أبعد من الحياة

أقول لك مقسماً أنني لا أعرف السبب وراء ترددي وتكرار ذهابي، لكنها ربما رتابة الحياة، بؤسها، شقاؤها، أو مجرد حق الجيرة، هي التي كانت تحملني وتوصلني لبيت الحاج عمران وزوجته الحاجة مريم، أو إلى “المضافة” كما يسميه سكان المخيم، أو الكثير ممن كانوا يتقولون في غيابه، فيسأل بعضهم بعضاً:

ـ أذاهب إلى الديوان اليوم؟

ورغم ذلك لم يقصد أيهم الإساءة لاسمح الله، بل كله من باب الفكاهة التي ميزت سكان مخيمنا، وكنت أُكثر من الترداد، ليس لإضاعة الوقت طبعاً، فمقهى المخيم أوسع بكثير وأكثر رحابة، بل أظنني كنت أذهب طرباً لسماع كلماتهما في الحياة وعنها، فالحكمة يمتلكها بعض الناس كهولاً، فتجد نفسك أمام كنز ثمين لمّا يفتحا خزائن أسرارها، وتصير الجواهر تتناثر من شفتيهما حتى تملأ البيت كله، ولك أن تغرف منها ما طاب لك دون مساءلة أو حساب، فتجدني وقد جلست فاتحاً فمي مُرخياً أذني للملمة كل ما يتناثر من بين شفتيهما.

ورغم أنهما لمّا يصلا يوماً لصحاري المملكة ولم يغرقا في جهنم صيفها، بل لم يعبرا أكثر من نهر الأردن طوال حياتهما، أصر الناس على إلباسهما ثوب الحج، ربما لتوالي تدحرج السنوات فوق كتفيهما دون توقف، أو من باب إحترام الكبير الذي تعودنا عليه، وربما لأشياء أخرى لا أعرفها.

الحاج عمران وزوجته، وإن كانت لا تخرج “القبيحة” من فم أي منهما، لأي شأن أو إنسان، فقد كانت تخرج “القبيحة والأقبح” منها، منهما معاً عندما يتعلق الأمر بحكام العرب، وأقبح القبائح عندما يأتي الأمر على القيادة الفلسطينية، فكان طبيعياً جداً أن تسمع بعض الكلمات النابية التي لا تروق للمسحجين والواقفين مادّين أعناقهم بإنتظار مخالي العلف، والذين إمتنعوا بمحض إرادتهم عن التردد على البيت ـ المضافة، خوفاً من أن تحوم فوق رؤوسهم شهبات المعارضة، فيصبحوا على زياراتهم نادمين، ولمّا سألته ذات يوم عن سر غضبه هذا على “معشر الزعامات”، رغم الهدوء الذي يغمره فيما تبقى من شئون، قال:

ـ لا مجال للمهادنة يابني عندما يتعلق الأمر بمستقبل الأوطان.

وقالت هي، بالأمس بالذات، عندما رأت الرئيس، يبعث بباقات الورد الحزين لهم، من على صفحة تلفازهما القديم، ودموع الأسى تنهال من تحت جفونه شلالاً، وتنزلق الكلمات الغاضبة من خلف أسنانه على المنفذين، مواسياً حكومتهم معتذراً لها عن عملية الأمس الفدائية، واصفاً الشبان الذين حاولوا من خلالها إعادة الأمور إلى طبيعتها قبل أن يصعدوا نحو السماء، بالإرهابيين، دون أن يرف له جفن:

ـ “يا شايف الزول يا خايب الرجا”، يبقى النذل نذلاً، هؤلاء حسموا أمرهم، و”ذيل الكلب لن يعتدل حتى لو وضعته بألف قالب”.

