إحذروا الإخوان والسلطان… فشيمتهما الغدر

كنت أراه مراراً جالساً على مقعد صغير على باب بيته، بحطته الفلسطينية القديمة وعقاله الأسود، كأنه تمثال حجري قديم لا يتزحزح، يجالس، في أغلب أوقاته، الطريق، هادئاً صامتاً ثابتاً عابساً راسخاً كصخرة جبلية لا تحركها ريح ولا تهزها عاصفة، ولا تستطيع قوة، مهما عظمت، تحريك شفتيه المطبقتين على حفنات من الكلمات، اللواتي يمكنها تفسير حالته وشرح مأساته. نادراً ما ذهب وجاء إلى أي مكان، يغادر مكانه في أوقات معينة فقط، هي على الأغلب أوقات الطعام في بيته، الذي يقذفه خارجه كل صباح ويُجلسه أمامه، حتى يأتي أحد أفراد أسرته، ليأخذ بيده ويدخله لداخل البيت، وكنت أثناء مروري، من ذات الطريق، إلى بيتي، ولا أجده جالساً، أشعر بعرْي المكان، بفراغ الطريق وموته، كأن شيئاً ناقصاً، وكأن الطريق قد فقط سمته وخصوصيته، وإلى حد كبير فقد الحياة، التي طالما ميّزته عن باقي طرقات المخيم وجعلته حيّاً، إذا إستثنينا لعب أطفاله الكثر كما بقية أزقة المخيم وطرقاته المبعثرة، كما وبتاريخه الذي ما يزال حياً بوجود هذا الرجل ـ التمثال، وأمثاله، في وسطه، فرغم صمت هذا الرجل إلا أنك تستطيع تلمس عبق التاريخ وشموخ الوطن، أصله وفصله من تاريخ مكتوب ومحفوظ وصامت، أو مسكوت عنه ومُغيّب، أو حتى تائه بقصد في زحمة الأحداث ومخططات التزوير والتقسيم ومسح الذاكرة.

كان لا يتحدث مع أحد، ولا يُزعج أحداً بمتطلباتٍ مهما كانت صغيرة، يرد التحية على من يلقي بها عليه بما يشبه الصمت، ثم يعود إلى نفسه وأفكاره وهمومه التي لا يعرفها أحد البتَّة في المخيم كله. تراه أحياناً ساكتاً ساكناً مثل صخرة، وأوقاتاً قليلة يتحدث مع نفسه، لكن أحداً لم يظن يوماً أنه مجنون أو معتوه، وفي أكثر المبالغات في وصفه، كان يقول البعض “أنه رجل على باب الله”، لكن ما تبقى من قُدامى من جيله، ممن عاصروه وعرفوا قصته، كانوا في كثير من الأحيان يذهبون بكراسيهم ويجالسوه، رغم سكوته الدائم، متناقشين متحاورين في شتى الأمور، خاصة حول ما يجري في بلداننا التي ما زالت تأكلها النيران، وتحاول تفتيتها “الجراذين” بمختلف المسميات، يُدلي كل منهم بأسهمه، يختلفون ويتفقون، يتناقشون على مسمعه دون أي ردة فعل منه، لا بالأخذ ولا بالرد، حتى تأتي مواعيد مغادرتهم، يسلمون عليه ثم يغادرون، ويظل هو في مكانه على كرسيه نفسه، ثابتاً، مثل صنم حجري، لا يتحرك.

منذ ما يقرب من ربع قرن والرجل ـ التمثال، على حاله هذا، بعد أن كان عَلَماً من أعلام المخيم، منذ أن قيل له: ” جد لك عملاً آخراً… لم يعد لدينا لك مكان…كما أن ميزانيتنا لا تسمح ببقائك متفرغاً”، منذ ذلك التاريخ وجد نفسه دون أي قيمة ولا كيان، رجلاً لا لزوم له ولا مكان، فهو لم يطلب أن يكون متفرغاً، بل هم من طالبوه بذلك قبل عقدين من ذلك الزمن، عندما كان القابض على مبادئه كالقابض على الجمر، حينما عز الرجال في الزمن الصعب، والتزم ووافق تاركاً عمله لمصلحة العمل الوطني، واعتقل مرات لم يعدقادراً على عدّها، ولم يعترف يوماً على أحد رغم وصوله حد الموت مرات ومرات، وأصيب في ذراعه ورفض الذهاب للمشفى، كيلا يمنحهم فرصة الضغط عليه من خلال جرحه، والله وحده الذي ستر ذراعه من البتر، عندما مزقت الرصاصة عضلاته دون العظم، وبعد استبعاده حاول العمل، لكن شبابه كان قد خدعه وغادر، لا يدري هو متى أو أين، وكيف بهذه السرعة وعلى حين غرة، دون إذن أو إعلان، وعمل وعمل بما تبقى لديه من عضلات، من بقايا قوة ظلت متشبثة في العظام، ولما تعذّر الأمر ارتضى بالقليل، وظل أحد أبرز شخوص المخيم الوطنية، ورجل إصلاحها الأول، وكاد يمر فوق الأمر بهدوء لولا ما تم بعد إعتقاله الأخير.

عام كامل ظل في سجنه الإداري، لم يُقدم له رفاقه محامياً ولم يصله منهم مؤونة ولا غذاء، إلاّ من زوجه التي لم تكن قادرة على إطعام أطفاله، ولولا عمل إبنه البكر أحمد، إبن السابعة عشر عاماً تاركاً صفوف دراسته، لما لقيت العائلة ما يسد رمقها، كما ان “جماعته” “كما سمّاهم دائماً بسبب التحبب وشدة القرب”، لم يتفقدوا عائلته يوماً أثناء سجنه ذاك، ورغم كل ذلك تخطى الأمر وتجاوزه، لكن أن يخرج من السجن ويزوره الناس جميعاً إلّا “جماعته”، فكانت الضربة الأكبر له.

كان ينتظر أن يأتوه، أن يفرحوا به، أن يُهنئوه بسلامة خروجه، أن يخجلوا قليلاً ويعتذروا على تقصيرهم معه، وكان سيسامحهم لو فعلوا وينسى كل الإساءات والتقصير، لكنه لم ينتظر إلّا الهواء، فصار يخرج إلى باب داره حاملاً كرسياً من القش، ويجلس على باب بيته منتظراً، لعل وعسى، وظل يفكر لماذا، فهو لم يُقصر يوماً بعمل ولم يتهرب أو يتقاعس، كما لم يخن أحداً لا في حياته ولا سجنه المتكرر، بل بالعكس، فلطالما أوقف إعتراف الآخرين بصموده، فكان الحائط الذي لم يمروا منه أبداً، وظل يحاول إيجاد سبباً مفقوداً لم يجده إلى يومنا هذا، فصار يشعر بإغتراب لم يعشه أبداً، وقال كلمته تلك لولده الذي ظل يتذكرها رغم سنه المبكر، قال ” أن تكون غريباً بين جماعتك… بين أبناء بلدك… هي الطامة الكبرى، الإغتراب يابني أقسى من السجن والزنازين والتعذيب، بل حتى من الغربة نفسها، أقصى بكثير…” وسكت، ولم يتحدث بعد ذلك أبداً، ابتلع كل الصمت الجاثم في فضاء المخيم كله، وتحولت عيناه الى زوج من الكريات الزجاجية، وماتت البسمة التي كانت تميزه، وسرعان ما صار يتحول لون بشرته إلى لون الموت، وصارت تتراجع حركات جسده، فصار يتحول كل الجسد إلى عصب صخري ثقيل، يكاد لا يربطه رابط باللحم والدم الآدميين، وفي تلك المرحلة بالذات، داهم المخيم والمدينة وكل القرى المجاورة، بركان أقسى بكثير من بركان النكبة، بركان اجتث الأخضر واليابس، فأعاد خلط الأوراق والألوان والأقلام، فصار أخ الأمس عدو اليوم وعدو الأمس رفيق اليوم، ورفعت أغصان الزيتون على دوريات الجيش الذي كانت، بقايا دماء النساء والأطفال، عالقة بها مُتشبثة ترفض النزول، كشاهد على جرائم ترفض الإندثار رغم مرورها في دهاليز الزمن وجريانها مع مزاريب التاريخ، ومع تفجر بركان “أوسلو” المدمر ذاك ومرور الأيام، صارت حالة التمثال تتقدم على حالته الإنسانية، فصارت تتراجع روحه، أو ربما الأصح أن روحه صارت تتغطى بالتراكم الصخري وتفقد حياتها شيئاً فشيئاً، ولم يعرف أحد أبداً، أن ما حدث لأبي حاتم كان بسبب البركان أم بسبب الإغتراب، أم بسبب الإثنتين معاً، أو لأسباب أخرى لا يعرفها أحد.

هذه قصة أبو حاتم التي عرفتها في “سجنتي” الإدارية الأخيرة، فسلطتنا لا تستطيع أن تحمي نفسها ناهيك أن تحمي شعبها، وجنود الإحتلال يسرحون ويمرحون ويداهمون ويعتقلون ويُصيبون ويقتلون دون مواجهة أو دفاع ولا حتى رفض أو إعتراض، فداهموا المخيم واعتقلوني وآخرين، وحولوننا للإعتقال الإداري، وهناك التقيت “أبا إبراهيم” الذي حدثني عن “أبي حاتم” ،الذي صارت قصته تتراجع وتتقلص في العقول، وتضمر وتغور بعيداً في النسيان. لذلك وبعد خروجي ذهبت لعنده، جلست مقابله على باب بيته، حاولت محادثته، إغتصاب نظرة، حركة، بسمة، دون نجاح، لكنني، رغم ذلك، بقيت أتردد عليه بين وقت وآخر، ربما من باب الشفقة أو الإحترام أو العرفان لهؤلاء الذين لا يموتون إلّا واقفين، جذورهم مغروسة في قلب الأرض ورؤوسهم عالية في حضن الشمس، وصرت أحدثه عن قصص السجناء ومآسيهم التي خلقت كل هذا العنفوان لديهم، تلك القصص التي ما أن صارت جزءاً من الماضي حتى أصبحت مجالاً لأكثر حالات التندر، مدركاً أنه جزء منها، ممن نحتوا قصصها في فضاء الوطن كله، بعد حفرها عميقاً في خلايا جسده، ثم حدثته عن “أبي إبراهيم”، ونقلت له سلاماته وتحياته، الأمر الذي خلق لدي إنطباعاً بأنه فوجئ لأن هناك مَنْ ما زال يتذكره، وأن تاريخه لم يتم نسيانه، لم يمت بعد، بل ما زال حياً عند جزء من الناس على أقل تقدير، فأكثرت من الحديث عنه، وبالغت في نقل أخباره، لكن دون أن تصدر عنه أي إشارة على أنه يسمعني، بل ظلت عيناه الزجاجيتين زجاجيتان، ولون الموت الأبيض الصخري يغطي وجهه، ولم يلتفت لي أو يُغير من طبيعة جلسته أبداً.

لكنني ولسبب ما واصلت زياراتي ومجالستي له، وصرت أنقل له الأخبار اليومية ورأيي بها، خاصة ما يجري من تدمير لأوطاننا، وللحق لا أعرف حتى الآن لماذا كنت أفعل ذلك، ولطالما كنت أتمنى لو كان والدي مثله، والدي الذي ظل يعتبر نفسه مُحايداً أو حتى غير معني بكل مل يتم في مخيمنا أو خارجه، وأكثر ما فعله في حياته هو الدعاء على “اليهود” والدعاء لأمة المسلمين، كنوع من الهروب من المسؤولية، لكن الله وكأنه لا يريد الإستماع له أو لمن لا “يعقل ويتوكل”.

تردادي المتكرر لاقى استغراب الكثيرين من سكان الشارع، بما في ذلك أبناؤه، لكن أولاده سرعان ما استحسنوا الأمر، وصاروا يأتون لي بكأس شاي أو فنجان من القهوة كلما وقعت قدماي في المكان، وسرعان ما تحول وجودي لعادة أو شئ مألوف فيما تلى ذلك من أيام…

قلت له في مجالساتي المتتالية له، أشياء يعرفها أفضل مما أعرفها، وأشياء ربما لم يسمعها أو يعرفها منذ فترة مرضه أو إغترابه هذا الذي لم يخرج منه، وكان جل هدفي أن أحدثه، أن أرى منه كلمة أو إشارة أو حركة، قلت:    ـ منذ زمن قسّموا القضية، بعد أن رموا بنا خلف العصر ووراء التاريخ، فكان التاريخ العثماني وبال علينا، فبعد محاولات تتريكنا وسلب خيرات بلادنا، سلخوا لهم جزءاً من أرضنا، وأعطوا الباقي “لسايكس وبيكو”،وسرعان ما صار “بلفور” يوزع بلادنا كوطن قومي لللآخرين…

وسكت قليلاً، ثم أضفت:

وها هم أنفسهم، العثمانيون، مع ورثة “سايكس وبيكو” يدمرون بلادنا لتقسيمها واقتسامها، ليجعلوا من أحفاد “بلفور” البلد الأكبر والأقوى والأكثر تماسكاً، وربما الأكبر عدداً كما الأكثر عدة، أتتخيل لو استطاعوا تقسيمنا بين مذاهب وطوائف ماذا كان يمكن أن يحل بنا؟ستكون أكبر دولة أصغر من كيان بني صهيون!!!                             ولم يكن ليتطلع إلي في أي يوم، ورغم كل ما سمعته عنه وعرفته، إلاّ أنني بقيت أنظر له على أنه من الجيل الثائر وليس الجيل المهزوم، وهذا ما يميزه عن والدي الذي ما زال يدعو الله دون نتيجة، دون أن يكل أو يمل، وفي يوم آخر قلت له:

ـ ما زال “الأتراك” لديهم معسكرات “لداعش والنصرة”، يتدربون فيها على فنون قتلنا وتذبيحنا في الشوارع، بقيادة ضباط من “أصحاب الوطن القومي” والأمريكان والأتراك وآل سعود، لذلك عندما احتجزت لهم داعش فريقهم الدبلوماسي في الموصل، أطلقوا سراحهم دون أن يمسوا منهم أحداً “حفظاً للجميل”، تسع وأربعون دبلوماسياً لم يُجرح أو يهان أو يوبخ أو يقتل أحد منهم…. أتتخيل مدى العلاقات…

في كل ترددي ظل موضوع الغزو التركي ومحاولته تقسيم أوطاننا، ما يشغل بالي وما أقوله وأكرره على مسمعه، وصرت كمن يتحدث إلى نفسه دون أن يتلقى جواباً، لكنني أنا الذي ظل والدي يلقبني ب”العجول” على مدار حياتي، كنت طويل البال، وأتحدث مع أبي حاتم وكأنني أتحدث مع إنسان كامل الإنسانية وليس مع رجل تحوّل إلى صنم أو تمثال، رجل تحول اللحم والدم فيه إلى حجارة وصخور، وكنت أجلس بالساعات أحياناً ولا أكف عن الحديث، وقلت في يوم آخر:

ـ “السلطان العثماني الجديد”، يرفض أن يقترب أحد من حدوده، يعتبره مُهَدِدَاً لأمنه القومي، لكنه يتدخل في بلادنا، ويطالب صراحة بإسترجاع ما سلبته دولته العثمانية، يريد حلب والموصل وسنجار وكركوك ودابق وإعزاز، وبكل صفاقة يتدخل بمن يحق له في بلادنا محاربة الإرهاب ومَنْ غير المسموح له بذلك، وبعد أن إنهمكت جيوش سوريا والعراق في حربيهما، صار يرسل الدواعش بطائراته لكركوك ليعيقوا تقدم الجيش العراقي ويبعث بضباطه لتلعفر والموصل ليحاربوا بأنفسهم هناك، وليفتحوا الطريق للدواعش ليهربوا الى الرقة السورية عبر أراضيه، ويفعل كل هذا مُدعياً محاربة الإرهاب.

