القلعة

ساقتني قدماي إلى بيت الشيخ “أبو محمد الأعور”، كي يُفسر لي حلماً يتابعني ويلاحقني منذ زمن، ولست قادراً على التخلص منه، والأعور لقب له كما وصِفة أيضاً، فالله الذي خلق الإنسان وكبره، خلق فيه بعض الصفات الحسنة أو القبيحة، أو كلاهما معاً، لذلك حق القول أن “لله في خلقه شئون”، لكن كيف فقد الشيخ أبا محمد عينه؟ أو كيف فُقئت؟ فهذا شأن آخر، وهناك قصص وأقاويل وحكايات نُسجت في هذا الموضوع، لكن هناك إجماع على حكايتين اثنتين مختلفتين في هذا الأمر، سأوردهما كما سمعتهما دون زيادة أو نقصان، ليس لأن الأمر يهمني، فلا فقؤ عينه يهمني ولا حتى جدع أنفه، لكن من باب الإنصاف وقول كلمة الحق ليس إلّا.

يؤكد البعض أن للشيخ قصص وحكايات وصولات وجولات في تفاسير الأحلام، كما وفي الربط والحل للرجال أثناء الزواج وقبله وبعده، وفي حالات التوفيق بين الأزواج أو طلاقهما، كما وفي كتابة “الحِجابات”، كما له صلة بعالم الجن الذي يوظفه الرجل في حل قضاياه المستعصية، ويؤكد بعض الرواة أن فقْأ عين الشيخ تم على يد أحد زبائنه، الذي قصده في مشكلة ما، وأن الرجل أعطى الشيخ كل ما طلب، لكن مشكلته لم تُحل أبداً، وفي كل مرة تزيد مطالب الشيخ كانت تتعقد مشكلة الرجل، حتى جاء يوم وقرر الرجل  فيه أن يستخدم عقله، وبعد دراسة للأمر وتمحيص وتدقيق، وحسابات لِما خرج من جيبه لجيب الشيخ أبي محمد، الذي لم يكن أعوراً بعد، أدرك الرجل أن أبا محمد قد إستغله أبشع إستغلال، بل رأى أنه كان أبلها أو مضحوك عليه في أحسن التعابير وأكثرها نعومة، وفي الوصف الحقيقي للموقف رأى الرجل في نفسه حماراً، نعم حمار بأذنين واقفتين وذيل طويل، وأنه دفع مالاً مقابل كلمات لا أكثر ولا أقل، وفوق ذلك فهي كلمات فارغة كاذبة، فطالب الرجل بماله، وقال والشرر يخرج من بين أسنانه:

ـ لقد إتفقنا على أن أعطيك مالاً مقابل حل مشكلتي، فأخذت المال وبقيت مشكلتي دون حل، لذا أعطني ما دفعته من مال وأسامحك بتضييع وقتي والضحك على لحيتي طوال هذه الأشهر…

لكن أبو محمد الذي مازال غير أعور حتى هذ اللحظات، رفض بشدة، ويؤكد الرواة أنه “مثل المقبرة” لا يرد شيئاً، فرفض رد المال، وعجز بكل مالديه من “جن” أن يحل المشكلة، وفي نفس الوقت استفز الرجل أكثر وقال له:

ـ إذا كان رب العباد خلقك حماراً، ورد لك بعض عقلك الآن، أتريد أن يكون رد عقلك على حسابي أنا؟!!! خسئت…

والرجل الذي كان ينفث ناراً من شدة غضبه، دون أن يكون بحاجة لهذه الكلمات وهذا التعليق، ثار الدم في عروقة، ارتفع نبض قلبه وعلى ضغط دمه، اشرأب عنقه،ولم تعد شفتاه قادرة على النطق، ولمّا أراد الكلام رأى نفسه يقف على أبواب النهيق، وكاد يتأكد أن بينه وبين التحول لحمار مسافة كلمة واحدة يخرجها من فمه، وأن كل الكلمات ستتحول إلى نهيق لا ينقطع، فازداد غضبه ثورة، ورأى نفسه قافزاً، وكأن شيئاً يدفعه، إلى عنق الشيخ أبي محمد الأعور، ورأى نفسه يضغط على عنقه بكل قوته، وقبل أن تفارقه روحه وتتجه لخالقها، لمّا لم يبقَ بينه وبين العالم الآخر سوى شهقة شهيق واحدة فقط، تركه وتوجه لمرجل النار الذي يتوسط عادة بينه وبين زبائنه، وقلبه فوق رأسه، وبإصبعه فقأ عينه وخرج والدم يقطر من يده، ومن يومها صار أبو محمد أعوراً إسماً وصفة، لكنني وبصراحة لم أصدق هذه القصة حتى قبل أن أرى الشيخ وأتعرف عليه، وقدرت أن هذا القول ليس إلّا من باب الحقد والحسد.

أما القصة الثانية حول عينه المفقوءة، فنقلها الرواة كالتالي:

قالوا أن أبا محمد الأعور والذي لم يكن أعور حتى تلك اللحظات، رجل بخيل جشع، وأنه قد استطاع شراء ثمار بعض أشحار الزيتون، في ذلك الموسم، من بعض الفلاحين المحتاجين، فبحكم مهنته لم ينقصه المال يوماً، رغم أنه لا يعرف شيئاً عن شجر الزيتون ومواصفاته،  وقالوا أنه عندما جاء موسم “جدّ” الزيتون، قرر أبو محمد أن “يجدّ” الزيتون بيديه كي لا يدفع للآخرين مقابل عملهم، غير مدرك أن للزيتون موسمه المحدد والمحدود، لا تستطيع تجاوزه أو تأجيله ولا القفز فوقه، وأنه عندما كان “يجد” شجرة زيتون، كان يسحب الحبات ويسحب معها أوراق الشجر، وشجرات الزيتون مثل نساء قلعتنا، لا يقبلن أن يُعريهن غريب، ويرفضن أن يقفن على رؤوس الجبال عاريات كما خلقهن الله، لتتلصص عليها كل عيون المارة، كما أنهن ولأسباب تخصهن ترفضن التنازل عن وريقاتهن، ويتشبثن بهن ويحملهن ويضمهن بين أغصانهن محاولات حمايتهن من حر الصيف وبرد الشتاء، لذا زاد حقدهن على أبي محمد الأعور، بعد تماديه في استباحة أجسادهن، كما أنهن ولسبب ما زال مجهولاً، يحتفظن بحبة زيتون واحدة أو بضع حبات لأنفسهن حتى الموسم القادم، وإن رأينك مصراً على تجريدهن من كل ثمارهن بما في ذلك حبتهه الأخيرة تلك أو حبيباتهن القليلات، فإنهن يحاولن إخفاءها عنك، وإن أصريت، رمينك عن سلمتك التي تركبها وأوقعنك أرضاً، وفي أحيان كثيرة ينفضن جسدك من فوق أغصانهن حتى لو أدى ذلك لكسر يدك، وكان الشيخ أبو محمد الذي لم يكن أعوراً بعد، كما أخبرتكم مراراً، مصراً على تجريد شجرات الزيتون من حبيباتهن تلك كما جردها من وريقاتهن وتركهن عاريات على مساحات الحقول، فحذرته الأشجار بطرقهن المختلفة والمتعددة، لكنه وكما هو الآن، لم يكن يعرف لغة أشجار الزيتون، ولم يتعلمها أبداً، كان مصراً على أخذ ما ليس له، ولما استُنفذ صبر شجرات الزيتون، قررن تعليمه درساً على كل ما فعله بهن، وتركوا الأمر لزعيمتهن، تلك الشجرة الرومية التي بشرت مهللة راقصة بقدوم المسيح، قبل ما يزيد عن ألفين من السنين، تلك الشجرة التي كان يستفيء بظلها يوحنا المعمدان ويحرض الشعب لإتباع “المعلم”،  والتي كان جذعها يتسع لعائلة كاملة لتحميها عندما كان القصف يشتد على أهالي القرية من الغرباء، بعد ذلك بألف جيل. . ويؤكد الرواة أن أشجار الزيتون رغم صبرها إلّا أنها لم تكن يوماً جبانة، وهي التي تعطيك زيتها النازف بالحسنى، بعد أن تكون قد جمعته من دماء الأرض، ترفض أن تبتزها حتى بحبة زيتون واحدة، مهما كانت النتيجة، حتى لو قطعتها قطعاً وأطعمتها النار، أو أقتلعتها من جذورها، وأمام جشعه وإصراره المقيت، لم تجد الزيتونة الرومية بُداً أمامها من محاسبته، واتخذت قرارها بإقتلاع إحدى عينيه، نعم إقتلاع عين واحدة بأحد أغصانها، وهكذا فعلت، مدت غصنها إلى قاع عينه وسحبتها، فصار منذ ذلك الوقت الشيخ أبو محمد الأعور أعوراً بحق، وصار درساً لمن يحاول إغتصاب الأشجار، وزيتونها على وجه خاص.

وهناك الكثير من الروايات التي لم تستطع أن تستقر في رأسي الكبير الذي أمامكم، لأنني لم أصدق أي منها، وما دام أعطاني الله رأساً بهذا الحجم وهذا الكبر، فسيحاسبني ربي إذا لم أستخدمه، أقول لكم ذلك من باب سرد الحقيقة فقط، لأنني لا أجزم بصحة أي قصة من القصص التي ذكرتها لكم بنفسي، وكي لا تذهب بكم ظنونكم بعيداً، عن هذا الشيخ الذي طالما إعتبرته عالماً جليلاً، لا يكف عن ذكر الله “بكرة وأصيلا”،الأمر الذي لا يرضى الله ولا رسوله ولا المؤمنون، وفي نهاية الأمر شتان بين عمى البصر وعمى البصيرة كما قال والدي، رحمه الله، دوماً، رغم أنه لطالما أرفق كلماته الناصحة أو الشارحة لي بكلمة “يادابة”، كوني لم أكن أستمع لنصائحه دائماً، وإن استمعت فبالشكل الذي أعرفه أنا وليس بالطريقة التي يريدها هو، ولو كان اليوم موجوداً لقال من جديد: “أإلى هذا الحضيض وصلت أيها “الدابة”، أهذا ما اهتديت إليه لا هداك الله، إلى البصارين والعرافين؟” ولرفع يديه للسماء مكملاً، ومعاتباً ربه: “يارب منك وعليك العوض، أهذا مَنْ رزقتني به ليورثني؟ كان الأفضل أن أظل بدونه، أو أن تجعل أمه عاقراً… اللهم لا إعتراض”، ثم لكان إلتفت إليّ وقال: “تحمل رأساً كرأس البغل وجثةً كجثته، لكن طفلاً صغيراً بإمكانه جرك أيها “الدابة”، وكي لا تضيعوا معي في هذه المتاهة الطويلة، عليكم التركيز على ما دفعني للذهاب إلى بيت الرجل، لذلك فلنترك أبي يرتاح في قبره، والسبب الذي أدّى إلى فقدان الرجل عينه، ولأقص عليكم ما الذي أوصلني لبيت الشيخ أبو محمد الأعور.

أبو محمد الأعور هذا، كما علمت لاحقا، كان يُركز على إسمه الأخير بشكل دائم، كون الناس صارت لا تعرفه إلا بصفته تلك التي أكدت إسمه، فصار إسماً على مسمى، لذلك ما أن تقول الأعور لوحدها، حتى يعرفه الناس فوراً، حتى دون أن تذكر لقبه الأول “أبو محمد”، وإن كنت حذفته عامداً متعمداٌ، يقول الرجل أنه يعرف مدى سوء الإسم وقبحه، لكن من باب التواضع لله، فإنه يصر عليه كي لا تأخذه نفسه وتغرقه في بحور الكبرياء، ويبتعد عن قول الله “إن الله لا يحب كل مختال فخور”، بل يريد نفساً متواضعة خاشعة بعيدة عن التكبر، خاصة بسبب علاقته النافذة عند “معشر الجن”، حيث لا يُرفض له طلب ولا يُرد، بل يتقافز الجن على أصابع يديه كلاعبي السيرك، بعد أن يتقزموا ليتسع لهم المكان، ويُحضرون له ما أراد ويجلبون له كل  ما يطلب، لذلك ظل يؤكد على اسمه مع أي كان وفي أي وقت كان. لكن البعض الآخر يُكذّب الشيخ وينفي أقواله، ويعتبره رجلاً أفّاقاً كذوباً منافقاً، ويؤكدون أن كل ما يقوله ما هو إلا كذبا وتزويراً، وأنه ليس إلا مُدّعيا، وعلاقته بالجن ليست سوى من باب الضحك على “الذقون”، وتركيزه على الإسم من باب الدعاية وليس من أي باب آخر، ف”كأبي محمد” يوجد الألوف، لكن كم أعور ستجد في البلاد جميعها من حالات؟ فما بالك كإسم وصفة، وكي يُكذب كل ما يتم تداوله من قصص وحكايات وحتى نكت تم نسجها حول عينه تلك، وكي لا تغرقوا معي في تفاصيل لا لزوم لها، ركزوا معي على أصل القصة التي أوصلتني لهذا الشيخ، كوني أعتقد أنكم، مثلي، تُريدون “العنب” وليس مقاتلة الناطور.

ما أن طرقت باب الرجل حتى فتح لي الباب شاب دخل مرحلة الشباب منذ بضعة شهور فقط، هذا ما بدى لي، وأنه بالكاد وضع قدمه على سلمة الشباب، خارجاً لتوه من طفولة طويلة أرهقته وأتعبت جسده اليافع، لم يقل شيئاً عدا رد التحية، وكأنه مصاب بداء “القرف” من كل ما يجري، وأنه مع تكرار الأمر مرات في اليوم الواحد، لم يعد يحتمل الأمر أكثر، أعطاني ظهره وقال:

ـ تفضل…اتبعني…

لم يسألني مَنْ أنا ولا ماذا أريد، كأنه لا يأتي بيتهم أحد إلا لهذا الأمر الذي جئت أنا أيضاً من أجله، واقتادني إلى غرفة الصالون، حيث هناك رجل واحد ينتظر دوره، والذي بادرني بالسؤال عن إسمي ولقبي وبعض المعلومات عن عائلتي ، وعن سبب مجيئي، ولما أخبرته أنني قادم من أجل تفسير حلم يلاحقني منذ أسابيع، كان قد جاء دوره ودخل، وبعد دقائق جاء آخر ليطلب مبلغاً من أجل “الجن” التي تعمل مع الشيخ أبو محمد الأعور، فهؤلاء “الجن” لا يعملون ب”السُخرة”، والشيخ الذي يفعل ما يفعل، يفعله فقط “لوجه الله”، لا يريد جزاء ولا شكوراً، وهو لا يستطيع أن يغطي مصاريف “الجن” من جيبه الخاص، وطالبني بأن أحضر معي في المرة القادمة خروفاً لا يتجاوز عمره الستة أسابيع، برأس أسود وجسد أبيض، وإن تعذر فبرأس أبيض وجسد أسود، وإن تعذر فليكن خروفاً أسوداً، وإن تعذر فليكن أبيضاً، وإن تعذر فأي خروف وبأي شكل أو عمر أو لون، إضافة لدجاجتين بلديتين مع “ديك” بريش طويل مُلوّن، لأن بعض الجن التي لا تأكل لحم الخروف، تحب لحم الدجاج البلدي والعكس صحيح، لكن “إياك أن تأتي بدجاخ المزارع”، فالجن لا تأكل دجاج المزارع أبداً.

