لطالما كنت أعرف ان مجموع النصفين يساوي واحد صحيح، لكن حالتي وحالة النصف الآخر خطأت هذه النظرية وقلبت الأمر بأكمله رأساً على عقب، بل مزقتها ورمتها في وسط الرياح، لتحملها بدورها بعيداً وتنثرها في فضاء السماء، لنبقى كلانا مجرد نصفين غير مكتملين، مهما تجمعنا ونحن على حالنا هذا، فإننا لن نستطيع أن نساوي واحد صحيح، رغم مرور كل هذا الزمان.
يؤكد البعض أنه، رغم أنفي ورغم نفيي، لم يكن يوماً سوى نصفي الآخر، وسيظل كذلك أبد الدهر، وأنني وإن كنت أكبره بالكثير من السنوات، وأكرهه كما يكرهني، كل هذا الكره، فهذا لن يغير من الأمر شيئاً.
أعني عندما كنت في عز شبابي، مزهواً بنفسي، فخوراً بقدرة عضلاتي، لم يكن هو قد ولد بعد، حيث كنت حينها لا أتجول إلّا وبندقيتي فوق كتفي، قدماي تدق صدر الأرض، ورأسي يجول متباهياً فخوراً في مساحات السماء، مُتحزماً بحزام العز والشرف والكرامة كما كنت أظن، اُجابه الوحوش وحدي، وأعيش على ملح الأرض وثمار أشجارها، أدافع عن الجميع بكلتا يديّ، يمينها ويسارها، في الوقت الذي تركني فيه كل الأهل والأقارب وحيداً عارياً مطارداً، أعارك الحر والبرد والوحوش الكاسرة في ذات الوقت، قبل أن أعرف، أنهم كانوا جزءاً ممن يطاردونني سراً، في لاحق السنين.
منذ عقود طويلة، كانت قبائل العمائم الدينية مَنْ تبنى النصف الآخر، أبوه وأمه وأقاربه الحقيقيون، وهم أنفسهم مَنْ كانوا يقدمون له كل ما لذ وطاب، ليبقى كما هو، مسالماً متردداً، لابساً لباس الدين وعباءته الفضفاضة داعياً إليه، محرضاً الناس مبعدهم عن هموم الدنيا، مؤكداً أن للفقراء والمنبوذين والمضطهدين الجنة، وما عليهم سوى الصلاة والصوم والخضوع والسمع والطاعة والعبادة والدعاء، مذكراً بالآية القائلة “وما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون”، ولم يخلقهم لأي سبب آخر، في ذات الوقت الذي ظلّ والأقارب يتهمونني بالتطرف والمغامرة وجر الناس إلى التهلكة تارة، وبالمجون والجنون والكفر والإلحاد تارة أخرى، خاصة وأن جسدي يضم زوجاً من الأيدي، اليد اليسرى بجانب اليمنى، وليس اليد اليمنى فقط.
كان نصفي ذاك يسوق المبررات، ويقود خطب الجوامع للتحريض عليّ، مُحاولاً إبعاد الناس عني لأظل وحيداً ضعيفاً، أو لأتحول لمهزوم مشرد بائس مثله، مُتجاوباً لقوانين الخضوع الأبدي، حيث “العين لا تُجابه المخرز”، و”الإنحناء أمام العواصف” و”السمع والطاعة” لولي الأمر، كيلا أتميّز عنه، حيث كان يسمع ويرى كيف كان جسده يتهالك ويضعف وينهار، وجسدي يزداد قوة وجمالاً وإعجاباً من كل أولئك الفقراء، الذي يحرضهم في كل صلاة، وظل، رغم ذلك، يسوق الآيات والأحاديث لتبرير عجزه أو جبنه أو حتى هجومه غير المبرر عليّ، على ذراعيّ تحديداً، ويسارها بشكل خاص، متهمها بالزندقة والكفر والإلحاد، صارخاً بأعلى صوته، “كفاك جنوناً، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”، وكنت أسمع صراخه لكنني كنت أظل أسير إلى الأمام، ومن يسير للأمام لا يسمع الأصوات الناشزة، وإن سمعها لا يعيرها انتباهاً، فحركته تفرض عليه الإنتباه لقوانين الطبيعة، كي لا تنهشه الوحوش وصخور الجبال والأشواك، فللجبال قوانينها، وللسهول مفرداتها، ودون أن تتقن لغة الأرض لا تستطيع أن تكسب عطفها، ولا أن تُطوعها وتركب ظهرها، فالأرض فرس أصيلة جامحة شامخة، ترمي الخائف الراجف المتردد، ولا ترتضي غير الفرسان لتعتلي ظهور منصاتها، لتحملها إلى بر الأمان في أعالي رؤوس جبالها الشاهقة، خاصة إن كان جل همه المسير والتقدم وصعود الجبال .
نعم، في ذلك الوقت، كنت ما أزال في ريعان شبابي، كنت أرى الدنيا كلها محصورة في فوهة بندقيتي، وكنت رغم زحف السنون على كتفي أزداد شاباً، وكلما تزايدت سنوات عمري كلما نمت عضلات جسدي وكبرت وقويت، وصرت عصياً على الكسر أكثر، لا أعرف الآن السر في ذلك، لكن المؤكد أن بندقيتي تلك، حتى عندما كانت بندقية عجوزاً صدئة مهترئة، كانت تظل تحافظ على شباب جسدي، وتسقيه الشهامة والرجولة والعنفوان، وتشعرني أنني نجمة سابحة في مساحات السماء، ورغم مطارداتهم ، طوال الوقت، لي، الغرباء والأقارب، إلّا أنهم كانوا يخافونني ويرتعبون من سماع صوتي، الذي تشابه مع صهيل الخيول الجامحة، لمجرد أنهم يعرفون أن البندقية كانت ما تزال في قبضة يديّ، وحينها لم أكن أعرف أسرار البنادق، ولم يخطر ببالي لحظة واحدة أن البنادق نوعان، بندقية الفخر والعز وبندقية الذل والهوان، كوني لم أحمل بيدي يوماً بندقية الذل الهوان، ولأن شيئاً كان يهمس في أذني منبهاً لنوعية بنادق الأقارب التي لا تعرف سوى الإطلاق للوراء، مقارناً بين الإثنتين، لكنني كنت لا آبه كثيراً للأمر، وكأن الأمر لا يعنيني البتة.
