“لم يبتلع الذئب يوسف”…

جاءت تلك المرأة العجوز إلى بيتنا في المخيم، جادّة في البحث عن أمي، إمرأة لا تعرفها أمي ولا هي تعرف أمي، كمن يبحث عن إبرة في كوم قش، لكنها وجدتها، ووجدتنا هناك معها، نحن أولادها كلهم وأنا آخر العنقود، حيث تجاوز عمري الثلاثة عشر ربيعاً. كانت، لما وجدتنا، وكأنها فُتحت لها أبواب السماء في ليلة القدر، تحمل في قبضة يديها كيساً بداخله شيء يشبه “ماسورة البندقية”، كما أكد والدي، وتحمل على وجهها بشائر نصر.                                                                *        *        *                                                                     حصلت القصة منذ وقت طويل، منذ ما كنت أزال في بطن أمي، قبل أن يتفقا، أمي وأبي، على أن يعطياني نفس الإسم، يوسف، كي لا يموت يوسف الذي ، على الأغلب، أكله الذئب، حصلت القصة آنئذ ولم تنتهِ كما ظن الجميع، إلّا أمي، التي كانت لديها دائماً هواجسها، تماماً كما لهذه المرأة الغريبة التي بحثت عنّا أياماً وأياماً ولم تيأس أو تكل أو تمل أبداً…                                                                                                          كان أخي يوسف في مثل عمري الآن، يعني لو لم “يبتلعه الذئب”، لكان في السادسة والعشرين، وكان رابع أخوتي، وكانوا ست أطفال ذكور وثلاث إناث، كما نحن الآن ست أطفال ذكور وثلاث إناث، والفرق بينه وبيني، أن أخواتي البنات فقط هن من سبقنه في القدوم إلى الحياة، وخلفه كل إخوتي الذكور، ولما “ابتلع الذئب أخي يوسف” وجئت أنا، يوسف الجديد، كان كل إخوتي من إناث وذكور أمامي.                                            كانت العائلة أيام أخي يوسف قبل أن “يبتلعه الذئب” وبعد ذلك، تعاني من كثرة العدد ومن الجوع، مثل كل عائلات مخيمنا أو معظمها، وكانت كفَّتي والدي وعضلاته لا تستطيع جلب ما يكفي من طعام لكل هذه الأفواه، وكون يوسف، أخي الذي “ابتلعه الذئب”، أكبر أفراد إخوتي الذكور، كان لا بد أن يشحن عضلاته وينزل بها الى السوق، ليساعد أبي في جلب ما ينقص من طعام لهذه الأفواه، وكون المدينة تنضح بأبناء المخيمات الذين يحتلون كل مواقف سيارات المدينة وأسواقها وسوق خضارها، كان لا بد ليوسف للبحث عن مكان وإيجاده، ليقتطع منه بضعة أرغفة كل يوم،                                                                                                                 نسيت أن أخبركم، أن أخي يوسف الذي ظن الجميع أن الذئب قد أكله، لم يكن يستطيع أن يزاحم العمال في سوق “العمل” كما قال والدي، بسبب قصور عضلاته وصغر سنه، لذلك صنعوا منه تاجراً، أو بالأصح كما أوضحت أمي، بائعاً متجولاً، وبما أن المخيم كله كما المخيمات الأخرى، يمتلئ حتى الثمالة بالباعة المتجولين، من باعة البوظة إلى الحاملة إلى الهريسة والنمورة، وأشياء أخرى كثيرة غيرها لا تخطر إلّا على بال جائع، فقد اجتهدت أمي أن تصنع منه  بائع “ترمس” جوال، وهذا ما تم.                                                                            كان أخي يوسف، يحمل بضاعته ويسري قبل مجيء الشمس، وينادي لجلب زبائن لها متمشياً في الأسواق ومحطات الباصات، في طرق المدينة وعلى أبواب مقاهيها، لكنه يوماً لم يستطع أن يجد ما يكفي من الزبائن لبيع كل بضاعته، فكان يعود بها الى البيت غاضباً باكياً مهموماً مهزوماً مكسوراً، وتتكرر الأيام والمحاولات الفاشلة، ما يجعل بضاعته  تفسد أو تكاد، خاصة في فصل الصيف الذي كان يشوي رأس أخي يوسف ووجهه بحراراته، فما بالكم بالبضاعة التي كان أخي يوسف، الذي ظننا أن الذئب قد أكله، يحملها داخل كيس خيش بداخله كيس من النايلون؟!!! فكانت تتحول تلك البضاعة الفاسدة أو التي في طريقها القريب من ذلك، إلى طعام لإخوتي وأخواتي، ويكون أخي يوسف “وكأنك يا بو زيد ما غزيت”، كما أكدت أمي ومراراً.                                             