غُلام السلطان

جلست معهم على نفس الطاولة، فكلنا، ودون استثناء، من الجيل نفسه، جيل الكهول كما تحبون، أنتم الشباب، أن تسموننا، فكما ترى، أصبحوا يحشرون الأعراس في صالة! بين أربعة جدران! ولم تعد كما كانت، طليقة حرة، تسبح في سمائها الأهازيج الشعبية من عتابا ودلعونا وميجنا، من مناداة وإستجلاب “لظريف الطول”، ولم تعد تسبح في الفضاء، لتملأ الحقول والجبال والكون كله فرحاً وقمحاً ووروداً،  واليوم كما ترى، ف”مهاهاة” النسوة تتكسر أصداؤها على حوائط الصالة، وتنهار منزلقة كحبات الندى من على أوراق الأشجار.

من الطبيعي أن أجلس مع جيلي، لنتسامر ونتحدث ونلتقي ونختلف، في وسط تلك الآلات المزعجة الصاخبة التي يسمونها بالموسيقى، موسيقى تغيب عنها الشبابة؟!!! يا لمهازل هذا الزمان!!! لكن ما العمل ولكل جيل زمانه وميوله وأفكاره وطريقة حياته؟

جلست مع أبو مصطفى، مع أبو أحمد وأبو حاتم، وخامسنا الشيخ أبو العبد، والذي رغم عدم رغبتي في مجالسته في معظم الأوقات، إلا أنني لا أظهر له شعوري هذا إلّا إذا أجبرت على ذلك، من باب الحرص على عدم جرح شعوره، أو إحراجه أمام الناس، فمعرفتي به على مدي أجيال، ما زالت تبعدني عنه وعن منْ يُمثل، فانا لا أحب تجار الدين، ولا من يضعون مصالحهم فوق كل إعتبار، ولديهم دائماً وأبداً “الغاية تبرر الوسيلة”.

كما أنني لا أهتم للأمر لولا حالة الإستعلاء التي يمارسها، أحياناً، دون وجه حق، أقصد التي قوائمها من عجين، وبالتالي يمكن أن أسميها بحالة “إستقواء مؤقت”، لأن الكذب والخداع والتملق واللعب على الحبال لن يستمر للأبد أبداً، ولهم في قيادة المنظمة ولاحقاً السلطة دليلاً عما أقول، صحيح أنهم كسبوا المال، لكنهم خسّرونا القضية كما تعلم، ومن العار أن نقع في مستنقع المال المُذلّ ذاته.

كان يمسح على لحيته البيضاء عند قدومي، يهدهدها ويدغدغها ويكاد يناجيها، كعادته، وكعادتي عندما ألتقيه، ورغم خلافنا الكبير، اُمازحه وأستفزه لأخلق جواً جميلاً بشوشاً لقعدتنا، فما بالك في جو العرس المبهج رغم موسيقاه الصاخبة الخالية من الشبابة؟!!! وأحياناً كان هو يفعل الأمر نفسه، لكن ليس بنفس النجاح التي تلاقيه كلماتي، الأمر الذي يزيد من إستفزازه وغضبه.

قلت له ما أن إحتضنني المقعد:

ـ والله لحية!!! بيضاء مثل الصفحة البيضاء، آه لو كان قلبك أبيضاً مثلها…

وضحكت لتأكيد مزاحي، حين أسند ظهره المقعد جيداً، كأنه يريد التأكد من حماية ظهره، وقال:

ـ كيفما كان فهو أكثر من قلبك بياضاً…

شعرت بنبرة الغضب بين كلماته، ورأيت الحقد يتدحرج معها، فاقتربت منه وسألت بصوت خفيض لكن مسموع من كل الجالسين:                                                                                                                       ـ أمتأكد أنت مما تقول؟

لم أكن أعلم أن سؤالي هذا سيستثيره أكثر من شتم أبيه، وسيربكه ويغضبه، وأنه سيفتح باباً للنقاش ليس العرس مكانه المثالي، قال وكان مدركاً بأن أي إجابة سيعطيها لن تقنع الجالسين، وأن تقاسيم وجهه ستخونه وتكشف أمره، لكنه رغم ذلك قال:

ـ نحن قلوبنا بيضاء دائماً والحمد لله، والله سبحانه أكرمنا في دنيانا وسيجعل مأوانا الجنة في الآخرة إنشاء الله…

عرفت أنه يستقوي علي بجماعته من خلال كلمة “نحن” التي قالها بوضوح، وشعرت أنه أخذ الحديث وسحبه إلى مكان آخر، غير الطريق الذي كان يسير فيه، عن سبق إصرار، وأنا كما تعرفني رجل مستقل عن الأحزاب جميعاً، رغم أن هذا ليس مفخرة، ورغم وجهة نظري التي تلتقي أحياناً أو تتعارض مع بعضها، فقلت:

ـ أن تكون لكم او لغيركم “الجنة” فهذا أمر لا يعلمه إلا الله، رغم شكي بأنكم ستصلونها يوماً، إلا إذا كان سبحانه قد وكلكم مكانه على الأرض كما تحاولون إفهام القطيع!!! أما هذه “الفلل” والعقارات والسيارات الفارهة، فهي من مملكة الخير، مملكة آل سعود وحارة الشيخة موزة أطال الله عمرهما، ولا أدري فربما من السلطان العثماني الجديد أيضاً، كما لدولة “الفرس الرافضية” الدور الأساس لمدكم بالمال والسلاح، نعم ذات الدولة التي تُحرِّضون عليها في المساجد وفي تعميماتكم الداخلية، وتمتدحونها، أحياناً، في العلن، في لعبتكم المنافقة الممجوجة، وليس من عند الله، فأنتم بئر بلا قعر، لا يملؤه شيئاً أبداً، وهذه على ما أظن ليست فخراً بقدر كونها نفاقاً، وهي، على كل حال، مغموسة بدماء الشهداء وأنات الجرحى وبكاء اليتامى والأرامل، كونها لم تُعطَ لكم، بغض النظر عن نوايا المتبرعين، لسواد عيونكم، بل بسبب مخططات وبرامج كل دافع إيجاباً أم سلباً.

وكان أبو حاتم قد دس عبارته بين كلماتي قائلاً:

ـ إنهم كالمقبرة لا جازاهم الله خيراً، لا يردون قادم، وفوق ذلك يشكون ويبكون…

ـ أصدقك القول أنني لم أرد أن أقول كل ذلك ولا حتى شيئاً منه، كما لم أتوقع أن لا يكون إحتجاجه إلا على السلطان العثماني، ولم أعتقد أن يكون بهذه الدرجة من الغضب، قال:

ـ لا تتحدث على دولة الإسلام!!! يُغضبكم “القائد”لأنه “الفارس الأخير” الذي يدافع عن بلاد الإسلام والمسلمين، لذلك حاولوا أمثالكم الإنقلاب عليه…

لم أتوقع جوابه هذا رغم معرفتي بوجهة نظره ونظرهم عن “السلطان”، فوجدتني أقول:

ـ لم أكن أعرف أن الدولة التركية، الدولة الأهم لحلف الناتو، وصاحبة العلاقة الأكثر تميزاً مع الكيان، والتي بها البغاء والخمور وكل الرذائل، متداولة على الملأ وبترخيص من الدولة، هي دولة إسلامكم المثالية!!! وأنه يحارب سوريا لأنها دولة الكفر والفساد والفسق والفجور، ويقيم العلاقات و يُنجز المعاهدات والتطبيع مع دولة الكيان لأنها دولة ديمقراطية، لم تحتل أرضاً ولم تقمع أو تهجر شعباً ولم تسجن أحد ولم تهدم مسجداًاًَََ!!! وأن خدمته لحلف “الناتو” هي لخدمة الإسلام وليس لخدمة المشروع الصهيو ـ أمريكي في المنطقة، لكن ماذا سأقول وأنتم لستم بأحسن منه، أما زلتم تراهنون على بلير أم كففتم بعد انكشاف أمركم؟!!!

فقال متحدثاً بإتجاه واحد، وكأنه لا يهمنه شيئاً سوى “السلطان”، الأمر الذي أثار في تساؤلات كثيرة عن زياراته المتكررة لهناك، لكن الأمر ليس شخصياً بالنسبة لي كما تعلم، قال:

ـ هذا القائد جاء عن طريق الإنتخابات الديمقراطية كما تعلم ويعلم الجميع، ومن يتجرأ على هزيمته فهناك صناديق الإقتراع وليس الإنقلابات…

فقلت وقد ذُهلت لما للأمر من أهمية عندهم:

ـ أنا بطبعي ضد الإنقلابات العسكرية كيفما كانت وأينما كانت، وبغض النظر إن كان الإنقلاب حقيقي أم مُفبرك، فهذا لا يعطي الحق لسلطانك أن يعتقل الآلاف ويفصل من العمل عشرات الآلاف ويمنع الملايين من السفر، كيف استطاع محاكمة هؤلاء في ساعات؟ ولمصلحة من يسحل القضاة والمحامين وأساتذة الجامعات من المعارضين في الشوارع؟ لكن إذا كان قد قمع التظاهرات وسجن الصحافيين والمخالفين، ودمر عشرات القرى للأكراد والعرب بدون إنقلاب، فماذا سيكون عليه الأمر مع وجود إنقلاب؟!!!