لقد كنت شغوفاً بصعود الجبال، كنت لا أكاد أنظر إلى أي إتجاه آخر إلاّ من باب الحيطة والحذر، ألاحق الوحوش الكاسرة التي غزت جبالنا على حين غرة، لمّا كنا في غفلة من أمرنا، وحوش لا يعلم إلا الله كيف جاءت ولا حتى من أين، بألوان وأشكال ومخالب ونيوب متنوعة ومختلفة، كانت رغم إختلاف مشاربها مُجمعة على هدف واحد، على إقتلاعنا من جبالنا وأراضينا لتتسيد عليها، لتحتل كهوفنا ومُغُرُنا الغارقة في التاريخ وبطون الجبال، وتأكل خيراتنا وثمار أرضنا بعد أن تطردنا بعيداً في غياهب الصحراء، لتصير تسرح وتمرح وتصول وتجول أنّا شاءت وكيفما أرادت.
في كثير من الأزمان، كنت أسمع أصوات تأتي من الصحراء، ترشقني بالزيت وترميني بالمال، تسمعني أجمل الأشعار، تتغزل بقوامي ورشاقتي وفروسيتي، وتغدق علي أجود أنواع الطعام، وكان الأمر يُشعرني بالنشوة، ويخفف عني ثقل الوحدة التي طالما شعرت بها، ولم أكن أعلم أنها كانت تبعث لي، في الليل، عواصف الرمل وأسراب الجراد .
في البدء كانوا يضعون المال في طريقي، وكنت أراهم أو يُرونني أنفسهم، لم أعد أذكر بالضبط، وكنت آخذه لأستخدمه فيما خصني من ضروريات، وكنت حينها قليل المتطلبات، بضع حبات من الزيتون ورغيف من خبز الطابون، صحن زيت زيتون وزعتر، خاصة من ذاك الزعتر البري التي تظل جذوره متمسكة في بطن صخور الجبال، أو حتى إبريق شاي بالميرمية أو النعناع البلدي مع رغيف من ذات الخبز يجعلني مثل الحصان، وللحق، لم تخلُ وجبة لي آنذاك من زيت الزيتون، وكانت دائماً زجاجته تحت حزامي، وإن كنت أذكر جيداً، فهذا كان ملاصقاً لي كبندقيتي، حتى إن فقدت الخبز جرعت جرعة منه فتكفيني، فهذا كان من طبيعة الأشياء بالنسبة لي آنذاك، أهناك فارس لم يتجرع زيت الزيتون؟!!! أهناك بندقية صالحة لم ترتوي أعضاؤها بزيت الزيتون؟!!! حتى أنني كنت أمسح يداي وعضلات جسدي به إن توافرت كميته أكثر، وكنت قاسي الملامح والعضلات كأنني شَبَه البندقية، كأننا توأمان، أو كأنني جزء منها، تسهل حركتي بعده وتتضاعف سرعة حركة يداي، وكأن الأرض تصير أكثر ليونة وسلاسة وتعاطفاً ومحبة، عندما تشم فيّ رائحة البندقية وزيت الزيتون، حتى أشواك الصبار تصير أكثر ليونة ولا تعود عدائية…
نعم، كنت أقول أنهم كانوا يضعون المال في طريقي، ثم زادوا كمية المال حتى أخذ يتراكم بين يدي، فلم أعد قادراً على حمل المال والبندقية في ذات الوقت، فيداي لا تتسع لكليهما معاً، فصرت أسند بندقيتي بجانبي، أتركها تحت أشعة الشمس الحارقة، وأحياناً تحت المطر لأستطيع حمل المال ونقله وتخزينه، فأوراق المال لا تتحمل البرد والقيظ كالبندقية، وحمايتها تتطلب التضحية بالوقت والبندقية في بعض الأحيان، وعلى أثر ذلك صرت أفكر بهمومي الذاتية، وبعد سنوات عدة، ومع تزايد كمية المال بين يدي، صرت أتجاهل الوحوش التي تمددت أكثر في مساحات الجبال وأفكر في نفسي أكثر، ثم صرت أفكر في العروس التي سأتزوج وفي أولادي وشيخوختي، فثقلتت البندقية على كتفي، وصرت أضعها جانباً وأحلم بالبيت والعروس وحديقة المنزل، وصرت أنسى أو أتناسى وأتكاسل عن رعايتها وسقايتها بزيت الزيتون، وكففت أنا نفسي عن أكل خبز الطابون المُغمس بزيت الزيتون، وكففت عن شرب الشاي الغارق بالميرمية، وصرت أفضل “النسكافية” على “العدنية”، والأجبان المستوردة على حبات الزيتون وزيته والزعتر، واستطعمت “الفيليب مورس” على “تتن” الحاكورة وسيجارة “الهيشي”، وصرت أفضل النوم بجانب المال لحراسته على تركه وإكمال المسير، أو على حمله وصعود الجبال، خاصة أن كَنْز المال لا يتناسب أبداً مع صعود الجبال.
