الخبّاز

الحكاية تكالب عليها المخصيون وعشرات السنين سيدي القاضي، ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، ورغم ذلك لم تشخ ولم تمت، ظلت حية إلى يومنا هذا، وهذا هو المهم في الأمر كله، والله وحده يعرف إلى متى ستعيش. لكن المؤكد أنها ستظل تُجدد نفسها من تلقاء نفسها، إن قسى عليها أصحابها أو بخلوا عليها أو حتى تقاعسوا عن نسج حكاياها من جديد، دون أن يُعيدوا لها تاريخها الذي توقف منذ ذلك التاريخ.

قيل عنها الكثير سيدي القاضي ومازال، قيل أنها ثابتة ثبات أشجار التين والزيتون، تمتد جذورها عميقاً في أمعاء الأرض، تتشابكان وتتحدان في لحن رياني مثير، راسخة رسوخ الجبال لا تتنازل عن مكانها التي منحته لها الجغرافيا وخصها التاريخ به، لا تبدله أو تغيره، وتحافظ على كل ما لها من رمل وحجر وبشر وأشجار، تحتضنهم حتى لو كانوا جثثاً هامدة، تضمهم في أعماقها ليكون لثمار التين معنى بعد أن تزرع فيه عصارتهم وتمنح روحه طعم الشهد.

كان جدي في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر، يُعمّر الفرن وسيجارة الهيشي المقتلعة من “تتن” الحاكورة تتدلى من بين شفتيه، ويداه تُذري كوماً من الجفت كما تذريان في الخلاء زهور القمح، يدخله الفرن ويضعه فوق بواقي الجمر الذي غفا في ليلته الماضية مخلفاً بعض رماد دون أن يتنازل عن جمراته، فيتحول  كل “الجفت”إلى جمر أحمر يبث حرارته في الأرجاء كلها، ناثراً عبق الزيتون في كل رغيف خبز يدخل بين أحضانه ليتحمص قليلاً. ولما يتعب في آخر النهار يصعد فوق الفرن محتضناً الجفت متمرغاً في حرارته التي طالما شبهها بحرارة حضن جدتي، يرتاح فوقه ساعة أو بضع ساعة، متدثراً بالدفء الذي ينفثه كوم “الجفت” في الهواء المشبع بزيت الزيتون، لكنه يظل معظم الوقت يخبز للقرية كلها دون أجر نقدي، لكن أهل قريتنا لا يأكلون حق أحد، كانوا يعوضونه بالبيض والدجاج والفواكه والخضار، رغم أننا كنا نملك منها الكثير.

كانت حكاياته لا تنقطع ولا تنتهي، والمرحوم والدي يتشرب الصنعة والحكايات منه كما الإسفنجة تتشرب الماء، ويجعل من كل شيء داخل ذاكرته حكاية، من تجاربه المتراكمة هناك في دولاب الذاكرة، من قصص الناس وتجارب القرية يصنع الحكمة، وأبي يُخزن تلك الحكايات ويستلهم الحِكَم ليتلوها علي فيما بعد، كما تتلو آيات من الذكر الحكيم، فصرت أشعر أن جذوري تمتد عميقاً في باطن الأرض لتعانق جذور التاريخ هناك، وتناغي الفرن الذي بناه جدي في تلك القرية التي تكاد تلتقطها العين من الجنوب اللبناني، بناه بيديه وبمساعدة طفيفة من إخوته الكبار، فأنا في ذلك الوقت لم أكن موجوداً، لم أُخلق بعد، جئت بعد أن إقتلعونا من جذورنا من قريتنا في الشمال، أين ومتى وكيف، يمكنني الجزم أنني مثل الكثيرين الذين جاؤوا وحسب، لا يهم كيف ولا أين، المهم انهم جاؤوا بجذور مقطعة وأوصال ممزقة، والله وحده يعلم كيف استطاعوا شبك جذورهم من جديد رغم طول المسافة ومرور الزمن.

منذ ذلك الزمن صرنا لاجئين، وبنى والدي فرنه في مخيم عين الحلوه في لبنان، وصار يعجن ويخبز ويطعم المخيم كله، وفي المساء يجلس في ركن من أركان غرفتنا يعاتب الرب أحياناً ويستعطفه أحياناً أخرى، وكنت أحس دمعاته وأنا في فرشتي، دون أن أملك الجرأة عن الإفصاح عن سهر حاسة السمع عندي إلى تلك الساعة، لكن الأكيد أن الله لم يستمع له في كل تلك السنين.

كان محترفاً إلى حد الذهول، يُلاعب العجين على أصابعه مثل “الجني”، لا تكاد ترى حركة أصابعه، وفي مرات كثيرة كان يحذف بالرغيف في زاوية الفرن البعيدة دون حاجة للمزلاج، لكنه لم ينسَ يوماً ذكرياته في قرية الشجرة التي هجّروه منها ، مُنتزعينه من وسط كرم الدوالي وأشجارالتين والزيتون، لذلك ظلت قرية الشجرة في رأسه ولم تفارقه يوماً، وكلما تقادم الزمن كلما زادت شموخاً في رأسه، كالنبيذ المعتق سيدي القاضي، وزادت أقاصيصه لي عنها، وصارت أمنيته أن يختطف حزمة ضوء  من سمائها بين جفنيه قبل أن يموت، لكنه بعد زمن مات دون أن يختطف تلك الحزمة التي تمنى أو أراد.

وصرت أنا الخبَّاز الجديد سيدي القاضي، كنت أعمل في مكان أبي، في مخيم عين الحلوه قبل أن أنتقل مع القادمين الجدد الى هذه الأرض، التي إعتقدتها ستوصلني لاحقاً إلى قرية الشجرة، قريتي وقرية والدي وجدي الذي لم يسعفهما الزمن ولم تساعدهما القوة في أن يقطفا من حقول سمائها ضمة ورد من ضياء ويموتان. ماتا قبل أن يريا قريتنا، قرية الشجرة، لعلك سمعت بها سيدي؟!!!

ـ ماذا ؟ لم تسمع بها، ليس مهماً على أي حال، إنها هناك في الشمال، أبعد من صفد التي تخلى عنها سيادته وسيادتهم، قالوا أنها لا تهمهم، ومن لا تهمه صفد وحيفا ويافا أتعتقد أنه يمكن أن تهمه قرية الشجرة؟ “مجنون يحكي وعاقل يستمع” سيدي القاضي.

كنت أقف طوال نهاري على قدميّ دون “آه” واحدة، دون ملل أو ضجر، أو حتى حالة تأفف، لأنني ببساطة شديدة كنت أحب عملي، هل قلت كنتُ؟ لا بل ومازلت أحبه، فأنا في متاهات تفاصيله منذ الصغر، لم أترك كبيرة أم صغيرة دون أن أتعلمها حين كنت مساعداً للمرحوم والدي، وبقيت كذلك حتى غيبه الموت وأنا ما أزال طفلاً.

لن تصدق أبداً أنه مات جوعاً والخبز بين يديه، قالوا فقر دم وقالوا هزالاً وقالوا “أنيميا”، لكن النتيجة واحدة وهي نتاج الجوع، أتصدق أن خبازا يموت جوعاً؟ مات هناك مكانه في الحفرة المقابلة للفرن تماماً، تكوم على نفسه ولفظ بقية أنفاسه فارغ الجفنين رغم أن كل ما أراده حزمة ضوء يشم منها تاريخاً حاولوا سلبه، معتقدين أن الأكاذيب يمكن أن تصنع لهم تاريخاً، ما أسخفهم، وهل يُصنع التاريخ بالأكاذيب؟!!!.

كان رحمه الله خبازاً محترفاً سيدي القاضي، لم يترك رغيفاً واحداً طوال حياته يحترق، فبالنسبة إليه الرغيف المحروق وصمة عار في جبين خبّازه لن تُمحى أبداً، لأنك إن صنعت شيئاً عليك أن تصنعه جيداً أو أن تختفي خلف جهلك وتعانق المقهى وألعاب الورق…

حاضر سيدي القاضي، سأتكلم عن نفسي فقط وأوجز، أعرف أن ليس لديك وقتاً تضيعه على أمثالي.

مات واستلمت أنا مهنته، كنت قد تعلمتها وعشقتها، حتى قبل أن أكبر وتستطيع عيناي أن ترى ما بداخل الفرن، كنت قد وضعت كرسياً في حفرة الفرن بجانب المرحوم ليزيد من طولي قليلاً، ورغم أن المرحوم كان يتعثر به إلا أنه لم ينهرني من حواف قدميه.

وكبرت، وكنت أقطع من العجين كتلة صماء فأخلق منها رغيفاً ساخناً يتطاير منه البخار فخوراً مختالاً نحو السماء، أفرش تحتها بعض حبيبات الطحين وكذلك فوقها كي أمنع محاولات إلتصاقها، أضغط الكتلة بأصابع يدي الثمانية، وأقلبها وأحملها وأناغيها وأدللها، فتنفرد أمامي وتتمدد كعاشقة عارية تنتظر حبيبها لتضمه بين أحضانها لعله يُخفف قليلاً من ألم الجوى، أُلقيها في الهواء، فتطير متضاحكة وترتفع دائرة حول نفسها مثل عروس ترقص في يوم زفافها، قبل أن تتهاوى وتنزل بين كفي، تستدير وتتمدد وتظل كما هي وكأنني رسمتها رسما على سطح ورقة، لم تُثقب ولم تتمزق يوماً ولم يختلف شكلها ولم يتعكر صفو حوافها، ثم أضعها على المزلاج الخشبي الذي أمامي رغيفاً من عجين، فأضعه بعيداً على حافة الفرن المقابلة للنار، فقربه من النار يحرقه، وبعده عنها يجففه ويسبغه بلون الموت، يجب أن يظل على مسافة مناسبة… لا ليس وسطياً سيدي، بل في مكان مناسب، فالوسطية لا تصنع رغيفاً من الخبز بمذاق جيد. ثم أبدأ بتحريكه وهو في مكانه، أجعله يدور حول نفسه كمخمور، ليبدأ يكتسي لوناً جديداً، وكم كنت أتمتع وأنا أراه ينتقخ وينتفخ ويبدأ بالإحمرار، فأحركه من جديد لتصل النار ألى كامل سطحه، ويتساوى عليه لون النار دون فروق، المساواة ضرورية حتى للخبز كي لا يكون طرفاً ناضجاً وآخر غير ناضج، ثم أخرجه قبل أن تهزمه النار ويتفجر من أحد أطرافه الضعيفة ويكون البخار مازال يتصاعد عن وجهه كما يتصاعد الدخان من مصباح علاء الدين قبل صعود الجني وتحرره منه . ولا أضع الخبز واحداً على ظهر أخيه قبل أن يبرده الهواء قليلاً، كيلا يتحول البخار الى حبيبات ماء تفسد الرغيف وتفسد أكله، ففي مهنتنا، مثل كل مهنة، هناك أسرار بدونها لن تصل لدرجة خباز محترف كما كان المرحوم والدي وقبله جدي.

وهكذا كنت، أعمل من الفجر الى آخر النهار، وكان معظم المخيم يشتري خبزه مني رغم وجود أفراناً أخرى، ترى رجاله ونساءه مصطفين ليشتروا الخبز الذي تصنعه يداي، نعم سيدي… قبل أن يُحرّموا الإختلاط ويُحرّموا المرأة جسداً وروحاً، وقبل أن تخرج الفتاوى بلفلفتها وبرقعتها وسجنها بين طناجر الطعام وعلى “فرشات” الجنس البارد، بعد أن كانت قد بدأت تقبض على البندقية.

وجاءني جنابه وقتها، نعم في يوم صيفي قائظ، وأنا في الحفرة أواجه النار، وأتصدى لجحيم الطبيعة الذي فجّر ينبوع نهر من العرق يسيل من رأسي حتى تحت خاصري، وطلب مني أن آتيه في يوم الجمعة اللاحق، حيث كان يوم عطلتي.

ذهبت لمقابلته، وسألني:

ـ كم يعطيك، أبو خليل،  مالك الفرن أجرة في الشهر؟

وقلت له بصدق المبلغ والذي لم أعد أذكره، فقال:

ـ كيف إستطعت أن تعمل عنده بعد أن قتل أباك؟

كان يريد أن يزرع الفتنة بينيوبين أبي خليل، وهي مقدمة لفتنة بين أبناء المخيم الواحد!

أنظر إليه، هاهو يضحك من خلفك سيدي القاضي، إن كنت أكذب فليقاطعني، كيف يمكن أن يكون خلفكم أنتم القضاة أيضاً؟ عقلي سيتفجر سيدي القاضي، أجده خلف القضاة وخلف الوزارات وخلف الوزراء والمؤسسات!!! بل صار بديلاً عن كل شيء سيدي القاضي، كيف يتم ذلك؟ كيق وصل تأثيره ألى كل شيء؟.

أعرف سيدي القاضي أنه ليس من شأني، لكنه مجرد فضول…قلت:

ـ مات والدي قضاء وقدراً، فالأعمار بيد الله.

قال:

ـ الأعمار بيد الله لكنه كان المتسبب.

وسكت هنيهة وكأنه يريد أن تدخل الكلمات ثنايا رأسي وتستقر فيه، وقال:

ـ لو كنت مكانك لقتلته… على كل حال ليس هذا موضوعنا، موضوعي أنني رأيت مهارتك، واستشرت القيادة التي وافقت على تسليمك فرناً تخبز به للثوار، للفدائيين، هل تقبل أن تستلم فرن الثورة وتقوده، وتترك أبا خليل، وبهذا تثأر من قاتل والدك؟

لم أعلق على جملته الأخيرة سيدي القاضي، لكنني قلت متسائلاً:

ـ فرن الثورة؟ كيف لا؟ ومن يرفض هذا الشرف؟

لم أكن أعرف أن للثورة فرنها الخاص، وأن للثوار فرنهم وخبازهم الذي يختلف عن فرن المخيم وخبازه، ولم أتردد في الإلتحاق به، فأعطيت أبا خليل مهلة ليجد عني بديلاً، والتحقت للعمل في فرن الثورة، وكان جنابه، ربنا الله، قد زاد معاشي عشرين ليرة لبنانية كاملة، ووضع بجانبي مساعداً أيضاً، لأن عملي لن يستطيع إنجازه شخص واحد أبداً، وصرت أعمل مثلما كنت أعمل هناك، لكن بزيادة طفيفة، قدر ساعة أو ساعة ونصف الساعة في اليوم الواحد، كي نستطيع أن نؤدي عملنا على أكمل وجه، ولا نترك الفدائيين يتضورون جوعاً.

جنابه لم يقصر معي أبداً، دفع أجرتي قبل أن يجف عرقي، ربنا الله، وأحياناً عندما يزيد الخبز عن أكل الفدائيين كان يُحمّلني بضعة أرغفة لبيتي دون أن يأخذ ثمنه إلا آخر الشهر، يخصم ثلاثة أرباع سعرها وليس سعرها كاملاً، لأنها تكون قد فقدت سخنوتها، أو ظلت الى اليوم التالي نائمة في مكان ما. وكونه هو في الأصل محاسباً، دخل الثورة ليضبط حساباتها، واستطاع ضبطها ولملمة تبعثرها لكن لتتوجه إلى جيبه، وكان واضحاً منذ البدء، حدد بوصلته جيداً، البوصلة هي المال العام والمكان هو جيبه كما قال الكثيرون. كان يأتي لي بفواتير يومية أوقعها عن عدد الأرغفة وسعرها… وكانت هذه الأرغفة بعدد ثابت كل يوم، وكان العدد ألف رغيف في اليوم الواحد، لم تزد يوماً ولا تقل، وأنا كنت أعتقد أنه عدّها أو على الأقل قدرها بشكل تقريبي، حتى جاء يوم واستدعاني أحد المسؤولين الكبار عن مخابز الثورة، وأراني أحد الفواتير بتوقيعي وبصمتي أيضاً، فرأيت بأم عيني أن العدد لم يكن ألفاً في أية فاتورة، بل تم تكبير الأصفار وتحريكها لتصبح أرقاما كبيرة، كان جنابه قد حركها بلمساته السحرية الخفيفة، فجعلت من الأرقام الصماء الميتة فوق الأوراق جبالاً من النقود في جيبه، ومن يستطيع أن يفعل ذلك غير محاسب محترف كان قد دخل الثورة لضبط حساباتها؟!!!

ولك أن تعد سيدي القاضي كم ألف من الأرغفة سُحبت من فم الفدائيين لتتحول للنهر المنساب  مالاً قي جيبه كل شهر، دون أن يفرد بأصابعه الناعمة حتى لو رغيفاً واحداً، ودون أن تلفحه نيران الفرن ولو ساعة واحدة، ولا حتى أن بنام ساعة واحدة في “جفت” الزيتون الذي ما زال يحتفظ لنفسه بحصة من الزيت، وحينها تذكرت كلمات المرحوم والدي ناقلاً المأثور الشعبي ” المال السايب يعلم السرقة” ليس هذا فحسب، بل هو يسرق وأنا المتهم وأنا من يُحاسب، فهل يحق لمثله أن يكون خلفكم أنتم القضاة في قضية المتهم فيها غريمه سيدي القاضي؟

ـ حاضر، “سأسد نيعي” مادام الأمر ليس شأني.

لم أعلم شيئاً عن الأمر في مخيمنا اللبناني، وأخذني بمعيته لما رحلنا إلى تونس لأتابع إطعام الفدائيين هناك، وكان قد سافر الى هناك قبل الجميع، فهو لم يكن من أنصار البندقية الفدائية سيدي الرئيس، بل من أنصار تلك البنادق التي بحوزة الأنظمة، البنادق التي تُطلق للخلف سيدي القاضي، لذلك رحل قبلنا جميعاً، وكان يتحدث كثيراً عن السياسة والدبلوماسية والتكتيك، وكان يحب كثيراً “أنصار السلام” عندهم سيدي القاضي ويلتقيهم ويأكلون اللحوم فقط دون خبز المخيم.

أنا لم أعرف شيئاً عن كل ذلك سيدي القاضي، أنا رجل بسيط إلا في فن الخبز أمام  الفرن، فأنا “داهية” ولن أكون متواضعاً ، وأبي وأنا من صححا المأثور الشعبي القائل:”فلان لا يضحك للرغيف الساخن”، بحيث جعلنا “فلاناً” يضحك له رغم أنفه، بل ويقهقه عندما يراه، لكنني فيما عدا ذلك أقر بما يقولون عني، أنني على باب الله، وأنني على نياتي، وأن القطة تأكل عشاي، لكن البعض ممن كانوا يعرفون بالأمر وشمّوا رائحته التي تزكم الأنوف، أوصلوا الأمر للقائد الكبير رحمه الله، والقائد الكبير كان يحب مثل جناب المحاسب ويُقربهم منه، لأنه كما قال بعض المخيم يستطيع أن يقودهم، بعد ذلك، كالأنعام سيدي القاضي، فبعد أن يمسك عليهم المماسك، يهز الأوراق الممسك بها عليهم أمام وجوههم الصلفاء، يشتمهم ويُهزأهم ويقل قيمتهم “بعيدا عن جنابك” وهم لا يجرؤن على الرد، بل يخرون له ساجدين، لأن جلودهم تكون قد تعودت على الشتائم ووجوههم على البصاق وضرب النعال دون أن يرف لهم جفن. وقال القائد الكبير رحمه الله لمن أوصله الخبر بلهجة مصرية:

ـ ده حرامي وشبع حجبلكوا واحد جديد يبتدي من الصفر؟ اعمل ليكو إيه؟ ده قدركم بقه.

وأبقاه محاسباً مؤتمناً كما كان، بل علّا من شأنه أيضاً لأنه زاد بصماً بحافريه كما قال الكثيرون، وأكد البعض أنه فرك له أذنه واستعجله ليعرف نتائج لقاءاته مع “مشجعي السلام ” من الطرف الآخر.

كان هذا قبل أن تنمو له مخالباً وتكبر، قبل أن ننتقل إلى هذه الأرض من حمّام الشط، وقبل أن يبدأ بمد يده إلى ما تحت يد القائد الكبير، ليرثه ويركب فوق ظهورنا نحن العامة، حيث ظل يعتبر نفسه أحد الأسباب الذي أوصلنا لما نحن فيه من هيبة وعنفوان وازدهار!!! وأننا لولاه لما كنا في مثل هذا العز الذي “نتمرغ” في خيره ونرعى كالإبل.

ـ أنا لا أستهزئ سيدي القاضي… حاضر لن أتكلم في السياسة، فهي التي أوصلتني للوقوف هذه الوقفة بين أيديكم.

بعد أن كبر وانتشر خلف كل شيء في البلاد، صار كل ريع الخبز يذهب إلى جيبه وليس الفرن الذي أعمل به فقط، ولم يعد يحاسبه أحد على ذلك، بل سمعت أنه يأخذ الكثير من الأموال من “معسكر السلام” القريب والبعيد، ولم يعد بحاجة إلى هذا الفتات، لكنه رغم ذلك أعطاه لبعض أقاربه كي لا يتسرب هذا المصدر إلى آخرين.

ـ “ما علينا” سيدي القاضي، أنا لن أتنازل عن حقي، والمخيم كله إلّا البعض القليل، كلهم يدعمني ويقف في صفي، تعرف سيدي القاضي أن المسحجين والمطبلين يتواجدون عند كل الشعوب وفي كل الأوقات، لكنني قررت أن لا يستحمرني أحد من جديد…

ـ نعم حقي سيدي القاضي، كيف لا؟ أنا لا أريد مالاً، أنا أريده أن يشرح لسيادتكم وهو الموظف من أين له كل هذه الثروة؟ ومن أين لأولاده وأحفاده كل هذه القصور والعقارات والشركات والأملاك وأنا الذي إشتغلت وتعبت وليس هو، إحسبوا دخله على مدار العمر لتعرفوا بأنفسكم أنه لو عاش مائة حياة لن يكون لديه كل هذه الأموال، التي حول إتجاهها ويتهمني بها، وأنا لا أملك كيس طحين واحد في بيتي.

ربما عمل بأشياءٍ أخرى، إحسبوها له، لكن عليه أن يُرجع ما سرقه من أموال خبز الفدائيين، وأموال خبز أهاليهم الذين كانوا يتلقون جحيم الطائرات في المخيم في كل وقت، وهو سيدي القاضي لم يكن في المخيم ولم يعش فيه يوماً واحداً، حتى أنه لم يمر فيه إلّا ليحادثني وأمثالي من البسطاء الذين يوقعون على الفواتير دون سؤال، أما ماعدا ذلك فلا شأن له بالفقراء…

إسألوه كيف إستجمع كل هذه القوة بين يديه؟ ليس بالمال وحده بالتأكيد، وليس بالتسحيج والتطبيل والتزمير فقط، فعلو النباح لا يجلب القوة ولا يُسنن النيوب ويُنمي المخالب ، إسألوه كيف أحرق كل بنادق الفدائيين الذين أطعمتهم خبزاً من صنع يدي؟ ومن الذي زوده ببنادق الأنظمة هذه التي لا يربطها رابط ببنادق المخيم.

لا أعرف لماذا لا توقفون إبتساماته المتتالية من خلف ظهوركم سيدي القاضي، أإلى هذه الدرجة فرد نفوذه وصار يمسك بكل مفاصل البلد؟

أتعرف سيدي القاضي، لو كان يتعامل معهم كما يتعامل معنا بنفس الطريقة والحدة ما كنت غضبت، لكنه هناك يستجدي ويركع ويسجد بين الأقدام، لا يجرؤ أن يرفع عينه في عيونهم وكأنهم يمسكون عليه المماسك وأوراق الإذلال، وتراه عندنا يمشي مثل طاووس، قلت طاووساً وليس نسراً سيدي القاضي، فمثله لم يكن نسراً يوماً ولن يكون، لا يعرف ولا يستطيع، فللنسور صفاتها وميزاتها التي لن تتوفر به يوماً، النسور شامخة حتى في إحتضارها، وهو ذليل حتى في عز قوته وغناه.

هذه صفات سيدي القاضي وليس قدحاً وذماً، وإن لم تصدقني ضعه أمام التجربة، أمام المواجهة مهما كانت طفيفة وبسيطة، ستجده في الهريبة “كالغزال”. كما تريد، أتعتقد أن الغريق يخاف من البلل؟ سجل تهماً جديدة إن أردت، فأنا “تحت المزراب” سيدي القاضي ولن تُخيفني أمطار الشتاء.

لا يعنيني من يكون ومن وراءه، المهم أصل الفتى، صفاته، معدنه، “سألوا الحمار من أبوك فقال خالي الحصان”، أتعتقد سيدي القاضي أن خاله الحصان كان قادراً على تغيير ماهيتة؟!!! ظل الحمار حماراً وإن إدّعى بأن الحصان خاله، ومهما “طلع أو نزل” سيظل حماراً، “حاشاك” سيدي القاضي.

لا أعرف لماذا تظل تقاطعني سيدي القاضي، فأنا إنسان بسيط وعلى “باب الله”، كلما قاطعتني نسيت ما أريد قوله، وكما ترى فلا محامي لدي يدافع عني وعن حقوقي، كما أنني سمعت أن المحامين في بلدنا لا يستطيعون “حماية مؤخراتهم”، كما أكدت أمي رحمها الله ذات يوم، وأنتم القضاة كما سمعت صرتم تحاكمون الشهداء وتقتصون من الفدائيين، أصحيح هذا أيها القاضي؟

سأقول لك سيدي إن نفيت هذه الأقاويل، إن كان ما سمعته كذباً وتشويهاً، سأقول سيدي وتاج رأسي أيضاً، وإلا فلن تكون سيدي أبداً بل وستسقط من عيني إلى تحت حذائي ولن يرفعك أحد أبداً، تماماً كمن سقط من يقف وراءك، وها هو يقدم لك أقاصيص أوراق تملؤها الكلمات.

ـ لا سيدي لن أكون خبازهم، يستطيع إكتشاف صلة قرابته معهم كما يشاء وكيفما يشاء، “أبناء عمومة” فليكن بالنسبة له، لكنهم بالنسبة لي هم قتلة أبي الحقيقيين… نعم هم، فلولا تهجيرهم لما مات أبي الخباز جائعاً تنخره الأمراض، ولما تيتمت أنا وترملت أمي، لما كنا متهمين في العالم كله وكلٌ يركلنا بقدمه، لما كنت أنا هنا أقف أمام سيادتكم في قفص الأتهام، ولما كنت وقعت على فواتير أحد لأملأ جيوبه مالاً، وكلما إمتلأت جيوبه مالاً كلما جاع الفدائيون الذين جئت خصيصاً لأطعمهم خبزي. لكنت مازلت في قريتي الشجرة، لكنت عشت حياة طبيعية بين أبي وأمي، لما مات والدي في حفرة أمام فرن في الغربة، لما جاع وبين يديه “حاكورة” البيت وزيتونات الحقل وزعتر الجبل وأرغفة الفرن التي يتماوج فوق وجوهها لون النار الذي أعطاها طعمه ، كما أنني لا أريد أن أكون “خباز السلام”، أرفض عرضكم لسحب التهمة عني مقابل ذلك، أريد أن أظل خباز الفدائيين، خباز المخيم وما يحيط به من قرى ومدن…

ـ ماذا؟ لم يعد هناك فداييون!، ليس مهماً، ما تبقّى منهم، مهما كانوا أقلة لن أتركهم يجوعون، “عاقل يتكلم ومجنون يستمع”، أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، أتستدرجني لتعرف أماكنهم؟ سيعرفون هم مكاني إن لم أعرف أنا مكانهم، سيأتون هم عندي لأطعمهم خبزي.

