ـ 1 ـ
ظل السجن كما كان منذ قرون، سجن كبير تملؤه أقفاص الحساسين، مغلقة بقضبان حديدية من السقف العالي، مثبتة في الحوائط من أربع زواياها، أقفاص صغيرة لا تتسع لأكثر من حسونين إلى ثلاثة حساسين، وبعضها فقط، لأصحاب الأحكام العالية، لأكثر من ذلك، حول كل قفص أسلاك شائكة كثيرة، فتبدو مثل لفات “تِبن”أو “قشٍ” هائلة لا يكاد يدخلها الهواء، لتُرغم من فيه على عدم التواصل مع الأقفاص الأخرى، فتواصل الحساسين والبلابل واليمام، وكافة أنواع طيور المنطقة خطير على الأمن العام للببغاوات في كافة أرجاء المنطقة، ويتجاوزها إلى الغربان والبوم في المحيط كله وربما أبعد من ذلك بكثير. يحيط السجن أبراج عالية، يقف في كل زاوية منه برجاً منها، يتجاوز طوله حوائط السجن، مثل عملاق يجاوره قزم، فيكشف ما في داخل السجن، ويطل على شوارعه المحاذية، كما ويدور فوق سطح السجن المربع، جنود الغربان والبوم، يُكثِّفون أنظارهم من خلال سقف الأسلاك الشائكة، ليراقبوا ساحات السجن و”فورة” حساسينة القابعة فيه، موجهين فوهات بنادقهم إلى كل ما يتحرك، ويثير الريبة، داخله.
ومنذ قدوم البوم والغربان، إلى بلاد الحساسين الواسعة، مدعوة من ببغاوات المنطقة ومرحب بها، إزداد عدد السجون وارتفعت حوائطها، والشيء الوحيد الذي تم تشييده في طول البلاد وعرضها هو السجون، سواء كان ذلك في مناطق الببغاوات منفردة أو في مناطق البوم، أو في مناطقهم المشتركة، المدعومة من الغربان فُرادى ومجتمعة. فتم تحويل معظم المدارس الى سجون، وكذلك الكثير من المشافي، وفي الكثير من الأحيان كانت تتم الإحتفالات بتشييدها كما لم يُحتفل بأي شيء آخر، وفي أحيانٍ كثيرة، كان يتم إقتلاع الأشجار وهدم المتنزهات، ليرتفع مكانها السجون العالية، المكتوب على بابها: ” العصا لمن عصا” وتحتها عبارة أخرى مكتوبة بحروف مذهَّبة واضحة، وأكثر إتساعاً من العبارة التي سبقتها: ” لا تعصي ملكك، فتنال ذل الدنيا وعذاب الآخرة…فطاعة الملوك من طاعة الله”. وكان يتناوب الحراسه الغربان منذ طلوع الفجر حتى غياب شمس النهار، والبوم منذ غياب الشمس حتى ظهور شعاعات الفجر الأولى، كون قبائل الغربان تميزت بقوة الرؤى في النهار، وقبائل البوم تميزت بها ليلاً.
مازالت قبائل الغربان والبوم تتناوب حراستهم، والحسون الأب والأم وثالثهما حسونهما الصغير داخل القفص، يراقبون الوقت الذي يمر ببطء شديد ثقيل، لم يره أي منهم في حياته قط، فحياة السجن لا تشبهها حياة، وحالة من شبه الصمت تكاد تملأ عليهم القفص كله، لولا بعض أطراف الحديث الذي يتجاذبه أحدهم مع الآخر بين حين وحين. منذ أن تم اصطيادهم ثم حبسهم، وبعد أن زرعوا الرعب في صدور أفواج بقية الحساسين وأدموها بمناقيرهم الجارحة، وهجّروا معظمها من على أراضيها، منذ ذلك الوقت لم يعد يعرف الحسون الزوج كم من الوقت قد مر عليهم، وهم قابعون بؤساء غير قادرين على فعل شيء يذكر، غير بضع رسائل مُهربة من سجنه إلى رفاق الخارج، يساعدهم فيها في رسم بعض برامج وتفاصيل عمل، جراء تجربة طويلة في عمل سري مضني أمضاه في غارب السنين، وها هو حسونه الصغير يكبر أمام عينيه، ويقف ومعه زوجته على أبواب طريق الشيخوخة، المتجهة حتماً إلى الموت، وتمر عليه لحظات يكاد ييأس من كل شيء، لولا تلك الإرادة الصلبة التي طالما امتلكتها الحساسين والبلابل والدوري والكناري وطائر الكروان واليمام والحمام، رغم كل ما مر بها من مآسي داخل أوطانها نفسها، متصدين لها بأجسادها الهزيلة.
