آكل اللحم … الأرنب

هكذا خلقه الله، لم يستحدث شيئاً من عنده، ومن فطره الله على شيء ظل عليه، ولا إعتراض على خلق الله.

الأرانب تمتاز بالتحسب واليقظة ورهافة الحس وسرعةالشعور بالخطر، تظل يقظة على مدار الساعة لتحفظ جلدها، وهكذا هو، فالأعداء متربصين من وسط  جبال الأرض ومن خلف أشجار الغابة، من بين غيوم السماء ومن حدود القمر ومن أطراف طرقات السماوات يطلون، من كل هدب وصوب، صيف شتاء، ترى آثارهم وعلامات مخالبهم، والأرانب سارحات أو متمشيات أو يتناولن طعامهن أو حتى نائمات في الجحور، أو وهن يحاولن الراحة تحت ظلال أشجار الغابة.

ما عرفن يوماً راحة، عيونهن اللامعة تجوب السماء والأرض، تبحث في زواريب الغابة وبين طيات غيوم السماء عن خطر مُحدق مختبئ، لئلا يداهمهن الموت المتربص، من حيوانات كاسرة أو طيور جارحة. حتى اكثر الحيوانات خِسّة يجدن فيهن مرتعاً، يغزوهن ولا يتركون لهن متسعاً لراحة أو لحظات طمأنينة، فتجد حتى الثعالب والكلاب والواويات والبوم والغربان تهاجم مع سبق إصرار وترصد للقتل والغزو.

لا يتذكر الأرنب لحظة واحده بأن قبيلته كانت على خلاف مع أحد، أو بأنها غزت يوماً قبيلة أخرى من قبائل الغابة كبرت أوصغرت، قويت أو ضعفت، بل ظلت دائماً تحاول خلق علاقات السلم وحسن الجوار مع الجميع، لكن ذلك، رغم ذلك، لم يجلب لها سوى المزيد من المتاعب والغزو المتكرر.

ربما لهذا السبب بالذات، كان الأرنب الأبيض الذي لا تشوب لونه أي رتوش أو ألوان مغايرة، بياض لا يشبه أبيض الأرانب في شيء، أقرب إلى رايات الإستسلام منه إلى لون الأرانب الثلجي، تكتشفه العين من بين رصاصات الحروب، ربما لذلك كان الأرنب الأبيض أكثر حرصاً على نفسه، وهو يدرك تمام الإدراك أن الخوف مربك والجبن ذل، وهو يُفضل أن يعيش جباناً ذليلاً على أن يفقد جلده، فما فائدة الشجاعة عندما تكون تتلوى في فم ثعلب، أو عندما تنتف لحمك، قطعة قطعة، البوم والغربان؟!.  لذلك كان يواجه منتقديه من الأرانب بمنطقه هذا، ويدلل عليه بعدد الأرانب الكبير الذي أكلت الثعالب حتى هيكلها العظمي، بعد أن لم يتبقَ من لحمها شياً من الطيور الجارحة، ومن نجى من بين مخالبها ونيوبها ومناقيرها المعكوفة، عاش بجروحه ودمه النازف ما قدّر الله له أن يعيش، عاش ليعايش الألم ويتعايش مع العاهات الدائمة المستديمة، حتى أن جزءاً من الأرانب التي حاولت أن تكون شجاعة مازالت تعيش محاصرة في سجون تلك الطيور والحيوانات، التي تنقض عليها كلما جاعت ولم تجد لها طريدة في ذلك اليوم.

لذلك فالحرص واجب، وهو يعيش حرصه ضمن شروطه وقوانينه، وليمارس غيره الشجاعة التي يدّعي، فلن يعرف صعوبة لحظات المطاردة كما يعرفنها الأرانب؟!!! كيف والمطاردة جزءاً من حياتك؟! أن تكون مطارداً أثناء قيامك وقعودك، أكلك وشربك، عملك وراحتك، ليلك ونهارك، لا تستطيع أن تنام مرة ملئ جفونك، أو تتقلب على فرش الحشائش الخضراء المبتلة الندية أمام جحرك، ولا حتى أن تقرض “جزرة” هانئاً تحت ظل شجرة في ساحة الدار.

الأمر الذي لم يوقف خوف الأرنب ولم يردع جبنه، بل فاقمه وصعّده، فظلت تحركاته المتوترة مشوبة بالحذر المبالغ به أكثر من أي أرنب آخر في الغابة كلها، عازياً الأمر إلى لونه الأبيض الفاقع الذي يدل عليه في تحركاته ويشير للجميع عليه بإصبعه في الغابة كلها، وظل يقنع نفسه أنه جرّاء هذا الحرص ظل حياً كل هذا الوقت.