ـ نعم أقولها بصوتٍ عال، وبكل ثقة أيضاً، أنا لن أتركهم يموتون جوعاً، كما لن أترك مهنتي تموت وأصابع يدي يضخ إليها القلب دماً، فمهنتي مرتبطة بهم، بإشباعهم بعد أن جوّعوهم وأفقروهم وسحبوا منهم قوّتهم ورحّلوهم من المخيم إلى حمام الشط مبعدينهم عن حدود الوطن، كي لا يعودوا يشمون راحة صفد والجليل وقرية الشجرة، كي يموتون غيظاً وجوعاً وإختناقاً، نعم، لقد إختنقوا بعد أن صاروا غير قادرين عل التنفس بهواء الجليل الذي صار بعيداً.

رغم بساطتي فإنني أعرف جيداً كيف حول سعادته كل معظم مَنْ أتي بهم إلى موظفين ومسحجين ومطبلين ينتظرون “مخالي العلف” في آخر الشهر، بعد أن إقتلع نيوبهم وقصقص أجنحتهم فلم يعودوا يحسنوا فن الطيران، ومن ليس لديه أجنحة لن يستطيع التحليق ليرى القدس وعكا وطبريا ونتانيا وصفد والجليل، لن يستطيع السباحة في بحر يافا، ولن يعرف يوماً كيف تنتظرنا الناصرة وكفر قاسم عرائس بلباسها الأبيض.

أما أنا فسأجعل من العجين لآلئ من خبز، ومن الخبز أنواعاً، سأزيد من حجمه ووزنه، وسأضيف إليه “الملاتيت” وأرشها بالسكر،سأصنع لهم أقراص الزعتر والسبانخ وكافة أنواع المعجنات، وإن توافرت في جيوبي نقوداً سأشتري لهم اللحوم وأقطعها بنفسي وأصنع لهم “الصفيحة” ليستعيدوا قوتهم، المهم أن لا يجوعوا، وكما تلاحظ فالأساس هو الخبز، فبدون الخبز سيدي القاضي ما فائدة زيت الزيتون والزعتر؟ ما فائدة الميرامية وابريق الشاي؟ إنها تفقد قيمتها ولا يبقى لوجودها معنى.

أمّا أنا سأظل أعجن وأخبز لأطعم الفدائيين ولن أتنازل أبداً عن هذا الشرف، هدّد كما تريد، فلن “يقطع الرأس إلّا من ركّبها”، أعيد مجدداً أنني لن أكون خباز “السلام”، فأي سلام دون أن أعود لقريتي “الشجرة” وتعود لي، دون أن يلعب أولادي في أزقتها وطرقاتها، دون أن أزرع حكورتها وأدهن خبزي بزيت زيتونها؟!!!

أعرف أنكم جميعاً كما الدجاح “لا تتحكمون حتى في بيضاتكم”، وأن روحكم في يده، وتفتت ضميركم وتبعثر ولن تستطيعوا إسترجاعه أبداً ولا حتى لملمته.

إحكم كما تريد فلن يتذوق خبزي إلا من يستحق، الفدايون، وفقط الفدايون، إفعلوا ما تريدون، فلن تثنوني عن قراري هذا أبداً.

محمد النجار

 

هنية

عندما سمعت الزغاريد تسبح في الفضاء منطلقة من بيتنا، ويطغى عليها صوت أمي، يتعالى ويرتفع ويتبعثر حبات أرز فوق الرؤوس، أيقنت أن عرساً لأحد أبناء الجيران أو الأقارب أو بناتهما قد اكتمل، ورأيت ،لما إقتربت، حركة غريبة غير معتادة أمام باب منزلنا، وأياد توزع الحلوى أمام الباب، أدركت أن أمراً جللاً قد حصل، ولما رأيت بعض الوجوم على الوجوه وظلت زغاريد أمي تصدح وتتماوج راكبة نسمة هواء داهمت الشارع على حين غرة، وتكسرت على أبواب أذنيّ، مؤكدة أنني لا أتخيل الأمر، بل إنه أمر واقع لا جدال فيه، أيقنت صحة ما توقعت.

كنت عائداً من عملي في ذلك اليوم الصيفي الحارق، أحمل شنطة زوادتي الفارغة، وأحث الخطى في الطريق الطويل الموصل إلى منزلي، وكان الباص الذي قذف بي على رأس الشارع قد أكمل طريقه إلى المحطة الرئيسية في مركز القرية، حيث يلتف حول شجرة التين العملاقة، يستريح من تعب الطريق قليلاً ثم يعود، وأنا طالما رأيت في طول الطريق الترابي هذا، الذي يفصل بيتنا القابع في أعلى التلة عن المحطة في أسفل الوادي، “سراطاً مستقيماً” طويلاً لا يكاد ينتهي، خاصة بعد يوم عمل طويل، أستحث الخطى فيه لأصل إلى منزلي، أستظل بداليتها قبل أن تطل زوجتي “هنية” بوجهها المشرق الباسم، بيدها كأساً من الماء البارد وفي فمها بضع كلمات تعيدهن على مسمعي كل يوم، بعد أن تكون قد أنهت عملها بدورها، في نشاطها التطوعي لمحو أمية مَنْ لم يستطع “فك الخط”، من قريتنا، لهذا السبب أو ذاك.

ـ أوصلت؟!!!

ودون ان تنتظر جواباً تكمل:

ـ الله يعطيك العافية، هيا ارتح قليلاً وقم لتغسل يديك ووجهك، فأكون قد حضّرت لك الطعام.

كانت زوجتي “هنية” حاملاً في شهرها السابع، وكان خوف أمي عليها يكاد يربكني، فلم أعد أستطيع أن “أأمرها” أو أُطالبها بأيما شيء، حيث تتصدى لي أمي وكأنها حماة وليست أماً، ولطالما استفزيتها بعبارتي المتكررة عندما كانت تقف في صف “هنية”، أميل عليها، وقلبي يتدفق فرحاً، وأقول:

ـ لا تنسي يا أمي أنني أنا ابنك وليست “هنية”، خففي عني قليلاً ولو من باب صلة الدم…

وكانت تنهرني وتبتسم، وتظل على موقفها، وتقول أحياناً:

ـ عليك أن تشكر ربك صباح مساء، الذي رزقك بمثل هذه الجوهرة، فليست كل النساء نساء، فمنهن من تفوقن على الشيطان نفسه، لكن هذه المسكينة ملاك متخفي في ثوب إنسان، وها هي لم تبخل عليك فوهبتك إستمرارية الحياة؟

ويحتضن كفها بطن “هنية”، وتأخذ تحركه حركة دائرية، وأرد بدوري:

ـ أنت من وهبتني الحياة ياأمي، و”هنية” زوجتي وليست أمي.

ـ أعرف أنني من وهبتك الحياة ياولد، لكنها وهبتك إمكانية إستمراريتها، فردت أمامك بساط العمر سنوات إضافية إلى الأمام.

تسكت وكأنها عاتبة على قلة فهمي، كي لا أقول غبائي، وتكمل:

ـ الحياة، عند الكثيرين، ليست سوى كم من السنين تمضي مع الأيام وتختفي مع الزمن، تبدأ وتنتهي مثل زهرة، تبرعم وتكبر وتتفتح ثم تذبل وتموت، لكنها تحافظ على البذور لتستمر وتعيش وتنعم بالحياة أكثر، لتنشر رحيق عودها فوق غصون الأشجار، على رؤوس البشر في البيوت والحقول وتحت ظلال الدوالي، البذرة يابني التي تصنع جذراً يغوص في قلب الأرض مثل نصل الفأس الحاد، وينتزع من أحشائها غذاء الغصن والأوراق، وينفخ في الساق عنفوان إقتحام السماء، نعم الأصل هي البذور، والمهم نوع البذرة نفسها، فالبذرة الفاسدة تنغص عليك يومك تماماً كالبيضة الفاسدة، لا تستطيع التخلص من نتانتها بسهولة، أما الجيدة فهي التي ترسل أغصان شجرها مراسيلاً جميلة متهادية نحو النجوم، ألم تسمع بهذه البذور التي طالما علت برأسها نحو الشمس؟!!! فالحياة في نهاية المطاف حرب ضروس متشابكة متتالية، إن لم تحافظ على بذرتها الجيدة فقدتها مرة وإلى الأبد، ورغم ذلك هي شيء واستمراريتها شيء آخر، وإستمرارية الأشياء، دائماً وأبداً هي مَنْ تجعل لها معنى.

كنت أبتسم، أهز برأسي يميناً وشمالاً لأوهمها بعدم قناعتي ب”فلسفتها”، أغادر وأنا أقول على مسامعهما:

ـ لا عجب أن تسميك القرية بالحكيمة، فأحياناً أشعر أنني أمام فيلسوف ولست أمامك ياأمي، ولا أعرف أبسبب التعب  أم بسبب صغر عقلي وجهالته لا أفهمك أحياناً، النتيجة أنك تحرضينها علي ياأمي، من يراك يعتقد أنك لم تحبلين ولم تلدين دستة من الأطفال! ما هكذا تفعل الأمهات!!!

فترد قبل أن أدخل غرفتي المجاورة لغرفتها في بيتنا الريفي:

ـ لهذا السبب بالضبط قلت لك ما قلته، ثم مَنْ قال لك أن الأمهات لا يُخطئن أحياناً؟

وكانت تعني الأخريات وليس نفسها في هذا الأمر على وجه التحديد، وكي أكون صادقاً، فإنني لطالما إعتقدت جازماً أنه لم يجانبها الصواب، فمعظم تعليقاتي لم تكن جادة، بل من باب إستفزازها والمزاح.

“هنية” زوجتي فتاة ريفية بسيطة، مجبولة بالطيبة والعطف والحنان، ترى الحب يشع من عينيها السوداوين، نبع الحنان يتدفق جداول من كل أطرافها ليشكل نهراً يكفي القرية كلها، لم تخالف “أمراً” أو طلباً أو رجاء من أبويّ أو إخوتي حتى الصغير منهم، لا لتتزلف أو تستميل أحداً، بل هكذا هي حتى مع أهل القرية دون تمييز، فصارت بسرعة قياسية إبنة في البيت وصديقة قريبة للجميع، وصرت محسوداً على “هنية”، ولطالما سمعت أدعية العجائز على مسمعي:”الله يبارك له على هيك زوجة ويطرح له البركة”، وهي في ذات الوقت خلية نحل متكاملة، تراها تتقافز بخفة غزال وتتطاير بجمال يمامة وخفتها وسرعتها وهي تتحرك متنقلة من عمل لآخر، لم تأمر أحداً يوماً، كانت تبادر فيتبعنها أخواتي وأخوتي بكل أمور البيت، وكثيراً ما استدعنها بعض الجارات لتساعدهن في بعض الأشياء، فتترك ما بيدها وتستأذن أمي وتذهب، وسرعان ما تعود لتكمل ما كانت تقوم به، وكان يجن جنونها إن رأت أمي تجهد نفسها، فتأخذ من يدها العمل وتنهاها عن التعب، وتقول:

ـ ألا يكفي كل ما تعبت في حياتك؟ ألم يحن الوقت كي ترتاحي قليلاً؟ ألا تريننا “مصفطين مثل أباريق الجامع”؟ لا بورك فينا إن تركناك تعملين ونحن جالسين ننظر بعيوننا إلى تعبك المتواصل.

حتى حديقة المنزل كانت تسقي شجيرات الخضار فيها، لم تنس يوماً أن تفعل ذلك، لكن ظل على رأس أولوياتها، وردة الجوري الحمراء التي كانت تعتني بها أكثر من بقية الشجيرات الأخرى.

“هنية” ظلت تحب الورد والأطفال والخضرة والحياة، وأهم ما يميزها ابتسامتها التي لم تتنازل عنها يوماً، ولم تنسها مرة خلفها، ولا تعبت من حملها فوق شفتيها، بل ظلت تحملها في كل حركاتها وتنقلاتها وعملها، تفردها على صفحة وجهها منذ سويعات الصباح، فما أن تتفتح عينها مع شروق شمس الصباح حتى تتفتح ابتسامتها مع تفتح وردات الجوري التي تفرد أوراقها عرايا تحت شعاعات الشمس، بعد أن تكون قد أكملت إغتسالها في بحر من حبيبات الندى، فتنشر رحيقها حباً وسعادة وحياة في البيت كله، وتُبقي عطرها سابحاً مخيماً في مساحات البيت، تجول وتتطاير مع أبتسامة وحركات زوجتي “هنية” حتى ينام البيت كله، ولا أذكر مرة واحدة نامت فيها “هنية” قبل أن ينام البيت قبل هذا اليوم.

ما أثار فضولي أنني لم أسمع زغرودتها هي أيضاً، وأنا ما زلت أمشي صاعدا الطريق الجبلي نحو البيت، واستهجنت زغاريد أمي دون “هنية”، واستغربت أكثر عندما لم أرها تتأبط ذراعها في مثل هذا العرس، حتى أنني لم أفكر لحظة بأن أبواي لم يخبراني بزفاف أي من إخوتي أو اخواتي أو أقاربي وجيراني، فما هكذا يتزوج الشباب، ولا هكذا ترتفع رايات الأعراس في القرية، وظل عقلي سارحا في شتى الأحتمالات حتى بدأ الناس يداهمون عقلي ويغتصبون يدي قائلين:

ـ شكر الله سعيكم!!!

ورددت دون وعي:

ـ عظم الله أجركم

وكدت أسأل:

ـ بمن؟!!!

وقال بعضهم معزياً:

ـ اللي خلف ما مات.

وعلى حد علمي أنني لم “أخلف” بعد، وأنا الوحيد المتزوج من كل إخوتي وأخواتي، وأبواي كبرا على ذلك، وكنت أنتظر بفارغ الصبر جريان الأيام كي تُفرج “هنية” عما في أحشائها وتجعلني أباً.

ورغم ذلك أسكتتني كلمات الناس، كادت أن تشل قدماي للتقدم نحو البيت خطوة إضافية واحدة، وسرعان ما صرت أرى أفراد أسرتي واحداً بعد الآخر يخرجون من عتبة البيت المشرع  نحوي، تتقدمهم أمي بدموع ثلجية متجمدة ظلت واقفة في حضنيّ جفنيها عازفة على الإنزلاق، رغم زغاريد حنجرتها التي غطت الجبل والبيوت والحقول.

لم يمر على الحدث أكثر من بضع ساعات، كانت دورية لجيش الإحتلال قد إخترقت متاريس القرية الحجرية المتفرقة، حاملة ثلة من المسعربين بثياب عربية، وأقسم شباب قريتنا أن بعضهم من قوات الأمن الفلسطينية الذين ظلوا يمارسون التنسيق الأمني على الأرض، بعد أن قاموا بدور الرقابة بدلاً من جنود الإحتلال على بيت أبو علي، الذي استعصى على الإعتقال أو القتل منذ فترة مطاردته للإحتلال والسلطة، وكان أبو علي يمتاز بحدسه الأمني العالي، غادر بيته، عندما اشتمّ رائحة مكيدة تلتف حول حياته في المكان، تماماً في اللحظات الأخيرة، فغادر بيته صاعداً أعلى الجبل، واختار طريق بيتنا ليختفي عن الأنظار، ولاحقه الجنود والمستعربين وبنادقهم ومسدساتهم في أيديهم، وكان أبو علي أقرب إليهم من مسافة رصاصة في جوف مسدس، ورأتهم أمي وزوجتي هنية وقد اكتشفوا اكتشافه مؤامرتهم، وخرجن ليعطلن خطوات هؤلاء الغرباء، غرباء السلطة وغرباء الإحتلال، ليمنحن المزيد من الزمن لأبي علي للمراوغة، ولقدميه لشد الخطى والإبتعاد عن عيون سلاحهم، فاعترضتا الجنود، وأمسكتا ببعضهم، وصرختا، فخرجن بعض الجارات أيضاً، وفعلن مثلهما، وكأنهن حافظات درس تعلمنه مرة واحدة واستعصى على النسيان، فرجال القرية في الحقول والأعمال، وأطفال القرية في المدرسة اليتيمة التي لم تلفظهم نحو بيوتهم بعد، وصارت المسؤولية كلها على بضعة نساء، وصار التعارك بالأيدي من مسافة صفر، وأبو علي يصعد أعلى وأعلى نحو قمة الجبل، وأمسك أحد المستعربين مسدسه ووجهه إلى قلب أمي التي عبثاً حاول التخلص من قبضات يديها، ورأته زوجتي “هنية”، فهاجمته وأبعدته عن أمي، وكادت تنتزع قوته من بين يديه، سلاحه الذي به يمتلك جرأته، والجندي الذي يحتمي خلف مسدسه أطلق رصاصته إلى صدر زوجتي “هنية” العزلاء، ليثبت أنه من الجيش الذي لا يُقهر، فرمتها وجنينها تماماً في حضن أمي.

إخترقت الرصاصة صدر “هنية”، لكنها لم تمت، بل شعرت بسكين متوهج الحرارة، أنزلوه لتوهم من على جمر النار، ينغمس في صدرها، يغوص عميقاً مفتتاً صدرها الجميل نتفاً، ولما رأت نفسها في حضن أمي أمسكت كف أمي واقتربت بها من بطنها، وأتمنتها عليه، وبصعوبة تلفظت ببضع كلمات:

ـ ديري بالك عليها ياأمي…

وكأنها تعرف جنس مافي بطنها، وأمام تدفق نهر الدم من الثقب الذي أحدثته الرصاصة المتفجرة في صدرها، أخذت تحث الخطى نحو السماء إلى جنات الله، لتعانق الرب وترتمي على صدره الدافئ، خاصة أنه تعلم أن هذا النوع من الرصاص صنعوه خصيصاً للفلسطينيين.

لم تخاطب “هنية” أمي يوماً بحماتي أو عمتي أو إمرأة عمي، فقط بكلمة “أمي”، منذ اللحظة التي خطت عتبة بيتنا إلى اليوم الذي إختارت فراقنا، الأمر الذي جعلها أقرب لقلب أمي من “كِنّة” مطيعة، بل كانت أقرب لبنت من بنات “بطنها” كما كانت تقول، ولمّا حاول الجنود منع نقل جسد “هنية” إلى المشفى في المدينة، حينها بالضبط انهالت كميات من الحجارة فوق رؤوس الجنود والمستعربين لم يعرف أحد كيف أو من أين، صارت سماء القرية تمطر حجارة من الحقول والمدرسة والطرقات، لكن الموقف لم تكن تكفي فيه قوة الحجارة وحدها، فجاءت رصاصات من أعلى الجبل، وانهالت على رؤوس الجنود والمستعربين، وسنت أسنانها المناجل و”صهلت” قادمة من الحقول كخيول عربية أصيلة لا تثنيها الصعاب ولا توقفها أشواك الطريق، وهذا الجيش الذي كان لا يقهر أمام نساء قريتنا وأطفالها العزل، صار يتقافز إلى أسفل الوادي هارباً من أصوات رصاصات أبي علي ومن عيون المناجل وحجارة الأطفال، ولم تتوقف، رغم ذلك، الرصاصات، وظلت تلاحق خطواتهم الجبانة الفارّة، فأدركت القرية أن الجيش الذي كان لا يُقهر صار سرعان ما يُقهر أمام إرادة صلبة وحفنة رصاص، وفي الأعلى، هرّبوا جسد هنية، على الأكتاف، إلى قرية قريبة، ثم إلى مشفى المدينة، وهناك انتزعوا الطفلة من بين طيات الموت التي كانت تتزايد حول عنقها، وحينها فقط ابتسمت هنية وأمالت رأسها باتجاه الشمس وغادرت نحو السماء.

قطعت أمي عهداً على نفسها بأن لا تسمح بأن يناديها أحد بغير “أم هنية”، وأقامت الأحتفالات ووزعت الحلوى إحتفاءً بإرتقاء هنية أبواب السماء، وظلت تقول أن ليس بالإمكان لأي كان الوصول لتلك الأبواب، أو العلو والسمو إلى هذه المنزلة والمهابة ومعانقة الرب، فالرب في الوقت الذي يسعد بإستقبال الشجعان فهو لا يحترم الجبناء، وأكثر ما يغضبه الحشرات عندما تحمل سلاحاً تتمادى به على الأنقياء من خلقه، لذلك كانت زفّة هنية أجمل بكثير من يوم زفافنا، علت فيه صوت الزغاريد وتصاعدت نحو السماء، متمازجة متماوجة مع أصوات العتابا والميجنا ونهر دموع كان قد إنهار من عيون القرية ساقياً الحقل كله، كما يسقيه نبع القرية القادم من أعلى الجبل .

عادت أمي بال”هنيتين” إلى القرية، إنتظروني حتى نزرع إحداهما سوياً في مركز القرية، تحت شجرة الزيتون الرومية المعمرة، فشجر الزيتون تتجدد أغصانه وتزداد إخضراراً أوراقه كلما ارتوى من دماء الشهداء، و”هنية” المولودة الجديدة التي أسمتها أمي على اسم أمها، تبتسم وتتراقص كما يليق بزفة أمها، وأقسم بعض سكان قريتنا، الذين حضروا ولادتها، أن هذه المولودة قديسة في ثياب مولود رغم ولادتها القيسرية “المبتسرة”، ورغم عدم إكتمال شهور حملها، وأنهم شاهدوها بأعينهم، التي سيأكلها الدود، تكاد تمشي على قدميها، وأقسم البعض على سماعها تتحدث وتحث الناس على اللحاق بأبي علي، على صعود الجبال مساكن النسور،  والإقتراب أكثر من حدود السماء، هناك على شواطئ الشمس وضفاف النجوم، وحذرتهم من أن يظلوا كالحشرات التي تختبئ جبنا تحت قشرة الأرض، وأنها أعادت مرات بيت شعر لأبي القاسم الشابي يقول فيه:

“ومن لا يحب صعود الجبال    يعش أبد الدهر بين الحفر”

وأن لا يهابوا الموت كما قال أبو الطيب المتنبي:

“فطعم الموت في أمر حقير   كطعم الموت في أمر عظيم”

وذهب البعض أبعد من ذلك ليؤكدوا أنهم خالوها أو رأوها بأم أعينهم وهي تتأبط سلاحاً بين ذراعيها، وأنهم شاهدوها تتحدث مع أبي علي ويخططان لشيء ما، وأن “هنية” الجديدة التي سرعان ما ستصبح صبية بهية جميلة قوية، كما هي بنت أمها الشهيدة وجدتها الحكيمة، فهي في ذات الوقت بنت جدها القابع في سجون “بني صهيون” منذ ما يزيد عن عقد كامل، وأن من قال بأن “فرخ البط عوام” لم يكذب أبداً.

غرسنا “هنية مثلما نغرس شجرة زيتون في قلب الأرض، ووضعت وردة جورية حمراء على قبر “هنية” إنتزعتها من شجيرتها الجورية، ونهرتني أمي قائلة:

ـ عليك أن تزرع شجرة لتنبت ورداً لا أن تقطف وردة من حضن أمها، إتركها لتنجب بذوراً لتستمر بها حياتها.

قلت:

ـ هنا؟ أأزرع جورية تحت شجرة الزيتون ياأمي؟

قالت:

ـ لا، فهنا ستبرعم “هنية” وتزهر ورداً لم تره قريتنا من قبل، إزرع في أي مكان، ف”هنية” تحب الورد الجوري محمولاً متباهياً فخوراً بين يدي أمه، إزرع واملأ المساحات وردا وقمحا وأملاً وحبا ورصاصاً وزيتون، هكذا فقط تثأر لدماء هنية.

في اليوم التالي، نظرت في عيون “هنية”، كانت عيوناً سوداء بلون الأرض، وبشرة رقيقة جميلة بلون القمح، وبدت لي أنها تريد أن تقول شيئاً، فوجدتني أمسك فأساً في يدي، وصرت أدق قلب الأرض، أنتزع شيئاً من أحشائها لأغرس جورية فيه، أزرع شجيرة هنا وأخرى هناك، لتملأ القرية بعطرها الفواح، و”هنية” تنظر إلي وتبتسم من الأرض ومن السماء.                                                                                                                                         محمد النجار

 

بعض العشق قد يشفي

ظل حنا يجادلني طوال سنوات، بل يدافع عن هجوماتي المتتالية على ” دينه المُحرّف”، يغضب أحياناً ويحزن أياماً ويصمت معظم الأوقات، كان يأتي بالحجج متهادياً مفسراً مؤكداً على صحة معتقداته في أول الأمر، مثلي تماماً وربما أكثر، وكنت عندما تضغطني حججه وتقيدني تفسيراته أقذفه بحديث نبوي من صحيح البخاري أو صحيح مسلم يفقده توازنه ويعيد الأمور إلى بداياتها، وسط ضحكات صديقنا عاهد، ذلك اليساري الذي لم يشارك أينا رأيه أو حججه يوماً، والذي طالما رمى بوجهينا عباراته الناهية، لتضع حداً لعنادنا، وتوقف عباراتنا قبل أن تتحول إلى كريات من كُرْه، تنمو وتكبر ككريات الثلج عندما تتدحرج، فيضحي الكُرْه سيفاً للذبح بيد الدين، ويصير الدين أداة بيد الأعداء، وطريقاً لهم لإختراق جدران البيوت وتفتيت الإخوّة وتقسيمها، ونكون نحن الوسيلة، كذئاب حيناً وخراف حيناً آخر كما قال.

قال لنا ذات يوم:

ـ أنا لا أفهمكما، ماذا يهمكما بماذا يعتقد الآخر، سواء أكان مصيباً أو مخطئاً؟ ماذا يزعجكما في الأمر مادمتما تعتقدان أن الله مَنْ سيبُت بالأمر وليس أيكما؟ ولماذا يؤرقكما الأمر إلى هذه الدرجة؟ ألا تستطيعان النوم وأنتما مختلفان؟

ويتابع بعد أن يسحب نفساً من سيجارته المتقدة إشتعالاً من طرفها البعيد عن فمه:

ـ ألم تتساءلا يوماً كيف تعايش أجدادنا طوال القرون الفائتة؟ كيف جمعهم الحب والوئام والتزاوج وصلات الرحم والقربى؟ ولماذا لم يقم أحد بطرح مثل هذه الخلافات حتى الأمس القريب؟ لماذا بقينا قريبين من بعضنا رغم إختلاف مذاهبنا وطوائفنا وأدياننا ومعتقداتنا؟ لماذا كان ما يجمعنا أضعاف ما يفرقنا؟ ثم من المستفيد من تسعير هذا الخلاف بيننا؟ بل لماذا ممنوع في بلاد من يُحرضوننا، المس بمعتقدات الآخرين مهما كانت، ومطلوب وضروري في بلادنا تسعير هذا الخلاف؟

كنت أرد عليه كعادتي:

ـ أنت يساري ولا تؤمن بما نؤمن، فاتركنا نتحاور في أمور دينينا.

إجاباته كانت حاضرة دائماً، كأنه رتب كلماتها منذ ليال بعد معرفة مسبقة بأقوالي واسئلتي، فكان يقول:

ـ ألا تلاحظان وكأنكما تأتيان من أجل المناكفة فقط؟ لم نعد نتحدث عن أمور أخرى، ولا أدري بماذا يهمك أو يقلكك بماذا يعتقد الآخر؟!!!

كان يجمعنا سوياً عند توجيه ملاحظاته، رغم معرفتنا جميعاً أنني أنا مَنْ كان يلح على مثل تلك الحوارات والأحاديث، يسكت قليلاً ويتابع وكأنه إلتقط فكرة داهمته فجأة كما يلتقط زهرة، ويتابع:

ـ تتغنيان، أنتما الإثنان، بإبداع الله في خلقه، بتنوع هذا الخلق وجمال ألوانه، لكنكما تصران، في ذات الوقت، على فرضية اللون الواحد!!! ألم تدركا بعد أن الله لو اراد الكون لوناً واحداً لكان الأمر عليه أيسر وأسهل؟ لكنه آثر خلق الكون ألواناً متعددة وتضاريس مختلفة وفصول عديدة، فخلق من الحيوانات الآلاف ومن النباتات الملايين وكذلك الحشرات، حتى البشر خلق منهم الأبيض والأسود والأصفر والأحمر وما بينها، والأمر نفسه بالنسبة للديانات، فلو أراد ديناً واحداً لكان له ما أراد، ولجعل منا نسخة كربونية وأنهى الأمر، لكنه أراد ديانات وأفكار ونظريات عديدة ومختلفة.