سرعان ما صرت وبندقيتي ننام أكثر وأكثر، وصرت ألحظ أن البندقية التي ترافق المال تأخذ مواصفات أخرى وتبدأ بالتغير، وأول ما يغزوها مرض عمى البصيرة، فالبندقية بعينين كبيرتين ساهرتين على مر الزمن، وإن كانتا متخفيتين تصعب رؤيتهما، وهذا النوع من الأمراض لا يعمي عينيها بل يضعفهما رويداً رويداً ويخلط فيهما الألوان، فلا تعودا قادرتين على التمييز بين العدو والصديق، وعندئذٍ تنحرف بوصلتها إلى غير الإتجاه، قبل أن تصير تميل إلى الراحة والكسل، ويؤثر عليها وفيها عوامل الطقس ومؤثرات الراحة على طول الزمن، كأنها تتأقلم مع واقع جديد، فيلين حديدها، يتجوف، ومع الأيام تتقلص عضلاتها وتضمر، وتصير أشبه بعودٍ من تبن. وكما “الفرس من خيالها”، ف”البندقية من قائدها”، “من موجهها”، تماماً مثلنا نحن البشر، القارئ والأميّ، كلما كانت تعرف طريقها، وعلى ظهرها من يقودها ومَنْ يوجهها، فارس يعانق رأسه وجه السماء، حينها تعرف كيف وأين ومتى تفرغ ما في صدرها من غضب، أما إن كانت عمياء البصر والبصيرة فيمكنها أن ترتد إلى صاحبها وتقتله. لذلك وبعد سنوات تقلصت عضلاتنا، وصار صعود الجبال مشقة أحياناً وترف حيناً آخر، وصارت بندقيتي تفضل النوم على اليقظة، تستمرئ الراحة، وكلما نامت بندقيتي أكثر كانوا يزيدون رمياتهم بالأموال لي، فصاروا يتفننون بقذفي بها، مرة كالسهام ومرات في صناديق مقفلة أو حتى أكياس مغلقة، ومع كل حزمة مال كان مرض العمى يزداد ويتعمق في عيني بندقيتي، وصارت غير قادرة على الفعل والتأثير، ثم أضحت عبئاً ثقيلاً على جسدي، فخبأتها وأخذت أجمع المال، لأنني في قرارة نفسي كنت مدركاً أن السر يكمن في البندقية، لكنني لم أكن أعلم أن حديد البندقية يمكن أن يصدأ ويتلف إذا لم تستخدمها، وعندما يأكلها الصدأ لا تعود ذات فائدة، وتصبح كالعصا التي أكلها السوس من الداخل، فجوّفها وأضعفها وجعلها غير ذي فائدة.
صار المال من حولي تلالاً، يكاد يحجب الهواء عني، وأشعر أحياناً أنه يكاد يخنقني ويقتلني، ولم أفكر لحظة أن كثرة المال في بعض الأحيان تقتل أصحابها، فأقوم راكضاً نحو زجاجة زيت الزيتون لأشم رحيق زيتها، وكنت أشعر أول الأمر أنها تجلب الهواء والحياة لي، لكنها كفت لاحقاً عن فعل ذلك، وكأنها تريد أن تقول لي أنها دون البندقية لا فائدة كبيرة ترجى منها، وأنها والبندقية متلازمتان، فقذفت بها بعيداً، فانسكب زيتها على التراب والصخور وسار كأنه جدول، حتى وصل البندقية المخبأة في بطن الأرض ونام في حضنها، وكأنهما ينتظران مَنْ يسقي البندقية ويمسح عنها صدأ الأيام. وصرت أنا أخرج رأسي بين وقت وآخر من بين فتحات المال، لأقتنص كمية من الهواء كلما شعرت بضيق نفس، واستعضت عن استنشاق زيت الزيتون بزجاجات عطور غربية، وصارت رائحة الزيت تصدع رأسي، فابتعدت عنه وعن البندقية وتمسكت بالمال وروائح العطور.
مع تزايد كميات المال تحولت أحلامي في بيت، لأحلام في قصور، وصرت أستخدم بدوري المال للضغط على الآخرين ليسمعوا كلامي ويحذوا حذوي، وأشتري به أهل بيتي وبعض الجيران، وصرت أسمع المديح والغزل والأشعار فيّ وفي ذكائي وقوتي كما لم أسمعها من قبل أبداً، ولم أعد آنذاك وحيداً كما كنت سابقاً، أو هكذا تهيأ لي، ولم يعد صعود الجبال يستهويني، ولم أعد أجهد نفسي في التفكير في الوحوش كثيراً، رغم تمددها في المراعي كافة، واستيلائها على المُغُر والكهوف والسهول والجبال، بل وتمددها في السماء كله، وبدأت أدرك حينها تلك القوة الهائلة الغريبة الكامنة بين طيات المال وأوراقه، ولم أكن أشك لحظة واحدة بأنه يمكن أن يكون غدّاراً قاتلاً، ولا أن لمعته ليست إلا لمعة فسفورية سريعة خدّاعة، وأنه يمكن أن يقتل صاحبه، كما كان يظل يتراءى لي في بعض الليالي القاسية.
ظلت تلك الأصوات الصحراوية تتقرب مني وتطعمني وتسقيني، لأنها لم تكن تعرف أين خبأت بندقيتي، وربما لأنهم يهابونني ما دمت أملك ذلك النوع من البنادق، أو لأنها لم تتحول بعد لنوع بنادقهم، لذا بالغوا وزادوا في إطعامي خاصة في الليل، وأنا الذي كنت “أتعشى وأتمشى” عملاً بوصية الأجداد، صرت أتعشى وأزيد السهر سهراً، وأنام حتى ساعات الظهر، فازدادت الشحوم حول جسدي، وثقلت حركتي، فأخذ يهجرني شبابي، وصرت مثل كافة العوام، كلما أكبر أكثر كلما أشيخ أكثر.
صارت هجمات الوحوش تتزايد دون أن أتمكن من صدّها كما كنت في الخوالي من الأيام، حيث ركبني الخمول من تراكم الأموال، وتضخمت وتكرشت، وصرت أتجنب مواجهة الوحوش، ثم صرت أهابها، وانتهى بي الأمر على عدم مواجهتها، وصرت أفرض ما أريد على من هم تحت عباءتي بالمال وليس بالمنطق وحسن القول والإقناع، ولمّا يخالفني أعضاء جسدي أحرمهم من المال والطعام، وأحرض عليهم أبناء الصحراء، الذين تجرؤوا لمّا رأوني أقف في صفهم، على كلتا يديّ، خاصة يدي اليسار، وكأنهم يريدون خنقها أو إنتزاعها من جسدي، تحت سمعي وبصري، ولم أفكر حينها بأنها جزء مني، وأن إقتلاعها سيضعف جسدي، وربما كان إثر ذلك نزيفاً قتلني، وعلى أثر ذلك، تكرّر نهش الوحوش لها بدعم من أعراب الصحراء، تفردوا بها وهاجموها بقسوة، شتتوا جسدها وعضلاتها بين السجن والقتل والمطاردة، لأنها ظلت تعاديهم وتعادي كل أموال الصحراء، ففترت قوة بعض عضلاتها، وتجاوبت بعض أصابعها لمرض حب المال المُعدي، فغزى المرض بعض أصابعها، ورغم معرفتها بالداء والدواء، إلاّ أنها لم تعالج المرض من بدايته، وربما لم تستطع ذلك، ولم تقدم العلاج اللازم لتنقذ عضلاتها، فصارت تتقلص وتتمزق وتتقزم حتى أضحت قليلة التأثير والحيلة والحركة، رغم محاولات الكثير من أصابع يدها، إعادة الحياة لعضلاتها.