صحيح أنه بقي حياً، لكن بعض الأرانب قالت أن في بعض الحياة موت، تماماً كما في بعض الموت حياة، وأخذوا عليه معاتبين خوفه إلى درجة الهوس، معتبرين خوفه تجاوز درجات الجبن ، ووضَعَه حياً على عتبات الموت، فالموت والحال هذا أرحم بكثير من هكذا حياة.

النفس معقل أسرار الأرنب، ونفسه كانت تضحك من تعليقاتهم وتسخر، خاصة وهو يرى الموت المتربص بالأرانب في كل لحظة، يحصد حياة أحد “المغامرين” من الأرانب في كل يوم. وهو سعيد بالعقل الذي أعطاه له الله، ويستخدمه خير إستخدام، ولن يُبقيه مُعلّقاً على غصون الأشجار أو على رفوف الجحور مثل البعض، لهذا، ولهذا بالذات مازال على قيد الحياة حتى هذه اللحظات، رغم هزء الهازئين ومزايدات المزايدين.

 

ظل الأمر كذلك حتى اليوم الذي وقعت له تلك الحادثة التي غيرت مجرى حياته كلها، ولم لم تتم هذه الحادثة لما تغير من حياته شيئاً.

كان في ذلك اليوم سائراً جائعاً تائهاً في الغابة على غير هدى، بعدما شح الطعام في منطقة الأرانب، وصار لا بد من الجرأة للتقدم على أطراف المراعي، والجرأة ليست ما ميّز الأرنب الأبيض، رغم أن الكثير من الأرانب كانت تتجه إلى أطراف المراعي التي ما زالت خضراء لتبحث عن طعام، وأطراف المراعي كانت أكثر إنكشافاً للثعالب والواويات والكلاب، وتسبح في سمائها البوم والغربان أسراباً، وكثيراً ما شهد الأرنب الأبيض بأم عينيه كيف تنقض هذه الطيور من علو السماء على بعض الأرانب قابضة بمخالبها عليه ممزقة لحمها بمناقيرها الحادة، أو من الحيوانات المفترسة قابضة بأنيابها عليها بعد مطاردات طويلة أو قصيرة، ممزقة عظامها مفتتة لحومها. لكن “الجوع كافر”، ومن تنقصه الجرأة سيقتله الجوع، فصار الموت واقفاً في كل زوايا المراعي وأطراف الغابة، ومن لم يمت بمناقير الجوارح وأنياب الكواسر سيستقبله الموت المتربص منتظراً واثقاً بين أنياب الجوع.

كثرت تنقلات الأرانب على أطراف الغابة، وكثرت حالات القتل اليومي، لكن الغريب في الأمر، أن معظم الأرانب لم يعد يهمها الموت، وصارت تتحداه أكثر يوماً بعد آخر، بل أن بعضها صار يتصدى لغزوات الكواسر متحدياً، وأحياناً مهاجماً أيضاً، رغم اتضاح نتيجة المعركة سلفاً.

أكد بعض حيوانات الغابة أن بعض الأرانب التي سئمت الموت، صارت تسن قواطعها، وتلبس مخالباً لتجبر الكواسر على وقف القتل اليومي، مضاعفة في نفس الوقت من حذرها عند تسللها بحثاً عن طعام، وصارت عيون بعضها ترى في الليل حتى الدامس منه، الأمر الذي فسّره البعض بحسن “البصيرة” التي وهبها الله لهم. ما جعل الأرنب يعتصر شيئاً من عصارة عقله، يسير خلف المتقدمين خلف مغامراتهم وجهل عقولهم، باحثاً عن طعام يومه من خلال دمائهم، متجاوزاً الموت الذي كان يختبئ خلف كل شجرة وكل منعطف، بسيره وحيداً بعيداً خلف طلائع الأرانب الأقرب لمداهمات الموت.

مشى الأرنب وحيداً معتقداً أن وحدته ستبعد عنه الموت، مشى حاضناً حذره محاولاً التخفي في صمت المراعي الذي يقطعه صخب زئير الأسود أحياناً، وكان خوفه يتزايد معلناً عن نفسه بتسارع دقات قلبه التي كانت تتعالى كلما تقدم نحو أطراف الغابة، وكادت تُسمِع الكواسر صوتها قبل أن تراه عيونها. كلما مشى أكثر كلما تعب أكثر، وكلما زاد تعبه تصاعد جوعه إلى حلقه، ثقلت رجلاه وأعياهما التعب وهدّهما طول الطريق. وهو يريد الوصول لمأربه قبل أن يلف الظلام الغابة، فهو ليس من الأرانب التي وهبها الله حسن البصيرة لترى في ظلمات الليل وأكوام العتمة.  فجأة، وقبل دخول الليل ليفرد ظلامه في المكان، إذ بالأرنب يرى في مكان قريب، وبين مجموعة أشجار ضخمة شكلت ما يشبه الدائرة المغلقه، كوم برسيم منثور مثل بساط أو فراش، تتوزع على أطرافه المستديرة مجموعات من جذور الجَزَر  وأوراق القرنبيط وكأنها باقات ورد، وفي المنتصف زجاجات من الخمر المعتق في مواقع مختلفة، وكأن المكان قد هُيئَ لحبيبين أو عاشقين لم يجدا لهما متسعاً إلاّ في الغابة ليعيشا لحظات عشقهما المتوتر .