واستمر الحال مع اخي يوسف على هذا النحو وهذا المنوال، حتى جاء يوم، كان التعب والحر قد أخذ من أخي يوسف مأخذه، وكان أخي يوسف يشعر بدوار شديد وكأنه “دوار بحر” لم يره أخي يوسف يوماً، نادى أخي يوسف على بضاعته أمام باصٍ قد وصل لتوه من إحدى القرى البعيدة، دلل عليها، لكن أحداً لم يطلب من بضاعته المخفية داخل الكيسين شيئاً، إشتد الحنق داخل أخي يوسف، وكانت في حلقه غصة، وتنازعت دموعه متسابقة للوصول إلى خديه المحروقين، ولم يدر لا كيف ولا لماذا صعد حينها أخي يوسف الى الباص،  من بابه الخلفي لما نزل منه الركاب جميعاً، رمى نفسه على أحد الكراسي الفارغة، وضع أخي يوسف كيس ترمسه على فخذيه وأسند الكرسي رأسه، ونام أخي يوسف، نـــــــــــــــــــــــام ونـــــــــــــــــام ونــــــــــــــــــــــام أخي يوسف الذي إعتقدنا أن الذئب قد أكله.                                                                          إستيقظ أخي يوسف بعد ما يقرب من الساعتين، ليجد نفسه في مكان لا يعرفه ولم يصله قبل اليوم أبداً. أردت القول أنه لم يستيقظ بل أيقظه السائق الذي وصل إلى محطته الأخيرة، في تلك القرية البعيدة، ونزل الركاب جميعاٌ ولم ينزل أخي يوسف، ولما رأى أخي يوسف نفسه غريباً في مكان بعيد غريب لم يعرفه من قبل، أخذ أخي يوسف يبكي، كان يبكي لأنه كان صغيراً ووجد نفسه وحيداً في مكان لا يعرفه، وصارت تسيل دموعه المالحة على خديه المحروقين فتزيد آلامه، لكنه لم يحس بتلك الآلام، بل بآلام أخرى غيرها، قالت أمي، أن أخي يوسف الذي كنا نظن أن الذئب أكله، كان يحس بآلام الغربة والبعد والمتاهة، هذ الآلاام التي لا مُنْجٍ منها سوى أن تضع قدمك على طريق العودة، فقط عندما ترى أن قدميك يحملنك راجعاً الى ذات المكان الذي منه أقتلعت، وهز أبي رأسه عندما قالت أمي ذلك، وأضافت، وحينها تتضاءل وتذوب كل الآلام الأخرى مهما عظمت حدتها، وازدادت حركات رأس أبي موافقاً لما قالته أمي كما لم يفعل من قبل، وقال السائق لأخي يوسف الذي كنا نظن أن الذئب أكله:                                                                                                                        ـ لا تخف ما زال هناك متسعٍ لباصات أخرى لتعود، مادمت تعرف طريقك وهدفك ستعود حتماً…                        طبطب السائق الشاب على كتفي أخي يوسف عندما حادثه، وكلماته إقتلعت بعض الخوف الذي ركب جسد أخي يوسف، الذي فكر أنه ما دام هناك متسع من الوقت ليعود، فلماذا لا يُجرب بيع بضاعته في هذا المكان البعيد عن باعة المدينة المنتشرين في كل زاوية، واستطاب أخي يوسف الفكرة، وأخذ ينادي مروجاً لبضاعته من بين دموع عينية النازفة، وكانت تلك المرأة على مقربة من دموعه الجارية، كانت متوجهة إلى بيتها قادمة من مكان ما، ولا يعرف أحداً ولا حتى أخي يوسف ولا أمي نفسها، أأشفقت عليه تلك المرأة؟ أو أحبته كون أولادها سافروا إلى بلاد غريبة ولم ترَ أحفادها منذ سنوات؟ أم أرادت أن تفعل خيراً فقط؟لا أحد يعلم، لكنها أخذته معها، أطعمته وأسقته واشترت الكثير من بضاعته، ثم نادت جاراتها ليشترين من بضاعته، ولأول مرة يحس أخي يوسف الذي ظننا أن الذئب قد أكله، بهذا الوزن الخفيف لكيس”الترمس” الذي يبيع منه، وتجرأ أكثر وصار ينادي على بقية بضاعته في طريق عودته الى الباص، وكان الناس يوقفون ويشترون منه، وما تبقى من بضاعته أنفقها جميعها في محطة باص القرية البعيدة.                                                                                                       لمّا رأى أخي يوسف أنه باع كل بضاعته، طوى كيسيه ووضعهما تحت إبطه، وغامر مشترياً حبة من “الأسكمو”، رخيصة السعر، ليزيل حرارة الشمس وخوف اليوم اللذان إندلقا دفعة واحدة في جسده قبل ساعات من تلك اللحظة، وأخذ يمتص ثلجها حتى أتى على آخرها، وقد ركب الباص الأخير المتوجه نحو مخيمنا، ولما كان أخي يوسف الذي ظننا أن الذئب قد أكله، يمتص ما علق على العود من بقايا حبة “الأسكمو”، حطت في رأسه فكرة أن يغير مكان عمله، وأن يأتي يومياً ومن الصباح الباكر إلى هذه القرية وما حولها من قرى مجاورة ليبيع بضاعته.   