بالنسبة لي، ما قالاه الإثنان كله سياسة، ومهما تعددت الأسباب واختلفت التسميات تظل السياسة خادعة خطرة ملعونة، تسقي الذل وتجلب المعضلات وتذهب بالحياة، وأنا بطبعي أحب الحياة وأقبل عليها مثل النحلة على رحيق زهرة، بقدر كرهي للسياسة والسياسيين، خاصة بعدما استقرت رصاصة في رأس أخي صالح أثناء مشاركته في إحدى المظاهرات، فدثّرناه بالعلم وحملناه على الأكتاف وأهلنا التراب فوق شبابه اليافع، وغيّب السجن أخي حسن منذ سنتين ولسنين طويلة قادمة، والأهم كوني رأيت بأم عيني كيف أحضرت قيادتنا معها “الموبيقات” كلها منذ قدومها، على حين غرة، فوق أجنحة “أوسلو”، ودلقتها مياهاً قذرة فوق البلد والناس، فحولت الوطن إلى مبغى بإشرافها وتحت قيادتها، وجعلت من البلاد إقطاعيات لها تُباع وتُشترى تحت ذرائع ومسميات شتّى، وصارت الوطنية لباس ذئب لمهاجمة كل معترض، وتغير إتجاه مجرى نهر الدم إلى جيوبهم مالاً، فصارت الأرض تُهرّب “لليهود” من خلال جماعتهم الموزعين في كل الأماكن الحساسة، بما فيها بعض رجالات الدين عرباً وأجانب، أو عبر القادة أنفسهم الذين يستبدلون الأراضي من أ إلى ب إلى ج، أو من خلال سماسرة أو عملاء يتبوأون أعلى المراكز بين صفوف السلطة، ضمن صفقة إتفاق بينهم وبين السلطة، وكلمّا فتحت عيني أكثر رأيت كيف يتساقط بعض من كانوا مناضلين كأوراق الخريف أكثر في سراديب التنسيق الأمني، وصاروا عبيداً لمعاشات المحتل وعلف الصحراء، أو لفتاوى شيوخ القهر والجهل والتحريم على حساب الناس والوطن، لذلك ربما وجدتني صرت أنتشي عندما أسمعهما يقذفان الحكام والسلطة بأشد العبارات قبحاً، ولما كانت الحاجة مريم تراني فارغ الفيه منتشياً، كانت تستل لسانها السليط وتقول له مشيرة نحوي دون حياء:

ـ شوف… شوف كيف فاتح “تمه وراخي بيضه”.

وتتوجه نحوي مقتربة من أذني مكملة:

ـ اعمل شيئاً ينتفع به الناس بدلاً من فتح فمك “على الغارب” هكذا؟

ويكمل هو متحدثاً بالعام ودون تخصيص:

ـ الله لم يخلق الفم “لزلط” الطعام فقط، وإلا لكان خلقنا مثل باقي البهائم، ولسانك يابن آدم “حصانك، إن صنته صانك، وإن خنته خانك”، فصُنْه عن جلد الناس، واجلد به من يستحق الجلد، ولا تُبقه نائماً في فمك منبطحاً مستسلماً مقهوراً صامتاً، ممنوعاً من قول كلمة الحق خوفاً و جبناً أو طمعاً، فالحياة واحدة والرب واحد، و”لن يخلع الرأس إلا مَنْ ركبه”.

وسكت قليلاً قبل أن يكمل ما بدأه:

ـ إن خفت أن يخذلك لسانك ويظل متقاعساً عن جلد مَنْ يستحق الجلد، إقتلعه وارمه بعيداً، فذلك أشرف بكثير، فكر دائماً بماذا ستفعل ليوم غد.

ولما كنت أغمز من وضعهما بكلمتين وبسمة هازئة من فمي معلقاً:

ـ أعمل ماذا ياحاج عمران؟ ثم أعمل لماذا؟ ألا ترى كيف يبيع البعض الأوطان والبعض الآخر يبيع مناضليه ويتركهم لمصيرهم؟ ألست مثالاً أمامنا؟

وكان يرد علي مدافعاً قائلاً رغم كل الذي أصابه:

ـ لكن من تقصدهم لم يبيعوا وطناً، وهم ليسوا ملائكة على أي حال.

وكنت أرد وكأنني في جدال علي إثبات وجهة نظري من خلاله:

ـ ربما لم يبيعوا الوطن لأنهم لم يمتلكوا حرية التصرف فيه كالآخرين؟

قال حينئذٍ وقد قطب حاجبيه غاضباً:

ـ ربما لدى الجميع أخطاءً، لكن لا تُفلسف عجزك وتبرر قعودك باتهام الناس، فليس الجميع مثل هذه السلطة العاجزة البائسة، والمأثور الشعبي يقول “إن خِلَتْ بِلَتْ”، ولن تَخْلى قضيتنا أبداً من المدافعين عنها والذائدين عن حياضها أفراداً وأحزاباً وجماعات، ونهر الدم لن يتوقف عن سقايتها، رغم كل محاولاتهم لتحويل مجراه، وهؤلاء “طلعوا أم نزلوا” يبقون أفراداً سيبصق عليهم الشعب ويغيبهم التاريخ في مزابله، سواء من باع القضية أو باع الشعب أو تخلّى عن المناضليين، لكن لن يتم ذلك بغير العمل الجاد الدؤوب المتواصل، من الجميع، أتفهمني؟ الجميع ما أمكن ذلك.