قال وقد أخذ يتصاعد الغضب داخل صدره، خاصة بعد أن تدخل أبو أحمد وأبو مصطفى وأبو حاتم في الحديث في غير صالحه:

ـ أتريد أن يرمي هؤلاء الإنقلابيون بالورود؟

قال حينها أبو مصطفى:

ـ ياشيخ أبا العبد، الأمر ليس كذلك، فكل ما هو مطلوب تقديم المتورطين للعدالة بعد أن يأخذ التحقيق مجراه…

وتابع أبو أحمد:

ـ إذا كان العسكر هم من قام بالإنقلاب، فما علاقة المعلمين والقضاة والمحامين وعاملي المؤسسات الخدمية في الدولة بالأمر؟ أقصد لماذا طالهم الأعتقال والفصل والمنع من السفر؟

فقال أبو حاتم والذي كان مجرد وجوده استفزازاً للشيخ أبو العبد:

ـ صحيح أن الإنقلاب مرفوض ياشيخ، لكن أن تُعمل دولة موازية تحكمها شركة سرية، لا يعرف أحد كيف أخذت ترخيصها ولا من أين، وتعمل تحت إمرة “السلطان”، وتأخذ تفتك بالشر دون رادع فهل ههذا مسموح في دولتك الإسلامية؟!!!

فقال الشيخ أبو العبد عندما وجد نفسه وحيداً في الدفاع عن “السلطان”:

ـ هراء… كل ما تقولونه هراء، جُل ما تبغون أن تُشوهوا سمعة “السلطان” والدولة الإسلامية التي يقود…

فقال أبو حاتم من جديد:

ـ لنأخذ الأمر بطريقة أخرى ونسأل: لماذا باعكم السلطان في سوق النخاسة الإسرائيلي وتخلى عن رفع الحصار عن غزة؟ لماذا لم يدعمكم بالسلاح والمال كما دعمتكم دولة “الفرس” التي ما زلتم تحرضون عليها قواعدكم؟ ولماذا لم تقدم لكم المكان الآمن والخبرة والصواريخ كما قدمتها لكم دولة سوريا التي تحاربون؟ أم تعتقدون أن الغزيين لا ينقصهم إلّا “شوكولاتة” السلطان وألعابه لينتصروا على دبابات “إسرائيل”؟!!!

أخذ أبو أمصطفى الكلام من فم أبي حاتم، وأضاف وكأنه يتابع ما قاله:

ـ يأخي يا شيخ أبو العبد، والله “هلكتمونا” وأنتم تقولون دولة إسلامية، وأصدقك القول أنني لم أعد أتعجب أبداً، أن أسلافكم، وعلى إ‘متداد ألف وثلاثمائة عام كاملة، لم يقدموا لنا من العدالة شيئاً يُذكر، فلو رفعتم سني الخلافة المختلف عليها أصلاً، لما بقي في ثلاثة عشر قرناً دولة إسلامية عادلة نفتخر بها سوى عامين ونصف العام عهد عمر بن عبد العزيز، وتسع شهور فقط في عهد الخليفة المهتدي، أهذا ما تريدون تطبيقه علينا؟ يا أخي “لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”.

ـ خسئتم… ألف مرة خسئتم، فوالله دولة الإسلام هي من خرّجت للعالم في العلوم كافة، علم الطب والفلك والفيزياء والفلسفة، أبو بكر الرازي وابن الهيثم والكندي وابن سينا وابن رشد والجاحظ، نسيتم ذلك أم تتناسون؟ لا والله أظنكم تتناسون!!!

وأسند ظهره المقعد من جديد، حين بدأت الضحكات تتعالى من البقية المحيطة به، وقال أبو حاتم مجدداً:

ـ ألم تُزندقهم “دولتك الإسلاميه وتكفرهم وتتهمهم بالإلحاد؟ ألم يكفروا الرازي ويحجروا على كتبه وفلسفته لعشرات السنين، وكذلك الحال مع ابن الهيثم؟ ألم يسخر الجاحظ من النقليين أمثالكم بما فيهم من نقلوا الحديث؟ ألم يدعو لسلطة العقل؟ ألم تُصادر مكتبة الكندي ويُجلد أمام الناس بأمر من الخليفة نفسه؟ ألم يُكفر ابن سينا ويُسمى ب”إمام الملحدين”؟ ألم يحرقوا كتب ابن رشد، ولولا إعادة ترجمتها عن اللاتينية لما عرفنا عنها شيئاً؟ أم أنكم كعادتكم دائماً، تشوهون الحقائق أو تقلبونها، ماهو جيد فهو لكم وما هو فاسد لا علاقة لكم به!!! إن عمود الإسلام هو العدل، أرنا أين ومتى تم تطبيقه على إمتداد من إدّعوا أنهم أقاموا دولة إسلامية…