قال مبغضي الشيخ معلقين، أن الرجل الذي كان أمامي، هو أحد العاملين مع الشيخ وليس زبوناً آخراً، وإلا لما سألك عن أصلك وفصلك وسبب مجيئك، وعلق بعضهم قائلاً إنه “عصفور” الشيخ، يعمل كما يعمل “العصافير” في الزنازين لصالح المحتل، وضحكوا كثيراً، وأكمل المتحدث قائلاً، أنه يجالس القادمين ليأخذ منهم بعض الأسرار والمعلومات، ليعطيها لشيخه الذي يستخدمها بدوره وكأنه يعرفها، ليخدع بها الناس…”الطيبين” أمثالك، وأمام تردده في ذكر كلمة الطيبين، تخيلت المرحوم أبي يقولها بفم ملآن ودون تردد، “أمام الدواب من أمثالك”، لكنني أيضاً لا أظن ذلك، لا أصدق ما يقولون، وأعتقد أن ذلك من باب الحقد والحسد على الشيخ أبو محمد الأعور…

أدخلوني غرفة شبه مظلمة في وسط النهار، كانت شبابيكها  قد صُغِّرت عمداً، وغُطي ما تبقى منها ببرادٍ ثقيلة لتمنع الشمس من التسلل والدخول، وكما علمت فأبو محمد الأعور فعل ذلك بنفسه، كون الجن لا بحب النور، بل يعشق الظلمة ويفضلها، فكان لزاما عليه توفير الحد الأدنى من رغائبهم، وأبو محمد الأعور الذي تآخى معهم وعاهدهم وعاهدوه، فقد تآخى فقط مع المسلمين منهم، وابتعد عن يهودييهم والنصارى، وشن حروباً طويلة عليهم جميعاً، في معركة “الشرشحة والمرمرة”، حيث شرشحهم ومرمرههم كما كان يؤكد متحدثاً، وفي معركة “التحليق والتمزيق والتعليق”، حيث حلقت معه الطير الأبابيل وبسواعده مزق أجسادهم وعلق رؤوسهم على الأعمدة والأشجار، وضرب بيد من حديد ملحديهم بشكل خاص، وهزمهم شر هزيمة، وفي تلك المعركة يؤكد أنه فقد عينه، حيث جاءه سهم طائش من “جني” مسلم عن غير قصد، وعلق أحد مستمعيّ قائلاً: “آه… تقصد أنه من نار صديقة…” وضحكوا طويلاً هذه المرة أيضاً، حين علق آخر مستذكراً أسماء المعارك التي ذكرت أمامهم أنه خاضها، لكنني تجاهلتهم وأكملت وقلت بأنه لهذا السبب يصر على التمسك بإسمه وصفته، كونه فخوراً بما أصابه من القوم الكافرين، وعينه المفقوءة هي علامة على جسده من علامات الجنة.

لكن كفرة الجن وملحديهم سرعان ما عادوا لتجميع أنفسهم، وشنوا حروباً ضد مسلمي الجن  بقيادة أبو محمد الأعور نفسه، والحرب كما تعلمون سجال، مرة لك ومرة عليك، لكن الشيخ لن يتراجع إلا بعدأن ينصره الله عليهم ويفني بقدرته القوم الكافرين، فقد وهب الرجل نفسه لذلك “والله على ما يقول شهيد”، أتتخيلون “إنسياً” يقود جيوش مسلمي الجن ليحارب أعداء الله من كفار ومرتدين وزنادقة، ليًعلي كلمة الله في مجتمعات الجن وفي جحورهم؟!!!أتتخيلون ما له من فضل على المسلمين جميعاً من إنس وجن؟!!!.

كانوا ينظرون لبعضهم بعضاً أمام كلماتي، الأمر الذي يشعرني بكلمات أبي ويذكرني به، وكأنه راعهم غبائي أو “طيبتي”، لكن نظراتهم ظلت تطلق كلمات أبي نحو رأسي كرصاصات…يادابة… فضحتني يادابة… قف عن التبول والتبرز من فمك أيها الدابة، ألم تسمع يوماً أنه “إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”؟ ف”الحق ليس عليك، بل علينا نحن، لو لم نكن دواباً لما خلّفنا بغلاً مثلك!!!. لكن ماذا سأفعل وقد بدأت بالحديث عن سبب ذهابي إليه، فلا بد أن أتمم ما بدأت.

أقول ما أن دخلت حتى وجهني الرجل بكلمتين من لسانه لأن أجلس على كنبة مقابله، وقد كان جسده فقط في الغرفة، لكن روحه بالتاكيد لم تكن معنا، كان دخان البخور الثقيل يتطاير من وسط المرجل الذي صار بيننا، دخان كثيف ككثافة قنابل غاز الإحتلال لكن بطعم ورائحة مختلفتين، فتزداد كثافة العتمة في المكان، ويصير من الصعب التدقيق في أيما شيء، وسرعان ما تبدأ شرارات في التناثر من المرجل في المكان، ويأتي صوت الشيخ الآمر، “لا تتقافزوا أيها الجن كيلا تخيفوا ضيوفي”، وما هي إلا لحظات حتى يتوقف الجن الذي تمظهر لي على شكل شرارات بالإختفاء، وتعود النار الى طبيعتها وشكلها، ويكف الجن عن التقافز والألعاب، ويأتي صوت أبي محمد وكأنه من داخل الجدران وليس من فمه، آمراً الجن شارحاً لهم:

ـ هذا الرجل الذي أمامكم هو صالح أحمد الطيب…

قال دون أن أخبره بإسمي ودون أن يسألني، وأكمل:

ـ إنه إبن أبي صالح الطيب، الذي توفاه الله منذ مدة وجيزة، له زوجة واحدة، لا مثنى ولا ثلاث ولا رباع، لم يرزقه الله سوى بذكر وأنثى، وامرأته لم تحمل الحطب يوماً، لأنهم يمتلكون فرن غاز بجرته في البيت، وجاء ليوسطني عندكم لتفسير حلم يلاحقه منذ أسابيع، فاقعدوا وانصتوا له، علكم تفلحون في التفسير… حـــــــــــــــــي … أمامك سكة سفر…

وقبل حتى أن أبدي دهشتي بكلماته التي يبدوأنه يقولهن لكل زبائنة، قال أبو محمد الأعور مصححاً نفسه:         ـ أقصد، أليست معلوماتي صحيحة؟

ولم ينتظر جواباً، بل تابع واثقاً من نفسه:

ـ لن يستطيع حتى الجن أنفسهم أن يعطوني معلومات خاطئة، قل يابني ما عندك… قل…ابدأ بشرح أحلامك، وليوفقنا الله في التفسير…

وابتدأت في سرد الحلم للشيخ الجليل ابو محمد الأعور، فقلت:

  •          *           *

لقد حلمت سيدي الشيخ، بحلم أرجو أن يكون خيرأ…

ـ خيرُ إنشاء الله، اللهم إجعله خير…حــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

ـ حلمت أننا كنا نعيش في قلعة، يمتد أحد جوانبها مع البحر ويلازمه، وجانبها المقابل مع نهر طويل وبحيرات، وكلا الجانبين تتراص عليهما الأسوار العالية والقلاع والمدافع، وفي رأس القلعة كما تحت قدميها، تزداد الأسوار علواً ويتضاعف عدد الحراس، لأنهما لا تحظيان بحراسة مُضاعفة من البحر والنهر، كما يحظيا الجانبان الآخران، فالبحر والنهر حارسان ياشيخنا، لاتنام لهما عين ولا يغمض لهما جفن، وعلى امتداد الأسوار جميعاً كان يتزايد عدد المتطوعين لحماية القلعة يوما بعد يوم، وكان المتطوعون الجنود هؤلاء، يتسابقون في حماية القلعة، وفي مرات عديدة، كانوا يبادرون لمهاجمة الأعداء قبل أن تصل أقدامهم إلى أرض القلعة أو حتى القرب منها، وكان الجند يقومون بالتضحية بأنفسهم من أجل القلعة، فكلما أهدى أحدهم دمه إلى أسوار القلعة، أو شوارعها وطرقها وأزقتها، أي كلما سال دم أحدهم على أرضها، كلما سارع الآخرون ليثبّتوا أسماءهم بعده وعلى طريقه ذاتها، ليكونوا الأوائل في المواجهة والمجابهة، وفي بعض الأحيان كانوا يتلاسنون إذا ما اقترب مَنْ لم يكن له “دور” محاولاً التعدي على “دور” أحدهم أو أخذ مكانه. بإختصار فقد كانت القلعة والهبة لحمايتها والذود عنها هما مقياس الأخلاق والحب والتضحية والفداء، مقياس الشرف والمروءة والشهامة وإنكار الذات، فكان مَنْ أصابته إصابة يتباهى بها ويعلنها على الملأ، وكأنها علامة من علامات الجودة في مجتمع القلعة وبين أهلها، وكان من أراد خطبة حسناء ما من أهل القلعة، يتوجب عليه أن يقدم علامة حب للقلعة أولاً، لأن من لم يحب قلعته ولم يقدم لها براهين حبه، لن يستطيع أن يكون قادراً على حب غيرها من النساء، مهما كبر جمالها وعلا شأنها، لأنه وبكل بساطة لن تجد إمرأة أكثر جمالاً من القلعة، والغريب سيدي الشيخ أن النساء كن يعلمن بالأمر ويعرفنه، لكنه لم يشكل لهن إزعاجاً أبداً، وكأن الأمر طبيعي ومنطقي ومفهوم لدرجة تلتغي فيه المقارنة أو الغيرة أو الحسد أو حتى الثرثرة في الموضوع وتنتفي، وكي أكون صادقاً، إلا من بعض حثالات تافهات ثرثارات، كما بعض ضعاف النفوس من الذكور وليس الرحال، ممن لم يعرفوا القلعة ولم يشربوا من حليبها ومياهها، أو شربوا وخانوا ذلك الماء والحليب، وكما تعلم سيدي الشيخ، من يخن لا أصل له ولا ذمة ولا ضمير، فما بالك إن خان القلعة نفسها؟!!! أقول كان لا بد من تقديم هدية ما عند الرغبة بالزواج، وكلما كان جرح الجريح غائراً والنزيف أكبر كلما كان المتقدم للزواج طلباته مقبولة أكثر وأسرع، وتقام له الإحتفالات أياماً في شوارع القلعة وأزقتها وبيوتها وجوامعها وكنائسها، وتمتد الإحتفالات ليال وأيام، ويمتد الرقص والدبكة والميجنا في طول القلعة وعرضها، ويسرح ويمرح “ظريف الطول”، ويعود “مشعل” من غربته على صهوة جوادة، وترقص فاطمة وصبحة ووضحة وزينب وآمنة، وتمتلئ الشوارع بالأرز المنثور من أكف الصبايا على رؤوس الشباب، وتبدأ زفة العريس وسهرة العروس تسبقهما ليلة الحناء، وأنوار القلعة تضيء أعماق البحر ومياه النهر، وتتبادل التحايا والزيارات مع الجيران، فما بالك عندما يرتقي شهيداً من القلعة إلى السماء، فكانت تتوزع الحلوى في الطرقات وتنتشر زغاريد النسوة في فضاء مدن القرية على وقع أنغام أغاني الشباب والصبايا” ياأم الشهيد وزغردي    كل الشباب أولادكي” وتتنافس الآيات القرآنية في تمجيد الشهيد ومكانه الذي لن يكون إلا بقرب الأنبياء والقديسين. ويكون عرساً “قلعاوياً” بجدارة واستحقاق، يستمر أياماً بلياليها دون كلل أو ملل، متحولة بيوت العزاء إلى زفة للشهيد رجلاً كان أم إمرأة.

وكان في القلعة، سيدي الشيخ، مدناً وأسواقاً وأريافاً تغص بالأشجار والخيرات والمحاصيل، والناس تتزاور وتتضامن وتتساهر، والخير يعم أرض القلعة من أقصاها لأقصاها، بحماية الناس أنفسهم والمتطوعين، كما كان في القلعة سجناً صغيراً للصوص، وهناك بعيداً في أعلى القلعة كانت قيادة القلعة، تحمل سلاحها وتنظر في كل الإتجاهات، تتابع هدير أمواج البحر، وما يختبئ فيه من أخطار الأعداء، تكاد لا تنام الليل خوف مداهمة أخطار تختبئ في ظلال الموج، وتعطي الأوامر للمتطوعين ليدافعوا عن القلعة عند هبوب العواصف والرياح.

وفجأة سيدي الشيخ، ودون سابق إنذار، وكما في الأحلام، تغيرت ملامح قلعتنا، ورأيت القلعة تضيق علينا وتتقلص، وصار الأعداء يحيطون بنا من داخلها، وتقلصت أعدادنا، وكأن الناس في معظمها قد هُجرت، وضاقت دنيانا علينا أكثر وأكثر، وأصبحنا في جزء قليل من أرضها بعد أن إمتلأت على حين غرة بالأعداء من كل حدب وصوب، فاختفت المزارع والمحاصيل مع إختفاء الأرض من القلعة، لكن حماة القلعة وقادتها ظلوا يدافعون عنها، وأوقفوا الأعداء مرات ومرات، لكن أسلحتهم صارت تختفي، نعم اختفت معظم أسلحتهم فجأة ودون سابق إنذار، فامتشق حماتها وأهلها الحجارة، وظلوا يدافعون عنها بشراسة أكثر، واعتبروا أنهم لم يُهزموا بعد، رغم خسارتنا لمعركة كبيرة، فخسارة معركة ليست بهزيمة، وذهبت وعود الأقارب بالدعم أدراج الرياح، واخذوا يعوضوننا بالمال بدل الرصاص، وكما تعلم سيدي الشيخ، فالمال لا يستطيع أن يكون بديلاً عن البنادق رغم قوته، وبقدرة قادر، صار المال يصل إلى قيادة القلعة أكثر وأكثر، ولا نعرف عبر أي طريق، رغم الحصار المفروض على القلعة من كل الجوانب والإتجاهات، ويقال أن للمال قوة يجهلها أمثالي، ويمكنها أن تذلل العقوبات وتخلق المعجزات، وهذا ما تم فعلاً، قصارت قيادات القلعة تتكرش وتتكلس ويأكلها الصدأ، وصارت البنادق التي بأيديهم تتحول إلى رُتَب ونياشين ونجوم  وهمية فوق الكتف وفوق الصدر، ولما أخذت أدقق في وجوه هذه القيادات، رأيت أن لصوص السجن ومخصيي القلعة هم من أصبحوا قيادات اليوم، لكن لها نفس ملامح قياداتنا السابقة، وصاروا يحكمون بالرصاص والعصي، وباعوا كل ما استطاعوا باسم الله تارة وباسم الوطن تارة أخرى، وصرت أسمع تسحيجاً من حماة القلعة، وصار من يسحج أكثر يصير من المقربين أكثر للقيادات الجديدة، وصار يُرمى لهم المال ليسحجوا ويهتفوا بحياة القيادة أكثر وأكثر، وساد الظلام أرض القلعة، وانتشر الجهل كأحد أبرز ملامح المرحلة، وصار شيوخنا يا”مولانا” يلوون فم الدين ليُقوّلوه ما يريدون، ويجيّروه ليبرروا للصوص لصوصيتهم وللظَلَمة استعبادهم، ويلعنون ويُكفّرون ويُزندقون كل مخالف، فحاربوا أهل العلم والمعرفة، وطاردوا العقول، وأخرجوا المسلمين منهم من ملة الإسلام واستأصلوهم، كما تستأصل دملاً متقيحاً آذاك وآلمك في مكان معين من جسدك، واستمروا يُخرجون مَنْ أرادوا من ملة الإسلام والمسلمين، فأصبح التكفير والردة والخروج عن أولي الأمر صفة ملاصقة لكل من يعارض، وصار إطلاق اللحى وحفّ الشوارب من مقاييس الإسلام وصحته، والمسبحة والعمامة من أعمدته وثبوته، فصار الإسلام يتقزّم ويتقلص ويضعف، وسرعان ما ساد قانون التحريم، فحرّموا كل شيء، وصار التحريم هو السائد والحلال هو الشاذ، إلا لدى شيوخنا، سيدي الشيخ، وقيادات القلعة من لصوص ومخصيين، فكل شيء لهم حلال، وكل حرام عندهم مُباح، فصار شيوخنا يتصدرون صفوف “الهتيفة” و”السحيجة” في مدح الحاكم، وصارت بيوت الله مكاناً لمدائح الحكام والدعوات لهم، وصارت بيوت ربك أماكن للعبث والكذب والنفاق والعهر السياسي، فانتشرت قصائد الغزل مع صُور اللصوص كقيادة جديدة للقلعة، وحل سيف “يزيد” مكان عقل “الحسين”.