تكدس المال من حولي وبين يدي، وصرت أحارب بقوة المال وليس بقوة السلاح، وتحولت حربي التي كانت ضد الوحوش إلى حرب مع أجزاء جسدي، من بقايا عضلات وأطراف متورمة متمزقة ضعيفة، واكتشفت لاحقاً أنني أحارب نفسي، أحارب جسدي ويديّ، وصار رأسي مسكوناً بما يعيدونه علي صباح مساء، بأن أقابل “الضيوف” وأستمع إليهم، وأن “الوحوش” التي تتراءى داخل رأسي ما هي إلا هواجس وكوابيس داخل رأسي فقط، وأن “الوحوش” ليست سوى أناس متحضرة، وليسوا سوى “ضيوفاً” قدموا لبلادنا، وما علينا سوى استضافتهم وإكرامهم وحسن معاملتهم، وذكّروني بحاتم الطائي، كرمه ودماثته وحسن أخلاقه، وما علي سوى التشبه به، وصدقتهم لأنني أردت تصديقهم، وكنت أستمتع وهم ملتفون حولي ويصرخون بي في وقت واحد، بيت شعر جرير قائلين:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راحِ
وللحظة خلت نفسي مروان بن عبد الملك الذي قيلت فيه القصيدة، لكن متابعتهم للحديث أعادتني إلى حيث كنت، وكان حديثهم يتتابع جملاً متلاحقة في أذني:
ـ “إن “الضيوف” الذين أسميتهم وحوشاً، وما بهم من الصفات الشرسة، ما هي إلّا من عند الله، حباها بها لتدافع عن نفسها أمام الطبيعة القاسية والضواري القاتلة، وأن عليك أن تفهم مرة وإلى الأبد “أن لا إعتراض على الله، لا في خلقه ولا في أمره ولا في إرادته”، “لأن لله في خلقه شؤون”، وأن عليك الإيمان بذلك دون تردد أو تفكير ولا حتى سؤال، وما عليك سوى الإهتمام بعقلك وجسدك وتطويعهما وضبطهما، فالعقل أو الجسد المتمرد، مثل الطفل العاق، “بيجيب لأهله الشتيمة والمسبة”، ويجب إعادة تربيته، بالسّوت على وجه التحديد، لأن “العصا لمن عصا”، وإن خالفك عقلك إقمعه ليعود إلى جادة الصواب، وإن خالفك أحد أطرافك إبتره واقتلعه وارمي به للكلاب، لتأخذ بقية الأطراف عبرة ودروساً، وإن لم تفعل وتروضهما، ربما يأتيانك بما لا تُحمد عقباه، حيث يرميان بك إلى التهلكة، وتعود ” يارب كما خلقتني” دون مال ودون أقارب”…
ونزولاً عند رغبة أقاربي، وكي أكون صادقاً، أمام مفعول مالهم الذي “هذّبني وشذّبني وعقّلني” وجعلني إنساناً آخراً، لدرجة أنني لم أعد أعرف نفسي، رأيتني أقابل “الضيوف”، أحاورهم وأساهرهم وأتحدث معهم، ووجدتهم نِعْمَ “الضيوف والجيران والأصدقاء”، ثم دعوتهم لمائدتي، وقبلت دعواتهم لمائدتهم، ليصير بيننا “عيش وملح”، وتعاهدنا عهد الله أن لا نخون بعضنا بعضاً، وأشهدنا الله والجيران والأقارب على ذلك، وأكدت أن الخائن منّا سيخونه الله ورسله وملائكته وكتبه، وتواعدنا وأكدنا “أن وعد الحر عليه دين” يجب الوفاء به، وتزاوجت بنسائهم دون عقود، لتعميق أواصر الصداقة وترسيخها، عملاً بالمأثور الشعبي القائل “كن نسيباً خيراً من أن تكون قريباً”.
تسارُع الأمور هذا بهذه الطريقة فجر ثورة في جسدي، فانتفضت يداي يمينها ويسارها، لكني أسْكَّتُ يميني “برش” المال والمزيد من المال، وفردت لها المشارب والمعالف، ونثرت لها البرسيم والشعير فوق رؤوسها ، وقمت بتعليق “المخالي” على الطرقات لمن يريد من عضلاتها وأصابعها أن يصير “خروفاً”، وكان عجبي كبيراً لما رأيت كيف علا التسحيج والهتاف، وغطت مأمأة “الخراف” على كافة الأصوات الأخرى التي عارضتني، وارتفعت البنادق لتدافع عني وعن طريقي الجديد، لكنها بنادق من نوع مختلف، وليست مثل بندقيتي القديمة تلك، كما أنني أجهضت “يساري “بتجفيف المال عنها، وبالمزيد من التجفيف، إلا عن بعض الأصابع المنتفخة، فأسكتهم الجوع، وأعمت التخمة الأصابع المتضخمة، وفرضت إرادتي وإرادة الأقارب و”الضيوف” على جسدي وأطرافي وعضلاتي، التي رويداً رويداً “ويا للعجب”صارت مترهلة راعشة، رغم كل المال الذي يغمرني.
