعد بإمكاني متابعة عملي كعامل مياوم خارج المدينة، على الأقل كي لا أُذَكَّرهم بنفسي، وكي أظل أقتنص وأصيد الرغيف بين فترة وأخرى ما دمت خارج السجن…

قال:

ـ نعم ياصديقي، الأوضاع صعبة وعليك الحفاظ على نفسك وعائلتك… لأن هذا نضال أيضاً، وكيف هي  إبنتي؟!!      سأل عن زوجتي التي كان يطلق عليها لقب”ابنتي” في أحيانٍ كثيرة، واكتفى بهزة رأس وكلمتين مني ،”ماشي الحال”

كان حديثه سرعان ما يجد طريقه الى العقل والقلب، وأذكر عندما قال زعيم إحدى فصائل الإسلام السياسي، الذي لقبوه ب”أميرالمؤمنين” ، الذي ظل يتغنى “بأن الله ميزنا على غيرنا عندما أكرمنا ب”الإسلام”، قال له أبو خالد:

ـ كما أكرمنا الله بديننا أكرم الآخرين بدينهم أيضاً، وهنا لا ميزة لأحد على الآخر، فكلنا وُلدْنا بديننا ولم نختره، أم تعتقد أنه أكرمنا بديننا وأذل غيرنا بدينه؟!!!

ثم حذّر الرجل بالتروي والتنبه فيما يقول، كي لا يكون الأمر موضوع فتنة داخل السجن، خاصة وأن الإحتلال يتربص ليجد ما يفرق به المناضلين. ومع تعنت “أمير المؤمنين” سأله أبو خالد مجدداً:

ـ يا صديقي، بأي حق تريد فرض معتقداتك على الآخرين؟ من أعطاك هذا الحق؟

فقال الشيخ:

ـ إن من واجبي أن أقيم “شرع الله”.

فقال أبوخالد:

ـ وهل أعطاك الله أمراً بذلك؟ كل معتقِد يعتقد أن دينه أو مذهبه هو الأصح وهو “شرع الله”، وكلهم مؤمن بذلك، لكن لا أحد من كل الديانات أو المذاهب والطوائف يستطيع ان يجزم بذلك، وإن كان كل واحد سيطبق ما يسميه ب”شرع الله” ويقيم حدوده وقوانين دينه على الآخر، فسندخل في مجازر وحروب لن تنتهي.

فقال الشيخ بثقة وتأكيد:

ـ بلى، إننا نستدل على ذلك بقول الله وبالمنطق.

فرد أبو خالد قائلاً:

ـ كلٌ يعتقد أن الله أمره بتطبيق ما ورد في كتبه المقدسة، ويؤمن أن منطقه هو المنطق الأسلم والأصح يا صديقي الشيخ.

وبالمناسبة سأل أبو خالدُ “الشيخ”:

ـ منذ متى أنت معتقل؟

ـ ثلاثة شهور.

ـ وبكم أنت محكوم؟

ـ ست شهور إدارية

ـ وهل هذه أول مرة تُعتقل فيها؟

ـ إنها الثالثة

فقال أبو خالد مشيراً بإصبعه نحو شخص كان يتمشى في ساحة “الفورة”:

ـ أترى ذلك الشخص ذو البنطال الأسود والقميص الأزرق؟

ـ نعم.

ـ قبل عشرين عاماً من الآن، أمضى هذا الرجل عدة سنوات في السجن،  وبعد فترة من خروجه تمت مطاردته وجرت محاولات لإلقاء القبض عليه، فاختفى واختفت أخباره معه، ليكتشف الجميع أنه بقي يناضل متخفيّاً عشر سنين كاملة قبل أن يتم إعتقاله مجدداً، أتتخيل الأمر؟ عشر سنوات لم يستطيع الإحتلال بأجهزته ومخابراته القبض عليه، وبعد اعتقاله حاكموه بالسجن الفعلي لخمس سنوات، وبعد أن أمضاها حولوه مباشرة للإعتقال الإداري، وها هم يمددون له للمرة الرابعة على التوالي  و”الحبل على الجرّار”، ست شهور في كل مرة.              وسكت قليلاً وأكمل:                                                                                                              ـ إن هذا الرجل مسيحي الديانة، ومثله الكثيرون إن كان الأمر يعنيك إلى هذا الحد،  فمن تعتقد أنه يمتاز عن الآخر برأيك ياصديقي، أنت أم هو؟ أم تعتقد أن الله سيدخلك الجنة كونك مسلم ويدخله النار كونه مسيحي دون النظر في أعمال كل منكما؟!!!