نبع الذكريات المتفجر في عروقه يظل يسقي عقله بأحاديث الأجداد، تلك الأحاديث التي تشرَّبها عن كل شيء، عن الحياة والعمل والعشوش والأشجار والأمل، وها هو يسقيها لإبنه الحسون الصغير، منذ أن نقر بطن البيضة بمنقاره الهش ليُفتتها ويخرج للحياة، فوجد نفسه في سجن يحرمه من الحركة أو التنفس أو حتى الطيران، ليعرفها ويحفظها عن ظهر قلب، فالحسون الأب نفسه لم يعد يعرف بالضبط من أين له كل هذه الثقة على مغادرة القفص، والعودة الى الأشجار والطرقات وحياة البراري وفضاء الحرية، وهو لا يمتلك شيئاً سوى إرادة لم تهزمها سنوات السجن ولم تُلغها ثقافة الذل والخنوع، التي تحاول ترويجها قبائل الغربان والبوم وأبواق الببغاوات في كامل السهل ومساحات الأشجار، وربما كان دور حثّ رفيقة عمره له، على التشبث بهذه الإرادة، التي سوف تكسر قوة السجان وعيدان الأقفاص القاسية وأسلاكها، الدور الفصل في ذلك، والتي لا يعرف لا كيف ولا من أين تتسلح بها وتأتي، ولا كيف تعطيها كل هذا الزخم والصلابة والعنفوان، وبجانبها وصايا الأجداد، من تجارب الحساسين والبلابل والحمام واليمام وبقية أصناف الطيور المقيمة في كافة أرجاء المنطقة، فوق مساحات الأشجا المنتشرة وعلى مساحات الأرض القريبة والبعيدة، وفهمه وهضمه لتلك التجارب.
يتذكر الآن عندما إلتقاها للمرة الأولى، كانت تطير في سرب غير سربه، لفت انتباهها بتغريده المميز والمستمر مع بقية الذكور، كي يحافظ غلى السرب ولا تتوه الحساسين وتتفرق،خاصة الصغبرة منها، والتحق بسربه سربها، فكما يقول المثل”الموت مع الجماعة رحمة”، فما بالك بالحياة مع الجماعة؟!!! ورآها هو في ذات اللحظة التي تداخلت بها حساسين السربين، وكانت ما تزال طائرة راكبة موجات الهواء وتتمايل مع نسماته، تحلق فاردة أجنحتها عائمة بجسدها فوق موجات الهواء، وريش جناحيها كشعر ناعم أملس يشاكس الهواء ويتمنع أمام محاولات اقتحاماته المتتالية، وريشات ذيلها تنفرد وتتكاثف وتتتحرك ذات اليمين وذات الشمال لتساعدها في تغيير اتجاه حركتها المتكرر، وجسدها المنساب الملون يحمله الجناحان، ويقتحم جموع الهواء كفارس مقدام يعتلي صهوة حصان جامح لم ينفض عن جسده غبار المعركة بعد، شاقاً صفوف جيش الأعداء متقدما بحد السيف، رأى سهام عينيها السوداء المحاطة