كنت أعرف أنه رجل “مُكابر”، وأنه لن يعترف بمرارة تاريخه أمام شاب مثلي، ولا كيف رموه خارجهم دون وجه حق، وكيف ظل سنوات يعتاش على كرت وكالة الغوث، بعد أن كان عاجزاً عن العمل بسبب بطاقته الخضراء، يستغني مجبراً عن بعض أجزائه فيبيعها ليشتري بعض حاجات أخرى، فمرة يبيع الأرز ومرة جزءاً من الطحين وثالثة بعضاً من الزيت ليشتري مكانها مادتي الشاي والزعتر، التي كانت أهم مقومات بقائهما، حتى صار يتردد عليه أصدقاؤه من المخيم، وبعض أفراد عائلته، حاملين معهم بعض الضروريات، حالّين بذلك، لبعض الوقت، أزمته تلك، وظل الأمر كذلك حتى وجد له بعض الأصدقاء عملاً في توزيع القهوة والشاي على العاملين في مكتب لوكالة الغوث.

وظل الحاج عمران صلب الرأس كصخر جبال جبل النار في تلك الظروف بالذات، ولم يتنازل قيد أُنملة عن أيما فكرة أو رأي طالما كان يتعلق الأمر بالمبادئ، وطالما تذكر سنوات السجن وتمناها في ظروفه تلك، وكم رافق الجوع معتصراً معدته كي تتوقف عن الصراخ، ورغم ذلك ظل تفكيره منصباً على الحاجة مريم، زوجته، التي لا تشكو ولا تنبس ببنة شفة، كي لا تزيد بؤسه بؤساً وحزنه غضباً وكفراً، معتبراً نفسه السبب في بؤس حياتها، وأنه هو نفسه العذاب الذي يأكلها وتحاول جاهدة إخفاء آلامه.

وقيل أن الحاجّين عاشا قصة حب نادرة، حب إلى درجة الهوس أو الجنون وفقدان البوصلة، الأمر الذي عارضه الحاج ونفاه، و أسماه حباً طبيعياً “غير منقوص”، حب إتجاه بوصلته واضحة لا لبس فيها ولا عَمَيان بصر أو بصيرة، بل ظل يؤكد أن لا حب دون وضوح الرؤى، وأن الحب ،كباقي الأشياء في هذه الحياة، لا يبقى على حاله، لأن في جموده الموت، بل يكبر ويتمدد ويتفرع، ليغطي الأرض والسحاب وأركان السماء، فيزهر ويورق ويبرعم، ويلد الورد والعطر والقمح والربيع والحياة، تسقيه أنهر الأرض وينابيع السماء، فيسمو ويكبر ويزهر ويثمر عشقاً، ونحن لسنا أكثر من اثنين من العشاق لا أكثر ولا أقل.

كما أنهما لم يُرزقا بأطفال طوال حياتهما، وقيل أن الحاج عمران رفض الزواج بغيرها أو “تسريحها”، بل رفض حتى نقاش الأمر خارج نطاقهما وحدهما، واكثر من ذلك، قال بعض أترابه، أنه إدعى أن “العيب فيه هو وليس فيها”، ليحميها من كلام الفضوليين، وليوقف تكرار جَلْدها بألسنتهم الحادة، رغم أنه وضع نفسه لقمة صائغة جاهزة لهم، ليلوكون لحمه ويمضغونه طويلاً، ورغم ذلك، فهو يحمد الله ويشكره على تحملها له، فأي إمرأة ترتضي الحياة مع زوج دون أطفال كما ظل يردد؟ رغم أن الجميع كان يعتقد غير ذلك، ولمّا تقوَّل البعض أن الحياة دون أطفال ليست سوى صحراء جرداء قاحلة خالية من المطر والشجر، أكد هو الموضوع ولم ينفه، وقال :

ـ هذا صحيح، وهل تعتقدون أنني لم أنجب؟ هل هناك بيت واحد في كل المخيم يعج بالحياة مثل بيتي؟ ومن كل الأجيال أيضاً.