وفي زمن العتمة يزداد عدد اللصوص، لكن قيادة قلعتنا كانت تسرق في الظلام وفي النور، وصرنا نتحول تدريجياً إلى قطيع من الماعز، أو بالأصح إلى قطيع من البهائم “حاشاك الله”، وعلفونا وعلقوا لمن هتف وسحج “مخالي التبن”، ومن حاول الإعتراض منعوا عنه الأكل والماء، ولاحقوه وأهانوه وضيقوا عليه مصادر رزقه، وصارت أيادي اللصوص الذين صاروا قادة لنا تمتد لتصافح الأعداء، تُنسق معهم، وصاروا سوياً يلاحقون من رفض التخلي عن بندقيته، ثم لاحقوا من رفض التخلي عن مبادئه أو أفكاره، فلاحقوا وسجنوا وقمعوا وقتلوا بأيديهم وأيدي من كان بالأمس عدواً، وكما في الأحلام سيدي الشيخ، لا أعرف كيف، فإذا بحماة القلعة تتحول وجوههم من مراقبة الأعداء إلى مراقبتنا نحن في الداخل، وصارت بنادقهم تطلق على القلعة وشعبها، وتحول معظمهم إلى طُفيليات بشرية، لاهم لها سوى جمع المال و”مخالي التبن”، فاختفى “ظريف الطول” وصار “مشعل” ملاحقاً كما في عهد السلاطين من عهد بني عثمان، وصارت العتابا والميجنة “رجس من عمل الشيطان”، فحرموا الموسيقى وزندقوا ما تبقى من كُتَّاب، وكفروا الفلاسفة والمفكرين، وصار الدجل هو المسيطر، لا مؤاخذة سيدي الشيخ، وانتشرت عيادات العلاج بالقرآن على حساب عيادات الأطباء، والأحجبة بدل الأدوية وحرّموا القراءة والكتابة والتفكير، وأشاعوا النقل والمنقول، فحولوا الدين إلى عرض أزياء، فرضوا فيه زي الجاهلية وأوائل الإسلام، وسرعان ما لففوا النساء وبرقعوهن وأزالوهن من الخدمة، و”عوّروا” المرأة من رأسها لأخمص قدميها، وحشروها في سجون البيوت، وسرعان ما شيأوها وألقوا بها بين الملاعق والصحون في المطابخ، ثم إلى فراش الجنس البهيمي، وانتشرت الفتاوي وتمددت وشملت كل القلاع المحيطة، فانتشر تتعدد الزوجات وملك اليمين وأسواق النخاسة، وأغتصبن الفتيات لقاصرات، وكذلك الطفولة في المهد وفي عمر الزهور باسم الدين والزواج، وادعوا أنه على سنة الله ورسوله، وحللوا جهاد النكاح، فتحولت القلعة إلى مجتمع ذكوري فج، يحكم فيه الذكور حتى لو لم يكونوا رجالاً، ويقود فيه المخصيين واللصوص باسم الله والوطن والشعب.

وصارت الأمور تمشي على رأسها بدل قدميها، فأصبح تدمير الأوطان “ثورة”، واستدعاء الأساطيل الأجنبية مرغوب وواجب، والقتل على الهوية من أسس الدين، فحل “صحيح البخاري” و”ابن تيمية” وابن عبد الوهاب” مكان كتاب الله وبديلاً عنه، ف”أمموا” الجنة وجعلوها للمسلمين، بل لطائفتهم وحدهم فقط، وكفروا بقية الطوائف والمذاهب والأديان، وقاموا بإنقلابهم الكبير، فعزلوا الله ونصبوا أنفسهم مكانه، وصاروا هم من يقررون لمن الجنة ولمن النار، وأنهم هم، وفقط هم، من يقرر مصير البشر و الحجر والشجر، وهم وحدهم الناطقون الحصريون باسم الله، فازداد الظلام لزوجة وظلاماً، وصرنا نغوص فيه حتى رقابنا، فلم يعد للزهور مكان في قلعتنا ولا في القلاع المجاورة، وصار الحب جريمة تستحق رجم القلب، الذي تجرّأ على الحب، حتى الموت، أو إقتلاعه وأكله نيئاً، وصار تفجير المدنيين من أطفال ونساء “شهادة”، وشق البطون وتفخيخ الأطفال بطولة، وذبح الأسرى شهامة، ووضع اليد مع الغرباء لتقسيم ما تبقى من قلاعنا ضرورة، فسرقوا البسمة عن شفاهنا، واقتلعوا أشجار التين والزيتون، وجففوا أشجار البرتقال بعد أن جفت دموعها وذبلت، وأبكوا شجيرات الزعتر والميرامية في بطون الصخور، فجفت ينابيع الماء، وغادرتنا البحيرات، وخط لنفسه النهر مجرى بعيداً…

لكن ولشدة دهشتي يامولانا الشيخ، عندما استيقظت من حلمي هذا وجدت نفسي في داخل السجن، نعم سيدي، لا تستغرب، فسجن القلعة الصغير الذي كان للصوص، أصبح كبيراً ويضم معظم سكان القلعة، ونظرت بعيني الإثنتين اللتين “سيأكلهما الدود”، فوجدت اللصوص الذين رأيتهم في المنام يتربعون على العرش، هم أنفسهم، نفس الوجوه والأشكال، ورأيت معظم حماة القلعة يحملون أسلحة لمطاردة الشعب رغم كل خطر الأساطيل التي تحيط بنا وتهددنا، ورأيت بأم عيني كيف اختفى البحر وجفت مياه النهر وتبخرت البحيرات، تماماً كما في الحلم، وصارت الأمطار تجافينا وتفر من ظلام مدننا، وضاقت أرضنا بنا، فصرنا نتكلس ونتكوم في بضعة أمتار بعد أن كانت كل البلاد بلادنا. كنت يامولانا قد استغفرت ربي عندما استيقظت، ونهضت وصليت ركعتين للمولى عز وجل، وقرأت الفاتحة وياسين وسورة الكرسي، بعد استعاذتي بالله من الشيطان الرجيم، لكن الحلم داهم رأسي في الليلة التالية، فأعدت ما قرأت من كتاب الله وأضفت سورة الناس والفلق وقل هو الله أحد، فهاجمني الحلم بشكل أكثر شراسة في الليلةالتي بعدها، فقرأت إضافة لما سبق سورة يوسف، ثم تمارضت وغبت عن عملي وأضفت فوق كل ما سبق سورة البقرة والنساء حتى أنهيت كتاب الله كله، لكن ذلك لم يمنع تكرار حلمي في كل ليلة لاحقة، لدرجة صرت أظن “وإن بعض الظن إثم” أن ما رأيته ليس حلماً، بل حقيقة تتجسد لي في ثوب حلم، خاصة أنني كلما خرجت أو فتحت مذياعاً أو تلفازاً صرت أرى حلمي أمامي يتجسد داخل كل الأشياء.

هذا هو الحلم الذي رأيته يا مولانا، ما تفسيره، وهل تعتقد أنه حلم أم كابوس، وهل له صلة بالواقع الذي نعيش أم مجرد أوهام من رجل بائس ربما أصيب بعمى الألوان، أم أن الشيطان قد ركبني ويصور لي الأشياء على غير حقيقتها ؟!!!

  •                     *                    *

أثناء شرحي لحلمي هذا للشيخ أبو محمد الأعور، كان الشيخ يرش البخور فوق النار، وبين فينة وأخرى يهدئ الجن الذين يتقافزون، و “نَهَرَ” مرّات الجان “شخبوط” وأخيه “زعموط” ليكفا عن الإزعاج، كي يستطيع سماعي بشكل أفضل وأوضح، وكان رأسه يعانق أعلى كنبته وهو يصرخ “حـــــــــــــــــــــــــــــــــــي”، وفجأة، وبعد أن تعمقت في شرح حلمي وأسهبت فيه، رأيت الشيخ أبو محمد الأعور يتوقف عن استدعاء الجن، ثم صار ينظر إلي، وسرعان ما قام وأشعل المصباح الكهربائي، ثم أزاح البرادي عن شبابيكه الصغيرة ليراني بعينه الوحيدة بشكل أوضح، وأخذ ينظر إلي ويقيسني من الأعلى إلى الأسفل، وعندها رأيت عينه المطفية ينطبق عليها جفن قابضاً عليها بشكل كامل، وما تزال تبدو عليه آثار جرح قديم، وملتصق في تجويفها بشكل يصعب الفكاك منه، دون أن أستطيع تحديد من منهما يقبض على الآخر ولا يريد الفكاك منه، وسرعان ما صارت قدمه تدق الأرض وكأنني أزعجه بما أقول، وما أن انهيت حديثي حتى سألني بعصبية قائلاً:

ـ أنت لست من حكومتنا الرشيدة، فالجماعة، منهم من هو زبون لنا، ومنهم من يشاركنا لقمتنا، قل لي مَنْ الذي حذف بك إليّ؟ وما الذي تريده بحكايتك هذه؟

ولما حاولت أن أقسم له بأنني صادق فيما قلت، نهض من مكانه ومن سرعته تعثّر فأوقع “الكانون” على مصطبة البيت، فتناثر الجن في كل مكان، ولم يلتفت الشيخ لأحد من الجن المتطايرين فوق المرجل ومصطبة البيت، بل سحبني من يدي، وأخرجني إلى باب بيته الخارجي، أعاد لي نقودي، ومسح عينه السليمة بظاهر يده، وقال:     ـ أنا لم أسألك إن كنت صادقاً أم لا، أنا سألتك من الذي بعث بك إليّ؟ على كل حال إن رأيتك مرة أخرى سأكسر رجليك… لست بحاجة لمشاكل من جديد…إلى جهنم وبئس المصير.

ودفعني إلى الخارج، حيث اصطدمت بالحائط المقابل، وأكمل بصوت خفيض:

ـ أجئت لتقطع رزقي أيها الزنديق؟ لصالح مَنْ تعمل أيها الكافر؟!!!

ولما رأى بعض المارة قادمين صرخ بأعلى صوته:

ـ حـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

وطبق خلفي الباب وعاد لغرفته المظلمة، وبقيت وحدي، أسير لأخرج من زقاق بيته، تلاحقني الظلمة وعيون حكامنا الجدد وبنادق السحيجة الهتاّفين، تتربص بي جميعها بتنسيق لم نعهده من قبل، مع الغرباء جميعاً قريبين وبعيدين، بيدي ما أعاده لي من نقود، وفي رأسي صورة قلعتنا الجميلة القديمة، تُقبِّل أقدامها أمواج البحر، يداعبهما خرير مياه النهر، أسواره تعلو نحو فضاءات السماء، وخضرة أشجاره تملأ الساحات بروائح البرتقال واليمون والزعتر والزيتون، برائحة الريحان والميرامية والنعنع البلدي، بطعم العتابا والميجنا والدحيِّة والجفرا والطيارة والدلعونا، بحبات تينه المتدلية من غصون أمهاتها كنجوم مضيئة في وسط السماء، أما الحلم ـ الكابوس الذي لاحقني وما زال، فكان مايزال يدق بعنف طيات رأسي، يحاول تحطيم قلعتي التي أعرفها، تحطيمها وتحويلها إلى رماد وغبار متناثر على أبواب الصحراء، لتبتلعه وتحوله إلى زيت أسود وريالات، وها هو يتمدد أمام خطواتي ويكبر، يتسع والسجن مع كل حركة من حركات قدميّ، يحاول التمكن من الناس والشوارع والطرقات، الإمساك بحركة البشر والأفكار والمبادئ والأحلام، ليسحقها تحت قدميه ويلغيها من الحياة، وأنا مازلت أمشي، إلى الأمام أسير، أتخطى العراقيل وأتجاوز المطبات، ورأيتني أشتاق للمرحوم والدي كما لم أشتق له من قبل، وكم تمنيت في تلك اللحظة لو أنه مازال حياً يُرزق، كي لا أضطر لمثل “مولانا” الشيخ أبو محمد الأعور، حتى لو صفعني بكلماته قائلاً: ” ألم يبقَ غير “الأعور” لتلجأ إليه ليريك الحقائق ويفسر لك الأحلام؟ أتريد من أعور أن يُنير لك الطريق يا “دابة ابن الدواب”؟!!!.

محمد النجار

المستشيخون

طوال عمري وأنا أصلي في هذا المسجد، خاصة صلاة الجمعة التي لم أتغيب عنها يوماً إلّا معذوراً، وتقالب على رأسي عشرات الشيوخ، منهم الطيب ومنهم الخبيث، منهم المتدين ومنم مُتصنع التدين، منهم المتفاني الغيور على دينه، ومنهم من يبيع دينه ب”شلن”، فالناس أجناس كما تعلم يا أبا محمد، وكما تعرفني فأنا لم أحاكم يوما شخصاً على معتقداته ولا حتى على أقواله، كوني معتقد أشد الإعتقاد أن لكلٍ نيته ومقصده، وأن الله عليم بالنيات كما أنه عليم بالصدور، وهو الوحيد الذي يحق له محاكمة البشر ومحاسبتها، وليس أي شخص آخر مهما على شأنه وزاد ماله أو علمه، لكن أن يضع إنسان نفسه مكان الله فهذا لعمري شيء لا يمكن السكوت عليه أبداً…

هذا ما قلته لأبي محمد أثناء جلوسنا في المقهى، تتوسطنا “الشيشتين” اللتين يتعالى دخانهما، قبل أن يصطدم في سقف المقهى ويتفتت متبعثراً باحثاً عن مخرج، وأبو محمد الذي يعرفني جيداً قال بلغته الفصيحة التي لم يتركها كما ترك الصلاة في المسجد، هروباً من “تجار الدين” كما أسماهم، واكتفى بالصلاة في بيته، حتى صلاة الجمعة، صار يضع مذياعاً أمامه، يستمع لخطبتها، ويقف خلف المذياع مصلياً. قال:

ـ هاتِ ما عندك يا أبا جابر، قل ما الذي يؤرقك ويدمي قلبك…

قلت من باب الفضفضة لا أكثر، فأنا أعرف أن لا شيء سيغير هذا الواقع الأليم، الذي صار فيه التكالب على لقب “الشيخ”، أكثر ما يميز شارعنا الغزي، كتكالب حفنات من ذباب على كوم قمامة أعزكم الله، فصرت ترى الطبيب والمهندس والمعلم يفضل مناداته بالشيخ الطبيب أو الشيخ المهندس أو الشيخ المعلم، وصرت ترى البلطجي واللص وتاجر المخدرات ورجل السياسة يختبئ خلف هذا اللقب، وكأن التَشَيُّخ أصبح علامة فارقة للتضليل والخداع والنصب ونشر الأكاذيب، وصرت ترى كل من هب ودب يدعونه شيخاً، فصار الصالح والطالح شيخاً، وأخذ عدد الشيوخ يتزايد مثل الفطر بعد المطر، وصارت الفتاوى أكثر من أن تُعد أو أن تُحصى، وجُلّها في توافه الأمور، كما في خدمة “السلطان” والقادة الجدد للبلد المنكوب، تماماً كما في زمن الدولة الأموية وما تبعها طوال ثلاثة عشر قرنا من حكم الخلافة المتتالي، من حكم دنيوي فاسق فاجر منحل باسم الدين، وبعضها لم يتجاوز الدين فقط، بل تجاوز العقل والمنطق والأخلاق وكل شيء، قلت:

ـ تتقاذفني الأفكار يا أبا محمد، وأزداد قناعة يوماً بعد آخر، بأن أفعل مثلك، وأحتجب عن الصلاة، أقصد أن أكتفي بالصلاة في بيتي…

فقال أبو محمد:

ـ  نعم “لا فُض فوك”، صدقت ورب الكعبة، لكن بعد ماذا يا ابن الأوادم؟ بعد أن إنتقدتني على ذلك كل ذاك النقد؟ وبعد أن لمتني ورأيت في قراري قراراً لا معنى له؟ وأنه لن يغير من الأمر شيئاً؟ وقلت أن مواجهة هؤلاء فرض وواجب، وأن الله سيحاسبنا إن تواطأنا معهم أو سكتنا عمّا يقولون أو يفعلون، أو عما يزعمون على الله كذباً؟

قلت لأبي محمد مقاطعاً، بعد أن سحبت من أرجيلتي نفساً عميقاً تطايرت به قطرات الماء متزاحمة متفلتة داخلها، محدثة كركرة موسيقية أليفة، وهي تتسابق إلى الأعلى في محاولات تحرر فاشلة، فعادت لقمقمها ساكنة منتظرة فرصة جديدة للإنعتاق:

ـ إنها أفكار يارجل، مجرد أفكار تتقاذف رأسي، فأنا لن أفعل مثلك وأحتجب خلف حوائط منزلي، ثم إذا إحتجبنا أنا وأنت والآخرون، من سيواجه “تجار الدين” هؤلاء؟

شعر أبو محمد بالسعادة كوني صرت أستخدم كلماته، حتى لو اختلفت معه في الرأي بطريقة مواجهتهم، فقال وقد عادت إليه ابتسامة وجهه، وكان يسحب أنفاساً قصيرة متقطعة من نرجيلته، ويحرك رأسه طرباً على أنغام أغنية، يتردد صداها عالياً في سماء المقهى:

ـ أترك الفلسفة وقل لي ما الذي يؤرقك، هات ما عندك ولا تتعبني يارجل، أنطق بهذه الجوهرة…

فقلت مختصراً الموضوع في جملة قصيرة:

ـ إنه مفتي حماس، يونس أو يوسف الأسطل…

فقال مفتعلاً أنه يحاول التأكد من الإسم مقترباً بأذنه من فمي:

ـ يونس أو يوسف ماذا يا أبا جابر؟

قلت موضحاً الإسم الذي لم يسمعه:

ـ الأسطل …

لم أكن أعلم أنه سأل من باب التهكم وخفة الظل، لكنه كان قد بدأ تهكماته المعهودة مفتعلاً عدم الفهم:

ـ الأسطل؟!!! ومن الذي سطله؟!!!

كانت الإبتسامة المتلاعبة على أبواب شفتيه، تتفلت محاولة أن تتحول إلى ضحكة صاخبة، لكنه كلن يمسكها ويقمع محاولتها تلك، قلت متماشياً مع كلماته، شارحاً ما أود قوله:

ـ إنه إسم مركب على صفة يا أبا محمد، وليس صفة فقط…

قال سائلاً متهكماً من جديد، وكأنه لم يسمع ما أقول:

ـ مالك وما لهذا الأسطل؟ مالك ولمفتي الديار الحمساوية؟ مفتي ديار الإخوان المسلمين فرع فلسطين؟

فقلت موضحاً ما أردت قوله منذ البدء:

ـ لقد أفتى هذا الرجل بأن “من لا ينتخب مرشحي حركة حماس، لهو مرتد زنديق كافر، لا مغفرة له ولا توبة تقبل منه حتى لو صام أو صلى أو حج أو زكّى”…

فقال بذات الصيغة التهكمية، والأبتسامة ما تزال تحاول التحول إلى ضحكة دون نجاح:

ـ ولا حتى لو فك رقبة؟!!!

وأمام إندهاشي أكمل، تماماً كأنه يتكلم بجدية وليس مزاحاً:

ـ ثم يا أبا جابر، يقول الله تعالى في كتابه العزيز “ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج”، لذلك يمكننا القول ليس على الأسطل حرج أيضاً، فالله الذي ابتلاه بهذه العاهة وليس نحن…

سكت قليلاً  وسأل بكل “براءة” متهكمة مفتعلة:

ـ أمتأكد أنت أنه كان بكامل قواه العقلية عندما أفتى؟ ألم يتناول شيئاً من المخدرات قبل ذلك؟ فهو كما أعلم كان من المتحمسين لإستبدال عقوبة المؤبد أو الإعدام على تجار المخدرات في مصر بثمانين جلدة، ذلك الإقتراح الذي تقدم به نواب من الإخوان المسلمين في البرلمان هناك، بحجة تطبيق الشريعة، وهو في حقيقة الأمر لحماية تجار المخدرات والذين هم شركاءهم في “التجارة” لخدمة تطور الإقتصاد من أجل رفاهية الشعب!!!.

واقترب بكرسي القش الذي يجلس عليه وقال:

ـ يقول البعض أن له باعاً وذراعاً في غزتنا هنا، في هذا الأمر أيضاً، لكن على قاعدة أن لا يزيد الربح عن الثلث، و”الثلث كثير”، كما أوصى الرسول الكريم في باب التجارة…

ورفع يديه الى السماء داعياً متهكماً:

ـ لا أراه الله خسارة بتجارة نزيهة!!!

قلت وكان الغضب يأكلني رغم كلماته العميقة بإسلوبه الساخر:

ـ ياأبا محمد، يبدو أنك لا تفهم ما أقول، فهذا الأسطل يريد إقناعنا بأنه قد أخذ وكالة “الله تعالى” الحصرية وتمثيله على الأرض، فهو الناطق الرسمي والوحيد يإسمه، بل لقد وضع نفسه مكان الخالق، فهو الذي يحدد مَنْ الذي تجوز توبته ومَنْ لا تجوز، مَنْ المؤمن ومَنْ الكافر، مَنْ يدخل الجنة ومَنْ يدخل النار، وما على الله سبحانه، بقدرته وعليائه إلّا السمع والطاعة… أتفهم ما أريد قوله؟

فقال أبو محمد بعد أن تراجعت ابتسامته داخل فمه، وما زال يستمع للأغاني القادمة من مذياع قديم مركون على رف في أعلى حائط المقهى ويهز رأسه:

ـ وما الغريب في الأمر ياأبا جابر؟ ما الغريب على الأسطل وأمثاله من شيوخ الفتنة وقادتهم؟ لماذا كل هذا الإستغراب؟ ألم ترَ كيف ينحني مُقبلاً، زعيمه هنية، يد شيخ الفتنة الأكبر، القرضاوي، الذي يُقبّل بدوره حذاء الشيخة موزة وأبنائها مقابل حفنة مال؟ ويستجدي”ضربة للــــــــــه” من المحسنين الأمريكان لسوريا “الملحدة الطاغية”، ضربة تساعدها على الإستقرار وتنشر بها الديمقراطية مثلما نشروهما في العراق وفي ليبيا، وينفي  بشدة أن يكون هناك هدف “للثوار” في محاربة اسرائيل قائلاً مستغرباً:”من قال ذلك؟”و “لصالح مَنْ مثل هذه الدعاية المغرضة؟” إي والله “كفيت ووفيت” أيها الشيخ، وهل بعد هذه الفتاوى حاجة لفتاوى أخرى؟ لا ورب الكعبة، لقد قمت بالواجب وأكثر…

أخذ نفساً جديداً من نرجيلته، وقال:

ـ يقول الشاعر يا أبا جابر: “إذا كان رب البيت للدف ضارباً     فشيمة أهل البيت كلهم الرقص”، إذا كان زعيمهم القرضاوي يفتي ب” لو عاد النبي محمد لوضع يده بيد الناتو”، أتتخيل ذلك؟ الناتو الذي يحتل مقدساتنا وغرس لنا هذا الكيان الذي ما فتئ يقتل أبناءنا، ويدمر أوطاننا، وبفضله تقودنا “مباغي” النفط هذه، إن كان زعيمهم بهذا “الرخص” فماذا تنتظر من التابعين؟!!!

سكت آخذاً كمية من هواء المقهى الملوث، وقال:

ـ بعد هذا العمر يا أبا جابر، حان الوقت لتدرك مرة وإلى الأبد، مَنْ أكل من زاد الذل وشرب وارتوى بمائه، لا يمكن أن يكون عزيزاً أو يعيش كريماً…

تركني أنظر إليه، وأخذ يستثير “كركرة” الماء في النرجيلة، وصرت أنظر لمحاولات تفلّتها لتتحرر وتنعتق، وأغمض عينيه وعاد ليستمع لصوت الموسيقى القادمة من المذياع القديم، وكان زياد رحباني يغرد معلناً:

أنا مش كافر                                                                                                                          هيدا انت الكافر                                                                                                                     وعم بتحطا فيي كونك شيخ الكافرين

وأبو محمد يهز رأسه ميمنة وميسرة، على موجات اللحن الذي غطى مساحة المقهى كله، وسط دخان النراجيل  المتطاير الكثيف…

محمد النجار

غُلام السلطان

جلست معهم على نفس الطاولة، فكلنا، ودون استثناء، من الجيل نفسه، جيل الكهول كما تحبون، أنتم الشباب، أن تسموننا، فكما ترى، أصبحوا يحشرون الأعراس في صالة! بين أربعة جدران! ولم تعد كما كانت، طليقة حرة، تسبح في سمائها الأهازيج الشعبية من عتابا ودلعونا وميجنا، من مناداة وإستجلاب “لظريف الطول”، ولم تعد تسبح في الفضاء، لتملأ الحقول والجبال والكون كله فرحاً وقمحاً ووروداً،  واليوم كما ترى، ف”مهاهاة” النسوة تتكسر أصداؤها على حوائط الصالة، وتنهار منزلقة كحبات الندى من على أوراق الأشجار.

من الطبيعي أن أجلس مع جيلي، لنتسامر ونتحدث ونلتقي ونختلف، في وسط تلك الآلات المزعجة الصاخبة التي يسمونها بالموسيقى، موسيقى تغيب عنها الشبابة؟!!! يا لمهازل هذا الزمان!!! لكن ما العمل ولكل جيل زمانه وميوله وأفكاره وطريقة حياته؟

جلست مع أبو مصطفى، مع أبو أحمد وأبو حاتم، وخامسنا الشيخ أبو العبد، والذي رغم عدم رغبتي في مجالسته في معظم الأوقات، إلا أنني لا أظهر له شعوري هذا إلّا إذا أجبرت على ذلك، من باب الحرص على عدم جرح شعوره، أو إحراجه أمام الناس، فمعرفتي به على مدي أجيال، ما زالت تبعدني عنه وعن منْ يُمثل، فانا لا أحب تجار الدين، ولا من يضعون مصالحهم فوق كل إعتبار، ولديهم دائماً وأبداً “الغاية تبرر الوسيلة”.

كما أنني لا أهتم للأمر لولا حالة الإستعلاء التي يمارسها، أحياناً، دون وجه حق، أقصد التي قوائمها من عجين، وبالتالي يمكن أن أسميها بحالة “إستقواء مؤقت”، لأن الكذب والخداع والتملق واللعب على الحبال لن يستمر للأبد أبداً، ولهم في قيادة المنظمة ولاحقاً السلطة دليلاً عما أقول، صحيح أنهم كسبوا المال، لكنهم خسّرونا القضية كما تعلم، ومن العار أن نقع في مستنقع المال المُذلّ ذاته.

كان يمسح على لحيته البيضاء عند قدومي، يهدهدها ويدغدغها ويكاد يناجيها، كعادته، وكعادتي عندما ألتقيه، ورغم خلافنا الكبير، اُمازحه وأستفزه لأخلق جواً جميلاً بشوشاً لقعدتنا، فما بالك في جو العرس المبهج رغم موسيقاه الصاخبة الخالية من الشبابة؟!!! وأحياناً كان هو يفعل الأمر نفسه، لكن ليس بنفس النجاح التي تلاقيه كلماتي، الأمر الذي يزيد من إستفزازه وغضبه.

قلت له ما أن إحتضنني المقعد:

ـ والله لحية!!! بيضاء مثل الصفحة البيضاء، آه لو كان قلبك أبيضاً مثلها…

وضحكت لتأكيد مزاحي، حين أسند ظهره المقعد جيداً، كأنه يريد التأكد من حماية ظهره، وقال:

ـ كيفما كان فهو أكثر من قلبك بياضاً…

شعرت بنبرة الغضب بين كلماته، ورأيت الحقد يتدحرج معها، فاقتربت منه وسألت بصوت خفيض لكن مسموع من كل الجالسين:                                                                                                                       ـ أمتأكد أنت مما تقول؟

لم أكن أعلم أن سؤالي هذا سيستثيره أكثر من شتم أبيه، وسيربكه ويغضبه، وأنه سيفتح باباً للنقاش ليس العرس مكانه المثالي، قال وكان مدركاً بأن أي إجابة سيعطيها لن تقنع الجالسين، وأن تقاسيم وجهه ستخونه وتكشف أمره، لكنه رغم ذلك قال:

ـ نحن قلوبنا بيضاء دائماً والحمد لله، والله سبحانه أكرمنا في دنيانا وسيجعل مأوانا الجنة في الآخرة إنشاء الله…

عرفت أنه يستقوي علي بجماعته من خلال كلمة “نحن” التي قالها بوضوح، وشعرت أنه أخذ الحديث وسحبه إلى مكان آخر، غير الطريق الذي كان يسير فيه، عن سبق إصرار، وأنا كما تعرفني رجل مستقل عن الأحزاب جميعاً، رغم أن هذا ليس مفخرة، ورغم وجهة نظري التي تلتقي أحياناً أو تتعارض مع بعضها، فقلت:

ـ أن تكون لكم او لغيركم “الجنة” فهذا أمر لا يعلمه إلا الله، رغم شكي بأنكم ستصلونها يوماً، إلا إذا كان سبحانه قد وكلكم مكانه على الأرض كما تحاولون إفهام القطيع!!! أما هذه “الفلل” والعقارات والسيارات الفارهة، فهي من مملكة الخير، مملكة آل سعود وحارة الشيخة موزة أطال الله عمرهما، ولا أدري فربما من السلطان العثماني الجديد أيضاً، كما لدولة “الفرس الرافضية” الدور الأساس لمدكم بالمال والسلاح، نعم ذات الدولة التي تُحرِّضون عليها في المساجد وفي تعميماتكم الداخلية، وتمتدحونها، أحياناً، في العلن، في لعبتكم المنافقة الممجوجة، وليس من عند الله، فأنتم بئر بلا قعر، لا يملؤه شيئاً أبداً، وهذه على ما أظن ليست فخراً بقدر كونها نفاقاً، وهي، على كل حال، مغموسة بدماء الشهداء وأنات الجرحى وبكاء اليتامى والأرامل، كونها لم تُعطَ لكم، بغض النظر عن نوايا المتبرعين، لسواد عيونكم، بل بسبب مخططات وبرامج كل دافع إيجاباً أم سلباً.

