ساقتني قدماي إلى بيت الشيخ “أبو محمد الأعور”، كي يُفسر لي حلماً يتابعني ويلاحقني منذ زمن، ولست قادراً على التخلص منه، والأعور لقب له كما وصِفة أيضاً، فالله الذي خلق الإنسان وكبره، خلق فيه بعض الصفات الحسنة أو القبيحة، أو كلاهما معاً، لذلك حق القول أن “لله في خلقه شئون”، لكن كيف فقد الشيخ أبا محمد عينه؟ أو كيف فُقئت؟ فهذا شأن آخر، وهناك قصص وأقاويل وحكايات نُسجت في هذا الموضوع، لكن هناك إجماع على حكايتين اثنتين مختلفتين في هذا الأمر، سأوردهما كما سمعتهما دون زيادة أو نقصان، ليس لأن الأمر يهمني، فلا فقؤ عينه يهمني ولا حتى جدع أنفه، لكن من باب الإنصاف وقول كلمة الحق ليس إلّا.
يؤكد البعض أن للشيخ قصص وحكايات وصولات وجولات في تفاسير الأحلام، كما وفي الربط والحل للرجال أثناء الزواج وقبله وبعده، وفي حالات التوفيق بين الأزواج أو طلاقهما، كما وفي كتابة “الحِجابات”، كما له صلة بعالم الجن الذي يوظفه الرجل في حل قضاياه المستعصية، ويؤكد بعض الرواة أن فقْأ عين الشيخ تم على يد أحد زبائنه، الذي قصده في مشكلة ما، وأن الرجل أعطى الشيخ كل ما طلب، لكن مشكلته لم تُحل أبداً، وفي كل مرة تزيد مطالب الشيخ كانت تتعقد مشكلة الرجل، حتى جاء يوم وقرر الرجل فيه أن يستخدم عقله، وبعد دراسة للأمر وتمحيص وتدقيق، وحسابات لِما خرج من جيبه لجيب الشيخ أبي محمد، الذي لم يكن أعوراً بعد، أدرك الرجل أن أبا محمد قد إستغله أبشع إستغلال، بل رأى أنه كان أبلها أو مضحوك عليه في أحسن التعابير وأكثرها نعومة، وفي الوصف الحقيقي للموقف رأى الرجل في نفسه حماراً، نعم حمار بأذنين واقفتين وذيل طويل، وأنه دفع مالاً مقابل كلمات لا أكثر ولا أقل، وفوق ذلك فهي كلمات فارغة كاذبة، فطالب الرجل بماله، وقال والشرر يخرج من بين أسنانه:
ـ لقد إتفقنا على أن أعطيك مالاً مقابل حل مشكلتي، فأخذت المال وبقيت مشكلتي دون حل، لذا أعطني ما دفعته من مال وأسامحك بتضييع وقتي والضحك على لحيتي طوال هذه الأشهر…
لكن أبو محمد الذي مازال غير أعور حتى هذ اللحظات، رفض بشدة، ويؤكد الرواة أنه “مثل المقبرة” لا يرد شيئاً، فرفض رد المال، وعجز بكل مالديه من “جن” أن يحل المشكلة، وفي نفس الوقت استفز الرجل أكثر وقال له:
ـ إذا كان رب العباد خلقك حماراً، ورد لك بعض عقلك الآن، أتريد أن يكون رد عقلك على حسابي أنا؟!!! خسئت…
والرجل الذي كان ينفث ناراً من شدة غضبه، دون أن يكون بحاجة لهذه الكلمات وهذا التعليق، ثار الدم في عروقة، ارتفع نبض قلبه وعلى ضغط دمه، اشرأب عنقه،ولم تعد شفتاه قادرة على النطق، ولمّا أراد الكلام رأى نفسه يقف على أبواب النهيق، وكاد يتأكد أن بينه وبين التحول لحمار مسافة كلمة واحدة يخرجها من فمه، وأن كل الكلمات ستتحول إلى نهيق لا ينقطع، فازداد غضبه ثورة، ورأى نفسه قافزاً، وكأن شيئاً يدفعه، إلى عنق الشيخ أبي محمد الأعور، ورأى نفسه يضغط على عنقه بكل قوته، وقبل أن تفارقه روحه وتتجه لخالقها، لمّا لم يبقَ بينه وبين العالم الآخر سوى شهقة شهيق واحدة فقط، تركه وتوجه لمرجل النار الذي يتوسط عادة بينه وبين زبائنه، وقلبه فوق رأسه، وبإصبعه فقأ عينه وخرج والدم يقطر من يده، ومن يومها صار أبو محمد أعوراً إسماً وصفة، لكنني وبصراحة لم أصدق هذه القصة حتى قبل أن أرى الشيخ وأتعرف عليه، وقدرت أن هذا القول ليس إلّا من باب الحقد والحسد.