ولما لم يجد الشيخ ما يجيب به اتهم أبي خالد بأنه علماني الهوى، فقال أبو خالد حينها:

ـ وهل العلمانية تهمة؟ أنا لا أراها كذلك، وهي لو علم المتدينون الأفضل بالنسبة لهم، فهي تمكن كل متدين مهما كانت ديانته ومهما كان حجم تمثيلها ونسبتها في المجتمع، بأن تمارس طقوسها وعباداتها وشعائرها دون حق الإعتراض أو الرفض أو التهديد أو حتى حق الممانعة من أحد، لكن المذهبيين أو الطائفيين أو المتعصبين من أصحاب الديانات المختلفة، يرون في مذاهبهم حصراً أنها الصالحة والصحيحة دون غيرها، أما الديانات أو المذاهب والطوائف الأخرى، فيرونها خارجة عن قوانين الله وشرعه، وبالتالي وجب إيقافها ومعتقديها عن “غيهم” و”فسقهم” وعن “ردتهم”إن شئت، ليعودوا لرشدهم  وبحد السيف إن تطلب الأمر ذلك، يعني تحت شعارات دينية زائفة تعتقد أنها تملك الحقيقة دون غيرها، وتُدخل مجتمعاتنا في أتون حروب لن تنتهي، فكما قلت لك ياصديقي لا أحد يستطيع التأكد بأن دينه أو طائفته هي الصحيح المطلق .

ومن يومها عمم “أمير المؤمنين” : مقاطعة أبي خالد، وحرّم الحوار معه.                                                    وذكّرته بالأمر الآن ونحن نسير نحو بيتي، فقال:

ـ إن ما تراه أمامك الآن من تدمير للأوطان ما هو سوى نتيجة لمثل أفكار ما أسموه ب”أمير المؤمنين” ذاك وأمثاله، أعني أن “الغرب” وجد ضالته بهؤلاء، فدعمهم وسلّحههم وموّلهم من جيوبنا ليدمر بهم أوطاننا ويقسمها.، يعني يخوض حروباً بدمنا وأموالنا ويدمر حضاراتنا وتاريخنا ليحقق مصالحه، أرأيت المأساة؟!.

وتابعنا مشينا نحو بيتي، وأكمل وكأنه يكمل موضوعاً لم يكتمل بعد، فقال مستبقاً ما أراد قوله بضحكة مجلجلة صاخبة:

ـ يريدون إقناعنا بأن ما يدور في منطقتنا بأنه “ثورة شعب”، مستخفين بعقولنا وكأننا قطيع ماشية وليس بشر، تخيل “ثورة” تقودها أمريكا وبريطانيا العظمى وفرنسا الإستعمارية وتدرب قواتها “إسرائيل” كما وتعالج جرحاها، وتمولها “حارة الشيخة موزة” وعائلة آل سعود، فهل هذه ثورة؟ ويخوضون الحرب علينا تحت شعارات الديمقراطية!!! أي ديمقراطية هذه التي تدعمها أكثر الدول فساداً ولصوصية وفاشية وعنصرية ومعاداة للديمقراطية؟!!! وأي ديمقراطية هذه التي تُدمر الأوطان وتحاول تقسيمها وتستجلب دول “الناتو” لغزوها؟!!! ببساطة ياصديقي، لا يمكن لثوار أن يأتوا محمولين على ظهور دبابات الأعداء، لا يمكن لثوار أن يتنازلوا عن جزء من أوطانهم للأعداء مقابل دعمهم في تدمير بلدهم، بحجة فساد النظام كما فعل “أبطال الثورة السورية”، متنازلين عن الجولان المحتل لإسرائيل مقابل دعمهم، ولا يمكن لثورة ولا لثوار معاداة كافة قوى التحرر وبناء التحالفات مع القوى الرجعية في المنطقة.