وكان أبو حاتم قد دس عبارته بين كلماتي قائلاً:

ـ إنهم كالمقبرة لا جازاهم الله خيراً، لا يردون قادم، وفوق ذلك يشكون ويبكون…

ـ أصدقك القول أنني لم أرد أن أقول كل ذلك ولا حتى شيئاً منه، كما لم أتوقع أن لا يكون إحتجاجه إلا على السلطان العثماني، ولم أعتقد أن يكون بهذه الدرجة من الغضب، قال:

ـ لا تتحدث على دولة الإسلام!!! يُغضبكم “القائد”لأنه “الفارس الأخير” الذي يدافع عن بلاد الإسلام والمسلمين، لذلك حاولوا أمثالكم الإنقلاب عليه…

لم أتوقع جوابه هذا رغم معرفتي بوجهة نظره ونظرهم عن “السلطان”، فوجدتني أقول:

ـ لم أكن أعرف أن الدولة التركية، الدولة الأهم لحلف الناتو، وصاحبة العلاقة الأكثر تميزاً مع الكيان، والتي بها البغاء والخمور وكل الرذائل، متداولة على الملأ وبترخيص من الدولة، هي دولة إسلامكم المثالية!!! وأنه يحارب سوريا لأنها دولة الكفر والفساد والفسق والفجور، ويقيم العلاقات و يُنجز المعاهدات والتطبيع مع دولة الكيان لأنها دولة ديمقراطية، لم تحتل أرضاً ولم تقمع أو تهجر شعباً ولم تسجن أحد ولم تهدم مسجداًاًَََ!!! وأن خدمته لحلف “الناتو” هي لخدمة الإسلام وليس لخدمة المشروع الصهيو ـ أمريكي في المنطقة، لكن ماذا سأقول وأنتم لستم بأحسن منه، أما زلتم تراهنون على بلير أم كففتم بعد انكشاف أمركم؟!!!

فقال متحدثاً بإتجاه واحد، وكأنه لا يهمنه شيئاً سوى “السلطان”، الأمر الذي أثار في تساؤلات كثيرة عن زياراته المتكررة لهناك، لكن الأمر ليس شخصياً بالنسبة لي كما تعلم، قال:

ـ هذا القائد جاء عن طريق الإنتخابات الديمقراطية كما تعلم ويعلم الجميع، ومن يتجرأ على هزيمته فهناك صناديق الإقتراع وليس الإنقلابات…

فقلت وقد ذُهلت لما للأمر من أهمية عندهم:

ـ أنا بطبعي ضد الإنقلابات العسكرية كيفما كانت وأينما كانت، وبغض النظر إن كان الإنقلاب حقيقي أم مُفبرك، فهذا لا يعطي الحق لسلطانك أن يعتقل الآلاف ويفصل من العمل عشرات الآلاف ويمنع الملايين من السفر، كيف استطاع محاكمة هؤلاء في ساعات؟ ولمصلحة من يسحل القضاة والمحامين وأساتذة الجامعات من المعارضين في الشوارع؟ لكن إذا كان قد قمع التظاهرات وسجن الصحافيين والمخالفين، ودمر عشرات القرى للأكراد والعرب بدون إنقلاب، فماذا سيكون عليه الأمر مع وجود إنقلاب؟!!!

قال وقد أخذ يتصاعد الغضب داخل صدره، خاصة بعد أن تدخل أبو أحمد وأبو مصطفى وأبو حاتم في الحديث في غير صالحه:

ـ أتريد أن يرمي هؤلاء الإنقلابيون بالورود؟

قال حينها أبو مصطفى:

ـ ياشيخ أبا العبد، الأمر ليس كذلك، فكل ما هو مطلوب تقديم المتورطين للعدالة بعد أن يأخذ التحقيق مجراه…

وتابع أبو أحمد:

ـ إذا كان العسكر هم من قام بالإنقلاب، فما علاقة المعلمين والقضاة والمحامين وعاملي المؤسسات الخدمية في الدولة بالأمر؟ أقصد لماذا طالهم الأعتقال والفصل والمنع من السفر؟

فقال أبو حاتم والذي كان مجرد وجوده استفزازاً للشيخ أبو العبد:

ـ صحيح أن الإنقلاب مرفوض ياشيخ، لكن أن تُعمل دولة موازية تحكمها شركة سرية، لا يعرف أحد كيف أخذت ترخيصها ولا من أين، وتعمل تحت إمرة “السلطان”، وتأخذ تفتك بالشر دون رادع فهل ههذا مسموح في دولتك الإسلامية؟!!!

فقال الشيخ أبو العبد عندما وجد نفسه وحيداً في الدفاع عن “السلطان”:

ـ هراء… كل ما تقولونه هراء، جُل ما تبغون أن تُشوهوا سمعة “السلطان” والدولة الإسلامية التي يقود…

فقال أبو حاتم من جديد:

ـ لنأخذ الأمر بطريقة أخرى ونسأل: لماذا باعكم السلطان في سوق النخاسة الإسرائيلي وتخلى عن رفع الحصار عن غزة؟ لماذا لم يدعمكم بالسلاح والمال كما دعمتكم دولة “الفرس” التي ما زلتم تحرضون عليها قواعدكم؟ ولماذا لم تقدم لكم المكان الآمن والخبرة والصواريخ كما قدمتها لكم دولة سوريا التي تحاربون؟ أم تعتقدون أن الغزيين لا ينقصهم إلّا “شوكولاتة” السلطان وألعابه لينتصروا على دبابات “إسرائيل”؟!!!

أخذ أبو أمصطفى الكلام من فم أبي حاتم، وأضاف وكأنه يتابع ما قاله:

ـ يأخي يا شيخ أبو العبد، والله “هلكتمونا” وأنتم تقولون دولة إسلامية، وأصدقك القول أنني لم أعد أتعجب أبداً، أن أسلافكم، وعلى إ‘متداد ألف وثلاثمائة عام كاملة، لم يقدموا لنا من العدالة شيئاً يُذكر، فلو رفعتم سني الخلافة المختلف عليها أصلاً، لما بقي في ثلاثة عشر قرناً دولة إسلامية عادلة نفتخر بها سوى عامين ونصف العام عهد عمر بن عبد العزيز، وتسع شهور فقط في عهد الخليفة المهتدي، أهذا ما تريدون تطبيقه علينا؟ يا أخي “لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”.

ـ خسئتم… ألف مرة خسئتم، فوالله دولة الإسلام هي من خرّجت للعالم في العلوم كافة، علم الطب والفلك والفيزياء والفلسفة، أبو بكر الرازي وابن الهيثم والكندي وابن سينا وابن رشد والجاحظ، نسيتم ذلك أم تتناسون؟ لا والله أظنكم تتناسون!!!

وأسند ظهره المقعد من جديد، حين بدأت الضحكات تتعالى من البقية المحيطة به، وقال أبو حاتم مجدداً:

ـ ألم تُزندقهم “دولتك الإسلاميه وتكفرهم وتتهمهم بالإلحاد؟ ألم يكفروا الرازي ويحجروا على كتبه وفلسفته لعشرات السنين، وكذلك الحال مع ابن الهيثم؟ ألم يسخر الجاحظ من النقليين أمثالكم بما فيهم من نقلوا الحديث؟ ألم يدعو لسلطة العقل؟ ألم تُصادر مكتبة الكندي ويُجلد أمام الناس بأمر من الخليفة نفسه؟ ألم يُكفر ابن سينا ويُسمى ب”إمام الملحدين”؟ ألم يحرقوا كتب ابن رشد، ولولا إعادة ترجمتها عن اللاتينية لما عرفنا عنها شيئاً؟ أم أنكم كعادتكم دائماً، تشوهون الحقائق أو تقلبونها، ماهو جيد فهو لكم وما هو فاسد لا علاقة لكم به!!! إن عمود الإسلام هو العدل، أرنا أين ومتى تم تطبيقه على إمتداد من إدّعوا أنهم أقاموا دولة إسلامية…

تدخلت وقلت، وقد رأيت الذهاب بعيداً عن الموضوع قد يخلط الأمور، في محاولة للعودة لما بدأناه:

ـ أنت تتحدث عن الديمقراطية التي طالما اعتبرتموها بدعة، وأنها ليست من الإسلام في شيء، ألم يقل زعيمكم جميعاً حسن البنّا “يجب أن تكون القيادة من رجال الدين، ومن المتمرسين على القيادة مثل رؤساء العشائر!!! ولا تُعتبر الإنتخابات مقبولة إذا لم تأت بهم”!!! يعني الديمقراطية تكون فقط إذا انتخبتم من نريد!!! تفصيلاً على المقاس، ثم هل زعماء العشائر منصوص عليهم في كتاب الله؟

فقال أبو أحمد قاطعاً حبل أفكاري:

ـ أتركونا من الماضي كله، إن ما يزعجني تصريحات بعض قادة الإخوان في غزة، أنهم مع السلطان حتى لو سالت دماء شعبنا على سواحل تركيا، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة عندما تم التطبيع بين الكيان ودولة “السلطان”…

فقال أبو مصطفى وقد بدأت ابتسامة متهكمة ترتسم تحت شاربه الكثيف:

ـ مشعل يقول أن الشعب الفلسطيني الخاسر الأكبر لو نجح الإنقلاب!!!

ومسح شاربيه بإصبعين من يده، وتابع:

ـ الخاسر هو الشعب وليس حركة الإخوان المسلمين!!! أسمعتم؟ لأننا وقتها قد نخسر نتائج التطبيع مع الكيان.

وأطلق ضحكة فاجرة كادت تستجلب عيون المحتفلين، وأكملت أنا:

ـ وأكمل مشعل”يتهموننا أننا “حريم السلطان”، يشرفنا أن نكون “حريم السلطان، إذا كان السلطان هو أردوغان”…

وانتهى النقاش وسط دهشة الشيخ أبو العبد، المنطلقة من بؤبؤي عينيه اللتين اتسعتا فجأة أكبر من أن يستطيع حجبهما، وابتدأت التعليقات، وتعليقاتنا، نحن الكهول، فاجرة فاحشة في أحيان كثيرة، بل معظم الأحيان، وصارت التعليقات مصحوبة بالضحكات وبغلاف دخاني كثيف من سجائر الهيشي:

ـ والله يبدو أن السيد مشعل ياأبا العبد يعرف كيف تكون “حريم السلطان”.

ـ وربما يعرف تماماً ما يبسط “السلطان” وإلّا لما تمنى أن يكون من حريمه!!!

ـ آه والله ياعمي، إسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

ـ لنسأل مشعل أبا ياشيخ، إن كان السلطان يفضل الغلمان!!!

ـ غلام غلام لكن سعره فيه…

ـ ربما نسمع غداً أن “السلطان” أمر “أعط هذا الغلام ألف درهم ومائة ناقة”، مشيراً بإصبعه إلى السيد مشعل، لفضله في متعة السلطان…

ـ  فهمنا لماذا الألف درهم، لكن لماذا المائة ناقة ياأخ العرب؟

ـ ليجلب للسلطان على سناماتها غلماناً جدداً من الفصيلة ذاتها، يعني قافلة متوجهة للباب العالي …

واستمرت التعليقات منهمرة كجدول ماء من سطح جبل، ولم يلحظ مغادرة الشيخ أبو العبد الطاولة سوى أبو حاتم الذي ناداه بأعلى صوته قائلاً:

ـ إلى أين يا أبا العبد؟ القافلة لم تصل بعد، لماذا كل هذه العجالة؟!!!…

فما كان من أبي العبد إلا أن عاد فوراً إلى مكانه، وأخذ يبتسم أمام ضحكاتنا، وقال:

ـ كفى لعنكم الله، كفى قاتلكم الله…

واتسعت ابتسامة فمه واقترب من وسط الطاولة ليسمع الجميع سؤاله، وقال:

ـ بربكم هل صحيح ما نقلتموه على لسان السيد مشعل؟

هز بعضنا رأسه بالإيجاب، لكن أحداً لم يقل شيئاً، خاصة بعد ان هدأ كل شيء فجأة، وأخذت تنسكب في آذاننا صوت شبابة يأتي متماوجاً في سماء الصالة، وقام بعض الشبان والصبايا بكوفياتهم وهندياتهم وأثوابهن الشعبية يدبكون، ويدقون صدر الأرض بأقدامهم الواثقة، على أنغام الدلعونا….. حينها أدركت أن أعراس الصالات أيضاً، لم تكن بذاك السوء الذي تصورته.

محمد النجار

لمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذا؟!!!

ظلّت الكثير من الأسئلة تدق رأسي دون هوادة، خاصة بعد بعض الحوارات ،المُصرّة على قلب الحقائق، مع البعض، والذين لا يريدون أن يروا ما يدور في منطقتنا، من حرب كونية على مقدراتنا وتاريخنا وبلادنا وشعوبنا ، إلا حرباً طائفية!!! فلا أمريكا تطمع بنا وبخيرات بلادنا، ولا “آل سعود” هم رأس الأفعى في المنطقة، ولا ما يتم لمصلحة الكيان الصهيوني!!! ولا….إلخ، بل إن إيران”الشيعية”، هي فقط السبب وراء الحروب وإدامتها واستدامتها، ومعها حزب الله طبعاً، ولا يمكن أن تنتهي الحرب إلًا بعد الخلاص من إيران “الشيعية”، تاريخاً وطوائف ومذاهب وحتى جغرافيا إن أمكن!!! الأمر الذي يعني طبعاً إدامة الصراع واستمراره إلى آخر إنسان في الجانبين، وبهذا نكون نحن”السنة” قد نظفنا بيتنا من الداخل ونتفرغ لحرب الكيان الصهيوني!!! كلام خالٍ من أي منطق، فلماذا لا يمكننا أن نضع أيدينا مع إيران، ونتخلص من الكيان الصهيوني أولاً، فهذا لا يصح، ولماذا لا نتخلص من الصهاينة وحدنا ثم نرى أمورنا مع إيران فلا يصح أيضاً، فلا يصح معنا نحن “السنة” إلا إستعداء إيران فقط، وتحويل الصهاينة إلى حلفاء محتملين!!!

هكذا قال محاوري في حوارنا الأخير، فازداد طرق السؤال رأسي، لماذا، وازدادت الأسئلة التي تبدأ به أكثر، فتجاهلت “كيف ومتى وأين وهل ومن وإلى متى”، لأنني لو طرحت كل ما يدور في رأسي من أسئلة لما أنهيت مقالتي هذه أبداً، وعليه سأطرح فقط بعض ما يدور في رأسي من أسئلة تتعلق ب”لماذا”، منوهاً أنني لست من أنصار لا الدول الدينية ولا الأحزاب الدينية، وأنني أرى أن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة تخصه وحده، ولا يحق لأي كان التدخل بها، لا من قريب ولا بعيد، كما أنني لاحظت أن كل أصحاب النظرة الطائفية والمتمسكين بها، معجبين أشد الإعجاب بالنظام “الغربي”، والذي لا يفرق بين أبنائه لأي بسبب، دين أو لون أو جنس أو معتقد، لكنهم “عندنا” يريدون مجتمعاً بلون واحد فقط، هذا إذا ظل هناك لون بعد الصراع الدائر….

ولنبدأ بالأسئلة، التي أرجوا أن لا يجيب عليها أو يقرأها أحداً من المتعصبين، من أي طرف كان، وهي أسئلة برسم التفكير لكل مَنْ يدعي أن الصراع الدائر في منطقتنا ما هو إلا صراع طائفي، وليس صراعاً سياسياً في جوهره، مغلفاً بغلاف طائفي:

  • لماذا إصرار الدول “السنية” على حرف إتجاه البوصلة، من فلسطين وتحريرها، ومن العداء للصهيونية إلى جعل العداء لإيران؟ وهل صحيح أن “طويل العمر” ملك آل سعود، دعم بناء المستوطنات بعشرات ملايين الدولارات؟ ودعم حملة إنتخابات نتنياهو ب80 مليون دولار، كما نؤكد الصحافة العبرية؟

  • إذا كان الصراع طائفياً لماذا إذن لم تقم “الدول السنية”، وعل رأسها دولة “آل سعود”، بمحاربة إيران أيام الشاه؟ أم أن إيران كانت “سنية”آنذاك؟

  • لماذا تم افتعال حروب متتالية مع إيران بعد إنتصار الثورة مباشرة؟ رغم أن الإنجليز “حلفاء” الدول السنية “وأبرز داعميهم حتى اليوم (هم مَن سلم الأهواز لإيران، تماماً كما سلّم الفرنسيون لواء الإسكندرونة لتركيا والإنجليز  لمناطق نجران وعسير وجيزان لآل سعود أنفسهم)، وكذلك سيطرت إيران على الجزر الإماراتية أثناء حكم الشاه، فلماذا لم تحارب الدول “السنية” وعلى رأسها آل سعود الشاه “الشيعي” ولم نسمع من هذه “الدول السنية” ولو كلمة واحدة بهذا الشأن آنذاك؟. بل إن علاقتهم مع الشاه كانت استراتيجية، وهو من ساعدهم على ضرب القوى الثورية التي نشأت في بلادهم!!! ولم نسمع “بسنة أو شيعة”، ولا عن اي دور “تشييعي” لإيران في المنطقة.!!!