أما القصة الثانية حول عينه المفقوءة، فنقلها الرواة كالتالي:
قالوا أن أبا محمد الأعور والذي لم يكن أعور حتى تلك اللحظات، رجل بخيل جشع، وأنه قد استطاع شراء ثمار بعض أشحار الزيتون، في ذلك الموسم، من بعض الفلاحين المحتاجين، فبحكم مهنته لم ينقصه المال يوماً، رغم أنه لا يعرف شيئاً عن شجر الزيتون ومواصفاته، وقالوا أنه عندما جاء موسم “جدّ” الزيتون، قرر أبو محمد أن “يجدّ” الزيتون بيديه كي لا يدفع للآخرين مقابل عملهم، غير مدرك أن للزيتون موسمه المحدد والمحدود، لا تستطيع تجاوزه أو تأجيله ولا القفز فوقه، وأنه عندما كان “يجد” شجرة زيتون، كان يسحب الحبات ويسحب معها أوراق الشجر، وشجرات الزيتون مثل نساء قلعتنا، لا يقبلن أن يُعريهن غريب، ويرفضن أن يقفن على رؤوس الجبال عاريات كما خلقهن الله، لتتلصص عليها كل عيون المارة، كما أنهن ولأسباب تخصهن ترفضن التنازل عن وريقاتهن، ويتشبثن بهن ويحملهن ويضمهن بين أغصانهن محاولات حمايتهن من حر الصيف وبرد الشتاء، لذا زاد حقدهن على أبي محمد الأعور، بعد تماديه في استباحة أجسادهن، كما أنهن ولسبب ما زال مجهولاً، يحتفظن بحبة زيتون واحدة أو بضع حبات لأنفسهن حتى الموسم القادم، وإن رأينك مصراً على تجريدهن من كل ثمارهن بما في ذلك حبتهه الأخيرة تلك أو حبيباتهن القليلات، فإنهن يحاولن إخفاءها عنك، وإن أصريت، رمينك عن سلمتك التي تركبها وأوقعنك أرضاً، وفي أحيان كثيرة ينفضن جسدك من فوق أغصانهن حتى لو أدى ذلك لكسر يدك، وكان الشيخ أبو محمد الذي لم يكن أعوراً بعد، كما أخبرتكم مراراً، مصراً على تجريد شجرات الزيتون من حبيباتهن تلك كما جردها من وريقاتهن وتركهن عاريات على مساحات الحقول، فحذرته الأشجار بطرقهن المختلفة والمتعددة، لكنه وكما هو الآن، لم يكن يعرف لغة أشجار الزيتون، ولم يتعلمها أبداً، كان مصراً على أخذ ما ليس له، ولما استُنفذ صبر شجرات الزيتون، قررن تعليمه درساً على كل ما فعله بهن، وتركوا الأمر لزعيمتهن، تلك الشجرة الرومية التي بشرت مهللة راقصة بقدوم المسيح، قبل ما يزيد عن ألفين من السنين، تلك الشجرة التي كان يستفيء بظلها يوحنا المعمدان ويحرض الشعب لإتباع “المعلم”، والتي كان جذعها يتسع لعائلة كاملة لتحميها عندما كان القصف يشتد على أهالي القرية من الغرباء، بعد ذلك بألف جيل. . ويؤكد الرواة أن أشجار الزيتون رغم صبرها إلّا أنها لم تكن يوماً جبانة، وهي التي تعطيك زيتها النازف بالحسنى، بعد أن تكون قد جمعته من دماء الأرض، ترفض أن تبتزها حتى بحبة زيتون واحدة، مهما كانت النتيجة، حتى لو قطعتها قطعاً وأطعمتها النار، أو أقتلعتها من جذورها، وأمام جشعه وإصراره المقيت، لم تجد الزيتونة الرومية بُداً أمامها من محاسبته، واتخذت قرارها بإقتلاع إحدى عينيه، نعم إقتلاع عين واحدة بأحد أغصانها، وهكذا فعلت، مدت غصنها إلى قاع عينه وسحبتها، فصار منذ ذلك الوقت الشيخ أبو محمد الأعور أعوراً بحق، وصار درساً لمن يحاول إغتصاب الأشجار، وزيتونها على وجه خاص.
وهناك الكثير من الروايات التي لم تستطع أن تستقر في رأسي الكبير الذي أمامكم، لأنني لم أصدق أي منها، وما دام أعطاني الله رأساً بهذا الحجم وهذا الكبر، فسيحاسبني ربي إذا لم أستخدمه، أقول لكم ذلك من باب سرد الحقيقة فقط، لأنني لا أجزم بصحة أي قصة من القصص التي ذكرتها لكم بنفسي، وكي لا تذهب بكم ظنونكم بعيداً، عن هذا الشيخ الذي طالما إعتبرته عالماً جليلاً، لا يكف عن ذكر الله “بكرة وأصيلا”،الأمر الذي لا يرضى الله ولا رسوله ولا المؤمنون، وفي نهاية الأمر شتان بين عمى البصر وعمى البصيرة كما قال والدي، رحمه الله، دوماً، رغم أنه لطالما أرفق كلماته الناصحة أو الشارحة لي بكلمة “يادابة”، كوني لم أكن أستمع لنصائحه دائماً، وإن استمعت فبالشكل الذي أعرفه أنا وليس بالطريقة التي يريدها هو، ولو كان اليوم موجوداً لقال من جديد: “أإلى هذا الحضيض وصلت أيها “الدابة”، أهذا ما اهتديت إليه لا هداك الله، إلى البصارين والعرافين؟” ولرفع يديه للسماء مكملاً، ومعاتباً ربه: “يارب منك وعليك العوض، أهذا مَنْ رزقتني به ليورثني؟ كان الأفضل أن أظل بدونه، أو أن تجعل أمه عاقراً… اللهم لا إعتراض”، ثم لكان إلتفت إليّ وقال: “تحمل رأساً كرأس البغل وجثةً كجثته، لكن طفلاً صغيراً بإمكانه جرك أيها “الدابة”، وكي لا تضيعوا معي في هذه المتاهة الطويلة، عليكم التركيز على ما دفعني للذهاب إلى بيت الرجل، لذلك فلنترك أبي يرتاح في قبره، والسبب الذي أدّى إلى فقدان الرجل عينه، ولأقص عليكم ما الذي أوصلني لبيت الشيخ أبو محمد الأعور.