تدخلت وقلت، وقد رأيت الذهاب بعيداً عن الموضوع قد يخلط الأمور، في محاولة للعودة لما بدأناه:

ـ أنت تتحدث عن الديمقراطية التي طالما اعتبرتموها بدعة، وأنها ليست من الإسلام في شيء، ألم يقل زعيمكم جميعاً حسن البنّا “يجب أن تكون القيادة من رجال الدين، ومن المتمرسين على القيادة مثل رؤساء العشائر!!! ولا تُعتبر الإنتخابات مقبولة إذا لم تأت بهم”!!! يعني الديمقراطية تكون فقط إذا انتخبتم من نريد!!! تفصيلاً على المقاس، ثم هل زعماء العشائر منصوص عليهم في كتاب الله؟

فقال أبو أحمد قاطعاً حبل أفكاري:

ـ أتركونا من الماضي كله، إن ما يزعجني تصريحات بعض قادة الإخوان في غزة، أنهم مع السلطان حتى لو سالت دماء شعبنا على سواحل تركيا، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة عندما تم التطبيع بين الكيان ودولة “السلطان”…

فقال أبو مصطفى وقد بدأت ابتسامة متهكمة ترتسم تحت شاربه الكثيف:

ـ مشعل يقول أن الشعب الفلسطيني الخاسر الأكبر لو نجح الإنقلاب!!!

ومسح شاربيه بإصبعين من يده، وتابع:

ـ الخاسر هو الشعب وليس حركة الإخوان المسلمين!!! أسمعتم؟ لأننا وقتها قد نخسر نتائج التطبيع مع الكيان.

وأطلق ضحكة فاجرة كادت تستجلب عيون المحتفلين، وأكملت أنا:

ـ وأكمل مشعل”يتهموننا أننا “حريم السلطان”، يشرفنا أن نكون “حريم السلطان، إذا كان السلطان هو أردوغان”…

وانتهى النقاش وسط دهشة الشيخ أبو العبد، المنطلقة من بؤبؤي عينيه اللتين اتسعتا فجأة أكبر من أن يستطيع حجبهما، وابتدأت التعليقات، وتعليقاتنا، نحن الكهول، فاجرة فاحشة في أحيان كثيرة، بل معظم الأحيان، وصارت التعليقات مصحوبة بالضحكات وبغلاف دخاني كثيف من سجائر الهيشي:

ـ والله يبدو أن السيد مشعل ياأبا العبد يعرف كيف تكون “حريم السلطان”.

ـ وربما يعرف تماماً ما يبسط “السلطان” وإلّا لما تمنى أن يكون من حريمه!!!

ـ آه والله ياعمي، إسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

ـ لنسأل مشعل أبا ياشيخ، إن كان السلطان يفضل الغلمان!!!

ـ غلام غلام لكن سعره فيه…

ـ ربما نسمع غداً أن “السلطان” أمر “أعط هذا الغلام ألف درهم ومائة ناقة”، مشيراً بإصبعه إلى السيد مشعل، لفضله في متعة السلطان…

ـ  فهمنا لماذا الألف درهم، لكن لماذا المائة ناقة ياأخ العرب؟

ـ ليجلب للسلطان على سناماتها غلماناً جدداً من الفصيلة ذاتها، يعني قافلة متوجهة للباب العالي …

واستمرت التعليقات منهمرة كجدول ماء من سطح جبل، ولم يلحظ مغادرة الشيخ أبو العبد الطاولة سوى أبو حاتم الذي ناداه بأعلى صوته قائلاً:

ـ إلى أين يا أبا العبد؟ القافلة لم تصل بعد، لماذا كل هذه العجالة؟!!!…

فما كان من أبي العبد إلا أن عاد فوراً إلى مكانه، وأخذ يبتسم أمام ضحكاتنا، وقال:

ـ كفى لعنكم الله، كفى قاتلكم الله…

واتسعت ابتسامة فمه واقترب من وسط الطاولة ليسمع الجميع سؤاله، وقال:

ـ بربكم هل صحيح ما نقلتموه على لسان السيد مشعل؟

هز بعضنا رأسه بالإيجاب، لكن أحداً لم يقل شيئاً، خاصة بعد ان هدأ كل شيء فجأة، وأخذت تنسكب في آذاننا صوت شبابة يأتي متماوجاً في سماء الصالة، وقام بعض الشبان والصبايا بكوفياتهم وهندياتهم وأثوابهن الشعبية يدبكون، ويدقون صدر الأرض بأقدامهم الواثقة، على أنغام الدلعونا….. حينها أدركت أن أعراس الصالات أيضاً، لم تكن بذاك السوء الذي تصورته.

محمد النجار

أضف تعليق