وهكذا كان، لم يخل بيته يوماً من الناس، بل كان يتفوق على عدد سكان مسجد المخيم في الكثير من الأحيان، وإن كان الناس يصلون في المسجد وسرعان ما يغادرونه، فكانوا في الوقت نفسه يستصعبون مغادرة بيته، فيبقون ويسهرون ويتسامرون ويتحاورون ويشتمون السلطة والحكومات حتى آخر الليل، حتى أن المقهى الوحيد في المخيم كان يغلق أبوابه قبل أن تنام عيونهم وفوانيس بيته، والأمر الغريب أو حتى الأكثر غرابه أنه لم “يجُظ” أو يشكُ يوماً، بل وكأن الأمر على قلبه “أحلى من العسل” كما كان يقول، ويشعرك في كل الأحيان أنه متأسف على مغادرتك.

وظلا كل منهما سنداً للآخر، مترافقان في المنزل والسوق والطريق، لا يكاد أن يرى الرائي أحدهما دون الآخر، إلا في سنوات سجنه قبل بضعة عقود من الآن، حين لم تنقطع عن زياراته أبداً، ولم يمنعها لا مرض ولا حر صيف أو برد شتاء، إلا حين كان الإحتلال يجبرها على الغياب ويمنعها بشتى الأعذار، أو يتأخر “باص الصليب الأحمر” عن الحضور، حين لم تكن تملك أجرة الطريق، فتجدها حائرة مشغولة القلب حائرة، تفرك أصابع يديها وكأنها، للتو، فاقدة لعزيز، حتى يحين موعد الزيارة القادمة، فتجد أساريرها تنفرج، وتعود الحياة لمحياها من جديد، وفي كل زيارة كانت تسند والديه، ولا تنسى أدويتهما ورغيفي خبز وبعض المياه لتسند بها رمقهما، وتطرد هجومات العطش المتكررة على العجوزين طوال ساعات النهار.

في كل تلك السنوات لم تشْكُ له شيئاً، بل ظلت تدعي أنها ووالديه بأحسن حال ولا ينقصهم أيما شيء، رغم أنها لم يصلها مساعدة ولو مرة واحدة من أحد، ومن رفاق دربه على وجه التحديد، ولم تكن تملك أجرة الوصول لمكتب الأسرى القابع في عمان، في ذلك الوقت، لتأخذ له حقوقه من “نادي الأسير، ولما ألح عليها يوماً مُحرجاً بإحضار زجاجة من زيت الزيتون ليكون على قدم واحدة مع باقي الرفاق، خجلت أن تقول له أن ما يصل له ولرفاقه هو من التبرعات، وأن زوجات رفاقه يمنعونه عنها، يوزعنه على بعضهن ويطالبنها بشراء حصتها، ولا تعرف لماذا، رغم أنها لم تتوانَ يوماً عن القيام بكل ما يطلبنه منها، واحضرت له ما كان أهلها قد أحضروه لها من باب المساعدة، ولم يعلم بالأمر إلا بعد ذلك بسنوات، لكنه لم يعرف هو أيضاً، حتى هذه اللحظات، السبب الكامن خلف تعاملهم معه أو تعاملهن معها حتى هذه اللحظات.

لم يخجل الحاج يوماً من مساعدتها في أمور البيت، من طبخ وكنس وتنظيف، وفي الوقت الذي عاب الكثيرون الأمر عليه، صاروا يرون الأمر عادياً جداً بعد ذلك، ولما صرن نسوة المخيم يشرن له بالبنان كمثال لرجل حقيقي، وقمن بثورات في بيوتهن، صار الكثير من الرجال يتبعوا خطواته وإن كانوا في البدايات مُجبرين، فأقل كلمة كانت تخرج من أفواههن لبعولهن عندما يتذرعون بأن هذا ليس عملاً لرجال، كن يسألونهم قائلات ثائرات:

ـ وهل أنتم أكثر رجولة من الحاج عمران؟

واحياناً يستعملن كلماته رصاصات في وجوههم:

ـ ليس من الرجولة بشيء أن تترك زوجتك تقوم بشئون البيت وأنت جالس، مثل شوال، تتفرج على تعبها، إنه استغلال مقيت وليس رجولة.

بماذا سأخبرك بعد؟ فأنا أرى أن الموضوع استثار فضولك، على أية حال سأقول لك كل ما أتذكره عن هذين الزوجين، فأنا وحدي لن أستطيع الإحاطة بهما، وصدقني لو قلت لك أن المخيم كله غير قادر على ذلك وحده.