بدائرتين ذهبيين، فأضحت مثل هدف داخل دائرة تقتحم عليه نشاطه وتربك ألحان تغريده، لكنه تمالك نفسه ولم يستسلم لحالة الإرباك هذه، وافتعل أنها بحركاتها تلك تريد أن تحييه، وما عليه بالتالي إلّا رد “التحية” بمثلها بل بأحسن منها، مطلقاً العنان لدقات قلبه لتكمل لحن غنائه، وفي تلك اللحظة التي حط السربان على مجموعة من أشجار الفاكهة وبضع أشجار صبار، وشجيرات أشواك من أشواك “إكليل المسيح”،وقبل أن يُكمل رقصاته، ذهبت هي لتلك الشجيرات، شجيرات “إكليل المسيح”الشائكة على وجه التحديد، وكأنها تلمح له بأن الحياة بجانبها لن تكون سهلة، وأن عليه التفكير قبل أن يبدأ مغامرته معها، فحلاوة الحياة بقربها لن تخلو من المرارة ، وأن الراحة بين رويشاتها تمر عبر تذليل الصعاب، فهي تماماً مثل الشجيرات الشائكة هذه، لا تأخذ بذور طعامك منها دون آلام شوكها، وكادت تستحضر له ماقاله أمير الشعراء،الشاعر الحكيم أبي الطيب المتنبي الذي قال:
“تريدين” لقيان المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل
لكنها عدلت، رمت نفسها في حضن موجة هواء هادئة، وتركت له أن يفهم الأمر وحده، قبل أن تتوقف وسط أشواك “إكليل المسيح”، لتلقط بذوراً من بذورها وتبتلعها، حتى إذا حام حولها فارداً أجنحته، مبرزاً ألوان جسده مزهواً بها الى درجة الغرور ربما، حيث رفع رأسه واشرأب بعنقه عالياً ليظهر عليهما اللون الأبيض والأسود والأحمر القاني، فارداً جناحيه لترى كيف يغطيهما اللون البني الفاتح والأصفر اللامع ، وعليهما الأسود الليلي المرسوم كأنه بيديي خطاط مُحترف، وتمتد الألوان ليغطي بهما ريشات ظهره، وسرعان ما تقلب أمامها على موجة هواء حارة أشعلتها الشمس بروية منذ اختفى الصباح، ليريها اللون الأبيض الصافي كأشعة فجر هذا اليوم وقطرات نداه، قبل أن تذيبها شمس الصباح وتذهب، الأبيض المحاذي لللون الفاتح من البني والمجاور له، المتطاول على طول بطنه والذي عمّق البياض في بياض أبيضه بياضاً.
في هذه اللحظة بالذات، قفزت لتظهر له أنها ليست أقل منه ألواناً ونشاطاً وحيوية وجمالاً بالتأكيد وحُسناً، وأن أنوثتها الشابة المتفلتة، طاغيةفوق ذلك كله، تزيد جمالها جمالاً، وألوان ريشها بريقاً وجذباً، وتكاد ـ لو تركت العنان لنفسهاـ أن توصلها إلى درجة الغرور.