سكت حينئذٍ قليلاً ثم تابعت شارحاً كي لا أكف عن الكلام، وقلت:

ـ ها هو قد أدخل قواته لجرابلس ودابق، في الشمال السوري، دون أن تُطلق ولو رصاصة واحدة بينه وبين الدواعش، ليس هذا فحسب بل كل ما في الأمر أن الدواعش غيروا أعلامهم بأعلام “الجيش السوري الحر” التابع للأتراك، فصار الأتراك محاربين للإرهاب!!! أتتخيل كيف يمكن أن تستقيم الأمور؟ أن يكون جيشاً سورياً وحراً وهو تابع للأتراك والأمريكان، ويتدرب على يدهم ويد آل سعود وبني صهيون!!! والأمرّ من كل ذلك وأدهى أن هذا “السلطان العثماني الجديد”، يقود دولة علمانية، لكنه يريدنا أن نقتسم إلى طوائف ومذاهب وأديان!!! وهو نفسه، حامل لواء السلطنة والخلافة والإسلام،  أمر أخيراً محاكم بلاده بإسقاط ملاحقتها للصهاينة المجرمين الذين قتلوا أبناء شعبه التركي في سفينة مرمرة!!!!

ظل الأمر على حاله مع أبي حاتم، وبقيت أشرح له، أو الأصح أنقل له آخر الأخبار والتطورات في سوريا والعراق، وآخر أخبار اليمن السعيد الذي يحاول آل سعود أن يحرقوا سعادته، ودور الإخوان المسلمين المتواطئ مع السلطان العثماني، ودورهم في استجلاب كل حثالات البشر لقتل شعبنا العربي ومحاولة تقسيمه في غير مكان، تماماً كما فعلوا بإرسال أبنائنا لحرب الروس في أفغانستان لمصلحة الأمريكان، في قضية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وها أنت ترى أفغانستان بعد عشرات السنين من حكمهم الإسلامي، كإحدى أوائل الدول الفاشلة في العالم، بعد أن كانت على أبواب الحضارة والتقدم، هؤلاء الإخوان أنفسهم لم يستجلبوا ولو فرداً واحداً لمحاربة الإحتلال منذ سبعين عاماً، وحاربوا كل من حاول محاربته وتحالفوا مع من صادقه…

وقدمت له خلاصة الأمر على لسان موشيه آرنس أحد وزراء حرب كيان إسرائيل، وأحد أكبر باحثيه الإستراتيجيين، والذي أكد أخيراً، “أن كيانه فشل في الرهان على تنظيم القاعدة وداعش، لتحقيق ما عجز عنه جيشهم في ضرب المقاومة عام ألفين وستة”، ولم أكن أنتظر أي رد كعادتي، وقبل أن أقوم، وضعت ركبته في باطن يدي، وقلت:

ـ سآتي بعد يومين لأراك، يوم الجمعة يا أبا حاتم…                                                                           وأنا الذي لم أُناده ولا مرة حتى الآن بلقبه هذا، وجدت سيلاً من الدمع يأخذ له مجرى في أخاديد وجهه، أخاديد كان الزمن وسنوات عمره قد تآمرا عليه وخطوهما مثل سكة حراث في أرض بور، دمع متدفق وكأنه نبع قد تفجر لتوه واندلق، ولم يئن أو يتلوى أو يتألم أبو حاتم هذا، أو على الأقل لم أشعر أنا بذلك، وتفادياً للحرج، قمت وخرجت وتركته في مكانه وكأنه تمثال، بقدرة قادر، ينزف دموعاً لا تتوقف، تسير في أخاديدها مثل جدول…

كان حينها الوقت وقت غروب، تتمايل الشمس فيه متثاقلة نحو المبيت، كطفل يقاوم النوم ولا يستطيع رده، جلست على كنبة في صالون بيتي، وفتحت التلفاز دون أن أسمع ما يقول، وكنت ما زلت أفكر في دمعات ذلك الرجل العجوز المنهارة من إرتفاع عينيه إلى ما تحت ذقنه شبه الحليق، وكأنها تريد الإنتحار ولم تستطع، فظلت معلقة في أطراف ذقنه، تتراخى أيديها، غير قادرة على الثبات ولا على الإنهيار، فلا ذقنه شبه الحليق أمتصها، ولا تراخت يديها لدرجة الإنهيار، لكنه سرعان ما إحتضنها بباطن يده، وكأنه يريد أن يخفي جرماً قد إقترفه.

كانت الظلمة قد بدأت تفرد أجنحتها فوق المنزل والمخيم، وربما فوق المدينة نفسها، عندما تسلل إلى أذني صوت طرق هامس على باب بيتي، طرق متراتب هادئ، كأن الطارق يخاف أن يجرح حديد الباب، لكن لرجل سياسي مثلي، عرفت أن القادم أحد رفاقي الذي أراد أن لا يلفت الإنتباه إليه، وقدرت أن في الأمر شيء جلل، وبهدوء قمت وفتحت باب بيتي، لكن المفاجأة جاءتني حادة قاطعة كنصل سكين واضح لا لبس فيه، لقد كان أبو حاتم واقف على بابي متلفتاً ميمنة وميسرة، كأنه يقوم بعمل سري لا يريد أن يلفت الإنتباه إليه، كما في الخوالي من الأيام، رحبت به وأدخلته وأجلسته مكاني وجلست مقابله، وقبل أن أبدأ بالحديث كعادتي قال هو هذه المرة:

ـ ظننت أن من المفيد أن لا أنتظر ليوم الجمعة كي نلتقي، فبعض القضايا لا تحتمل التأجيل ويوم الجمعة ما زال بعيداً، ومن هم في مثل سني لا ضمانة عندهم ليعيشوا أبعد من يومهم، فما بالك بأيام حتى يجيء يوم الجمعة…

فقلت:

ـ خير يا عمي أبا حاتم…أُأْمرني…

فقال:

ـ عليك الذهاب إلى سوريا…

قلت:

ـ لكنني كما تعلم ممنوع من السفر، لكن لماذا؟

سكت قليلاً وكأنه يفكر في حل لهذا اللغز وقال:

ـ إذن إبعث من تثق به لهناك، إبعثه للقيادة السورية ليقل لهم وعلى لساني أنا أبو حاتم المهدي، الذي كان له ماض مشرف، أن لا يثقوا يوماً لا بالسلطان العثماني ولا بالإخوان المسلمين، فالغدر من شيمهما، بل هو ما يميزهما…

وقام من مكانه متوجهاً إلى الباب، وغادر قائلاً:

ـ اللهم اشهد فإني قد بلّغت… سأذهب حتى تستطيع تدبير أمورك بسرعة…

وغادر، وبقيت وحدي، وفكرت في كلماته، وكنت كلما فكرت في الأمر وبأي إتجاهٍ، وجدتني أصل لنفس خلاصته، فالغدر من شيم هؤلاء الناس، كانت الإنتهازية والتجارة بالدين والكذب والنفاق من ميزاتهم، ونادراً ما تجد مبدئياً واحداً في هذه الأوساط، وفكرت بأن القيادة السورية وبعد تجربتها الطويلة الدامية معهم، لا بد أنها توصلت لنفس خلاصة أبو حاتم المهدي…

إنتظرت يوم الجمعة بفارغ الصبر، وما أن إبتدأت الشمس تشق لنفسها طريقاً فوق الغيوم، بين نجوم السماء المتخفية في متاهات الدروب هروباً من عيني النهار، حتى وجدتني أحتضن كرسياً من القش وأتوجه مباشرة إلى الطريق، حيث أبو حاتم يجلس كالعادة على كرسيه، إقتربت منه حاملاً ابتسامتي فوق شفتي، وما أن جلست حتى نظر نحوي وبيده كوباً من الشاي على غير العادة، هززت له رأسي بالإيجاب وكأنني نفذت نصيحته، رأيت محاولة ابتسامة نصر تحاول الولادة المُيسرة من تحت شاربيه، لم يقل أبو حاتم المهدي شيئاً، ولم ينبس ببنت شفة، لكنه نظر إليّ طويلاً ثم ناولني كوب شايه لأشربه.

محمد النجار

عبيد آل سعود يشترون لهم سيِّداً

لم أجد أفضل من التلفاز لأجالسه في ذلك اليوم، ولك أن تعرف مدى الألم الذي كان يحيط بي، وأنا، من عادتي مجالسة التلفاز في الأيام العصيبة فقط، ربما كي لا أفكر بأشيائي، بهمومي ومشاغل رأسي، وربما للهروب منها مختبئاً في تفاهات التلفاز من مسلسلات وأفلام وأكاذيب وتلفيقات على مدار الساعة. ولا أدري لأي سبب فتحت على قناة إخبارية على غير عادتي، فعادة ما أتخفى خلف الأفلام والمسلسلات، لكن ماذا دهاني وغير عاداتي في ذلك اليوم، فأنا لم أعد أعلم أو أتذكّر.

كان غضبي في ذلك اليوم منصباً على آل سعود، هؤلاء القوم الذي ما تختفي فضيحة من فضائحهم، وتكاد تنتهي روائحها النتنة، حتى تفوح من جديد، بشكل وطريقة تزكم الأنوف، فضيحة أو فضائح جديدة أو متجددة، فأعود أغضب وأشتم وأتساءل عن عمق النذالة فيهم، وكيفية إحتواء أجسادهم تلك، كل هذا القدر من الذل والمهانة والخصي والتأزم والأمراض النفسية والجهل والتخلف، بطريقة لن تجدها مجتمعة أبداً عند سواهم، لأتأكد من جديد أنني أمام حالة مريض ميؤوس منه، لا شفاء له، ولا مكان لطهارته، وما زال أمامي وأمامك وقتاً، وإن كان ليس طويلاً، حتى يموت ونستطيع دفنه، وعندها فقط تصير رائحة نذالته وعفونته من الماضي، وتأخذ تتبخر في البعيد من الأيام.

طرق بابي ودخل الحاج أبو إبراهيم كعادته في معظم الأيام، فحرمني من وحدتي، وقطع للحظات تواصلي مع التلفاز، وما أن جلس في مكانه المعتاد على الكنبة نفسها، حتى كانت تلك المحطة تعيد لقاءها مع سفير آل سعود في الأمم المتحدة، يرد فيه على سؤال صحفي يسأله:

ـ ” لماذا ما تزال دولتكم تقصف دولة اليمن؟”

فيجيب السفير “الذكي النجيب”:

ـ”إنني أشبه قصف بلادي لليمن بالرجل الذي يضرب زوجته”

ويضحك “سعادته”، يضحك طويلاً، ربما لأنه يَشْتَمّ رائحة دماء اليمنيين بين يديه، من نساء وأطفال وشيوخ، فهو كما قادته تثيرهم وتغريهم وترسم البسمة، بل الضحكة، فوق شفاههم، الدماء، وكلما كانت طاهرة زكية، كلّما أثارتهم أكثر وأكثر، لكن سعادة السفير لا يعرف أو يعلم، وربما، على الأرجح، لا يفهم، أنه لا يوجد في الكون رجلاً “مخصياً” أكثر من رجل يضرب إمرأة، فما بالك بزوجته كما يفعل ويفعلون، وأن من يلجأ لضرب الزوجة، إنما يعبر عن خمول ذهني وجفاف فكري وانحطاط بشري، وهو في كل الأحوال إنما يُعبر عن نقص في الرجولة، الرجولة بمعناها الإنساني بالطبع، فأن تفيض رجولك لضرب زوجك بدلا من الميدان ليس من الرجولة في شي،لأن هذه الثقافة، أينما وُجدت فهي بالأساس ثقافة الجهل والتخلف وإغلاق الأفق والعقل، يعني وبإختصار ثقافة بول البعير.

هكذا علّقت على المشهد الذي أمامي على غير عادتي، مثل مثقف حفظ شيئاً، من كتاب، عن ظهر قلب وصار يردده، وتابعت دون تعليق من الحاج أبو إبراهيم، بعد أن صرت أتوجه بالكلام إليه وكأنني أخاطبه:

ـ وهذه العادة المتوارثة لدى آل سعود، يحاولون توريثها بشتى السبل لكامل حدود المملكة وخارجها أيضاً، ولطالما أظهرت، عادتهم هذه، مدى خصي هذه القيادات البائسة، المريضة نفسياً، المتخلفة، والمتعجرفة المغرورة في الوقت نفسه، فهذه القيادات التي تقصف اليمن بكل جنون العنجهية والغرور، محاولة تقسيمه إلى طوائف ومذاهب وقبائل وأقاليم، رغم التداخل والتزاوج والتسامح بين كل الأ،طياف، هي مَنْ دعمت حثالات الأرض وجمعتهم في سوريا، وعملت جاهدة على تكريس الفتنة في العراق بين مكوناته الطائفية والمذهبية، وقدمت كل الدعم العسكري والمالي ل”سنته”، هي نفسها التي تحارب “سنة” فلسطين وتعرقل مشروعهم الكفاحي، وتعمل جاهدة لتفرض عليهم تسويات تقتل مشروعهم الوطني بكامله، لكنها وفي نفس الوقت تتبرع لرجل “السلم” نتنياهو بثمانين مليون من الدولارات لتساعده في النجاح في الإنتخابات، وتتبرع لكيانه بمائة مليون لبناء الملاجئ التي تحميهم من حرائق الغابات اليوم، ومن صواريخ حزب الله في حرب قادمة، وتدعم “التكاثر” السكاني للمستوطنات ببضعة مئات من الملايين!!!

قال الحاج أبو إبراهيم مُعلقاً، داخلاً كعادته، في صلب الموضوع دون مقدمات، وبدعاباته المعهودة:

ـ لا لا لا، لا تظلم القوم يا أبا علي، يقول البعض أن ذلك تم بالخطأ، تماماً كأخطاء  قيادات “بني أمريكا”، الذين قصفوا الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي والجيش السوري وقتلوا مئات المدنيين بدل أن يقصفوا الدواعش والقاعدة عن طريق الخطأ، وفقط عن طريق الخطأ، وآل سعود أخطأوا أيضاً ظانين أن كل مساعداتهم تلك تذهب الى غزة، لكنها وبقدرة قادر ذهبت في إتجاه غير الإتجاه، وفي نهاية الأمر “جل من لا يُخطئ” يارجل….صححني إن كنت مُخطئاً.

وتابع وقد بدأ يلف سيجارة من علبته المعدنية قائلاً:

ـ كل شيء كان على ما يرام، عندما كان “الجبير” يتصدر شاشات التلفاز!!! لكنهم يبدو أنهم أضاعوه وأضاعوا البوصلة من بعده، فلم يعودوا يتحدثون عن ضرورة “مغادرة الأسد” بالقوة إن لم يغادر بالسياسة، ولم يعودوا يهددوا مصالح روسيا أو رشوتها بعرضهم عليها مائة مليار مقابل التخلي عن سوريا… إن شيئاً ما قد حصل منذ إختفاء الرجل، اللهم اجعل العواقب سليمة، تُرى أتعرف كيف اختفى أو أين ولماذا؟!!!