وهكذا كان، وصار نادراً أن يرجع أخي يوسف ببضاعته إلى البيت، ويوماً بعد آخر صار أخي يوسف ينزل من الباص في أول الطريق المؤدي الى مجموعة القرى تلك، ويمشي منادياً مروّجاً  لبضاعته، ثم يأخذ يحث خطاه داخل أزقة القرية وطرقاتها، وسرعان ما يصل للقرية الثانية والثالثة حتى ينتهي من بضاعته ثم يعود ليركب الباص راجعاً، وكانت تلك المرأة الغريبة تناديه كلما رأته، تطعمه وتسقيه وتشتري من بضاعته في كل مرة تراه، وكانت أمي تدعو لها كلما حدثها أخي يوسف عنها، تدعو لإمرأة لم ترها ولم تعرفها، ولا تعرف لها إسماً أو لقبا ولا حتى دينا أو مذهباً، وكانت تقول أن الله أعلم بما في القلوب، وأن لهذه المرأة قلب ملائكة وحنان آلهة، وأن الله، حتى لو لم تُسمها، يعرف من المقصود بدعواتها تلك، وكان أخي يوسف الذي ظننا أنه أكله الذئب، يفرح كثيراً عندما كانت أمي تدعو لتلك المرأة القاطنة في مكان بعيد.                                                                                  وظل أخي يوسف يقوم بالشيء نفسه، حتى عندما كانت تغيب هذه المرأة ويقول الناس أنها سافرت الى مكان بعيد، كن جاراتها يشترين من أخي يوسف ويطعمنه، وكأنهن ينفذن رغبة تلك المرأة حتى في غيابها، وكان يتخطى خجله ويجالسهن ويأكل من طعامهن، لكنه كان قد تعلق بتلك المرأة الغريبةبشكل خاص، وقال الكثيرون أنه كان يناديها دائماً يا”أمي”، لكن أخي يوسف لم يقل هذا السر الذي إحتفظ به لنفسه ولا مرة واحدة لأمي، وأظنه كان متخوفاً بأن تغضب كونه “أشرك” معها في أمومته أحداً، ولو كنت مكان أخي يوسف الذي ظننا أن الذئب أكله، لفعلت الأمر نفسه، لكن أمي أكدت لاحقاً لتلك المرأة الغريبة أنها لن تزعل أبدا، أكدت بلسانها وبحفنة دموع أيضا، وصدقتها تلك المرأة التي أتت من مكان بعيد، حاملة بيدها كيساً، به شيء في قبضتها مثل ماسورة البندقية.                                                                                                                        وقالت المرأة الغريبة الآتية من مكان بعيد، عندما وصلت لبيتنا ومخيمنا، أنها كانت مسافرة عندما جاء أخي يوسف، في مشواره الأخير في ذلك اليوم، لقريتهم، لكنه ـ ربما ـ لم ينجح في بيع كل بضاعته، رغم أنه دخل طرقات وأزقة كل القرى في المحيط، كما أكد من رأوه وسمعوه، ولا تدري هي لماذا، لكنها تعرف أن الأرزاق بيد الله، ربما كون القرى في ذلك اليوم قد هاجمها الجيش والمستوطنون، الذين يداهمونها بين فينة وأخرى ليستولوا على الأرض ويقتلوا الناس والزيتون، ويقول الجيران أن يوسف ربما يكون قد تأخر عن الباص الأخير الذي غادر القرية، وربما ـ قال البعض الآخر ـ أن يوسف قرر بطريقة الأطفال أن يمشي الطريق مشياً على قدميه ليصل إلى بيته في المخيم، معتقداً أن المسافة التي يقطعها الباص يمكنه قطعها بنفس الوقت، غير مدرك لصعوبة العودة، التي تحتاج إلى جهود وتحضير وتدبير وصبر وعمل، كما تحتاج إلى قطعة سلاح في يدك، لتتجنب خطر الذئاب وغدر الضباع، عندما يداهمك الليل الحالك، ويغرق بموجاته الشجر والبشر والصخر والحجر في تلك الأودية والجبال. أما يوسف، فلم يدرك أن للعودة متطلبات، فمشى عائداً دون سلاح،  وفي الطريق بين الجبال، مكمن الذئاب والضباع المتربصة، والتي، ربما،  إنقض أحدها على جسد يوسف الغض وافترسه.                                                 