لم يصدق الأرنب ما يرى، كاد يجزم أنه في حلم وليس علم، أن ما يراه بعينيه لا يعدو عن أضغاث أحلام، هلوسات أرنب هدّه طول السفر ودق الجوع كامل أعضاء جسده. رماه التعب فوق فرش البرسيم الممتد مثل سجادة خضراء، وألقى الجوع بيده نحو أحد الجزرات المغروسة بين ثناياه، الأمر الذي جعله يوقن أن الأمر حقيقة وليس خيالاً، فبدأ يقرض الجزر وينظر للمكان لدراسته، وما أن وقعت عيناه على إحدى زجاجات الخمر المعتق حتى قرر أن يحتسي شيئاً منه، و”يمز” على الجزر الذي بين يديه، فالعمر واحد وما عليه سوى التمتع بنعمة الله هذه التي وضعها بين يديه. وهكذا فعل، شرب من النبيذ بضع رشفات، وقضم من الجزرة بضع قضمات، وما هي إلّا بضع دقائق لم تكتمل لتصبح ساعة واحدة، حتى ثَقُلَ رأسه، وتآمر عليه تعب يومه وجوعه مع الخمر المعتق مُركّز الكحول كثيفه، حتى غاب عن وعيه فوق فراش البرسيم والحشائش.

من لا يعرف الغابات يظنها منطقة يسكنها الموت الظاهر على قشرتها، لكن في الغابة حيوات وحيوات، ما أن تدخلها حتى تشعر بها بكل أحاسيسك، تشمها وتلمسها وتراها بالعين المجردة، حتى وإن كان الظلام سيد المكان في تلك العتمة من الليل. كان في تلك اللحظات ثعلباً شاباً لم تعركه الحياة بعد، مغروراً مزهواً بشبابه، كان ماراً من نفس الطريق الذي سلكه الأرنب، حتى إذا رأى المكان الذي يتوسطه جسد الأرنب النائم فوق فراش البرسيم وبضع زجاجات من النبيذ المعتق، والتي كانت إحداها مفتوحة دون غطاء، مشروب منها ربعها إلّا قليلاً، حتى رمى بجسده فوق سرير العشب، ناسياً حذر الثعالب وذكاءها الفطري، وكونه كان قد جاء من وليمة للتو، لم يكن معنياُ بأمر الأرنب كثيراً، فأخذ يحتسي الخمر حتى أنهى الزجاجة كلها، فهدّه ثقل الكحول وذهبت ببصيرته بضع نجمات متطايرات متهيئات للإنتحار، ودارت به الغابة وتباعدت عن عينيه فوانيس السماء، حاول المغادرة لكن أرجله خانته، فوجد نفسه ملقى فوق فراش البرسيم ثملاً غائباً عن الوعي.

لم يمر طويل وقت على أمر الثعلب، حتى قاد الأسدَ أنفُه إلى مكان الثعلب، أثناء تفقده لمنطقته في تلك الليله، وما أن رأى الثعلب حتى غضب عليه واغتاظ وسخط من معشر الثعالب كلهم، الذين ينتهكون حرمة منطقته وهم يصولون ويجولون بها، الأمر الذي يشجع الحيوانات الأخرى على فعل الأمر نفسه، فزأر زئيراً قوياً طويلاً، بدى كإرتداد صدى رعد قادم من طرف الأرض البعيد المتمدد في حضن السماء، لكن الثعلب لم يسمعه في ثمالته ونومته العميقتين، فما كان من الأسد إلاّ أن أمسك بالثعلب وفسخه فسختين، ورغم أنه لا يحبذ أكل الحيوانات المفترسة، إلا أن شيئاً في رأسه همس في أذنه قائلاً له أن يجرب الأمر، فربما يستحسن ما يأكل ويستطيبه، خاصة أن زجاجات الخمر المعتق التي أمامه تتطلب “المازة”، وجسد الأرنب لا يفي بالغرض ولا يقدم ولا يؤخر من الأمر شيئاً.