وأمام وجومي وبلاهتي، وعدم سرعة بديهتي وإدراكي لمزاحه وعبثه، وفي نفس الوقت توهاني بين حروف كلماته دون أن أعلم ماذا يريد بنقلي هذه النقلة، وما علاقة “الجبير” بما أقول، أكمل حتى دون أن ينظر باتجاهي:

ـ على كل حال “حجة الغائب معه”، لكنني سمعت أنهم سيرسلون منادياً يبحث عنه في عمق الصحراء منادياً قائلاً: “ياسامعين الصوت صلّوا على محمد، مَنْ رأى منكن “الجبير” أو من يُشبهه، حياً، ميتاً، أو ما بين بين، عليه ابلاغ السلطات وله “نصفه”، أو بدل “الحسنة” أضعافها”، عملة ورقية أمريكية، واضحة الترقيم جديدة الأوراق لمّاعة، من البنك المركزي تسير الى جيوب الرابح، كزرافات عاريات مختالات، والله على ما نقول شهيد…

وابتسمت رغم امتعاضي وعدم فهمي في أول الأمر، فكلمات الحاج عادة ما تُشعرني بالغبطة والسرور، لكنه المذيع من جديد، وكأنه لا يريدني إلا غاضباً، أو كأنه لا يوجد في الكون سوى آل سعود، فابتدأ في الوصف والتحليل، وكان يُلخص ما قاله:

ـ بعد انتخاب “ترامب”، و”عداؤه” لآل سعود، كونه يريدهم أن يدفعوا أكثر، استجلب هؤلاء رئيسة وزراء بريطانيا لإجتماع مجلس التعاون الخليجي، وعقدوا معها صفقات أسلحة بالمليارات، لتحمي عروشهم، ليسعيضوا عمّن ضربهم بحذاه، وعقدوا معها صفقات تدريب وتعليم لجيشهم…

فقلت معلقاً وكأنني أتحدث مع التلفاز:

ماذا سيعلمونهم؟ على رأي المثل” علّم في المتبلم يُصبح ناسي”، أليس هذا الجيش من يُطالب بالدبابات المُكيَّفة؟!!! أليسوا هؤلاء من يهرب من وجه حفاة اليمن في نجران وعسير وجيزان؟

لكن المذيع لم يتوقف، وعلق الحاج أبو ابراهيم من جديد:

ـ يبدو أنهم يريدون حليفاً جديداً، لأن رئيس أمريكا المنتخب يُلوح لهم بعصاته… لكن ياتُرى أين إختفى الجبير؟!!! منذ فترة طويلة لم نرَ وجهه السمح على شاشات التلفاز.

قلت، ونظرت إلى تقاسيم وجهه العابس، ورأيته يُحاول الأمساك بإبتسامة تتفلت من تحت شاربيه:

ـ كلا ياحاج، كلا، هؤلاء ما تعودوا أن يكونوا حلفاء لأحد، هؤلاء توابع، عبيد، وبعد أن تم تجميد أموالهم من سيدهم الأمريكي، من خلال قانون “جاستا”، صاروا يبحثون عن سيد جديد لهم، دافعين “ما فوقهم وما تحتهم” ليجدوه، فهؤلاء مهما حاولوا التطاول يظلوا مجرد أقزام، ومهما حاولوا التسيد يبقوا عبيداً، لكن ليس أي نوع من العبيد، إنهم من ذلك النوع الذي لا يرى نفسه إلا عبداً، لا يعرف ولا يقبل أن يكون حراً، فبعد طردهم من تحت العباءة الأمريكية مسلوبة ثروتهم، لم يحتجوا أو يُجادلوا أو يغضبوا لفقدان تلك الثروة، بل على فقدان سيدهم، وسرعان ما صاروا يبحثون عن سيد آخر، وبحذاء ثقيل أيضاً، فاهتدوا إلى الحليف المؤسس لمملكتهم، بريطانيا العظمى، دافعين ما تبقى في مملكتهم الظلامية من زيت وغاز، مشترين سيداً جديداً ليتملكهم…أرأيت أكثر من هذا الذل ذلاً!!!

فقال الحاج أبو إبراهيم، وقد ابتلع كومة من الدخان من ذيل سيجارته، وصار ينفثها في الهواء مغيراً من نوع الهواء وتماسكه:

ـ نعم صدقت، إنهم يريدون شراء سيداً جديداً، لكن ليس هذا ما يشغل بالي، إنما أين ذهب الجبير؟ ألم تره هنا أو هناك؟

قفزت ابتسامة من بين شفتي دون رغبة مني، ووجدتني أضحك وتسيل دمعات عيني، وقلت من بين ضحكاتي:

ـ قاتلك الله يا رجل… مالك وما للجبير، أنا أتكلم عن العبيد وليس عن عبيد العبيد!!!

فقال دون أن يغير من طريقة جلوسه، وما زال ينفث الدخان من بين شفتيه:

ـ نعم، إنني أفهم ما تقول، لكن كل الأمر يعتمد على هذا الغلام…إنه غلام الملك الحالي والقادم، لماذا تستخف به ولا تعرف مقدار حجمه؟!!!

قلت بعد أن توقفت عن الضحك:

ـ هذا غلام الملك، و”مشعل” يتمنى أن يكون من حريم “السلطان العثماني”، ما الذي يجري في هذا الزمن؟ ما لي أراهم يميلون نحو “التخنيث”؟ “أيبسطهم” الأمر إلى هذا الحد؟ أم أن الأمر لا يعدو عن صيغة منحطة من صيغ التزلف والتملق وتقبيل الأقدام؟!!!

فقال الحاج معترضاً:

ـ أرأيت؟ عندما لا تعرف أقدار الناس تصل إلى ما وصلت إليه، تدخل في التفاصيل وتبتعد عن الجوهر، ما الذي لا يعجبك في هذا الغلام الأجرد الأحلس الأملس الأعزب؟

فقلت مجارياً الحاج فيما يريد، رغم أن أشد ما يغيظني فيه، أنه يتحكم في ضحكاته، حتى تخاله في قمة جديته، فلا تعد تعرف إن كان جاداً أم هزلاً:

ـ وما هو هذا الجوهر ياحاج؟

فقال بسرعة بديهته وسرعتها:

الجوهر أن على هذا “الغلام” تتوقف مصائر دول ومصائر شعوب، في يده الحرب والسلم والحل والربط… تسأل وكأنك تجهل الأمر، أتستطيع أن تخبرني كيف سنعرف مصير “الرئيس الأسد” إن ظل الجبير مُختفياً؟!!!

وأطلقت ضحكة من جديد، وبدأت إبتسامة الحاج تتفلت من بين شفتيه وتتسع، وتخرج مع دخان سيجارته واضحة ساطعة رغم كثافة الدخان…قلت:

ـ صحيح صحيح، “نسيت أن البعوضة تُدمي مقلة الأسد” ، فكيف إن كانت تلك البعوضة بحجم غلام كالجبير؟!!!   فقال وقد أخذ يستحضر ما تختزنه ذاكرته من أشعار:

ترى الرجل النحيف فتزدريه       وفي أثوابه أسد هصور

فقلت وقد كدت أعانق المصطبة من شدة الضحكات:

ـ آه… نعم…لا تنسى “الأسد” الآخر، وزير خارجية الشيخة موزة “حماها الله”، فكلاهما كاسر مفترس…              فقال الحاج معترضاً:

ـ لا يا أبا علي، هذا من مشيخة “النعاج” حسب فلسفة رئيس وزرائه واعترافه.                                          فقلت موضحاً بدوري:

ـ نعم صدقت، ولك أن تتخيل أن هذه “النعاج” تتطاول على “الأسود”!!!مشيخة موزة تتدخل في سوريا والعراق وليبيا ومصر وتونس، تقسم السودان لقسمين!!! فعلاً المشكلة أن مثل هؤلاء هم من يقودون المرحلة، وبيدهم يتم تدمير الأوطان، مجموعة من “التُفّه” يتحكمون بوطن كامل من المحيط الى الخليج، بترابه وشعبه وخيراته… أتصدق ذلك؟!!!

وتناقشنا وضحكنا ووقفنا أمام تساؤلات الحاج ابو إبراهيم، عن سر غياب الجبير كل هذه المدة، التي ظل يحقق فيها الجيش السوري والجيش والحشد الشعبي العراقيين، وجيش اليمن ولجانه الشعبية، إنتصاراتهم المتتالية،  وتساءلنا إن كان يعتقد جهلاء آل سعود أنهم بتغييبه إنما يُغطون إنتصارات شعوبنا …

محمد النجار

ما بين حلب وجنين

لم أكن أظن يوماً أو أتوقع، أن يهوي بصوته الخشن على رأسي، وأنا في هذا العمق من النوم، ذلك النوم الذي ينقلك من عالم إلى عالم آخر، من عالم العمل والتعب إلى عامل الراحة والخمول، هوى بصوته فوق رأسي، وأنا على فراشٍ من نومٍ ناعم هادئ، أسبح في بحر عميق من ريش نعام، أتمسك بأطراف أحلام تناورني متمسكة بأطراف ثوبي متفلتة، تدخل رأسي كسحابات غيم صيفية هادئة، بيضاء كنتف من ثمرات قطن نضجن فجأة وتطايرن مع هبوب نسمات هواء قاسية، وصرن يتلاعبن فوق موجات النسيم، في فجر يوم صيفي هادئ، ترك حبات نداه تتساقط على أوراق شجيراتها، قال:

ـ قم أيها الكسول… أما زلت نائماً؟ وهل ينام أحد في مثل هذا اليوم؟

وأنا الذي طالت وتطاولت أذناي، فركت عيني بباطن يدي، وأخذت أتطلع وأرى كيف تنساب كلماته في أذنيّ، متدفقة سلسة هادئة مثل نبع، فترى أذناي كلماته وتقرأهن وتفهمهن، وعيناي لا يستطعن أن يتحررن بعد من جفون أطبقت عليهما منذ ليل أمس، مشددة الحصار فوقهما مطبقة عليهما سلاسل النوم التي لم أستطع فكاكهما بعد، نعم لقد كنت أرى بأذنيّ، ف “الأذن ترى مثل العين أحياناً”، وأحياناً أفضل منها بكثير… وكرر إعادة كلماته:

ـ هل هناك من ينام في مثل هذه الأوقات؟ ألا تعرف ماذا أضعت بعد؟ أما زلت نائماً؟ هيا يارجل هيا…

أسندت ظهري على روسية السرير، أخذت أفتح عيني رويداً رويداً، لأرى بهما بجانب أذناي، ونظرت نحوه، وصرت أرى شفتاه تتقلص وتتمدد، وتطلق الكلمات وكأنها ترمي بأوراق ورد، وتطلق الضحكات التي لم تنته:

ـ لقد أنتصرنا يارجل… انتصرنا…

قال وهو ينتظر أن أفتح عيني، وأنا الذي لم أتحرر من بقايا النعاس كله كادت أن تربكني الكلمات، فسألت مثل الأبله:

ـ إنتصرنا؟!!! أين ؟!!! كيف؟!!! على من؟!!! أتحررت فلسطين؟!!! أغادر الصهاينة؟!!!

فقال واثقاً:

ـ نعم… غادر جيش الصهاينة لكن من حلب، وهذا أول الغيث…

قلت بعد أن عدت إلى ارتخائي السابق:

ـ يارجل إعتفدت أنك تتحدث عن فلسطين…

ففال وكأنه يرى الأمور بعينين تختلف عن عيني:

ـ وهل ما جرى ويجري إلّا بسبب فلسطين؟ كان المشروع كله من أجل تقسبم المنطقة إلى دويلات هشة طائفية متقاتلة بشكل دائم، وتسيد الصهاينة وتهويد فلسطين بعد طرد ما تبقى من عرب فيها، ما يجعل شعوبنا عبيداً في مشروع موت طويل لقرون قادمة، وهذا يعني ذبول فلسطين وجفاف ورقتها لتسقط ميتة إلى غير رجعة، وكل ذلك بأيدي حثالات بشرية ارتضت قياداتها أن تكون جيشاً أمريكياً اسرائيلياً رجعياً، باسم الدين، وبدمنا نحن أولا وقبل كل شيء، ثم بيدي مسلمين آخرين مضللين أو مشترين أو جهلة أميين، وهل أجهل ممن يقتل بيدية أناساً أبرياء ويترك عدو المنطقة بأسرها دون أن يطلق علية ولو طلقة واحدة ولو عن طريق الخطأ؟!!!

كان يعرف أنني ضد كل الحرب القائمة في المنطقة، ولكنني ضد تفسيره المرتبط بقضية فلسطين، كما بأسباب أخرى أقل أهمية بالنسبة لي، مثل قضية خطوط أنابيب الغاز القطرية البديلة عن الخطوط الروسية، وما تحوي بحور المنطقة وأراضيها من خيرات… قلت:

ـ أما زلت تبالغ؟ وما علاقة فلسطين في كل ما يجري؟

فقال وكأنه يعرف ما أريد قوله:

ـ إتجاه البوصلة يا عزيزي، إنه إتجاه البوصلة، البوصلة التي لا تشير إلى فلسطين هي مشبوهة وجب كسرها، فما بالك عندما تكون فلسطين الخاسر الأكبر واسرائيل الرابح الأكبر من كل ذلك؟ أم تعتقد أن الصهاينة عالجوا جرحى هذه الحثالات البشرية في مشافيهم دون مقابل؟ ومشاركة ضباطهم مع الأمريكان والأتراك وعبيد أمريكا “آل سعود ومشيخة موزة” لسواد أعين الإسلام والمسلمين؟ أم قصفهم المتتالي للجيش السوري لتمهيد الطريق أمامهم لمهاجمتة كانت لوجه الله؟ منذ اللحظة التي رأينا دعم أمريكا لهم، ورفع وتبني شعاراتهم الطائفية في منطقتنا المليئة بالطوائف والمذاهب المتعايشة المتفاهمة عبر آلاف السنين، كان علينا أن نتساءل مَنْ هؤلاء وماذا يريدون؟ أمريكا والدول الغربية كلها، تؤكد دولة المواطنة وتحاسب أي كان إذا أخل بذلك مهما كانت طائفته أو دينه، لكنها تثير كل ما يخطر ببال شياطين الأرض من أمراض الطائفية عندنا، وتضع لنا الدساتير الطائفية والعشائرية، وتمنعنا وبالقوة من بناء دولة المواطنة، ألا يثير ذلك تساؤلات عندك؟ رئيس أمريكا يأسف لخروج البعض من الإتحاد الأوروبي، مختلف القوميات متعددها، متعدد اللغات، ويعتبر أن وحدته من أعظم انجازات القرن، لكنه يريد تفتيت بلادنا التي تحوي قوميات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة أغلبيتها الساحقة قوميتنا العربية ذات اللغة الواحدة والهموم المشتركة والعادات والتقاليد الواحدة؟ ألا يثير الأمر الشكوك عندك؟

سكت قليلاً وكأنه أراد لملمة أفكاره المبعثرة، وتابع:

ـ ثم كيف لثورة وثوار أن يدمروا مخيماتنا ويُهجروا أهلنا ولمصلحة مَنْ؟ كيف لها أن تستجدي كيان الإحتلال لمساعدتها متبرعة له بالجولان المحتل ثمناً وبالصداقة الدائمة تكملة لهذا الثمن؟، كيف لها أن تتغاضى عن غزو العثماني الجديد لبلادها وتساعده في ذلك؟ متنازلة له عن حلب والموصل وكركوك وشريط حدودي على طوال الحدود مع بلاده، ومنطقة لحماية الجولان المحتل؟ بل وتدعوه والكيان لمساعدتهم مقابل التنازل عن نصف سوريا؟ والمشكلة أن لا إحتجاج من دويلات عربية أو غربية، ولا حتى من الأخوان المسلمين أو من “حماس”في بلادنا!!! التي يبدو أنها تبيع الأمة كلها، مقابل مصالح الإخوان المرتبطة منذ النشأة بالإستعمار…

كنت قد قمت من سريري، غليت فنجانين من القهوة لمّا لم أجد زوجتي، قدمت له أحداها  وأخذت أرتشف شيئاً من الفنجان الذي أمامي، قبل أن أرشق وجهي بحفنة ماء، عندما دخلت زوجتي بعد عودتها من شراء خضار لطبخة اليوم من دكان أبو سليم في وسط المخيم، وكما علمت أنها أدخلته ليوقظني مع مغادرتها للبيت، فقالت معقبة على كلماته التي سمعتها لتوها:

ـ أفهمه أرجوك، لأنه لم بفهم بعد كل هذا الدم وهذا الدمار… لو كان النظام كما يدّعون، كيف له أن يصمد أمام معظم شعبه وجيشه وكل تلك القوى الشريرة، كل هذه السنين؟ ثم والأهم من هذا، أي مصلحة لنا في كل ما يجري؟ فكيف لثورة أن تقتل أبناءها بغض النظر عن ماهية طائفتهم؟كيف لها أن تدمر أولاً وقبل كل شيء منظومة الدفاع الجوي لبلادها، ولمصلحة مَنْ، وبماذا يخدم ذلك الثورة وتوجهاتها؟ كيف لها أن تقتل علماءها وأسانذة جامعاتها؟ كيف لها أن تُدمر تراثها وتاريخها وتسرقه وتبيعه في بلدان العالم وخاصة للصهاينة؟ كيف لها أن تسرق ثروات بلادها من نفط وغيره وتصدرها عبر السلطان العثماني للصهاينة؟

وقبل أن يختطف الكلمات منها قالت مُضيفة:

ـ إن أردت تبسبط الأمر، فبإمكانك التساؤل الذي يُعد من الأبجديات، هل هناك ثورة في التاريخ دعمتها أم تدعمها قوى  معادية للثورة؟ وبالتالي لو كان ما يجري في سوريا ثورة، أكانت تدعمها أمريكا ودول الغرب الإستعماري وإسرائيل وأعتى الرجعيات العربية، حتى لو تحزموا بكل ديانات السماء؟!!!أي ثورة هذه التي تجعل من الأطفال والنساء ضحيتها الأولى والمرتزقة أداتها؟أي ثورة تجعل من المرأة والوطن ضحاياها فتحجز وتحبس نصف المجتمع وتقنعه وتبرقعه ولا ترى فيه إلا متعة وشهوانية حيوانية مريضة، وتلغي إنسانيته، وتدمر الوطن تدميراً ممنهجا مدروساً بدولته ومؤسساساته وبنيته التحتية، وتحول بشره إلى طوائف ممزقة متحاربة تائهة ضائعة؟                 قالت مالديها وخرجت وكأنها جاءت خصيصاً لأجل ذلك، وتابع هو من جديد:

ـ سترى أن ما قبل حلب ليس كما ما بعده، هذا الزلزال الذي حاول الغرب شيطنة الدولة السورية وحلفائها كي لا يتم، قد تم وأنجز رغم أنفهم جميعاً، هذا كان ورقتهم الأخيرة في زعزعة سوريا وتفتيت شعبها وتوزيعه على بقاع العالم وتقسيم أراضيها، الأكيد أن الحرب العالمية هذه على بلادنا لم تنته بعد، وسنرى فصولاً جديدة منها، لكن الأكيد أيضاً أن مشروعهم قد بدأ يتهاوى وتتساقط جدرانه، سيحاولون استنزاف الوطن، كي يُصعبوا نهوضنا من جديد، لكننا سننهض وسنجعل مما جرى بروفة الإنتصار الكبير في اليمن والعراق وفلسطين، وسيكون البداية في تحقيق وحدة بلادنا وأمتنا كلها.

سكت قليلاً وقال وكأنه تذكر شيئا، وقال:

ـ كي تستطيع التمييز بين المرتزقة المنبوذين شعبياً، والمناضلين المدعومين من شعبهم، سأعطيك مقارنة بسيطة بين معركتين، معركة هؤلاء في حلب الشرقية، ومعركة مخيم جنين، حيث كان في مخيم جنين مائتي مقاتل فلسطيني من كافة أذرع المقاومة، في مساحة كيلو متر مربع واحد، وهؤلاء في أقل التقديرات عشرة آلاف مقاتل، يعني خمسون ضعف مناضلوا المخيم، بمساحة أرض تساوي ست وأربعين ضعف مساحة المخيم، ولدى هؤلاء مؤونة مُخزنة”حرموا السكان منها”، ومخازن أسلحة من صواريخ ومدافع وقنابل ومتفجرات وألغام وأموال منقولة، ودبابات ومدرعات وسيارات رباعية الدفع ورشاشات ثقيلة، ما يكفيهم للقتال خمس سنوات كاملة في أكثر التقديرات تواضعاً، ومناضلوا مخيم جنين لم يمتلكوا سوى البنادق محدودة الطلقات وبعض العبوات الناسفة محلية الصنع، وصمد مخيم جنين مدة خمسة عشر يوماً وهؤلاء لم يصمدوا أحد عشر يوماً!!! وكانت اسرائيل قد استخدمت في حربها على المخيم أربعمائة دبابة، عشر أضعاف ما استخدمه الجيش السوري، ومائة وخمس وعشرين جرافة يعني سبع أضعاف ما استخدمه الجيش السوري، وخمسون طائرة يعني مثل ما استخدمه الجيش الروسي والسوري معاً، وخمسة آلاف جندي صهيوني، يعني خمس وعشرين ضعفاً لعدد المقاومين، حين استخدم الجيش السوري أربعة أضعاف عدد تلك الحثالات… والنتيجة أمامك واضحة، بين المناضل وبين المرتزق، ففي المخيم لم يستسلم أحداً كما فعل هؤلاء، ورغم تدمير المخيم بالكامل من منازل ومساجد وحوائط ومراحيض، على رؤوس سكانه، بشكل جدي حقيقي وليس دعائي كما في حالة حلب، ولم نسمع صراخ أمريكا والدول الغربية واسرائيل المتباكية على “الحالات الإنسانية”، ولم تفعله في جرائم “اسرائيل” في لبنان وغزة وكامل فلسطين، كما لم تفعل وتتألم على حصار العراق وقتل ما يزيد على مليون طفل عراقي، ولا على شعب اليمن الذي يموت منه طفلاً كل عشر دقائق حسب مؤسساتهم، دون حساب الشهداء من المدنيين نتائج قصفهم وقصف حلفائهم بالقنابل العنقودية والأسلحة المحرمة دولياً كما تفعل الآن، ألا يثير الأمر استهجانك أو استغرابك؟ ألا تتساءل لماذا لا يطالبون بفك حصار ثوار “القاعدة وداعش” عن المدن التي تحاصرها منذ سنوات، كما في داريا والفوعة ودير الزور والحسكة والقنيطرة وغيرها الكثير؟ وكيف لأشد الناس عداءً وإستغلالاً للبشر أن يكونوا بهذه الإنسانية مع هؤلاء “الثوار”؟ ألأنهم ثوار فعلاً، أم كونهم جيشهم غير المعلن لتفتيتنا وتقسيم أوطاننا لتحقيق مصالحهم؟ ألم يستغلونهم أنفسهم لمحاربة السوفييت لخدمة أغراضهم دون أن يخسروا مالاً ولا بشراً؟ تماماً كما وظفوا “ثوار الكونتراس” ضد الشعب النيكاراغوي بعد انتصار ثورته الساندينية وباسم الدين المسيحي؟

قم يارجل ، انفض عن رأسك غبار النوم، قم لنحتفل، لننشر الخبر لمن لم يسمعه مثلك بعد، فوالله ورغم كل هذا التدمير الذي تراه، أننا سنعيد بناه بأيدينا، وسيكون لنا هذا الخراب درساً، وأنه ومهما بنينا وارتقينا وعملنا، فلن يكون لنا مستقبل على هذه الأرض مادام هذا السرطان في بلادنا، ومادام آل سعود يتربعون حول جدار الكعبة.

قمت، طردت النعاس والكسل وبواقي النعاس بحمام ماء ساخن، وتساءلت مع نفسي إن كان هذا “درسنا في التخريب” لرد “فوضاهم الخلاقة” التي أرادوها لبلادنا؟ وسرعان ما تذكرت قول الشاعر الكبير مظفر النواب محقاً عندما أنشد قائلاً ” هذي الأمة يجب أن تأخذ درساً في التخريب”…

محمد النجار

“ديموقراطية” السيد الرئيس

كنا عائدَين من جنازة الشهيد أيمن، متجهيَن لبيتينا المتجاورين في طرف القرية الشرقي، قبل أن نعود، في المساء، للمشاركة بأخذ العزاء، ففي قريتنا، الجميع يتبنى الشهداء، فالشهيد إبن القرية جميعها، من رجال ونساء وأشجار وجبال ووديان، يتزاحم الجميع فيها لأخذ العزاء، محاولين مجاورة أهله وذويه، متنازعين في دعوتهم، لطعام الغداء أو العشاء. كنا نترحم على روح الشهيد، نتذكر مواصفاته الشجاعة، مقداميته وشجاعته، رغم أننا لم نكن نعرف الكثير عنه، فالجيل غبر الجيل، فهو في أول سني شبابه، ونحن فارقنا شبابنا بالأمس القريب أو البعيد، يعتمد الأمر كيف ينظر كل منا على يوم أمس.

كنت أتفادى الرجوع معه، فهو لا يحب المشي في طريق “مستقيم”، فبدلاً من السير فوق الطريق الأسفلتي المتمدد مثل أفعى أكملت لتوها إبتلاع دابة دفعة واحدة، ومازالت تتقلص وتتمدد عضلات جسدها، فهو يسحبك بجانبه من طرق جبلية، بين الحجارة و”النتش” والزعتر البري وشجيرات الميرمية، متعربشاً السلاسل الحجرية مثل قط بري، كما لو كان في مقتبل العمر وليس في خواتيمه، متوقفاً بين أغصان الزيتون وكأنه يراها للمرة الأولى، مُزيلاً بأنامله الخشنة ما جف من وُريقات أو أغصان رفيعة، كانت ما تزال متعلقة بأطراف أمها، مستمعاً لتغاريد “حسون” جميل تنساب في الأذن نحو الدم مباشرة، لتجعلك في حالة جاهزة للدبكة والعتابا والميجنا والرقصات الشعبية، متسلقاً من جديد السلاسل الحجرية مُتقافزاً فوقها، كطائر الدوري، بقفزات قصيرة واثقة، يبتسم من تحت شاربيه، ويقول:

ـ ما الشباب إلّا شباب القلب…

ولم تكن كلماته تلك مجرد شعار فارغ، مثلما يطلقها من كلمات “شيخ عجوز” على مشارف الموت، خصاه الزمن أو العمر أو عدم تمسكه بمواقف الرجال، وصار يُطلق شعارات فارغة كاذبة، فارشاً أرضاً لزواج مُقبل مع فتاة بعمر إبنته أو أقل قليلاً، بل كان يمارس شعاره هذا على أرض الواقع، في كافة نواحي الحياة، وفي هذا الزمن، من النادر أن ترى من يمارس شعاراته في الواقع وأرضه، لتكون محراثاً يترك آثاره في الرؤوس والقلوب، من يلتزم بكلماته ويمارسها عملياً في الحياة، بنفسه وعلى نفسه أولاً وقبل كل شيء. وكان هو، أبو أحمد الصادق، صادقاً مثل إسمه، وفياً وشهماً، تراه في كل يوم، يمارس “شباب قلبه”، فيلاحق جفاف الأشجار فوق الصخور، في بطون الجبال، يزرع شتلات الزيتون في مساحات الأرض الجرداء، “يُقنب” و”يرقع” ويفلح ويقلع ويزرع الحياة، فيُلبس الأرض رداءً يتزايد إخضراراً يوماً بعد آخر، وفي هذا الزمن، الوفاء والرجولة والصدق أصبحت عند المخصيين تهمة، فكان أن تنصل منها الكثيرون، لكن ليس أبو أحمد الصادق، الذي لم يتنازل قيد أنملة عن هذه الصفات التي تؤدي إلى التهلكة في زمن الردة هذا، وكثيراً ما كنت تراه يُجالس الأرض يتحدث معها، يداعب الأشجار، ينصت إليها ويهدهدها، حتى تخاله مجنوناً أو فقد عقله، أرأيت كثيراً من الناس يتحدث للأرض والأشجار ويفهمها وتفهمه؟!!!وكان يظل يؤكد أن الأرض والإنسان كلاً واحدا متكاملاً، لا تستطيع فصلهما أو التعامل معهما كإثنين منفصلين، وإن فعلت فأنت جاهل بهموم الأرض، بأخلاقها وطبعها وطبيعتها، وعليك التعلم لمعرفة صفاتها ومواصفاتها وإلا فإنك لا تستحق ركوبها ولا التظلل تحت ظلال أشجارها.

ظل أبو أحمد الصادق يزرع ويفلح ويسقي ويُعشّب الأرض، ولم تمر ولو سنة واحدة دون أن يزرع شتلات الخضار او الفاكهة الموسمية، التي أكل منها كل من رغب من سكان القرية، وكما كان يتعامل مع الأرض في الحقل يتعامل مع الإنسان، ومع أترابه من فلاحي الحقول، كلمته لم تكن يوماً تقبل القسمة على أكثر من واحد، كلمة واحدة لا تُجامل أو تتغير في قول الحق أو تأييده والوقوف معه وبجانبه، مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك، كلمات لا تخلو من السخرية اللاذعة التي تبدو أنها تُقزم الحدث، لكنها تلاحقك وتظل تدور في شعاب رأسك وطرقاته، فتُدوره وتُشغّله وتحرك خلاياه، لتكتشف أنها مارد من كلمات قاسية، يجبرك أن تصير فاعلاً حتى لو كنت كتلة من صخر، الأمر الذي خلق له مشاكل غير قليلة مع الكثيرين في مراحل حياته المتلاحقة، لكنها، في ذات الوقت، رسخت وثبتت في أعماق البشر جميعاً مصداقية رجل لا تُنازع، ممن عارضوه أو أيدوه، وصار إسمه “الصادق” يطلق عليه كصفة دالة عليه دون غيره.