يقول بعض أترابه أنهما تعارفا من “خلال لجان العمل التطوعي” الذي كانا من مؤسسيه في السبعينات، وأنهما بمحض الصدفة تشاركا في جَدِّ نفس شجرة زيتون لأحد الفلاحين الفقراء، وتقابلت عيونهما في منتصف الطريق لمّا نظر كل منهما ليرى زميله، فتوقفت عن رؤية أي شيء آخر للحظات، وساد الجمود والسكون والهرج الصامت كل شيء محيط، وتوقفت للحظات الأرض عن الدوران، وسكن الجسدان وتوقفا في مكانهما دون حراك، حالة من التجمد اللحظي سكنتهما فأصبحا صنمين في هيئة بشر، وعلا ضجيج قلبيهما حتى كاد أن يكشف أمرهما، فكأنهما صنمان بقلوب عامرة حية، وعادت الأرض إلى حركتها، وتفلّت شيئاً من بين شفتيها، وبعد جهد وطول محاولة ولدت ابنتسامتها، ابتسامة أمام نهر من الدم كان قد تجمد في عروقه، فحركت النهر وفاض على وجهه وكساه بحمرة الخجل مثل فتاة، فعادت لجسده الحياة، وظلت ابتسامتها معلقة مجمدة فوق وجهها، قبل أن تبتلعها وتخفي ملامحها، لكنها كانت دون أن تدري قد شجعته على الكلام، فهمس بشيء من صدره، وحياها بحركة من رأسه، تلقفتها وردت التحية بمثلها في ذات اللحظة، وتابعت أيديهما الحركة والعمل، وظللت خجلهما شجرة الزيتون، ووفرت لهما غطاء من العيون المتلصصة، فعادت النظرات بجرأة أكبر، وتمادت وتكررت وتشابكت وتعانقت وصار من الصعب عودتها إلى مكانها، ولا حتى فك نسيج خيوطها، وسرعان ما صارا ينتظران يوم الجمعة ليترايا في عمل تطوعي جديد، وعبثاً كانت تحاول إخفاء إرتباك جسدها، أو حتى لملمة انتفاضتة، ومرات شعرت أن قلبها ينتفض متفلتاً لمغادرة الجسد، وأنها تكاد أن تفشل في تهدأته وإرجاعه الى مكانه، وصارا يقرآن لتكون لمشاركتهما معنى في الحوارات الثقافية المعقودة على هامش العمل، وربما ليُري كل منهما الآخر أن الرأس الذي بين كتفيه ليس فارغاً، وأن لديه ما يقوله ويختزنه، وفي يوم ما، على بعد سنة، أخبرها بمكنون قلبه الذي كانت تعرفه، لكنها شعرت بسعادة رغم ذلك، وصارا يتقابلان في المكتبة العامة، يقرآن ويتناقشان مع الآخرين، ويسترقان بعض ساعات للتمشي في الشوارع اليقظة، والتي لم تخبر أحداً عن أسرارهما شيئاً، ولم يكونا قد أدركا بعد أن العمل التطوعي يمكن أن يُحرض دورية الجيش ومخابراته عليه ويرشدهم إلى بيته، إلا عندما رأى تلك الدورية أو مشابهة لها تقرع بعنف باب منزله، ولن ينسى الحاج عمران ماذا قال له ضابط التحقيق حينئذٍ:

ـ مَنْ لديه الإستعداد لخدمة الناس والمجتمع تطوعاً في الكنس والمسح وجدّ الزيتون، بالتأكيد سيجد لنفسه متسعاً لعمل أشياء أخرى لخدمتهم، أكثر خطورة وبالكثير من السريّة.

حاكموه سنتين أو ثلاث، لا أعرف بالضبط، الأمر الذي عمّق في صدره إيماناً لم يكن بهذا القدر من قبل، ولما خرج لم يفكر بالجلوس جانباً، وكأنه يحث الخطى على الرجوع إلى السجن، ولما حذره البعض لمخاطر ما يقوم به، قال:

ـ ما دام لا طريق للعودة إلا عبر الرجوع للسجن، فليكن الرجوع، فهذا أضعف الإيمان.