وحلّقت قليلاً في الهواء وتمايلت عل أجنحتة، وحطت على شجرة صبار، وتبعها هو أيضاً، طار حواليها، تبعها دون أن يقطع حبل طيرانها ولا وجهته، ووقف على “كوز” صبار آخراً مقابلها، وغردت قليلاً، وغرد هو أكثر، وتقافزت طائرة في الهواء، وتقافز خلفها، وسرعان ما ارتفع عالياً في السماء، وبمنقاره كان يشق الهواء ويرتفع مثل صقر، ثم توقف فجأة، توقف في مكانه، وكأنه معلق مشنوق يتدلى في الهواء دون حبل، وأخذ يغرد ويغرد ويغرد، وأطلق العنان لقلبه وحنجرته فأخرجتا ألواناً من الألحان والأنغام لم يعرفها معشر الحساسين من قبل، ودقات قلبه تكمل اللحن وتدق وتدق وتدق، عازفة ألحاناً لم يسبق له أن تصور أن جسده يضمها ويحويها، ثم غير اتجاه حركته، بإنقلاب فريد في الهواء، فأصبح الرأس المتسلح بمنقار صغير في الأسفل والذيل في الأعلى، ثم ضم الجناحين وأرجعهما لمكانهما حول جسده الفتي، ممدداً رجليه إلى الخلف لتصل إلى منتصف ذيله، وانطلق كالسهم من ذلك العلو، تحت شهقات عجائز الحساسين اللواتي إعتقدن أنه فعلاً “من الحب ما قتل”، ووصفته الببغاوات المجاورة بالمغامر، لكنه لم يُصغِ لكلام أحد، خاصة الببغاوات، لأنه كان يدرك في صميم نفسه أن الببغاوات لا تتكلم، لا تعرف أن تتحدث رغم إفتعالها ذلك، لكنها تردد فقط ما يقوله الآخرون، وكاد يقول ما قاله سيد الشعراء أبو الطيب المتنبي ذاته، رداً على إتهامه بالمغامر:
إذا غامرت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
وقال في قريرة نفسة:” وهل هناك أعظم من الحب ليموت، إن كان سيموت، من أجله؟!!!” وهوى بجسده مثل نسر جارح إلى شجرة الفاكهة حيث كانت من على غصنها تنظر إليه، إنقض وكأنه نسر على فريسة، حتى إذا وصل على مقربة منها تقدم برجليه إلى الأمام متزلجاً بهما على صدر موجات الهواء، مخففاً من سرعته حتى توقف تماماً في بطن موجة هوائية حارة، مطلقاً العنان لجناحيه لتتراقص متحركة للأعلى والأسفل، حركات قصيرة سريعة متسارعة، دون أن يتوقف عن التغريد، مزغرداً زغروداتٍ طويلة متعالية، تتطاول وتتمدد وتتوسع وتتعالى، وهو يهز رأسه يميناً وشمالاً فارداً عضلات جناحيه، وكاشفاً عن قوة جسده وفتوته، وأكثر من تودده لها راقصاً قافزاً عارضاً مهاراته في الهواء، ثم تقافز من لوح صبار إلى آخر غير عابئ بالشوك الإبري الذي يملئ الشجيرات .
وابتسمت هي، واقتربت منه بكامل حسنها، بجمال ريشها المنفوش وألوانه الصافية، بجسدها الذي ما تزال تؤرجحه وتتراقص به أمام عينيه، وسكبت كل أنوثتها من طرف عينها ،دفعة واحدة، في قلب عينيه، وابتسمت من جديد، فارتبكت دقات قلبه وتلعثمت ابتساماته، فازداد لون ريشات عنقه الأحمر ورأسه إحمراراً، بعد أن تدفق لون دم شرايينه فوقها واندلق، ولم يعد، أي منهما، يحس بوجود الحساسين الأخرى حواليه، ولا بالبلابل والحمام والدوري واليمام، ولا الكناري وطائر الكروان، ولا حتى بطائر الفر ، القادم من هجرته مقيماً على شواطئ البحر، خصيصاً، باحثاً عن مصدر هذه الألحان. وعاد وارتفع عالياً في عين الشمس، وارتفعت هي أيضاً لملاقاته، وتقابلا تحت ظلال غيمتين ممتلئتين ظهرتا فجأة ،على غير توقع، في المكان، ونظرا الى عيون بعضهما، وشاهدا سنابل القمح وزهور الأقحوان في أقاصي كل بؤبؤة، وسرعان ما ارتفعت دقات القلب، كأنها تقف على أبواب الإنفجار، رغم أن هذه الأجساد الفتية ربما لا تحتمل مثل هذا الإنفجار، أطلقا ألحانهما من جديد، ورغم عنف صوت دق القلب الكبير، كانت تتفتح أزهاراً وشمساً وربيعاً وظلالاً، لعلاقة حب بين حسونين جميلين، أسرتهما لحظة عشق ستبقى فارقة في حياتهما، وأخذت الطيور تبتسم، وتتقافز فرحاً وطرباً، وصار هو يذهب ليلتقط حبات بذور ليطعمها ويسرق قُبلة، مدللاً على بذرة حب أخذت تتنامى وتكبر وتتفتح بسرعة مدهشة مع توالي الأيام.
