كِدْتُ أقول له…

مهداة إلى الصديق العزيز خالد…

لم نلتقِ “أديب” وأنا منذ بضعة أيام، كعادتنا دائماً، فلا تتسع أوقاتنا للقاءات يومية، كما أن صداقتنا ليست بهذا العمق لتتسع لذلك، فنحن جيران أكثر من كوننا أصدقاء، والجيرة كما تفرض العداء أحياناً فإنها تفرض الصداقات في الكثير من الأحيان، لكنه رغم ذلك دق باب داري، كما أفعل أنا نفسي عندما تضيق علي الأمور ويحاصرني الغضب، فتجدني أدق باب داره.

مذ رأيته يعتصر أصابع يديه ويلفها كأنه يريد خنقها، أو قتلها والتخلّص منها قبل أن يرميها بعيداً، لتخرج “صريراً” أشبه بباب حديدي عتيق، أيقنت أن في الأمر سراً، وأن هناك ما يشغل باله، وأن الأمر يؤلمه ويكاد يخرج عن نطاق سيطرته وقدرة إحتماله، لذلك بدأ بالعبث بأصابع يديه وكأنه يريد كسر عنقها، مجبرها على “الطقطقة” ، كعادته، قبل أن يطرق الباب، ليقول لي بضعة كلمات ويعود.

أجلسته على كنبتي القديمة، المكان الذي أُجلس به ضيوف بيتي، قدمت له فنجاناً من القهوة، جلست مقابله، ومجرد أن نظرت اليه قال:

ـ كدت أقول له أن لا يكون مثلهم، أو مثل بعضهم على الأقل، ليبقى نقياٌ كما يعرفه الناس أفضل، فالنقاء ميزة متأصلة، أظنها تولد مع الإنسان، لا أعرف إن كان لها علاقات في الجينات والوراثة، لكنني أجزم أنها من الصعب أن تُكتسب.

أمسك بفنجان القهوة دون أن يتذوقه، عاد وأرجعه تماماً في مكانه وكأنه خائف أن تخذله أصابعه، رفع رأسه وقال:

ـ زرع فيّ أملاً أنه سينشر مقالي في جريدة يعرفها، وسُررت كطفل حصل على لعبة بعد طول سنين، كي لا أبدو كمجنون يكتب لنفسه ولعدة أفراد حواليه، ثم وعدني بدراسة بعض كتاباتي وإعطاء رأياً بها، فكتبت أكثر لما لوّح لي الأمل بيديه، وأنهيت في لاحق الأيام مقالاً طويلاً آخراً، وأخبرته أملاً في أن يطلبه ويعطي به رأياً، لكنه حتى لم يُعلق على الأمر، تجاهله وتجاهلني على غير عادته، لأنه على الأغلب لم يعنه بشيء، فابتلعت عتبي ونمت عليه أسابيع، فكما قالت الحاجة آمنة يوماً: “قلة الكلام …كلام”، وحاولت مع نفسي أن أجد له عذراً وعذرته، موجداً له المبررات والأسباب، وجزمت في نفسي ” أن كثرة الهموم شغلته، وأنه سيتصل في لاحق الأيام، وأنه سيفاجئني بإبداء رأي في كل ما كتبت”، فخذلني مُجدداً ولم يتصل أو يكتب.

شرب من فنجان القهوة قليلاً، أعاده في نفس موضعه، وتابع دون أن يسمع سؤالي لمّا سألته:

ـ عمَّنْ تتحدث، وعن أي مقال؟

ـ لقد دعاني وصديقاً آخراً لحضور ندوة ثقافية، وأكد علينا حضورنا، ثم غاب ولم يتصل لا ليعتذر ولا ليؤكد الدعوة، ولا نعلم إن تمت الندوة أم لم تتم، لكننا كنا ننتظر. فقلت في نفسي، لعل في الأمر شيئاً، أو هناك سبباً متوارياً في طيات الأيام أو زواريبها، فربما أصابته وعكة صحية لا سمح الله ولا قدر، سأعطيه المزيد من الوقت، “فالغائب حجته معه” كما يقول المأثور الشعبي، الذي ظلت تردده الحاجة آمنة أمامي، وسيتصل ليخبرني، على الأقل، أين وصل مقالي الذي وعد بنشره.