قلت وقد استفزني حديثه:

ـ لكنك لا تؤمن بكل ذلك، ناهيك عن الإيمان بالله، وأنا لم أرك يوماً تمارس الطقوس الدينية والعبادات.

قال بكل هدوء، وكأن ما قلته لم يستفز شيئاً فيه:

ـ ليس من شأنك بماذا أؤمن أو بمن، وأنا لا أعرف من أعطاك الحق بمراقبة قلوب البشر والحكم عليها أيضاً، والأكيد أن الله لن يُميزك عني كونك تُصلي وأنا لا، فكما أعلم أن الدين معاملة، أليس كذلك؟ ورغم ذلك عليك أن تعرف أن اليساريين لا خلاف لهم مع الله، خلافهم مع مَنْ يستغل الله ويجعل منه أداة استرزاق، مادة يضحك بها على بسطاء الناس، فيحول الخالق من عادل إلى تاجر، خلافهم مع مَنْ يجعل المظلوم يرتاح لظلمه، يستأنس بعبوديته ويستسلم لها، وبدلاً من أن يستنهض الثورة فيه يربطه بحبل الخنوع والإستزلام والذل، منتظراً الموت ليدخل الجنة، ليأكل ويشرب ويمارس الجنس وينام، ليعوض ما ينقصه في الدنيا، بدلاً من أن تكون الجنة مكان الثوار البررة، الذين لم يقبلوا الذل ولا المهانة، الثائرين أول الأمر على “أولي الأمر”، من حكام الظلم والجهالة والفساد، فتكون لهم الجنة ليرتاح الجسد وتهنأ الروح.

الأمر الآخر وكأنك ياصديقي تتناسى أننا، نحن اليساريون، أبناء هذا المجتمع، بإيجابياته وسلبياته، تاريخنا من تاريخه ومستقبلنا من مستقبله، لذلك لطالما روت دماؤنا أرضه، وظل لحمنا على جدران زنازينه، وكنا السباقين في الحوض عن كرامته، فهل تُنكر؟

حواراتنا تلك جردت علاقة صداقتنا من قوتها، فوهن عودها وضعفت أوراقها وتساقطت ويبس ساقها، وصارت لا تحتاج إلّا لمن يهز جذرها ويقتلعها من جذورها، فتباعدت لقاءاتنا وصارت تعتمد على المصادفات، وسرعان ما صرنا نتجنب حتى تلك المصادفات كي لا نحرج أنفسنا، الأمر الذي جعلني أعيد الأمور برأسي مجدداً، فوجدت أنني أنا من كان يختلق الحوارات، وأن حنّا كان في معظم أوقاته مدافعاً وليس مهاجماً، ورأيتني أخال نفسي كرجل مدجج بالسلاح يهاجم إنساناً أعزلاً، ورغم كل محاولات تبريراتي رأيتني لا أستطيع الإجابة على سؤال عاهد الجوهري:

ـ ما الذي يقلقني ويريبكني ويضج مضجعي في إيمان حنا ودينه، سواء أكان صحيحاً أم لا؟ وكيف استطعت التدخل في صلاحيات الخالق؟ ومن الذي أعطاني هذا الحق؟

لكن وكما يقول المأثور الشعبي أن ” الكُفْر عناد”، فإنني رأيت في تراجعي ضعفاً وفي إعتذاري هواناً، وفضلت بتر العلاقة على الإعتراف بذنبي، وعليه قررت مع نفسي أن لا أتراجع قيد أُنملة حتى لو افترقت طرقنا وتشظت علاقتنا في الهواء نتفاً.

أحداث واقعنا ظلت كالعادة تجعل للطرق المتباعدة تقاطعات لا يعرف أحد كيف جاءت ولا من أين، وصرت أشاهدهما سوياً جيئة وذهاباً، وكنت أعلم أن سر قربهما أنهما لا يتناقشان ولا يتجادلان في المعتقدات، أو المحرمات كما أسماها عاهد، تماماً كما كنا سابقاً قبل أن تقتحمني مشاعر الكُرْه التي لم أعهد لها مثيلاً في حياتي أبداً، أو مشاعر “عشق اللون الواحد” كما سماها عاهد، وأضاف:

ـ حتى أنك لم تحسن إختيار اللون، فاخترت الأسود الدامي الذي لا شفاء منه دون نفي الآخر والقضاء عليه، وصولاً للقضاء على الذات أيضاً.

كنت أذهب للصلاة في الأقصى عندما أغلقه “بني صهيون” في وجوه المصلين، وكنت أرى نفسي كالأعراب “أشد كفراً ونفاقاً” لو لم أفعل ذلك، ولم أتخيل مسلماً مؤمناً لا يحوض عن أحد أقدس المقدسات الإسلامية، المسجد الأقصى، وكان الجند يمنعوننا ويهاجموننا بكل ما لديهم من عدوان وكراهية، فكنا نتجمع ونصلي على أبواب البلدة القديمة، على باب الأسباط وباب الخليل وباب الساهرة، وعلى مدخل باب العامود ودرجاته، وفي طرقات القدس القديمة القريبة من ساحات المسجد الأقصى، وأحياناً على باب كنيسة القيامة نفسها، والجند يحيطون بنا من كل جانب، وكنا نتكاثر على أبواب كل صلاة، بل ودون مواعيد الصلوات، ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم، وكلما زادت أعدادنا تصاعدت في دواخلنا طاقات لم نعهدها من قبل، وتزايدت قناعتنا بحتمية إنتصارنا، الأمر الذي كان يمدنا بطاقة جديدة متجددة لم نعهدها من قبل، فكنت أحمد الله على “نعمة الإسلام” التي أنعم بها علينا، وتجليها بهذه الزيادة البشرية المستمرة، حيث الناس نهر متدفق متتابع، يزداد في كل لحظة وكأن أمطار الدنيا تصب في مجراه وحده، وتوسع نبعه وتدفقت مياهه لتغطي ساحات القدس جميعها وشورعها وأزقتها.

كنت قد تهيأت للصلاة في باب الأسباط، بعد أن وصلت متأخراً قليلاً بسبب حواجز قوات الإحتلال، وتفاجأت بهما الإثنان، حنا وعاهد، يصطفان مع بقية المصلين، حنا يحمل صليبه وكتابه المقدس، يقوم بشعائره وسط صفوف المسلمين، يقرأ في سره من الكتاب وتقوم يداه بالتصليب، وعاهد يسجد ويركع ويصلي كالبقية، كدت أكذب نفسي، وأتهم عيني بالعمى، وخجلت لأعيد النظر مرة أخرى نحوهما، وصليت وركعت وسجدت وأنا مشغول البال سارح الذهن، ولا أعرف إن كان الله سيقبل صلاتي تلك أم يرفضها لكثرة ما تشابكت في رأسي التساؤلات والأفكار، ولم ينقذني من أفكار رأسي سوى قنبلة غاز انفجرت بين يدي وأنا أهم للسجود، فأوقفتْ سجودي وأفكاري وأغرقتْني في بحر من السعال حتى الإغماء، أفقت بعدها بوقت لا أعرف مدته على بصلة فلقها عاهد بيديه القويتين ووضعها على أبواب أنفي، وأنا أريح رأسي بين يدي حنّا، لا أعرف الشعور الذي داهمني، كانت تتدفق دموعي كينبوع، ليس بفعل الغاز وحده الذي داهمهما قبل حين، ومرت حواراتي العقيمة كلها دفعة واحدة أمام وجهي، أليس هذا الذي عاديته بسبب دينه؟ أليس ذلك الذي قاطعته بسبب معتقداته؟ وما هي ميزتي عنهما؟ ومن يعلم إن كنت أقرب منهما إلى الله؟ وقلت سائلاً:

ـ أنتما؟!!!

قال أحدهما، ولم أميز صوت مَنْ منهما بالضبط:

ـ أكنت تعتقد أن الوطن لك وحدك؟ دينك ومعتقدك لك، لكن الوطن لنا جميعاً.

ولا أعرف ما الذي ذكرني ببعض كلمات عاهد البعيدة، عندما كان يكرر:

ـ إن العشق ياعزيزي إله، إله واسع الأفق ورب كبير، يحب القمح والربيع والألوان والزهور على إختلاف ألوانها، وأكثر من ذلك يمنح الحياة، ولمّا تستعصي قدماك عن حمل سنوات عمرك أكثر، وتتيبس العروق في جسدك، وتضيق على دمك الطرق والأزقة ليصل لكامل أنحاء جسدك، فيبهت الجسد ويصفر لونه كأوراق شجرة في طريقها إلى الإنتحار، يمنحك السكينة والهدوء والطمأنينة، ويحملك على أكتافه ليمنحك حياة متجددة أخرى.

كان يتحدث سارحاً بعيداً متأملاً في ملكوته الخاص، عيناه تنظران وراء الأفق، ويتابع قائلاً:

ـ كل ذلك مشروط بأن تكون عاشقاً… فهل تفعل؟

وسرعان ما صحح له حنا:

ـ تقصد فهل تقدر؟

حملاني إلى خارج الإزدحام، ابتعدا عن دوريات الجيش التي ظلت تعتقل الجرحى وتنهال بالعصي على كبار السن كونهم لا يستطيعون ذلك مع الشباب الذي ظل يزداد تصميماً، وحجارته تهزم رصاصاتهم، وكنت أتساءل دون صوت، كم من هؤلاء لا أعرفهم بين جموع المصلين لا يحملون إنجيلاً ولا يبوحون بمعتقدات؟ وكيف استطعت الحكم على هؤلاء الناس ومعاداتهم؟ وأدركت حينه بالذات أن الله أنعم على كل منا بدينه أو بمعتقده أو بمذهبه، بغض النظر عن ماهيته، لكن ظل سؤال متمرد يقف أمامي مثل مارد متحدياً:

ـ هل كنت سأدافع عن “كنيسة حنّا” لو تعرضت للخطر؟!!! وهل كنا سنفتح مساجدنا ليقرعوا منها أجراسهم كما فتحوا لنا أبواب كنائسهم للآذان وإقامة صلواتنا وطقوسنا الدينية؟

ولاحقتني الأسئلة وتابعتني، ووجدتني لا أستطيع التخلص منها وهي تدق جدران جمجمتي، ووقف أمام عيني السؤال الأكثر خطراً ومباشرة ينتظر جواباً:

ـ هل كنت أستطيع حمل السلاح في وجه صديقيّ حنا وعاهد، بسبب دين أحدهما ومعتقدات الآخر، في ظرف مختلف؟

أربكني الأمر إلى درجة الشلل، فعجز لساني عن النطق، وكبّلتْ عقلي أصفاداً من حديد، ولأول مرة أشعر بثقل القيد على العقل واللسان، وحاولت مطاردة السؤال وإبعاده الى الجحيم بعيداً، لكنه ظل يزنّ في تلافيف رأسي مثل ذبابة لا تهدأ، تغيب وتغيب لتعود وتحط على ذات المكان، ولأول مرة أفشل في طرد سؤال يلاحقني ويطاردني مثل بضعة جنود، مدججين بالسلاح، يحيطون بي من كل جانب ومكان، في تلك اللحظة بالذات أدركت كم أنا بحاجة لبعض العشق، وأن بعض العشق قد يشفي.

إلتقينا بعد ذلك، كنت قد بدأت أعود إلى ذاتي، ويعود إليّ صوابي، ووجدتني أقتحم عليهما وحدتهما، أعبث بخلوتهما وأرميها بعيداً، تماماً كما كان يفعل كل منا من قبل، ولم أتركهما اثنين قط، بل زرعت نفسي معهما لنصير ثلاثة، مدركاً أنه حتى “الموت مع الجماعة رحمة”، وأن الجمع مهما كان قليلاً يبقى جمعاً، وهو، في معظم الحالات، خير من المثنى وربما أجمل.

محمد النجار

الحال واحد

كان يظل يحدثنا عن فترات التحقيق التي مرت معه أو عليه، كأنه يريد استرجاع تلك اللحظات، وكنت تراه يضحك أحياناً بملء فمه وكأنه ثمل، ومرات قاطب الجبين جاداً كأنه في مأتم، وذلك حسب الحالة التي يريد أن يحدثنا عنها، حيث كان على مدار سنوات لا يكاد ينتهي التحقيق معه حتى يبدأ من جديد، وكأنه مقيم دائم في الزنازين، حتى أن بعض رفاقه كانوا يُمازحونه عندما تطول إقامته خارج الزنازين قليلاً قائلين عند لقائه:

ـ أما زلت خارج الزنازين؟ ألم تنتهِ فترة خروجك بعد؟ كم يوماً باقي لك لتعود؟!!!

ويضحكون، وبعضهم يُقبّله قائلاً:

ـ ربما لن نراك غداً أو بعد غد، لنودعك من باب الإحتياط!!!

ويضيف آخر هامساً:

ـ أما زال هناك الكثيرون ليعترفوا عليك؟ لو كنت مكانك لأخذتهم مقاولة وخلصت…

وتتعالى الضحكات من جديد، وتطل كلماته الضاحكة من بين ضحكاتهم:

ـ أتعتقد أنني لم أحاول؟ حاولت لكنهم رفضوا فتح باب المقاولات، قالوا كل حالة لوحدها…

وكنا نضحك كثيراً، وهو يضحك مثلنا وأكثر، لكن هذه المرة كان يتحدث ويعتصره الألم، لكن الإبتسامة لم تفارق محياه، بدأ الحديث قائلاً:

لم يكن قد مر على وجودي في الزنازين الكثير، أسابيع ثلاثة ليس أكثر، كانت قد تركت عيني في آخر يوم من أيامها، تفرد جفنيها لحافاً تتغطّى به وتنام  على بلاط الزنزانة بضع سويعات، قبل أن يأخذوني لمحكمة التمديد ” العادلة” طالبين تمديداً إضافياً إستكمالاً للتحقيق، بعد أن كنت قد دخلت مرحلة “الهلوسة الإجبارية” بسبب الحرمان من النوم، الذي كان إسلوباً متبعاً في تلك الأيام، وكِدت، عندما أخرجني الجنود من عتمة الزنازين وظلام كيس الرأس إلى شمس الطريق،  أن أفقد البصر، عندما إنهالت كل خيوط الشمس دفعة واحدة إلى بؤبؤي عيني، ولم تنفع معها شيئاً تحدُّب عيني وتقلصها، وسرعان ما ضمتنا قاعة المحكمة، بعد أن مررنا بالعديد من الناس المتجمعين ليحضروا محاكم أبنائهم، وكنت قد فردت إبتسامة غبية عريضة فوق محياي، ظاناً أنها كافية لتُغطّي أرَقي وتعبي وهزالة جسدي، نتاج قلة النوم وشدة التحقيق وشناعة التعذيب، لأخفيها عن عيني المرحومة أمي وعيني زوجتي، فأنا لا أريد أن أضيف قلقاً على قلقهما، وكأنني لا أعرف أن هذا السيل من التعب والتعذيب لن توقفهما أو تغطي عليهما، بضع سويعات من النوم مُتجَمِّلة بإبتسامة غبية، وأن إرهاق الجسد ووزنه المفقود لن تسد عطشهما بضع قطرات من الماء، أو تذهب بلون الجسد الموات بضع جرعات من الهواء النقي، فظهرت ابتسامتي على حقيقتها، متعثرة مترددة بلهاء حمقاء أضحك بها على نفسي فقط، وسط دهشة كل من كان يعرفني من الموجودين.

مددوا لي “الإقامة” لخمس وأربعين يوماً إضافية، أقل بخمسة أيام مما طلب الإدعاء العام، فالدولة دولة ديمقراطية تعرف كيف تعطي للإنسان حقه!  فما بالك إن كان المقصود ب”مخرب” لم تثبت إدانته بعد، رغم كل “صنوف وجبات المداعبة” المقدمة في الزنازين، معيدونني لنفس ما كان عليه الأمر من قبل المحكمة، لكن بمزيد من الضغوط الجسدية والنفسية.

ـ إننا ضعفاء في الحساب، لقد أخطأنا في العدد، لنبدأ العد من جديد، إعتبر أن التحقيق قد ابتدأ من هذه اللحظة، وأن هذا اليوم هو يومك الأول….ها ها ها.

قال المحقق الملقب بأبي داوود، وكنت مدركاً لأساليبهم الخبيثة التي تحاول التطاول على معنوياتي العالية.

كنت مقيداً على كرسي صغير يكاد لا يتسع لطفل ذو أعوام عشرة، وكان ظهر الكرسي يدق أسفل عمودي الفقري حتى منتصفه دقات متتابعة متتالية مدروسه، مع كل حركة يقوم بها جسدي مُضطراً، خالقاً ألماً في عمودي الفقري ومرضاً إكتشفته بعد سنوات، وكنت دائم التحرك من الإنهاك والتعب والألم وقلة النوم، في محاولات فاشلة لأجد وضعاً أقل ألماً لظهري المنهك.

كنت أثناء عودتي من رحلات الهوس الطويلة، تلك الرحلات التي بقيت محافظاً بها على عدم تسلل أي شيء من أفكاري أو أسرار رأسي على لساني، وبالتالي خداعي لتخرج متقافزة خارج فمي، ليلتقطها الجندي المناوب ويوصلها لرجال المخابرات، الأمر الذي جعل “خلية الحراسة” في رأسي تستنفر وتغلق فمي بمفتاح وترمي به بعيداً، وتستحضر أمامي ذكريات التحقيق في المرات الماضية التي لم تهن فيها عزيمتي ولم تضعف مرةً إرادتي، فأُحرض نفسي ذاتياً على آلة قهرهم التي تحاول هزيمتي، فصرت أسترجع، مع نفسي، بعض أحداث المرات الماضية:

  •      *      *

في تلك الجولة البعيدة من التحقيق، نقلوني من مركز التحقيق في المسكوبية إلى رام الله، حيث كان أخي الصغير، محمود، ينتظر محاكمة نتيجة إعترافات الآخرين عليه، وموجود داخل غرف السجن الذي أنا صرت في زنازينه، وكان قد إجتاز فترة التحقيق الطويلة القاسية التي مارسوا فيها كل أنواع التنكيل الجسدي والنفسي معه، بما في ذلك إستهداف جرحه النازف الذي تسببوا له به قبل الإعتقال، وبالضغط على العملية الجراحية التي لم تستطع أن تنتقل به حتى إلى شبه ما كان عليه قبل الجرح، فبقي جرحاً ينز دماً وألماً بإستمرار، لكنه لم يجعله يضعف ولو برهة واحدة.

قال لي لاحقاً:

ـ لقد أرادوا قتل إرادة الصمود فيّ، كانوا يحاولون قتل الشهيد ابراهيم الراعي للمرة الثانية أمامي، فكل ما كان يعنيهم أن يقنعوني بأن الشهيد قد إنتحر، الأمر الذي يعني أنه لم يتحمل التعذيب ولجأ إلى الهروب إنتحاراً، يعني انتزاع رمزيته الكبيرة التي خطها بدمه.

قلت:

ـ وربما كانوا يُهيئونك لتقبل فكرة أن الشهيد إعترف قبل أن ينتحر، وما عليك إلاّ الإعتراف!!!

قال:

ـ أتعرف أنني لم أصل بتفكيري إلى هذه الدرجة من الإنحطاط؟ لكن من مثلهم ممكن أن تنتظر أي شيء وكل شيء.

كان يتهيأ لممارسة بعض التمارين الرياضية التي تعوَّد أن يمارسها في تدريباته للحصول على حزامه الأسود في الكراتيه، وأوقفوه عنها من خلال الجرح الكبير في أعلى فخذه، أكمل قائلاً:

ـ أجبتهم أن الشهيد الراعي لم ينتحر، وقلت “أنتم القتلة، والراعي وأمثاله لا يهربون بالإنتحار”، سكتُ قليلاً وأكملت وكأنني قد تذكرت شيئاً: ” ما كنت أعرف أن الشهيد يؤرقكم حتى بعد إستشهادة، بعد أن إنتصر عليكم بشهادته”.

ما كنت أعلم أن الأمر يؤلمهم إلى هذا الحد، قال لي أبو داوود:

ـ يبدو أنك تريد الإنتحار مثله؟!!!

أدركت أنهم يهيئون لقتلي، قلت:

ـ ومثلي لا ينتحر أيضاً، فالأمر ليس غريباً عليكم، هيا أقتلوا أيها القتلة.

وبدأت أعد الساعات لألحق بالشهيد

ربما لم يكونوا يريدون قتلي، كانوا يريدونني منتحراً بالإعتراف، الإعتراف على أناس كانوا قد وضعوا ثقتهم بي، وكنت أعلم مع نفسي أنني حر في كل شيء إلا خيانة ثقة الآخرين، إلا جلبهم إلى هذا المكان، فمن أعطاني حق حرية تقرير مصير البشر؟

لا أعرف ما الذي جعلهم يتراجعون عن قتلي، لكنهم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور من التحقيق المتواصل الصعب، قدموا لائحة إتهام بحقي، أحضروني من زنازين “بتاخ تكفا” لزنازين رام الله، حيث علمت من زيارة الوالدة لي أنهم ألقوا القبض عليك بعد مطاردة، وأنك موجود في الزنازين.

قلت لأخي شارحاً:

ـ كنت حينئذٍ مشبوحاً على الكرسي “القزم”، مكتف الأيدي خلف ظهري، قدماي مقيدة في اقدام الكرسي، ربما كي لا يهرب أحدنا، وجسدي منهك معدود الحركات مقيدها، عندما جاء أحد الجنود منادياً على إسمي، واضعاً في جيب قميصي ورقة تحمل ترويسة ظاهرة، لائحة إتهام، الأمر الذي يعني أن التحقيق معي قد إنتهى، وأن “الشبح” المتواصل والتعذيب هو من باب الإنتقام فقط، كوني، ربما، بقيت مصراً على عدم الإقرار بالإعترافات اللواتي أدلى بها البعض عليّ، بل وواجهت المعترفين أنفسهم منكراً معرفتي بهم جميعاً.

كان يأتي ليهمس في أذني بين وقت وآخر شخص، حاملاً لي سلاماً من غرف السجن منك، ويقول بصوت هامس، وتراءى لي صوت خائف، كأنه يتلفت حواليه خوفاً من أن يراه أحد ويلقي القبض عليه، يقول:

ـ بيسلم عليك أخوك محمود، ويقول لك شد حيلك…

ثم يختفي القائل في مكان لا أعرفه، فالكيس العفن الذي غمروا به رأسي، لم يكن يسمح لعيني بإلتقاط الحركات ورؤيتها، تماماً كما كان يمنع ذرات الهواء من التدفق لرئتي، لكنه لم بستطع أن يوقف عقلي عن التفكير، الذي قادني بأن الذي أوصلني الخبر ليس سوى الأسير الذي يحضر لنا الطعام، ومن غيرة ممكن أن يتردد بين السجن والزنازين، أو أحد “العصافير، لكن هذا النوع من “الطيور” بائس خائف لا يقوى على حمل رسالة من هذا النوع، وإن سمعها فلا يقوى على إيصالها إلا الى رجال المخاربات.

أضربت عن الطعام إحتجاجاً على إستمرار التحقيق معي، فما داموا قد وجهوا لي لائحة إتهام يعني بأن التحقيق قد إنتهى معي، وسألت من حضر من غرفة التحقيق قائلاً، والذي لم أكن قد قابلته من قبل أبداً، ولم يكن سوى أبو داوود الجالس قبالتي الآن:

ـ لماذا تستمرون في شبحي مادمتم قدمتم لائحة اتهام بحقي؟

فقال ضابط المخابرات “أبو داوود” الذي لم أكن أعرف اسمه:

ـ إفعل ما بدى لك، نحن لا شأن لنا بك، أنت منذ حضرت الى هنا من مسؤولية فرع السجون وليس قسم التحقيقات.

وجاؤوا من قسم السجون، وعرضت عليهم مطالبي لوقف الإضراب، بما في ذلك النزول من الزنازين إلى أحد أقسام السجن، وكان في ذهني رؤية أخي الجريح.

أوقفوا عملية شبحي التي كانت مستمرة، أدخلوني زنزانة مع آخرين، وصاروا يفتشون زنزانتي، لم يبقوا فيها شيء يؤكل، وكانوا يتجسسون على باب الزنزانة عندما يحضرون الطعام ليتأكدوا من أن أحداً لم يُخبئ لي شيئاً، وأنا مضرب فعلاً ولا آكل شيئاً، وفي اليوم الثالث وعدوني بإنزالي إلى غرف السجن خلال يومين إذا ما أنهيت إضرابي، وهكذا كان، لكني لم أجدك هناك كما تعلم، كانوا قد نقلوك إلى سجن آخر، زيادة في عذاب الأهل وفي شوقنا نحن الأخوان.

  •      *      *

هذا ما كان آنئذٍ، وغيب السجن أخي لسنوات، وخرجت أنا بعد حكمي القليل، لأعود هذه المرة للتحقيق من جديد.

سحبني الجندي من كيس رأسي لغرفة التحقيق، وكان هو هناك، أبو داوود نفسه، يُقلِّب ملفاً أمامه، ورفعوا الكيس عن رأسي وأدخلوني، وقال في محاولة لزرع الخوف في جسدي:

ـ لنبدأ العدد منذ الأن، إنك لا تعرف من هو أبو داوود!!! لم تعرفني بعد، لذلك…

ـ بلى أعرفك جيداً…

قلت مقاطعاً وتابعت:

ـ يبدو أن ذاكرتك قد بدأت تخونك.

ـ أتعرفني؟!!! أنا لا أتذكرك.

ـ لكني رغم ذلك أعرفك، ألا تتذكر الذي أضرب عن الطعام في الزنازين في العام الماضي؟ وجئت لتسحب مسؤولية جهاز المخابرات وترميها على قسم مصلحة السجون؟

نظر في الملف الذي أمامه، قرأ الإسم مجدداً، نظر إلى وجهي وكأنه يريد التأكد من شيء ما، وسرعان ما دق بيده على الطاولة وقال:

ـ أهلاً يا أبا عمر، لقد تذكرتك الآن، نعم تذكرت.

كنت أعتقد أنه يكذب، فالكذب أهم ما يميز رجال المخابرات، وأكمل:

ـ أعرف أنك لا تصدق ما أقول، لكني سأثبت لك ذلك، أتذكر عندما كنت مشبوحاً في ساحة الزنازين، عندما همس في أذنك شخصاً حاملاً سلاماً لك من أخيك محمود؟

ظننت أنهم أمسكوا بحامل الرسالة حينها، وسكت كي لا أأَكد أقواله أو أنفيها، وأكمل:

ـ ذلك كان أنا، نعم أنا، أعرف أنك لن تُصدقني، لكن يمكن أن تسأل أخيك.

وأكمل:

ـ كنت قد مررت على غرف السجن عندما رآني أخوك، ناداني من بعيد: “أبو داوود”، أخي عندكم في الزنازين، سلم لي عليه، قل له أن يشد حاله”، فقلت له “سوف أفعل”، لكنه لم يصدقني. هو لم يقصد السلام بحد ذاته، كانت رسالته لي وليست لك، أراد أن يقول لي “إن كنت أنا الطفل انتصرت عليكم فما بالك بأخي صاحب العديد من التجارب المنتصرة ضدكم”، وقررت أن أوصلك الرسالة دون تغيير حتى دون أن أعرفك.

ـ لماذا؟

ـ لا أعرف بالضبط لماذا، أعرف أن إجابتي هذه لا ترضي فضولك، ربما لشعوري هذه المرة وعلى غير العادة أن أثبت له وعدي، أو أنكم لستم وحدكم الصادقين، أو ربما إحتراماً للرجال الرجال حتى لو كانوا أعداء.