أبو محمد الأعور هذا، كما علمت لاحقا، كان يُركز على إسمه الأخير بشكل دائم، كون الناس صارت لا تعرفه إلا بصفته تلك التي أكدت إسمه، فصار إسماً على مسمى، لذلك ما أن تقول الأعور لوحدها، حتى يعرفه الناس فوراً، حتى دون أن تذكر لقبه الأول “أبو محمد”، وإن كنت حذفته عامداً متعمداٌ، يقول الرجل أنه يعرف مدى سوء الإسم وقبحه، لكن من باب التواضع لله، فإنه يصر عليه كي لا تأخذه نفسه وتغرقه في بحور الكبرياء، ويبتعد عن قول الله “إن الله لا يحب كل مختال فخور”، بل يريد نفساً متواضعة خاشعة بعيدة عن التكبر، خاصة بسبب علاقته النافذة عند “معشر الجن”، حيث لا يُرفض له طلب ولا يُرد، بل يتقافز الجن على أصابع يديه كلاعبي السيرك، بعد أن يتقزموا ليتسع لهم المكان، ويُحضرون له ما أراد ويجلبون له كل ما يطلب، لذلك ظل يؤكد على اسمه مع أي كان وفي أي وقت كان. لكن البعض الآخر يُكذّب الشيخ وينفي أقواله، ويعتبره رجلاً أفّاقاً كذوباً منافقاً، ويؤكدون أن كل ما يقوله ما هو إلا كذبا وتزويراً، وأنه ليس إلا مُدّعيا، وعلاقته بالجن ليست سوى من باب الضحك على “الذقون”، وتركيزه على الإسم من باب الدعاية وليس من أي باب آخر، ف”كأبي محمد” يوجد الألوف، لكن كم أعور ستجد في البلاد جميعها من حالات؟ فما بالك كإسم وصفة، وكي يُكذب كل ما يتم تداوله من قصص وحكايات وحتى نكت تم نسجها حول عينه تلك، وكي لا تغرقوا معي في تفاصيل لا لزوم لها، ركزوا معي على أصل القصة التي أوصلتني لهذا الشيخ، كوني أعتقد أنكم، مثلي، تُريدون “العنب” وليس مقاتلة الناطور.
ما أن طرقت باب الرجل حتى فتح لي الباب شاب دخل مرحلة الشباب منذ بضعة شهور فقط، هذا ما بدى لي، وأنه بالكاد وضع قدمه على سلمة الشباب، خارجاً لتوه من طفولة طويلة أرهقته وأتعبت جسده اليافع، لم يقل شيئاً عدا رد التحية، وكأنه مصاب بداء “القرف” من كل ما يجري، وأنه مع تكرار الأمر مرات في اليوم الواحد، لم يعد يحتمل الأمر أكثر، أعطاني ظهره وقال:
ـ تفضل…اتبعني…
لم يسألني مَنْ أنا ولا ماذا أريد، كأنه لا يأتي بيتهم أحد إلا لهذا الأمر الذي جئت أنا أيضاً من أجله، واقتادني إلى غرفة الصالون، حيث هناك رجل واحد ينتظر دوره، والذي بادرني بالسؤال عن إسمي ولقبي وبعض المعلومات عن عائلتي ، وعن سبب مجيئي، ولما أخبرته أنني قادم من أجل تفسير حلم يلاحقني منذ أسابيع، كان قد جاء دوره ودخل، وبعد دقائق جاء آخر ليطلب مبلغاً من أجل “الجن” التي تعمل مع الشيخ أبو محمد الأعور، فهؤلاء “الجن” لا يعملون ب”السُخرة”، والشيخ الذي يفعل ما يفعل، يفعله فقط “لوجه الله”، لا يريد جزاء ولا شكوراً، وهو لا يستطيع أن يغطي مصاريف “الجن” من جيبه الخاص، وطالبني بأن أحضر معي في المرة القادمة خروفاً لا يتجاوز عمره الستة أسابيع، برأس أسود وجسد أبيض، وإن تعذر فبرأس أبيض وجسد أسود، وإن تعذر فليكن خروفاً أسوداً، وإن تعذر فليكن أبيضاً، وإن تعذر فأي خروف وبأي شكل أو عمر أو لون، إضافة لدجاجتين بلديتين مع “ديك” بريش طويل مُلوّن، لأن بعض الجن التي لا تأكل لحم الخروف، تحب لحم الدجاج البلدي والعكس صحيح، لكن “إياك أن تأتي بدجاخ المزارع”، فالجن لا تأكل دجاج المزارع أبداً.