ومنهم مَن فهم ومنهم مَنْ لم يفهم مقصده، لكنه رجع محكوماً بسنوات طوال، مات أبويه دون أن يراهما، وكانت هي الحاجة مريم من قامت بواجب دفنهما كما قامت بواجب رعايتهما في حياتهما، وتابعت مهنة التطريز لتعتاش في سنوات غيابه.

مرت على كل ذلك سنوات وعقود، وصار المخيم يظل يجتمع في بيتهما، وكان نتاج عملهما يقدمانه سعداء للمخيم وأهله، ولم يعرف أحد لماذا تخلّى عنه أقرب رفاقه إليه، حتى هو نفسه لم يعرف ذلك، لكن بعض المخيم يقسم أن الموضوع موضوع مصالح، وأنه كان ضد “أوسلو وجماعتها” وبعضهم دخلوه بأرجلهم بطرق وأساليب مختلفة، ووظفوا معارضتهم في خدمة مصالحهم، وأكد هذا البعض، أن المصالح عندما تتعارض لا يبقى للعلاقات الرفاقية والإنسانية مكان، وتُخان المبادئ وتُرفع راية الأوطان لتحقيق مصالح الذات وشئونها.

لا أعرف لماذا أثرثر لك بكل ذلك، ولا أعرف لماذا لا يتوقف لساني عن الحديث، وها أنا لم أجاوبك بعد كل هذه الثرثرة على مبتغاك، كيف حصل ذلك؟

أظن أنني لم أخبرك بعد أنني والكثيرين بقينا ساهرين في بيتهما لوقت متأخر من مساء يوم أمس، بل داهمنا الفجر قبل أن نخجل من إطالتنا المكوث وننسحب إلى بيوتنا، وكيف كانا، الحاج وزوجته، في قمة سعادتهما، ولأول مرة أرى كيف تكون السعادة نبعاً ينساب، كالعرق، من مسامات الجسد، وكيف للوفاء أن يكون بحراً من مشاعر صادقة، وكيف للحب أن يتدفق نهراً من ماءٍ زلالٍ باردٍ في يوم قائظ، وكيف يمكن أن تكون الكلمات نسائم طائرة تمر على الأجساد لتمحو بيدها عرقها وجحيم ريحها الخماسيني، وكيف تكون الزغرودة تعبيراً عن كل هذه المشاعر مجتمعة، عندما أطلقتها الحاجة مريم محتفلة بالعملية الفدائية الأخيرة، وكيف يمكن لكهل أن يعود مراهقاً في لحظات، يُزجل ويدبك ويغني الميجنا، ويوزع بنفسه الشاي والعصائر وحتى السجائر التي إشتراها بآخر ما يملك من بقايا نقود، وعندما يجلس على كرسيه ليرتاح يقول:

ـ الآن، لو جاء “عزرائيل” سأستقبله بالترحاب غير آسفٍ.

وسمِعَتْ زوجتي همسها دون أن تبتلع إبتسامتها:

ـ لا قدّر الله، “الشر برة وبعيد”.

وعلى غير عادتهما، تراءى لي عجوزين ثرثارين يتعاملان كثملين أحمقين، يحتفلان كشابين مراهقين بعملية فدائية، واعتقدت أنه نوعاً من فقدان التوازن، أو ربما خفة الكهول عندما يفقد العقل وزنه وتطغى عليه العاطفة بكل جبروتها، لكني أحجمت عندما رأيت الجميع مثلهم، يكادون يموتون فرحاً وكأن “هذه الفلسطين” كلها ملكاً خالصاً لهم، وأنهم إستعادوها أو على وشك ببحرها ونهرها وأرضها وبحيراتها، وكأن مرج ابن عامر يعيد الإصطفافات على مداخل حيفا، وعكا تسن مدافعها ويرتفع بنيان سورها شامخاً متأهبة لقتال، والكرمل إعتلت نفسها لتراقب آفاق السماء البعيد حراسة لهم، والشعب إستعاد نفسه وامتشق الحجارة، وأن رجالات التنسيق الأمني و”أبطاله” لفظتهم مدينة رام الله خارج الحدود، وغزة جهزت صواريخها “العبثية” لتكون في حالة إستعدادها القصوى، وجنود المقاومة المرابطة في شمال الوطن قد إعتلت مناطق الجليل.