وسكتنا، وعاد ينظر في ملفي الذي أمامه، فقلت من باب تأكيد ما أكده:

ـ تعني أن محمود لم يعترف؟

قال وهو يعرف أنني أعرف:

ـ لا لم يعترف

قلت:

ـ واستخدمتم جرحه لتجبروه على الإعتراف؟

ـ أنت تعرف، الغاية تبرر الوسيلة أحياناً

قلت:

ـ لماذا أحضرتني إلى هنا؟ أتريدني أن أعترف؟

قال مستغرباً سؤالي وبعد أن اقترب مني:

ـ كنت أريد ذلك، وربما ما زلت أرغب بذلك، لكن…

وأخفض من صوته واقترب أكثر وتابع:

ـ  لعلها تكون أكبر حماقة ترتكبها في حياتك، والله أكبر عيب يمكن أن تفعله، الطفل يصمد وأنت تعترف؟!!!بالنسبة لي لقد انتهى التحقيق معك، فقط “لنُدردش” قليلاً …

كان يدرك أنني لن أعترف، لذلك قال ما قاله، وتحدث طويلاً، سألني عن الحكم الذي حكموه على أخي، ثم سلّمني لآخر ليتابع معي التعذيب والتحقيق، لكنه لم يحقق معي بعد ذلك أبداً.

  •             *                *

سألته حينها من باب الإستفسار أو الفضول:

ـ عن أي مخابرات تتحدث وعن أي زنازين، الفلسطينية أم الصهيونية؟

قال بعد أن تبدلت ابتسامته، وتحولت إلى ما يشبه ابتسامة حزينة:

ـ الحال واحد… لم تعد تُفرّق هذا عن ذاك، كلاهما يكمّل الآخر.

استأذن وتركنا نتحزر لنعرف عن أيهما قد تم الحديث، فالزنازين هي ذاتها وكذلك الأساليب، والمعلومات من نفس الحواسيب، والقيادة واحدة، وصار الأعداء مشترَكين، وأبو داوود موجود عند كلا الجانبين.

محمد النجار

إن لم تستحِ فافعل ما شئت

أكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أن روايته حقيقية، لا تشوبها شائبة، وأن المتشكك أو الملتبس عليه البحث في كتب التاريخ، القديم منه والحديث، متنوراً متبصراً ليعرف ويتأكد من ذلك بنفسه، وأكد أن من الصحيح القول أن النار تخلف رماداً إن لم تسقها بالمزيد من العمل والحطب والبنادق والأفكار، لذلك لا تستغربوا أن يكون الرماد أحياناً ميتاً خالٍ حتى من بعض الشرارات، حيث الأمل مفقود، والنار محاصرة معزولة محبوسة، لذلك فالإبن اللص لا يشبه أبيه الأمين بشيء حتى لو كان من نفس دمه، بل يكاد يُخرج أباه من قبره، محتجاً غاضباً صارخاً به، أن يتوقف عن النذالة والحقارة والعبث، لذا فشتّان بين الأب والإبن، في كثير من الأحيان كما شتان بين الثرى والثرية.

وأضاف الراوي أن الأمر ينطبق على معظم رموز سلطة بني كنعان، منذ نشأتها وحتى تتهاوى على رؤوسهم، من أعلى الهرم، رأسهم ورئيسهم، و”خليفتهم”حتى وإن لم يصم أو يصلي، ولا حتى يقوم الليل إلا لتفقد تكاثر المال في الحسابات والبنوك، مروراً بحاشيته التي باعت وطنيتها وضميرها واستعاضت عنهما النفاق والكذب والتبعية، التي تساعدها في تكديس المال ودفن الكرامة والمروءة والأخلاق.

وأضاف الراوي، معطياً مثالاً على ذلك:

أن هناك من الأسماء ما يتناقض مع أفعال صاحبه، فحين تقول “الطيب”، يمكن أن يعني الخبيث، وأن “الطيب” في “الطيب عبد الرحيم”، هو اسم وليس صفة، وخلافاً لأبيه، فمن أبرز صفات صاحبه، الكذب والنفاق واللعب على الحبال من أجل حفنة مال، ومثال ذلك أن الرجل كان من أكثر الناس إلتصاقاً برئيسه السابق ياسر عرفات، وكان يدافع عنه ب”الباع والذراع”، وخاصة أمام خصمه اللدود المدعوم أمريكياً، والمقبول من الصهاينة العرب كما الصهاينة الأصليين، السيد عباس، وتخال “الطيب” أحياناً قائداً وطنياً صلباً ، يرفض وصول عباس للسلطة على حساب عرفات، أو حتى أخذ جزء من صلاحياته، ويعتبره مؤامرة على الوطن والقضية، وخطوة على طريق تصفيتها، لكن ما أن توفى الله عرفات وجاء خليفة سلطة أوسلو الجديد، حتى صار “الطيب” من أهم أعمدة “الخليفة” الجديد، ويعلم الله أنه لو جاء أي رئيس آخر بما في ذلك “الدحلان” الذي يعاديه اليوم هذا “الطيب”، لانقلب على نفسه وصار من أقرب المقربين له، مقابل الإحتفاظ بمركزه المالي والإقتصادي، وقوته وتأثيره السياسي ، ويقول البعض أن الله وحده يعلم كيف تتم الإنقلابات داخل كيانات هؤلاء البشر، فيصبحون اليوم نقضاء الأمس، ويدافعون اليوم عمّا حاربوه بالأمس. لكن ومن باب نقل الأمانة كما هي يؤكد الراوي، أن الرجل كان رجل ثقة عند رئيسه الأول وولي نعمته الذي علمه وجعله سفيراً ووزره وأعطاه المناصب والمراكز العليا على طول الطريق، وما يؤكد الأمر تسلم الرجل مسؤولية رئاسة اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد ومحاربته، منذ أواسط التسعينات، وحقق الرجل ما تعجز عنه مؤسسات بأكملها وعدتها وعديدها، الأمر الذي “نظّف” البيت الكنعاني برمته من الفساد والفاسدين، ومن “عواهر” السياسة، ومن الطفيليات البشرية والمنافقين، ولم يبق به لا إنتهازيين، ولا متملقين، ولا طفيليين، لذا وصلنا لما وصلنا إليه الآن، بعد مرور عشرين عاماً كاملة على تشكيل تلك اللجنة، وهذا غيض من فيض من إنجازات الرجل، كي لا نتحدث عن إنجازاته في لجنة الحوار مع المعارضة الفلسطينية، أو في داخل الخارجية الفلسطينية وسفاراتها التي لن تجد فيها ولو سفارة واحدة ولا سفير واحد تنخر بهما مخابرات العالم وسفلته، ولن تجد منهم فاسداً واحداً، أو سفيراً غير مؤهل أو لصاً أو عابثاً أو سكيراً أو حتى تاجراً، تماماً كما أعضاء المجلس الوطني الذي هو أحد أعضاءه، والذي يرفع يده به أوتوماتيكياً ويهز برأسه كلما سمع صوت ولي نعمته، وكذلك لا يمكن نسيان دوره، في تعميق الديمقراطية في مؤسسات السلطة وداخل حركة فتح نفسها، وداخل مؤسسة الرئاسة في السلطة، والأهم حفاظه ومن معه من قيادة “رعاها الله” حفاظاً مستميتاً على القرار الوطني المستقل لبني كنعان، لدرجة أصبح كل من هب ودب، بما في ذلك الإمارات “بلا صغرة” تحاول فرض رئيساً علينا!!!…

ويضيف الراوي، أن ما ذكّره بهذا الأمر الآن وفي هذا الوقت بالذات، ما قاله وصرح به هذا الرجل من أكاذيب وقلب للحقائق، عندما صرّح باسم الرئاسة وبإسم الرئيس شخصياً، أنه يدين بشدة قصف أنصار الله والجيش اليمني لمكة المكرمة، رغم أن كل العالم أقر بأن القصف كان لمطار عسكري في جدة “غير المكرمة” وليس ل”مكة المكرمة”، وهو ومن حوله يعلمون ذلك، ثم و”ما دمتم تقولون أنكم حياديون، فلماذا لم تستنكروا ولو مرة واحدة وبنفس الطريقة والقياس، وحتى لو من باب رفع العتب، أو التساوي في الإدانات، المجازر ضد المدنيين التي يقوم بها آل سعود، لهذا الشعب الذي قدم للقضية الغالي والنفيس، وكان دوماً في مقدمة الشعوب الداعمة لها وبالدم؟ وإن كان لديكم حرج في موضوع اليمن، فلماذا لم تحتجوا على إعتقال “خالد العمير” الذي حكمت عليه محاكم آل سعود بثماني سنوات من السجن الفعلي لا لشيء إلّا لأنه استنكر حرب بني صهيون وقصفهم لقطاع غزة؟ ألا يستحق الرجل منكم ولو كلمة تضامن واحدة معه ؟وإن كنتم لا تهتمون بالبشر بل بالأماكن المقدسة، فلماذا لم تستنكرون ما قصفه آل سعود من مساجد داخل اليمن؟ ولماذا لم تستنكروا تدمير الكعبة من آل سعود على رأس الثائر جهيمان العتيبي وجماعته؟ أو لماذا لم تستنكروا يوماً تدمير المقابر والمساجد التاريخية، ولا حتى قبور الصحابة أنفسهم على يد الوهابيين في مملكة العهر والظلام؟ وما دمتم بهذا الوضوح وهذه الصلابة مع آل سعود، لمبدئيتكم طبعاً وليس خوفاً وطمعاً، فلماذا لا نرى منكم خطوة عملية واحدة على قتل الصهاينة لأبنائنا؟ أم لأنهم أبناؤنا وليسوا أبناءكم؟ فأبناؤكم يتسوحون ويتعلمون ويتاجرون في بلاد العم سام!!! ولماذا لم ترفعوا صوتكم مرة واحدة وتتقدمون حتى لو بشكوى ضد الإحتلال عل ما فعله بأقصانا وصخرتنا وكنائسنا ومقابرنا إلى محكمة الجنايات الدولية حتى لو من باب إغلاق أفواهنا؟”

ويضيف الراوي قائلاً، فعلاً “إن لم تستحِ فافعل ما شئت”، فإن المذكور ومن حوله من قيادة مهترئة متصدعة، لم يعودوا يستحون، لذلك سرعان ما رفضوا مبادرة السيد رمضان عبدالله شلح، لرأب الصدع في ساحة “بني كنعان”، وأن الأمر كان متوقعاً ولا توجد به مفاجآت، كونهم يأتمرون بأوامر “الفرنجة” و”بني صهيون” و”الأعراب الأشد كفراً ونفاقاً” من آل سعود وأشباههم، ولم يكن يوماً أمرهم من رأسهم أو بيدهم، كما أنهم لن يقبلوا أن يتخلوا عن السلطة أو أن يتقاسموها مع أي أحد آخر، فمن هو، من وجهةنظرهم، ذلك الأحمق الذي يترك من يده “بقرة” حلوب أو “دجاجة” تبيض ذهباً، ويتقاسم حليبها أو ذهبها مع الآخرين؟ وبجانب الخسارة الإقتصادية هذه، سيقل عدد المسحجين والأنتهازيين والطفيليات من حولهم، الأمر الذي يمكن أن يؤدي لفقدانهم القرار الوطني “المستقل” لبني كنعان جميعاً، وينعكس سلباً على قضيتهم كلها!!!

كما أن الموافقة على برنامج الرجل يعني، إعادة تثوير المنظمة، ورفع رايات بنادقها، وهم، وبعد أن تكرشوا وتعودوا رفاهية العيش وبذخه، لا يستطيعون ترك حياة الفنادق الفاخرة “v i p” والتعود على حياة الخنادق، ويعلم الله أنهم كم يودون فعل ذلك لو استطاعوا، لكنهم لا يستطيعون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لذلك فهم يفضلون البقاء كما هم، “كعاهرات الليل”، يقتاتون على فتات بني صهيون من عرب وغير عرب، على أن يغامروا مغامرات تفقدهم حتى هذا الفتات…

لذلك، يؤكد الراوي محمد بن عبد الله الكنعاني، أنهم، وبمناسبة الذكرى التاسعة والتسعين لوعد بلفور، أناس واقعيون، غير مغامرين، مدركون أن لكل شيء في هذا الوجود ثمنه، وأنهم منذ اللحظة التي خُيِّروا فيها بين “السلة والذلة” إختاروا بكل صدق واقتناع، الذلة ثم الذلة ثم الذلة، كثمن لا طريق غيره لتحقيق الذات، وأن الناس ستعتاد على ما يبثونه بينهم من سموم في الصحافة والإعلام، وسيرتدعون من خلال الملاحقات البوليسية والقتل والسجون، تماماً كما اعتادوا على قرار 242 و على ال”لعم” الشهيرة، وعلى التنازل عن الميثاق الوطني، والتنازل في الأمم المتحدة عن أن “اسرائيل” دولة عنصرية، من كل “التكتيكات” التي قاموا بها، وأن “آل عباس” وسلطته وأبناؤه وحاشيته، تدرك أن التكتيك يجب أن يخدم الإستراتيجية، وأنهم يجزمون أن تكتيكاتهم تخدم الإستراتيجية، لكن إستراتيجية بني صهيون، والتي صارت استراتيجيتهم جزء لا يتجزأ منها، وتخدم مشاريعهم وأهدافهم المشتركة، كما أن هذه التكتيكات تدر عليهم الملايين، وبالنسبة إليهم، فإن الكرامة مهما علت وكبرت ووسعت واتسعت فإنها لا تستطيع أن تملأ جيباً واحداً بالدراهم، عِوضاً عن الملايين، حتى أن بعضهم يسخر قائلاً أن الكرامة لا تجلب إلا الفقر، بل هي والفقر متلازمتان…ومهما قيل، فإن الخنادق لا تجلب غير الكرامة، والكرامة وعزة النفس لا تستقيمان دون تضحية، وللتضحية أخطار وطريق طويل متعب خطر ممل، وفي أحسن أحواله لا يجلب المال، لذلك سنوا القوانين “الديمقراطية”، وسمحوا للمواطنين بالتظاهر لتأييد الرئاسة، وبمشاهدة سيادته خطيباً مفوهاً على شاشات التلفاز، وبقراءة الصحف التي تخضع للرقابة، وحرّموا استخدام السكاكين في المطابخ والشوارع والأسواق، ولما استخدم بنو كنعان أسنانهم في تقشير البرتقال لأكله، اقتلعوا أنيابهم حفاظاً على الأمن العام، وسمحوا للشعب بأسره، ولكل من أراد منه أن يتحول إلى “أنعام”، ومن رفض حاولوا إقناعه بالحسنى أو بالسوط ، أن “يضع رأسه بين الرؤوس ويقول يا قطاع الرؤوس”، وصاروا ينشرون السلام بدل الكره الذي كان سائداً في البلاد لصهيون وبنيه، وظلوا يقنعون الناس “أن يسامحوا بحقوقهم لأن “المسامح كريم”، وأن جزاءهم في الآخرة “خير وأبقى”، وقرروا أن يصمدوا بوجه بني صهيون حاملين الرايات البيضاء بكل عز وشموخ، وأن يظلوا يطالبون “بالمرحاض” الذي حشروهم به دون سيادة، بعد أن أخرجوهم من غرف البيت وساحاته الخضراء.           لذلك كان كلما ضربهم المحتل بحذائه على خدهم الأيمن أداروا له الأيسر، ولما ضربهم على الخدين معاً، وب”الشلاليط” أيضاً على أماكن أخرى، تتحسسوا أماكن الألم وتعايشوا معه في بادئ الأمر، ولما تكرر الأمر وتكاثر ترداده تعودوا عليه، ولم يعودوا يحسون به، واختفت آلامه لاحقاً، وابتدأت تداعياته، فأخذوا يثبتون حسن نواياهم، فقاموا وما يزالون بخطف “المخربين” وسجنهم وقتل بعضهم، واعتقال “المشاغبين”، وملاحقة الأقلام “الجارحة” لتكسيرها، وإغلاق الأفواه وكتم الأنفاس، من باب الإلتزام بالمواثيق الموقعة مع بني صهيون، وتابعوا باقتحام المخيمات والقرى والمدن التي ما تزال تفرخ المتظاهرين، لتخريب كل ما تم انجازه حتى اللحظة من أمن وسلام وتطبيع ومحبة، وصاروا يؤمنون بالله وآل سعود وبني صهيون، ويؤمنون بأن البقاء للأقوى كما أكد القائد نتنياهو، لغيرهم وليس لهم، وأما هم فقوتهم تكمن في شدة بطشهم للمشاغبين المارقين المغامرين من بني كنعان، وبشدة ضعفهم أمام بني صهيون، وأما نتنياهو وإن ضربهم بالنعال، فإن نعاله يملؤها “سلام الشجعان” وتُغلفها الأعلاف، وسكوتهم عما يفعله آل سعود وغيرهم، رغم معرفتهم “أن السكوت عن الحق شيطان أخرس”، لكنه أخرس غني وأفضل من متحدث فقير. وكما يضربهم نتنياهو بحذائه هم يضربون الشعب بالأحذية والرصاص، ليثبتوا له وللقاصي والداني جديتهم في محاربة رافضي الخضوع لهم والخنوع لأسيادهم من بني صهيون عرباً وعجم.     ويؤكد الراوي بأنه لا يستطيع فتح ملفاتهم مجتمعين، بل فرادى وبالتقسيط، لأن رائحة ملفاتهم وسيرتهم تزكم الأنوف وتعمي العيون، وأن كمية العفن والفساد والسقوط واللصوصية، يستحيل وجودها بهذا الكم في بقعة جغرافية صغيرة “كمرحاض” أرض كنعان حيث يقطنون، بعد أن تنازلوا عن المنزل وحديقة البيت، الأمر الذي ربما يؤدي لعكس ما يريده من وراء هذه الكلمات، لذا سيكتفي بهذا القدر فقط في هذا اليوم… والله من وراء القصد.

محمد النجار

آخر أيام الرئيس…

استلمت على بريدي الإلكتروني هذه الرسالة، لأخذ رأيي الأدبي والسياسي فيها، رغم أن الكاتب لم يُذيِّل رسالته سوى بحرفين بدلاً من الإسم، ويعطيني الحق بنشرها إذا رأيتها تناسب النشر… وجاء في هذه الرسالة: ” عزيزي السيد محمد النجار المحترم، أرسل إليك هذه المسرحية، لعلها تكون مناسبة للنشر، رغم معرفتي المسبقة أنك لم تكتب يوماً مسرحية، ولا أعلمك ناقداً أدبياً، وأن ما تكتب يزخر بالأخطاء الإملائية والقواعدية، لكني رأيت نفسي أرسلها لك، لا تسألني لماذا، لأنك لن تحظى بالإجابة الشافية، كوني أصلاً لا أعرفها، لذا لندخل إلى صلب الموضوع:

بصراحة لا أعرف إن كانت هذه مسرحية فعلاً، أو قصةقصيرة، أو حتى أحلام يقظة، أو هلوسات يائس، ربما عليك أن تحدد ذلك بعد قراءتها… من جانبي أعتبرها مسرحية والباقي لا يهم…

قبل البدء، يجدر الإشارة ألى أن هذه المسرحية هي عمل متخيل فقط، لا يوجد إلا في عقل كاتبه، وليس له أي علاقة بالواقع، لا من قريب ولا بعيد، حيث وكما أعتقد، لا يمكن أن يوجد لها هناك سنداً أو مُسوغاً حقيقيا، لا في الوقائع ولا الأماكن ولا الأحداث ولا الشخوص، حيث، بالعقل وبالمنطق، لا يمكن أن تجد أنذالاً وحقراءاً وأذلّاء، ولا فاقدين للرجولة والوطنية والحياء داخل أي شعب، ولا قيادة بهذا “الخصاء”، بالشكل الوارد أدناه في المسرحية، فما بالك على رأس شعب كشعب فلسطين أو داعميه من شعوب عربية، وعليه، فإن أي تشابه في الأسماء والأماكن أو الأحداث أو الشخوص، ما هو إلّا بمحض الصدفة، الصدفة فقط، وليس مقصود بأي حال من الأحوال، وبالتالي فإن الكاتب أو الناشر أو حتى القارئ، لا يتحملون أي مسؤولية قانونية أو أخلاقية أو مادية، لذا وجب التوضيح…

“مسرحية من فصل واحد

آخر أيام الرئيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــس

تُفتح الستارة، ليظهر حقل واسع ممتد، بؤر وكتل رملية متفرقة، متقاربة ومتباعدة، بها ما يشبه آبار البترول، قطعان من الإبل والخراف والماعز وجموع من الخيول، محاطة بطائرات حربية ودبابات وأسلحة ثقيلة، وفي وسط هذه الكتلة توجد منطقة تتركز فيها آلات الحرب، وفيها كتلتين بشريتين مفصولين عن بعضهما البعض، وقطعان من الخراف والماعز والخيول، وفوق كل كتلة منهما يتربع بضعة أشخاص، بعضهم بعمامات فوق الرؤوس وبعضهم ببدلات ورباطات عنق، يأكلون المناسف، وقد “شمروا أياديهم إلى ما فوق الكوع”، ويبدوا أنهم يفضلون اللحم على الأرز، ويأسفون على حبيبات الأرز المتساقطة فوق رؤوس العوام، وكان الناس المركوبين عاجزين عن الحركة على ما يبدو أو خائفين، كي لا يزعجون الراكبين، وفي أحيان كثيرة إذا تحرك شخص ما، يتم لكمه ممن يركبه، وأحياناً يتم وضعه دخل سجن بدون إضاءة ولا طعام ولا ماء، الهدف منه إضعاف الأيادي وإخراس الألسنة، يتم إطفاء الأضواء عن المسرح كله، إلا الجزء الأمامي منه، حيث ينتهي أولئك لابسوا البدلات ورباطات العنق من الأكل، لكنهم لا ينزلون عن أكتاف الناس، ولا عن ظهر القطيع، يتم تكبير المشهد أكثر وأكثر، فتصبح وجوه الأكَّالين واضحة وتختفي صور المركوبين، فيظهر تكتل من شخوص بأسماء مختلفة، لا نستطيع أن نكتب أسماءهم حسب الظهور على خشبة المسرح، لأن ظهورهم يكون دفعة واحدة، فتظهر الشخوص المتخيلة بالأسماء التالية:  الرئيس محمود عباس، كبير المفاوضين صائب عريقات، يحيى رباح، عزام الأحمد، الهباش، جبريل الرجوب، محمد الدحلان، الرئيس عبدالفتاح السيسي بجانب قدمه أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، يطل من شباك في بناية مجاورة،  والملك سلمان أمام قصر خلف الجميع، ونتنياهو وآخرون أقرب ما يكون من عباس ومن معه، في مراقبة للمشهد كله…

يقول الرئيس محمود عباس، بعد أن غسل يديه، وبدأ يمسحهما بمنشفة:

ـ الحمد لله… الفاتحة على روح المرحوم بيريس…

يقرأ المجتمعون الفاتحة، ويضيف عباس:

ـ لا تلقوا بقايا الطعام في سلة المهملات، حرام، أعطوه للكلاب، أغسلوا الأطباق وضعوه أمامها، كما لا تنسونهم من العظم… وزّع “السادة” يا عزام…

يقول صائب عريقات، حينما بدأ عزام بتوزيع القهوة السادة:

ـ حاضر يا سيادة الرئيس، هكذا نفعل دائماً بالفتات والعظام…

الرئيس:                                                                                                                               ـ هكذا تقول في كل مرة، لأكتشف أنك تعطيهم العظام بعد أن “تمصمصها” كاملة وتجردها من الدسم، إترك شيئاً لغيرك يا صائب…”الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته”

يقول صائب مفتعلاً الغضب، وكأنه ضحية أو مظلوم:

ـ حاضر سيدي الرئيس، لكن الأمور ليست كما وصلتك

الهباش متألماً:

ـ ما يقوله سيادة الرئيس صحيحاً، حتى أن بعض الكلاب لم تر العظام منذ شهور، لكنها صابرة من أجل عيون الرئيس… “اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، اللهم زد من حسناته وأقلل من سيئاته، اللهم اجمعنا معه في جناتك…”

يقول الرجوب موضحاً للرئيس ومعقباً على دعوات الهباش:

ـ ربما لولا خدمتنا لصاحب الجلالة الملك سليمان طال عمره، لأصبحنا نحن أيضاً مثل بقية الكلاب الضالة… ، وأنت يا هباش “قل بعد عمر طويل يا أخي… لا يجوز…”

يظهر الإمتعاض على الرئيس، ويأتي صوت الدحلان من مكان بعيد:

ـ نعم صحيح، والرئيس السيسي لم يُقصِّر أيضاً…

يرد يحيى رباح ليشعر الرئيس أنه الأقرب اليه حتى من صائب نفسه:

ـ لا تزيدوا هم الرئيس أكثر، فالرئيس لا يستطيع إطعام كل الكلاب، الضالة وغير الضالة، “يادوب يقوم بنا”، مهامه تتعدى مجرد رعاية بعض الكلاب…

يسكته الرئيس بحركة من يده ويسأل:

ـ ما هي آخر المستجدات يا صائب؟

صائب:

ـ كل شيء كما تريد ياسيادة الرئيس، لكن الأمر لا يخلو من منغصات هنا وهناك، فمثلاً لم يشعر أحد بإهانتك عندما رفض كيري وضع يده في يدك، لكن البعض إلتقط الصورة، وأنزلها على وسائل التواصل الإجتماعي…

الرئيس:

ـ أوقفوا وسائل التواصل الإجتماعي إذن…

عزام الأحمد “مُتأتئاً مُتفتفاً”:

ـ لا نستطيع سيدي الرئيس، لكن من الأفضل أن نقول لمعترضي “فتح” أنك ذهبت لجنازة المرحوم بيريس باسم السلطة وليس بإسم “فتح”، ونقول للبقية بأنك ذهبت باسم “فتح” وليس السلطة… كما كنا نُعمل سابقاً، ونحمل كل شيء على ظهر “المرحومة”منظمة التحرير … قبل أن ندفنها…هه هه هه

الرئيس مبتعداً بوجهه عن الأحمد، كي يبتعد عن بصاقه الخارج مع كلماته:

ـ كم مرة قلت لك أن لا تتحدث في وجي؟ أدر وجهك على الجانب الآخر ياأخي، ماذا بك؟ أمعتقد فعلاً أنك فيلسوف؟ تُعيد هذه الجملة في كل مرة وكأنك إكتشفت الماء، غير وبدل ياأخي، وابتعد بفمك عن وجهي، أنا أسأل لماذا لا نستطيع وقف وسائل التواصل الإجتماعي؟

يقطع الهباش غضب الرئيس ثم يقول:

ـ إنه يتحدث بإرتياح سيدي الرئيس، فكل مناقصات السلطة بين يديه، ماذا يهمه؟

يجيب جبريل مبتسماً على سؤال الرئيس، متخطياً كلمات الهباش:

ـ لأن الأمر بيد إسرائيل، ونحن كما تعلم سلطة بالإسم، يعني أشبه بروابط القرى، يعني كما تعلم سيدي الرئيس، أنك ورغم كونك رئيساً، إلّا أنك وكما يقول المأثور الشعبي “زي الدجاج ـ بلا مؤاخذة ـ لا تستطيع التحكم حتى ببيضاتك”…

الرئيس غاضباً:

ـ “الملافظ سعد يا جبريل، حسِّن ملافظك”..

صوت الدحلان من نفس المكان:

ـ إنه يقصد إهانتك يا سيادة الرئيس…

الرجوب:

ـ أنت تخرس ولا تتدخل بيني وبين الرئيس

الرئيس للمكان الذي أتى منه صوت الدحلان:

ـ كل الناس تحكي أما أنت فاسكت، كلنا نعرف تبعيتك لمن، فاسرائيل من وراءك وأمريكا من جانبك والسيسي وسلمان مغطيين كل حركاتك…

يتنحنح السيسي والملك سلمان كل من مكانهما، فيعتذر الرئيس قائلاً:

ـ والله “بكسر الهاء” أنني لم أقصد إغضابكما، فأنا كما تعلمان بدونكما “لا أساوي ملات أذني نخالة”، فأنا أعرف قدري طال عمركما، و”رحم الله إمرء عرف قدر نفسه”.