قال مبغضي الشيخ معلقين، أن الرجل الذي كان أمامي، هو أحد العاملين مع الشيخ وليس زبوناً آخراً، وإلا لما سألك عن أصلك وفصلك وسبب مجيئك، وعلق بعضهم قائلاً إنه “عصفور” الشيخ، يعمل كما يعمل “العصافير” في الزنازين لصالح المحتل، وضحكوا كثيراً، وأكمل المتحدث قائلاً، أنه يجالس القادمين ليأخذ منهم بعض الأسرار والمعلومات، ليعطيها لشيخه الذي يستخدمها بدوره وكأنه يعرفها، ليخدع بها الناس…”الطيبين” أمثالك، وأمام تردده في ذكر كلمة الطيبين، تخيلت المرحوم أبي يقولها بفم ملآن ودون تردد، “أمام الدواب من أمثالك”، لكنني أيضاً لا أظن ذلك، لا أصدق ما يقولون، وأعتقد أن ذلك من باب الحقد والحسد على الشيخ أبو محمد الأعور…
أدخلوني غرفة شبه مظلمة في وسط النهار، كانت شبابيكها قد صُغِّرت عمداً، وغُطي ما تبقى منها ببرادٍ ثقيلة لتمنع الشمس من التسلل والدخول، وكما علمت فأبو محمد الأعور فعل ذلك بنفسه، كون الجن لا بحب النور، بل يعشق الظلمة ويفضلها، فكان لزاما عليه توفير الحد الأدنى من رغائبهم، وأبو محمد الأعور الذي تآخى معهم وعاهدهم وعاهدوه، فقد تآخى فقط مع المسلمين منهم، وابتعد عن يهودييهم والنصارى، وشن حروباً طويلة عليهم جميعاً، في معركة “الشرشحة والمرمرة”، حيث شرشحهم ومرمرههم كما كان يؤكد متحدثاً، وفي معركة “التحليق والتمزيق والتعليق”، حيث حلقت معه الطير الأبابيل وبسواعده مزق أجسادهم وعلق رؤوسهم على الأعمدة والأشجار، وضرب بيد من حديد ملحديهم بشكل خاص، وهزمهم شر هزيمة، وفي تلك المعركة يؤكد أنه فقد عينه، حيث جاءه سهم طائش من “جني” مسلم عن غير قصد، وعلق أحد مستمعيّ قائلاً: “آه… تقصد أنه من نار صديقة…” وضحكوا طويلاً هذه المرة أيضاً، حين علق آخر مستذكراً أسماء المعارك التي ذكرت أمامهم أنه خاضها، لكنني تجاهلتهم وأكملت وقلت بأنه لهذا السبب يصر على التمسك بإسمه وصفته، كونه فخوراً بما أصابه من القوم الكافرين، وعينه المفقوءة هي علامة على جسده من علامات الجنة.
لكن كفرة الجن وملحديهم سرعان ما عادوا لتجميع أنفسهم، وشنوا حروباً ضد مسلمي الجن بقيادة أبو محمد الأعور نفسه، والحرب كما تعلمون سجال، مرة لك ومرة عليك، لكن الشيخ لن يتراجع إلا بعدأن ينصره الله عليهم ويفني بقدرته القوم الكافرين، فقد وهب الرجل نفسه لذلك “والله على ما يقول شهيد”، أتتخيلون “إنسياً” يقود جيوش مسلمي الجن ليحارب أعداء الله من كفار ومرتدين وزنادقة، ليًعلي كلمة الله في مجتمعات الجن وفي جحورهم؟!!!أتتخيلون ما له من فضل على المسلمين جميعاً من إنس وجن؟!!!.
كانوا ينظرون لبعضهم بعضاً أمام كلماتي، الأمر الذي يشعرني بكلمات أبي ويذكرني به، وكأنه راعهم غبائي أو “طيبتي”، لكن نظراتهم ظلت تطلق كلمات أبي نحو رأسي كرصاصات…يادابة… فضحتني يادابة… قف عن التبول والتبرز من فمك أيها الدابة، ألم تسمع يوماً أنه “إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”؟ ف”الحق ليس عليك، بل علينا نحن، لو لم نكن دواباً لما خلّفنا بغلاً مثلك!!!. لكن ماذا سأفعل وقد بدأت بالحديث عن سبب ذهابي إليه، فلا بد أن أتمم ما بدأت.
أقول ما أن دخلت حتى وجهني الرجل بكلمتين من لسانه لأن أجلس على كنبة مقابله، وقد كان جسده فقط في الغرفة، لكن روحه بالتاكيد لم تكن معنا، كان دخان البخور الثقيل يتطاير من وسط المرجل الذي صار بيننا، دخان كثيف ككثافة قنابل غاز الإحتلال لكن بطعم ورائحة مختلفتين، فتزداد كثافة العتمة في المكان، ويصير من الصعب التدقيق في أيما شيء، وسرعان ما تبدأ شرارات في التناثر من المرجل في المكان، ويأتي صوت الشيخ الآمر، “لا تتقافزوا أيها الجن كيلا تخيفوا ضيوفي”، وما هي إلا لحظات حتى يتوقف الجن الذي تمظهر لي على شكل شرارات بالإختفاء، وتعود النار الى طبيعتها وشكلها، ويكف الجن عن التقافز والألعاب، ويأتي صوت أبي محمد وكأنه من داخل الجدران وليس من فمه، آمراً الجن شارحاً لهم:
ـ هذا الرجل الذي أمامكم هو صالح أحمد الطيب…
قال دون أن أخبره بإسمي ودون أن يسألني، وأكمل:
ـ إنه إبن أبي صالح الطيب، الذي توفاه الله منذ مدة وجيزة، له زوجة واحدة، لا مثنى ولا ثلاث ولا رباع، لم يرزقه الله سوى بذكر وأنثى، وامرأته لم تحمل الحطب يوماً، لأنهم يمتلكون فرن غاز بجرته في البيت، وجاء ليوسطني عندكم لتفسير حلم يلاحقه منذ أسابيع، فاقعدوا وانصتوا له، علكم تفلحون في التفسير… حـــــــــــــــــي … أمامك سكة سفر…
وقبل حتى أن أبدي دهشتي بكلماته التي يبدوأنه يقولهن لكل زبائنة، قال أبو محمد الأعور مصححاً نفسه: ـ أقصد، أليست معلوماتي صحيحة؟
ولم ينتظر جواباً، بل تابع واثقاً من نفسه:
ـ لن يستطيع حتى الجن أنفسهم أن يعطوني معلومات خاطئة، قل يابني ما عندك… قل…ابدأ بشرح أحلامك، وليوفقنا الله في التفسير…
وابتدأت في سرد الحلم للشيخ الجليل ابو محمد الأعور، فقلت:
- * *
لقد حلمت سيدي الشيخ، بحلم أرجو أن يكون خيرأ…
ـ خيرُ إنشاء الله، اللهم إجعله خير…حــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
ـ حلمت أننا كنا نعيش في قلعة، يمتد أحد جوانبها مع البحر ويلازمه، وجانبها المقابل مع نهر طويل وبحيرات، وكلا الجانبين تتراص عليهما الأسوار العالية والقلاع والمدافع، وفي رأس القلعة كما تحت قدميها، تزداد الأسوار علواً ويتضاعف عدد الحراس، لأنهما لا تحظيان بحراسة مُضاعفة من البحر والنهر، كما يحظيا الجانبان الآخران، فالبحر والنهر حارسان ياشيخنا، لاتنام لهما عين ولا يغمض لهما جفن، وعلى امتداد الأسوار جميعاً كان يتزايد عدد المتطوعين لحماية القلعة يوما بعد يوم، وكان المتطوعون الجنود هؤلاء، يتسابقون في حماية القلعة، وفي مرات عديدة، كانوا يبادرون لمهاجمة الأعداء قبل أن تصل أقدامهم إلى أرض القلعة أو حتى القرب منها، وكان الجند يقومون بالتضحية بأنفسهم من أجل القلعة، فكلما أهدى أحدهم دمه إلى أسوار القلعة، أو شوارعها وطرقها وأزقتها، أي كلما سال دم أحدهم على أرضها، كلما سارع الآخرون ليثبّتوا أسماءهم بعده وعلى طريقه ذاتها، ليكونوا الأوائل في المواجهة والمجابهة، وفي بعض الأحيان كانوا يتلاسنون إذا ما اقترب مَنْ لم يكن له “دور” محاولاً التعدي على “دور” أحدهم أو أخذ مكانه. بإختصار فقد كانت القلعة والهبة لحمايتها والذود عنها هما مقياس الأخلاق والحب والتضحية والفداء، مقياس الشرف والمروءة والشهامة وإنكار الذات، فكان مَنْ أصابته إصابة يتباهى بها ويعلنها على الملأ، وكأنها علامة من علامات الجودة في مجتمع القلعة وبين أهلها، وكان من أراد خطبة حسناء ما من أهل القلعة، يتوجب عليه أن يقدم علامة حب للقلعة أولاً، لأن من لم يحب قلعته ولم يقدم لها براهين حبه، لن يستطيع أن يكون قادراً على حب غيرها من النساء، مهما كبر جمالها وعلا شأنها، لأنه وبكل بساطة لن تجد إمرأة أكثر جمالاً من القلعة، والغريب سيدي الشيخ أن النساء كن يعلمن بالأمر ويعرفنه، لكنه لم يشكل لهن إزعاجاً أبداً، وكأن الأمر طبيعي ومنطقي ومفهوم لدرجة تلتغي فيه المقارنة أو الغيرة أو الحسد أو حتى الثرثرة في الموضوع وتنتفي، وكي أكون صادقاً، إلا من بعض حثالات تافهات ثرثارات، كما بعض ضعاف النفوس من الذكور وليس الرحال، ممن لم يعرفوا القلعة ولم يشربوا من حليبها ومياهها، أو شربوا وخانوا ذلك الماء والحليب، وكما تعلم سيدي الشيخ، من يخن لا أصل له ولا ذمة ولا ضمير، فما بالك إن خان القلعة نفسها؟!!! أقول كان لا بد من تقديم هدية ما عند الرغبة بالزواج، وكلما كان جرح الجريح غائراً والنزيف أكبر كلما كان المتقدم للزواج طلباته مقبولة أكثر وأسرع، وتقام له الإحتفالات أياماً في شوارع القلعة وأزقتها وبيوتها وجوامعها وكنائسها، وتمتد الإحتفالات ليال وأيام، ويمتد الرقص والدبكة والميجنا في طول القلعة وعرضها، ويسرح ويمرح “ظريف الطول”، ويعود “مشعل” من غربته على صهوة جوادة، وترقص فاطمة وصبحة ووضحة وزينب وآمنة، وتمتلئ الشوارع بالأرز المنثور من أكف الصبايا على رؤوس الشباب، وتبدأ زفة العريس وسهرة العروس تسبقهما ليلة الحناء، وأنوار القلعة تضيء أعماق البحر ومياه النهر، وتتبادل التحايا والزيارات مع الجيران، فما بالك عندما يرتقي شهيداً من القلعة إلى السماء، فكانت تتوزع الحلوى في الطرقات وتنتشر زغاريد النسوة في فضاء مدن القرية على وقع أنغام أغاني الشباب والصبايا” ياأم الشهيد وزغردي كل الشباب أولادكي” وتتنافس الآيات القرآنية في تمجيد الشهيد ومكانه الذي لن يكون إلا بقرب الأنبياء والقديسين. ويكون عرساً “قلعاوياً” بجدارة واستحقاق، يستمر أياماً بلياليها دون كلل أو ملل، متحولة بيوت العزاء إلى زفة للشهيد رجلاً كان أم إمرأة.
وكان في القلعة، سيدي الشيخ، مدناً وأسواقاً وأريافاً تغص بالأشجار والخيرات والمحاصيل، والناس تتزاور وتتضامن وتتساهر، والخير يعم أرض القلعة من أقصاها لأقصاها، بحماية الناس أنفسهم والمتطوعين، كما كان في القلعة سجناً صغيراً للصوص، وهناك بعيداً في أعلى القلعة كانت قيادة القلعة، تحمل سلاحها وتنظر في كل الإتجاهات، تتابع هدير أمواج البحر، وما يختبئ فيه من أخطار الأعداء، تكاد لا تنام الليل خوف مداهمة أخطار تختبئ في ظلال الموج، وتعطي الأوامر للمتطوعين ليدافعوا عن القلعة عند هبوب العواصف والرياح.