ـ يا صديقي، إن كان صحيح أن العنف ضرورة للثورة في معظم الأحيان، فمن الصحيح أيضاً أن ليس كل عنف ثورة، وأكثر صحة أن لا الإستعمار ولا الرجعية يمكنهما أن يقودا ثورة، عوضاً عن أنهم يُقاتلون وربما يُقتلون من أجل أن ننعم نحن بالديمقراطية، ألا يكفينا “ديمقراطيتي” العراق وليبيا كي نفهم الأمور؟!!!.

سكت قليلاً وقال من جديد:

ـ كثيراً ما تذكرت في الفترة الأخيرة الماضية، كلمات المناضل كاسترو الذي قال” إذا ما إمتدحت أمريكا والغرب سياستنا علينا إعادة النظر بهذه السياسة”، أرأيت آلية تفكير الثوار الحقيقيون ياصديقي!! ونحن يقودنا ويوجهنا ويهدر دمنا ويدمر أوطاننا الأمريكان وحلفاؤهم وتابعيهم في المنطقة، وندّعي أن ما لدينا ثورة!!!

كنا قد وصلنا البيت، ورحبت به زوجتي، بل وقبلته من خديه، فما أكثر ما رأته سواء في زيارتي في زنازين سجن رام الله، حيث كانت محاكمات التمديد تجمعني والكثيرين بما فيهم هو، وكذلك في بعض زيارات سجن النقب، أثناء زيارة أمه العجوز قبل أن يُغيبها الموت.

وتقابلنا على فنجان قهوة، وأكمل هو وكأنه تذكر شيئاً لم يقله:

ـ تخيل!!! آل سعود يريدون الديمقراطية في سوريا والعراق وليبيا!!! والكثيرون يصدقون ذلك!!! لا أحداً من أولئك يدرك أن فاقد الشيء لا يعطيه!!! وأن من يقطع الرؤوس التي تعبر عن رأيها في بلده يعطينا دروساً دامية في الديمقراطية!!! يالله ياصديقي، آل سعود!!! هزلت ورب العزة، رحمك الله يا ناصر السعيد.

وأكمل وكأنه يريد تعريفي بناصر السعيد:

ـ ذلك المناضل الحجازي الذي اختطفته جماعة من”قيادتنا الفلسطينية” في بيروت، وسلمته لآل سعود ليلقونه من طائرة عمودية في صحراء الربع الخالي، أيمكن تخيل مثل هؤلاء المتوحشون الذين بشرونا بنشر ديقراطيتهم هذه في سوريا والعراق واليمن وليبيا؟ . لقد قال ذلك المناضل:”لن تنتصر قضية فلسطين ما دام آل سعود في سدة الحكم”، وها نحن نرى تحالفهم مع الصهاينة لمحاربة ما تبقى من قوى الثورة والممانعة بإسم الإسلام “السني”مرة والعروبة مرة أخرى، وكأن العروبة مقتصرة على السنة فقط في الإسلام، فكما حاربوا عروبة المرحوم “عبد الناصر” بإسم الإسلام “السني والشيعي” بتحالفهم مع إيران الشاه، يحاربون قوى الثورة العربية باسم السنة والعروبة الآن.   طبعاً إنهم “ثوار” آل سعود.!.!.!