وكنت أرقب الجميع كيف يحملون أفراح قلوبهم وينشرونها إبتسامات وضحكات وأفراح وغناء، ولَجَمَتْ أفكاري زغاريد زوجتي التي كانت تُكمل ما ابتدأته الحاجة مريم وتضيف عليه أحياناً، زيادة في إحتفائها بالأبطال الذين إعتلوا السماوات شهداء، ولأول مرة أشعر أنني أخاف النظر في عيني زوجتي كي لا تقرأ أفكار رأسي وتكشف أمري، فرأيتني حذراً من كشف أمري وسط هذا البحر من الفرح والغبطة، أتستطيع أن تدرك مدى شعوري وأنا أخاف فرحتهم أو أخشاها أو أتجنبها؟!!! أتستطيع تصور جبني وضحالتي وأنا أخ شهيد وأخ أسير؟ أتتخيل أنني ما كنت أعرف حتى يوم أمس بالذات قيمة أن تكون أخاً لشهيد؟!!! لم أكن أعلم أن هذا الجهل يساوي الكفر بالله وربما يتفوق عليه، وتراءى لي أن الله يغفر الذنوب كلها إلاّ جهلك بقيمتك كأخٍ لشهيد، كما أنني لم أكن أعلم أن الذي جرى سيعيد شيئاً من الرجولة المفقودة لي، أو سيعيدني إلى رشدي من جديد، وأثبت لي أن ما يحويه قلبي لزوجتي وأطفالي ليس حباً ولم يكن كذلك يوماً، فالحب لا ينقسم ولا يختبئ ولا يجبن، وأن شعوري بإمتلاء قلبي لم يكن حباً حقيقياً كما كنت أظن، بل خوفاً مختبئاً وجبناً منزوياً داخل أعضائي خوفاً من الحب، يا الله كم كانت الأمور ملتبسة!!! كيف كنت قادراً على الوقوف محايداً أمام دماء أخي الشهيد؟ كيف أمكنني التعامل مع زيارة أخي الأسير كأمر عادي متفرجاً عل آلامه من خلف القضبان مثل غريب؟ هل كنت بحاجة لهذا البركان ليهزني ويعيدني إلى حقيقة ما يجري؟ وهل كان بالضرورة حصول ماحصل لأصحو من غبائي وأصحح مسيرتي؟ أكان فعلاً الضباب بهده الكثافة ليحجب الطريق؟أم أنه الخوف من الشوك والأسلاك الشائكة والبنادق المصوبة على كل عابر لذاك الطريق؟!!!

في الصباح، حضرتُ وزوجتي بعد أن رجتني الحاجة مريم بإستدعاء الطبيب، قالت أن الحاج عمران متوعك أو مغمىً عليه، وصارت تشرح لي الأمر وكأنني كنت غائباً وغير موجود، وقالت:

ـ إنه لم يستيقظ من نومة منذ ليلة البارحة أو فجر اليوم، بعد أن سهر كعادته لوقت متأخر، وأنه تحدث كما لم يتحدث من قبل، وضحك كما لم يفعل منذ سنين، وبعد أن خرج الجميع، إمتدح حسني وجمالي، تغزل بقوامي وكأنه يراني بعيون الأمس، ضمني ووضع رأسه فوق صدري وغفى، غفى بعمق كما لم يغفُ منذ سنوات، لم يتحرك طوال الليل، وأنا غفوت بدوري، واستيقظت وانسللت من جانبه كي أبقيه نائماً ليرتاح، لكنه كان قد توقف عن تجرّع الأنفاس، فأرجوك يابني أن تذهب خلف طبيب المخيم ليتفحصه.

وهكذا كان، وأحضرت الطبيب، وتفحصه، وكانت إبتسامة الأمس ما تزال معلقة فوق شفتيه، تخاله يعيش ذات اللحظات، ولولا تأكيد الطبيب لما طننت أنه قد غادرنا إلى جوار ربه، ورأيت بضع دمعات تنساب على خديها عندما سمعت الطبيب يترحم عليه، ودمعتان عبرتا إخدودين محفورين مع إمتداد كيس الدمع على طرف العين، وسالت بهما على جانبي خديّها إلى أسفل الأنف، إخدودين بفعل السنوات وشظى العيش والزمن، وبكل هدوء ولطف همست لزوجتي مشيرة إلي:

ـ دعيه يرتاح عل صدرك، مسِّدي على رأسه، زوجك إنسان طيب وإن ضل الطريق قليلاً أو تاه على مشارفها، واصبري عليه قليلاً فسيعود إلى رشده.