صوت الدحلان غاضباً، وكأنه صار بينهم، ويبدو غير راغب بتمرير شيء للرئيس:

ـ وما الفرق بيننا يا سيادة الرئيس؟  كما يقول المثل” لا تعايرني ولا أعايرك، الهم طايلني وطايلك”، فنحن الإثنان محاطان بأمريكا وإسرائيل وبقية من ذكرت، وأنت تقدمت بتصريح وانتظرت ليسمحوا لك بحضور جنازة المرحوم بيريس، لكنهم دعوني ورفضت كي لا أحرجك، كما أنني أكثر منك جرأة، ولدي إستعداد على التوقيع مباشرة على ما يريدون، أما أنت فتريد التأجيل قليلاً…

صوت الملك سلمان ومن خلفه السيسي:

ـ اتركوا الدحلان ويكفي تجاوزات، “الزلمة زلمتنا وزلمة حبايبنا”، واللي ما عملته أنت سيعمله هو”، اتركوه أم نوقف العلف؟

يقول الهباش هامساً في أذن الرئيس:

ـ المسامح كريم يا سيادة الرئيس، والصلح خير… وأنت تعرف محبتي لك وإخلاصي، فقد وضعتك في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شبهته بك، لكن كيف بربك هذه الفتوى، والله لم تخطر على بال إنس ولا جان، “لو كان النبي محمد موجود لذهب لجنازة بيريس”كيف ياسيادة الرئيس؟ ألا أستحق علاوة مالية على هذه الفتوى؟…

فقال صائب للهباش متخوفاً غيوراً:

ـ ولو كان الدحلان أو أيٍ كان لفعلت الأمر نفسه، فأنت دائماً مع الواقف، ولا تعتقدن أن تملقك يمر على الرئيس، ثم أنك بفتواك هذه مجدت بيريس وليس الرئيس.

فقال الهباش مدافعاً عن نفسه:

الله وحده يعلم ما في القلوب، و”نيال مظلوم وعند الله بريء”، الله يسامحك يا صائب، رغم أنك لم تكن يوماً “صائباً” في شيء

صائب غاضباً من كلمات المفتي:

ـ يسامحني أنا؟ أنا أقوم بكل أوامر الرئيس ومن هم خلف الرئيس أيضاً، أما أنت فتُحمِّل الرئيس “جميلة”على مجرد فتوى واحدة أخذت ثمنها منذ سنين!!! لو كنت مكانك لفتوت كل يوم فتوى لصالح الرئيس، أقلة ما “تهبش” من الرئيس ياهبّاش؟ يا رجل خاف ربك، فأنت تقبض بالدولار!!!

الهباش:

ـ من يسمعك يظنك تعمل متطوعاً!!! أنا لا آخذ أربعين ألف دولاراً في الشهر الواحد مثلك…

صائب:

ـ الله أكبر الله أكبر من عينك الحاسدة، عين الحسود فيها عود، من شر حاسد إذا حسد، وهل هذا المبلغ يكفي؟يعلم الله أنه لا يكفي حتى منتصف الشهر، إسألوا اولاد الرئيس، والله لولا ما أتقاضاه من “مصاريف البروتوكولات” وتجارة الأراضي من تبديل بين b و c مع “الأخوة اليهود”، لما استطعت أن آكل الخبز ، كما أنني أقبل بحكم أبناء الرئيس، إن كان يكفيهم أربعين ألفاً مصاريف شهرية، فإنني سأضع حذاءً في فمي وأخرس…

فهم الرئيس رسالة “صائب”، قال له هامساً:

ـ إخرس الآن ولا تفضحنا أكثر، سأردفك بعشرة آلاف أخرى من هذا الشهر، لكن اسكت الآن..

صائب عريقات مبسوطاً لكنه أكثر طمعاً:

ـ لا تكفي ياسيادة الرئيس، إجعلها عشرين…

يبدأ الرئيس بالغضب، وينظر لصائب الذي “إختصر” وكف عن الحديث بالأمر، يقول الرئيس:

ـ آه يا صائب، أخبرني عن ردات الفعل على مشاركتي جنازة المرحوم…

يجيب صائب:

ـ على الصعيد الدولي جيدة يا سيادة الرئيس، أما على الصعيد العربي فممتازة…

يقترب من أذن الرئيس ويقول:

ـ وصلتك مكافأة على ذلك “مخلاة علف” من تاج رؤوسنا ملوك وأمراء “آل سعود” و”سطل” عظم من مملكات ومشيخات أخرى…

ومن بعيد بانت نيوب الملك سلمان ضاحكاً، وقال الرئيس السيسي غاضباً لأبي الغيط:

ـ ألم نكن نحن أبدى بالعلف والعظم؟!!!

يقول الرئيس سائلاً:

ـ وكيف هي الأمور على الصعيد المحلي؟

صائب مجيباً مبتعداً عن الموضوع:

ـ لا جديد سيادة الرئيس… كما هي دائماً…

الرئيس:

ـ فسّر يا صائب، فصّل…

صائب شارحاً:

ـ قوى اليسار جميعها تشجذب وتستنكر…

الرئيس:

ـ أوقفوا مخصصاتهم المالية فوراً، وأدخلوا قياداتهم التي لا تريد السكوت السجن…

صائب مكملاً:

ـ حاضر سيدي الرئيس، وكل فصائل الإسلام السياسي أيضاً، بإختصار سيدي الرئيس، كل فصائل العمل الوطني تستنكر…

الرئيس مكابراً:

ـ لا يهمني شيئاً ما دامت “فتح” خلفي…

صائب:

ـ حتى فتح ليست كما في الماضي سيدي الرئيس، معظمهم صار لا يريدك… نحن فقط وبعض الآخرين الذين ما زلنا مؤمنين بك وبقيادتك، نحن فقط المخلصون، نحن ســ…

الرئيس مقاطعاً:

ـ أعلفوهم…

صائب:

ـ معظمهم لا يُعلفون سيدي الرئيس، كما أنه لا يوجد علف لكل هذه “الأمة”، فكما يقول المأثور الشعبي:”قالوا عند الغولة عرس، قالوا يدوب يكفيها ويكفي أولادها” ، يعني إذا علفناهم لن يتبقى علف لا لك ولا لنا سيدي الرئيس…

الرئيس متعثراً بصوته مستعملاً يده لتوضيح كلمته:

ـ إذن فالبنادق والهراوات… ما فائدة البنادق إن كنا لا نستعملها، خاصة بنادقنا المصممة خصيصاً للإطلاق للخلف؟

يتدخل الرجوب شارحاً مقاطعا :

ـ هذا هو الصحيح، كيف تكون رئيساً مهيوباً، إن كنت ستسمح للرعاع أن يعترضوا على قراراتك؟!!! أظن أنهم متحالفون مع جماعة “الماري كريسمس” سيدي الرئيس…

الرئيس لصائب، متجاوزاً كلمات الرجوب:

أكمل يا صائب…

يحيى رباح مقاطعاً:

ـ ألم أقل لك سيدي الرئيس “أن ثلثي الشعب الفلسطيني حثالات”؟

صائب مكملاً وغير معلقاً على تصريح يحيى رباح:

ـ هناك بعض الضباط الذين أعلنوا معارضتهم على الملأ سيدي الرئيس…

الرئيس:

ـ إفصلوهم من وظائفهم…

صائب:

ـ فعلنا سيدي الرئيس، وهناك قادة طلابيين أيضا…

الرئيس:

ـ استبدلوهم، فعلاً كلهم حثالات….

صائب:

ـ إستبدلناهم سيدي، لكن خرجت بعض المخيمات أيضاً….

الرئيس:

ـ أخرجوا “السحيجة” مقابلهم إلى الشوارع، ألم تعلموا بعد أن “السحيجة” نصف السلطة؟…

يهمس عزام الأحمد، متلعثماً ومتفتفتاً من بين كلماته مجدداً، للرئيس:

ـ هؤلاء يسحجون لمن “يعلف” أكثر، ومنذ فترة ليست بقصيرة، لم يُقدم لهم  سوى القليل من “العلف” سيدي الرئيس…

الرئيس مبتعداً بوجهه عن فم الأحمد، قائلاً:

ـ الله لا يشبعكم، أكلتم “أعلاف” السحيجة أيضاً؟!!! لا تُوفرون شيئاً، تأكلون الأخضر واليابس؟!!!

يبدأ كرسي الرئيس بالتحرك من تحته، وكأن الناس تريد إسقاطه من على أكتافهم، عندما تبدأ الأصوات تصل إلى أذنيه من الأسفل، حيث لا تُسلط عليهم الأضواء، ولا يعلم الرئيس من أين تتساقط الكلمات في أذنيه:

ـ جردوا جالب العار هذا من فلسطينيته، ضموه لجوقة الصف الطويل الذاهب بقدميه الى مزبلة التاريخ، لكل من فقدوا عروبتهم وصاروا جزءا من سيف الإحتلال…

ـ لقد باع وزمرته الوطن ودمروا القضية، وسلموا رقابنا للإحتلال، ربما لأنهم يعرفونه جيداً لم يقترب منه أحد رغم إغتيالهم لمعظم قادة المنظمة، رغم وجوده في نفس المنطقة في تونس…

قبر “السيد المسيح” يتحرك ويصرخ ألماً، اطردوا “يهوذا الأسخريوطي” الجديد، الذي يريد تسليم رأس “مسيحنا”، من جديد، لأعداء الإنسانية.

ـ أبعدوا هذا “الرجس” عن ظهر الشعب الصابر، أبعدوا هذه “النتانة” عن هذه الأرض الطاهرة.

ـ أبعدوا هذه “العاهرة” التي تريد الرقص طرباً، حاملة رأس يوحنا المعمدان…

يظهر الغضب الحاقد على وجه نتنياهو، والأصوات ما تزال تتعالى منطلقة نحو السماء، فيرى الجمهور نتنياهو، مرة بجانب السيسي الذي يشدد في إغلاق “معبراً” بين يديه، ومرة بجانب الملك سلمان الغاضب، وهو يلوح ب”مخلاة علف” في الهواء، وسط الأصوات القادمة في غير مكان من أوساط العتمة:

ـ هؤلاء لم يكونوا يوماً عرباً، من دمر وطناً ليس بعربي، ومن يحاصر شعباً ليس بعربي، ومن يتعاون مع محتله ضد شعبه ليس بعربي…أكنسوهم الى المزابل…

فقاعات ضوء كأنما نبع ماء ضعيف، يبدأ بالظهور من أوساط الناس المركوبة” منذ سنين، تبدأ الإحتجاجات، الهتافات في غير منطقة وشارع ومدينة ومخيم، في كثير من الأرياف التي أغتصبت أرضها وأشجارها من بيريس ومن تربوا على يديه، وعباس الذي بدأ يشعر أن كرسيه قد بدأ يهتز، وأنه ربما يسقط من على ظهور الناس لتحت أقدامهم، قال مستعيناً بالمرحوم بيريس:

ـ رحمك الله يا بيريس، لا يبقى غير وجه الله والعمل الصالح، ومن أكثر منك أصلاً عمل صالحاً وساعدنا؟!!!

ثم عاد للحديث معاتباً:

ـ ألم تقولوا أنكم “إستحمرتم” الشعب؟ ما هذه الأصوات التي أسمعها إذن؟

الهباش:

ـ هناك من ما زال يرفض “الإستحمار” سيدي الرئيس، لكن لا يهمنك شيء، سأجد لك فتوى جديدة “تُدجنهم” من جديد…

يصرخ الملك سلمان من بعيد:

ـ إهتزاز “كرسيك” يعني إهتزاز عروشنا أيضاً… القطيع يجب أن يظل قطيعاً، ألم أقل لك عليك بثقافة “بول البعير”؟

عليك الآن بالعصا، “العصا لمن عصا”…

الرئيس مقرراً:

ـ إقمعوا رجالهم واغتصبوا نساءهم ليعرفوا ان السلطة خط أحمر، وليعلم القاصي والداني أن الخروج عن “القطيع” يؤدي الى الذبح…

يهتز كرسي الملك سلمان قليلاً وكرسي السيسي أيضاً، وتستنفر قوى الأمن في بلادهما، يقول السيسي لأبي الغيط:

ـ  وهل وضعتك على رأس الجامعة العربية بغير فائدة؟إعمل “حاجة”

يستدعي أبو الغيط الجامعة العربية التي تتداعى بنفس اللحظة لدورة على مستوى القمة، لتنقذ القضية الفلسطينية من “مغامرات” شعبها غير المحسوبة، شعبها الذي يرفض “التدجين”، ويرفض أن يظل “قطيعاً”…

يستدعي عباس حليفه “جيش الدفاع الإسرائيلي”، من خلال لجان التنسيق الأمنية، ويأمر جيشه بتجهيز البنادق، نفس البنادق التي لا تُطلق إلاّ للخلف، فتلك الأصوات خطيرة وتهدد الأمن العام، وتجعل السلطة في مهب “ريح التطرف”.

ومن بعيد، يكون راكبي أكتاف البشر، من أصحاب “العمائم”، ولابسي اللباس الأفغاني هذه المرة، يلحسون أصابعهم من بقايا اللحم العالقة بها، ينظرون الى الرئيس ويضحكون، ويرسلون فروض الطاعة للملك سلمان وبعض جاراته من مشايخ وإمارات، ويتجاذبون أطراف الحديث، عن الطريقة الأمثل ليظل “القطيع قطيعا” في مناطقهم المحاصرة…

تمت

م .ن

”   عزيزي السيد م . ن المحترم:

قرأت ما أسميته أنت مسرحية من فصل واحد، والتي كما تقول أنت لا علاقة لها بالواقع، وأنها من نسج خيالك، وإليك تعليقي:

  • إن مقطوعتك هذه لا علاقه لها لا بالأدب ولا بالشعر ولا  بالزجل ولا بالنظم ولا بالنثر ولا بأي نوع من أنواع الفنون.

  • إنها كالخمر “ملعون كاتبها وناشرها وساردها”، وتودي بصاحبها وقارئها إلى طريق لا يعلم غير الله أين يمكن أن ترمي به، وأنا رجل، طوال حياتي، أمشي بجانب الحائط طالباً السترة من الله وجده.

*وأنا الذي لا أعرفك، وابتليتني بهذه الأمانه لأقرأها وأعلق عليها وأنشرها، حاصداً شرها دون خيرها، حيث لا توجد لها غنائم أو فوائد، لا أريد حتى أن أعرفك ولا أن أقرأك ولا أريدك أن تراسلني بعد الآن، وأنا بريء منك ومن كتاباتك إلى يوم الدين، و”حدّ الله” ما بيني وبينك.

  • وكوني لا أعرف كيف أعيد إليك رسالتك بعد أن أغلقت حسابك الإلكتروني، وعملاً برد الأمانة إلى أصحابها، أنشر لك رسالتك، كما هي دون تعليق ولا حتى إبداء رأي، والساتر هو الله…

محمد النجار

إنهم يقتلون الخيول…

أجلستني عناصر الشرطة والمحققون على باب غرفة التحقيق، لأكون قريباً منهم وقتما يحتاجونني للإدلاء بشهادتي، فيبدو أن هذا الرجل “الأكتع” خطير على الأمن العام، خطر ذئب جائع على قطيع غنم، فكما يقول المأثور الشعبي “كل ذي عاهة جبار”، ما بالك وهذا “الجبار” حر طليق يجوب الشورع والطرقات دون رقابة، ومن أمام الباب يمكن سماع نتفاً من التحقيق المتسرب من تحته ومن مساماته الخشبية، ويصير الأمر أوضح عندما يفتحون الباب لأسباب متعددة، دخول أو خروج، قهوة أو شاي، أو لإستحضار أحد الضباط نتيجة لخطورة الوضع والموضوع، أو عندما يتطلب الأمر إستدعاء شاهد ما، حينها ترى وتسمع بكل وضوح، كيف يتدفق نهر الكلمات جملاً بكاملها وفواصل وحروف ونقاط، خارجة من باب الغرفة، متدافعة مع دخان السجائر المكبوت في تلك المساحة الضيقة، ليغطي الرواق الذي نقف على بابه، كما الغرف المجاورة أيضاً . ولست أدري كيف كانت أذناي، حتى والباب مغلق، كالمغناطبس تلتقط الحروف، تجلبها، تُجمّعها، تلملمها من الهواء وتنقيها، كإمرأة موهوبة تلتقط حبات الزوان والحجارة الصغبرة من بين حبيبات الأرز بسرعة فائفة، ثم تصهرها وتُِشكلها كلمات وجمل مترابطة داخل رأسي، رغم أنني رجلاً لا يحب الفضول، بل يمقته، لكن يبدو أن للخوف قوانينه، له إنعكاسات وسلوك وطقوس، الأمر الذي لم أكن أعرفه قبل ذلك أبداً إلا لماماً، في مناسبات متباعدة تكاد لا تُذكر، ما زلت أتذكر تفاصيلها رغم كل محاولاتي الفاشلة لنسيانها، متذكراً في كل لحظة كلمات المرحومة أمي، وهي تقول لي آسفة على الرعب الذي يتلبسني:

ـ يا حسرة يابني، أعلم أن “الرجولة” والشهامة والعزة والإباء لا تُورّث، وعبثاً ذهبت كل محاولاتي والمرحوم والدك أن نحشوها في أوصالك، فهي ليست مثل حبيبات الأرز هذه داخل حبة من “الكوسا”ـ مشيرة إلى ما كانت تحضره من طعام بين يديهاـ من سوء حظك يابني أنها تنمو وتكبر وتبرعم وتثمر في معمعان المعارك، في الزمن الصعب، تتطلب الحكمة والوضوح والتحدي والإقدام، تماماً كما جذور الزيتون التي تخترق الصخور وتُفتتها، في لحظات تمتحنك بها الحياة، لحظات الحسم التي لا مجال فيها لتردد أو تسويف، خوفي يابني من نهر الخوف الذي يندلق في عروقك في اللحظات الصعبة، وينازع دمك على لونه، خوفي أن ينتصر عليه ويغير لونه، أن يحوله الى ماء مُعكّر نجس، ويحولك إلى جبان رعديد، يمقتك بسببه الناس والمجتمع، وحتى زوجتك التي تستقبلك بداخلها ظانة أنك أمين عليها، وتشكل لها السند القوي وحائط الأمان…تماسك يابني تماسك، فبين الخوف والجبن لحظة واحدة أرق من ورقة السيجارة وكم هائل من الدمار، تماسك يابني، إن كل العالم لن يستطيع إصلاح لحظة جبن واحدة إن تفلتت منك وانكسرت، لأن أول خساراتك هي نفسك، وخسارة النفس ليس يوازيها خسارات.

كما أنني لا يمكن أن أنسى توصيات والدي المرحوم منذ صغري، وتنبيهاته لي بأن لا أثق مطلقاً بسلطة أو ملك أو رئيس أو أمير أو عاهرة، لأن كل منهم “عاهر” بطريقته، والعهر واحد لا ينقسم، حتى وإن اختلفت أشكاله وطرائقه، فالعاهرة تبيع جسدها، وهم يبيعون بلادهم ومصالح شعبهم، ولوحدي أضفت اليهم لاحقاً الكتبة والمسحجين والمطبلين من لاعقي الصحون والأحذية، لكنني لم أبح بذلك لأحد.

وعليه وكي أحمي نفسي، فإنني أطلقت العنان لحواسي مجتمعة، لكل قرون الإستشعار عندي، خافية وظاهرة، لتعرف كل ما يدور داخل غرفة التحقيق، فلا أحد ضامن أن لا أتحول من شاهد إلى متهم، ورغم أنني لعنت اليوم بل اللحظة التي أخرجتني من باب منزلي في ذلك الصباح، التي لولاها لما وصلت أمام غرفة التحقيق في قسم الشرطة هذا، بسبب ذلك  “الرجل الأكتع”، إلا أنني لمت نفسي أكثر ولعنتها مراراً على شفقتي عليه، وضعف قلبي على حِنيّته المفرطة، قبل التأكد من أن هذه الشفقة وهذا الحنين لن يكونا في غير مكانهما، لكن ما العمل أمام مثل هذه الطيبة المفرطة والسذاجة القاتلة؟نعم “ليس باليد حيلة” كما يقول المأثور الشعبي…

خرجت من باب منزلي صباحاً كعادتي في الفترة الأخيرة، بسبب دخولي عالم العاطلين عن العمل منذ شهور عدة، لأتفرج على ذلك الرجل الطيب الهرم، الذي يأتي كل يوم ليطعم الحمام البري، فازداد إيماني وثقتي بالله الذي “يرزق الدودة في باطن الأرض”، ولا ينسى من فضله أحدا، ورأيت التفاؤل هذا والإيمان يزيدان التفاؤل داخلي بأن أجد عملاً من جديد، فالدنيا لا تخلو من “أولاد الحلال”، وأنها “إن خلت بلت” كما يقول المأثور الشعبي، وحلمت واعياً أنني ربما وجدت عملي القادم عند هذا الرجل الطيب، مبتعداً عن غابة البطالة الكثيفة هذه، التي تمتد وتكبر وتنتشر مثل النار في الهشيم، حاصدة آلاف الأيدي الباحثة عن رغيف خبز يوما بعد آخر، وعدت أنظر لهذا العجوز المنقذ الذي يأتي للحمام بالخبز و الحبوب من منزله في كل يوم.

لا أستطيع القول من “بيته”، فكلمة “بيت” فيها الكثير من الغبن والإجحاف، ربما الكلمة الأصح هي من “قصره”، وبغض النظر عن المعنى لهذه الكلمة وهذا التوصيف، فالرجل كان يأتي، دعني أقول، من “بيته الكبير”، المؤلف من عدة طبقات، لا أعرف ماذا يحوي أي منها،  لكنني أعرف أن البيت محاط من كل جوانبه ببساط أخضر وشجر مثمر من كل صنف، تلفه الرعاية والشمس والمياه والحنين، وأي تقاعس من قبل العاملين فيه يواجه بالتوبيخ والتعزير والخصم من الراتب الشهري وحتى الفصل من العمل، لدرجة قال البعض أن أحداً من الذين عملوا في هذا “القصر” لم يأخذ يوماً راتباً كاملاً أبداً، وكنت أقول في نفسي “أن الله يعطي اللحمة لمن ليس له أسناناً”، فهؤلاء العاملون الحمقى لا يعرفون ماذا يعني أن يكون لديك عمل، أن تكون ضامناً لرغيف خبزك لليوم التالي، أن لا تسمع بكاء أطفالك متضورين جوعاً وتعنيف زوجتك لأنك لم تجد ملاً، وكأنك قادر على ذلك وترفض أو تتمنع، لذلك هم يتكاسلون ولا يقومون بعملهم كما يجب، وكذّبت صديقي الذي يعمل هناك، عند العجوز الطيب منذ شهرين ويزيد، عندما إدعى أن الرجل العجوز يفتعل القصص ليخصم عليهم أجورهم.

كما يوجد في البيت حمام سباحة في المنطقة الخلفية، ومظلات للحماية من الشمس، كي لا تؤذي أحفاد العجوز وأولاده، ويقول بعض “المبالغين” أن الماء الذي تُسقى به الأشجار والبساط الأخضر يتعدى كثيراً ما يشرب المخيم القريب ويغتسل، وكان للقصر طريق معبد لعبور سيارات أولاده وزائريه من البوابة الحديدية الضخمة، قيل أن تختفي في مكان ما تحت القصر.

لا أعرف لماذا أظل أثرثر بعيدا عن لب الموضوع، فالأمر ببساطة شديدة، أن ذلك الرجل العجوز الطيب لا يستطيع تجنب قعل الخير، فكان يخرج في كل صباح باكر ليطعم الحمام خارج قصره، باقياً حتى ساعات الظهيرة القاسية، يخرج ببنطال رياضي طويل، وبلوزة أو سترة من اللون نفسه، يفوح منهما رائحة النظافة والنقود، متوجهاً إلى ظل شجرة قريبة من الطريق العام، يجلس على كرسيه الذي يحمله أحد عمال القصر يُجلس عليه العجوز قبل أن يعود.

يبدأ العجوز بتقطيع الخبز ونثره على بعد خطوات من قدميه، وكان الحمام يأتي حائماً تحت سقف السماء، سابحاً على أمواج الهواء، مقترباً من أرض الطريق، ثم سرعان ما يشق الهواء بمنقاره ورأسه الى الأعلى، يعاود “الكر والفر” مرات ومرات قبل أن ينزل بحذر بعيداً عن الرجل في أول الأمر، ليلتقط ما تيسر من غذاء، ثم يأخذ بالإقتراب قليلاً قليلاً، وسرعان ما صار يتخلى عن حذره رويداً رويداً، لمّا رأى  الرجل لا يضمر له أي سوء، صار الحمام يقترب أكثر وأكثر، ويوماً بعد آخر صار يتخلى عن حذره، ثم تحولت رؤيته للرجل العجوز إلى عادة، فصار يتجمع أكثر وأكثر، ويأخذ الفتات المتساقط تحت أقدام العجوز، ومرات ينقر الخبز من بين يدي العجوز نفسها، الذي تتفتح شفتاه مظهرة اسناناً اصطناعية بيضاء مثل زهرة، مطلقة ابتسامة طفولية بريئة، تزيد في طمأنينة أسراب الحمام التي تتكاثر بين يديه يوماً بعد آخر، ممزقة حذرها قاذفة به، إلى الصخر، من أعالى السماء، وتجعل من يرى المشهد مثلي يكن للعجوز كل المودة والحب والإحترام، ويدعو له الله في كل صلاة.

جاء نفس هذا “الرجل الأكتع” كما في كل يوم، خرج من مخيم قريب، حيث يمكنه أن يغتسل وينام أحياناً على حصائر المسجد أو مقاعد الكنيسة المتجاورين، جاء هذا المشرد بملابسه الرثة، بحذائه البالي، بشعره الأسود الأجعد الكثيف، شعر طويل يغطي وجهه كاملاً، حتى لا تستطيع أن ترى منه شيئاً، حتى أثناء التحقيق معه، كان كلما أمره المحقق أن يرفع شعره ليستطيع رؤية وجهه، يرفعه من جانب لتنهال بقية الخصل من جوانب مختلفة لتغطي الجزء الذي تم كشفه، أقول أنه جاء كما في كل يوم، وكنت أنا مثل كل يوم أيضاً، أفترش الأرض في ظلال شجرة وحيدة مقابل الرجل العجوز، أتمتع برؤية الحمام المتطاير بين يدي الرجل ومن حواليه، وهي تنقر خبزها، وهي “تهدل” متغازلة متمايلة متهادية، وهي تسير الهوينى عارضة رويشاتها البيضاء والسوداء والبنية والرمادية والزرقاء، كأنها في عرض أزياء طبيعي فاتن، كل حمامة تعرض أكثر من لونين من الريش الجميل، بعضها تفرد أجنحتها لتساعدها أكثر في الحركة، بعض الذكور تغازل أناثيها، يداعبونهن بمناقيرهم، والأناثي ترنو إليهم وتبتعد ، يتبادلون تنظيف رويشات بعضهم بعضاً، ثم تبتعد الإناث لتقترب من جديد، ذكور أخرى تطعم أناثيها بمناقيرها، ربما لتسرق قبلة تظهر من خلالها حباً، تطير الإناث متدللة إلى مسافة قصيرة قريبة، تعود لتلتقط حبات الحبوب أو كسرات الخبز الصغيرة، قبل أن تعود الى عشوشها في سويعات الظهيرة أو قبل مداهمة الظلام، في أعالي الأشجار، كانت تظل تسير برأسها المرفوع الشامخ، ترى نفسها أكثر بكثير من مجرد سرب حمام، ترى في حمائميتها نسوراً جارحة قوية، لا تدرك أن النسور لا تستجدي غذاءً، ولا تنتظر أحداً أن يلقي لها بقطعة لحم، فما بالك بكسرة خبز، وأن “نسوريتها” تلك من كونها ترفض أن تعتاش على فتات، من قدرتها على أن تستحضر الطعام بقوة مخالبها ومنقارها المعقوف، من صبرها على الجوع، فهي ك”الحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها”.