لكن تلك المرأة الغريبة لم تصدق ذلك الأمر يوما، وقالت أن الذئاب الحقيقية تترك خلفها أثراً، بقية عظام أو ملابس أو حتى كيس الترمس الذي كان يحمله يوسف على كتفيه، وأكدت أنها لم تصدق، أن ذئباً حقيقياً يمكنه إخفاء كل أثر بعد أكل فريسته، يوماً، وأنها تفاجأت حين عودتها من السفر وسألت عن يوسف، أن الكثيرين ممن رأوه إعتقدوا أنه عاد إلى بيته، ولما لم يعد على مدى أيام عدة قالوا ربما لم يرد أن يعود، ولما طالت عودته وكتبت الصحف عن إختفاء طفل، ظنوا أن الذئب ابتلع يوسف، ولكنني، قالت المرأة التي أتت من مكان بعيد، لم أصدق يوماً أن الذئب قد ابتلعه، ولم أرد أن آتي لأفتش المواجع عليكم، لكني لم يهدأ لي بال حتى علمت الحقيقة….                      ـ الحقيقة؟!!!                                                                                                                        ـ نعم الحقيقة، هذا ما قلته، الحقيقة التي ظهرت منذ أيام، الحقيقة التي تؤكد أن الذئاب الحقيقية ترأف بالأطفال، وأن “يوسف لم يبتلعه الذئب” أبداً…..                                                                                كانت المرأة تتحدث بثقة، وكأن الحقيقة في قبضة يدها الممسكة بعنق الكيس، وكانت تتحدث مبتهجة مسرورة، دموعها تجري مع تجاعيد وجهه، لكنها فرحة، وأكملت متوجهة بالحديث لأمي وكأنها الوحيدة التي تفهمها وتقدر ما تقول:                                                                                                                                  ـ توجهنا بالأمس لتنظيف أحد آبار القرية القديمة، والذي حرمونا من إستخدامه، فمياهنا حولوها لمستوطناتهم، لكننا لن نقبل الأمر أكثر من ذلك، حتى لو إعتقلوا القرية كلها، وما أن وطأت أقدام الشباب قعر البئر، حتى وجدوا كومة عظام ورصاصة في الجمجة، وكيسي “ترمس” يوسف.                                                             وفتحت تلك المرأة الكيس الذي في قبضتها، وأخرجت من هناك كيسي الترمس، وعظمة ساق رفيعة بطول ساقي أنا، كانت تقبض على أعلى عنقها مثلما تقبض على بندقية، وقدمتها إلى أمي، وقالت:                        ـ هذه ليست إلا عظام شهيد، أنظري جيداً، إنها عظام “إبننا”الشهيد يوسف، أطلقي الزغاريد يا أم يوسف إنه شهيد، زغردي، لم يبتلع الذئب يوسف… إنه شهيد….زغردي… زغردي…. إنها عظام الشهيد يوسف…             امتزجت الدموع بزغاريد أمي، ولم تعترض أمي على كلمة “إبننا”، بل أخذت ترددها بدورها، وصرن أخواتي يزغردن ويبكين فرحاً، وكان والدي مثل المشدوه الذي لا يعرف ماذا يقول، كان صمته أعلى من صوت مؤذن مسجدنا، وصوت تلك المرأة الآتية من مكان بعيد يقول:                                        ـ ما دام الله أكرمه بالشهادة، وأوصله لهذه المنزلة، يتوجب علينا الإحتفال به، زفته زفة العريس في يوم عرسه، قم يا ولد هات الحلوى لنحتفل…                                                                                                                      وضعت في يدي شيئاً من المال، وأخذت تزغرد من جديد وتقول بين زغرودة وأخرى:                                       ـ  لم يبتلع الذئب يوسف… وما يوسف إلا شهيداً…                                                                                                                            *          *            *                                                      ظلت الزغاريد تتعالى في بيتنا الضيق، حيث إجتمع المخيم كله فيه وحواليه، وكنت أشرح لأهل مخيمنا عن أخي يوسف الذي كنا نظن أنه أكله الذئب…                                                                                         ـ ماذا؟ لماذا أظل أردد كلمة “أخي يوسف”؟ أعرف أنكم تعرفون أنه أخي، لكن هل تعرفون ماذا يعني أن تكون أخاً لشهيد؟!!!                                                                                                                                                                                                                 محمد النجار

أضف تعليق