لم يمر طويل وقت حتى قررا الزواج، وتشكل وفد من أهل الحسون الذكر ليطلب يد الحسون الأنثى، ترأس الوفد أكبر أعضاء الحساسين سناً، وتبرع الحساسين بالهدايا والطعام ليظهروا لعائلة الحسون العروس مدى جديتهم واهتمامهم بموضوع هذا الزواج، وكذلك ليظهروا كرمهم وتكاثفهم ووحدتهم أيضاً، وليبينوا لبقية الطيور، إيمانهم بما وصل اليه تطور الحسانين، على مدى تاريخهم كله، بوحدانية الزواج، وبعمق قناعتهم بالمساواة بين الذكور والإناث، وبجدية “إبنهم”في طلبه ومسعاه، وقالوا:
ـ مِثْلُنا لا “يمزح” في مثل هذه الأمور الجادة، وحسوننا والحمد لله قليلة أمثاله، سواء في النشاط في طلب الرزق أو الشجاعة أو في مواجهة الصعاب، ومجيؤنا لحد بابكم تقدير واعتراف لقيمتكم ومكانتكم أيضاً، وحسونكم الأنثى ستكون محل تقدير العائلة كلها، ونرجوا أن لا تردوننا خائبين.
فقالت عائلة الحسون الأنثى، رادة ومتجاوبةً مع كلمات أهل الحسون الذكر:
ـ نحن نتشرف بكم ونقدر قدومكم، وطائركم أظهر شجاعة مميزة، من خلال العرض الذي قدمه أمام الطيور جميعها، وليس أمام عوائل طائر الحسون فقط، ولقد رأيناه جميعاً في لاحق الأيام أيضاً مظهراً حبه وعشقه، رأيناه وهو يجلب لها بضع حبات من بذور الأشواك ويضعه في فمها، مظهراً لها حبه، ورأيناه وهو يغرد مغنياً بأهازيج الحساسين ومواويلها، وكي لا نكون متواضعين فقط، بل نرى الأشياء والأمور كما هي، فللحق فإبنتنا أيضاً لا تقل عن إبنكم، فهي قابلته التغريد بالتغريد، والحب بالحب، والجمال والشباب والحيوية بمثلها.
فقال كبير الوفد الضيف مؤكداً:
ـ صدقت، وتأكيدي هذا ليس من باب المجاملة، فكلنا راى ما رأيت، ولا مجال هنا لقول ما ينفي ما رأته العيون. فقالت أم الحسون الأنثى من باب التباهي:
ـ ولا تنسوا أيضاً أننا في داخل عائلتنا، نمتاز والحمدلله، بالصبر والتحمل والمثابرة مثل بقية الحساسين وكافة طيور المنطقة في البلاد كلها، وفوق ذلك كله بالخصوبة، نعم الخصوبة، انظروا بأنفسكم وسترون أن أناثينا قادرة على خلق الحياة مرة أو مرتين في نفس العام، كما أنها تستمر تعمل رغم رقودها على البيض، وتدافع عن عشوشها جناحاً بجناح وقوائم بقوائم مع ذكورها، ولم تعتد على تركهم في النائبات وصعوبات الزمن وغدره. لذلك لا ينطبق علينا قول الشاعر:
ما أكثر الأصدقاء حين تعدهم لكنهم في النائبات قليل
فنحن والحمدلله تجدنا أول ما تجدنا حاضرين جاهزين، عندما تعز الطيور ويتفرق شملها في أيام الشدة، عندما تصير للمواقف أثمان وتضحي الكلمات مِخرزاً والأفعال سيوفا، تجدنا في لحظات الحقيقة حاملين لواءها، لا يوقفنا عن مناصرة الحق لومة لائم.
