لقد إخترع العرب الإسطرلاب…

كنا، نحن معشر الشيوخ، عندما نراه قادماً وقد بدأ يبتسم، ندرك أن لديه شيئاً يريد قوله لنا، لتأخذ سهرتنا الريفية طابعاً مختلفاً، طابع تفاؤل الأطفال وآمال الشباب، فالهم كبير واسع يملأ المكان كله، لذا كلما كان يصطاد أحدنا ضحكة يضحك من أعماقه، وتزداد الضحكات من عمق الآلام ورغماً عنها، ونتهيأ لنسمع “اسطوانة” أبي فهمي الدائمة الجاهزة لمثل هذه الحالات:

ـ على ماذا تضحكون؟ أتضحكون على خيبتكم؟!!! ألم تتعلموا بعد “أن الضحك بلا سبب قلة أدب”؟

وتستمر ضحكاتنا دون أن نعير كلماته إنتباهاً يُذكر، “قابرين” جملته بين صدى ضحكاتنا، متخلصين من واجب المجاملة ومن صدق كلماته في آن …

جاء، من بعيد، رافعاً ابتسامته مثل علم، وكلما اقترب منا اتسعت ابتسامته لتتحول إلى ضحكة دون أن يقول كلمة واحدة، وكنا نحن بدورنا نبدأ بالإبتسام، وكلما أعلنت ابتسامته أكثر، عن نفسها، كلما أحدثت ابنتساماتنا ضجيجاً عالياً مسموعاً، متساوقاً أو متآمراً مع مشروع ضحكته الفاجرة.

كان أصغر من جيلنا بعقد واحد أو يزيد قليلاً، لكنه دخل، لا يدري أحد كيف أو متى، تحت جلودنا، وصار واحداً منا في أول الأمر، ثم صرنا نفتقد غيابه لاحقاً، دون أن يؤثر على تجمعنا الليلي أمام دكان أبي صابر، وسرعان ما تحول وجوده إلى ضرورة، إلى لازمة، لا تستقيم جلساتنا دونها، أصبح حضوره كملح الطعام، لا تستقيم جلساتنا دونها، وصار بعضنا يغادر إن لم يره بيننا، وكنّا أحياناً نستعجل حضوره بإرسالنا أحد أولادنا لإستعجاله، قائلاً له:

ـ أبي يريدك في موضوع مهم ياعمي أبو خالد… بسرعة إن تكرمت…

كي لا نترك له مجالاً للتفلت أو التأخير، ثم صرنا نقول له، أننا نفعل ذلك لنخلصه من كلمات زوجته التي تنزل على رأسه مثل السّوت، فيضحك ويقول:

ـ “ضرب الحبيب كأكل الزبيب”… علي شكركم على حرصكم عليّ … ما شاء الله عليكم، “محمليني جميلتكم أيضاً!!!

قال من بعيد هذه المرة، على غير عادته، بعد أن لوّح بيده في السماء، وكأنه زعيم سياسي يلقي خطاباً:

ـ و”قد إخترع العرب الإسطرلاب”… أإخترعه العرب أم لم يخترعوه، ما هم عليه العرب الآن؟… إنهم لم يتعلموا بعد أن “أصل الفتى ما قد فعل”…

وأعاد ضاحكاً كعادته:

ـ قال “إخترعوا الإسطرلاب” قال!!!

قلت دون أن أُغلق فمي أمام ضحكتي المتدفقة من بين أسناني:

ـ نعم، “إنما الفتى من قال ها أنا ذا”، لكن ما الذي استحضر هذا الأمر على بالك اليوم؟ أفي كل يوم لك “نهفة” جديدة؟!!

فقال الشيخ سالم وهو يُمسّد لحيته وبلغته الفصحى كعادة الشيوخ:

ـ قاتلك الله يارجل، كيف تستحضر هذه الأمور؟

قال وقد توقفت ضحكته على باب فمه، وكأنه ثبتها بيده:

ـ والله يا شيخ عندما أنظر لهذا الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، أكاد أنفجر غيظاً، لكن كما تعلمون “ليس باليد حيلة”.

قال الحاج أبو عماد معلقاً كعادته، الأمر الذي جعل أترابه يلقبونه بأبي عماد السياسي، كونه يعلق على كل خبر سياسي يسمعه، وربما لأنه ما زال من جماعة سلطة “أوسلو”، ويستفيد من خيراتها كما يؤكد أبو فهمي بين وقت وآخر:

ـ فعلاً صار الأمر يُفقد المرء عقله، أنظروا آخر خبر، مفتي المملكة السعودية لا يكفر المسيحيين فقط، بل يُكفر الشيعة أيضاً…

فرد أبو صابر صاحب الدكان الذي نجلس أمامه قائلاً:

ـ وما الغريب في الأمر؟!!! هؤلاء يُكفرون كل من خالفهم، ليس فقط في الأمور الكبيرة، بل وفي أبسط الأمور أيضاً، إنهم يدعون لقتل الذي يسهى عن إقامة أحد الصلوات سهواً وليس عمداً…فماذا يمكن أن تنتظر منهم؟!!!