كنت أراقبها في مجيئها وذهابها، في أكلها، في حركة طيرانها، وهي تجلس بعد أن تشبع في ظلال الشجرة الآمن، متخلية عن كامل حذرها إلا قليلاً، ،وكنت أفكر قائلاً لنفسي، أنه حتى اسراب الحمام لها رونقها وجمالها عندما تشعر بالأمان، عندما تنام مطمئنة بين يدي إنسان عطوف مثل هذا العجوز، ولو لم يكن هذا الرجل طيب القلب أبيضه، لأحس به الحمام وتفاداه، لابتعد عنه وجافاه، لو لم يشعر بحبه له لما وثق به واقترب منه هذا الإقتراب، فالحمام يحس الحب والكره، ومن الصعب خديعة الحمام.

لكن “الأكتع” عكر ابتسامتي وقتل فرحتي  بلحظة واحدة، عندما نظر من بين خصلات شعره الأجعد الكثيف، نظرات كره من عينيه السوداويتن الحاقدتين، ورأيته يتجه مباشرة الى تجمع أسراب الحمام بين يدي الرجل الطيب العجوز، ينحني ويلتقط قطعة خبز جافة، لكن الحمام الذي كان حتى تلك اللحظة يشعر  بالطمأنينة والأمان، تطاير مرعوباً من هذا “الكائن” الذي عكر عليه صفوه، ومزق طمأنينته ورماها في غير اتجاه، تاركاً غذاءه والعجوز وظلال الشجرة وبعض رويشاته تتطاير في المكان، راكباً من الخوف أمواج الهواء، محاولاً التسلق إلى أعالي السطوح والشجر وأعمدة الكهرباء ورؤوس تلال الهواء الساخن، والرجل العجوز الذي فجعه ما رأى لسرب الحمام، كاد يبكي من الألم، وسرعان ما فتح هاتفه الخيلوي معرفاً عن نفسه طالباً قدوم الشرطة، لإعتقال الرجل “الأكتع”، الرجل الذي لا قلب له، وسرق طمأنينة وطعام الحمام وشتت شمله…

 

  •              *              *

قال له الضابط المحقق:

ـ ما هذا الشكل؟ لماذا هذا الشعر الطويل؟ ألكي لا يتعرف عليك الناس؟

فأجاب بصلف ناتج عن ثقة أو وقاحة:

ـ لماذا أتخفى؟ وهل أنا مطلوب ياسيدي؟!!!

فقال الضابط غير متجاهل لسؤاله مجيبا:

ـ لا أستطيع الجزم بذلك، فأنت لا تملك حتى بطاقة لتثبت بها هويتك، لكن كوننا ديمقراطيون ولا نتهم الناس جزافاً، فأستطيع القول أنك لست مطلوباً، لكنك سارق، أنت لصٌ…إعترف لتختصر الوقت عليك وعلينا.

وضحكوا، عندما رد هو:

ـ أنا لست لصاً، أنا مجرد مواطن جاع وتشرد في وطنه مثل الآلاف ياسيدي، لوكنت سارقاً لما قطعوا يدي…

واقترب من أذن الضابط وقال:

ـ في بلادنا يقطعون الأيدي النظيفة يا سيدي، الأيدي العفيفة التي لم تمتد يوماً الى أملاك الغير ولا إلى حقوق الناس….

قطع الضابط ضحكته، نظروا بدلالات لوجوه بعضهم البعض، ثم قال موجهاً كلماته الى زملائه قبل أن يوجه سؤاله الى الرجل “الأكتع”، الذي لم نعرف له إسماً بعد:

ـ هذا رجل مجنون أم ماذا؟ ماذا يقول هذا المعتوه؟ من الذي قطع يدك؟

أشار “الأكتع” بإصبعه إلى الأعلى، فسأل الضابط:

ـ الله؟!!! الله من قطع يدك؟!!!

ـ لا ياسيدي، معاذ الله، الله لا يقطع أيدي رعاياه، بل من نصّبوا أنفسهم مكانه، إنهم أولئك الجالسون فوق، على الأكتاف ياسيدي…

فكر الضابط بأن يواصل أسئلته كي يتعرف على الرجل الذي أمامه، فربما كان أمام حالة خطرة متخفية وراء هذا الشعر الأشعث الكثيف، قال:

ـ وكيف قُطعت يدك؟

أسند “الأكتع” ظهره الكرسي، رفع رأسه عاليةً وكأنما أراد استحضار الزمن أمامه كي لا ينسى شيئاً، وكانت عيناه الشيء الوحيد المتوهج اللامع داخل كتلة رأسه، قال:

ـ في ذلك الزمن سيدي، كان الوطن مختلفاً عما هو عليه هذه الأيام، له طعم آخر وشكل آخر ورونق آخر ومضمون مختلف، كان الناس يتسابقون لخدمته، والموت من أجله شرف لا يناله أيٍ كان، يناله من يستحقه فقط، والجريح يمشي في الشارع مزهواً بجرحه، معتداً به ليراه الناس، كان مهر العروسة علامة جرح أو سنين سجن، لم يكن يسجنك أحد إلّا عدوك، وكان الناس سيدي وكأنهم كتلة واحدة، متعاونيين متضامنيين، قلب كل منهم على الآخر، الفرد في خدمة الكل والكل في خدمة الفرد، إلا القليل منهم الذين ركبوا لاحقاً على الأكتاف، بعد أن تهدمت بمعاول غريبة، من الجذور، تلك الأخلاق وبشكل مدروس مقصود، كان الوطن زينة الناس وشرفها، كان الهم والألم والأمل، كان البيت وكان الحب وكان الجنة، عصارة كل جميل وحلو ولذيذ، رغم مرارة الأشياء كلها التي تحيط به، رغم الثمن الغالي الذي تدفعه من أجل هذا الحب، الذي قد يودي بك لدفع حياتك ثمناً، ورغم ذلك كان الشباب يتسابق ليدافع عنه ويفديه، فارشاً حياته جسراً للآخرين مضحياً بها، لتستمر المسيرة وتنمو شجرة الأخلاق التي قطعوها من جذورها لاحقاً، هل تتخيل يا سيدي، أن إمرأة أو شيخاً أو ولداً كانوا يحتضنون أشجار الزيتون المقتلعة ويبكونها كما يبكون شهيداً؟ يفتحون لها بيوت عزاء، هل تتخيل أن حيازة بندقية صدئة أو مسدس كان يودي بك الى التهلكة وغياهب السجون؟ لا تتعجب سيدي، فبنادقنا الصدئة تلك تختلف عن بنادقكم هذه، بنادقنا تلك لم تعرف يوماً كيف يكون الإطلاق للخلف، لم تعرف الغدر ولا المناورة ولا الخيانة تحت شعار التكتيك أو أي من المسميات، كان لها اتجاه واحد فقط …قلب العدو…

شكراً سيدي لم أعد أدخن، الظروف أجبرتني على تركه، من لا يجد خبز يومه لا يجب أن يدخن أيضاً، حاولت العمل مراراً، لكنني ما لقيت إلا فشلاً، حاولت حمالاً وعتالاً، أن أعمل في مقهى، أن أبيع جرائد لكن دون فائدة، من سيُشغل رجلاً “أكتعاً” مثلي؟ حاولت العمل مع الحكومة ، طالبوني بنقل أخبار المخيم، قلت ها هو المخيم أمامكم، ينخره الجوع والعطش، يعمل به الأطفال تاركين المدارس ليعيلون أسرهم، متحولون إلى جهلة يطاردون رغيفاً، أخبرتهم بجوع أسر الشهداء والجرحى العاطلين مثلي عن العمل، قالوا أنهم يعرفون كل ذلك، وهذا كله لا يعنيهم، وأنهم يريدون أخبار الرجال، رجال الليل على وجه التحديد، وكوني أنام بعد العَشاء مباشرة لم أستطع أن أكون ذو فائدة لهم يا سيدي.

نسيت أن أخبرك أنني لم أتسول يوماً حتى من أجل الخبز، لم أمد يدي الباقية لأحد، أأمد اليد التي حملت تلك البندقية لتتسول؟!!! ومن أجل سيجارة؟!!! ربما لو كان لدي فائض من قروش لدخنت من جديد، لكن لا، لا ياسيدي، لن أدخن من جديد، ربما اشتريت بها خبزاً لأناس مثلي يعج بهم المخيم، كي أكفيهم شر الحاجة والعوز ياسيدي….

تَحَمّلني قليلاً، في تلك الأيام حملت بندقيتي مع بضع رفاق درب، كنا جاهزين للقتال دائماً، نتنقل ببنادقنا من مكان إلى مكان، حيثما هناك حاجة تجدنا، لسنا وحدنا، مثلنا كان “مثايل” سيدي، كنا قد قررنا أن نحرر المسجد والكنيسة المتجاورين في مخيمنا، حيث أنام في هذه الأيام، ونحرر شجيرات الزيتون المحيطة بهما، كان الجند قد إغتصبوها، كانو فد إعتلوا المسجد والكنيسة وحولوهما لمكان لأصطياد الناس وقنصها، وكانوا يدوسون المسجد والكنيسة والأرض وأشجار الزيتون بأحذيتهم، وأنت تعرف سيدي أن بيوت الله والأرض وأشجار الزيتون مقدسة، كما الإنسان تماماً، ولا يجدر بنا تركها تُداس بأحذية الأعداء، مهما كانت قدرتهم وتضخم جبروتهم، فذهبنا واشتبكنا وحررنا المقدسات كلها في المخيم، واستقدموا قواهم وبنادقهم وآلياتهم، وهاجمونا من جديد، وقاتلنا بدورنا حتى لم يبق لدينا ذخيرة نكمل حربنا معهم، وكنا نسمع أصواتاً تأتي من بعيد بعيد، من داخل الحدود وخارجها، وكلها من الراكبين على ظهور الناس وفوق أكتافهم سيدي…

وأشار بإصبع يده الى فوق من جديد، وقال:

ـ وكانوا بنا يصرخون: “العين لا تجابه المخرز”… يكفي ما قمتم به… “بوس الكلب من تمه تتاخذ غرضك منه”… “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”…”يكفيكم مغامرات غير محسوبة”… “ستدمرون كل جدران السلام التي بنيناها”… “انتظروا جيش العرب” “إلتزموا بأوامر الحاكم” وافقوا على “هدنة”لنستطيع مساعدتكم… يكفي أوقفوا إطلاق للنار…

كلما كنّا في قمة انتصارنا، كانت نفس تلك الأصوات تطالبنا بالتوقف والهدنة، وتساءلنا مرّات مع أنفسنا، هدنة ماذا تلك التي يريدون؟ وعلمنا دون عناء كبير، أنهم يريدون دعم الجند الذين كانوا أمامنا يتقهقرون، لماذا لم يطلبوا هدنة ولو مرة واحدة عندما كان رفاقنا بحاجة لها؟ هل هذه مجرد صدف؟ ونحن لم نكن بحاجة الى الهدنة ولا الى كل هذا النعيق سيدي، كنا نأمل أن يمدوننا ب”كمشة رصاص”، بدل هذا العويل، لكن “لا حياة لمن تنادي”، لم يكن أحد ليستمع لمطالبنا ولا احتياجاتنا، ولم نستمع نحن أيضاً لنعاقهم…

كانت معركة صعبة ياسيدي، كانوا أضعافنا عدداً وعدة، فاستشهد رفاقي كلهم، وأصبت أنا سيدي، رصاصة في خاصرتي، ضلت طريقها فخرجت من الجانب الآخر إلى مكان لا أعرفه ، وثلاث رصاصات في يدي، يدي تلك التي إنتزعوها وقطعوها في لحظات ضعفي.

زحفت في المكان لأخرج من المكان الذي كنت فيه محاصراً، زحفت كما لو أنني لم أكن مصاباً، فالحياة جميلة ونحبها حتى عندما نضحي بها، ربما أننا نضحي بها لشدة حبنا لها ياسيدي، زحفت وزحفت وزحفت، ونوافير الدم تتسابق لتعانق جذور الزيتون، كان دمي قد اختلط بدماء رفاقي الشهداء، لدرجة أنني لم أعد قادراً على تمييزه، نفس اللون ونفس الرائحة ونفس الطريق، وظنّي أنه وصل لأساسات الكنيسة والمسجد ليقوي صمودهما، وربما ليشد من أزرهما، ليطمئنهما واعداً بدماء جديدة قادمة… وفجأة… دون مقدمات أو سابق إنذار، فسحب المياه من البئر مهما كان عميقاً يؤدي إلى جفافه، فما بالك بجسد ضعيف مثل جسدي هذا؟!!! سرعان ما أخذ يجف الينبوع في جسدي، ولم يمر طويل وقت حتى غبت عن الوعي، ليس بسبب الألم سيدي، بل ربما بسبب فقداني لكمية كبيرة من الدم، كما قال أحد الأطباء، بعد ذلك وبصراحة سيدي لا أعلم كيف صار الأمر بالضبط.

علمت لاحقاً أنهم أخذوني الى الكنيسة أولاً، أخفوني هناك مستعينين بطبيب شاب ليوقف نزيف دمي، ثم إلى أحد المستشفيات بعد أن هدأ البحث والتفتيش، وكنت أسمع كلاماً كما في أحلام اليقظة سيدي، كان من غامر وساعدني يستجدي الأطباء، وكان بعض الأطباء يهزون أكتافهم، يريدون القول أن “ليس باليد حيلة”، فأحد الحكام أو الجنرالات سيدي، كان قد جاء لعلاج إنتفاخ في خصيتيه، في تلك الليلة وذات اللحظة، ويبدو أن هذا بسبب سوء طالعي، فخصيتا أي حاكم أو جنرال أو مسؤول، كما تعلم، لا تضاهيها أرواح مَنْ هم مثلي من الناس، فما بالك بمجرد يد؟!!! فبين أفخاذ الحكام والرؤساء والملوك والأمراء، تُطبخ وتنضج وتترتب أصعب الأمور، تتفتح وتحل أكثر الأمور تعقيدا، لكن لا تنمو زهرة واحدة!!! ربما بسبب الزيوت والعطور والمنشطات الكيماوية سيدي!! أنا لم أكن أعلم بالضبط كيف تسير الأمور، كيف تأخذ مساراتها، لكن بعد أن فكرت في الأمر أكثر، وكي أكون صادقاً وجاداً أيضاً، تساءلت: ماذا يساوي ذراع رجل فقير “نكرة” مثلي أمام خصيتي أي من الحكام؟ بل ماذا يساوي بضعة رجال من أمثالي أمام خصيتيه؟ أنا رجل واقعي وأعرف حجمي سيدي، وأعلم أنهم لو وضعوا “خصيتي اصغر حاكم” في كفة، وعشرة رجال من أمثالي في الكفة الأخرى، لرجحتا خصيتي الحاكم، “مجنون يتكلم وعاقل يستمع”، ما هذه المقارنة الفاشلة، وغير المتوازنة ياسيدي؟!!!

نعم سيدي، تجمع كل الأطباء في غرفة الحاكم، ومن كان لديه الحظ سيدي، فقط من كان لديه الحظ، استطاع أن يلمس خصيتي الحاكم، أن يتحسسها ويتلمسها، سعيد من استطاع أن يبدي إعجابه بها، ليرضى عنه وعليه الحاكم، فالحكام تحب أن “نُرطل بيضاتها” سيدي، وتفرح كالأطفال عندما نعجب بأي شيء عندها، فما بالك بخصياتها؟، أما بقية الأطباء، الذين لم يكن لديهم ذلك الحظ، فرؤوهما من بعيد فقط، “وكما يقول المأثور الشعبي” اللي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى”، لكن المأثور الشعبي نفسه يؤكد قائلاً “الريحة ولا العدم”، ولا أخفيك كم كان هؤلاء حزانى لعدم قدرتهم للوصول لتدليك خصيتي الحاكم، ولا أستطيع الجزم سيدي، ففي أحلام يقظتي تلك تهيأ لي أن بعضهم كان ساجداً بين خصيتيه، وكأنه أراد عبادتها أو تقديم فروض الطاعة لها…وربما تقديم الأضاحي على أبواب حصونها سيدي.

أحد الأطباء همس للبقية المتحولقة حول “خصيتي” الحاكم، أن هناك حالة طارئة، وأن عليهم تحضير غرفة العمليات، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد سيدي، حيث صرخ به الحاكم قائلاً:

ـ كيف تجرؤ على التفكير بذلك؟ أتريدهم ترك خصيتي لمجرد وجود حالة طارئة؟!!! لقد هزلت، أتساوي بخصيتي حالة طارئة؟ وأكثر من ذلك أتساويهما بحالة طارئة من العامة؟ من الرعاع؟ حتى الله يقول” وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات، أكافر أنت أم مرتد أم زنديق؟أتساوي خصيتي بحياة شخص “نكرة”؟ ألا ترى أنه يشبه الإرهابيين؟ ألا يكفي أن مثل هؤلاء من يعطل الأمن والسلام والإستقرار في المنطقة؟

حاول الطبيب الدفاع عن نفسه قائلاً:

ـ إن يد الرجل ستقطع يامولاي، إن لم نسارع في استخراج الرصاص المتفجر من داخلها…                       فقال له المسؤول جازماً:

ـ للخرى….فلتقطع…

وقطعوها سيدي فداءً لخصيتي الحاكم…

  •           *            *

طرقت الباب مستأذناً للذهاب للمرحاض في آخر الممر الطويل، أبعدتني الطريق فلم أعد أسمع لبقية قصته، وأصدقك القول أنني لم أكن لأصدقه لمّا كان يرفع إصبعه متهماً الحكام، أو ساكني القصور كما قال أكثر من مرة، فها هو الرجل العجوز الذي يفني عمره ويقضي وقته لإسعاد وإطعام بضعة حمامات ضعيفات يبحثن عن فتات خبز، أليس هو من ساكني القصور؟!!! فكيف تريدني تصديق أقواله؟ لكن دعك من هذا وانظر ماذا سمعت عند رجوعي مرتاحاً من المرحاض أعزك الله، إلى حيث كنت أمام باب غرفة التحقيق، فاتحاً بابه مخبراً عن قدومي، متحملاً كلمات الضابط الذي عبر عن إحتجاجه قائلاً ” جيت؟الله لا يجيبك… إرتزي بره”…

و”إرتزيت”كما أمر، لكنني كنت قد رأيت وسمعت، رأيت كيف كانت عيناه تلمعان من تحت شعره الكثيف، حين كان الضابط الكبير ناظراً إليه محاولاً تفسير كل كلماته وحركات جسده، ومن على الكرسي المقابل سمعت ماذا سأله ضابط كبير آخر ، قائلاً:

ـ لماذا أخذوك جريحاً للكنيسة وليس للمسجد؟ أأنت مسلم أم مسيحي؟

سمعته بأذني عندما توتر كما لم يكن من قبل، وهاج وماج وقال للضابط:

ـ وما علاقتك أنت بديانتي؟ هذا الأمر بيني وبين الله ولا دخل لأي كان به، الزموا حدودكم ولا تسألوا مالا يعنيكم…

ولم يقل له حينها “ياسيدي”، فقال الضابط الأول مجدداً حازماً متشككاً:

ـ أجئت لتعمل علينا بطلاً أيها اللص المتشرد؟ لو كنت ذكياً، ومادمت قد قررت السرقة، فما كان عليك إلّا أن “تسرق جملاً”؟ لكن رائحة غبائك تزكم أنوفنا…

وانهال بكفه فوق وجه الرجل “الأكتع”، فتح الباب النادل في تلك اللحظة بالذات، ليدخل بكؤوس الشاي لطاقم التحقيق، فرأيت كيف تلقّف “الأكتع” بيده المتبقية يد الضابط ممسكاً بها مثل ملزمة، وقال:

ـ لو فعلتها ثانية سأكسرها لك، أفهمت؟

وظل قابضاً على يد الضابط وقال دون أن يترك يده:

ـ لم آت لأعمل بطلاً على أحد، مثلي لا يفتعل شيئاً ليس به، لأنني في الأصل بطل فعلاً، ولو كنت لصاً و”سرقت جملاً” كما تقول، لربما كنت في مكانك الآن… سيدي.

كانت كلمة سيدي هذه المرة، أكثر استهزاءً من أي مرة أخرى، ثم أفلت ذراعه، وأكمل الضابط بالعاً الأهانة:

ـ لقد ألقينا القبض عليك متلبساً، كسرة الخبز ما تزال في جيبك أليس كذلك؟

ـ بلا، لكنني لم أسرقها، أنا وجدتها على الأرض، قطعة ناشفة جافة ملقاة في وسط الشارع…

ـ لكنها طعام الحمام، نعم الحمام، رمز السلام والمحبة والتعايش، لكن مثلك من تعود أن يعطي قيمة للرصاص، لا يمكن أن يفهم ماذا يعني ذلك، كما أن الرجل العجوز الطيب القاها للحمام وليس لك أنت، وأنت تجرأت على الحمام فأرعبته وأخذت أكله…

قال الضابط مؤنباً “الأكتع”، الذي دس يده في جيبه وأخرج كسرة الخبز وقال:

ـ أيمكن للحمام أن يأكل مثل قطعة الخبز هذه سيدي؟

كانت القطعة بحجم نصف الكف، الأمر الذي جعل الضابط يكمل التحقيق دون تعليق مهم:

ـ يمكن أو لا يمكن، أنت سرقت الخبزة وأرعبت الحمام، وعقابك السجن….لكن قل لي من أين أنت؟ فأنت لا تملك حتى اثبات شخصية.

ـ من المخيم سيدي…

ـ أي مخيم؟ المخيم الصيفي؟

قال الضابط مستهزئاً، حين رد “الأكتع” مجيباً:

ـ لا يا سيدي، مخيمنا شيء آخر يختلف عمّا في ذهنك، مخيمنا بدأ بالخيمة والطين والبرد والأمطار، ثم تحول الى طوب وصفيح وأمطار وبرد ومجاري وأزقة ضيقة وأشباه طرقات، إلى وكالة للغوث والتدجين ومحاولات تمرير الأمر الواقع، بيوت صغيرة سيدي لكن يسكنها عدد كبير من الناس، كما جاء في مناهجكم الجديدة سيدي” تجمع بشري كبير” بعد أن أسقطم عنه، معهم، جميع ميزاته وأبقيتموه عارياً…سيدي

وأشار بإصبعه الى فوق مرة جديدة… وأكمل:

ـ وما دمت ترى أن السجن مكاني المناسب، إذن فليكن السجن، أتعتقد أن “مَنْ تحت المزراب يخشى من المطر”؟!!! رحمك الله ياطرفة بن العبد:

” وظلم ذوي القربى أشد مضاضة        على المرء من وقع الحسام المهند”

فقال الضابط الأول متفاجئاً بالرجل “الأكتع”، وكأنه لم ينتظر أن يحوي رأسه أكثر من أطياف جهل وغباء:

ـ ماذا قلت؟ أعد…

ـ ليس مهماً سيدي، ليس مهما…

صار الضابط يشعر أن من أمامه ليس رجلاً معتوهاً كما يبدو، فحاول أن يسأل ليتعرف عليه أكثر، قال:

ـ لماذا لم يساعدك من أعطوك البندقية إذن؟

نظر في أعماق عيني الضابط، وقال وكأنه ينتزع سكيناً غرسه الضابط بسؤاله في قلبه:

ـ لأنهم يقتلون الخيول سيدي، يقتلونها بكل أشكالها وأنواعها وحجوما وجنسها، فالحصان إن ترافق مع المهرة يخلقون الزلازل ويفجرون البراكين، لذا يقتلونها وهي ماتزال تسير، وهي جامحة شامخة، يقتلونها وهي ما تزال تعدو، يقتلونها فرادى وجماعات، فالخيول تظل تحن الى أرض المعركة، وإن لم يصحبها أحد تعود وحيدة الى هناك، تظل تصهل وتعدو وتحفر الأرض بحافرها، وإن منعتها تغضب وتصهل وتقطع الحبال وتعدو في البراري والسهول، لذا توجب قتلها، ومطاردة مُهُرها قبل أن تشب وتكبر وتتعلم العدو والصهيل، فهي تذكرهم بواجباتهم التي أغمضوا عنها عيونهم.

وسكت هنيهة وأكمل أسئلة إستنكارية لم ينتظر عليها أي جواب:

ـ أما زلت تسأل لماذا سيدي؟ ألم تسمع ب”الأم التي تقتل أبناءها”؟!!! أُدرك أنهم قد غيروا الزمن وقلبوا المفاهيم، وأنهم قتلوا الخيول الأصيلة وروضوا بعضها محولينها بإرادتها إلى بغال، ونقلونا من زمن الخيول الأصيلة الى زمن البغال والحمير، وفي مثل هذه الأزمان يصير قتل الخيول، وفي وضح النهار، واجب ، فرؤية الخيل تصهل وتعدو تذكرهم بزمن لا يريدون تذكره… لكن أتعتقد أن هذا الزمن سيستمر طويلاً سيدي؟!!!.

كان الباب مغلقاً في تلك اللحظات، وسرعان ما فُتح ليأخذ الضابط عناويننا وأسماءنا، للشهادة على سارق أكل الحمام ومرعبه، وفي تلك اللحظة رأيت كيف عجز الضابط عن تقييد يده الوحيدة، فاستعاض عن ذلك بتقييد قدميه، ولشدة خطورته قيدوا يده الوحيدة بالقدمين أيضاً، وقال الضابط وهو يسحبه إلى خارج الغرفة لأحد المجندين:

ـ إياك أن يهرب منك…إنه خطير…                                                                                                                                           *            *            *

عدت الى بيتي ذلك المساء، بقيت أفكر في ذلك الرجل، رث الثياب فقيرها، “أكتع” اليد حاد البصر كصقر بري لن يتروض أبداً، والذي منع عن عيني النوم معظم مساحة الليل كله، وأنا أقلب كلماته داخل حجرات رأسي.

ولأن “الطبع غلب التطبع”، عدت الى طبعي للخروج في صباح اليوم التالي، للإستلقاء تحت تلك الشجرة لأراقب الرجل الصالح وهو يطعم الحمام، وفعلاً خرج من قصره، حاملاً أكل الحمام في كيس بلاستيكي، وأنا أراقبه كيف ينثره لها، والحمام يأتي بأسرابه بين يديي الرجل العجوز وبين أقدامه، ويكون قد عاد الى مغادرة حذره، واثقاً بالرجل البشوش الطيب، آكلاً من بين يدي هذا الرجل العجوز، ومنذ خرج العجوز من قصره، كان أكثر بشاشة وحيوية وابتسام، لم ينتظر ليصل إلى مكانه تحت الشجرة، بل صار يلقي الحبوب منذ خروجه من بوابة قصره العملاقة، في الشارع والطريق وضفتيه، استغربت لما رأيته يطعمها بحبوب لا أعرفها، لكنني “حسدته” على كرمه، كيف يشتري للحمام الحبوب إن نقص الخبز من بيته!!! وكدت أذهب لحد بيته لأهنئه وأقبله.