وضحك بصخب أكثر هذه المرة، وقال عائدا الى صلب الموضوع،

ـ أتساءل أحياناً، هل الله فعلاً هو من خلق آل سعود ،أم أنهم نبتاً شيطانياً فاسداً ظهر فجأة وفي غفلة من الزمن؟!!! أستغفر الله العظيم، ولا أخفيك أنني أستصعب تصديق ذلك، إلا إذا كان الأمر إبتلاءً من الله واختباراً لصبرنا وقدرتنا على التحمل. لأن نسبة الذل والهوان والفساد والجهل والضلال والعفن والوقاحة والغرور في طينتهم عالية جداً، لكنني أعود وأقول أن هذه الصفات ما هي إلا صفات مكتسبة لا علاقة للإله بها، ولا يستطيع اكتسابها إلا كل نذل خسيس.

فقلت من باب المجاملة والمشاركة في الحديث:

ـ أنظر ماذا يفعلون في “حلب”، يقصفون ويدمرون وينهبون خيرات المدينة، ويصرخون “حلب تحترق”، وهم من يحرق ويدمر ويُزوِّر الوقائع، وتصرخ معظم كل الدول “العاهرة” في هذا العالم “أنقذوا حلب”!!!…

فقال:

ـ طبعاً ياصديقي، بعد أن فشلوا في تحييد تنظيم القاعدة في بلاد الشام المعروف بإسم “جبهة النصرة”، وجعله تنظيماً “معارضاً معتدلاً” لجأوا لخطوة زعيمهم الأمريكي للخطة “ب”، حيث دعموا هؤلاء التكفيريون بآلاف المقاتلين الجدد وبالعدة والعتاد من بلاد “العثمانيين الجدد”، وبضخ الأموال من حثالات آل سعود، ليكسروا شوكة جيشنا العربي السوري، “ودق على صدره عندما ذكر كلمة جيشنا وأكمل”، لكني أعتقد أن الأمور في نهاياتها، وأن قوى الظلام هذه ستحترق مع شروق شمس الصباح، فهذه الخفافيش لا تستطيع الحياة إلا في بين تلال العتمة ومنحنيات الظلام.

أحضرت زوجتي صحنين من الزعتر والزيت، وصحن جبنة بيضاء، وأربع بيضات مسلوقة مقطعة مبهرة تزينها كمية من زيت الزيتون، وصحناً من دبس الخروب الذي صنعته بيديها، وبضعة أرغفة من خبز الطابون، وقالت :

ـ هيا على ما قُسم…

وأمام محاولات رفضه الخجول قالت زوجتي:

ـ وهل هناك من يخجل من أبنائه؟!!!

ودون أي كلام تقدم وقسم الرغيف من طرفه، محاولاً منع بضع دمعات كانت تتفلت للإنسياب على وجهه.

قلت مغيراً الموضوع:

ـ أنا آسف، لم أعرفك للوهلة الأولي، تهيأ لي أنك قد تغيرت .

فقال بطريقة حاسمة:

ـ بالتأكيد، كلنا نتغير، يفعل الزمن فعله فينا بصمت وهدوء، وننخدع نحن بشبابنا أو بأموالنا أو بقوتنا، ولا ندري كيف يتقدم العمر بنا ولا كيف تدخل الشيخوخة أجسادنا، وللشيخوخة مظاهرها ورائحتها، فما أن تضع قدمها في حياتنا حتى تأخذ أيامنا تركض وتتسارع نحو نهاياتها، لنجد الموت مختبئاً لنا في أي زاوية ومكان، هكذا هو الأمر ببساطة يا صديقي…

وضحك أيضاً بعد هذه الكلمات بصخبه نفسه، متجاوزاً الحالة التي تركتها كلمات زوجتي على ملامح وجهه.

أنهى طعامه قبلنا ، كعادته في السجن، كان يغادر جلسة الطعام قبل الجميع، وكثيراً ما كنت أشعر أنه يريد توفير الطعام ليشبع الآخرين قدر الإمكان، ولما حاولت الإحتجاج قال:

ـ إنك تعرفني جيداً، هكذا كنت وما زلت.

ساعدت زوجتي في رفع الصحون وعدت لأشرب الشاي معه، وقلت:

ـ تبيت الليلة عندنا، وتغادر في الغد…

فقال:

ـ بارك الله فيك، لكني لا أستطيع.