قبل تلك المرحلة بالضبط وُلد النصف الآخر، بالضبط عندما كنت ما أزال شباباً، ومرور الزمن يزيدني عنفواناً وقوة، وبندقيتي تلك في قبضة يداي، وزجاجة زيت الزيتون في حزام رصاصاتي، أي قبل أن ألتقي “الضيوف” وأعقد معهم الصفقات من تحت الطاولة ومن فوقها، أعني قبل أن أتحول إلى رجل أعمال ناجح بلباس مُرقّط، بل في المرحلة التي كنت ما أزال أرى فيها “الضيوف” وحوشاً غريبة، وعدواً يجب كسر أنيابه وتحطيم مخالبه، لأجبره على العودة من المكان الذي جاء منه، في مرحلة “الخداع البصري” تلك، التي شوهت رؤيتي وقلبت الحقائق في رأسي، وأرتني الأمور على عكس حقائقها، في مرحلة مفاهيمي المشوهة التي لم أفرق فيها بين “الضيف” وبين الوحش، قبل أن يصير قراري من رأسي وأمتلك “قراري المُستقل” الذي أمتلكه الآن، وبشهادة الأقارب من أعراب الصحراء!!!.
في ذلك الوقت وُلِد ذلك النصف بعد معاناة ومشقة وآلام طويلة، وكدت أجزم مراراً أن ولادته كانت قيصرية بامتياز، وأنها تتم ليكون بديلاً عني، ومنذ ولادته، لم يكن ليوافق على شيء أقوله أو أفعله أو أقوم به، رغم أنني لم أكن قد وصلت لقراراتي الهامة تلك باعتار الوحوش “ضيوفاً”، وبدى لي أنه وُلد ليزاحمني ويصل قبلي الى المكان الذي وصلت إليه، ومددت له يدي الإثنتان، يمينها ويسارها، فرفضهما بإصرار غريب، ولم يشأ أن نتعاون يوماً في أي شيء، واختط طريقاً مختلفاً لنفسه، وظل يشوه صورتي في كل المناسبات، ويتهمني بالفساد والإفساد وشراء الذمم، ويزندقني ويكفرني ويكيل لي من الإتهامات أبغضها وأكثرها بؤساً، ويكرهني ويحقد عليّ وكأنني “قاتل لأبيه” كما يُقال، وبدى أن كل ما كان يريده إلى جانب ذلك هو منافستي ومقارعتي وتشويه صورتي المشرقة، وكي أكون منصفاً، فبعض ما قاله لم يجانب الصواب، لكن، ورغم ذلك، كان بالإمكان أن نسير سوياً، فالطريق يتسع لإثنينا معاً، وجبال الله واسعة وتتسع لنا جميعاً.
وسرعان ما أضاف هدفاً آخراً إلى جدول أعماله، وهو الإبداع في تحويل رجال الدين إلى تجار دين، واستخدمهم في تنفيذ أهدافه ومآربه، وابتدأ في إسترجاع مجتمعنا الذكوري وعودته إلى نفسه، بعد أن أُهينت كرامته وأُذل، وطأطأ رجاله رؤوسهم ومُسحت الأرض بكرامتهم، وذلك بعد أن تمادت المرأة فيه وعليه، وصارت تسرح وتمرح وتذهب وتجيء دون إذن أو رقيب، وصارت ” والعياذ بالله تتشبه بالرجال”، وتَزايد خروجها للعمل والتمشي والتسكع والتمايع والتدلل في وسط الطريق، وتُماشي الرجال من غير “المحرمين”، وتجالسهم مجالسهم في المقاهي والمطاعم والبيوت وفي أماكن العمل، فجعل من المرأة أعلى سلمة أهدافه، خاصة بعد أن أصبحت النساء تتظاهر وترمي الحجارة وتتنظم وتستشهد وتعتقل، وذراعي اليسار شاهد على ذلك، وأعلن أن إنكفاء النساء في بيوتها ضرورة، لنرجع لديننا الحنيف، و لتعود الطبيعة الى نفسها والأرض إلى مجراها، ومن هنا كانت البداية لسيادة ثقافة العمامات اللواتي تدعي إستملاك الدين وتدعوا لعبادة الفرج وتكفير الآخر، فصار أخوة الوطن “صليبيين”، وطوائفه كافرة ومذاهبه فاجرة، واستملكوا الجنة وسجلوها حصرياً باسم طائفتهم، فنصبهم النصف الآخر وسيطاً “نزيهاً” بين البشر وبين الله، فصاروا يُصورون الله بأنه لا يقبل صلاة أو توبة أو عبادة أو تواصل دون المرور بهم أو من غير وساطتهم وحتى موافقتهم، فاستملكوا بذلك مفاتيح الجنة، التي صارت لا تفتح أبوابها لأحد دون موافقتهم أو صك غفران منهم.