وخاطبت الجميع بصوت عالٍ ووجهت كلماتها لي:

ـ اسمحوا لي يابني للإختلاء به نصف ساعة فقط، أتسمعني نصف ساعة ثم تدخلون.

وخرجت وزوجتي والطبيب وبعض الجيران، وأخذنا نخبر بعضنا بعضاً بوفاة الحاج عمران، وتكاثر الناس على بابه مندهشين، منهم من دعا له بالرحمة ومنهم من قرأ الفاتحة على روحه الطاهرة، ومنعت بنفسي أيهم من الدخول لكسر خلوة الحاجة مريم مع زوجها، وانقضت نصف الساعة وغادرَت، وتبعتها نصف ساعة أخرى، وأمسكت بطرف النصف الثالثة قبل أن تغادر كاملة، وطرقت الباب، وطرقت مجدداً، ولمّا لم يجب أحداً فتحت الباب بهدوء ودخلنا، وكلهم رأوا ما رأيت، كانت الحاجة مريم ممددة بجانبه، يديها ممدتان عل طولهما، وجهها في مقابل وجهه، بثوبها القديم المطرز بيدها منذ سنوات، وشاشتها البيضاء الجديدة التي كانت مختبئة لهذا اليوم خصيصاً، وعلى وجهها ابتسامة استعصت على الولادة لكن بالإمكان تشخيصها بوضوح، ودمعتين اثنتين كانتا ماتزالان واقفتان في مجريي وجهها بعد، ظننتها نائمة أو فاقدة الوعي حزناً، همست في أذنها لتستيقظ، فمن العار أن تنام بهذا العمق وزوجها للتو قد إختار طريق السماء، ثم هززت ذراعها وسحبتها منه، لكنها بقيت كما هي عليه، حاولت أن أسقي وجهها جرعة ماء لتستيقظ، لكن زوجتي أمرتني بإحضار الطبيب من جديد، الذي أكد مخاوفنا جميعاً، أكد أن قلبها الصغير قد توقف عن الخفقان، مصرة على اللحاق به عبر طرقات السماء لئلا تتركه وحيداً هناك، وربما لتدله على طريق الجنة.

كان وجهها صافياً هادئاً وأكثر شباباً، تكاد ترى الدم ما زال يجري في عروقه، مازال يسرح ويمرح مختالاُ في أزقة جسدها وطرقاته المتفرعة، لا يردعه رادع ولا يقف في وجهه عائق، فأخذ يُعيد لها الصبا والشباب، وأنها حية ولا علامة للموت فيه، ومهما كثرت ظنونك لن تظنه الموت، ولأول مرة أرى في الموت كل هذه الحياة، بل ورأيت بأم عيني كيف يكون في نفس الموت حياة غير ما نعرفه من حياة، تماماً كما أن ليس هذا الموت الذي نعرفه، لم يكن الموت الذي نجزعه ونخافه ونحاول الهروب أو الإختفاء من جبروته، وأكثر من ذلك أننا لسنا كلنا نستطيع أمر الموت الهادئ بالحضور، مَن منا يستطيع ذلك؟ يأمره فيستجيب صاغراً آتياً دون ضجيج، يقف أمانها منتظراً سماع أوامرها، يلبسها مُطيعاً ويتركها حية في ذات اللحظة!!! وكانت قد اقتطفت حزمة من الوقت لتخط لنا بضع كلمات، وصيتها التي تنتظر من يقوم بتنفيذها، كلمات مسترخية أو غافية نائمة في بطن ورقة بيضاء واقفة على باب تلفازهما القديم:

” ادفنوننا، هكذا كما نحن، بجانب بعضنا بعضا، فهناك شيء أبعد من الحياة”.

ما كنت أعلم، حتى تلك اللحظات، أن هذا التفاني وهذا الصفاء، هذه الطهارة وهذا الإخلاص والنقاء، هي ما تُثمر الأوطان، ما يجعل لها معنى، ما يجعلها أكبر من المال وعصية على الكسر والتفريط، وأدركت حينها فقط أن الحب ليس بالضبط الذي يتراءى لنا أحياناً، وأن ما نعرفه ربما يكون خادعاً مُزيفاً، وبعضه سراباً في صحراء ممتدة في الأفق كله، وجزمت مع نفسي أن ما أراه شيئاً أعمق من الحب وأكثر شموخاً من العشق، وأن هناك فعلاً ما هو أبعد من الحياة… وربما أجمل.

محمد النجار

 

أضف تعليق