لا أدري ما الذي جعلني أحمل نفسي وأذهب إليهما، فزياراتي لهما كانت متباعدة جداً دائماً، ولولا رابطة القرابة البعيدة لما أجهدت نفسي للذهاب، رغم كوني كنت كثيراً ما أشعر بفرح ما عند لقاءهما، وفي مرات كثيرة أظل أتذكر هذين الكهلين لفترة طويلة لاحقه. إنهما الحاج راجح وزوجته، شارفا على الثمانين وظلّا كما لو أنهما في عز شبابهما، فرحين خفيفي الظل، مقبلَين على الحياة، يرميان كلماتهما الناقدة كأبلهين دون أن تشعر بذكائهما إلا إذا كنت تعرفهما جيداً. قلت له ذات يوم بعد أن فشلت قائمة زميلي ناجح عبد القادرفي انتخابات النقابة :
ـ لقد رسبت القائمة في الإنتخابات ياحاج راجح، لم أكن أتوقع ذلك،كان بينها وبين العضو الأخير بضعة أرقام ليس أكثر, وتم إعلان الإسم الأول في القائمة كإحتيا ط”ناجح عبد الستار ” إحتياطً.
قال حينها دون حتى أن يبتسم:
ـ يعني “ناجح” كان مجرد اسمٍ وليس نتيجة؟!!!
وأمام اندهاشي من عبارته تلك فإنني حتى لم أقوَ على التعليق، وتحدثنا في أمور عديدة وقضايا مختلفة، وكان بين فترة وأخرى يسألني كالأبله من جديد:
ـ قلت لي أن “ناجحً” هو إسم وليس نتيجة؟!!!
نكون قد غادرنا الموضوع وهو يقترب من أذني وكأنه يريد البوح بسر ما ويعيد:
ـ إذن “ناجح” هو إسم وليس نتيجة.
حتى وجدتني أضحك من كل قلبي في نهاية لقائنا رغم حزني الشديد على نتيجة الإنتخابات.
وها أنا أجد نفسي في زيارته من جديد، كانا متقابلين على مقعدين قديمين من القش مثل كراسي المقهى ، يشرب هو الشاي وهي تقابله، “تمزع” رغيف الخبز وكأنها تشرط ورقة، ثم تأخذ بين أصابعها كسرة طويلة وتغمسها في كاس شايها، وتأكل الخبز بعد أن تغرق في الشاي وتكاد تذوب، تأكلها متمتعة وكأنها تأكل “منسفاً”، رحبا بي كعادتيهما، وجلست على مقعد مجاور كان بينهما، قالت بعد أن سكبت لي كأس شاي دون أن تسألني:
ـ أهلاً وسهلاً… “وجهك ولّا وجه القمر” ما الذي حذفك علينا؟ ما الذي ذكرك بنا؟
ـ إنكم في البال دائما ياحاجة لكنها الظروف كم تعلمين، وما أن وجدت نفسي في عطلة رسمية حتى حضرت كما ترين. قلت مبرراً غياباتي المتباعدة، فقال الحاج راجح متسائلاً:
ـ عطلة ورسمية أيضاً؟ خير وما المناسبة؟
قلت مستغرباً سؤاله:
ـ كيف ما المناسبة ياحاج؟ إنه عيد الإستقلال…
رفع رأسه إلى الأعلى وقال وكأنه تذكر ما كان ناسياً.
ـ آه …الإستقلال…ومتى استقلينا نحن ياحاجة صبحة؟ لا تؤاخذني يابني، لم يقل لي أحد شيئاً عن ذلك… وربما “الكبر عبر” وبدأت أنسى
عرفت أنه بدأ يسخر مني ومن المناسبة أكثر، وأكمل مخاطباً زوجته:
ـ إنني غاضب على الأولاد ياحاجة صبحة، لا أحد زارنا منهم، أيعقل ذلك؟
فتساءلت بغباء لم أعهده في نفسي كثيراً من قبل :
ـ ومتى خرجوا من السجن؟ والله لم أعلم أبداً
فقالت الحاجة صبحة عازفة على نفس لحنه:
ـ المفروض أن يكونوا قد خرجوا، ألم تقل أننا أخذنا استقلالنا؟
فرد هو مجدداً:
ـ ربما تغيرت الدنيا في مثل هذا الوقت ياحاجة، فأصبح الإستقلال ممكناً وأبناؤنا لا يزالون في السجون!!!، لكني شاهدت بالأمس جنوداً يطلقون النار على الفتيان فيقتلونهم بدم بارد، قالوا لي أنهم إسرائيليون…آه… هذا كان بالأمس ونحن استقلينا اليوم!!!، أم منذ بدأ التنسيق الأمني لم نعد نفرق بينهما؟
فقالت الحاجة صبحة دون أن تترك لي مجالاً لأعرف إن كانت مبتسمة أم مكتئبة:
ـ “الخل أخو الخردل “ياحاج.