وصار يحشو في العقول مواصفاته للمرأة الصالحة، وصار شيوخه ومُفتييه، في المساجد، يحددون كيفيتها، فقالوا أن وجه المرأة عورة ويداها عورة وعيناها عورة وصوتها عورة وكل ما فيها عورة، وعليها أن تُغطي عوراتها جميعاً عن الرجال وعن النساء في المجتمع برمته، فلا تُظهر منها شيئاً، وكل ما يظهر سيحرقه الله في نار جهنم! وطوّروا الأمر ليطالبونها بإخفاء عوراتها عن الأقارب من عم وخال، ثم عن أب وإبن، إلّا عن الزوج وحده، وكأن الشيطان من خلق جسد المرأة وليس الله، وكأن الله لو كان رائداً لعورنتها بهذه الطريقة وهذا الشكل ما كان قادراً على تغطية جسدها بطريقتة هو، أو أن ينزل نصوصاً صريحة واضحة بهذا الشأن، فحددوا لله كيفية المرأة التي يريدون، فصارت المرأة رجس ونجاسة، وتحولت إلى بئرٍ لا ينبض من الجنس، فأفتوا بالزواج من القاصرات، وبعضهن في سن الطفولة المبكرة، وحشروا الشرف بين فخذي المرأة، وجعلوا منها متعةً للرجل فقط، وأفتى البعض بأن الرجل يمكنه رمايتها كالنفايات إن كبرت أو مرضت لأنها لم تعد متعة له، وسرعان ما نقلوا المتعة للسماء أيضاً، فصارت الحوريات جزءً من متعة الرجل، فصار “أجرة” الشهيد سبعين حورية، ليمارس معهن الجنس في جنات الله، وكل ممارسة جنسية تمتد لسبعين سنة، ثم تستدعيه حورية ثانية لسبعين سنة أخرى وهكذا حتى ينهي السبعين ثم ينتقل بعدها لسبعين وصيفة للحوريات السبعين، فحولوا جنة الله إلى وكر بغاء، فألغوا بفتاويهم المرأة من المجتمع، وحوّلوها من إنسانٍ إلى مجرد شيْ. بعد تشييئهم للمرأة وضعوا للشهداء أجرة، وكأن الشهداء يتحركون بغرائزهم الجنسية وليس بشرفهم وعزة أنفسهم وإيمانهم بعدالة ما يدافعون عنه، فصوروا أن جُل ما يبغيه الشهيد مقابلة الحواري الحسان في الجنة، وكأنه يستشهد من أجل ذلك، وفقط من أجل ذلك، محاولين تغيير مفهومنا ومعرفتنا المتراكمة عن الشهداء، بأنهم في الأصل ذووا شهامة وكرامة وعزة وإباء، كبارٌ لا يرضون الضيم ولا الذل ولا الهوان، ما دفعهم للثورة على كل مَنْ يُمثّل الظلم وعلى كل مَنْ يطغى ويتجبر، حاملين رايات العدالة والحرية والمساواة، فكرّمهم الله بالشهادة ليزيدنهم عزة وكرامة ورفعة وإباء، وليرفع من منزلتهم في الجنة كما رفع من قدرهم في الأرض، رجالاً كانوا أو نساء، ومن أي طائفة كانوا أو ملّة أو دين.
ابتدأ النصف الآخر بتطبيق مشروعه، مبتدئاً بملاحقة النساء “الحاسرات السافرات”، متهمهن بالفسق والكفر والزندقة والمجون، وصار يدعو لتأديبهن بالأحاديث والفتاوى والبيض الفاسد، وبعصا الوالد والأخ وحتى الإبن، ليَتُبن ويتهذبن ويتأدبن ويَعُدن إلى ناصية الصواب، إلى طاعة الله وتنفيذ أوامره كما حددها ورسم خطوطها شيوخهم ومفتييهم، وبدأ يفرضها على أرض الواقع، فسرعان ما أخذ يفرض “الحجاب والنقاب” شيئاً فشيئاً، وجعل من كل محجبة أو منقبة قديسة ومن كل حاسرة عاهر، ولم يقل أن المتحجبة أو المتنقبة يسهل عليهما خلع حجابهما إن أرادتا ذلك، أو أن الحجاب والنقاب يمكنهما أن يحجبا الكثير من الموبيقات وأن يكونا ستراً لهن، الأمر الذي كاد أن يؤدي لحرب بيني وبينه، خاصة بعد أن تصدى له يساري ليوقفه عند حده، لكن حرص يساري على وحدتنا و”ستر الله” وحدهما أنقذانا من الحرب، وهدّآ الأمور وأوقفاها، لكن ذلك النصف ظل كذلك وتمادى ولم يتوقف، وازداد ملاحقة للنساء بعد أن يبس عوده واشتد، حتى أعاد نصف المجتمع كله إلى حظيرة البيت، ورغم ذلك صرنا نسمع عن حالات التحرش الجنسي تتزايد وتتسع، بعد أن كان هذا الأمر نادر الوجود، وما زلنا وبعد كل هذه السنين، نستمع إلى سرحان خيالاتهم الجنسية في بيوت الله، وكأن القرآن خلا إلّا من سورة يوسف، وانتهت المواضيع والهموم إلّا من موضوع المرأة.
نعم، وكي أكون صادقاً، ما أن مرت بضع سنوات على ولادته، أعني وهو ما زال طفلاً، بدأ يهاجم الوحوش بدوره، كان يهاجمها بقسوة وقوة وعنفوان، بعد أن كانت يداي اليسرى واليمنى تتفردا بذلك، قبل أن أقمع معظم عضلات جسدي، وبعد فشلي في وقف بعض عضلات يساري اللواتي تفلتن وتمردن علي وعلى أصابعها المنتفخة نفسها، فما كان مني إلّا أن أطلب العون على أطرافي من “ضيوفي”، الذين سرعان ما لبّوا النداء، وأودعوهم السجن والملاحقة كي لا تتعكر صورتي، فليس جميع الناس تجلّت لهم الصورة واتضحت كما تجلت واتضحت لي، واستمر هو، ذلك النصف في هجوماته المتكررة على الوحوش متمرداً عليّ وعلى الأقارب مُتفلتاً من بين أصابع الجميع، وأخذ يزيد من هجوماته أكثر وأكثر، فصارت موجعة ومميزة وأكثر إيلاماً، وكنت ما زلت أحاول لملمة يمناي حولي وحول مشروع طريقي، مشروع “مصالحتي الشجاعة مع “الضيوف”، في ظل رفض قاطع لكل عضلات من يسراي، التي ظلت تهاجم الوحوش بجرأتها المعهودة، لكن ذلك النصف تفوق عليها وعلى الجميع.