الطريق من بين أشجار الزيتون، طريق جبلي أكل منا ثلاثة أضعاف الزمن الذي يأكله الطريق الإسفلتي السهل، لكنه الزمن الذي نملكه كلنا في القرية، ولا يُنازعنا أحد فيه وعليه، زمن يتساقط عن أجسادنا كحبات العرق، لكنه يأخذ غير مجراه مع أبو أحمد الصادق، فيتحول إلى زمن مُحبب للنفس سرعان ما ينفذ دون أن تدري، ودون أن تحس به، كان يُزيل بعض أوراق جافة عن أحد الغصون، يزيلها واحدة واحدة بكلتا يديه، خوفاً من أن يجرح الغصن أو يُعرّي أطرافه ويزيد آلامه، فترى أبو أحمد الصادق يتألم بآلامه، وكأنه تقطع أحد أصابعه،قلت:

ـ أرأيت يا أبا أحمد، كيف توصل العلماء إلى إمكانية الإنجاب دون إمرأة؟!!!

لا أدري ما الذي ذكرني بالأمر، لكنني ربما قلته من باب فتح موضوع للحوار، فقال أبو أحمد ساخراً في أول الأمر:

ـ أتقصد علماء المسلمين؟ بارك الله فيهم من علماء…

ضحكت بدوري بصوت يكاد يكون مرتفعاً، وقلت:

ـ نعم، بارك الله بهم، لكن ليكفونا شرهم فقط!!!

فقال بدوره:

ـ لا تخف عليهم، سيجدون له فتوى في البخاري، وربما أتحفونا بفتاوى ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، أو سيجدون لنا شيئاً لدى القرضاوي أو العريفي أو أي من “علماء” مملكة آل سعود “طال عمرهم”، وذلك أضعف الإيمان…

وسكتنا، وتقدمنا ببطء، وظل هو يبحث بعينيه الضيقتين عن ما يزعج الأشجار، بتأني وروية ودقة، ثم قلت:

ـ ألم تلاحظ أن المحتل يمنع رفع الآذان في مآذن قدسنا، ولا تسمع منهم أيما إعتراض؟

فقال مؤكداً ذاهباً أبعد مما ذهبت إليه:

ـ لا إعتراض منهم ولا من حكامهم أيضاً، فأنت ترى بأم عينك “أمير المؤمنين” العثماني، لم يعترض، بل كافأ بني صهيون، فزاد، مثل حكامنا، من علاقاته الإستراتيجية مع الكيان!!! منظمة اليونسكو تقر وتجزم بإسلامية القدس وأن لا مكان لليهود فيها، وهو يؤكد لصحف بني صهيون أنها مدينة لكل الأديان، يهدي مدننا كما يشاء دون إعتراض أو همسة عتاب لا من “سلطتنا” ولا من “علماء سُنتنا”، قادة تيار الدين السياسي من “إخوان مسلمين” وغيرهم….

قلت مازحاً:

ـ لا تبالغ يا أبا أحمد، أعط كل ذي حق حقه يارجل، ها هي السلطة تكتشف أن “إسرائيل” تتحدى المجتمع الدولي برفضها المبادرة الفرنسية!!!

عاد أبو أحمد الصادق لسخريته وقال:

ـ يا عزة الله!!! أتقول الصدق؟ أإكتشفوا الأمر بهذه السرعة؟ إكتشفوه بعد مرور سبعين عاماً فقط ،إكتشفوا أنها تتحدى المجتمع الدولي ولا تقيم له وزناً؟ لقد طمأنتني بأنهم بالكثير بعد ثلاثة أو أربعة قرون سيكتشفون أن مفاوضاتهم معهم ليست أكثر من “ولا تؤاخذني” “ظراط عَ البلاط”، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه…

وعقب وكأنه مع نفسه:

ـ وكأن في المبادرة الفرنسيةشيئاً يفيد شعبنا!!!

وسرعان ما إلتقط أبو أحمد بضعة صرارات من حول ساق شتلة زيتون ما زال طرياً، لم يقو عوده بعد ليواجه قسوة الطبيعة، وضعها ركيزة تحت حجارة سلسلة حجرية قريبة، وسألني كأنه يرجمني بحجر:

ـ ما رأيك بديقراطية السيد الرئيس؟

لم يبتسم أي منا رغم كوميدية المشهد، لأنه لم يكن سوى “كوميديا سوداء” كما يقول المثقفون، قلت:

ـ ديمقراطية التحكم بالقرار السياسي وصندوق المال!!! ألم ترَ قوة “مخالي” التِبْن والعلف في مؤتمر السيد الرئيس؟!!! أهؤلاء من كانوا حتى الأمس القريب يحملون البندقية؟!!! لقد إنتقاهم سيادته”على المفرزة”، انتقاهم واحداً واحداً مثل “بعرة الجمل المنتقاة” كما يقول قدماؤنا، مَنْ صعب على الرئيس إبعاده تكفل المحتل بذلك، إعتقالاً أو مَنعاً من الوصول… أرأيت كيف يُسحّجون ويهتفون؟ بمجرد أن يُخرج الرئيس…يُسحجون!!!

قاطعني وسأل مُستغرباً مُستهجناً ساخراً:

ـ ماذا قلت؟ كلما يُخرج الرئيس؟!!!

ـ نعم، كلما يُخرج بضع كلمات من فمه، يزداد التصفيق والتسحيج… وغلّابة!!!

قلت قبل أن يأخذ يقود من جديد دفة الحوار، فقال:

ـ شكراً أنك أوضحت ماذا أخرج الرئيس من فمه، لأنني كدت أفهمك بشكل خاطئ، لكنني أظن أنهم ما زالوا يحملون البندقية، لكنهم غيروا أهدافها فقط، غيروا إتجاهها، صارت، كبنادق الآخرين من مشيخات وممالك ورئاسات، تُطلق للخلف، تغير نوعها من “بندقية عز وفخر” الى بندقية ّذل وإذلال وهوان”، ألم تتساءل يوماً كيف لبندقية سلمها لك المحتل أن يكون إتجاه رصاصاتها؟!!! و”غلّابة” التي يقصدون صحيحة، لكن غلاّبة على مَنْ؟  هذا هو السؤال؟

ثم تابع حديثه، وما زال ينظر إلى الأشجار وكأنه يراها للمرة الأولى، أو لا يراها أبداً:

ـ ألم تر “ديمقراطيته” عندما ابتدأ مؤتمره بتثبيت نفسه رئيساً؟ رئيساً دون سؤال أو محاسبة أو تقييم لما أوصلنا إليه، دون حتى مجرد نقد، رئيس دون برنامج عمل أو حتى خطوط عريضة، فقط بأن المفاوضات خيار استراتيجي، يعني أبقانا عُراة أمامهم أكثر مما كنا، أتتخيل أن يكون مثل هذا الرجل عاملاً مشتركاً للجميع؟ يعني هو “وجه البُكسة” كما يُقال، أتتخيل كيف يفخر بكونه هو مَنْ وقع “أوسلو”؟وكأنه جاء لنا بتحرير الأرض؟ أتستطيع أن تتخيل إلى أي حضيض وإنحطاط وصلنا؟ وتراه يقف بكل صلافة و”عنجهية” متحدياً أن يكون تنازل عن الثوابت الفلسطينية!!! فتقسيم المحتل من لما أُحتِل منذ العام سبع وستين ين غزة وضفة، ودوره وحصته بذلك، من الثوابت الفلسطينية، وتقزيم الوطن إلى 18% والحبل على الجرّار من الثوابت الفلسطينية، كما ورفضه شخصياً حق العودة، ووثيقة عبد ربه ـ بيلين التي تمت بإشرافه من الثوابت الفلسطينية، والمفاوضات العبثية المفتوحة على احتمالات التفريط والتنازل عن كل شيء من الثوابت الوطنية، وتجهيز جيش الحراسة الفلسطيني، على مدار الساعة، لدولة بني صهيون من الثوابت الفلسطينية، والوقوف على أبواب الحرب الأهلية الفلسطينية من الثوابت الفلسطينية، وتقسيم مدن الضفة وقراها ومخيماتها إلى “غيتوات” هو من لب الثوابت الفلسطينية، وتراخيه وهوانه أمام بناء المستوطنات من الثوابت الفلسطينية، وربط إقتصادنا الوطني بإقتصاد الإحتلال من الثوابت الفلسطينية، فتح السجون والتنسيق الأمني مع الإحتلال لقتل واعتقال ما تبقى من رجال هو من الثوابت الفلسطينية… والنجاح الأبرز في مؤتمر السيد الرئيس، أنه عمل لعزل أي قائد رفضه المحتل وأبقى له من أراد، من باب “المجاملة” وليس الخضوع كما يتوهم الكثيرون …

داعب غصن شجرة براحة يده، كأنه يمررها على رأس طفل ليُهدئ بعض آلامه، وأكمل دون أن يلتفت إليّ:

ـ  ديمقراطية الرجل تشمل كل ما سبق، كما تشمل كل ما فعله من أجل “إنهاء” ظاهرة الإفساد والمفسدين داخل سلطته وقيادته!! كما “التخلص” من كل العملاء الذين أورثهم لنا الإحتلال، و”الإصلاح” اليومي والمتتالي داخل أجهزة منظمة التحرير ومؤسساتها،  و”الإلتزام” الصارم بمقررات المجلس المركزي الفلسطيني بحذافيرها، الأمر الذي أكد جماعية القيادة وعدم فرديتها والتزامها بالهم الوطني الجمعي، وليس بالمصالح الفردية الأنانية، كما ولم يترك شهيداً إلا وزار أهله وواساهم، ولا أسيراً إلا وعمل على تحريره، ولم يترك مؤسسة دولية إلا وطرق بابها ليحاكم جزاري الإحتلال، ولم يشارك بجنازات قادة الإحتلال ولم يرسل من يواسيهم، ولم يقمع تظاهرة ولم يعتدي على صاحب رأي أو فكرة، ولم يورث مالاً لأبنائه وأحفاده سوى ما زاد من معاشه الشهري، ولم يُحول السلطة ومرابحها إلى مؤسسة خاصة له ثم له ثم له ثم لحاشيته، وبالتالي لم يكن الشعب هو الخاسر الأبرز والوحيد في هذه السلطة، وطبق على نفسه أولاً ثم على الحاشية الكريمة ثانياً قانون “من أين لك هذا؟”، الأمر الذي جعل “قضاة” “المحكمة الدستورية” رعاهم الله، يكلفونه بكل ثقة بأن يُقيل أي عضو في المجلس التشريعي إن خالف أمره أو إحتج على سياساته!!! يعني لا يهم أن الشعب الذي إختار ذلك العضو، فسلطة الرئيس فوق الشعب وسلطته، وهل يصح أن يكون للشعب سلطة بوجود الرئيس؟!!!وبالتالي من حق الشعب أن ينتخب مَنْ يريد، لكن من حق الرئيس أن يُقيل من يريد أيضاً، أرأيت الديمقراطية التي يتمتع بها؟ أسمعته، ولو مرة واحدة، يقول أن الشعب لا يحق له الإنتخاب أو التظاهر أو لا يحق له حرية التعبير لا سمح الله ولا قدّر؟ بالطبع لا، لكن الشعب يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الرئيس، فمن حق الرئيس أيضاً أن يعتقل المتظاهر وأن يسجن المناضل أو حتى يقتله، ومن حقه قمع الأصوات “الشواذ”التي لا تروقه….

قطعت عليه حبل أفكاره المتسلسل، وقفت في وسط الطريق، أمسكته من ذراعه، قلت:

ـ كفى أرجوك، كفى هداك الله، أتعتقدني بليد إلى درجة أستطيع أن أسمع كل ذلك وأبقى صامتاً؟!!! كفى يارجل، فوالله ورغم معرفتي بكل ما تقول وأكثر، إلا أنني لا أستطيع أن أسمع المزيد… لقدجعل منا هو وأمثاله قطيعاً من الأغنام، ويعاملنا بنفس طريقة القطيع، ألم ترهم كيف يتصرفون، كلما أكل القطيع شيئاً من التبن والعلف كلما تساقط في الحوض غيرها من الفتات، وهؤلاء، كلما ارتفع حجم التسحيج وتعالت أصوات الهتاف الباصمة، كلما فتح لهم الرئيس المعلف لتنزل حبات الشعير، ألم ترهم شاخصي العيون فاغري الأفواه مشرئبي الأعناق، تُبح حناجرهم تُسحج أكفهم منتظرين أن تُعلق مخالي الشعير في رقابهم؟ وكلما ارتفع الهتاف وعلا التسحيج كلما اقتربت من أعناقهم المخالي أكثر؟والطامة الكبرى أنهم ما زالوا يتغنون بالوطنية والشموخ الوطني، وهم لا يخرجون عن أهداف المحتل قيد أنملة… …كفى يا أبا أحمد الصادق…كل مرة أقسم أن لا آتي معك من هذا الطريق، وأن لا أرافقك، كيلا تذكرني بمخازينا وعهر قادتنا، لكنني سرعان ما أنقض وعدي لنفسي وأفعل العكس، وكأن تسلق هذه الطرق الوعرة تَسْهُل بمرافقتك، وكأن حفيف أوراق أشجار الزيتون تدق في رأسي مثل قرع الأجراس، فتجدني أتبعك مثل حمل صغير يتبع أمه، كفى يارجل،  لنكف عن الكلام ولنذهب لأخذ العزاء بالشهيد، فيبدو أن ما في هذا الوطن من شهداء، ما به من أنين جرحى، ونهر الأسرى الذي مازال يتدفق كنبع الماء الطاهر من أعلى الجبل، هي الشيء الوحيد الصادق الذي ظل يحمي هذا الوطن…

محمد النجار

النصفين

لطالما كنت أعرف ان مجموع النصفين يساوي واحد صحيح، لكن حالتي وحالة النصف الآخر خطأت هذه النظرية وقلبت الأمر بأكمله رأساً على عقب، بل مزقتها ورمتها في وسط الرياح، لتحملها بدورها بعيداً وتنثرها في فضاء السماء، لنبقى كلانا مجرد نصفين غير مكتملين، مهما تجمعنا ونحن على حالنا هذا، فإننا لن نستطيع أن نساوي واحد صحيح، رغم مرور كل هذا الزمان.

يؤكد البعض أنه، رغم أنفي ورغم نفيي، لم يكن يوماً سوى نصفي الآخر، وسيظل كذلك أبد الدهر، وأنني وإن كنت أكبره بالكثير من السنوات، وأكرهه كما يكرهني، كل هذا الكره، فهذا لن يغير من الأمر شيئاً.

أعني عندما كنت في عز شبابي، مزهواً بنفسي، فخوراً بقدرة عضلاتي، لم يكن هو قد ولد بعد، حيث كنت حينها لا أتجول إلّا وبندقيتي فوق كتفي، قدماي تدق صدر الأرض، ورأسي يجول متباهياً فخوراً في مساحات السماء، مُتحزماً بحزام العز والشرف والكرامة كما كنت أظن، اُجابه الوحوش وحدي، وأعيش على ملح الأرض وثمار أشجارها، أدافع عن الجميع بكلتا يديّ، يمينها ويسارها، في الوقت الذي تركني فيه كل الأهل والأقارب وحيداً عارياً مطارداً، أعارك الحر والبرد والوحوش الكاسرة في ذات الوقت، قبل أن أعرف، أنهم كانوا جزءاً ممن يطاردونني سراً، في لاحق السنين.