فرد أبو علي قائلاً:

ـ لكنهم يفعلون السبعة وذمتها أينما حلّوا، ألم يطرد المتظاهرون الفرنسيون الملك وابنه والحاشية كلها من فرنسا قبل شهور؟!!!

لكن أبو محمد الذي يشعر الجميع بتوتره عندما يسمع بمملكة آل سعود، والتي يسميها ب”مملكة الذل والعهر”، قال ماداً يده بإستغراب وغضب:

ـ اتركوا المفتي وشأنه، فهو مجرد ببغاء، يردد ما يطلبون منه، وانظروا ل”غلام” ملوكهم وأمرائهم، الغلام الجبير، قائلاً “أن الأسد كالمغناطيس يجلب الإرهابيين”!!! يعني آل سعود مساكين، إنهم مظلومون، لا دخل لهم في دعم أو تمويل، ولا دخل لأمريكا بتسليح، وقصف الطيران الصهيوني للجيش السوري وعلاجه جرحى الإرهابيين ليس إلّا أكاذيب!!! مادام غلام صار سيحدد مصائر الرؤساء فقد هزلت والله يا جماعة… أسمعتم ؟ هزلت…

عاد أبو عماد “السياسي” للإمساك بخيط الحوار قائلاً:

ـ ماذا تريدون أكثر من أن المنهاج المصري الذي يدرسونه للأطفال، صار يعتبر القدس عاصمة إسرائيل!!! حتى أمريكا ومعظم دول الغرب والعالم لا تعترف بذلك!!! أما العرب فالكرم من أخلاقهم، يتبرعون بما لنا للصهاينة…

فقال أبو خالد وقد بدأ يبتسم من جديد:

ـ لا والله يا “سياسي”، هذه عليك وليست لك، من الذي جعل الحكام العرب يتجرؤون على مثل ذلك؟ أليست قيادتك؟ يعني بصراحة “عاقل يتكلم ومجنون يستمع” كما يقول المثل الشعبي، القيادة تنازلت ، لا تؤاخذني، حتى عن “كلاسين” نسائها، وتلوم الأنظمة؟ لوم قيادتك أولاً…

وضحك أبو خالد بحزن، حين رد الحاج أبو عماد “السياسي” قائلاً:

ـ والله هذه السلطة مليئة بالمناضلين، لو دققتم قليلاً في الأمر لما قلتم عنهم ما قلتموه منذ لحظات…

قال أبو صابر متهكماً، أثناء ذهابه لزبون دخل دكانه:

ـ صدقت والله يا “سياسي”، فها هم حازوا على موافقة الصهاينة ليجمعوا منا فواتير الكهرباء، “إتفاقية تاريخية” كما قالوا، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟

سألت أنا كالأبله، دون أن أميز الإستهزاء بين الكلمات:

ـ وما التاريخي في جمع فواتير الكهرباء؟

فقال أبو فهمي مُتندراً هازاً برأسه هزة لا تعرف أمن الغيظ أم من الإستهزاء بالأمر، أم من القرف منها جميعاً:

ـ آه، صناديد رجال هذه السلطة، أجبروا الإحتلال على أن يجمعوا فواتير الكهرباء… سلطة ولا كل السلطات…قاتلكم الله، كيف لو أنكم حررتم شبراً من أرض؟ لما كانت الدنيا كلها تتسع لكم…

فقال أبو خالد موجهاً كلامه لأبي عماد رغم ضحكات الجميع التي غطت عليها ضحكة الشيخ سالم:

ـ أه…ـ مهما كانوا أبطالاً في الماضي، فهذا لا يبرر أفعالهم المشينة الآن، “ياما ناس” كانوا مناضلين وخانوا يا أبا عماد، انت رجل سياسي وتعرف أكثر من أمثالي…

فقال ابو علي مجدداً، مشعلاً سيجارة “هيشي”، نافخاً دخانها بعيداً عن أبي فهمي، متجنباً كلماته: “عميت ضوي يارجل، أنفخ دخان سيجارتك بعيدا عني”، معلقاً على جماعة السلطة وجماعة الإخوان المسلمين معاً:

ـ حتى الإنتخابات المحلية حرمتمونا منها أنتم وهم..