كنت ما أزال في ذلك الوقت أتحاور مع “الضيوف” على التفاصيل، بعد أن كنا قد اتفقنا على المشهد العام، وما أن وضعت يدي في أيديهم، حتى أخذ يعارضني من جديد ويواجه خطواتي، فتنصَّلَت مني يسراي، ونبذتني أمعائي، وصار ذلك النصف مع بقاياي يتصدون للوحوش في الليل والنهار وكل الأوقات لإفشال خطواتي مع “ضيوفي”، فصرت أضعُف ويزداد قوة، وصارت تتقلص عضلات جسدي، فاستخدمت المال “عكاكيزاً” تساعدني في تجاوز ما بدأت من طريق، واستخدمت الكثيرين من القراء والكتاب أحذية للدخول في المستنقع بعد أن أغرقتهم أعلافاً وتبناً وشعيراً، وفجأة ودون سابق إنذار، صارت علائم الشيخوخة تتمدد فوق وجهي، حيث غزته التجاعيد دفعة واحدة، وضعف بصري وتشوهت رؤياي، وصرت أرى الأشياء مكبرة كما في أحلامي، لكن الطبيب أكد لي أن علاجي الوحيد هو بالتعكز على تلك البندقية دون المال، لكن تعودي على المال منعني من العودة للبندقية، ثم احتلت أذناي حساسية غريبة، فصارت لا تسمع إلّا أصوات المديح وأصوات الصحراء المغموسة بالمال، الأمر الذي زاد الهوة مع أعضاء جسدي، وصرت أشيخ وأشيخ، وكانوا يزدادون شباباً وشموخاً، وساندتهم يدي اليسرى وبعض عضلات يميني، فظل يشمخ ويكبر ويكر ويفر، وأنا أهرم وأشيخ وأتقزم، الأمر الذي جعلني أزيد إلتصاقاً ب”الضيوف”، وأربط مصيري بمصيرهم، ومستقبلي بمستقلهم إلى غير رجعة، وأحارب معهم بعض أعضاء جسدي من إخوة الأمس ورفاقه، وصار السلاح الذي في يدي ليس إلّا بإتجاه واحد، نفس نوعية سلاح “الذل والهوان” كما يسميه البعض، وإتجاه رصاصاته هو صدور الرجال وليس الوحوش، نعم صدور من يحاول سلب ما تبقى من قوتي ومن مالي، ومن يطالبني بتغيير اتجاه بوصلتي وتحالفاتي الجديدة، وماداموا يصفون سلاحي بهذا الشكل، وصفت، بدوري، سلاحهم بالسلاح “العبثي”، واستمرت القطيعة بيننا إلى الآن.
صار أعراب الصحراء يمتدحون خطواتي، ويشجعون توجهاتي، وفي أحيان كثيرة يوجهونني خوفاً من أن أخطئ أو أتعثر أثناء حركتي، يدفعونني دفعاً للتقدم في طريقي الجديد، والأهم وكي لا أحن إلى ماضيّ الذي صار يبتعد نحو الشمس، تاركني وحدي مع ظلمات الليل وبرودته العفنة، وربما خوفاً من أن أشفق على أعضاء جسدي، خاصة يساري وبقايا يميني، اللذين كانا حتى وقت قريب جزءً لا يتجزأ من جسدي، قبل أن أقلعهما وأرميهما بعيداً متبرئاً منهما مرة وإلى الأبد، أغدقوا علي المال حتى لم يبق أمامي مجال لتردد أو لتراخي، وصاروا هم يداي وقدماي ورأسي وعقلي وأهلي وناسي، وبعد أن وقع “الفاس في الراس” كما يقول المأثور الشعبي، أخذوا يقلصون رش الأموال ويقلصون عدد المعالف ومخالي الشعير، وصاروا يأمرونني بعد أن كانوا يترجونني ويتمنون علي ويطلبون ودي، ولما أدركت أنهم كانوا سبباً من أسباب توريطي، وعماء بصيرتي، كان قد “دخل السبت…” كما يقول المأثور الشعي، وصرت لا أرى طريقاً غير هذا الطريق، ولا درباً غير هذا الدرب، وكلما تعودت على الراحة أكثر كرهت أكثر تسلق الصخور وصعود الجبال، فأخذت أستجمع قواي وأشحذ عقلي، لأجد المبررات المؤكدة على صحة خياري، وللإستمرار في ذات النهج ونفس الطريق….
وبعد كل هذه السنين اللواتي بقينا فيها نصفين مفترقين، صار ذلك النصف يفعل الأمر نفسه الذي أوصلني لما أنا فيه الآن، يسير رويداً رويداً في ذات الطريق، وكأنه لم يفهم بعد أن الذي يسير على رمال متحركة سيغرق بها لا محالة، وأن الذي يدخل المستنقع ستأكله الحشرات حتى قبل أن يغرق في المياه الآسن العفن، وأنا أراه كيف يتغنى بالبندقية ويتعلق بالمال، تماماً كما فعلت أنا عند دخولي النفق، بل وأكثر من ذلك، فبمجرد سماعه لنداء الصحراء، يترك العشب والكلأ والماء، وتشرئب أذناه للصوت الممزوج بالعلف والمال، ناسياً مثلي أن المال هو الطريق الأكيد نحو المصيدة، وأن التغني بالبندقية لا يعني أبداً حملها وصيانتها واستعمالها، وأن الثمن الذي سيدفعه مَنْ يتخلّى عن ماضيه، لن يكون أقل من ضرب مستقبله بيديه، يعني كمن يطعن نفسه بنفسه، أو كمن يُسلّم سلاحه ليقتله عدوه به.