منذ عقود طويلة، كانت قبائل العمائم الدينية مَنْ تبنى النصف الآخر، أبوه وأمه وأقاربه الحقيقيون، وهم أنفسهم مَنْ كانوا يقدمون له كل ما لذ وطاب، ليبقى كما هو، مسالماً متردداً، لابساً لباس الدين وعباءته الفضفاضة داعياً إليه، محرضاً الناس مبعدهم عن هموم الدنيا، مؤكداً أن للفقراء والمنبوذين والمضطهدين الجنة، وما عليهم سوى الصلاة والصوم والخضوع والسمع والطاعة والعبادة والدعاء، مذكراً بالآية القائلة “وما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون”، ولم يخلقهم لأي سبب آخر، في ذات الوقت الذي ظلّ والأقارب يتهمونني بالتطرف والمغامرة وجر الناس إلى التهلكة تارة، وبالمجون والجنون والكفر والإلحاد تارة أخرى، خاصة وأن جسدي يضم زوجاً من الأيدي، اليد اليسرى بجانب اليمنى، وليس اليد اليمنى فقط.

كان نصفي ذاك يسوق المبررات، ويقود خطب الجوامع للتحريض عليّ، مُحاولاً إبعاد الناس عني لأظل وحيداً ضعيفاً، أو لأتحول لمهزوم مشرد بائس مثله، مُتجاوباً لقوانين الخضوع الأبدي، حيث “العين لا تُجابه المخرز”، و”الإنحناء أمام العواصف” و”السمع والطاعة” لولي الأمر، كيلا أتميّز عنه، حيث كان يسمع ويرى كيف كان جسده يتهالك ويضعف وينهار، وجسدي يزداد قوة وجمالاً وإعجاباً من كل أولئك الفقراء، الذي يحرضهم في كل صلاة، وظل، رغم ذلك، يسوق الآيات والأحاديث لتبرير عجزه أو جبنه أو حتى هجومه غير المبرر عليّ، على ذراعيّ تحديداً، ويسارها بشكل خاص، متهمها بالزندقة والكفر والإلحاد، صارخاً بأعلى صوته، “كفاك جنوناً، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”، وكنت أسمع صراخه لكنني كنت أظل أسير إلى الأمام، ومن يسير للأمام لا يسمع الأصوات الناشزة، وإن سمعها لا يعيرها انتباهاً، فحركته تفرض عليه الإنتباه لقوانين الطبيعة، كي لا تنهشه الوحوش وصخور الجبال والأشواك، فللجبال قوانينها، وللسهول مفرداتها، ودون أن تتقن لغة الأرض لا تستطيع أن تكسب عطفها، ولا أن تُطوعها وتركب ظهرها، فالأرض فرس أصيلة جامحة شامخة، ترمي الخائف الراجف المتردد، ولا ترتضي غير الفرسان لتعتلي ظهور منصاتها، لتحملها إلى بر الأمان في أعالي رؤوس جبالها الشاهقة، خاصة إن كان جل همه المسير والتقدم وصعود الجبال .

نعم، في ذلك الوقت، كنت ما أزال في ريعان شبابي، كنت أرى الدنيا كلها محصورة في فوهة بندقيتي، وكنت رغم زحف السنون على كتفي أزداد شاباً، وكلما تزايدت سنوات عمري كلما نمت عضلات جسدي وكبرت وقويت، وصرت عصياً على الكسر أكثر، لا أعرف الآن السر في ذلك، لكن المؤكد أن بندقيتي تلك، حتى عندما كانت بندقية عجوزاً صدئة مهترئة، كانت تظل تحافظ على شباب جسدي، وتسقيه الشهامة والرجولة والعنفوان، وتشعرني أنني نجمة سابحة في مساحات السماء، ورغم مطارداتهم ، طوال الوقت، لي، الغرباء والأقارب، إلّا أنهم كانوا يخافونني ويرتعبون من سماع صوتي، الذي تشابه مع صهيل الخيول الجامحة، لمجرد أنهم يعرفون أن البندقية كانت ما تزال في قبضة يديّ، وحينها لم أكن أعرف أسرار البنادق، ولم يخطر ببالي لحظة واحدة أن البنادق نوعان، بندقية الفخر والعز وبندقية الذل والهوان، كوني لم أحمل بيدي يوماً بندقية الذل الهوان، ولأن شيئاً كان يهمس في أذني منبهاً لنوعية بنادق الأقارب التي لا تعرف سوى الإطلاق للوراء، مقارناً بين الإثنتين، لكنني كنت لا آبه كثيراً للأمر، وكأن الأمر لا يعنيني البتة.

لقد كنت شغوفاً بصعود الجبال، كنت لا أكاد أنظر إلى أي إتجاه آخر إلاّ من باب الحيطة والحذر، ألاحق الوحوش الكاسرة التي غزت جبالنا على حين غرة، لمّا كنا في غفلة من أمرنا، وحوش لا يعلم إلا الله كيف جاءت ولا حتى من أين، بألوان وأشكال ومخالب ونيوب متنوعة ومختلفة، كانت رغم إختلاف مشاربها مُجمعة على هدف واحد، على إقتلاعنا من جبالنا وأراضينا لتتسيد عليها، لتحتل كهوفنا ومُغُرُنا الغارقة في التاريخ وبطون الجبال، وتأكل خيراتنا وثمار أرضنا بعد أن تطردنا بعيداً في غياهب الصحراء، لتصير تسرح وتمرح وتصول وتجول أنّا شاءت وكيفما أرادت.

في كثير من الأزمان، كنت أسمع أصوات تأتي من الصحراء، ترشقني بالزيت وترميني بالمال، تسمعني أجمل الأشعار، تتغزل بقوامي ورشاقتي وفروسيتي، وتغدق علي أجود أنواع الطعام، وكان الأمر يُشعرني بالنشوة، ويخفف عني ثقل الوحدة التي طالما شعرت بها، ولم أكن أعلم أنها كانت تبعث لي، في الليل، عواصف الرمل وأسراب الجراد .

في البدء كانوا يضعون المال في طريقي، وكنت أراهم أو يُرونني أنفسهم، لم أعد أذكر بالضبط، وكنت آخذه لأستخدمه فيما خصني من ضروريات، وكنت حينها قليل المتطلبات، بضع حبات من الزيتون ورغيف من خبز الطابون، صحن زيت زيتون وزعتر، خاصة من ذاك الزعتر البري التي تظل جذوره متمسكة في بطن صخور الجبال، أو حتى إبريق شاي بالميرمية أو النعناع البلدي مع رغيف من ذات الخبز يجعلني مثل الحصان، وللحق، لم تخلُ وجبة لي آنذاك من زيت الزيتون، وكانت دائماً زجاجته تحت حزامي، وإن كنت أذكر جيداً، فهذا كان ملاصقاً لي كبندقيتي، حتى إن فقدت الخبز جرعت جرعة منه فتكفيني، فهذا كان من طبيعة الأشياء بالنسبة لي آنذاك، أهناك فارس لم يتجرع زيت الزيتون؟!!! أهناك بندقية صالحة لم ترتوي أعضاؤها بزيت الزيتون؟!!! حتى أنني كنت أمسح يداي وعضلات جسدي به إن توافرت كميته أكثر، وكنت قاسي الملامح والعضلات كأنني شَبَه البندقية، كأننا توأمان، أو كأنني جزء منها، تسهل حركتي بعده وتتضاعف سرعة حركة يداي، وكأن الأرض تصير أكثر ليونة وسلاسة وتعاطفاً ومحبة، عندما تشم فيّ رائحة البندقية وزيت الزيتون، حتى أشواك الصبار تصير أكثر ليونة ولا تعود عدائية…

نعم، كنت أقول أنهم كانوا يضعون المال في طريقي، ثم زادوا كمية المال حتى أخذ يتراكم بين يدي، فلم أعد قادراً على حمل المال والبندقية في ذات الوقت، فيداي لا تتسع لكليهما معاً، فصرت أسند بندقيتي بجانبي، أتركها تحت أشعة الشمس الحارقة، وأحياناً تحت المطر لأستطيع حمل المال ونقله وتخزينه، فأوراق المال لا تتحمل البرد والقيظ كالبندقية، وحمايتها تتطلب التضحية بالوقت والبندقية في بعض الأحيان، وعلى أثر ذلك صرت أفكر بهمومي الذاتية، وبعد سنوات عدة، ومع تزايد كمية المال بين يدي،  صرت أتجاهل الوحوش التي تمددت أكثر في مساحات الجبال وأفكر في نفسي أكثر، ثم صرت أفكر في العروس التي سأتزوج وفي أولادي وشيخوختي، فثقلتت البندقية على كتفي، وصرت أضعها جانباً وأحلم بالبيت والعروس وحديقة المنزل، وصرت أنسى أو أتناسى وأتكاسل عن رعايتها وسقايتها بزيت الزيتون، وكففت أنا نفسي عن أكل خبز الطابون المُغمس بزيت الزيتون، وكففت عن شرب الشاي الغارق بالميرمية، وصرت أفضل “النسكافية” على “العدنية”، والأجبان المستوردة على حبات الزيتون وزيته والزعتر، واستطعمت “الفيليب مورس” على “تتن” الحاكورة وسيجارة “الهيشي”، وصرت أفضل النوم بجانب المال لحراسته على تركه وإكمال المسير، أو على حمله وصعود الجبال، خاصة أن كَنْز المال لا يتناسب أبداً مع صعود الجبال.

سرعان ما صرت وبندقيتي ننام أكثر وأكثر، وصرت ألحظ أن البندقية التي ترافق المال تأخذ مواصفات أخرى وتبدأ بالتغير، وأول ما يغزوها مرض عمى البصيرة، فالبندقية بعينين كبيرتين ساهرتين على مر الزمن، وإن كانتا متخفيتين تصعب رؤيتهما، وهذا النوع من الأمراض لا يعمي عينيها بل يضعفهما رويداً رويداً ويخلط فيهما الألوان، فلا تعودا قادرتين على التمييز بين العدو والصديق، وعندئذٍ تنحرف بوصلتها إلى غير الإتجاه، قبل أن تصير تميل إلى الراحة والكسل، ويؤثر عليها وفيها عوامل الطقس ومؤثرات الراحة على طول الزمن، كأنها تتأقلم مع واقع جديد، فيلين حديدها، يتجوف، ومع الأيام تتقلص عضلاتها وتضمر، وتصير أشبه بعودٍ من تبن. وكما “الفرس من خيالها”، ف”البندقية من قائدها”، “من موجهها”، تماماً مثلنا نحن البشر، القارئ  والأميّ، كلما كانت تعرف طريقها، وعلى ظهرها من يقودها ومَنْ يوجهها، فارس يعانق رأسه وجه السماء، حينها تعرف كيف وأين ومتى تفرغ ما في صدرها من غضب، أما إن كانت عمياء البصر والبصيرة فيمكنها أن ترتد إلى صاحبها وتقتله. لذلك وبعد سنوات تقلصت عضلاتنا، وصار صعود الجبال مشقة أحياناً وترف حيناً آخر، وصارت بندقيتي تفضل النوم على اليقظة، تستمرئ الراحة، وكلما نامت بندقيتي أكثر كانوا يزيدون رمياتهم بالأموال لي، فصاروا يتفننون بقذفي بها، مرة كالسهام ومرات في صناديق مقفلة أو حتى أكياس مغلقة، ومع كل حزمة مال كان مرض العمى يزداد ويتعمق في عيني بندقيتي، وصارت غير قادرة على الفعل والتأثير، ثم أضحت عبئاً ثقيلاً على جسدي، فخبأتها وأخذت أجمع المال، لأنني في قرارة نفسي كنت مدركاً أن السر يكمن في البندقية، لكنني لم أكن أعلم أن حديد البندقية يمكن أن يصدأ ويتلف إذا لم تستخدمها، وعندما يأكلها الصدأ لا تعود ذات فائدة، وتصبح كالعصا التي أكلها السوس من الداخل، فجوّفها وأضعفها وجعلها غير ذي فائدة.

صار المال من حولي تلالاً، يكاد يحجب الهواء عني، وأشعر أحياناً أنه يكاد يخنقني ويقتلني، ولم أفكر لحظة أن كثرة المال في بعض الأحيان تقتل أصحابها، فأقوم راكضاً نحو زجاجة زيت الزيتون لأشم رحيق زيتها، وكنت أشعر أول الأمر أنها تجلب الهواء والحياة لي، لكنها كفت لاحقاً عن فعل ذلك، وكأنها تريد أن تقول لي أنها دون البندقية لا فائدة كبيرة ترجى منها، وأنها والبندقية متلازمتان، فقذفت بها بعيداً، فانسكب زيتها على التراب والصخور وسار كأنه جدول، حتى وصل البندقية المخبأة في بطن الأرض ونام في حضنها، وكأنهما ينتظران مَنْ يسقي البندقية ويمسح عنها صدأ الأيام. وصرت أنا أخرج رأسي بين وقت وآخر من بين فتحات المال، لأقتنص كمية من الهواء كلما شعرت بضيق نفس، واستعضت عن استنشاق زيت الزيتون بزجاجات عطور غربية، وصارت رائحة الزيت تصدع رأسي، فابتعدت عنه وعن البندقية وتمسكت بالمال وروائح العطور.

مع تزايد كميات المال تحولت أحلامي في بيت، لأحلام في قصور، وصرت أستخدم بدوري المال  للضغط على الآخرين ليسمعوا كلامي ويحذوا حذوي، وأشتري به أهل بيتي وبعض الجيران، وصرت أسمع المديح والغزل والأشعار فيّ وفي ذكائي وقوتي كما لم أسمعها من قبل أبداً، ولم أعد آنذاك وحيداً كما كنت سابقاً، أو هكذا تهيأ لي، ولم يعد صعود الجبال يستهويني، ولم أعد أجهد نفسي في التفكير في الوحوش كثيراً، رغم تمددها في المراعي كافة، واستيلائها على المُغُر والكهوف والسهول والجبال، بل وتمددها في السماء كله، وبدأت أدرك حينها تلك القوة الهائلة الغريبة الكامنة بين طيات المال وأوراقه، ولم أكن أشك لحظة واحدة بأنه يمكن أن يكون غدّاراً قاتلاً، ولا أن لمعته ليست إلا لمعة فسفورية سريعة خدّاعة، وأنه يمكن أن يقتل صاحبه، كما كان يظل يتراءى لي في بعض الليالي القاسية.

ظلت تلك الأصوات الصحراوية تتقرب مني وتطعمني وتسقيني، لأنها لم تكن تعرف أين خبأت بندقيتي، وربما لأنهم يهابونني ما دمت أملك ذلك النوع من البنادق، أو لأنها لم تتحول بعد لنوع بنادقهم، لذا بالغوا وزادوا في إطعامي خاصة في الليل، وأنا الذي كنت “أتعشى وأتمشى” عملاً بوصية الأجداد، صرت أتعشى وأزيد السهر سهراً، وأنام حتى ساعات الظهر، فازدادت الشحوم حول جسدي، وثقلت حركتي، فأخذ يهجرني شبابي، وصرت مثل كافة العوام، كلما أكبر أكثر كلما أشيخ أكثر.