فقال أبو عماد السياسي:

ـ نحن لا دخل لنا في الأمر، إننا إلتزمنا أمر المحكمة فقط…

قال أبو فهمي معلقاً، محاولاً إبعاد وجهه عن دخان سيجارة أبي علي:

ـ ولماذا لم تلتزموا بقرارت المحكمة عندما أمرتكم مرات، بإطلاق سراح زعيم الجبهة الشعبية الذي سلمتموه ل”ليهود”؟!!!

فقال أبو عماد مبتعداً قليلا عن كلمات أبي فهمي، محاولاً تحييدها لتفقد أهميتها ومعناها:

ـ نحن لا مصلحة لنا في تأجيل الإنتخابات، سنفوز سنفوز، ولكن الآخرين هم من ليس لديهم مصلحة…

وأشار برأسه إلى الشيخ سالم متهكماً، حين رد الشيخ سالم بشيء من العنف:

ـ “فشرت”، هذه “نطة فاتتك”، نحن كنا مَنْ سيفوز لذلك ألغيتموها…

فقال أبوفهمي من جديد:

ـ تتحدثان وكأن الناس في جيوبكما، كأن الشعب قطيع من الغنم يتبع الحمار الذي يسير أمامه “لا تؤاخذونني”، من أكد  لكما هذه النتائج الخادعة؟!!!

قال أبو خالد من جديد، وكأنه يريد تقويم الأمور:

ـ حتى لو فزتما فهذا ليس نجاح لكما بالمعنى الحقيقي للفوز، أعطوني “تلفزيوناً” وعدة صحف وعدة ملايين كي لا أقول مئات الملايين كما لديكما، وأردفوني بجهاز قمع لأسجن وأعتقل كل صاحب رأي مخالف، وأوقف تمويلكما متى شئت، وأغلق صوتكما متى أردت، تماماً كما تفعلان مع خصومكما السياسيين، لأرينكم، وأنا مجرد فرد ولست فصيلاً، كيف يكون الفوز، كلاكما، لولا صناديق المال وأجهزة القمع ما كنتما لتحققا الشيء الكثير…لكن…

وسكت قليلاً، وكأنه يريد إعلام الجميع أنه لم ينتهِ من كلامه بعد، وتابع في سياق آخر، مقترباً بفمه من أذن الحاج أبي عماد، مثيراً فضولنا، رغم أنه سأل بصوت مسموع:

ـ مَنْ ستبعث “قيادتنا المناضلة” للتعزية ب”رجل السلام” الإسرائيلي شمعون بيرس هذه المرة؟

وأطلق ضحكة مجلجلة هذه المرة أيضاً، حين أجاب أبو علي:

ـ من سيكون غير “محمد المدني” رجل التواصل مع “المجتمع الإسرائيلي”….

فقال أبو علي في ذات السياق:

ـ طبعاً ، هذا من باب الرسميات، لأن الرئيس يذهب بنفسه إذا ما أعطوه تصريح زيارة، وسيتصل بنفسه ليقوم بالواجب، أما مشروع الرئيس المقبل “الدحلان”، ربما فتح بيت عزاء في مكان إقامته، أما المدني…

فقال أبو خالد من وسط ضحكاته مقاطعاً:

ـ ماذا سيفعل الرجل ياجماعة؟ رجل “اسمه على جسمه”، يعني الشكل والمضمون واحد، إنه “المدني”، لم يقل مرة أنه العسكري لا قدر الله…

اتسعت الضحكات وتعمقت وانتشرت في فضاء القرية وفوق أسطح منازلها، وبعضها تسلل من الشبابيك المفتوحة ومن شقوق الابواب، وكانت ضحكة الشيخ سالم الشامتة أعلى الضحكات، فقال أبو فهمي هازاً برأسه موجهاً كلامه للشيخ سالم:

ـ مبسوط أنت؟ وكأن أحداً “يحك لك على جَرَب”، وكأن جماعتك أفضل بكثير؟

تنحنح الشيخ سالم وعدّل من جلسته قليلاً، عدل من وضع عمامته، ولم يحاول أن يقول شيئاً، فالمتحدث هو أبو فهمي، أكبر الرجال سناً وقدراً، كما أن هذا العجوز العتيق حمل السلاح في أكثر من وقت ليدافع عن الثورة، ومعارفه ليست من بطون الكتب داخل السجن وحسب، بل من “معمعان” الحياة التي لم ترحمه على طول عمرها، وظل رغم ذلك لا يحيد عن الحق أبداً، يقول “للأعور أنه أعور أمام عينه الباقية” و”لا يخشى في الحق لومة لائم”، وقال أبوصابر مكملاً كلام أبي فهمي:

ـ ألم تر ما يتم عندهم في القطاع المحاصر؟ صار الناس أكثر بؤساً وأكثر فقراً رغم مئات الملايين التي تصلهم، صارت الملايين في جيوب القيادات فقط، يكررون خطيئة قيادات منظمة التحرير نفسها…

ووجه حديثه مباشرة للشيخ سالم مكملاً:

ـ إنتخبكم الناس في الماضي عقاباً لقادة المنظمة الفاسدة، لقد رأوا فيكم مشروع حلمهم في التحرير، وسينبذونكم ما دمتم لا تختلفون بشيء عنهم، وعلى خطاهم المفسدة تسيرون.

قال الحاج أبو عماد معقباً وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة:

ـ أصبحت الأنفاق المتصلة بمصر ، لتهريب المخدرات وحبوب الهلوسة، وما دام التاجر يدفع لحماس فهي تحميه بدلاً من إعتقاله، والمعبر الذي يغلقه نظام مصر، لم يعد للحالات الإنسانية من مرضى وطلاب وكبار سن، بل لمن يدفع أكثر، تدفع تخرج، لا تدفع تموت منتظراً دورك الذي لن يأتي أبداً… إنكم أفضل من يحول بؤس الناس وألامهم إلى تجارة رابحة…

كان الجميع يعرف أن كلام “السياسي” صحيح رغم مآربه، وفكر الشيخ سالم الذي سمع الكثير عن حالات الفساد والإفساد الممنهج لدى جماعته، أن كلام السياسي هذا “كلام حق يراد به باطل”، وكي لا تبدأ السهام تلقى في وجهه، فكر بالسكوت كوسيلة ناجحة في الدفاع عن النفس، ف”السكوت من ذهب” في مثل هذه الحالات، لكن الحديث أيضا ببعض آيات من الذكر الحكيم ستلجم كل هؤلاء المتقولين، قال:

ـ “بسم الله الرحمن الرحيم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. صدق الله العظيم.”

لم يعرف أحد سر قول هذه الآية، لكن الرد جاء على غير توقعه، جاء من صديقه أبو أحمد الذي لم يقل شيئاً، كعادته، حتى هذه اللحظة:

ـ ما دام “الله يهدي من يشاء” ما قصة موضوع زندقتكم للناس والفصائل، التي يطرحها بعض مُفتي حماس هناك في غزة؟ لماذا لا تتركوا الأمر لرب العزة وحده؟ لماذا تدخلون “على خطه”وتحاولون إغتصاب عمله وإرادته؟ اتركوا الخلق للخالق، فتقييم الناس وتوصيفها الديني ومحاكمتها ليس شأنكم ياشيخ…

قال أبو محمد الذي ظل بنفس التوتر الذي كان عليه عندما تحدث عن آل سعود، خاصة أنه يعلم أن فتح وحماس يمولهما آل سعود بسخاء، لهذا لا يخرجا أبداً عن أوامرها:

ـ “مَنْ علمني حرفاً صرت له عبداً”، إنهم تربوا على يد وهابيوا آل سعود، الذين يتهمون بالردة ويُكفرون ويزندقون من أرادوا وكلما أرادوا ووقتما شاؤوا…

فقال أبو عماد من جديد:

ـ إنه بعض سلوكهم في قمع معارضيهم بإسم الدين…

فقال أبو صابر:

ـ يُصورون للناس أن من ينتقدهم ينتقد الدين، ويصورون أنفسهم حماة الدين…

فقال أبو فهمي ضارباً بعكازه وجه الأرض القاسي:

ـ يعني مَنْ يعادي أفكارهم هو عدو الله، وعدو الله يجب قتله أو تصفيته أو سجنه، وذلك أضعف الإيمان…

ثم صرخ غاضباً:

ـ مَنْ نصّب هؤلاء للوصاية على الدين؟ من وضعهم مكان الله؟!!!