بدأ الأسد يحتسي الخمر ويأكل من لحم الثعلب، وظل يمسح مكان القضم بلسانه وكأنه يهدهد على جسد لبؤة، ثم يقطع اللحم من ذات المكان بنيوبه “مُمَزمزاً”، ساكباً فوقه جزءاً من الخمر في فمه، منتظراً أن تنتهي مدة حراسته في هذا المساء، باقياً على نفس السياق وذات المنوال حتى كاد يداهمه فجر الصباح. كان قد إرتوى وشبع، وأمام ثمالته كان الأرنب متمدداً أمامه يتقلب على ضفاف سكرة ليلته الماضية، وقرر الأسد أن يتركه في مكانه، فهو قد شبع على أية حال، ولن يقدم الأرنب ولن يؤخر في أمره شيئاً، فتركه مكانه وغادر متوجهاً إلى عرينه.

في الصباح، إخترقت الشمس الحواجز كلها، ودخلت الغابه مسبوقة بإبتسامة النهار التي فردها مع ضوء يومه على كامل الغابة، وصعدت بشعاعها سيقان الأشجار وتمددت على أغصانها، كعروس محمولة على كفي حبيبها فاردة فوقه شعرها الذهبي المتطاير بين نسمات الهواء، وأرسلت بعضاً من أشعتها على عيني الأرنب لتوقظه، فالنهار الذي ابتدأ نهاره منذ مطلع الفجر كان قد إبتدأ المسير، وعلى الأرنب أن يلحق به ليقوم بما عليه القيام به، فالنهار لن ينتظره ليصحو من غفلته أو سكرته، فهو لم يعتد أن ينتظر أحداً.

أزاح الأرنب عينيه من أمام أشعة الشمس التي إندلقت فيهما أول الأمر، سرعان ما فركهما بقائمتيه الأماميتين، ونهض جالساً على مؤخرته، ويا لعجب ما رأى، دماء تغطي المكان كله، جلد الثعلب ممزقاً منثوراً، عظامٌ مرمية في الأنحاء كلها، بعض زجاجات الخمر المعتق فارغة متناثرة، فقال مدهوشاً من نفسه مزهواً بها:

ـ ياالله…………. ما كنت أعلم أنني إن ثملت أقوم بكل هذا التدمير.

أكل ما إستطاع من جذور الجزر، وكان يتصاعد في داخله غرور واهم كاذب، مبني على فرضية أن الدماء التي ملأت المكان ماهي إلا من صنع يديه وأسنانه القاطعة.

جمّع الأرنب الأبيض بعض زجاجات الخمر في كيس، ربطها ولف الحبل حول جسده وأخذ يسحبها خلفه، رامياً حذره خلف الأشجار.

إنتزع الأرنب الأبيض خوفه وجبنه ورماهما بين قرقعة زجاجات النبيذ، خلع حذر الأرانب ولبس ثوب الشجاعة الزائفة التي جاءته مع جرعات الخمر، وصار يمشي على رجليه الخلفيتين متحدياً كواسر الأرض وجوارح السماء، كأنه يمتلك القوة كلها، ولم يكن يعلم بعد أن وهم إمتلاك القوة أكثر خطراً من الضعف، وأن تعلم ضعفك أساس لتغير واقعك وتصنع قوة حقيقية، على أن تعيش واهماً بقوة زائفة سرعان ما يسقطها الواقع، وتكون أنت أحد ضحاياها.

لم يكن يدرك الأرنب أن قوة الأرانب تكمن في تجمعها، وأن وحدته تجعل عيون الموت أقرب إليه من رموش عينيه، وأن أسنان الأرانب القاطعة حتى لو لم تكن أنياباً حادة يمكن أن تكون هي السلاح الذي يحميها، واعتقد أنه الوحيد الذي يملك مثل تلك الأسنان، وأن بقية الأرانب من دونه لا تستطيع أن تفعل شيئاً ذا وزن في الغابة كلها.

برعم الغرور وأزهر وكبرت ثماره في رأس الأرنب الأبيض، ولم يعد يرى من هو أفضل منه في الأرانب جمعاء، وصار يبحث عمن يشبهه في الغابة، مَنْ هم بقوته، لكن ليس من بين أبناء جنسه، بل من أجناس الثعالب والكلاب والبوم والغربان.

ملك الثعالب الذي كانت عيونه تتربص مشارف الغابة، إلتقت مع عيون حليفه الغراب الذي كان قد ركب موجة هواء باحثاً عن فريسة، فصار يحوم ويحوم ليساعد الثعلب في معرفة المنطقة المقصودة. لكن ما فاجأه أن الأرنب هذا قد رمى حذره كله بعيداً، وأعلن عن نفسه من خلال قرقعة زجاجات الخمر، ورأى الغرور يلبسه من ذيله حتى أبواب أنفه، فأكله الفضول وحاول أن يعرف السر الذي جعل عقل الأرنب يكون بهذا القدر من الغباء.