قلت في محاولة للمشاركة في الحديث:
ـ يبدو أنهم ندموا على ما فعلوا في “أوسلو” وملحقاته، فها هو عريقات يريد الإستقالة نتيجة تعنت حكومة العدو.
فقال الحاج راجح دون تردد:
ـ وهل هناك من يمسك به ليبقى؟ أم أنه يهددنا بالإستقاله؟ فربما لن نجد مفاوضا متمرساً مثله، حقق لنا بحكمته وجرأته وتفانيه، وبطريق التفاوض ما لم نستطع تحقيقه عن طريق الثورة المسلحة؟!!! وكأننا سنخسر الجنرال جياب؟!!!
سكت قليلأ ثم أضاف:
ـ حكومتهم هي السبب؟!!! المهم رأيهم فقط، رأي الشعب لدينا لا يهم ، خاصة وأنه وسلطته قاموا بالواجب على أكمل وجه.
قلت من جديد:
ـ الله يصلح حالهم، ربنا يجيب الذي به الخير.
فقالت الحاجة صبحة معلقة على كلماتي:
ـ “ذنب الكلب ما بنعدل حتى لو وضعوه في مائة قالب”.
قلت في محاولة لتصحيح مفاهيمهم:
ـ يبدو أنهم بدأوا يدركون خطأهم الآن، فهذه المرة ليست كسابقاتها
فقال الحاج بحسم قليلاً ما عهدته عنده من قبل:
ـ انظر يابني، مَنْ يمكن شراءه بالمال لا يمكن الوثوق به، وسلطتهم كلها مشتراة بمال آل سعود ومن لف لفهم، حتى أن لا قيادة السلطة ولا قيادة حماس السياسية لم يجرؤوا على التضامن مع قناة الميادين، ولو من باب حرية الكلمة، أو كما تقولون أنتم المثقفون من باب الحق في حرية التعبير، طبعاً خوفاً من أن يغضب عليهم آل سعود والشيخة موزة وأبناءها. فهل مثل هذه القيادات يمكن ائتمانها على مصير شعب؟ وها هو الرئيس نفسه رغم انحدار شعبيته، ورغم معرفته بأن ما فعلوه في “أوسلو” أوصلنا إلى الحضيض، لكنه لا يأبه بالشعب كله ولا برأيه، وربما لقاء واحد مع “كري” أهم من الشعب ورأيه. ورغم أن الإحتلال يقتل أبناءنا في الطرقات والمدارس والمستشفيات، إلّا أن لا الرئيس ولا حاشيته لم يدعُ قيادة العمل الوطني ولا حتى مرة واحدة للإجتماع لتدارس الأوضاع واتخاذ ما يناسب المرحلة من قرارات وبرامج، لكنه يريد تدجين غزة وإدخالها بيت الطاعة الأوسلوي، يريد تجريدها من سلاحها، ليسهل إخضاعها له وللإحتلال، يريدون تعميم الإستسلام ، هذه السلطة لا تعرف سوى ذلك وتبريره بكلام وطني لا يغني ولا يسمن من جوع يابني.
فقلت في محاولة للتخفيف من غضبه:
ـ يبدو أنهم تعلموا هذه المرة، فالإحتلال لن يعطيهم شيئاً، وهم قد أصبحوا عراة أمام الناس.
فردت الحاجة صبحة قائلة:
ـ لا تصدقهم يا بني،” علّم في المتبلّم يُصبح ناسي”، هؤلاء لا يتوبون أبداً، مثل العاهرات ـ لا تؤاخذني ـ فأنت مثل أولادي، انهم كالتي “خاطرها بذلك الشيء وخائفة من الحبل”، ليس لديهم مبدأ أو ضمير.و، وها أنت “متعلم” و”ياماشاء الله عليك” وتصدقهم، جاي تقول عيد الأستقلال، إستقلال مرة واحدة؟!!! فعلاً اسم الجمل قتله
وسكتنا، بالأصح سكت كي لا أثيرهما أكثر، فلهما من الأولاد ثلاثة في سجون الإحتلال، وأطعم الله ابنهما البكر “الشهادة” في انتفاضة الأقصى، وأحد أبنائه المعتقل إدارياً لدى الإحتلال منذ ثمانية عشر شهراً، اعتقلته سلطة أوسلو وحققت معه طويلاً محاولة أخذ ما عجزت عنه اسرائيل من معلومات، ولما عجزت اعتفله الإحتلال إدارياً، إنه عمل متكامل بين جهازي المخابرتين!!!.