لم يمر طويل وقت، حتى بدأ الحمام يترنح في الطريق وعلى جانبيه، ثم يقع على أحد جنبيه أو ظهره، وبعض اللواتي حاولن الطيران منها، خدعتاه جناحاه اللذان أصابهما الوهن والخدر، ووقعت على سطح بيت العجوز أو في حديقته الخضراء، فأخذ العجوز يصرخ بالعاملين :”إحذروا أن يتسخ القصر، إذبحوها في الخارج قبل أن تموت، إياكم أن يتشوه وجه الحديقة الأخضر ويتسخ، كي لا أخصم ما تبقى من راتبكم هذا الشهر”، واستل سكينه وأخذ يذبح بدوره الحمام الغائب عن الوعي، يلقيه أرضاً ليخفي التراب دماءه النازفة، ويتمتم مع نفسه ” ما كان يجب أن تطعمهن هذا الكم من المواد المخدرة، نصف الكمية كانت تكفي…كيف استطعت أن تنفق كل هذا المال؟!!!” ثم أحضر أكثر من عامل من قصره، ابتدأوا يجمعون جثث الحمام المذبوح الهامد داخل أكياس بلاستيكية ويدخلونها داخل القصر.

كان الرجل العجوز يأكل الحمام ويأكل عظمه الطري على أسنانه الإصطناعية الماضية، يأكل حتى حد ما فوق التشبع، فالعجوز يحب الحمام ولحمه، يسند ظهره على ظهر كرسيه على طاولة السفرة، يأخذ نفساً عميقاً، ثم ينقضّ على الحمام المحمر الذي أمامه، ويبدأ الأكل وكأنه ابتدأ لتوه، كما وصف لي صديقي العامل داخل القصر عنده، منذ ما يزيد على شهرين بقليل، ثم يأخذ يلعق ما علق فوق أصابعه، مدخلاً أصابعه داخل فمه، أو مخرجاً لسانه ليلعق ما تبقى فوقها من بقايا طعام، وكأنه يستهزئ بعقل الحمام الذي صدق خديعته. دون أن يفقد ابتسامته لحظة واحدة طيلة فترة غدائه.

قام من على طاولته، وقال:

ـ يقول المأثور الشعبي ” تغدى وتمدى، تعشى وتمشى”، لا أريد أن أسمع صوتاً الآن، جاء وقت قيلولتي بعد هذه الوجبة الدسمة… يا أبو محمد… حضِّر الخبز لأطعم، صباح غد، هذا الحمام المسكين الذي لا يجد من يطعمه… “إفعل الخير وارمه البحر” يارجل ، لا تنسَ أبداً هذا الأمر…

واستلقى على كنبته الفارهة بعد أن غسل يديه بالماء دون الصابون، مسحهما بفوطته الصغيرة، ثم صار كعادته يشم رائحة لحم الحمام الطري المتشبثة بيديه، وبقع الدم ما تزال متشبثة بساعديه وفوق قميصه…

عدت إلى بيتي مغموماً ذلك النهار، وقد اتخذت قرارين مهمين، أولهما أن لا أتقدم لوظيفة في قصر العجوز، وأن لا أشهد ضد الرجل “الأكتع” مهما هددوا أو حاولوا إجباري، ولسبب ما تذكرت المرحومة أمي، فقررت أن أزور قبرها وأقرأ الفاتحة على روحها الطاهرة…

محمد النجار

لقد إخترع العرب الإسطرلاب…

كنا، نحن معشر الشيوخ، عندما نراه قادماً وقد بدأ يبتسم، ندرك أن لديه شيئاً يريد قوله لنا، لتأخذ سهرتنا الريفية طابعاً مختلفاً، طابع تفاؤل الأطفال وآمال الشباب، فالهم كبير واسع يملأ المكان كله، لذا كلما كان يصطاد أحدنا ضحكة يضحك من أعماقه، وتزداد الضحكات من عمق الآلام ورغماً عنها، ونتهيأ لنسمع “اسطوانة” أبي فهمي الدائمة الجاهزة لمثل هذه الحالات:

ـ على ماذا تضحكون؟ أتضحكون على خيبتكم؟!!! ألم تتعلموا بعد “أن الضحك بلا سبب قلة أدب”؟

وتستمر ضحكاتنا دون أن نعير كلماته إنتباهاً يُذكر، “قابرين” جملته بين صدى ضحكاتنا، متخلصين من واجب المجاملة ومن صدق كلماته في آن …

جاء، من بعيد، رافعاً ابتسامته مثل علم، وكلما اقترب منا اتسعت ابتسامته لتتحول إلى ضحكة دون أن يقول كلمة واحدة، وكنا نحن بدورنا نبدأ بالإبتسام، وكلما أعلنت ابتسامته أكثر، عن نفسها، كلما أحدثت ابنتساماتنا ضجيجاً عالياً مسموعاً، متساوقاً أو متآمراً مع مشروع ضحكته الفاجرة.

كان أصغر من جيلنا بعقد واحد أو يزيد قليلاً، لكنه دخل، لا يدري أحد كيف أو متى، تحت جلودنا، وصار واحداً منا في أول الأمر، ثم صرنا نفتقد غيابه لاحقاً، دون أن يؤثر على تجمعنا الليلي أمام دكان أبي صابر، وسرعان ما تحول وجوده إلى ضرورة، إلى لازمة، لا تستقيم جلساتنا دونها، أصبح حضوره كملح الطعام، لا تستقيم جلساتنا دونها، وصار بعضنا يغادر إن لم يره بيننا، وكنّا أحياناً نستعجل حضوره بإرسالنا أحد أولادنا لإستعجاله، قائلاً له:

ـ أبي يريدك في موضوع مهم ياعمي أبو خالد… بسرعة إن تكرمت…

كي لا نترك له مجالاً للتفلت أو التأخير، ثم صرنا نقول له، أننا نفعل ذلك لنخلصه من كلمات زوجته التي تنزل على رأسه مثل السّوت، فيضحك ويقول:

ـ “ضرب الحبيب كأكل الزبيب”… علي شكركم على حرصكم عليّ … ما شاء الله عليكم، “محمليني جميلتكم أيضاً!!!

قال من بعيد هذه المرة، على غير عادته، بعد أن لوّح بيده في السماء، وكأنه زعيم سياسي يلقي خطاباً:

ـ و”قد إخترع العرب الإسطرلاب”… أإخترعه العرب أم لم يخترعوه، ما هم عليه العرب الآن؟… إنهم لم يتعلموا بعد أن “أصل الفتى ما قد فعل”…

وأعاد ضاحكاً كعادته:

ـ قال “إخترعوا الإسطرلاب” قال!!!

قلت دون أن أُغلق فمي أمام ضحكتي المتدفقة من بين أسناني:

ـ نعم، “إنما الفتى من قال ها أنا ذا”، لكن ما الذي استحضر هذا الأمر على بالك اليوم؟ أفي كل يوم لك “نهفة” جديدة؟!!

فقال الشيخ سالم وهو يُمسّد لحيته وبلغته الفصحى كعادة الشيوخ:

ـ قاتلك الله يارجل، كيف تستحضر هذه الأمور؟

قال وقد توقفت ضحكته على باب فمه، وكأنه ثبتها بيده:

ـ والله يا شيخ عندما أنظر لهذا الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، أكاد أنفجر غيظاً، لكن كما تعلمون “ليس باليد حيلة”.

قال الحاج أبو عماد معلقاً كعادته، الأمر الذي جعل أترابه يلقبونه بأبي عماد السياسي، كونه يعلق على كل خبر سياسي يسمعه، وربما لأنه ما زال من جماعة سلطة “أوسلو”، ويستفيد من خيراتها كما يؤكد أبو فهمي بين وقت وآخر:

ـ فعلاً صار الأمر يُفقد المرء عقله، أنظروا آخر خبر، مفتي المملكة السعودية لا يكفر المسيحيين فقط، بل يُكفر الشيعة أيضاً…

فرد أبو صابر صاحب الدكان الذي نجلس أمامه قائلاً:

ـ وما الغريب في الأمر؟!!! هؤلاء يُكفرون كل من خالفهم، ليس فقط في الأمور الكبيرة، بل وفي أبسط الأمور أيضاً، إنهم يدعون لقتل الذي يسهى عن إقامة أحد الصلوات سهواً وليس عمداً…فماذا يمكن أن تنتظر منهم؟!!!

فرد أبو علي قائلاً:

ـ لكنهم يفعلون السبعة وذمتها أينما حلّوا، ألم يطرد المتظاهرون الفرنسيون الملك وابنه والحاشية كلها من فرنسا قبل شهور؟!!!

لكن أبو محمد الذي يشعر الجميع بتوتره عندما يسمع بمملكة آل سعود، والتي يسميها ب”مملكة الذل والعهر”، قال ماداً يده بإستغراب وغضب:

ـ اتركوا المفتي وشأنه، فهو مجرد ببغاء، يردد ما يطلبون منه، وانظروا ل”غلام” ملوكهم وأمرائهم، الغلام الجبير، قائلاً “أن الأسد كالمغناطيس يجلب الإرهابيين”!!! يعني آل سعود مساكين، إنهم مظلومون، لا دخل لهم في دعم أو تمويل، ولا دخل لأمريكا بتسليح، وقصف الطيران الصهيوني للجيش السوري وعلاجه جرحى الإرهابيين ليس إلّا أكاذيب!!! مادام غلام صار سيحدد مصائر الرؤساء فقد هزلت والله يا جماعة… أسمعتم ؟ هزلت…

عاد أبو عماد “السياسي” للإمساك بخيط الحوار قائلاً:

ـ ماذا تريدون أكثر من أن المنهاج المصري الذي يدرسونه للأطفال، صار يعتبر القدس عاصمة إسرائيل!!! حتى أمريكا ومعظم دول الغرب والعالم لا تعترف بذلك!!! أما العرب فالكرم من أخلاقهم، يتبرعون بما لنا للصهاينة…

فقال أبو خالد وقد بدأ يبتسم من جديد:

ـ لا والله يا “سياسي”، هذه عليك وليست لك، من الذي جعل الحكام العرب يتجرؤون على مثل ذلك؟ أليست قيادتك؟ يعني بصراحة “عاقل يتكلم ومجنون يستمع” كما يقول المثل الشعبي، القيادة تنازلت ، لا تؤاخذني، حتى عن “كلاسين” نسائها، وتلوم الأنظمة؟ لوم قيادتك أولاً…

وضحك أبو خالد بحزن، حين رد الحاج أبو عماد “السياسي” قائلاً:

ـ والله هذه السلطة مليئة بالمناضلين، لو دققتم قليلاً في الأمر لما قلتم عنهم ما قلتموه منذ لحظات…

قال أبو صابر متهكماً، أثناء ذهابه لزبون دخل دكانه:

ـ صدقت والله يا “سياسي”، فها هم حازوا على موافقة الصهاينة ليجمعوا منا فواتير الكهرباء، “إتفاقية تاريخية” كما قالوا، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟

سألت أنا كالأبله، دون أن أميز الإستهزاء بين الكلمات:

ـ وما التاريخي في جمع فواتير الكهرباء؟

فقال أبو فهمي مُتندراً هازاً برأسه هزة لا تعرف أمن الغيظ أم من الإستهزاء بالأمر، أم من القرف منها جميعاً:

ـ آه، صناديد رجال هذه السلطة، أجبروا الإحتلال على أن يجمعوا فواتير الكهرباء… سلطة ولا كل السلطات…قاتلكم الله، كيف لو أنكم حررتم شبراً من أرض؟ لما كانت الدنيا كلها تتسع لكم…

فقال أبو خالد موجهاً كلامه لأبي عماد رغم ضحكات الجميع التي غطت عليها ضحكة الشيخ سالم:

ـ أه…ـ مهما كانوا أبطالاً في الماضي، فهذا لا يبرر أفعالهم المشينة الآن، “ياما ناس” كانوا مناضلين وخانوا يا أبا عماد، انت رجل سياسي وتعرف أكثر من أمثالي…

فقال ابو علي مجدداً، مشعلاً سيجارة “هيشي”، نافخاً دخانها بعيداً عن أبي فهمي، متجنباً كلماته: “عميت ضوي يارجل، أنفخ دخان سيجارتك بعيدا عني”، معلقاً على جماعة السلطة وجماعة الإخوان المسلمين معاً:

ـ حتى الإنتخابات المحلية حرمتمونا منها أنتم وهم..

فقال أبو عماد السياسي:

ـ نحن لا دخل لنا في الأمر، إننا إلتزمنا أمر المحكمة فقط…

قال أبو فهمي معلقاً، محاولاً إبعاد وجهه عن دخان سيجارة أبي علي:

ـ ولماذا لم تلتزموا بقرارت المحكمة عندما أمرتكم مرات، بإطلاق سراح زعيم الجبهة الشعبية الذي سلمتموه ل”ليهود”؟!!!

فقال أبو عماد مبتعداً قليلا عن كلمات أبي فهمي، محاولاً تحييدها لتفقد أهميتها ومعناها:

ـ نحن لا مصلحة لنا في تأجيل الإنتخابات، سنفوز سنفوز، ولكن الآخرين هم من ليس لديهم مصلحة…

وأشار برأسه إلى الشيخ سالم متهكماً، حين رد الشيخ سالم بشيء من العنف:

ـ “فشرت”، هذه “نطة فاتتك”، نحن كنا مَنْ سيفوز لذلك ألغيتموها…

فقال أبوفهمي من جديد:

ـ تتحدثان وكأن الناس في جيوبكما، كأن الشعب قطيع من الغنم يتبع الحمار الذي يسير أمامه “لا تؤاخذونني”، من أكد  لكما هذه النتائج الخادعة؟!!!

قال أبو خالد من جديد، وكأنه يريد تقويم الأمور:

ـ حتى لو فزتما فهذا ليس نجاح لكما بالمعنى الحقيقي للفوز، أعطوني “تلفزيوناً” وعدة صحف وعدة ملايين كي لا أقول مئات الملايين كما لديكما، وأردفوني بجهاز قمع لأسجن وأعتقل كل صاحب رأي مخالف، وأوقف تمويلكما متى شئت، وأغلق صوتكما متى أردت، تماماً كما تفعلان مع خصومكما السياسيين، لأرينكم، وأنا مجرد فرد ولست فصيلاً، كيف يكون الفوز، كلاكما، لولا صناديق المال وأجهزة القمع ما كنتما لتحققا الشيء الكثير…لكن…

وسكت قليلاً، وكأنه يريد إعلام الجميع أنه لم ينتهِ من كلامه بعد، وتابع في سياق آخر، مقترباً بفمه من أذن الحاج أبي عماد، مثيراً فضولنا، رغم أنه سأل بصوت مسموع:

ـ مَنْ ستبعث “قيادتنا المناضلة” للتعزية ب”رجل السلام” الإسرائيلي شمعون بيرس هذه المرة؟

وأطلق ضحكة مجلجلة هذه المرة أيضاً، حين أجاب أبو علي:

ـ من سيكون غير “محمد المدني” رجل التواصل مع “المجتمع الإسرائيلي”….

فقال أبو علي في ذات السياق:

ـ طبعاً ، هذا من باب الرسميات، لأن الرئيس يذهب بنفسه إذا ما أعطوه تصريح زيارة، وسيتصل بنفسه ليقوم بالواجب، أما مشروع الرئيس المقبل “الدحلان”، ربما فتح بيت عزاء في مكان إقامته، أما المدني…

فقال أبو خالد من وسط ضحكاته مقاطعاً:

ـ ماذا سيفعل الرجل ياجماعة؟ رجل “اسمه على جسمه”، يعني الشكل والمضمون واحد، إنه “المدني”، لم يقل مرة أنه العسكري لا قدر الله…

اتسعت الضحكات وتعمقت وانتشرت في فضاء القرية وفوق أسطح منازلها، وبعضها تسلل من الشبابيك المفتوحة ومن شقوق الابواب، وكانت ضحكة الشيخ سالم الشامتة أعلى الضحكات، فقال أبو فهمي هازاً برأسه موجهاً كلامه للشيخ سالم:

ـ مبسوط أنت؟ وكأن أحداً “يحك لك على جَرَب”، وكأن جماعتك أفضل بكثير؟

تنحنح الشيخ سالم وعدّل من جلسته قليلاً، عدل من وضع عمامته، ولم يحاول أن يقول شيئاً، فالمتحدث هو أبو فهمي، أكبر الرجال سناً وقدراً، كما أن هذا العجوز العتيق حمل السلاح في أكثر من وقت ليدافع عن الثورة، ومعارفه ليست من بطون الكتب داخل السجن وحسب، بل من “معمعان” الحياة التي لم ترحمه على طول عمرها، وظل رغم ذلك لا يحيد عن الحق أبداً، يقول “للأعور أنه أعور أمام عينه الباقية” و”لا يخشى في الحق لومة لائم”، وقال أبوصابر مكملاً كلام أبي فهمي:

ـ ألم تر ما يتم عندهم في القطاع المحاصر؟ صار الناس أكثر بؤساً وأكثر فقراً رغم مئات الملايين التي تصلهم، صارت الملايين في جيوب القيادات فقط، يكررون خطيئة قيادات منظمة التحرير نفسها…

ووجه حديثه مباشرة للشيخ سالم مكملاً:

ـ إنتخبكم الناس في الماضي عقاباً لقادة المنظمة الفاسدة، لقد رأوا فيكم مشروع حلمهم في التحرير، وسينبذونكم ما دمتم لا تختلفون بشيء عنهم، وعلى خطاهم المفسدة تسيرون.

قال الحاج أبو عماد معقباً وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة:

ـ أصبحت الأنفاق المتصلة بمصر ، لتهريب المخدرات وحبوب الهلوسة، وما دام التاجر يدفع لحماس فهي تحميه بدلاً من إعتقاله، والمعبر الذي يغلقه نظام مصر، لم يعد للحالات الإنسانية من مرضى وطلاب وكبار سن، بل لمن يدفع أكثر، تدفع تخرج، لا تدفع تموت منتظراً دورك الذي لن يأتي أبداً… إنكم أفضل من يحول بؤس الناس وألامهم إلى تجارة رابحة…

كان الجميع يعرف أن كلام “السياسي” صحيح رغم مآربه، وفكر الشيخ سالم الذي سمع الكثير عن حالات الفساد والإفساد الممنهج لدى جماعته، أن كلام السياسي هذا “كلام حق يراد به باطل”، وكي لا تبدأ السهام تلقى في وجهه، فكر بالسكوت كوسيلة ناجحة في الدفاع عن النفس، ف”السكوت من ذهب” في مثل هذه الحالات، لكن الحديث أيضا ببعض آيات من الذكر الحكيم ستلجم كل هؤلاء المتقولين، قال:

ـ “بسم الله الرحمن الرحيم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. صدق الله العظيم.”

لم يعرف أحد سر قول هذه الآية، لكن الرد جاء على غير توقعه، جاء من صديقه أبو أحمد الذي لم يقل شيئاً، كعادته، حتى هذه اللحظة:

ـ ما دام “الله يهدي من يشاء” ما قصة موضوع زندقتكم للناس والفصائل، التي يطرحها بعض مُفتي حماس هناك في غزة؟ لماذا لا تتركوا الأمر لرب العزة وحده؟ لماذا تدخلون “على خطه”وتحاولون إغتصاب عمله وإرادته؟ اتركوا الخلق للخالق، فتقييم الناس وتوصيفها الديني ومحاكمتها ليس شأنكم ياشيخ…

قال أبو محمد الذي ظل بنفس التوتر الذي كان عليه عندما تحدث عن آل سعود، خاصة أنه يعلم أن فتح وحماس يمولهما آل سعود بسخاء، لهذا لا يخرجا أبداً عن أوامرها:

ـ “مَنْ علمني حرفاً صرت له عبداً”، إنهم تربوا على يد وهابيوا آل سعود، الذين يتهمون بالردة ويُكفرون ويزندقون من أرادوا وكلما أرادوا ووقتما شاؤوا…

فقال أبو عماد من جديد:

ـ إنه بعض سلوكهم في قمع معارضيهم بإسم الدين…

فقال أبو صابر:

ـ يُصورون للناس أن من ينتقدهم ينتقد الدين، ويصورون أنفسهم حماة الدين…

فقال أبو فهمي ضارباً بعكازه وجه الأرض القاسي:

ـ يعني مَنْ يعادي أفكارهم هو عدو الله، وعدو الله يجب قتله أو تصفيته أو سجنه، وذلك أضعف الإيمان…

ثم صرخ غاضباً:

ـ مَنْ نصّب هؤلاء للوصاية على الدين؟ من وضعهم مكان الله؟!!!

سكتنا جميعنا أمام أسئلة أبي فهمي، ولم تعد تُسمع سوى ضربات عكازته لوجه الأرض القاسي الجاف، وسرعان ما قال:

ـ قيادة الإخوان المسلمين هؤلاء مثل قيادة شعب فلسطين التي لا تريد النزول عن ظهورنا، ينطبق عليهم المأثور الشعبي “ذنب الكلب لا يمكن أن ينعدل حتى لو وضعته في مائة قالب”، نسخة كربونية عن القيادات ذاتها، لكن بغطاء ديني هذه المرة…. ما أردت قوله أنه، بعد هزيمة حزيران سبعة وستين، “ونظر في وجوهنا ليرى أي منا قد عاصرها واعياً وليس طفلاً، وأكمل”:قال أحد أإمة الإخوان آنذاك، الشيخ محمد متولي شعراوي، أنه صلى لله شكراً لأنه نصر دولة اليهود “المؤمنة” على دولة عبد الناصر الكافرة… أرأيتم؟ أسمعتم أم أعيد؟ تماماً كما يطالب القرضاوي من أمريكا المؤمنة بضربة”للـــه” في سوريا الفاسقة الكافرة، ويستعيذ بالله ممن يفترض بوجوب حرب الصهاينة!!! ولم نسمعهم مرة واحدة في تاريخهم كله، يقولون كلمة واحدة أويقومون بفعل واحد ضد دولة رجعية، مهما فعلت ضد قضايا أمتنا، هؤلاء كانوا دائماً وأبداً معادين لأي ثورة في الوطن العربي، وها هم الآن يريدون إطفاء نقطة ضوئهم الوحيدة، “القساميون”، بأفعالهم المشينة…

أراد الحاج أبو عماد “السياسي” أن يُضيف على كلمات أبي فهمي، لكن أبو فهمي تابع ناظراً في عينيه نظرة فهمها جيداً، فكف عن محاولته، وأشار إلى الشيخ سالم بإصبع يده قائلاً لأبي عماد السياسي:

ـ هم يريدون إقناعنا أنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة، وأنهم ليسوا وكلاء الله فقط، بل أنهم الله ذاته، من خالفهم كفر، ومن عمل بعيداً عن توجيهاتهم سيتبوأ مكانه من نار جهنم، وأنتم تريدون إقناعنا، نحن القطيع، أنكم أنتم، وفقط أنتم أصحاب الحق الحصري في قيادة هذا الشعب والتحدث بإسمه، كونكم الوحيدون الذين تفهمون في السياسة ودهاليزها، وأنكم الوحيدون أصحاب الحق في التكسب من أكياس المال ـ العلف القادمة من آل سعود، لذا لا تتجرآن أنتما معاً على إدانة تدمير أوطاننا الذي يقوده آل سعود، كي لا أتحدث عن تساوقكما معه، وتعتقدان أن الوطن مختصر بكما، بأنكما الوطن والشعب والقضية… أنتما متشابهان حد التطابق، رغم كل الشعارات الفسفورية البراقة، كلاكما يرفض الآخر بطريقته، جُل القضية الوطنية بالنسبة إليكما مدى تطابقها مع مصالحكما الفئوية والشخصية، تتغنيان بها مادامت “بقرة حلوب” تشربان حليبها وتبيعان ما تبقى، حتى وإن كان حلق الشعب جاف وينتظر حتى قطرة الماء فما بالكما بالحليب؟!!! كُفَّا عن هذا العبث، كفاكما إختصاراً لشعب كامل في فصيلين إثنين، فوالله هذا الشعب أكبر منكما ومن كل الفصائل مجتمعة، ولن يكون قطيعاً مهما حاولتما، مهما دعموكما آل سعود وغير آل سعود، مهما كنتما وصرتما وستصيران… إذهبا إلى الجحيم أنتما معاً، فربما توحدتما في الطريق إلى هناك، أو عندما تقابلان “العادل”، والذي ظني، أنه لن يكون غفورا معكما، لأنه غفور رحيم في كل شيء إلّا في دم الشهداء وأنين الجرحى واليتامى والثكالى، الذي أكلتماه مالاً وبعتماه رخيصاً وشربتماه ذلاً حتى الثمالة، وما تزالان…

وقام أبو فهمي يساعده عكازه، مشى بضع خطوات إلى الأمام، توقف لحظات واستدار قائلاً:

ـ كيف كان يمكن أن يكون حالكما لو حررتما أرضاً؟ ربما كنتما ستنصبان لنا المشانق….

وأكمل طريقه دون تعليق من أحد، ظل يمشي ويهز برأسه ساخطاً، وصعد بنظره بعيداً نحو نجمة ظلت منذ سني شبابه الأولى تتألق في السماء، وكنا ننظر إليه كالبلهاء دون أن ننطق بكلمة واحدة.

أغلق أبو صابر دكانه، وتفرقنا إلى بيوتنا، تطرق رؤوسنا مطارق من كلماته، وفي تلك الليلة ظلت عيون القرية، ببيوتها وأشجارها وآبار مياهها الجافة، معلقة في تلك النجمة المتألقة الساهرة في سماء قريتنا، والتي ترفض المغادرة أو المبيت.