حام في مساحة السماء، راكباً موجات ريح مقترباً مرة من الغابة ومرة مبتعداً، يحاول الإغارة على الأرنب ثم متراجعاً، والثعلب الذي كان يتقدم نحو ذات المكان دون أن يرى الفريسة بعد، يقترب أكثر دون أن تثير حركاته أدنى صخب.

إنقض الغراب على مكان الأرنب الأبيض فارداً جناحيه، وسرعان ما غير رأيه وحط بالقرب منه، لكن الأرنب الأبيض لم يهرب بعيداً ولم يدخل جحراً، وفي ذات اللحظة كان الثعلب قد وصل لذات المكان.

شجاعة الأرنب الزائفة جعلته ينظر إليهما بغرور أحمق، وما أن رآهما حتى قال:

ـ أهلاً… أهلاً… أهلاً بأكلة اللحوم، “الطيور على أشكالها تقع”، إنني مثلكما من أكلة اللحوم، إنني مفترس في جلد أرنب، إننا أبناء عمومة رغم المظاهر المختلفة…

نظر الثعلب إلى الغراب، وبدهائه سأل الأرنب:

ـ وكيف ذلك أيها الأرنب؟

قال الأرنب جازماً:

ـ هذه القواطع التي ترونها في فمي هي أمضى من مخالبكم ونيوبكم، لقد أدركت بالأمس أنها لم تُخلق لأكل الجزر والقرنبيط فقط ، بل للحوم أيضاً…

نظر نحوهما وأكمل:

ـ لا تستغربا الأمر، بل على جنسيكما كما بقية الكواسر التعامل مع الأمر بهذه الطريقة من الآن فصاعدا…

وقص عليهما كيف إستطاع تمزيق الثعلب ليلة أمس وأكله ولم يتبقَ منه سوى فروته وهيكله العظمي، بعد أن شرب شيئاً من الخمر.

سأل الثعلب قائلاً:

ـ أتقصد أنك بعدما تشرب الخمر تصبح من أكلة اللحوم؟

ـ صحيح… هذا ما أردت قوله.

أدرك الإثنان أن الأرنب يهذي أو ما زال يحلم من تأثير الخمر، وطالباه أن يثبت لهما ذلك.

أخذ الأرنب يسكب في جوفه جرعات متتالية من الخمر، وسرعان ما نام في مكانه.

إتفق الغراب والثعلب على متابعة الأمر حتى نهاياته، وغادر الغراب ليحضر فريسة ليرى ويفهم الأمر أكثر.

لم يمر طويل وقت حتى عاد بفأر، إلتهمه وترك بقايا جلده ودمه في المكان، وغادرا المكان دون أن يبعدا عيونهما عنه.

كما في المرة الماضية، عندما أفاق الأرنب الأبيض من سكرته، ورأى مارأى، أخذ يمسح بقايا الدم الذي تناثر على وبره، وأطلق صيحات فرح مغرور غبي، متأكداً أنه صار من أكلة اللحوم والخضار أيضاً، وصار يرى في نفسه غير ما هي عليه، ولم يجد بأساً من التشبه بالدب الذي يأكل الفاكهة والخضار واللحوم أيضاً.

عاد الغراب والثعلب إلى الأرنب الفرح الواهم، وقال الثعلب ناثراً الإستغراب المزيف بين يدي الأرنب، قال سائلاً:

ـ مَنْ الذي فعل كل هذا؟ لا تقل لي أنك أنت أيها الأرنب…

إندفع غرور الأرنب مع كلماته، وقال:

ـ أم ماذا كنت تعتقد؟ ها أنت ترى بأم عينيك، وربما لو لم ترَ ذلك ما كنت لتصدق…

صار الأمر واضحاً أمام الغراب والثعلب، مدركين إلى أي حدٍ من الجهل وصل له عقل الأرنب الأبيض، وهما خير من يعلمان أن الجهل عدو، وخير ما يفعله الطائر أو الحيوان هو الإبتعاد عنه، وقال الغراب للثعلب بعد ذلك:

ـ إن أخطر أنواع الجهل جهلك بعدوك، والأخطر منه أن تصير جزءاً من هذا العدو بغباء أو إدراك، فالأمر سيان والنتيجة واحدة، وأن يرسم لك الخمر أو الجهل عدم رؤية الألوان وعدم التمييز بينها، فهذا ورب العزة غضب من الله، وهو في نفس الوقت ما نحن بأشد الحاجة إليه…