  • لماذا اكتشف حكام الدول “السنية”، “شيعية إيران” بعد أن تم رفع العلم الفلسطيني فوق سفارة”إسرائيل” الموروثة من عهد الشاه، وتحويلها لسفارة “فلسطين”؟ وفي نفس الوقت الذي إبتدأت أمريكا بفرض حصارها على إيران؟

  • وما دام الموضوع هو “سنة وشيعة”، فلماذا تقيم هذه الممالك والدول والحكام “السنة”، أرفع العلاقات وأكثرها تطوراً، مع دولة أذربيجان “الشيعية”، صاحبة العلاقات الأكثر تميزاً بالكيان الصهيوني، وخاصة من الناحية الأمنية، التي تضر أول ما تضر بقضية”العرب السنة” في فلسطين؟!!!

  • لماذا، والأمر كذلك، لم تدعم الدول “السنية”وعلى رأسها بلاد “مملكة الخير” وقيادتها، آل سعود، الفصائل “السنية” في فلسطين، بعُشر ما قدمته لما إستجلبته من حثالات بشرية لتدمير أوطاننا في سوريا والعراق وليبيا واليمن و”الحبل على الجرار”؟ وتركت الأمر لإيران”الشيعية” لدعم فلسطين “السنية” وفصائلها؟ وتركت خلايا “حزب الله الشيعي” يدرب ويعلم وينقل السلاح ويُهربه إلى القطاع المحاصر، وتُعتقل بعض خلاياه في الدولة المصرية “السنية”؟ ولم تقدم أي نوع من الدعم للقضية الفلسطينية “السنية”، على مدار 68 سنة من عمر القضية، ولا حتى فتوى واحدة من شيوخ “السنة” العباقرة في بلاد آل سعود، بل أنها أوقفت حتى التبرعات لهذه القضية…

  • لماذا لم تقم الدول “السنية” بمحاربة محتلي المسجد الأقصى المبارك” أولى القبلتين وثالث الحرمين” رغم مرور 49 عاماً على إحتلاله، وشيوخ فتنتها كما القرضاوي “ينبحون” لمحاربة سوريا لنشر الديموقراطية هناك؟!!! ويستعيذ الله متبرئاً ممن يقولون بمحاربة “إسرائيل” بعد الإنتهاء من سوريا، ويشحذ من أمريكا المزيد من التدمير لبلداننا، ” ضربات لسوريا من أجل الله ياأمريكا”، الغريب أن البلاد والمقدسات محتلة من”اليهود الصهاينة” وهم ينادون بالديمقراطية في بلدان يحكمها “مسلمون”!!! والأغرب أنهم يريدون الديمقراطية التي يمنعونها في بلادهم، والإنتخابات التي لم يجرونها يوماً، والدستور وهم لا يملكون دستوراً… مع ملاحظة أن كاتب هذه السطور من أشد مؤيدي حرية الرأي والفكر والتعبير والإختيار، وضد كل أنواع التمييز الديني أو العرقي أو المذهبي والطائفي، أو اللون أو الجنس أو العرق، ومع تشكيل الأحزاب إلّا الدينية منها، والتبادل السلمي للسلطة.

  • بل لماذا تبرعت “مملكة الخير” أطال الله عمر قادتها آل سعود”، بفلسطين، في رسالة موثقة عبر الحلفاء الإنجليز، إلى “المساكين اليهود” أو حتى “إلى غيرهم “كما ورد في الرسالة؟ أعيد “تبرعت” بفلسطين وكأنها من بقايا موروث آبائهم العملاء الفاسدين المتخلفين الجهلة”!!!

  • لماذا لم تستخدم “مملكة الخير”ودول النفط “السنية”علاقاتها بالغرب، أو بالنفط، أو أموال النفط، لدعم قضيتها الأولى قضية فلسطين”السنية”؟

  • لماذا حارب آل سعود “السنة، الثورة الناصرية”السنية”، متحالفاً مع شاه إيران “الشيعي”؟ وراعيتهما أمريكا، أم أنه لم يكن “شيعياً” وإنما نحن الجهلة  المفتقدين للثقافة نعتقد ذلك؟ ولماذا إستدعت الحرب عليه من إسرائيل في حرب 67، معتبرة في رسالتها أن نظام ناصر إذا إستمر دون تدمير حتى سنة 70 فإن نظام “آل سعود” لن يعيش أبداً ليصل لعام 1970، أم أن الصهاينة هم صهاينة “سنة”؟

  • وما دام الأمر طائفي، لماذا إستُجلبت “القاعدة “من العالم إلى ليبيا لتدمير بناها التحتية، وذبح عشرات الآلاف من البشر “السنة”، وتدمير أول شيء النهر العظيم الذي خضّر حتى الصحراء الليبية؟ وأين الشيعة في ليبيا؟ وأين الشيعة من مصر التي يحاولون تدميرها وتقسيمها ؟

  • لماذا ترتضي الدول “السنية”، قائدة الثورة”السنية” في الوطن العربي، ل”تنظيماتها ومناضليها في جبهة النصرة وداعش وأحرار الشام وجيش الإسلام في سوريا” أن يُعالجوا في المستشفيات”الصهيونية” ويزورهم ويلتقيهم “نتنياهو” نفسه، وكل وسائل إعلامهم، ووسائل إعلام الأنظمة “السنية” تغطي على الأمر وتمنع نشره في وسائل إعلامها، وكأنها بذلك تحجب الحقيقة؟ وكيف ترتضي لقيادة الثورة “السنية” في سوريا بالتبرع بهضبة الجولان لإسرائيل مقابل دعمها بإسقاط الأسد؟ كما وكيف ترتضي للثوار”السنة” بالتدرب على أيدي ضباط الصهاينة، وأن يقود عملياتهم في غرفة عمليات “موك” في الأردن ضباطاً “إسرائيليين” بجانب ضباط من طرف آل سعود وأمريكا والأردن؟ والآن يقوم الصهاينة بإنشاء غرفة عمليات مشتركة مع ” المناضليين الجهاديين السنة” من “جبهة النصرةـ تنظيم القاعدة في بلاد الشام ـ لإقامة شريط عازل في الجولان على غرار ما تم في جنوب لبنان؟

  • لماذا لا يُحارب آل سعود، كقيادة للدول “السنية” أمريكا، التي أسقطت القيادة العراقية السنية “صدام حسين” ، بل إستدعت أمريكا وتحالفاتها لإسقاطه بعد أن رفع شعار”نفط العرب للعرب”؟ وفي الوقت الذي رفضت فيه إيران “الشيعية” أن تفتح أراضيها للغزو الأمريكي للعراق ، رغم محاربته لها 8 سنين طوال، فعلت ذلك دول النفط وغير النفط “السنية”، من مصر إلى دولة آل سعود إلى دولة “النعاج” كما سمّاها رئيس وزرائها آنذاك حمد الصغير، إلخ؟  بعد أن حاصروه وقتلوا من شعب العراق ما يزيد عن مليون طفل فقط بسبب حصارهم…

  • لماذا لا تُحرضون “السنة” في لبنان وتدعمونهم بالصواريخ كما فعلت إيران مع حزب الله، لمحاربة إسرائيل، خاصة وأن لديهم قيادة ثورية مثلكم (من الحريري إلى السنيورة إلى فتفت “شرّيب الشاي” مع الجيش الإسرائيلي، إلى ريفي)؟ ولماذا تحالفاتهم فقط مع جعجع وأمثاله، أحد أهم أبطال مجزرة صبرا وشاتيلا، القاتل المحكوم في المحاكم اللبنانية نفسها؟

  • لماذا دعمتم يا آل سعود، ياقادة “السنة”، إثيوبيا، الدولة التي ـ ربماـ من أكثر الدول الإفريقية تعاوناً مع “إسرائيل”، في بناء سد النهضة الذي يحرم الدول “السنية” العربية”مصر والسودان”من المياه، يعطش شعبهما ويصحر أراضيهما، وبتعاون مباشر مع إسرائيل؟

  • لماذا أصبحت إيران دولة نووية رغم حصاراً أمريكياً ودولياً ومنكم أنتم أنفسكم أيها الدول “السنية”، وآل سعود على رأسكم، وصار عندها ما يقرب من الإكتفاء الذاتي إقتصادياً، وأنتم بدلاً من أن تتعلموا منها، وتثبتوا لها أنكم “السنة” لستم بأقل شأنا، فإنكم ما زلتم تعتمدون في إقتصادكم بنسبة أكثر من 90% على النفط، وبدلاً من طلب مساعدتها تحاربونها، وأنتم أيها الكسالى الخائبين، يا آل سعود، ما زلتم تستوردون خضارا ،فقط خضـــــــــــــار، من مختلف دول العالم بأكثر من 30 مليار دولار، أقول مليار وليس مليون، في العام الواحد، وتستوردون المياه بأعلى من أسعار نفط شعبكم المنهوب…وصارت “سلة غذاء الوطن العربي”، السودان، التي تمتلك 30 مليون رأساً من الأبقار، وخمسين مليون رأساً من الماعز ومياه النيل وعشرات الأنهار الأخرى، صارت صحراء وجائعة وجاهلة ومتخلفة وتبيع أبناؤها لآل سعود ليقتلونهم في حرب اليمن، ويمزقها الفساد والبيروقراطية,… رغم “سنيتها” وتطبيقها للشريعة الإسلامية السنية أيضاً.” في هولندا مجرد مليون رأس من الأبقار، وبدون “سِنّة” ولا “شريعة”، صارت من صفوف الدول الأولى في العالم في تصنيع الأجبان والشوكولاتة، وبدون أمية ولا فساد ولا إفساد. أما السودان الذي  إتبع نصائح “سنة” قطر وآل سعود فتقسمت بلاده إلى قسمين، وبدلاً من الإهتمام بمصالح الوطن والمواطن، يقوم بمحاكمة فتاة تلبس بنطالاً أو أخرى تتزوج مسيحياً، لكنها لم تحاسب فاسداً واحداً أو لصاً واحداً.

  • لماذا تتقدم الدول “السنية” دول العالم في الفشل والجهل وتفشي الأمراض والأمية، مصر والصومال وموريتانيا واليمن والسودان والباكستان وأفغانستان.

  • لماذا لم تستثمر الدول الغنية “السنية” أموال خيرات شعبها، في الدول “السنية” المحتاجة لذلك، بدلاً من إبقائها في بلاد الغرب وبنوكها؟ مثل مصر والسودان واليمن، الأمر الذي يُطور هذه الدول ويقضي على البطالة والفقر، ويجعل الدول المستَثمِرة رابحة في نفس الوقت. أم أنهم يدركون أن أمريكا لن تسمح لهم بذلك، وربما تصادر هذه الأموال شاهرة في وجوههم ملف حقوق الإنسان كما هو متوقع!!!

  • لماذا تصر قيادة الدول “السنية” لمحاربة كل من يحارب أمريكا وإسرائيل، ولشيطنته وملاحقته وتوقبف قنواته الإعلامية؟، وكما دفعت أمريكا بإعترافها، ما يفوق على 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله، هكذا تفعل الدول “السنية” بقيادة آل سعود مع فصائل المقاومة العراقية التي طردت الأمريكي خارج العراق في 2011، ومن بينها بعض فصائل الحشد الشعبي في العراق، أو مناهضوا سياسة التدمير التي أنتجها آل سعود في اليمن من “أنصار الله” وغيرها من فصائل إسلامية ويسارية…

  • لماذا يُحارب آل سعود”السنة”، أعداء أمريكا وإسرائيل، ليس في المنطقة فقط بل والعالم أيضاً؟ وتكيل لهم كل التهم وتدفع الأموال من جيب شعبها، لتحصد أمريكا الثمار، وهذه مجرد أمثلة على ذلك:

ـ دفع آل سعود “السنة” مبالغ طائلة بعد فوز الحزب الشيوعي الفرنسي، وكذلك الحزب الشيوعي الإيطالي في إنتخابات بلادهم، للأحزاب الأخرى كي لا يدخلوا في تحالفات معهما كي لا يستطيعا تشكيل حكومات كل في بلدهما، هل كان أولئك شيعة؟ وهل إعتدوا على سيادة بلدان العرب أو المسلمين؟ وبأي حق يتدخل آل سعود في شؤونهم الداخلية؟ ولمصلحة مَنْ؟ أليس لمصلحة أمريكا وبأموال العرب؟!!!

ـ دفع الأموال لشراء البشر والسلاح وبشعارات دينية لمحاربة الإتحاد السوفييتي السابق، لتعود أفغانستان للحظيرة الأمريكية وبأموال عربية، هل كان السوفييت شيعة وأمريكا دولة سنية؟!!! وما شأن آل سعود بذلك؟ ولماذا سكتوا عن تحويل أفغانستان “السنية” إلى دولة فاشلة؟

ـ دعم آل سعود أعداء الثورة الساندينية، بالمال والسلاح، الكونتراس، كي لا يصل أعداء أمريكا للحكم آنذاك، وزهقت نتيجة ذلك عشرات آلاف الأرواح، ودمرت البلاد، بأموال العرب ولمصلحة أمريكا، فهل كانت الثورة الساندينية “شيعية”؟ وبماذا أساءت للسعودية لتقف موقفها ذلك؟

ـ أغرق آل سعود السوق بالنفط وأنزلوا سعره من 120 دولاراً للبرميل إلى أقل من 30 لكي يضربوا الإقتصاد الفنزويلي المعادي للأمريكي وكذلك الروسي المنافس له، وليضربوا الإقتصاد الإيراني أيضاً، فإن كان هناك خسارة بيِّنة لإيران في مليون برميل تصدره في اليوم الواحد كبيرة ومؤثرة، فإن خسارة آل سعود كانت أحد عشر ضعف الخسارة الإيرانية، كونها كانت تبيع أحد عشر ضعف المنتج الإيراني، ومن الرابح من جراء ذلك؟ أمريكا بالتأكيد، وآل سعود”جكر في الطهارة يشخون في لباسهم”.