صارت هجمات الوحوش تتزايد دون أن أتمكن من صدّها كما كنت في الخوالي من الأيام، حيث ركبني الخمول من تراكم الأموال، وتضخمت وتكرشت، وصرت أتجنب مواجهة الوحوش، ثم صرت أهابها، وانتهى بي الأمر على عدم مواجهتها، وصرت أفرض ما أريد على من هم تحت عباءتي بالمال وليس بالمنطق وحسن القول والإقناع، ولمّا يخالفني أعضاء جسدي أحرمهم من المال والطعام، وأحرض عليهم أبناء الصحراء، الذين تجرؤوا لمّا رأوني أقف في صفهم، على كلتا يديّ، خاصة يدي اليسار، وكأنهم يريدون خنقها أو إنتزاعها من جسدي، تحت سمعي وبصري، ولم أفكر حينها بأنها جزء مني، وأن إقتلاعها سيضعف جسدي، وربما كان إثر ذلك نزيفاً قتلني، وعلى أثر ذلك، تكرّر نهش الوحوش لها بدعم من أعراب الصحراء، تفردوا بها وهاجموها بقسوة، شتتوا جسدها وعضلاتها بين السجن والقتل والمطاردة، لأنها ظلت تعاديهم وتعادي كل أموال الصحراء، ففترت قوة بعض عضلاتها، وتجاوبت بعض أصابعها لمرض حب المال المُعدي، فغزى المرض بعض أصابعها، ورغم معرفتها بالداء والدواء، إلاّ أنها لم تعالج المرض من بدايته، وربما لم تستطع ذلك، ولم تقدم العلاج اللازم لتنقذ عضلاتها، فصارت تتقلص وتتمزق وتتقزم حتى أضحت قليلة التأثير والحيلة والحركة، رغم محاولات الكثير من أصابع يدها، إعادة الحياة لعضلاتها.

تكدس المال من حولي وبين يدي، وصرت أحارب بقوة المال وليس بقوة السلاح، وتحولت حربي التي كانت ضد الوحوش إلى حرب مع أجزاء جسدي، من بقايا عضلات وأطراف متورمة متمزقة ضعيفة، واكتشفت لاحقاً أنني أحارب نفسي، أحارب جسدي ويديّ، وصار رأسي مسكوناً بما يعيدونه علي صباح مساء، بأن أقابل “الضيوف” وأستمع إليهم، وأن “الوحوش” التي تتراءى داخل رأسي ما هي إلا هواجس وكوابيس داخل رأسي فقط، وأن “الوحوش” ليست سوى أناس متحضرة، وليسوا سوى “ضيوفاً” قدموا لبلادنا، وما علينا سوى استضافتهم وإكرامهم وحسن معاملتهم، وذكّروني بحاتم الطائي، كرمه ودماثته وحسن أخلاقه، وما علي سوى التشبه به، وصدقتهم لأنني أردت تصديقهم، وكنت أستمتع وهم ملتفون حولي ويصرخون بي في وقت واحد، بيت شعر جرير قائلين:

ألستم خير من ركب المطايا             وأندى العالمين بطون راحِ

وللحظة خلت نفسي مروان بن عبد الملك الذي قيلت فيه القصيدة، لكن متابعتهم للحديث أعادتني إلى حيث كنت، وكان حديثهم يتتابع جملاً متلاحقة في أذني:

ـ “إن “الضيوف” الذين أسميتهم وحوشاً، وما بهم من الصفات الشرسة، ما هي إلّا من عند الله، حباها بها لتدافع عن نفسها أمام الطبيعة القاسية والضواري القاتلة، وأن عليك أن تفهم مرة وإلى الأبد “أن لا إعتراض على الله، لا في خلقه ولا في أمره ولا في إرادته”، “لأن لله في خلقه شؤون”، وأن عليك الإيمان بذلك دون تردد أو تفكير ولا حتى سؤال، وما عليك سوى الإهتمام بعقلك وجسدك وتطويعهما وضبطهما، فالعقل أو الجسد المتمرد، مثل الطفل العاق، “بيجيب لأهله الشتيمة والمسبة”، ويجب إعادة تربيته، بالسّوت على وجه التحديد، لأن “العصا لمن عصا”، وإن خالفك عقلك إقمعه ليعود إلى جادة الصواب، وإن خالفك أحد أطرافك إبتره واقتلعه وارمي به للكلاب، لتأخذ بقية الأطراف عبرة ودروساً، وإن لم تفعل وتروضهما، ربما يأتيانك بما لا تُحمد عقباه، حيث يرميان بك إلى التهلكة، وتعود ” يارب كما خلقتني” دون مال ودون أقارب”…

ونزولاً عند رغبة أقاربي، وكي أكون صادقاً، أمام مفعول مالهم الذي “هذّبني وشذّبني وعقّلني” وجعلني إنساناً آخراً، لدرجة أنني لم أعد أعرف نفسي، رأيتني أقابل “الضيوف”، أحاورهم وأساهرهم وأتحدث معهم، ووجدتهم نِعْمَ “الضيوف والجيران والأصدقاء”، ثم دعوتهم لمائدتي، وقبلت دعواتهم لمائدتهم، ليصير بيننا “عيش وملح”، وتعاهدنا عهد الله أن لا نخون بعضنا بعضاً، وأشهدنا الله والجيران والأقارب على ذلك، وأكدت أن الخائن منّا سيخونه الله ورسله وملائكته وكتبه، وتواعدنا وأكدنا “أن وعد الحر عليه دين” يجب الوفاء به، وتزاوجت بنسائهم دون عقود، لتعميق أواصر الصداقة وترسيخها، عملاً بالمأثور الشعبي القائل “كن نسيباً خيراً من أن تكون قريباً”.

تسارُع الأمور هذا بهذه الطريقة فجر ثورة في جسدي، فانتفضت يداي يمينها ويسارها، لكني أسْكَّتُ يميني “برش” المال والمزيد من المال، وفردت لها المشارب والمعالف، ونثرت لها البرسيم والشعير فوق رؤوسها ، وقمت بتعليق “المخالي” على الطرقات لمن يريد من عضلاتها وأصابعها أن يصير “خروفاً”، وكان عجبي كبيراً لما رأيت كيف علا التسحيج والهتاف، وغطت مأمأة “الخراف” على كافة الأصوات الأخرى التي عارضتني، وارتفعت البنادق لتدافع عني وعن طريقي الجديد، لكنها بنادق من نوع مختلف، وليست مثل بندقيتي القديمة تلك، كما أنني أجهضت “يساري “بتجفيف المال عنها، وبالمزيد من التجفيف، إلا عن بعض الأصابع المنتفخة، فأسكتهم الجوع، وأعمت التخمة الأصابع المتضخمة، وفرضت إرادتي وإرادة الأقارب و”الضيوف” على جسدي وأطرافي وعضلاتي، التي رويداً رويداً “ويا للعجب”صارت مترهلة راعشة، رغم كل المال الذي يغمرني.

قبل تلك المرحلة بالضبط وُلد النصف الآخر، بالضبط عندما كنت ما أزال شباباً، ومرور الزمن يزيدني عنفواناً وقوة، وبندقيتي تلك في قبضة يداي، وزجاجة زيت الزيتون في حزام رصاصاتي، أي قبل أن ألتقي “الضيوف” وأعقد معهم الصفقات من تحت الطاولة ومن فوقها، أعني قبل أن أتحول إلى رجل أعمال ناجح بلباس مُرقّط، بل في المرحلة التي كنت ما أزال أرى فيها “الضيوف” وحوشاً غريبة، وعدواً يجب كسر أنيابه وتحطيم مخالبه، لأجبره على العودة من المكان الذي جاء منه، في مرحلة “الخداع البصري” تلك، التي شوهت رؤيتي وقلبت الحقائق في رأسي، وأرتني الأمور على عكس حقائقها، في مرحلة مفاهيمي المشوهة التي لم أفرق فيها بين “الضيف” وبين الوحش، قبل أن يصير قراري من رأسي وأمتلك “قراري المُستقل” الذي أمتلكه الآن، وبشهادة الأقارب من أعراب الصحراء!!!.

في ذلك الوقت وُلِد ذلك النصف بعد معاناة ومشقة وآلام طويلة، وكدت أجزم مراراً أن ولادته كانت قيصرية بامتياز، وأنها تتم ليكون بديلاً عني، ومنذ ولادته، لم يكن ليوافق على شيء أقوله أو أفعله أو أقوم به، رغم أنني لم أكن قد وصلت لقراراتي الهامة تلك باعتار الوحوش “ضيوفاً”، وبدى لي أنه وُلد ليزاحمني ويصل قبلي الى المكان الذي وصلت إليه، ومددت له يدي الإثنتان، يمينها ويسارها، فرفضهما بإصرار غريب، ولم يشأ أن نتعاون يوماً في أي شيء، واختط طريقاً مختلفاً لنفسه، وظل يشوه صورتي في كل المناسبات، ويتهمني بالفساد والإفساد وشراء الذمم، ويزندقني ويكفرني ويكيل لي من الإتهامات أبغضها وأكثرها بؤساً، ويكرهني ويحقد عليّ وكأنني “قاتل لأبيه” كما يُقال، وبدى أن كل ما كان يريده إلى جانب ذلك هو منافستي ومقارعتي وتشويه صورتي المشرقة، وكي أكون منصفاً، فبعض ما قاله لم يجانب الصواب، لكن، ورغم ذلك، كان بالإمكان أن نسير سوياً، فالطريق يتسع لإثنينا معاً، وجبال الله واسعة وتتسع لنا جميعاً.

وسرعان ما أضاف هدفاً آخراً إلى جدول أعماله، وهو الإبداع في تحويل رجال الدين إلى تجار دين، واستخدمهم في تنفيذ أهدافه ومآربه، وابتدأ في إسترجاع مجتمعنا الذكوري وعودته إلى نفسه، بعد أن أُهينت كرامته وأُذل، وطأطأ رجاله رؤوسهم ومُسحت الأرض بكرامتهم، وذلك بعد أن تمادت المرأة فيه وعليه، وصارت تسرح وتمرح وتذهب وتجيء دون إذن أو رقيب، وصارت ” والعياذ بالله تتشبه بالرجال”، وتَزايد خروجها للعمل والتمشي والتسكع والتمايع والتدلل في وسط الطريق، وتُماشي الرجال من غير “المحرمين”، وتجالسهم مجالسهم في المقاهي والمطاعم والبيوت وفي أماكن العمل، فجعل من المرأة أعلى سلمة أهدافه، خاصة بعد أن أصبحت النساء تتظاهر وترمي الحجارة وتتنظم وتستشهد وتعتقل، وذراعي اليسار شاهد على ذلك، وأعلن أن إنكفاء النساء في بيوتها ضرورة، لنرجع لديننا الحنيف، و لتعود الطبيعة الى نفسها والأرض إلى مجراها، ومن هنا كانت البداية لسيادة ثقافة العمامات اللواتي تدعي إستملاك الدين وتدعوا لعبادة الفرج وتكفير الآخر، فصار أخوة الوطن “صليبيين”، وطوائفه كافرة ومذاهبه فاجرة، واستملكوا الجنة وسجلوها حصرياً باسم طائفتهم، فنصبهم النصف الآخر وسيطاً  “نزيهاً” بين البشر وبين الله، فصاروا يُصورون الله بأنه لا يقبل صلاة أو توبة أو عبادة أو تواصل دون المرور بهم أو من غير وساطتهم وحتى موافقتهم، فاستملكوا بذلك مفاتيح الجنة، التي صارت لا تفتح أبوابها لأحد دون موافقتهم أو صك غفران منهم.

وصار يحشو في العقول مواصفاته للمرأة الصالحة، وصار شيوخه ومُفتييه، في المساجد، يحددون كيفيتها، فقالوا أن وجه المرأة عورة ويداها عورة وعيناها عورة وصوتها عورة وكل ما فيها عورة، وعليها أن تُغطي عوراتها جميعاً عن الرجال وعن النساء في المجتمع برمته، فلا تُظهر منها شيئاً، وكل ما يظهر سيحرقه الله في نار جهنم! وطوّروا الأمر ليطالبونها بإخفاء عوراتها عن الأقارب من عم وخال، ثم عن أب وإبن، إلّا عن الزوج وحده، وكأن الشيطان من خلق جسد المرأة وليس الله، وكأن الله لو كان رائداً لعورنتها بهذه الطريقة وهذا الشكل ما كان قادراً على تغطية جسدها بطريقتة هو، أو أن ينزل نصوصاً صريحة واضحة بهذا الشأن، فحددوا لله كيفية المرأة التي يريدون، فصارت المرأة رجس ونجاسة، وتحولت إلى بئرٍ لا ينبض من الجنس، فأفتوا بالزواج من القاصرات، وبعضهن في سن الطفولة المبكرة، وحشروا الشرف بين فخذي المرأة، وجعلوا منها متعةً للرجل فقط، وأفتى البعض بأن الرجل يمكنه رمايتها كالنفايات إن كبرت أو مرضت لأنها لم تعد متعة له، وسرعان ما نقلوا المتعة للسماء أيضاً، فصارت الحوريات جزءً من متعة الرجل، فصار “أجرة” الشهيد سبعين حورية، ليمارس معهن الجنس في جنات الله، وكل ممارسة جنسية تمتد لسبعين سنة، ثم تستدعيه حورية ثانية لسبعين سنة أخرى وهكذا حتى ينهي السبعين ثم ينتقل بعدها لسبعين وصيفة للحوريات السبعين، فحولوا جنة الله إلى وكر بغاء، فألغوا بفتاويهم المرأة من المجتمع، وحوّلوها من إنسانٍ إلى مجرد شيْ. بعد تشييئهم للمرأة وضعوا للشهداء أجرة، وكأن الشهداء يتحركون بغرائزهم الجنسية وليس بشرفهم وعزة أنفسهم وإيمانهم بعدالة ما يدافعون عنه، فصوروا أن جُل ما يبغيه الشهيد مقابلة الحواري الحسان في الجنة، وكأنه يستشهد من أجل ذلك، وفقط من أجل ذلك، محاولين تغيير مفهومنا ومعرفتنا المتراكمة عن الشهداء، بأنهم في الأصل ذووا شهامة وكرامة وعزة  وإباء، كبارٌ لا يرضون الضيم ولا الذل ولا الهوان، ما دفعهم للثورة على كل  مَنْ يُمثّل الظلم وعلى كل مَنْ يطغى ويتجبر، حاملين رايات العدالة والحرية والمساواة، فكرّمهم الله بالشهادة ليزيدنهم عزة وكرامة ورفعة وإباء، وليرفع من منزلتهم في الجنة كما رفع من قدرهم في الأرض، رجالاً كانوا أو نساء، ومن أي طائفة كانوا أو ملّة أو دين.

ابتدأ النصف الآخر بتطبيق مشروعه، مبتدئاً بملاحقة النساء “الحاسرات السافرات”، متهمهن بالفسق والكفر والزندقة والمجون، وصار يدعو لتأديبهن بالأحاديث والفتاوى والبيض الفاسد، وبعصا الوالد والأخ وحتى الإبن، ليَتُبن ويتهذبن ويتأدبن ويَعُدن إلى ناصية الصواب، إلى طاعة الله وتنفيذ أوامره كما حددها ورسم خطوطها شيوخهم ومفتييهم، وبدأ يفرضها على أرض الواقع، فسرعان ما أخذ يفرض “الحجاب والنقاب” شيئاً فشيئاً، وجعل من كل محجبة أو منقبة قديسة ومن كل حاسرة عاهر، ولم يقل أن المتحجبة أو المتنقبة يسهل عليهما خلع حجابهما إن أرادتا ذلك، أو أن الحجاب والنقاب يمكنهما أن يحجبا الكثير من الموبيقات وأن يكونا ستراً لهن، الأمر الذي كاد أن يؤدي لحرب بيني وبينه، خاصة بعد أن تصدى له يساري ليوقفه عند حده، لكن حرص يساري على وحدتنا و”ستر الله” وحدهما أنقذانا من الحرب،  وهدّآ الأمور وأوقفاها، لكن ذلك النصف ظل كذلك وتمادى ولم يتوقف، وازداد ملاحقة للنساء بعد أن يبس عوده واشتد، حتى أعاد نصف المجتمع كله إلى حظيرة البيت، ورغم ذلك صرنا نسمع عن حالات التحرش الجنسي تتزايد وتتسع، بعد أن كان هذا الأمر نادر الوجود، وما زلنا وبعد كل هذه السنين، نستمع إلى سرحان خيالاتهم الجنسية في بيوت الله، وكأن القرآن خلا إلّا من سورة يوسف، وانتهت المواضيع والهموم إلّا من موضوع المرأة.