وفجأة سيدي الشيخ، ودون سابق إنذار، وكما في الأحلام، تغيرت ملامح قلعتنا، ورأيت القلعة تضيق علينا وتتقلص، وصار الأعداء يحيطون بنا من داخلها، وتقلصت أعدادنا، وكأن الناس في معظمها قد هُجرت، وضاقت دنيانا علينا أكثر وأكثر، وأصبحنا في جزء قليل من أرضها بعد أن إمتلأت على حين غرة بالأعداء من كل حدب وصوب، فاختفت المزارع والمحاصيل مع إختفاء الأرض من القلعة، لكن حماة القلعة وقادتها ظلوا يدافعون عنها، وأوقفوا الأعداء مرات ومرات، لكن أسلحتهم صارت تختفي، نعم اختفت معظم أسلحتهم فجأة ودون سابق إنذار، فامتشق حماتها وأهلها الحجارة، وظلوا يدافعون عنها بشراسة أكثر، واعتبروا أنهم لم يُهزموا بعد، رغم خسارتنا لمعركة كبيرة، فخسارة معركة ليست بهزيمة، وذهبت وعود الأقارب بالدعم أدراج الرياح، واخذوا يعوضوننا بالمال بدل الرصاص، وكما تعلم سيدي الشيخ، فالمال لا يستطيع أن يكون بديلاً عن البنادق رغم قوته، وبقدرة قادر، صار المال يصل إلى قيادة القلعة أكثر وأكثر، ولا نعرف عبر أي طريق، رغم الحصار المفروض على القلعة من كل الجوانب والإتجاهات، ويقال أن للمال قوة يجهلها أمثالي، ويمكنها أن تذلل العقوبات وتخلق المعجزات، وهذا ما تم فعلاً، قصارت قيادات القلعة تتكرش وتتكلس ويأكلها الصدأ، وصارت البنادق التي بأيديهم تتحول إلى رُتَب ونياشين ونجوم وهمية فوق الكتف وفوق الصدر، ولما أخذت أدقق في وجوه هذه القيادات، رأيت أن لصوص السجن ومخصيي القلعة هم من أصبحوا قيادات اليوم، لكن لها نفس ملامح قياداتنا السابقة، وصاروا يحكمون بالرصاص والعصي، وباعوا كل ما استطاعوا باسم الله تارة وباسم الوطن تارة أخرى، وصرت أسمع تسحيجاً من حماة القلعة، وصار من يسحج أكثر يصير من المقربين أكثر للقيادات الجديدة، وصار يُرمى لهم المال ليسحجوا ويهتفوا بحياة القيادة أكثر وأكثر، وساد الظلام أرض القلعة، وانتشر الجهل كأحد أبرز ملامح المرحلة، وصار شيوخنا يا”مولانا” يلوون فم الدين ليُقوّلوه ما يريدون، ويجيّروه ليبرروا للصوص لصوصيتهم وللظَلَمة استعبادهم، ويلعنون ويُكفّرون ويُزندقون كل مخالف، فحاربوا أهل العلم والمعرفة، وطاردوا العقول، وأخرجوا المسلمين منهم من ملة الإسلام واستأصلوهم، كما تستأصل دملاً متقيحاً آذاك وآلمك في مكان معين من جسدك، واستمروا يُخرجون مَنْ أرادوا من ملة الإسلام والمسلمين، فأصبح التكفير والردة والخروج عن أولي الأمر صفة ملاصقة لكل من يعارض، وصار إطلاق اللحى وحفّ الشوارب من مقاييس الإسلام وصحته، والمسبحة والعمامة من أعمدته وثبوته، فصار الإسلام يتقزّم ويتقلص ويضعف، وسرعان ما ساد قانون التحريم، فحرّموا كل شيء، وصار التحريم هو السائد والحلال هو الشاذ، إلا لدى شيوخنا، سيدي الشيخ، وقيادات القلعة من لصوص ومخصيين، فكل شيء لهم حلال، وكل حرام عندهم مُباح، فصار شيوخنا يتصدرون صفوف “الهتيفة” و”السحيجة” في مدح الحاكم، وصارت بيوت الله مكاناً لمدائح الحكام والدعوات لهم، وصارت بيوت ربك أماكن للعبث والكذب والنفاق والعهر السياسي، فانتشرت قصائد الغزل مع صُور اللصوص كقيادة جديدة للقلعة، وحل سيف “يزيد” مكان عقل “الحسين”.