كان قد أنهى شرب شايه الذي كان قد برد في الكأس الذي أمامه، وأكمل وكأنه يتابع موضوعاً طال انتظاره لينهيه، فقال:
ـ لقد أضحوا مثل الأنظمة التي تراها أمامك، نظام عربي رجعي تابع، من يدفع أكثر له حصة أكبر فيهم… انظر مثلاً منذ ما يزيد على عام كامل مرت على حرب غزة الأخيرة، ماذا فعلوا لسكان القطاع المحاصر والمدمر والمريض والجائع؟ لماذا لم يطلبوا من نظام مصر أن يفتح المعبر بدلاً من إغراقه الحدود بمياه البحر التي تتداخل مع مياه الشرب وتفسدها؟ وهم مع النظام المصري يطبقون الحصار على غزة ليدخلونها قمقم التسوية ومن ثم الإستسلام. نعم هذا النظام الذي تغرق قرى الصعيد تحت مياه النيل منذ أيام ولا يحرك ساكناً، لم يبعث حتى مساعدة لإستخراج جثث الآلآف من سكان القرى الغارقة تحت الماء، وبدل المساعدة يمنع ذكر أي خبر عن الحادث!!! نظام بهذا الشكل خان ثقة شعبه به منذ اليوم الأول لمجيئه أتعتقد أنه مهتم لسكان قطاع غزة؟ هل سيفتح المعبر دون ضغوط؟ نظام يحكم بالإعدام على الآلآف من شبابه يمكن أن يهتم بغزة أوفلسطين؟نظام ما يزال يعتقل ويعذب ويقتل ويخطف ويغتال ، ورغم انتهاء حالة الحرب إلّا مع شعبه ، فهو ما يزال يحتفظ بما يسميه” المخابرات الحربية”الذي تحول لجهاز قمع وتعذيب لأي معترض أو صاحب فكر أو حتى حتى رأي!!!،هذا النظام يعلمهم ويدربهم على القمع، هؤلاء “المسالمين” مع الإحتلال يتفننون بقمع شعبهم، لقد حدثني “فهد” إبني ـ وضرب بيده على صدره وأكمل ـ عمّا فعلوه معه عند إعتقاله.
وسكت فجأة وكان يجول بعينية في أرجاء الغرفة وكأنه يبحث عن شيء ما، ثم قال وكأنه يدلي بخلاصة حديثه وعصارته:
ـ حجارة فلسطين هذه مقدسة كتينها وزيتونها، ألا تلاحظ أنها تتفوق على آلات قهرهم وترسانتهم التسليحية؟ لو كانت هذه السلطة سلطة شعب بشكل حقيقي، لدعمت حركة هذا الشعب وانتفاضته، لنقلت معركة السكاكين إلى الداخل المحتل، إلى المناطق الأكثر أمناً بالنسبة لهم ، لتجبرهم على إغلاق متاجرهم وشوارعهم وأسواقهم ومدارسم ووسائل نقلهم، لحرّمت عليهم أي نوع من أنواع الحياة ماداموا يحرّمونها على شعبنا، على الأقل لفرضت عليهم التعامل بالمثل، ولأغلقت آذانها كي لا تسمع نصائح المخصيين من ملوك وأمراء ورؤساء هذه الأمة المخصيين .
فقالت الحاجة صبحة قاطعة حبل أفكاره:
ـ لا تتعب يا حاج ” لا حياة لمن تنادي”.
وسرحت متسللاً من بين كلمات الحاج راجح وزوجته الحاجة صبحة، ولسبب ما تذكرت قصيدة الشاعر الكبير “أمل دنقل” وهو يقول :
عيد بأي حال عدت ياعيد بما مضى أم لأرضي فيك تهويد
نامت نواطير مصر “عن عساكرها” أو حاربت بدلاً منها الأناشيد
… وقلت في نفسي :إنهم لا يجرؤون على الحرب حتى بالأناشيد
محمد النجار