وطال الحديث، وتعارفوا وتحاوروا وتضاحكوا وتمازحوا ، وشربوا المياه وأكلوا الثمار، واتفقوا على تفاصيل الأحتفال بعقد القران لهذين الحسونسن الشابين، وابتدأ الجميع بالتحضير للإحتفال.
وجاء الموعد، وكانت الدعوات قد وجهت الى جميع الحساسين والطيور المُسالمة في المنطقة، من خلال التغاريد المنتشرة من حناجر الحساسين الشابة المتنقلة في كافة الأرجاء، فأقبلت الحساسين من كافة أماكن تواجدها، جاءت من أعشاشها في المتنزهات العامة، من الحدائق، من البساتين والأراضي الزراعية، من المقالع الحجرية والكروم وأشجار الصبار، جاءت حاملة للأزهار وورود الحدائق، محملة ببذور الأشجار وببعض الحبوب التي تكفي لأطعام الضيوف المحتفلين جميعاً، كما وحضرت وفود عديدة من بقية أنواع الطيور الأخرى وأشكالها المختلفة، وكانت المفاجأة كبيرة عندما جاءت الحساسين الأقارب من المتنزهات والصخاري المجاورة، ومن على مناطق “شرق المتوسط وجنوبه أيضا”، كما من مناطق عديدة مجاورة، للمباركة والمشاركة بهذه الفرحة وهذا الإحتفال. ورقصوا وغنوا مغردين وكان الغناء يكمل بعضه بعضاً، ورغم بعد المسافات التي أتى منها المحتفلين، إلا أنه لم يكن بينهم أي صوت نشاز، قد يُشوّه صوت ألحان الغناء المنساب جدولاً جميلاً متتابعاً، الذي ملأ الأجواء فرحاً وحباً وابتسامٍاتٍ وحياة.
وقبل أن تنتهي الإحتفالات كان الحسونان العروسين قد توجها الى شجرة فاكهة مثمرة، حيث ينتظرهما عشاً مؤقتاً لقضاء شهر العسل، حيث أمضيا أجمل الأوقات، فازداد حبهما حباً، وحياتهما قرباً، وتغريدهما تداخلاً وجمالا وتكاملاً، وكانت تلك اللحظات هي التي وضعت اللبنة الأولى لحياة مشتركة صلبة لا يمكن هدم أسوارها القوية. وما أن انتهى شهر عسلهما، حتى عادا ليبنيا عشهما منقاراً بجانب منقار وجناحاً بجناح مع بعضهما البعض، وعادت تغريداتهما تتوالى وتتعالى، منبهة بقية حساسين المنطقة بأن هناك بيتاً جديداً سوف يُبنى، وأن عائلة جديدة تتشكل، ومن الواجب على الجميع الحفاظ غلى “حق الجيرة”، وبدلاً من أن يُقال”كوم حجار ولا هالجار” فقد سألا هما عن “الجار قبل الدار” ، فجاءتهما المساندة والمساعدة والترحيب والتبريك، مؤكدين لهما أن حق الجيرة لديهم هو حق لا يُناقش، كونه حق مقدس.