سكتنا جميعنا أمام أسئلة أبي فهمي، ولم تعد تُسمع سوى ضربات عكازته لوجه الأرض القاسي الجاف، وسرعان ما قال:

ـ قيادة الإخوان المسلمين هؤلاء مثل قيادة شعب فلسطين التي لا تريد النزول عن ظهورنا، ينطبق عليهم المأثور الشعبي “ذنب الكلب لا يمكن أن ينعدل حتى لو وضعته في مائة قالب”، نسخة كربونية عن القيادات ذاتها، لكن بغطاء ديني هذه المرة…. ما أردت قوله أنه، بعد هزيمة حزيران سبعة وستين، “ونظر في وجوهنا ليرى أي منا قد عاصرها واعياً وليس طفلاً، وأكمل”:قال أحد أإمة الإخوان آنذاك، الشيخ محمد متولي شعراوي، أنه صلى لله شكراً لأنه نصر دولة اليهود “المؤمنة” على دولة عبد الناصر الكافرة… أرأيتم؟ أسمعتم أم أعيد؟ تماماً كما يطالب القرضاوي من أمريكا المؤمنة بضربة”للـــه” في سوريا الفاسقة الكافرة، ويستعيذ بالله ممن يفترض بوجوب حرب الصهاينة!!! ولم نسمعهم مرة واحدة في تاريخهم كله، يقولون كلمة واحدة أويقومون بفعل واحد ضد دولة رجعية، مهما فعلت ضد قضايا أمتنا، هؤلاء كانوا دائماً وأبداً معادين لأي ثورة في الوطن العربي، وها هم الآن يريدون إطفاء نقطة ضوئهم الوحيدة، “القساميون”، بأفعالهم المشينة…

أراد الحاج أبو عماد “السياسي” أن يُضيف على كلمات أبي فهمي، لكن أبو فهمي تابع ناظراً في عينيه نظرة فهمها جيداً، فكف عن محاولته، وأشار إلى الشيخ سالم بإصبع يده قائلاً لأبي عماد السياسي:

ـ هم يريدون إقناعنا أنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة، وأنهم ليسوا وكلاء الله فقط، بل أنهم الله ذاته، من خالفهم كفر، ومن عمل بعيداً عن توجيهاتهم سيتبوأ مكانه من نار جهنم، وأنتم تريدون إقناعنا، نحن القطيع، أنكم أنتم، وفقط أنتم أصحاب الحق الحصري في قيادة هذا الشعب والتحدث بإسمه، كونكم الوحيدون الذين تفهمون في السياسة ودهاليزها، وأنكم الوحيدون أصحاب الحق في التكسب من أكياس المال ـ العلف القادمة من آل سعود، لذا لا تتجرآن أنتما معاً على إدانة تدمير أوطاننا الذي يقوده آل سعود، كي لا أتحدث عن تساوقكما معه، وتعتقدان أن الوطن مختصر بكما، بأنكما الوطن والشعب والقضية… أنتما متشابهان حد التطابق، رغم كل الشعارات الفسفورية البراقة، كلاكما يرفض الآخر بطريقته، جُل القضية الوطنية بالنسبة إليكما مدى تطابقها مع مصالحكما الفئوية والشخصية، تتغنيان بها مادامت “بقرة حلوب” تشربان حليبها وتبيعان ما تبقى، حتى وإن كان حلق الشعب جاف وينتظر حتى قطرة الماء فما بالكما بالحليب؟!!! كُفَّا عن هذا العبث، كفاكما إختصاراً لشعب كامل في فصيلين إثنين، فوالله هذا الشعب أكبر منكما ومن كل الفصائل مجتمعة، ولن يكون قطيعاً مهما حاولتما، مهما دعموكما آل سعود وغير آل سعود، مهما كنتما وصرتما وستصيران… إذهبا إلى الجحيم أنتما معاً، فربما توحدتما في الطريق إلى هناك، أو عندما تقابلان “العادل”، والذي ظني، أنه لن يكون غفورا معكما، لأنه غفور رحيم في كل شيء إلّا في دم الشهداء وأنين الجرحى واليتامى والثكالى، الذي أكلتماه مالاً وبعتماه رخيصاً وشربتماه ذلاً حتى الثمالة، وما تزالان…

وقام أبو فهمي يساعده عكازه، مشى بضع خطوات إلى الأمام، توقف لحظات واستدار قائلاً:

ـ كيف كان يمكن أن يكون حالكما لو حررتما أرضاً؟ ربما كنتما ستنصبان لنا المشانق….

وأكمل طريقه دون تعليق من أحد، ظل يمشي ويهز برأسه ساخطاً، وصعد بنظره بعيداً نحو نجمة ظلت منذ سني شبابه الأولى تتألق في السماء، وكنا ننظر إليه كالبلهاء دون أن ننطق بكلمة واحدة.

أغلق أبو صابر دكانه، وتفرقنا إلى بيوتنا، تطرق رؤوسنا مطارق من كلماته، وفي تلك الليلة ظلت عيون القرية، ببيوتها وأشجارها وآبار مياهها الجافة، معلقة في تلك النجمة المتألقة الساهرة في سماء قريتنا، والتي ترفض المغادرة أو المبيت.

محمد النجار

أضف تعليق