نعم، وكي أكون صادقاً، ما أن مرت بضع سنوات على ولادته، أعني وهو ما زال طفلاً، بدأ يهاجم الوحوش بدوره، كان يهاجمها بقسوة وقوة وعنفوان، بعد أن كانت يداي اليسرى واليمنى تتفردا بذلك، قبل أن أقمع معظم عضلات جسدي، وبعد فشلي في وقف بعض عضلات يساري اللواتي تفلتن وتمردن علي وعلى أصابعها المنتفخة نفسها، فما كان مني إلّا أن أطلب العون على أطرافي من “ضيوفي”، الذين سرعان ما لبّوا النداء، وأودعوهم السجن والملاحقة كي لا تتعكر صورتي، فليس جميع الناس تجلّت لهم الصورة واتضحت كما تجلت واتضحت لي، واستمر هو، ذلك النصف في هجوماته المتكررة على الوحوش متمرداً عليّ وعلى الأقارب مُتفلتاً من بين أصابع الجميع، وأخذ يزيد من هجوماته أكثر وأكثر، فصارت موجعة ومميزة وأكثر إيلاماً، وكنت ما زلت أحاول لملمة يمناي حولي وحول مشروع طريقي، مشروع “مصالحتي الشجاعة مع “الضيوف”، في ظل رفض قاطع لكل عضلات من يسراي، التي ظلت تهاجم الوحوش بجرأتها المعهودة، لكن ذلك النصف تفوق عليها وعلى الجميع.

كنت ما أزال في ذلك الوقت أتحاور مع “الضيوف” على التفاصيل، بعد أن كنا قد اتفقنا على المشهد العام، وما أن وضعت يدي في أيديهم، حتى أخذ يعارضني من جديد ويواجه خطواتي، فتنصَّلَت مني يسراي، ونبذتني أمعائي، وصار ذلك النصف مع بقاياي يتصدون للوحوش في الليل والنهار وكل الأوقات لإفشال خطواتي مع “ضيوفي”، فصرت أضعُف ويزداد قوة، وصارت تتقلص عضلات جسدي، فاستخدمت المال “عكاكيزاً” تساعدني في تجاوز ما بدأت من طريق، واستخدمت الكثيرين من القراء والكتاب أحذية للدخول في المستنقع بعد أن أغرقتهم أعلافاً وتبناً وشعيراً، وفجأة ودون سابق إنذار، صارت علائم الشيخوخة تتمدد فوق وجهي، حيث غزته التجاعيد دفعة واحدة، وضعف بصري وتشوهت رؤياي، وصرت أرى الأشياء مكبرة كما في أحلامي، لكن الطبيب أكد لي أن علاجي الوحيد هو بالتعكز على تلك البندقية دون المال، لكن تعودي على المال منعني من العودة للبندقية، ثم احتلت أذناي حساسية غريبة، فصارت لا تسمع إلّا أصوات المديح وأصوات الصحراء المغموسة بالمال، الأمر الذي زاد الهوة مع أعضاء جسدي، وصرت أشيخ وأشيخ، وكانوا يزدادون شباباً وشموخاً، وساندتهم يدي اليسرى وبعض عضلات يميني، فظل يشمخ ويكبر ويكر ويفر، وأنا أهرم وأشيخ وأتقزم، الأمر الذي جعلني أزيد إلتصاقاً ب”الضيوف”، وأربط مصيري بمصيرهم، ومستقبلي بمستقلهم إلى غير رجعة، وأحارب معهم بعض أعضاء جسدي من إخوة الأمس ورفاقه، وصار السلاح الذي في يدي ليس إلّا بإتجاه واحد، نفس نوعية سلاح “الذل والهوان” كما يسميه البعض، وإتجاه رصاصاته هو صدور الرجال وليس الوحوش، نعم صدور من يحاول سلب ما تبقى من قوتي ومن مالي، ومن يطالبني بتغيير اتجاه بوصلتي وتحالفاتي الجديدة، وماداموا يصفون سلاحي بهذا الشكل، وصفت، بدوري، سلاحهم بالسلاح “العبثي”، واستمرت القطيعة بيننا إلى الآن.

صار أعراب الصحراء يمتدحون خطواتي، ويشجعون توجهاتي، وفي أحيان كثيرة يوجهونني خوفاً من أن أخطئ أو أتعثر أثناء حركتي، يدفعونني دفعاً للتقدم في طريقي الجديد، والأهم وكي لا أحن إلى ماضيّ الذي صار يبتعد نحو الشمس، تاركني وحدي مع ظلمات الليل وبرودته العفنة، وربما خوفاً من أن أشفق على أعضاء جسدي، خاصة يساري وبقايا يميني، اللذين كانا حتى وقت قريب جزءً لا يتجزأ من جسدي، قبل أن أقلعهما وأرميهما بعيداً متبرئاً منهما مرة وإلى الأبد، أغدقوا علي المال حتى لم يبق أمامي مجال لتردد أو لتراخي، وصاروا هم يداي وقدماي ورأسي وعقلي وأهلي وناسي، وبعد أن وقع “الفاس في الراس” كما يقول المأثور الشعبي، أخذوا يقلصون رش الأموال ويقلصون عدد المعالف ومخالي الشعير، وصاروا يأمرونني بعد أن كانوا يترجونني ويتمنون علي ويطلبون ودي، ولما أدركت أنهم كانوا سبباً من أسباب توريطي، وعماء بصيرتي، كان قد “دخل السبت…” كما يقول المأثور الشعي، وصرت لا أرى طريقاً غير هذا الطريق، ولا درباً غير هذا الدرب، وكلما تعودت على الراحة أكثر كرهت أكثر تسلق الصخور وصعود الجبال، فأخذت أستجمع قواي وأشحذ عقلي، لأجد المبررات المؤكدة على صحة خياري، وللإستمرار في ذات النهج ونفس الطريق….

وبعد كل هذه السنين اللواتي بقينا فيها نصفين مفترقين، صار ذلك النصف يفعل الأمر نفسه الذي أوصلني لما أنا فيه الآن، يسير رويداً رويداً في ذات الطريق، وكأنه لم يفهم بعد أن الذي يسير على رمال متحركة سيغرق بها لا محالة، وأن الذي يدخل المستنقع ستأكله الحشرات حتى قبل أن يغرق في المياه الآسن العفن، وأنا أراه كيف يتغنى بالبندقية ويتعلق بالمال، تماماً كما فعلت أنا عند دخولي النفق، بل وأكثر من ذلك، فبمجرد سماعه لنداء الصحراء، يترك العشب والكلأ والماء، وتشرئب أذناه للصوت الممزوج بالعلف والمال، ناسياً مثلي أن المال هو الطريق الأكيد نحو المصيدة، وأن التغني بالبندقية لا يعني أبداً حملها وصيانتها واستعمالها، وأن الثمن الذي سيدفعه مَنْ يتخلّى عن ماضيه، لن يكون أقل من ضرب مستقبله بيديه، يعني كمن يطعن نفسه بنفسه، أو كمن يُسلّم سلاحه ليقتله عدوه به.

وفكرت، إنْ كان ذلك النصف يسير بذات الإتجاه المجرب الذي سرت فيه، لماذا ما يزال يرفض وضع يده في يدي؟! فها هو يستجيب لنداء الصحراء، يجمع المال ويشرب بول البعير، ويحشر شرف الرجال في فروج النساء، ثم ذهب بعيداً بعيدا، فزرع القنابل في بيوت بعض الأهل الذين إحتضنوه وآوه من الحر والبرد والوحوش الضارية، حين رفضته أعراب الصحراء وتبرأت منه ذكور النوق، زرعها باسم الله وباسم الدين في أمعائنا وأمعاء أهلنا، فقتل أهلنا ودمر “يرموكنا”، ليرضى عنه أعراب الصحراء ويزيدون له مخالي العلف، فتفجرت أمعاء الجميع ، وضاع “جمع شملنا” الذي كنا نحافظ عليه ونكدسه للحظات عودة قادمة، ولم يكتف بذلك، فسرعان ما بايع سلطاناً عثمانباً من غير دمنا ولا جلدتنا، ويُشكل جزءاً، بل اليد الطولى، لكل أنواع الوحوش التي تعادينا معاً وتشكل الداعم الأكبر لكافة وحوش المنطقة، وحَكَمَنا أهله مئات السنين، قتّلونا وجهلّونا وسلبوا خيرات بلادنا، استخدموا دماء رجالنا وقوداً لغزو الآخرين، دمّروا حضارتنا وأبادوا ثقافتنا وقتّلوا الأقليات وهجروها ، ودمروا مدننا ومدنهم، ولم يبنوا لنا مدرسة أو مصنعاً أو جامعة، وسلبونا أطفالنا ليصيروا جيشهم المقبل، وسبوا نساءنا وانتهكوا حرماتنا، وبعد كل ذلك سلّمونا بأيديهم لوحوش وضواري جاءت من البعيد، وما زال سلطانهم الجديد يضع يده بأيدي هذه الوحوش، على حد وصفهم، يتغزل بها ويشرب الأنخاب معها، يتاجر معها ويزودها ب”زيت”نا المنهوب، ويدمر بلادنا ومدننا، دون أن  يعترض النصف الآخر أو يحتج أو يعاتب أو يجف له جفن، على إفتراسهم المتتالي لأعضاء أجساد أطفالنا ونسائنا، ولا على دمنا المسكوب الذي ما زال ينزف، بل ويطلب من الله أن يجعله أحد “حريم” السلطان، وهو ذاته، نفس سلطانه العثماني، ما زال يحاول سلب سهولنا وجبالنا وبحرنا وسمائنا بعد أن ضم أجداده “إسكندروننا”، مُدخلاً إليها عشرات الآلاف من المرتزقة من الحثالات البشرية من غير دمنا باسم الدين والديمقراطية، الديمقراطية التي يعتبرها في بلاده “بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”، لذلك إعتقل المعارضة وأغلق الأفواه وأغلق المنابر الصحفية وإعتقل الجنود والضباط ورمج العمال ولم يُبق أحداً يعتب على “ديمقراطيته”، متعاوناً مع مَنْ ما زال يسميهم النصف الآخر نفسه، الوحوش، ولمصلحتهم، دون شجب أو إعتراض، من النصف الآخر، أو حتى عتاب، رامياً، ذلك النصف، صخرة في البئر الذي شرب منه، مُديراً، ظهره بذلك، للذي أطعمه وأسقاه ودربه وسلحه، مغازلاً بذلك ملوك الرمال، مُحتسين سوياً، بول البعير والإبل كافة، حتى الثمالة .

مازال ذلك النصف مثلي، تماماً كما كنت، يعتبر المال الذي تغدقه عليه الصحراء مالاً نظيفاً خالياً من الأثمان، ورغم تحذيرات الكثيرين له، أنه ليس إلا مجبولاً بالدم والذل والعار، إلّا أنه مازال يُصرّ، مثلي، مُعتقداً أنه بذلك يُغيِّر من الحقائق، مازال يظن أنه إن فقأ عينيه ستتغير الحقيقة، ويعتبر هذا التذاكي لا يعرفه أحد غيره، متناسياً أنني كنت أتذاكى بنفس طريقته وربما أفضل، وأنني كنت أملك من وسائل القوة أكثر منه، لكنني وصلت إلى المكان الذي أراده لي أعراب الصحراء، وأنه إن ظل كذلك، سيصل إلى ذات المكان وسيجدني بانتظاره…

ما أردت قوله، مادام ذاك النصف، لا يريد أن يضع يمينه في يميني، ولا يريد أن يمحو الصورة القاتمة في رأسه، التي تريه الحق باطلاً، ومادام يرى في “الضيوف” وحوشاً، ومادام لم يتنازل عن سلاحه “العبثي” ويصر على عدم تحويله إلى نوع سلاحي، وما دام يطالبني بإصلاح ذاتي وإعادة القوة لذراعيَ وعضلات جسدي، كي يُفك الوثاق الذي عقدته مع “ضيوفي”، كي أصير عرضة لسهام أعراب الصحراء، فأخسر ماضي وحاضري، وأغامر في أيام مستقبلي، فأصير كمن لم يحصل على “عنب الشام ولا بلح اليمن”، فإننا سنظل نصفين متباعدين، نسير في خطين متوازيين لا نلتقي أبداً، ولن نشكل يوماً، واحداً صحيحاً أبداً، لكنني في الوقت ذاته أُطمئنه وأنصحه، بأنني كنت مثله، تذاكيت وتكتكت وكذبت، وفتحت يداي لأعلاف الصحراء ومالها، ومن يفتح ذراعيه لأموال الصحراء سيصل حتماً إلى حيث وصلت لا محالة، طال الزمن أو قصر، وكما يُقال أن “أول الرقص حنجلة”، يبدأ بالسكوت عن قول الحق، ثم بالتغاضي وافتعال عدم المعرفة، وكلما زادت كمية المال والأعلاف سيؤيد الباطل وينصره على الحق، ثم سيعلن ولاءه للباطل ويبرره باسم الوطن تارة وباسم الدين تارة أخرى، ومرات باسمهما معاً، وسيبدأ بتنفيذ سياسات أصحاب المال، و سيركن سلاحه أول الأمر جانباً، ثم لن يستطيع أن يحمل السلاح والمال معاً، وسيختار المال ويترك السلاح، وسيحاول إقناع نفسه بأنه سيشتري سلاحاً أكثر جودة في مرحلة لاحقة، وإن حَمَلَه سيستخدمه في خدمة أصحاب المال والعلف، وهكذا يكون قد بدأ يغير اتجاه رصاصاته، فيتغير لاحقاً إتجاه البوصلة، ويتغير، حينئذٍ، نوع السلاح من سلاح “الفخر والعز” إلى سلاح “الذل والهوان” كما يحلو للبعض تسميته، وستجف عضلات يديه وجسده، وسيصبح يؤمر وينفذ، ولن يستطيع بعدها أن يقول كلمة “لا” “إلّا في تشهده    لولا التشهد كانت لاؤه نعم”، كما قال الشاعر الفرزدق يوماً، وستصير “هزة رأسه” بالإيجاب من علاماته الفارقة، وسيصل إلى حيث أنا… نعم إلى مكاني هذا بالذات، هنا حيث أقف الآن… وعندها، عندها فقط، سيدرك أنه قد نسي مثلي، أن الأعلاف، حتى لو كانت من أجود أنواع الشعير، فإنها تظل طعاماً للبهائم…

محمد النجار