قلت:                                                                                                                                  ـ كيف لا تستطيع؟

وكدت أكمل “فأنت بعد وفاة أمك أصبحت وحيداً”، و “وأصبحت مقطوعاً من شجرة”، ولشدة غبائي لم أفكر لحظة بأن هذا الرجل ربما تزوج وأنجب أيضاً في كل تلك السنوات التي إنقضت ولم أره بها.

قال :                                                                                                                                  ـ صدقني يا صديقي، فأنا فعلاً لا أستطيع…

فقلت مصراً على بقائه:

ـ هل تزوجت في لاحق السنين؟

فضحك بصخب وقال:

ـ أبعد كل هذا العمر؟!!! لا يا صديقي لا.

واقترب من أذني وقال:

ـ أتذكر صديقنا صلاح؟

وأمام سكوتي الأبله قال موضحاً:

ـ الذي أرجعوه من الإداري الى التحقيق؟

وبقيت ساكتاً غير مجيب فقال:

ـ الذي كان مصاباً في ساقه يا رجل…

وعندها هتفت متذكراً:

ـ آه … صلاح، ماهي أخباره؟ ماذا به؟

فقال ودون أن يضحك هذه المرة:

ـ بعد أن أخرجوا الرصاصة من ساقه، ابتدأت الساق تضعف وتتقلص وكأنها تسير نحو الإضمحلال، يبدو أن العصب تمزق وبعضه قد جف، ولم يعد بالإمكان فعل شيء…                                                                          فقلت من باب الشفقة والألم:                                                                                                   ـ مسكين ياصلاح…                                                                                                                   قال:                                                                                                                                 ـ لا أستطيع تركه لوحده، فهو في استضافتي، ونعيش سوياً من “حاكورة” المنزل…

ورأيت التبدلات التي تعصف بوجهه، وأكمل وبركان قلبه يكاد يتفجر، وقال:

ـ لا أريد التعليق على ترك فصائلنا لمثل هذا الشاب هكذا دون علاج، لكن أن تتركه دون مساعدة مالية يستطيع أن يعيل نفسه برغيف خبز؟ إنها والله لا تُفهم ولا تُصدق… والأكثر إيلاماً أنه يمكن أن يُعتقل من بيته وتكون نهايته الأكيدة…

سكت قليلاً وقال من جديد:

ـ وسمعت أن “مثله مثايل”، والموضوع ليس متعلقاً بسلطة أوسلو وحدها، فهؤلاء لا خير فيهم ولا أمل منهم، بل بفصائل تاريخها ظل تاريخاً مشرفاً، ما الذي يحصل يا صديقي؟ أإلى هذه الدرجة وصلت بنا اللامبالاة ؟ألهذا الحد فقدنا إنسانيتنا؟ أم أن أمراض “أوسلو” توغلت فينا وأخضعتنا لذاتية قاتلة مفرطة؟!!!

فقلت في محاولة للدفاع فاشلة، ولا أعرف السبب وراء ذلك، فأنا لم أقدم مثله للقضية الوطنية، ولست بأحرص منه عليها:

ـ ربما نسوا أمره!!

فقال ساخراً دون أن يضحك ضحكته الساخرة، صدق الشاعر حينما قال:

“إن كنت تدري فتلك مصيبة                            وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم”

وأكمل بجدية صادقة لم أرها عند أحد من قبل:

ـ أقصد كيف يمكنهم نسيان ذلك، إن من نسي جرحك وألمك اليوم سينسى دمك لا محالة غداً، فمثل هذا النسيان ليس من شيم الثوار ، ومن ينسى دماء ثوّاره كيف يمكن إإتمانه على القضية ياصديقي.

وقف على رجليه وأكمل دون أن يطلق ضحكته الصاخبة وقال:

ـ لم يبق على موعد الباص المتوجه لقريتنا كثيراً، وأعتقد أنه الباص الأخير، إذهب وأحضر إبنتي لأودعها، فربما كان الوداع الأخير، فلا أحد يستطيع أن يعلم متى ترميبه الشيخوخة في أحضان الموت.

محمد النجار