محمد النجار

المستشيخون

طوال عمري وأنا أصلي في هذا المسجد، خاصة صلاة الجمعة التي لم أتغيب عنها يوماً إلّا معذوراً، وتقالب على رأسي عشرات الشيوخ، منهم الطيب ومنهم الخبيث، منهم المتدين ومنم مُتصنع التدين، منهم المتفاني الغيور على دينه، ومنهم من يبيع دينه ب”شلن”، فالناس أجناس كما تعلم يا أبا محمد، وكما تعرفني فأنا لم أحاكم يوما شخصاً على معتقداته ولا حتى على أقواله، كوني معتقد أشد الإعتقاد أن لكلٍ نيته ومقصده، وأن الله عليم بالنيات كما أنه عليم بالصدور، وهو الوحيد الذي يحق له محاكمة البشر ومحاسبتها، وليس أي شخص آخر مهما على شأنه وزاد ماله أو علمه، لكن أن يضع إنسان نفسه مكان الله فهذا لعمري شيء لا يمكن السكوت عليه أبداً…

هذا ما قلته لأبي محمد أثناء جلوسنا في المقهى، تتوسطنا “الشيشتين” اللتين يتعالى دخانهما، قبل أن يصطدم في سقف المقهى ويتفتت متبعثراً باحثاً عن مخرج، وأبو محمد الذي يعرفني جيداً قال بلغته الفصيحة التي لم يتركها كما ترك الصلاة في المسجد، هروباً من “تجار الدين” كما أسماهم، واكتفى بالصلاة في بيته، حتى صلاة الجمعة، صار يضع مذياعاً أمامه، يستمع لخطبتها، ويقف خلف المذياع مصلياً. قال:

ـ هاتِ ما عندك يا أبا جابر، قل ما الذي يؤرقك ويدمي قلبك…

قلت من باب الفضفضة لا أكثر، فأنا أعرف أن لا شيء سيغير هذا الواقع الأليم، الذي صار فيه التكالب على لقب “الشيخ”، أكثر ما يميز شارعنا الغزي، كتكالب حفنات من ذباب على كوم قمامة أعزكم الله، فصرت ترى الطبيب والمهندس والمعلم يفضل مناداته بالشيخ الطبيب أو الشيخ المهندس أو الشيخ المعلم، وصرت ترى البلطجي واللص وتاجر المخدرات ورجل السياسة يختبئ خلف هذا اللقب، وكأن التَشَيُّخ أصبح علامة فارقة للتضليل والخداع والنصب ونشر الأكاذيب، وصرت ترى كل من هب ودب يدعونه شيخاً، فصار الصالح والطالح شيخاً، وأخذ عدد الشيوخ يتزايد مثل الفطر بعد المطر، وصارت الفتاوى أكثر من أن تُعد أو أن تُحصى، وجُلّها في توافه الأمور، كما في خدمة “السلطان” والقادة الجدد للبلد المنكوب، تماماً كما في زمن الدولة الأموية وما تبعها طوال ثلاثة عشر قرنا من حكم الخلافة المتتالي، من حكم دنيوي فاسق فاجر منحل باسم الدين، وبعضها لم يتجاوز الدين فقط، بل تجاوز العقل والمنطق والأخلاق وكل شيء، قلت:

ـ تتقاذفني الأفكار يا أبا محمد، وأزداد قناعة يوماً بعد آخر، بأن أفعل مثلك، وأحتجب عن الصلاة، أقصد أن أكتفي بالصلاة في بيتي…

فقال أبو محمد:

ـ  نعم “لا فُض فوك”، صدقت ورب الكعبة، لكن بعد ماذا يا ابن الأوادم؟ بعد أن إنتقدتني على ذلك كل ذاك النقد؟ وبعد أن لمتني ورأيت في قراري قراراً لا معنى له؟ وأنه لن يغير من الأمر شيئاً؟ وقلت أن مواجهة هؤلاء فرض وواجب، وأن الله سيحاسبنا إن تواطأنا معهم أو سكتنا عمّا يقولون أو يفعلون، أو عما يزعمون على الله كذباً؟

قلت لأبي محمد مقاطعاً، بعد أن سحبت من أرجيلتي نفساً عميقاً تطايرت به قطرات الماء متزاحمة متفلتة داخلها، محدثة كركرة موسيقية أليفة، وهي تتسابق إلى الأعلى في محاولات تحرر فاشلة، فعادت لقمقمها ساكنة منتظرة فرصة جديدة للإنعتاق:

ـ إنها أفكار يارجل، مجرد أفكار تتقاذف رأسي، فأنا لن أفعل مثلك وأحتجب خلف حوائط منزلي، ثم إذا إحتجبنا أنا وأنت والآخرون، من سيواجه “تجار الدين” هؤلاء؟

شعر أبو محمد بالسعادة كوني صرت أستخدم كلماته، حتى لو اختلفت معه في الرأي بطريقة مواجهتهم، فقال وقد عادت إليه ابتسامة وجهه، وكان يسحب أنفاساً قصيرة متقطعة من نرجيلته، ويحرك رأسه طرباً على أنغام أغنية، يتردد صداها عالياً في سماء المقهى:

ـ أترك الفلسفة وقل لي ما الذي يؤرقك، هات ما عندك ولا تتعبني يارجل، أنطق بهذه الجوهرة…

فقلت مختصراً الموضوع في جملة قصيرة:

ـ إنه مفتي حماس، يونس أو يوسف الأسطل…

فقال مفتعلاً أنه يحاول التأكد من الإسم مقترباً بأذنه من فمي:

ـ يونس أو يوسف ماذا يا أبا جابر؟

قلت موضحاً الإسم الذي لم يسمعه:

ـ الأسطل …

لم أكن أعلم أنه سأل من باب التهكم وخفة الظل، لكنه كان قد بدأ تهكماته المعهودة مفتعلاً عدم الفهم:

ـ الأسطل؟!!! ومن الذي سطله؟!!!

كانت الإبتسامة المتلاعبة على أبواب شفتيه، تتفلت محاولة أن تتحول إلى ضحكة صاخبة، لكنه كلن يمسكها ويقمع محاولتها تلك، قلت متماشياً مع كلماته، شارحاً ما أود قوله:

ـ إنه إسم مركب على صفة يا أبا محمد، وليس صفة فقط…

قال سائلاً متهكماً من جديد، وكأنه لم يسمع ما أقول:

ـ مالك وما لهذا الأسطل؟ مالك ولمفتي الديار الحمساوية؟ مفتي ديار الإخوان المسلمين فرع فلسطين؟

فقلت موضحاً ما أردت قوله منذ البدء:

ـ لقد أفتى هذا الرجل بأن “من لا ينتخب مرشحي حركة حماس، لهو مرتد زنديق كافر، لا مغفرة له ولا توبة تقبل منه حتى لو صام أو صلى أو حج أو زكّى”…

فقال بذات الصيغة التهكمية، والأبتسامة ما تزال تحاول التحول إلى ضحكة دون نجاح:

ـ ولا حتى لو فك رقبة؟!!!

وأمام إندهاشي أكمل، تماماً كأنه يتكلم بجدية وليس مزاحاً:

ـ ثم يا أبا جابر، يقول الله تعالى في كتابه العزيز “ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج”، لذلك يمكننا القول ليس على الأسطل حرج أيضاً، فالله الذي ابتلاه بهذه العاهة وليس نحن…

سكت قليلاً  وسأل بكل “براءة” متهكمة مفتعلة:

ـ أمتأكد أنت أنه كان بكامل قواه العقلية عندما أفتى؟ ألم يتناول شيئاً من المخدرات قبل ذلك؟ فهو كما أعلم كان من المتحمسين لإستبدال عقوبة المؤبد أو الإعدام على تجار المخدرات في مصر بثمانين جلدة، ذلك الإقتراح الذي تقدم به نواب من الإخوان المسلمين في البرلمان هناك، بحجة تطبيق الشريعة، وهو في حقيقة الأمر لحماية تجار المخدرات والذين هم شركاءهم في “التجارة” لخدمة تطور الإقتصاد من أجل رفاهية الشعب!!!.

واقترب بكرسي القش الذي يجلس عليه وقال:

ـ يقول البعض أن له باعاً وذراعاً في غزتنا هنا، في هذا الأمر أيضاً، لكن على قاعدة أن لا يزيد الربح عن الثلث، و”الثلث كثير”، كما أوصى الرسول الكريم في باب التجارة…

ورفع يديه الى السماء داعياً متهكماً:

ـ لا أراه الله خسارة بتجارة نزيهة!!!

قلت وكان الغضب يأكلني رغم كلماته العميقة بإسلوبه الساخر:

ـ ياأبا محمد، يبدو أنك لا تفهم ما أقول، فهذا الأسطل يريد إقناعنا بأنه قد أخذ وكالة “الله تعالى” الحصرية وتمثيله على الأرض، فهو الناطق الرسمي والوحيد يإسمه، بل لقد وضع نفسه مكان الخالق، فهو الذي يحدد مَنْ الذي تجوز توبته ومَنْ لا تجوز، مَنْ المؤمن ومَنْ الكافر، مَنْ يدخل الجنة ومَنْ يدخل النار، وما على الله سبحانه، بقدرته وعليائه إلّا السمع والطاعة… أتفهم ما أريد قوله؟

فقال أبو محمد بعد أن تراجعت ابتسامته داخل فمه، وما زال يستمع للأغاني القادمة من مذياع قديم مركون على رف في أعلى حائط المقهى ويهز رأسه:

ـ وما الغريب في الأمر ياأبا جابر؟ ما الغريب على الأسطل وأمثاله من شيوخ الفتنة وقادتهم؟ لماذا كل هذا الإستغراب؟ ألم ترَ كيف ينحني مُقبلاً، زعيمه هنية، يد شيخ الفتنة الأكبر، القرضاوي، الذي يُقبّل بدوره حذاء الشيخة موزة وأبنائها مقابل حفنة مال؟ ويستجدي”ضربة للــــــــــه” من المحسنين الأمريكان لسوريا “الملحدة الطاغية”، ضربة تساعدها على الإستقرار وتنشر بها الديمقراطية مثلما نشروهما في العراق وفي ليبيا، وينفي  بشدة أن يكون هناك هدف “للثوار” في محاربة اسرائيل قائلاً مستغرباً:”من قال ذلك؟”و “لصالح مَنْ مثل هذه الدعاية المغرضة؟” إي والله “كفيت ووفيت” أيها الشيخ، وهل بعد هذه الفتاوى حاجة لفتاوى أخرى؟ لا ورب الكعبة، لقد قمت بالواجب وأكثر…

أخذ نفساً جديداً من نرجيلته، وقال:

ـ يقول الشاعر يا أبا جابر: “إذا كان رب البيت للدف ضارباً     فشيمة أهل البيت كلهم الرقص”، إذا كان زعيمهم القرضاوي يفتي ب” لو عاد النبي محمد لوضع يده بيد الناتو”، أتتخيل ذلك؟ الناتو الذي يحتل مقدساتنا وغرس لنا هذا الكيان الذي ما فتئ يقتل أبناءنا، ويدمر أوطاننا، وبفضله تقودنا “مباغي” النفط هذه، إن كان زعيمهم بهذا “الرخص” فماذا تنتظر من التابعين؟!!!

سكت آخذاً كمية من هواء المقهى الملوث، وقال:

ـ بعد هذا العمر يا أبا جابر، حان الوقت لتدرك مرة وإلى الأبد، مَنْ أكل من زاد الذل وشرب وارتوى بمائه، لا يمكن أن يكون عزيزاً أو يعيش كريماً…

تركني أنظر إليه، وأخذ يستثير “كركرة” الماء في النرجيلة، وصرت أنظر لمحاولات تفلّتها لتتحرر وتنعتق، وأغمض عينيه وعاد ليستمع لصوت الموسيقى القادمة من المذياع القديم، وكان زياد رحباني يغرد معلناً:

أنا مش كافر                                                                                                                          هيدا انت الكافر                                                                                                                     وعم بتحطا فيي كونك شيخ الكافرين

وأبو محمد يهز رأسه ميمنة وميسرة، على موجات اللحن الذي غطى مساحة المقهى كله، وسط دخان النراجيل  المتطاير الكثيف…

محمد النجار

غُلام السلطان

جلست معهم على نفس الطاولة، فكلنا، ودون استثناء، من الجيل نفسه، جيل الكهول كما تحبون، أنتم الشباب، أن تسموننا، فكما ترى، أصبحوا يحشرون الأعراس في صالة! بين أربعة جدران! ولم تعد كما كانت، طليقة حرة، تسبح في سمائها الأهازيج الشعبية من عتابا ودلعونا وميجنا، من مناداة وإستجلاب “لظريف الطول”، ولم تعد تسبح في الفضاء، لتملأ الحقول والجبال والكون كله فرحاً وقمحاً ووروداً،  واليوم كما ترى، ف”مهاهاة” النسوة تتكسر أصداؤها على حوائط الصالة، وتنهار منزلقة كحبات الندى من على أوراق الأشجار.

من الطبيعي أن أجلس مع جيلي، لنتسامر ونتحدث ونلتقي ونختلف، في وسط تلك الآلات المزعجة الصاخبة التي يسمونها بالموسيقى، موسيقى تغيب عنها الشبابة؟!!! يا لمهازل هذا الزمان!!! لكن ما العمل ولكل جيل زمانه وميوله وأفكاره وطريقة حياته؟

جلست مع أبو مصطفى، مع أبو أحمد وأبو حاتم، وخامسنا الشيخ أبو العبد، والذي رغم عدم رغبتي في مجالسته في معظم الأوقات، إلا أنني لا أظهر له شعوري هذا إلّا إذا أجبرت على ذلك، من باب الحرص على عدم جرح شعوره، أو إحراجه أمام الناس، فمعرفتي به على مدي أجيال، ما زالت تبعدني عنه وعن منْ يُمثل، فانا لا أحب تجار الدين، ولا من يضعون مصالحهم فوق كل إعتبار، ولديهم دائماً وأبداً “الغاية تبرر الوسيلة”.

كما أنني لا أهتم للأمر لولا حالة الإستعلاء التي يمارسها، أحياناً، دون وجه حق، أقصد التي قوائمها من عجين، وبالتالي يمكن أن أسميها بحالة “إستقواء مؤقت”، لأن الكذب والخداع والتملق واللعب على الحبال لن يستمر للأبد أبداً، ولهم في قيادة المنظمة ولاحقاً السلطة دليلاً عما أقول، صحيح أنهم كسبوا المال، لكنهم خسّرونا القضية كما تعلم، ومن العار أن نقع في مستنقع المال المُذلّ ذاته.

كان يمسح على لحيته البيضاء عند قدومي، يهدهدها ويدغدغها ويكاد يناجيها، كعادته، وكعادتي عندما ألتقيه، ورغم خلافنا الكبير، اُمازحه وأستفزه لأخلق جواً جميلاً بشوشاً لقعدتنا، فما بالك في جو العرس المبهج رغم موسيقاه الصاخبة الخالية من الشبابة؟!!! وأحياناً كان هو يفعل الأمر نفسه، لكن ليس بنفس النجاح التي تلاقيه كلماتي، الأمر الذي يزيد من إستفزازه وغضبه.

قلت له ما أن إحتضنني المقعد:

ـ والله لحية!!! بيضاء مثل الصفحة البيضاء، آه لو كان قلبك أبيضاً مثلها…

وضحكت لتأكيد مزاحي، حين أسند ظهره المقعد جيداً، كأنه يريد التأكد من حماية ظهره، وقال:

ـ كيفما كان فهو أكثر من قلبك بياضاً…

شعرت بنبرة الغضب بين كلماته، ورأيت الحقد يتدحرج معها، فاقتربت منه وسألت بصوت خفيض لكن مسموع من كل الجالسين:                                                                                                                       ـ أمتأكد أنت مما تقول؟

لم أكن أعلم أن سؤالي هذا سيستثيره أكثر من شتم أبيه، وسيربكه ويغضبه، وأنه سيفتح باباً للنقاش ليس العرس مكانه المثالي، قال وكان مدركاً بأن أي إجابة سيعطيها لن تقنع الجالسين، وأن تقاسيم وجهه ستخونه وتكشف أمره، لكنه رغم ذلك قال:

ـ نحن قلوبنا بيضاء دائماً والحمد لله، والله سبحانه أكرمنا في دنيانا وسيجعل مأوانا الجنة في الآخرة إنشاء الله…

عرفت أنه يستقوي علي بجماعته من خلال كلمة “نحن” التي قالها بوضوح، وشعرت أنه أخذ الحديث وسحبه إلى مكان آخر، غير الطريق الذي كان يسير فيه، عن سبق إصرار، وأنا كما تعرفني رجل مستقل عن الأحزاب جميعاً، رغم أن هذا ليس مفخرة، ورغم وجهة نظري التي تلتقي أحياناً أو تتعارض مع بعضها، فقلت:

ـ أن تكون لكم او لغيركم “الجنة” فهذا أمر لا يعلمه إلا الله، رغم شكي بأنكم ستصلونها يوماً، إلا إذا كان سبحانه قد وكلكم مكانه على الأرض كما تحاولون إفهام القطيع!!! أما هذه “الفلل” والعقارات والسيارات الفارهة، فهي من مملكة الخير، مملكة آل سعود وحارة الشيخة موزة أطال الله عمرهما، ولا أدري فربما من السلطان العثماني الجديد أيضاً، كما لدولة “الفرس الرافضية” الدور الأساس لمدكم بالمال والسلاح، نعم ذات الدولة التي تُحرِّضون عليها في المساجد وفي تعميماتكم الداخلية، وتمتدحونها، أحياناً، في العلن، في لعبتكم المنافقة الممجوجة، وليس من عند الله، فأنتم بئر بلا قعر، لا يملؤه شيئاً أبداً، وهذه على ما أظن ليست فخراً بقدر كونها نفاقاً، وهي، على كل حال، مغموسة بدماء الشهداء وأنات الجرحى وبكاء اليتامى والأرامل، كونها لم تُعطَ لكم، بغض النظر عن نوايا المتبرعين، لسواد عيونكم، بل بسبب مخططات وبرامج كل دافع إيجاباً أم سلباً.

وكان أبو حاتم قد دس عبارته بين كلماتي قائلاً:

ـ إنهم كالمقبرة لا جازاهم الله خيراً، لا يردون قادم، وفوق ذلك يشكون ويبكون…

ـ أصدقك القول أنني لم أرد أن أقول كل ذلك ولا حتى شيئاً منه، كما لم أتوقع أن لا يكون إحتجاجه إلا على السلطان العثماني، ولم أعتقد أن يكون بهذه الدرجة من الغضب، قال:

ـ لا تتحدث على دولة الإسلام!!! يُغضبكم “القائد”لأنه “الفارس الأخير” الذي يدافع عن بلاد الإسلام والمسلمين، لذلك حاولوا أمثالكم الإنقلاب عليه…

لم أتوقع جوابه هذا رغم معرفتي بوجهة نظره ونظرهم عن “السلطان”، فوجدتني أقول:

ـ لم أكن أعرف أن الدولة التركية، الدولة الأهم لحلف الناتو، وصاحبة العلاقة الأكثر تميزاً مع الكيان، والتي بها البغاء والخمور وكل الرذائل، متداولة على الملأ وبترخيص من الدولة، هي دولة إسلامكم المثالية!!! وأنه يحارب سوريا لأنها دولة الكفر والفساد والفسق والفجور، ويقيم العلاقات و يُنجز المعاهدات والتطبيع مع دولة الكيان لأنها دولة ديمقراطية، لم تحتل أرضاً ولم تقمع أو تهجر شعباً ولم تسجن أحد ولم تهدم مسجداًاًَََ!!! وأن خدمته لحلف “الناتو” هي لخدمة الإسلام وليس لخدمة المشروع الصهيو ـ أمريكي في المنطقة، لكن ماذا سأقول وأنتم لستم بأحسن منه، أما زلتم تراهنون على بلير أم كففتم بعد انكشاف أمركم؟!!!

فقال متحدثاً بإتجاه واحد، وكأنه لا يهمنه شيئاً سوى “السلطان”، الأمر الذي أثار في تساؤلات كثيرة عن زياراته المتكررة لهناك، لكن الأمر ليس شخصياً بالنسبة لي كما تعلم، قال:

ـ هذا القائد جاء عن طريق الإنتخابات الديمقراطية كما تعلم ويعلم الجميع، ومن يتجرأ على هزيمته فهناك صناديق الإقتراع وليس الإنقلابات…

فقلت وقد ذُهلت لما للأمر من أهمية عندهم:

ـ أنا بطبعي ضد الإنقلابات العسكرية كيفما كانت وأينما كانت، وبغض النظر إن كان الإنقلاب حقيقي أم مُفبرك، فهذا لا يعطي الحق لسلطانك أن يعتقل الآلاف ويفصل من العمل عشرات الآلاف ويمنع الملايين من السفر، كيف استطاع محاكمة هؤلاء في ساعات؟ ولمصلحة من يسحل القضاة والمحامين وأساتذة الجامعات من المعارضين في الشوارع؟ لكن إذا كان قد قمع التظاهرات وسجن الصحافيين والمخالفين، ودمر عشرات القرى للأكراد والعرب بدون إنقلاب، فماذا سيكون عليه الأمر مع وجود إنقلاب؟!!!

قال وقد أخذ يتصاعد الغضب داخل صدره، خاصة بعد أن تدخل أبو أحمد وأبو مصطفى وأبو حاتم في الحديث في غير صالحه:

ـ أتريد أن يرمي هؤلاء الإنقلابيون بالورود؟

قال حينها أبو مصطفى:

ـ ياشيخ أبا العبد، الأمر ليس كذلك، فكل ما هو مطلوب تقديم المتورطين للعدالة بعد أن يأخذ التحقيق مجراه…

وتابع أبو أحمد:

ـ إذا كان العسكر هم من قام بالإنقلاب، فما علاقة المعلمين والقضاة والمحامين وعاملي المؤسسات الخدمية في الدولة بالأمر؟ أقصد لماذا طالهم الأعتقال والفصل والمنع من السفر؟

فقال أبو حاتم والذي كان مجرد وجوده استفزازاً للشيخ أبو العبد:

ـ صحيح أن الإنقلاب مرفوض ياشيخ، لكن أن تُعمل دولة موازية تحكمها شركة سرية، لا يعرف أحد كيف أخذت ترخيصها ولا من أين، وتعمل تحت إمرة “السلطان”، وتأخذ تفتك بالشر دون رادع فهل ههذا مسموح في دولتك الإسلامية؟!!!

فقال الشيخ أبو العبد عندما وجد نفسه وحيداً في الدفاع عن “السلطان”:

ـ هراء… كل ما تقولونه هراء، جُل ما تبغون أن تُشوهوا سمعة “السلطان” والدولة الإسلامية التي يقود…

فقال أبو حاتم من جديد:

ـ لنأخذ الأمر بطريقة أخرى ونسأل: لماذا باعكم السلطان في سوق النخاسة الإسرائيلي وتخلى عن رفع الحصار عن غزة؟ لماذا لم يدعمكم بالسلاح والمال كما دعمتكم دولة “الفرس” التي ما زلتم تحرضون عليها قواعدكم؟ ولماذا لم تقدم لكم المكان الآمن والخبرة والصواريخ كما قدمتها لكم دولة سوريا التي تحاربون؟ أم تعتقدون أن الغزيين لا ينقصهم إلّا “شوكولاتة” السلطان وألعابه لينتصروا على دبابات “إسرائيل”؟!!!

أخذ أبو أمصطفى الكلام من فم أبي حاتم، وأضاف وكأنه يتابع ما قاله:

ـ يأخي يا شيخ أبو العبد، والله “هلكتمونا” وأنتم تقولون دولة إسلامية، وأصدقك القول أنني لم أعد أتعجب أبداً، أن أسلافكم، وعلى إ‘متداد ألف وثلاثمائة عام كاملة، لم يقدموا لنا من العدالة شيئاً يُذكر، فلو رفعتم سني الخلافة المختلف عليها أصلاً، لما بقي في ثلاثة عشر قرناً دولة إسلامية عادلة نفتخر بها سوى عامين ونصف العام عهد عمر بن عبد العزيز، وتسع شهور فقط في عهد الخليفة المهتدي، أهذا ما تريدون تطبيقه علينا؟ يا أخي “لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”.

ـ خسئتم… ألف مرة خسئتم، فوالله دولة الإسلام هي من خرّجت للعالم في العلوم كافة، علم الطب والفلك والفيزياء والفلسفة، أبو بكر الرازي وابن الهيثم والكندي وابن سينا وابن رشد والجاحظ، نسيتم ذلك أم تتناسون؟ لا والله أظنكم تتناسون!!!

وأسند ظهره المقعد من جديد، حين بدأت الضحكات تتعالى من البقية المحيطة به، وقال أبو حاتم مجدداً:

ـ ألم تُزندقهم “دولتك الإسلاميه وتكفرهم وتتهمهم بالإلحاد؟ ألم يكفروا الرازي ويحجروا على كتبه وفلسفته لعشرات السنين، وكذلك الحال مع ابن الهيثم؟ ألم يسخر الجاحظ من النقليين أمثالكم بما فيهم من نقلوا الحديث؟ ألم يدعو لسلطة العقل؟ ألم تُصادر مكتبة الكندي ويُجلد أمام الناس بأمر من الخليفة نفسه؟ ألم يُكفر ابن سينا ويُسمى ب”إمام الملحدين”؟ ألم يحرقوا كتب ابن رشد، ولولا إعادة ترجمتها عن اللاتينية لما عرفنا عنها شيئاً؟ أم أنكم كعادتكم دائماً، تشوهون الحقائق أو تقلبونها، ماهو جيد فهو لكم وما هو فاسد لا علاقة لكم به!!! إن عمود الإسلام هو العدل، أرنا أين ومتى تم تطبيقه على إمتداد من إدّعوا أنهم أقاموا دولة إسلامية…

تدخلت وقلت، وقد رأيت الذهاب بعيداً عن الموضوع قد يخلط الأمور، في محاولة للعودة لما بدأناه:

ـ أنت تتحدث عن الديمقراطية التي طالما اعتبرتموها بدعة، وأنها ليست من الإسلام في شيء، ألم يقل زعيمكم جميعاً حسن البنّا “يجب أن تكون القيادة من رجال الدين، ومن المتمرسين على القيادة مثل رؤساء العشائر!!! ولا تُعتبر الإنتخابات مقبولة إذا لم تأت بهم”!!! يعني الديمقراطية تكون فقط إذا انتخبتم من نريد!!! تفصيلاً على المقاس، ثم هل زعماء العشائر منصوص عليهم في كتاب الله؟

فقال أبو أحمد قاطعاً حبل أفكاري:

ـ أتركونا من الماضي كله، إن ما يزعجني تصريحات بعض قادة الإخوان في غزة، أنهم مع السلطان حتى لو سالت دماء شعبنا على سواحل تركيا، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة عندما تم التطبيع بين الكيان ودولة “السلطان”…

فقال أبو مصطفى وقد بدأت ابتسامة متهكمة ترتسم تحت شاربه الكثيف:

ـ مشعل يقول أن الشعب الفلسطيني الخاسر الأكبر لو نجح الإنقلاب!!!

ومسح شاربيه بإصبعين من يده، وتابع:

ـ الخاسر هو الشعب وليس حركة الإخوان المسلمين!!! أسمعتم؟ لأننا وقتها قد نخسر نتائج التطبيع مع الكيان.

وأطلق ضحكة فاجرة كادت تستجلب عيون المحتفلين، وأكملت أنا:

ـ وأكمل مشعل”يتهموننا أننا “حريم السلطان”، يشرفنا أن نكون “حريم السلطان، إذا كان السلطان هو أردوغان”…

وانتهى النقاش وسط دهشة الشيخ أبو العبد، المنطلقة من بؤبؤي عينيه اللتين اتسعتا فجأة أكبر من أن يستطيع حجبهما، وابتدأت التعليقات، وتعليقاتنا، نحن الكهول، فاجرة فاحشة في أحيان كثيرة، بل معظم الأحيان، وصارت التعليقات مصحوبة بالضحكات وبغلاف دخاني كثيف من سجائر الهيشي:

ـ والله يبدو أن السيد مشعل ياأبا العبد يعرف كيف تكون “حريم السلطان”.

ـ وربما يعرف تماماً ما يبسط “السلطان” وإلّا لما تمنى أن يكون من حريمه!!!

ـ آه والله ياعمي، إسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

ـ لنسأل مشعل أبا ياشيخ، إن كان السلطان يفضل الغلمان!!!

ـ غلام غلام لكن سعره فيه…

ـ ربما نسمع غداً أن “السلطان” أمر “أعط هذا الغلام ألف درهم ومائة ناقة”، مشيراً بإصبعه إلى السيد مشعل، لفضله في متعة السلطان…

ـ  فهمنا لماذا الألف درهم، لكن لماذا المائة ناقة ياأخ العرب؟

ـ ليجلب للسلطان على سناماتها غلماناً جدداً من الفصيلة ذاتها، يعني قافلة متوجهة للباب العالي …

واستمرت التعليقات منهمرة كجدول ماء من سطح جبل، ولم يلحظ مغادرة الشيخ أبو العبد الطاولة سوى أبو حاتم الذي ناداه بأعلى صوته قائلاً:

ـ إلى أين يا أبا العبد؟ القافلة لم تصل بعد، لماذا كل هذه العجالة؟!!!…

فما كان من أبي العبد إلا أن عاد فوراً إلى مكانه، وأخذ يبتسم أمام ضحكاتنا، وقال:

ـ كفى لعنكم الله، كفى قاتلكم الله…

واتسعت ابتسامة فمه واقترب من وسط الطاولة ليسمع الجميع سؤاله، وقال:

ـ بربكم هل صحيح ما نقلتموه على لسان السيد مشعل؟

هز بعضنا رأسه بالإيجاب، لكن أحداً لم يقل شيئاً، خاصة بعد ان هدأ كل شيء فجأة، وأخذت تنسكب في آذاننا صوت شبابة يأتي متماوجاً في سماء الصالة، وقام بعض الشبان والصبايا بكوفياتهم وهندياتهم وأثوابهن الشعبية يدبكون، ويدقون صدر الأرض بأقدامهم الواثقة، على أنغام الدلعونا….. حينها أدركت أن أعراس الصالات أيضاً، لم تكن بذاك السوء الذي تصورته.

محمد النجار