وفي زمن العتمة يزداد عدد اللصوص، لكن قيادة قلعتنا كانت تسرق في الظلام وفي النور، وصرنا نتحول تدريجياً إلى قطيع من الماعز، أو بالأصح إلى قطيع من البهائم “حاشاك الله”، وعلفونا وعلقوا لمن هتف وسحج “مخالي التبن”، ومن حاول الإعتراض منعوا عنه الأكل والماء، ولاحقوه وأهانوه وضيقوا عليه مصادر رزقه، وصارت أيادي اللصوص الذين صاروا قادة لنا تمتد لتصافح الأعداء، تُنسق معهم، وصاروا سوياً يلاحقون من رفض التخلي عن بندقيته، ثم لاحقوا من رفض التخلي عن مبادئه أو أفكاره، فلاحقوا وسجنوا وقمعوا وقتلوا بأيديهم وأيدي من كان بالأمس عدواً، وكما في الأحلام سيدي الشيخ، لا أعرف كيف، فإذا بحماة القلعة تتحول وجوههم من مراقبة الأعداء إلى مراقبتنا نحن في الداخل، وصارت بنادقهم تطلق على القلعة وشعبها، وتحول معظمهم إلى طُفيليات بشرية، لاهم لها سوى جمع المال و”مخالي التبن”، فاختفى “ظريف الطول” وصار “مشعل” ملاحقاً كما في عهد السلاطين من عهد بني عثمان، وصارت العتابا والميجنة “رجس من عمل الشيطان”، فحرموا الموسيقى وزندقوا ما تبقى من كُتَّاب، وكفروا الفلاسفة والمفكرين، وصار الدجل هو المسيطر، لا مؤاخذة سيدي الشيخ، وانتشرت عيادات العلاج بالقرآن على حساب عيادات الأطباء، والأحجبة بدل الأدوية وحرّموا القراءة والكتابة والتفكير، وأشاعوا النقل والمنقول، فحولوا الدين إلى عرض أزياء، فرضوا فيه زي الجاهلية وأوائل الإسلام، وسرعان ما لففوا النساء وبرقعوهن وأزالوهن من الخدمة، و”عوّروا” المرأة من رأسها لأخمص قدميها، وحشروها في سجون البيوت، وسرعان ما شيأوها وألقوا بها بين الملاعق والصحون في المطابخ، ثم إلى فراش الجنس البهيمي، وانتشرت الفتاوي وتمددت وشملت كل القلاع المحيطة، فانتشر تتعدد الزوجات وملك اليمين وأسواق النخاسة، وأغتصبن الفتيات لقاصرات، وكذلك الطفولة في المهد وفي عمر الزهور باسم الدين والزواج، وادعوا أنه على سنة الله ورسوله، وحللوا جهاد النكاح، فتحولت القلعة إلى مجتمع ذكوري فج، يحكم فيه الذكور حتى لو لم يكونوا رجالاً، ويقود فيه المخصيين واللصوص باسم الله والوطن والشعب.
وصارت الأمور تمشي على رأسها بدل قدميها، فأصبح تدمير الأوطان “ثورة”، واستدعاء الأساطيل الأجنبية مرغوب وواجب، والقتل على الهوية من أسس الدين، فحل “صحيح البخاري” و”ابن تيمية” وابن عبد الوهاب” مكان كتاب الله وبديلاً عنه، ف”أمموا” الجنة وجعلوها للمسلمين، بل لطائفتهم وحدهم فقط، وكفروا بقية الطوائف والمذاهب والأديان، وقاموا بإنقلابهم الكبير، فعزلوا الله ونصبوا أنفسهم مكانه، وصاروا هم من يقررون لمن الجنة ولمن النار، وأنهم هم، وفقط هم، من يقرر مصير البشر و الحجر والشجر، وهم وحدهم الناطقون الحصريون باسم الله، فازداد الظلام لزوجة وظلاماً، وصرنا نغوص فيه حتى رقابنا، فلم يعد للزهور مكان في قلعتنا ولا في القلاع المجاورة، وصار الحب جريمة تستحق رجم القلب، الذي تجرّأ على الحب، حتى الموت، أو إقتلاعه وأكله نيئاً، وصار تفجير المدنيين من أطفال ونساء “شهادة”، وشق البطون وتفخيخ الأطفال بطولة، وذبح الأسرى شهامة، ووضع اليد مع الغرباء لتقسيم ما تبقى من قلاعنا ضرورة، فسرقوا البسمة عن شفاهنا، واقتلعوا أشجار التين والزيتون، وجففوا أشجار البرتقال بعد أن جفت دموعها وذبلت، وأبكوا شجيرات الزعتر والميرامية في بطون الصخور، فجفت ينابيع الماء، وغادرتنا البحيرات، وخط لنفسه النهر مجرى بعيداً…
لكن ولشدة دهشتي يامولانا الشيخ، عندما استيقظت من حلمي هذا وجدت نفسي في داخل السجن، نعم سيدي، لا تستغرب، فسجن القلعة الصغير الذي كان للصوص، أصبح كبيراً ويضم معظم سكان القلعة، ونظرت بعيني الإثنتين اللتين “سيأكلهما الدود”، فوجدت اللصوص الذين رأيتهم في المنام يتربعون على العرش، هم أنفسهم، نفس الوجوه والأشكال، ورأيت معظم حماة القلعة يحملون أسلحة لمطاردة الشعب رغم كل خطر الأساطيل التي تحيط بنا وتهددنا، ورأيت بأم عيني كيف اختفى البحر وجفت مياه النهر وتبخرت البحيرات، تماماً كما في الحلم، وصارت الأمطار تجافينا وتفر من ظلام مدننا، وضاقت أرضنا بنا، فصرنا نتكلس ونتكوم في بضعة أمتار بعد أن كانت كل البلاد بلادنا. كنت يامولانا قد استغفرت ربي عندما استيقظت، ونهضت وصليت ركعتين للمولى عز وجل، وقرأت الفاتحة وياسين وسورة الكرسي، بعد استعاذتي بالله من الشيطان الرجيم، لكن الحلم داهم رأسي في الليلة التالية، فأعدت ما قرأت من كتاب الله وأضفت سورة الناس والفلق وقل هو الله أحد، فهاجمني الحلم بشكل أكثر شراسة في الليلةالتي بعدها، فقرأت إضافة لما سبق سورة يوسف، ثم تمارضت وغبت عن عملي وأضفت فوق كل ما سبق سورة البقرة والنساء حتى أنهيت كتاب الله كله، لكن ذلك لم يمنع تكرار حلمي في كل ليلة لاحقة، لدرجة صرت أظن “وإن بعض الظن إثم” أن ما رأيته ليس حلماً، بل حقيقة تتجسد لي في ثوب حلم، خاصة أنني كلما خرجت أو فتحت مذياعاً أو تلفازاً صرت أرى حلمي أمامي يتجسد داخل كل الأشياء.