  • ما دام “الدواعش” وجبهة النصرة، وما شابههم من حثالات بشرية “ثواراً”، لماذا يذبحون الناس ويفجرون أنفسهم في المساجد والأسواق الشعبية، ويصرخون”جئناكم بالذبح” هل هذا الإسلام “السني” الذي يريدون حكمنا به؟ وهل لائحة النساء في زواج النكاح اللواتي يُطلقن ويُزوجن بأوامر “سنية شرعية”ما يقرب من عشرين مرة في اليوم الواحد، ويدفع لها ثمن النكاح، هل هذا من الإنسانية في شيء؟ وهل هو من الديانات لا سيما المذهب السني في شيء؟ وهل يختلف عن بيوت الدعارة في شيء؟ولماذا تركت الدول الغربية القتلة للقدوم إلى سوريا والعراق وسهلت مرورهم؟ ولماذا ساعدتهم أمريكا وقطر وآل سعود؟ وإن كانت تريد أمريكا محاربتهم لماذا تركتهم يتدربون تحت سلطتها وبسلاحها وفي معسكراتها في تركيا وليبيا، ولماذا لم تقدم للجيش العراقي حتى الآن السلاح المطلوب، رغم أنه دفع ثمنه منذ سنوات؟ وماداموا يريدون محاربتهم لماذا جلبوهم إلى ليبيا “السنية”، والتي ليس بها من الشيعة أحد؟ وكيف لم يروا الأسطول البحري الذي يزيد عن 3000 صهريج وينقل النفط المسروق من العراق وسوريا ويتوجه الى تركيا واسرائيل؟ وكيف سمحوا لدويلة الشيخة موزة بشراء 3200 عربة تويتا مجهزة للقتال من اليابان ويدخلونها من تركيا إلى سوريا؟ وكيف لم يرَ الأمريكان مئات الآليات والدبابات ومدافع الهاون والصواريخ التي تتنقل في العراق وسوريا وما بينهما على مساحة آلاف الكيلومترات المربعة؟ في الوقت الذي ترى فيه لو مجرد مناضل فلسطيني واحد في قطاع غزة وتقصفه، لكنها لا تقصفهم؟ وكيف لم تر نقلهم بطائرات تركية وقطرية إلى جنوب اليمن؟ ولماذا قام آل سعود “السنة”وكذلك دولة قطر”السنية” بعزل الجنرال “السني” السوداني”الدابي”، الذي بعثته الجامعة العربية للتحقيق في أحداث سوريا منذ بدايات احداثها، عندما إتهموا النظام بقتل المتظاهرين، وعاد ليقول لرئيس وزراء قطر السابق “حمد الأصغر”، إوقفوا دعمكم وتسليحكم للإرهاب، تتوقف الحرب في سوريا، فكان نتاج تقريره عزله ووقف مهمته.
  • لماذا لم نرَ أو نقرأ أو نسمع رغم كل عمليات التفجير في المساجد والكنائس والأسواق، وتدمير الآثار والتاريخ، والتقتيل والذبح في كامل الفسيفساء العربية، من المناضلين “السنة”، عن أي عملية ضد الكيان الصهيوني، ولو عن طريف الخطأ؟ ولماذا يقتلون من “السنة” أكثر ما يقتلون من المذاهب والطوائف الأخرى، لكل من لا يتطابق وآراءهم؟ وفي المقابل لماذا لم نسمع عن “شيعي”يفجر نفسه في مناطق السنة؟بل أن “الشيعة”في الحشد الشعبي، “والذي يضم في صفوفه عشرات آلاف “السنة”، هم مَنْ يُحرر المناطق “السنية”، لاحظ “السنية” من براثن داعش وأخواتها، ولماذا لم يتوجه الدواعش للمناطق الشيعية في وسط العراق وجنوبه ليحتلوه ماداموا يريدون القضاء على “الرافضة”؟ بل داهموا المناطق “السنية” فقط وذبحوا أهلها ودمروا بنيانها واغتصبوا نساءها؟ ولماذا لم نسمع هذا التقسيم الطائفي عن “سنة وشيعة” بين الأكراد؟

  • لماذا، وهذه ال”لماذا”، كان يجب أن تكون في البداية ربما، لماذا يعتقد هؤلاء “المناضلين السنة”، ومن خلفهم داعميهم وأولهم آل سعود، أن الجنة من حقهم ونصيبهم حصراً ودون غيرهم؟ فلا نصاً يؤكد ذلك، ولا منطق أيضاً، فمذاهب الإسلام من”سنية بمذاهبه الأربعة” الشافعي والحنفي والحنبلى والمالكي” وفرقها من السنية والإباضية والشيعية، يتفرع عنها: أهل الحديث والسلفية والأشاعرة والماتريدية والمرحبة والمعتزلة والجهمية والصوفية والإثنا عشرية والزيدية والأصولية والأخبارية والشيخية والإسماعيلية والنزارية والمستعلبة والعلوية والأذارفة والنجدات والأحمدية والقرآنيين والبهرة  …إلخ والتي تصل الى 73 فرقة، كلها تدّعي أنها تمثل الإسلام “الصحيح”، وكيف  يستطيع هؤلاء التفكير أن لهم ميزة على الطوائف الأخرى وعلى الأديان الأخرى بما فيها الديانات الوضعية، عدا أن ليس لهم فضلاً أو ميزة حتى على ما في طائفتهم نفسها، ألم يحن الوقت ليتدينوا كما يريدون لكن بإبعاد الدين عن السياسة، ألا يكفي ما فعله الدين المسيس في البشرية جمعاء؟ تخيلوا 73 فرقة ومذهب إسلامي، ومثلها أو أقل قليلاً من الديانات الأخرى، والجميع بدون إستثناء يدعي أنه الصحيح، وإلا لغير مذهبه لو كان لديه شك فيه، فلو أراد كل طرف فرض رؤيته على الآخر ماذا يمكن أن يتم في عالمنا العربي؟ تخيلوا إلى أين يمكن أن توصلنا التقسيمات الطائفية والدينية، وربما لو تبعنا العرقية والقومية أيضاً، ستصبح أكبر دولة عربية حسب طائفتها ومذهبها أصغر بكثير من ملعب كرة قدم، دولاً متحاربة متذابحة إلى مالا نهاية، هذا إذا لم نفنِ بالحروب بعضنا بعضا!!!

  • لماذا لا يترك هؤلاء الدين لصاحبه، الله، ولماذا يتدخلون بصنع الله بخلقه؟ ومن أعطاهم الحق بذلك؟ فالدين كما ذكرنا لله والوطن للجميع، فلنترك ما لله لله، ولنتضافر لإعلاء صرح الوطن، ولا نترك أحداً ليتدخل في شؤون الله تحت أي إسم أو ذريعة، فهذه العلاقة بين الإنسان وربه من أشد العلاقات شخصية وخصوصية، ولا يحق لكائن من كان أن يتدخل بها، أما شيوخ الفتنة الذين بحرضون على العنف في أوساط فقراء الشعب وبغض النظر من أي ديانة أو طائفة هم، فنسألهم لماذا لا تبعثون أبناءكم ليفجرون أنفسهم ويصعدون ليحجزوا لكم مكاناً في الجنة؟ وإن كانوا “ملوا زوجاتهم”ويريدون الحوريات، فلماذا لا يذهبون هم أنفسهم ليفجروا أنفسهم ويصعدون الى السماء، بدلاً من تحريض الفقراء ؟ ولماذا لا يعطون الفقراء جزءً من جنانهم الأرضية إن كانوا بهذا الإيمان الذي يدّعون؟ولماذا يبعثون أولادهم وبناتهم إلى بلاد الغرب “الكافرة”، ويبعثون أبناء الفقراء لتفجير أنفسهم في خلق الله وعباده؟ وأكرر من أين لهم التأكد من صحة طائفتهم أو مذهبهم؟ ومن أين يعرفون أن لهم الجنة دون غيرهم؟ بل من قال أصلاً أن لهم الجنة؟، فالله ،حتى الله الرؤوف الرحيم، لا يرحم العملاء والمجرمين…

محمد النجار

كلمتان …ليطمئن البحر

عندما أكون بحضرتها، الحاجة “أم نور”، يفتح عليّ الله ويطلق لساني، ولا أعود الرجل “الأهبل” المتلعثم، ولا الرجل الذي “على باب الله”، كما يسميني معظم الناس، في مخيمنا القريب على شاطئ بحر غزة، وأنا لم أنكر يوماً أنني كما يصفون، بل ربما أُأَكد ذلك لكن بطريقة أخرى، سأشرحها لك لتحكم بنفسك.

فأنا ـ كما تعرفني ـ كنت طوال عمري ولم أزل، إنسان بسيط، كنت أذهب إلى المسجد في كل الأوقات، أصلي وأبدأ بتقبيل أيدي من هم أكبر مني سناً، خاصة أيدي الشيوخ الذي ينضح بهم المسجد في معظم الأوقات، وسرعان ما أجلس للإستماع للدروس الدينية من أي كان، وأعمل بها، لأضمن لنفسي دخول الجنة بعد أن يأخذ الله “وديعته”، لكن خروجي المتكرر الى شاطئ البحر، كان يُحرك عقلي الخامل، ويجعله يفكر فيما ليس مسموح التفكير به، فيوصلني ربما الى المعصية، ثم الى الكفر الذي سيوصلني الى نار جهنم.

هذا ما قلته للحاجة “أم نور”، لكنها قبل أن تسألني عن أي شيء سألتني عمّا أراه أو أحسه عندما أذهب الى شاطئ البحر، ورغم أنني لم أفكر في الأمر قبل سؤالها، إلا أن سؤالها أثار في فضولاً من نوع غريب، وسألت نفسي بدوري، لماذا أتوجه أنا للبحر؟ ولم أعرف الإجابة يوماً عن هذا السؤال، وكل ما أعرفه أنه يوجد شيء داخلي يدفعني دفعاً للذهاب الى هناك، أختار موقعاً بعيداً عن الناس، لا يسمعني أو لا يراني فيه أحد، وسرعان ما أبدأ أشكو للبحر همومي، أرمي بوجهه أسئلتي، وأصرخ به بكل ما في حنجرتي من ضجيج وهِمَّة، دون أن أخشى غضباً منه أو نقمة أو حتى عتاب.

كنت أقف على أبواب شواطئه، وأرى أو أحس كيف تتكسر على قدمي أمواجه الهادرة، وتعود خائبة مهزومة مكلومة عابسة، دون أن تثير في سوى بقايا شفقة بين وقت وآخر، وعندما أصحو على إهانتي له، أنظر الى سعة صدره الذي يمتد بعيداً خلف الأفق، ودون أن أعتذر، كنت أسمع ضحكات أمواجه وقهقهاتها فأعود الى نفسي، ونعود صافيين صديقين، كورقتين بيضتين، دون منغصات ولا أحقاد .

كثرت تردداتي على البحر مع كثرة ما حرَّمه شيوخ مسجدنا، كنت أشكوهم له، كنت أردد على مسامعه كلمات المرحوم أبي، أن “الدين يُسر وليس عسراً”، لكن ما أسمعه منهم هو عكس كلمات أبي، واحترت أصدق من؟ صحيح أن والدي رجل لم يعرف المدارس يوماً، وأن كل ما كتبه في حياته لم يتعدى بصمة إبهامه، لكن كلماته هي الأقرب الى عقلي، لكنهم متعلمون وخطباء ويتكلمون كلمات لا أفهم معاني معظمها، ولديهم أضعاف ما لدى والدي من علوم الدين، وجعلوني أؤمن أن مخالفة كلامهم هو مخالفة أوامر الله وسنة نبيه، والخروج عن أقوالهم هو الخروج عن الدين، والنتيجة جهنم وبئس المصير.

حدثت البحر، فهدأ من صخب أمواجه ليسمعني، وقلت، وكان هذا عندما بدأت كلمات أبي تدق رأسي بعنف، “الدين يسر وليس عسرا” يابني، وكلماتهم تدق رأسي، أن “كل شيء حرام مالم يحلله الشيوخ”، رميت نفسي تحت أقدام أمواجه الهادئه وقلت، وكان هذا قبل سنوات من الآن:                                                           ـ كيف يكون الدين يُسراً وفيه كل هذ المحرمات؟!!! كيف يكون يسراً وهو ينحض بكل هذا الحقد على الآخر؟! وكيف يكون يُسرا وما زالت تسيل من جوانبه الدماء؟!!!

وصرخت في البحر ليسمعني جيداً:

ـ قالوا أيها البحر أن التلفاز حرام، برامجه حرام وأفلامه ومسلسلاته حرام، وكادوا يحرمون حامله وبائعه وفاتحه، لكنهم كانوا من أوائل من اشتروه واقتنوه، عندما كنا نذهب للمقهى الوحيد الذي يضم تلفازاً، بجانب حائطه الداخلي في المخيم، لنتفرج على التلفاز، وكان حلماً بعيداً غير قابل للتحقيق أن تمتلك تلفازاً، كانوا هم يشترونه سراً بسهولة وأريحية،” لأن الله أعطاهم، ولم يُعط غيرهم، بغير حساب”، وبعد كل صراخهم بتحريمه، ها هم الآن وبعد مرور سنوات على ذلك التحريم، صار منهم أصحاب قنوات، ومنهم من يتنقل من قناة إلى أخرى في كل مساء، ومنهم مَنْ تراه في كل لحظة، وكأنه سكن الشاشة ولا يبتعد عنها، ورغم ذلك لم يقل لنا أحد منهم متى حللوا الأمر بعد أن كان محرماً كل هذا التحريم، ولماذا وكيف حللوه، فنحن لم نسمع بآيات نزلت بعد محمد.

لكن البحر لم يُجبني بكلمات، بل راودني إحساس بأنه حملني على بعض موجاته، ورماني الى شاطئه الرملي الحنون، وسرعان ما همس في أذني للذهاب الى منزل الحاجة “أم نور”.

ومشيت تحت أشعة الشمس بملابسي الغريقة بماء البحر  وهواجس رأسي، وكأن أحداً يقودني من يدي الى شارع فلسطين، في المخيم، والذي غيروا إسمه إلى شارع “أبو حذيفة”، ورأيتني أدق عليها الباب، ولما رأتني أقف ببابها أدخلتني، وقالت:

ـ أدخل، أدخل يابني، ماذا جرى لحالك؟ لماذا وجهك بهذا الإصفرار؟

وأمسكتني من ذراعي لتساعدني في الدخول، ولما ابتلت أصابعها بملابسي، أضافت:

ـ وما بك مبتلاً بهذا الشكل وكأن البحر قد قذفك إليّ؟

ودخلت، وجلسنا على كرسيين من القش في “حوش” بيتها الصغير.

والحاجة “أم نور” لمن لا يعرفها، علم من أعلام مخيمنا، وهي لم تحج يوماً رغم إصرار الجميع على إلصاق لقب “الحاجة” بها، ورغم رغبتها في ذلك، لها موقف من “آل سعود” لا تُساوم عليه أو بشأنه أبدا، أقسمت ألّا تحج إلا بعد سقوط آل سعود، والتي تُحملهم جزءً كبيراً من المسؤولية عما حصل مع أولادها، التي قدمت منهم إثنين من الشهداء، وثلاثة من المعتقلين، أحدهم خمسة مؤبدات وعشرين سنة، خاصة بعد ما رأت ما يقدمونه ولا يزالون لتدمير سوريا والعراق من أسلحةكما تقول، ولم يقدموا ولو بندقية واحدة لثورة فلسطين.

وبقيت، أم نور”، ومنذ إعتقال ابنها الأخير، وحيدة في بيتها الصغير في المخيم، ولطالما ذهبت لأفرغ في قلبها أوجاعي، وأبكي أحياناً، بين يديها اللتين كانتا بدفئ يديّ إله، فكانت تحتضن رأسي وتضعه في حِجْرِها، وتأخذ تُمسّد شعر رأسي حتى أغفو، تماماً كما ظلت تفعل المرحومة أمي حتى وفاتها، وكانت تبقى جالسة في مكانها لا تتحرك، حريصة على ألّا تُغير حركة أنفاسها، أو شكل قعدتها، أو حتى حركة يديها كي لا تقلق منامي أو تتسبب في إيذائه وصحوته، قبل أن تتم دائرة ارتياح جسدي المنهك.

وحتى قبل إعتقال آخر إثنين من أبنائها ، كانت تتردد على زيارتي في سجن النقب، عندما اعتقلوني إدارياً “دون أن أعرف لذلك سبباً”، كوني يتيم الوالدين ودون زوجة أو أخوة أو أطفال، “فأختي الوحيدة كانت قد غادرت خلف النهر بعد زواجها، وظلت هناك مع زوجها وأطفالها، لا تمتلك حق العودة معهم، ولا حتى مثل أي غريب أتى وسكن بيوتنا”. وكنت أنا “المقطوع من شجرة” أشكو لها، هناك أيضاً، تماماً كما للبحر، همومي.