لكن الأمر الذي جعلني لا أكاد أفهم شيئاً مما يدور، هو مرض طفلي الوحيد بمرض خبيث عضال كما تعلم، فكتبت له عن الأمر كصديق، وشعرت بتأثره من جملته التي كتبها لي، ” هذا خبر سيء جدا، الف سلامة عليه…. وسنتابع الأمر بعد عودتي”، وصار الزمن يتدحرج أمام ناظري، متجمعاً على شكل أيام وشهور، الوقت يمر والمرض يزداد، الأمر الذي جعلني أكتب اليه بعد أن فشلت في الإتصال، من باب أخذ النصيحة وربما الطمع بمزيد من التضامن من صديق، فرأيته يكتب لي معتذراً عن التواصل معي، لأنهم “منعوه من أي إتصال معي”، وبدى لي أنه بحاجة لقرار من “الجماعة” ليتواصل معي، مجرد تواصل إجتماعي، أبحاجة لقرار ليطمئن على سلامة طفلي الوحيد!!! أو ليعطي رأياً في مقالي الذي بين يديه، أو ليسألني عن مقالي الجديد، أتتخيل ذلك؟!!! وهؤلاء “الجماعة” الذين منعوه هم أنفسهم الذين يتغنون بالثقافة ودورها وميزاتها، ويعتقدون أنهم الأكثر قرباً منها وفهماً لها، رغم كونها بالنسبة لبعضهم ترف وليست ضرورة ولا حاجة ملحة، وهؤلاء الذين منعوه من التواصل معي هم مَنْ حميتهم أنا نفسي بدمي ولحمي الذي أكله القيد في الزنازين على مدى ربع قرن كامل، والصرح الذي شمخ بعيداً في السماء معانقاً، كان شيء يسيراً منه على أكتافي ومن عزمي وعرقي، والآن لا ينكرون عليّ ذلك فقط، بل يمنعون حتى التواصل معي، الأمر الذي قرع ناقوساً في رأسي، وخفت من تشويه وجه تاريخي الناصع، ومثلي ليس لهم إلا التاريخ يفخرون به، أما الحاضر فبحكم رجال المستقبل، لا يغلم به إلا الله.

لماذا وبأي حق يفعل بعضهم ذلك؟ فهذا شيء لا أعلمه بعد، لكني تذكرت عندما منعني أحد هؤلاء “بقرار” مشابه، بعدم مشاركة أحدهم في عمل خاص، لأنه “نصاب وحرامي” كما قال، ليشاركه هو بعد أن إنسحبت أنا ملتزماً بالقرار !!! وكنت سأعذره لو كان إلتزامه بما يخص الجانب السياسي، لكن الجانب الإجتماعي أيضاً؟!!! العلاقات الشخصية والإجتماعية يحددها له أشخاص لا يكادون يعرفون شيئاً عن هذه العلاقة التي تجاوزت كثيراً مجرد علاقة شخصية، لتصير عائلية أخوية متينة عصية على النسيان أو الإقتلاع، والمشكلة الأكبر أنه يلتزم بمثل هذا القرار خالطاً بين الخاص والعام، ربما مثلي بحسن نية وتأنيب للذات والضمير كما فعلت أنا، لكن المهم أنه يُقاطعني بقرار يمنع الصداقة بين اثنين، أو تُجرّم التواصل الإجتماعي بينهما، ومهزلة القدر عندما يريد البعض أن يُشعرك أنك لست أكثر من مرض معدٍ لا يجب الإقتراب منك، جربٌ قد يصيبهم بالأذى!!!

كان يتلفت حواليه، كأنه غير مصدق لما تم معه، أو كأنه خرج لتوه من كابوس ولم يهتدِ للطريق بعد، وتابع:

ـ كدت أقول له أنني لست جَرَبَاً مُعدياً، فقل لهم ألا يأخذوا الإحتياطات ويلبسوا الكمّامات، ألّا يهربوا من طريقي خوفاً على سلامتهم، فسلامتهم صنتها هناك حيث فرّط الكثيرون، وهم خير من يعلم أنني لم أهن أمام عدو، لم أفرط بكرامة، لم أبع وطناً ولم أساوم عليه، لم أستبدله بمال أو وظيفة مدير في سلطة أو منزل “بالكاش أو التقسيط”،  ولا بمسؤولية في منظمة غير حكومية، كدت أقول له أنني لم أبع قلمي ولم أُأَجره، وكنت وفياً للدم والحبر وحروف الورق، منسجماً مع حروف فمي وكلماتها، التي ظلّت بصمتي واضحة مشرّفة أينما حللت، وأنني لم أكن خصياً يوماً، فما هنتُ لأي سبب من الأسباب، كدت أقول له أن تكون متواضعاً دمثاً خلوقاً ميزة وليست تهمة، وأن تحمل في قلبك “ظلم ذوي القربى” وتعض على شفتيك وفاءً كل هذه السنين، دون أن ينز حرفاً من بين أسنانك متفجراً منتفضاً غضباً ليس بالأمر الهيّن، أن يجعلك البعض غريباً في وطنك ومغترباً بين من كنت حائط صد لحمايتهم، مجبرينك على الإنسحاب المبكر، فتصير بين إحتمالات، أن تهون  أو تخون أو تهاجر أو تنزوي أو ترتضي بمخلاة علف في عنقك أو تقبض على الجمر والسر والفكر وتقطع لسانك إن فكر عقلك بالحديث شكوى أو ثرثرة، كدت أقول له أنني لست من ثرثاري المقاهي ولا من النوّاحين، بل من الذين “أدركوا الفكرة” فحملوها في الرأس والقلب وبين الضلوع حماية، وأن بكاء الرجال في الليل الطويل غضباً وحزناً وتظلماً، مع النفس، قوة وليس ضعفاً، كدت أقول له ما قاله الشاعر الكبير مظفر النواب “أنني قاومت الإستعمار فشردني وطني”، كدت أقول له أنني ، لا سمح الله، لو ارتضيت أن أكون في حزب السلطة لجاء أصحاب القرار هؤلاء مسرعين مباركين مهنئين. فأنا، وبإختصار، لم أفعل غير واجبي، لذلك كنت أستحق السلام والكلام والتضامن والعزاء، وربما أكثر من ذلك بقليل. لكنني لم أقل له شيئاً من ذلك لأنه يعرف كل ذلك وأكثر، فيصير الكلام ليس ذو معنى.

منذ أن عرف أحد أصدقائنا المشتركين، ” محمود” الأقرب له بكثير مني، عن مرض طفلي الوحيد، وهو “يزّن” على رأسي أن أضع الأمر بين يدي “أديب”، وهو “حتماً سيُسخّر كل قدراته وعلاقاته ليساعد في الأمر، فالرجل معروف بنقاوته وحساسيته، ولن يوفر جهداً في ذلك”، وليقنعني أكثر قال: “إنه يساعد الغرباء فما بالك بالعائلة أو الأصدقاء”، ولما رآني أتململ وأراوغ لأخفي في صدري إلتزامه بقرار المقاطعة، قال:

ـ قل لي بربك لماذا لا تريد الإتصال به؟

ـ خجلت أن أقول له أنني كدت أطلب منه ذلك، قبل أن أراه يقطع العلاقة بحد السكين ملتزما بقرار جائر، غير معير لأي شيء آخر قيمة رغم مشاعره النبيلة، “فجهنّم مفروشة بالنوايا الحسنة”، حتى قبل أن يسأل “خالته زريفة” أو حتى يستأنس برأيها، والتي، ربما، كانت ستقول له: “إن استعصت عليك الأمور فاستفت قلبك”، ولربما أضافت: “إجعله بوصلتك في المسائل الصعبة، فالقلب الطاهر النبيل النظيف، كقلبك، دليل التائه”، وإن كانت أكثر مباشرة وغير خائفة من غضبه، فأبناء بطنها لا يغضبون منها، وهو مثلهم، فكما “الخال والد فالخالة أم” أيضاً، ستقول له ما ظلت تقوله له ولي وللكثيرين الحاجة آمنة رحمها الله، “حافظ على العيش والملح، فما بالك بالصداقة والأخوة”.