هذا هو الحلم الذي رأيته يا مولانا، ما تفسيره، وهل تعتقد أنه حلم أم كابوس، وهل له صلة بالواقع الذي نعيش أم مجرد أوهام من رجل بائس ربما أصيب بعمى الألوان، أم أن الشيطان قد ركبني ويصور لي الأشياء على غير حقيقتها ؟!!!
- * *
أثناء شرحي لحلمي هذا للشيخ أبو محمد الأعور، كان الشيخ يرش البخور فوق النار، وبين فينة وأخرى يهدئ الجن الذين يتقافزون، و “نَهَرَ” مرّات الجان “شخبوط” وأخيه “زعموط” ليكفا عن الإزعاج، كي يستطيع سماعي بشكل أفضل وأوضح، وكان رأسه يعانق أعلى كنبته وهو يصرخ “حـــــــــــــــــــــــــــــــــــي”، وفجأة، وبعد أن تعمقت في شرح حلمي وأسهبت فيه، رأيت الشيخ أبو محمد الأعور يتوقف عن استدعاء الجن، ثم صار ينظر إلي، وسرعان ما قام وأشعل المصباح الكهربائي، ثم أزاح البرادي عن شبابيكه الصغيرة ليراني بعينه الوحيدة بشكل أوضح، وأخذ ينظر إلي ويقيسني من الأعلى إلى الأسفل، وعندها رأيت عينه المطفية ينطبق عليها جفن قابضاً عليها بشكل كامل، وما تزال تبدو عليه آثار جرح قديم، وملتصق في تجويفها بشكل يصعب الفكاك منه، دون أن أستطيع تحديد من منهما يقبض على الآخر ولا يريد الفكاك منه، وسرعان ما صارت قدمه تدق الأرض وكأنني أزعجه بما أقول، وما أن انهيت حديثي حتى سألني بعصبية قائلاً:
ـ أنت لست من حكومتنا الرشيدة، فالجماعة، منهم من هو زبون لنا، ومنهم من يشاركنا لقمتنا، قل لي مَنْ الذي حذف بك إليّ؟ وما الذي تريده بحكايتك هذه؟
ولما حاولت أن أقسم له بأنني صادق فيما قلت، نهض من مكانه ومن سرعته تعثّر فأوقع “الكانون” على مصطبة البيت، فتناثر الجن في كل مكان، ولم يلتفت الشيخ لأحد من الجن المتطايرين فوق المرجل ومصطبة البيت، بل سحبني من يدي، وأخرجني إلى باب بيته الخارجي، أعاد لي نقودي، ومسح عينه السليمة بظاهر يده، وقال: ـ أنا لم أسألك إن كنت صادقاً أم لا، أنا سألتك من الذي بعث بك إليّ؟ على كل حال إن رأيتك مرة أخرى سأكسر رجليك… لست بحاجة لمشاكل من جديد…إلى جهنم وبئس المصير.
ودفعني إلى الخارج، حيث اصطدمت بالحائط المقابل، وأكمل بصوت خفيض:
ـ أجئت لتقطع رزقي أيها الزنديق؟ لصالح مَنْ تعمل أيها الكافر؟!!!
ولما رأى بعض المارة قادمين صرخ بأعلى صوته:
ـ حـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
وطبق خلفي الباب وعاد لغرفته المظلمة، وبقيت وحدي، أسير لأخرج من زقاق بيته، تلاحقني الظلمة وعيون حكامنا الجدد وبنادق السحيجة الهتاّفين، تتربص بي جميعها بتنسيق لم نعهده من قبل، مع الغرباء جميعاً قريبين وبعيدين، بيدي ما أعاده لي من نقود، وفي رأسي صورة قلعتنا الجميلة القديمة، تُقبِّل أقدامها أمواج البحر، يداعبهما خرير مياه النهر، أسواره تعلو نحو فضاءات السماء، وخضرة أشجاره تملأ الساحات بروائح البرتقال واليمون والزعتر والزيتون، برائحة الريحان والميرامية والنعنع البلدي، بطعم العتابا والميجنا والدحيِّة والجفرا والطيارة والدلعونا، بحبات تينه المتدلية من غصون أمهاتها كنجوم مضيئة في وسط السماء، أما الحلم ـ الكابوس الذي لاحقني وما زال، فكان مايزال يدق بعنف طيات رأسي، يحاول تحطيم قلعتي التي أعرفها، تحطيمها وتحويلها إلى رماد وغبار متناثر على أبواب الصحراء، لتبتلعه وتحوله إلى زيت أسود وريالات، وها هو يتمدد أمام خطواتي ويكبر، يتسع والسجن مع كل حركة من حركات قدميّ، يحاول التمكن من الناس والشوارع والطرقات، الإمساك بحركة البشر والأفكار والمبادئ والأحلام، ليسحقها تحت قدميه ويلغيها من الحياة، وأنا مازلت أمشي، إلى الأمام أسير، أتخطى العراقيل وأتجاوز المطبات، ورأيتني أشتاق للمرحوم والدي كما لم أشتق له من قبل، وكم تمنيت في تلك اللحظة لو أنه مازال حياً يُرزق، كي لا أضطر لمثل “مولانا” الشيخ أبو محمد الأعور، حتى لو صفعني بكلماته قائلاً: ” ألم يبقَ غير “الأعور” لتلجأ إليه ليريك الحقائق ويفسر لك الأحلام؟ أتريد من أعور أن يُنير لك الطريق يا “دابة ابن الدواب”؟!!!.
محمد النجار