هناك في السجن، حتى هناك، شكوت لها حالي، شكوت زملائي المساجين الذين ضحكوا مني كما لم يضحكوا من قبل، حيث أحضر أهالي زميلنا “حنّا ” في زيارته الأخيرة، مجموعة من الأغراض، بعد أن أعلمهم الصليب الأحمر أن إبنهم قد تم تحويله من التحقيق الى الإعتقال الإداري، فأحضروا له الملابس الداخلية وبضع بناطيل وقمصان ثلاثة، كما أحضروا له حذاءً مفتوحاً من الخلف، وداخله بعض الفرو يُسمونه “مانطفلي”، وهو ببساطة حذاء بيتي “بابوج” شتوي، لكن مثلي من أين له أن يعلم ذلك؟ أقصد أنني لم أسمع يوماً هذا الإسم في مخيمنا كله، وعندما بدأ يفرد على برشه كيس ملابسه، سأله أحدهم:

ـ أه يا حنّا، ماذا أحضر لك الأهل؟

ورد هو بكل بساطة:

ـ ملابس داخلية، بنطالين، ثلاثة قمصان، و…. مانطفلي

ولا اخفيك أنني لم أظن أن الإسم الأخير إلا نوع من أنواع الحلويات، فصحت من آخر الخيمة قائلاً:

ـ لا تنسى أن تطعمنا منه، إياك أن تأكله وحدك…

وارتفعت الضحكات دفعة واحدة في الخيمة من كل الذين كانوا يعرفون معنى الكلمة، ومن كان لا يعرف إلتزم الصمت أو سأل من باب أنه “لم يسمع” وليس “لم يفهم”، وصار بعضهم يناديني، على مدار أسابيع حيث كدت أن أفقد إسمي، ب”طعمينا منه”. حتى الحاجة “أم نور” لم تفهم معنى الكلمة، لما حدثتها، دون شرح، ثم اتسعت ضحكتها وكادت أن تكبر وتتحول إلى ضحكة مجلجلة، لولا حرصها من جرح مشاعري عندما عرفت معنى الكلمة تلك.

مياه البحر لم تجف عن جسدي بعد، وأمام سؤالها الوحيد المتكرر، قبل أن تأتي بإبريق الشاي، ماذا بك؟ قلت:

ـ أنت تعرفينني ياحاجة “أم نور”، إنني رجل مؤمن والحمدلله، لكني ومنذ فترة أكاد أختنق، تطاردني كلمات المرحوم والدي الأمي بأن “الدين يُسر وليس عسراً”، وكلمات الشيوخ في المسجد حيث أصلي، تمد أخطبوط أيديها ملتفة حول عنقي، وتهزه بقوة صارخة داخل دهاليز جمجمتي:

ـ التدخين مكروه ويصل درجة التحريم، ومن دخّن جاء يوم القيامة ورائحة التبغ تفيض مدرارة من جلده، فيبدأ أهل الجنة بالسعال، وما يناله سوى الخزي والعار.  أدخل الحمّام بقدمك اليمين، وكأن القدم الشمال ليست من صنع الله ولا خلقه، وكدت مع كثرة تردادهم للأمر أن أقطعها وأرميها حتى لا أُخطئ وأدخل بها قبل اليمين. لا تبتلع ريقك في شهر رمضان فتفطر ويتحول صيامك، والعياذ بالله، إلى جوع كلاب، لا تقرأ في المرحاض فحروف الكلمات من كلمات القرآن، أطلق العنان للحيتك وقص شاربيك، إلبس كما لبس السلف الصالح، وليكن طول ثوبك ماتحت الركبة وفوق الرسغ، وكأن الدين زياً والإيمان يحدده عدد شعرات اللحى!!!

ثم دعاء عذاب القبر،  وجب حفظه عن ظهر قلب، وكأن الله وحشاً يتربص بنا، فما ان نتوارى داخل التراب حتى ينقضّ علينا معذباً حارقاً. وأخذوا يخترعون لنا دعاء ما قبل كل صلاة ودعاء لكل ما بعدها، دعاء ما قبل الأكل ودعاء ما بعده. وماذا سأقول لك عن المرأة الناقصة عقل ودين، وعن المرأة الحاسرة الفاجرة وعن المرأة المتبرجة وعاصية زوجها أو أبيها أو أخيها أو حتى إبنها، وعن العورة في جسد المرأة، فوجهها عورة ويداها عورة وقدماها عورة وصوتها عورة وكامل جسدها عورة، وينتقلون للحديث عن ضرورة النقاب وشروطه، كون نظرة المرأة بعينيها الإثنتين حرام وبعين واحدة حرام بل الحلال نظرتها بنصف عينها الشمال!!!، وإلّا لن تخرج من نار جهنم أبداً، كيف يمكن ذلك فأنا لا أستطيع ، بسبب قصور عقلي، أن أتخيل الأمر، ثم يتبجحون بإحترام “مفهومهم الديني هذا” لإنسانية المرأة!!! والغريب، وأكاد أجزم، أنهم وهم يتحدثون عن المرأة يسيل لعابهم وتُضاء وجوههم، وتراهم وهم يسرحون بخيالهم ويُحلِّقون، ويعلم الله بماذا يفكرون. أيمكن أن يكون ديننا بهذه السطحية والشكلانية التي يقولون؟!!!

كما أن أحد الشيوخ نبّهنا وحذّرنا من التبول في الجحور، لأنها مساكن الجن!!! وكأننا نبحث عن الجحور ليلاً ونهاراً لنبول بها، أو كأننا لا نعرف التبول إن لم نجد الجحور!!!، أو كأن الدنيا ضاقت بالجن فلم يجدوا مسكناً غير الجحور!!!، وفوق هذا كل كيف ستكون هناك جحور في منطقة ساحلية رملية ضيقة؟!!! لا أعرف كيف إشتغل عقلي وطرح كل هذه التساؤلات، لكن سؤالي الكبير هو، لماذا يسكن الجن الجحور ماداموا قادرين على سكن أجمل الشقق السكنية أو الفلل دون أن نراهم أو نحس بهم؟!!! كما أنه صار في كل بيت مرحاض لنبول به، ولم يعد الناس كما كانوا بالأمس، فلماذا يعيش شيوخنا في الماضي وهم أبناء اليوم؟!!!

الآن صاروا يُركزون على طاعة أولي الأمر وعدم الخروج عليه، وعندما سألت الشيخ لماذا يؤيدون الخروج على ولي الأمر في سوريا، أخرجني من الدرس الديني صارخاً، واصفني بالزنديق. وأنت تعرفينني منذ زمن، وتعرفين مدى بساطتي وسذاجة عقلي، حتى انني عندما أجد قطعة خبز في الطريق أنحني وأرفعها وأقبلها ثلاثاُ وأضعها فوق جبيني ثم أضعها في حذاء حائط كي لا تدوسها أقدام المارة، وأنا كما تعلمين لم أكن زنديقاً يوماً، رغم أنني لا أعرف معنى الكلمة، لكني أشم رائحة التهمة والشتيمة فيها، كما أنني سألت سؤالي من باب المعرفة وليس شيئاً آخر، فأنا دائما وبعد كل صلاة أدعو للملوك والأمراء والرؤساء بالنصر وطول العمر… فقالت بإبتسامة كاملة:

ـ هل شمل الدعاء “آل سعود”؟

فقلت:

ـ لم أحدد أو أسمي أحداً، لكني أظن أن الدعاء يشملهم أيضاً.

قالت:

ـ لقد كفرت، وعليك التكفير عن ذنبك هذا بإطعام مسكين أو صوم ثلاث.                                                    قلت:

ـ إطعام مسكين؟!!! ومن أين لي أن أطعم مسكيناً؟ وهل هناك من هو مسكيناً أكثر مني؟ أما الصوم ثلاثاً فالأمر علي سهلاً، فأنا مثل الكثيرين آكل وجبة واحدة في اليوم، سأحولها إلى العشاء وينتهي الأمر.

ضحكت الحاجة “أم نور”، إقتربت مني، قالت:

ـ لقد مزحت فقط يابني، فالدين تماماً كما وصفه أبوك، يسر وليس عسرا، وهو شأن خاص تماماً، خصوصيته أكبر من أن تتصورها، هي علاقة بينك وبين ربك فقط، دون وسيط أو وكيل، دون “سمسرة” من أحد حتى لو كان شيخاً، ولا يحق لأحد، أي كان، التدخل به مهما أدّعى وزعم، وهؤلاء الذين تتحدث عنهم ليسوا سوى مجرد منتفعين من الدين ومتاجرين به، لماذا لم تسأله كيف يعيش وأسرته بهذا الرغد وهو لا يُفارق المسجد؟ لماذا لا يشتغل ومن أين له المال؟ ولماذا المال لهم دون غيرهم؟ وما هو مصدره؟ ولماذا امتهن الدين مهنة؟ وهل هناك مهنة إسمها “الشيخ”؟

ـ يقولون أن للفقراء الجنة.

قلت حين ناولتني كاسة الشاي في يدي، فقالت:

ـ لماذا لا يدخلون صفوف الفقراء ما دام الأمر كذلك؟ نعم ربما للفقراء الجنة، لكن على الفقراء خلق جنتهم على الأرض أيضاً، تلك الجنة، في السماء، يحددها الله، أما هذه، وأشارت بيدها فوق رأسي، فيحددها عمل الفقراء ومن معهم، وما دام اعطانا الله الحق في الحياة، فعلينا أن نجعل من حياتنا حياة عز وكرامة وحياة بشر، وليس غابة، يعني أن “نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا”، ومن لم يعمل ويقبل أن يظل هامشياً، ربما سيحاسبه الله أو يؤنبه ويوبخه، فالله يحب أن يرى آثار كرامته ونعمته على عبيده، وهذه تكون بالعمل الصادق الدؤوب، وليس بالجلوس وإعطاء الدروس، بإسم الله وكأنهم ورثتة على الأرض.

سكتت قليلاً، ارتشفت ما تبقى في كاسة شايها، وأكملت:

ـ وما أدرى مثل هؤلاء بالفقر والفقراء؟ربما يعتقدون أن الفقر علامة فارقة تظهر، مع الجوع، فوق الجسد، فتكشف أمره، الأمر كما تعرف يابني ليس كذلك، إنه علامات حرمان الزمن فوق الجسد، صلابة السواعد وتشقق الأقدام، ضعف الدم والهزال واصفرار الوجه وازرقاق الشفاه، إنه الفشل الكلوي وموت بريق العينين، إنه، ببساطة، الموت في جسد ما زال يمشي على الأرض رغم أنفه، أو بإرادة هائلة تهد الجبال…. وفي معظم حالاته هو مكمن التمرد والثورات…

ظلت كلماتها، كحبات مطر ثقيلة قاسية، تتساقط في أذني، والحاجة “أم نور” تتابع إلقاء كلماتها بنفس السياق، هادئة، كمجرى المياه في جدول هادئ:

ـ تجار الدين هؤلاء يابني تماماً مثل تجار السياسة، يبيعونك وهماً أو وعدأ كاذباً، أو شيئاً ليس لهم، لم يصنعوه أو يشاركوا في صنعه، الجنة، كما تجار السياسة لدينا، يبيعونك شعارات سياسية، لوطن تخلوا عنه، وما زالوا يقبضون ثمن هذا التخلي، وأمثالنا يدفعون ثمن تخليهم هذا أيضاً، وكلاهما يبيعوننا الأكاذيب ويفرضون علينا “بالقانون” تكميم الأفواه، وصرنا نحن، وليسوا هم، الخارجون على القانون.

سكتت الحاجة “أم نور”، قليلاً، قامت الى الشباك الفاصل بين حوش بيتها وغرفة النوم الوحيدة، تناولت سيجارة وكبريتاً كانتا على حافة الشباك العاري من أي زجاج، أشعلت السيجارة ونفخت ما أدخلته بفمها من دخان أزرق في سماء الحوش، ودائما ما كنت أتساءل، كرجل لم يجرب التدخين يوماً، مادام المدخنون ينفثون الدخان خارج صدورهم فلماذا يدخلونه هناك من الأساس أصلاً؟ ولم أتوصل الى أي نتيجة أو جواب، وأكملت حديثها وكأنها واثقة بأن أحداً لن يقاطعها:

ـ وكما ترى بفضل آل سعود وفضل تجارنا، وبعد أن كنا حركة تحرر وطني عربية، وتقود ثورتنا حركات التحرر في العالم، انقسمنا على أنفسنا، و تنازلوا عن دماء شهدائنا وآهات ثكلانا، وصرنا شيعة وسنة، شافعيين وزيديين، مسلمين ومسيحيين، عرب وأكراد، وثالثة الأثافي صرنا طلاب سلم وتنازل وتسامح مع قتلة أبنائنا، ألا يثير الأمر الإشمئزاز فيك أيضاً؟ صار أبطال المقاومة في جنوب لبنان إرهابييين، ومغتصبوا البلاد والعباد طلاب سلم!!! هزلت ورب الكعبة يابني….

فقلت كمن سكت دهراً ونطق كفراً، من غير ما أقصد إثارتها:

ـ لقد أصبحوا، رغم ذلك، في قمة قوتهم، خاصة بعد أن تخلى عنا “آل سعود”، وظلت أمريكا في ظهورهم، هل نستطيع نحن مواجهتهم …؟

ـ أسكت! لا تكمل حرفاً أكثر مما قلت…

وسحبت نفساً من سيجارتها إلى أعماق صدرها تبعته بسعلات عدة كادت أن تُخرج رئتيها خارج جسدها، وأكملت متابعة كلماتها التي سالت كرصاص منصهر في أذني ولم تخرج منذ ذلك الحين أبداً:

ـ ومنذ متى كان آل سعود مع ثورتنا؟ كل الموضوع أنهم كانوا يتآمرون في الخفاء وصاروا يتآمرون في العلن، وأمريكا كانت وما زالت في ظهرهم، وستظل كذلك حتى تصبح كلفتهم أعلى من أن يتحملها الأمريكان، أما هم فأقوياء فعلاً، خاصة بعد أن وظفوا تجار الدين و”قطيعهم الجاهل” لتدمير الأوطان بمال آل سعود وسلاح الغرب  لصالح أمريكا ودولتها اللقيطة، لكن ألم تتعلم بعد أن “ربك عندما يريد الإسراع في قتل نملة يخلق لها جناحين”؟!!!   وسكتت وكأنها تريد التأكد من رسوخ كلماتها في رأسي، وأكملت:

ـ ما دامت البوصلة في اتجاهها الصحيح، فلسطين، لن نضل أبداً …

وتذكرت كلمات المرحوم والدي الأمي، الذي لم يكتب غير البصمة بإبهامه، والذي لم يكن سوى نسخة ذكرية عن الحاجة “أم نور”، وتخيلته يعيد كلماتها تماماً كما سمعتها الآن، وظلت مسكوبة في أذني كرصاص مصهور، وهو يشير بسبابته إلى إتجاه البوصلة.

لا أدري ياعزيزي، كلما جلست مع هذه المرأة أو أمثالها من مخيمنا، كلما رأيت نفسي “رجلاً يفهم وليس على باب الله”، وكلما رأيت البحر مختلفاً عمّا يعتقده الناس، يتسع صدره لأمثالي، يستمع لهمومهم وشجونهم بصبر وأناة وحنان، ولا يكشف لهم سراً… سأتركك الآن وأذهب لأرتمي من جديد في أحضانه، وأخبره بما قالته الحاجة “أم نور”،  ليطمئن …..

محمد النجار