ـ 2 ـ
إنه يتذكر الآن بعض ما تم بعد عرسهما في تلك الأيام، وهذا ما ظل يشرحه لإبنه الحسون الصغير بالتفصيل، منذ تلك اللحظة التي بدأت تتشكل مجموعات بين الحساسين الذكور، يملؤها الحقد والتعصب وعمى البصيرة، مجموعات مدفوعة من طيور صحراوية مجاورة، متحالفة مع “الغربان والبوم”، استعار بعضها ألوان الحساسين، واستُجلبت الببغاوات من أماكن بعيدة، لتوهم جهلاء الحساسين أنها من جلدتها، مُستغلين تشابه ألوانها مع ألوان الحساسين، ولم يُدرك الكثير من الحساسين، أن “القطة المتربصة ليس من أجل جمال أصواتهم، بل من أجل لحومهم”، لكن مع ذلك، وكي لا “تدفن الحساسين رؤوسها كالنعامة في التراب”، فلا بد للتنويه أن قوي البصيرة لا يعوزه كثير ذكاء ليدرك أن تغريد تلك الطيور، كان تغريداً شاذاً، وألوانها باهتة ونظراتها حاقدة، لكن ما جعل بعضها ينخدع، كونها ركبت موجة سذاجة بعض الحساسين لتنتشر داخل مجتمعها وتحاول تصحيره، وما دام هناك سُذج، فالنتيجة بشكل أو بآخر نوع من المأساة، لأنه “ما دام في السماء نسوراً هائمة، فهناك على الأرض جثث هامدة”، فالسذاجة و”عمى الألوان”، وتراكم الأخطاء لبعض قادة الحساسين، جعلت من عامة الحساسين تساهم، دون وعي أو إدراك، بتسريع ما يُخطط لها ويحاك، وانطبق عليها المأثور الشعبي “دجاجة حفرت على رأسها عفرت”، واتبعت في البدء ما رددته الببغاوات من أقوال دون وعي، ولاحقاً ما خططته أسراب البوم والغراب، و”من يتبع البوم لن يصل إلّا للخراب”.
رمت الكثير من الحساسين بصيرتها من أعالي السماء إلى وديان سحيقة، ولم تلحظ أن هذه الطيور تأكل دون أن تُنتج أو تتعب، وتجلس معظم أوقاتها تدعو وتستغفر، وكأن معشر الحساسين لم تفعل سوى الموبيقات في حياتها، وبدأت تبني المعابد المعتمة من الحجارة الثمينة، ولا أحد يعلم من أين أتت وبأي أموال ولا كيف أتوا بها، لكن ما لفت الإنتباه أن معظم الداعين في هذه المعابد كانوا من اللصوص وقطاع الطرق، لكن الحساسين قابلتهم بالقول الساذج القائل” سبحان مُغير الأحوال، ليس بكثير على الله هدايتهم”، فصارت اللصوص من علية القوم وأئمة معابده وكهنوته، وبدأوا يُغدقون الأموال على “نُخب” الحساسين وقادتها وعلمائها ومعلميها، وما أن قويت شوكتهم قليلاً حتى بدأوا يحاولون فرض قوانين لم تعرفها الحساسين، فأخذوا يُفرّقون بين ذكور الحساسين وإناثهم، ثم حرّموا عمل الأنثى ومشاركتها في بناء العشوش وفي إحضار الطعام، ولمّا رأوا أن بعض الأناث إستحسن الراحة وسمعن أقوالهم، قالوا أن الأنثى تنقصها القوة والعضلات للعمل، كما ينقصها العقل للتفكير والتجريد، والحساسين التي لم تُعطِ وزناً في بداية الأمر، ولم تدقق في داعميهم وعلاقاتهم وانتماءاتهم، وجدت نفسها في معركة داخلية، تحاول فيه الطيور الوافدة تحييد نصف مجتمع الحساسين، من خلال زج إناثه في أعشاشها وتحريم خروجها، وأن “أحد جناحيها” قد يُقطع من أُصوله بمثل هذه القوانين .