قال الغراب للأرنب الأبيض:

ـ مثلك نادر في مملكة الحيوانت جميعها، بل في الغابة الممتدة بين البحر وبين النهر، عليك أنت، وأنت وحدك أن تقود كل جموع الأرانب في شرق البلاد وغربها، وما دمت تعتقد أنك من جلدتنا، وأنت كذلك، فنحن سنساعدك في أن تكون قائدهم الأعلى…

ـ ستساعدانني أنا؟ كيف؟

ـ كما ساعدنا العديد من أمثالك من بهائم وحيوانات في طول الغابة وعرضها، وصولاً للصحاري والواحات…

ـ سأكون قائدهم، ومن يتمرد عليّ سأقطعه بأسناني، لكن المعارضين كثيرون، هل سأستطيع القضاء عليهم؟

فقال الثعلب متداركاً الأمر:

ـ في هذه المرحلة إترك أمر المعارضين لنا، فأسنانك الحادة هذه لا تستطيع تقطيع كل مخالف في الرأي أو معارض، فأنت ومن معك مازلتم أقلة، سنساعدكم لتشكيل جيشاً من المساعدين الذين يشبهونك، من المسحجين وهزّازي الرؤوس، كذلك في تدريب جيش تستطيع التغلب به على كل ما هو مختبئ من مصاعب في ثنايا الأيام.

أمروه أن يختار كل مَنْ يثق به من أرانب الغابة، يختارهم بعناية، وأخذوا يسنون لهم قواطعهم لتأكل الأرانب بعضها بعضا، لتتمزق وحدتهم ويتفرق شملهم، وأغرقوا مملكتهم بالخمر والجزر والقرنبيط، مقابل مياه الغابة النقية وخشب أشجارها في أول الأمر.

صارت قبيلة الأرانب قبائل، كل ما كان يظن أو يقول ويبوح بأن الأمر ما هو سوى أوهام خمر قد صعد إلى الرؤوس كان يودع السجون، وكل من كان يشير إلى الثعالب والغربان كأعداء علقوه على أعواد المشانق وجعلوا من لحمه وجبات طعام شهية.

أغلق الأرنب الأبيض ومساعدوه وحلفاؤه المدارس، فكلما زاد العلم إتضحت الرؤى، والأرانب بحاجة لعلم الشيوخ وفتاويهم وليس لعلم الفلسفة والفلك وآلية عمل المنجنيق، وصار التعذيب جزءاً من حياة الأرانب بين بعضها البعض، واتسعت السجون وصارت عصا بيد الأرنب الأبيض، وصار لون رايات الإستسلام الأبيض، وليس الأبيض الثلجي، هو اللون المميز عند قبيلة الأرانب، وحُرّم من الأبيض إلّا لون الزعيم، وكتبت الشعارات أن “الأرانب على لون قائدها”، وأن الألوان الأخرى هي ألوان دخيلة على حياة الأرانب ويمكن أن تشكل خطراً على مجتمع الأرانب وتحالفاته، لذا يجب “قلع السن لتقطع وجعه” كما يؤكد المأثور الشعبي، وكلما زادت حركة الإحتجاج في مجتمع الأرانب كلما إستعان الأرنب الأبيض بأسراب الغربان وجموع الثعالب لتساعد في وقفها، الأمر الذي صار يتطلب دفع ثمن أكثر سخاءاً مقابل هذه المساعدات السخية، فصار الثعلب يدفع ديونه من لحوم الأرانب وجلودها أيضاً، ورغم تكاثر الأرانب وحمل الأرنبات المتكرر وولاداتها، إلا أن الأمر كاد لا يغطي حاجات الغربان والثعالب.

صار الأرنب الأبيض يرسل قواته مع جنود الغربان والثعالب في حملات مشتركة لقمع الأرانب المنتفضة على هذا العبث، الأمر الذي لاقى سخط الأرانب وإستهجانها وإستنكارها، ومع مرور الشهور والسنين اللاحقة ظل الأرنب الأبيض وحلفاؤه الجدد يراهنون على  دخول الأمر دائرة الإعتياد.

إزدادت زجاجات الخمر التي تباع في مجتمع الأرانب، ومن ثم أدخل الغربان والثعالب المخدرات لتبقى سلطة الأرانب وقادتها موهومة غائبة عن الوعي، وصاروا لا ينتظرون حصتهم من الأرنب الأبيض وجماعته ومساعديه، بل صاروا يدخلون بأنفسهم ليأخذوا ما يريدون ومَن يريدون ومن المكان الذي يريدون، ويختاروا مَنْ يأكلون وقدر ما يريدون.