قلت له غارساً إصبعي في جرحه حتى آخره بدلاً من مواساته:

ـ كل الجماعات تحاول إسترجاع حتى أنصاف مناضليها، أصدقائها، وحتى المتعاطفين معها أقل تعاطف، وجماعتكم يبعدون عنهم أكثر مناضليهم صلابة، أكثرهم طهراً وعنفواناً، أعرف أن رأيي لطالما أزعجك، ربما كوني من فريق آخر، لكن صدقني، أن بعض الذين تهيلون عليهم الكثير من إنتقاداتكم، ربما الصحيحة، من الفرق الأخرى، حتى عندما كانوا يعدمون عميلاً ما تسلل لصفوفهم، كانوا يظلوا يساعدون أسرته، لكن أنتم، تتركون مناضليكم دون إهتمام، والكثير من أسراكم دون مساعدة، وجرحاكم لا يجدون قوت يومهم، حتى أسر شهدائكم يعانون من المرض والجوع.

قال بالكثير من الأسى:

ـ لقد كنا أوفياء، ما الذي أصابنا؟

قلت:

ـ كنتم، كما كان غيركم مناضلون، لكنكم لم تعودوا كذلك، على صعيد بعض قيادتكم على الأقل، فغالبيتها لم تعد كذلك، “فعندما ينخر السوس الصف القيادي قل على الحركة أو الحزب السلام”، وكثير من قيادتكم استطابت الراحة وأعماها المركز وتجميع المال، أصابها الفساد وحب السلطة وأمراض العلنية المزمنة، قل بربك كم واحد منهم يؤيد الرجوع للعمل السري؟ كم واحد منهم يرغب بالتخلص من شِباك “أوسلو” عملياً وليس أقوالاً فارغة؟ الأمر الذي أوجد “للسوس” أرضاً خصبة ومرتعاً لدى هؤلاء، لقد ذهب الزمن، ياصديقي، الذي كان الكثيرون يتمنون فيه أن يكونوا مثلكم، أن يبعث لهم الله برجال مثل رجالكم، ذهب.

نظرت في عينيه وسألت:

ـ ألم يكن الأجدر بهم أن يُقاطعوا بضاعة الإحتلال بدلاً ممن قاوم المحتل؟ البضاعة التي لا تغيب يوماً عن استهلاك بيوتهم؟

سكت قليلاً وأكملت:

ـ تقول لي أنك كِدْتَ تقول له، لماذا لم تقل له ما أردت قوله؟

قال:

ـ لأنه لم يكن أمامي، وأشعر ان الكلمات التي تمتطي الأوراق لا روح فيها أحياناً، وأحياناً تخذلك ولا تصل كما أردتها أن تصل وأن تكون، تصير كلمات فارغة طنانة لا قيمة لها، مجرد تراكم لحروف سوداء تغرس أنيابها في ورقة بيضاء مستسلمة ممددة تحتها ميتة دون حياة، وربما لا تؤخذ على محمل الجد وتُقرأ كما يجب، كما أن الكلمات تكتسي دما عندما تكون خارجة من القلب إلى القلب، وهذه عادة ما تكون وجهاً لوجه.

قلت:

ـ لو كان كلامك صحيحاً لما وصل الينا علم ولا نظريات، ولما بكينا عندما نقرأ رواية تهز أعماق مشاعرنا، لكن ما الذي تريد عمله؟

ـ لا شيء، سأظل أكتب وأكتب، حتى لو لم تقرأني سوى حفنة من الناس، فحتماً سيأتي وقت يقولون فيه: “لقد كان في ذلك الزمان رجال يتدفقون عزاً رغم كل صنوف الفساد، وكان أولادهم يموتون مرضاً وعائلاتهم جوعاً رغم إغراءات المال التي ظلت تناديهم، كانوا ينابيع رجوله، مواقفهم صلبة لا يساومون عليها، فلم يبيعوا موقفاً أو يؤجروا قلماً، وظلت أحرف أقلامهم رصاصات في وجه كل عدو، فترى نفسك وقد حييت من جديد، تأخذ حقك وأنت في القبر، أما هم فسيظلوا أمواتاً منسيين، و في أحسن الأحوال، ستدفنهم مواقفهم البائسة.

لم يكمل فنجان قهوته، عاد “يطرقع” في أصابع يديه، نظر في عقارب ساعته، قام مستأذناً مستعجلاً دون أن يكمل ما أراد قوله، قام منتفضاً وقال:

ـ حان الوقت لأسقي طفلي كأساً من “الشيح”،طفلي الوحيد الذي يعاني من مرض عضال، فمثلنا لا يملك ثمن الدواء.

محمد النجار

 

 

أضف تعليق