وفكرت، إنْ كان ذلك النصف يسير بذات الإتجاه المجرب الذي سرت فيه، لماذا ما يزال يرفض وضع يده في يدي؟! فها هو يستجيب لنداء الصحراء، يجمع المال ويشرب بول البعير، ويحشر شرف الرجال في فروج النساء، ثم ذهب بعيداً بعيدا، فزرع القنابل في بيوت بعض الأهل الذين إحتضنوه وآوه من الحر والبرد والوحوش الضارية، حين رفضته أعراب الصحراء وتبرأت منه ذكور النوق، زرعها باسم الله وباسم الدين في أمعائنا وأمعاء أهلنا، فقتل أهلنا ودمر “يرموكنا”، ليرضى عنه أعراب الصحراء ويزيدون له مخالي العلف، فتفجرت أمعاء الجميع ، وضاع “جمع شملنا” الذي كنا نحافظ عليه ونكدسه للحظات عودة قادمة، ولم يكتف بذلك، فسرعان ما بايع سلطاناً عثمانباً من غير دمنا ولا جلدتنا، ويُشكل جزءاً، بل اليد الطولى، لكل أنواع الوحوش التي تعادينا معاً وتشكل الداعم الأكبر لكافة وحوش المنطقة، وحَكَمَنا أهله مئات السنين، قتّلونا وجهلّونا وسلبوا خيرات بلادنا، استخدموا دماء رجالنا وقوداً لغزو الآخرين، دمّروا حضارتنا وأبادوا ثقافتنا وقتّلوا الأقليات وهجروها ، ودمروا مدننا ومدنهم، ولم يبنوا لنا مدرسة أو مصنعاً أو جامعة، وسلبونا أطفالنا ليصيروا جيشهم المقبل، وسبوا نساءنا وانتهكوا حرماتنا، وبعد كل ذلك سلّمونا بأيديهم لوحوش وضواري جاءت من البعيد، وما زال سلطانهم الجديد يضع يده بأيدي هذه الوحوش، على حد وصفهم، يتغزل بها ويشرب الأنخاب معها، يتاجر معها ويزودها ب”زيت”نا المنهوب، ويدمر بلادنا ومدننا، دون أن يعترض النصف الآخر أو يحتج أو يعاتب أو يجف له جفن، على إفتراسهم المتتالي لأعضاء أجساد أطفالنا ونسائنا، ولا على دمنا المسكوب الذي ما زال ينزف، بل ويطلب من الله أن يجعله أحد “حريم” السلطان، وهو ذاته، نفس سلطانه العثماني، ما زال يحاول سلب سهولنا وجبالنا وبحرنا وسمائنا بعد أن ضم أجداده “إسكندروننا”، مُدخلاً إليها عشرات الآلاف من المرتزقة من الحثالات البشرية من غير دمنا باسم الدين والديمقراطية، الديمقراطية التي يعتبرها في بلاده “بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”، لذلك إعتقل المعارضة وأغلق الأفواه وأغلق المنابر الصحفية وإعتقل الجنود والضباط ورمج العمال ولم يُبق أحداً يعتب على “ديمقراطيته”، متعاوناً مع مَنْ ما زال يسميهم النصف الآخر نفسه، الوحوش، ولمصلحتهم، دون شجب أو إعتراض، من النصف الآخر، أو حتى عتاب، رامياً، ذلك النصف، صخرة في البئر الذي شرب منه، مُديراً، ظهره بذلك، للذي أطعمه وأسقاه ودربه وسلحه، مغازلاً بذلك ملوك الرمال، مُحتسين سوياً، بول البعير والإبل كافة، حتى الثمالة .
مازال ذلك النصف مثلي، تماماً كما كنت، يعتبر المال الذي تغدقه عليه الصحراء مالاً نظيفاً خالياً من الأثمان، ورغم تحذيرات الكثيرين له، أنه ليس إلا مجبولاً بالدم والذل والعار، إلّا أنه مازال يُصرّ، مثلي، مُعتقداً أنه بذلك يُغيِّر من الحقائق، مازال يظن أنه إن فقأ عينيه ستتغير الحقيقة، ويعتبر هذا التذاكي لا يعرفه أحد غيره، متناسياً أنني كنت أتذاكى بنفس طريقته وربما أفضل، وأنني كنت أملك من وسائل القوة أكثر منه، لكنني وصلت إلى المكان الذي أراده لي أعراب الصحراء، وأنه إن ظل كذلك، سيصل إلى ذات المكان وسيجدني بانتظاره…
ما أردت قوله، مادام ذاك النصف، لا يريد أن يضع يمينه في يميني، ولا يريد أن يمحو الصورة القاتمة في رأسه، التي تريه الحق باطلاً، ومادام يرى في “الضيوف” وحوشاً، ومادام لم يتنازل عن سلاحه “العبثي” ويصر على عدم تحويله إلى نوع سلاحي، وما دام يطالبني بإصلاح ذاتي وإعادة القوة لذراعيَ وعضلات جسدي، كي يُفك الوثاق الذي عقدته مع “ضيوفي”، كي أصير عرضة لسهام أعراب الصحراء، فأخسر ماضي وحاضري، وأغامر في أيام مستقبلي، فأصير كمن لم يحصل على “عنب الشام ولا بلح اليمن”، فإننا سنظل نصفين متباعدين، نسير في خطين متوازيين لا نلتقي أبداً، ولن نشكل يوماً، واحداً صحيحاً أبداً، لكنني في الوقت ذاته أُطمئنه وأنصحه، بأنني كنت مثله، تذاكيت وتكتكت وكذبت، وفتحت يداي لأعلاف الصحراء ومالها، ومن يفتح ذراعيه لأموال الصحراء سيصل حتماً إلى حيث وصلت لا محالة، طال الزمن أو قصر، وكما يُقال أن “أول الرقص حنجلة”، يبدأ بالسكوت عن قول الحق، ثم بالتغاضي وافتعال عدم المعرفة، وكلما زادت كمية المال والأعلاف سيؤيد الباطل وينصره على الحق، ثم سيعلن ولاءه للباطل ويبرره باسم الوطن تارة وباسم الدين تارة أخرى، ومرات باسمهما معاً، وسيبدأ بتنفيذ سياسات أصحاب المال، و سيركن سلاحه أول الأمر جانباً، ثم لن يستطيع أن يحمل السلاح والمال معاً، وسيختار المال ويترك السلاح، وسيحاول إقناع نفسه بأنه سيشتري سلاحاً أكثر جودة في مرحلة لاحقة، وإن حَمَلَه سيستخدمه في خدمة أصحاب المال والعلف، وهكذا يكون قد بدأ يغير اتجاه رصاصاته، فيتغير لاحقاً إتجاه البوصلة، ويتغير، حينئذٍ، نوع السلاح من سلاح “الفخر والعز” إلى سلاح “الذل والهوان” كما يحلو للبعض تسميته، وستجف عضلات يديه وجسده، وسيصبح يؤمر وينفذ، ولن يستطيع بعدها أن يقول كلمة “لا” “إلّا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم”، كما قال الشاعر الفرزدق يوماً، وستصير “هزة رأسه” بالإيجاب من علاماته الفارقة، وسيصل إلى حيث أنا… نعم إلى مكاني هذا بالذات، هنا حيث أقف الآن… وعندها، عندها فقط، سيدرك أنه قد نسي مثلي، أن الأعلاف، حتى لو كانت من أجود أنواع الشعير، فإنها تظل طعاماً للبهائم…
محمد النجار