سرعان ما صارت الثعالب والغربان وحلافاؤهما تقوم بتغيير معالم مرعى الأرانب، فقتلوا الأرانب وأخذوا جلودها واحتلوا جحورها وسكنوها، وسهّلوا هروب البقية لتصبح المراعي خالية لهم، وأدخلوا تعديلات وراثية على الأشجار، وغيروا في تاريخ الحجارة وألوانها، وأسكنوا جماعتهم في الكثير من مساحات المرعى، في الأماكن المعشوشبة والأكثر إخضراراً، ولاحقاً على رؤوس الجبال في الأماكن الأكثر كثافة بالأرانب، وأكد الغراب الأكبر والثعلب الكهل أن عليهما خلق تاريخ لهم في المراعي في عقول أتباعهما وفي عقول الأرانب قبل أن يصنعوها على الأرض، فاستخرجوا التاريخ من باطن الأرض، رسموا فوقها صوراً للثعالب والغربان والبوم والكلاب، مدّعين أن هذه الأدلة والرسوم تُثبت عمق جذورهم التاريخية في هذه المراعي، وغيروا مناهج التعليم فيما تبقى من مدارس وجامعات عند مجتمع الأرانب، مصرين على أن الأكاذيب يمكنها أن تصنع تاريخاً، ولو للفترة محددة على الأقل.

وتقلصت مساحة تأثير الأرنب الأبيض داخل مجتمع الأرانب، وسرعان ما وظّفه الغربان والثعالب كمرشد لهم، ولما حاول أن يحتج خجلاً أخبره الثعلب الكهل بشكل حاسم:

ـ خجل؟!!! ممن ومن ماذا؟ إنها وجهات نظر، مجرد وجهات نظر أيها الأرنب، فالبعض يرى أن تضع يدك في يدنا أمراً طبيعياً، والبعض الآخر من متطرفي الأرانب لا يرى ذلك… ثم هل مثلك يخجل من شيء؟ أقصد لماذا الخجل و”نحن قد دفناه سوياً” كما يقول مأثوركم الشعبي؟ ” فمن يخجل من عروسته لا ينجب أطفالاً”. الموضوع بإختصار شديد هو أن تكون مع السلام الذي ندعو إليه في المرعى أو تكون مع المتطرفين من الأرانب التي لا تعرف الواقع ولا تريد التعايش معه…

ولما حاول الأرنب التحاجج بقصد إستدرار المزيد من زجاجات الخمر، قال له الغراب بفجاجة فسرها لاحقاً للثعلب “بأن الضرورة تستوجب فرك إذن العميل قليلاً لتذكيره بماهيته، كي لا يرى نفسه أمامنا كما يراها ويروج لها أمام أرانبه”:

ـ ربما مازلت تعتقد أنك من أكلة اللحوم أيها التافه، إن أسنانك هذه بالكاد تقطع جذراً من الجزر، وإن حاولت التمادي أرحناك منها أيضاً، والأسنان والمخالب في الغابة هي الأساس، فمن يملك نيباً يأكل لحماً ومن يملك قواطعاً يأكل عشباً وفاكهة وخضاراً، لكن من إهتزت أسنانه بفعل الخمر والحهل والتسوس وعمى البصيرة،  سيموت جوعاً ما لم يجد حماة له وداعمين، لذا فالأفضل لك أن تبقى قائداً عند المخمورين الموهومين المهزومين من أت يقتلك الجوع والفقر والنيوب على قارعة الطريق.

سكت قليلاً وتابع هامساً منتشياً:

ـ حتى أن أقرب الناس إليك عليك يتجسسون، إنهم أوغاد أليس كذلك؟ يقدمون لنا كل ما تقول أو تفكر وحتى تهمس به، وينتظرون اليوم الذي نلتهمك به ونختار منهم قائداً سواك، ولديهم الإستعداد لكل الوفاء لنا.

وقال مستدركاً:

ـ لا ليس الوفاء… فالخائن لا وفاء له… لنقل الأستعداد لتنفيذ كل مطالبنا، أعني لديهم كل الإستعداد للخضوع… مثلك وربما أكثر، “فمن أصله كلب لابد أن ينبح” أيها الأرنب، بل يظل ينبح ما قُدّر له أن يعيش، أليس كذلك؟.

وضحكا طويلاً الثعلب والغراب…

فقال الأرنب راجياً:

ـ لن تجدوا من يخدمكم مثلي ووفائي لن تجدوه عند غيري…

فقال الثعلب موضحاً:

ـ قلت لك لتوي لا وفاء ممن يخون أيها الأرنب، مَنْ يخون قبيلته لن يكون أميناً لأحد أو على أحد، وكي أكون واضحاً فأنت أدمنت الخيانة كما أدمنت الخمر، إن جل ما تريده هو مصلحتك، مصلحتك فقط، ونحن مازلنا كما كنا، مادمتَ تابعنا فلن ينقصك الخمر ولا أوراق القرنبيط أبداً…

وأكمل موجهاً حديثه للغراب قائلا:

ـ يصعب على أمثاله الإدراك أن لا حرث دون أن يترك أثراً، وأن لا حصاد دون زرع، وأمثال هؤلاء إعتادوا على أن يعيشوا طفيليات على دماء أبناء جلدتهم، و”بعلاً” إن تطلب الأمر عملاً ومجهوداً، لا كلاْ ولا ماء…

وأكمل موجهاً حديثه للأرنب الأبيض:

ـ لقد استطبتم الراحة في العمل، وكما هان عليكم المرعى هانت عليكم الأرانب، ومن يهن عليه كل ذلك هل ننتظر منه نحن الوفاء؟!!!

فقال الغراب مكملاً من حيث إنتهى الثعلب بشكل هادئ رزين بعد أن نعق مخيفاً بنعيقه الأرنب الأبيض وحاشيته كلها:

ـ إن حاولت الإحتجاج لن ترى من الخمور شيئاً، لنرى كيف ستفعل وترضي من يسحجون لك ويهتفون باسمك… ألم تدرك بعد أنهم أقرب إلينا منك؟ يالك من غبي جاهل.

وأضاف متابعاً، كي لا يعود الأرنب الأبيض لشكاويه ولو مرة واحدة:

ـ أم تعتقد أنهم يُسحجون لك ويهتفون بإسمك دون ثمن؟ دون أن تقدم لهم الخمور ومخالي العلف؟

كان الأرنب الأبيض قد أدرك ما قالاه تماماً، ورغم تزايد التحركات ضده وضد الغربان والثعالب إلا أنه لم يجرؤ يوماً على مغادرة موقعه، لأن يعود أرنباً حذراً نبيهاً لا يخلو من شجاعة أبداً…

ظل ينتظر زجاجات الخمر بعد أن أدمنها ولم يعد بإمكانه التخلي عنها، يعانقها في لياليه وأيامه، ويسكب في أفواه حاشيته جرعات لتظل تسحج له وتهتف بإسمه.

كان يشعر ب”حكةٍ” في كافة أعضاء جسده، قال البعض أنها بسبب الإدمان، وأن الكلاب والثعالب والبوم والغربان دفعاه ليسرع في عملية الإدمان كي يظل مربوطاً بهم وبحاجتهم أكثر، وكانت تتلاشى حكات جسده عندما يكثر من إحتساء الخمر، ولاحقاً بعد أن يأخذ بعض المخدرات، وكلما تحدث الأرنب الأبيض كان يظل يسمع تسحيج الحاشية والتابعين، حتى وهو لا يعرف أو لا يدري ما يقول، وكان يشاركهم بعض الخمر وبعض المازة، ويقطعها عنهم عندما يغضب أو عندما يريد، تماماً كما يتعاملون معه أصدقاءه أكلة اللحوم الجدد.

لم يجرؤ الأرنب الأبيض على مخالفتهم يوماً، وكلما قرر الخروج عن طاعتهم أو أن يمارس القليل من التمرد عليهم، كلما إزدادت “حكة” أعضاء جسده، فكانت يده تبدأ بالحكة في كل مكان حتى يتهتك اللحم وتنزف من الجرح بعض الدماء،  دماء لزجة برائحة كريهة، فتمتد يده لزجاجة خمر ليسكب ما تيسر منها في قاع فمه، أو ليشتم شيئاً من مخدر ما، وإن غابت زجاجة الخمر تمتد يده للأعلى لتسبح حمداً لعطائهم وتمجيداً بهم، مبتعداً عن هموم الأرانب ومراعيها ومصالحها، وقريباً لمعظم ملوك الغابة وأمرائها ورؤسائها من مختلف أنواع الحيوانات “المسالمة”، التي جنحت لل”سلم” مع الثعالب والكلاب والبوم والغربان، وسرعان ما عمّق معها العهود والصكوك والإتفاقات، وازداد إبتعاداً عن الأرانب ومراعيها، وتعمقت الهوة مع معظم أرانب المرعى،  وظل يرسل جيوش الأرانب وشرطتها لقمعهم وإسكاتهم، وأحياناً كثيرة يشارك قوات الثعالب والغربان والكلاب والبوم أنفسها،  لمهاجمة مراعي الأرانب المنتفضة التي لم تتوقف يوماً عن الحراك والإحتجاج.

محمد النجار

أضف تعليق