وكما يقول المأثور الشعبي، “إن أول الرقص حجلان”، فقد إبتدأ الأمر بتحريم ظهور ألوان ريشات الحساسين الإناث، على الذكور من الحساسين في أول الأمر، ثم على ذكور”الطير من كل جنس”، ثم تحريم رؤيتها من ذكور قبائل الحيوان!!!، ولم يمر طويل وقت حتى حرّمت صوت تغريد إناث الحساسين واعتبرته “عورة” يحاسب عليه الإله يوم الحساب، وتحاسب عليه القوانين في الدنيا، وتم تحريم ظهور مناقيرها وعيونها، وأوصت بتغطية رؤوسها والإقلال من خروجها، وإن اضطرت فعليها أن تغض من بصرها وتحني رؤوسها، وبدا إنحناء الرؤوس يجد له طريقاً عند بعض الحساسين، وصار مألوف رؤية طوابيراً من الحساسين طائرة محنية الرؤوس بعد أن كانت رؤوسهم مرفوعة دوماً وتعانق السماء.
وأمام رفض معظم إناث الحساسين للقوانين الجديدة التي استهدفتهن، سرعان ما أخذت القيادة الجديدة وتحالفاتها من البوم والغربان وببغاوات المنطقة، بتُجميع قمامات البيض الفاسد، ورجم من لم يلتزمن بإرشاداتها وقوانينها، في المتنزهات والطرقات والأسواق، وحتى في أعشاشها على الأشجار، ثم تغادر هاربة كي لا يراها أحد.
إزدادت مطالب التحالف الجديد في بلاد الحساسين الواسعة، وتم تحويل ما سبق الى قوانين يُمنع تجاوزها، ويعاقب عليها، وبدأت القوانين تزداد بإضطراد، فتم تحريم ألوان الحساسين الذكور، لأن سلف الحساسين لم يكونوا ذووا ألوان كما زعموا، وأن الإبقاء على الألوان عند الذكور ليس إلّا تشبهاً بالإناث، فصارت الكثير من ذكور الحساسين تصبغ ريشها باللون الأسود. ولم يمر طويل وقت حتى إلتحق بهم جهلة الحساسين ومنبوذيهم، كذلك إنتهازييهم ومنتفعيهم، وكل الكسالى الذين لم يعملوا يوماً في حياتهم، كما ومن تغيَّب وعيهم أيضاً.
بعد أن سبغوا ريشهم وتوشحوا بالسواد فوق سواد ريشهم، أخذوا يحملون مخالب الحيوانات الكاسرة ومناقيرهم الحادة، وبدأوا بمحاولة فرض ألوان ريشهم الأسود على بقية الحساسين، معتبرين أنها قوانيناً إلهية صالحة لكل زمان ومكان، وأنها أيضاً من قوانين الحساسين المتوارثة، المتناسبة مع عصور الحساسين ومناخات بلادهم على مر العصور، وأن ما تم إلغاءه من قوانين، كونها ليس لها مصداقية ولاقداسة لأنها قوانين وضعية، وصاروا يرجمون الإناث الرافضة للتخلي عن ألوان ريشها بالحجارة، وأحيانا بقص بضع ريشات من ريشهن المفرود متباهيات بألوانه، ويطيرون مختبئون بين أسراب الحساسين الأخرى، وما فتئوا أن تبنوا رسمياً قوانين الببغاوات والغربان التي دعمتهم بالعلف والمخالب والمناقير الحادة، ليفرضوا قوانينهم على كافة معشر الحساسين، وصار مألوفاً رؤية هذه الطيور الكاسرة في سماء بلاد الحساسين وأراضيها، وصار هذا التحالف مكشوف ودون مواربة.
وابتدأت هموم الحساسين ومشاكلها تتزايد، وأخذت تقسمهم حالات الجدل وتوسع الهوة بينهم، فصارت تتباين آراؤهم، وتحتد أكثر ساحات نقاشاتهم، وبدأوا ينقسمون إلى فئات حسب اللون والنوع والجنس والإنتماء للمعبد، ما أدّى لإضعاف قوتهم وتراجع مكانتهم، بين أمم الحساسين المختلفة والطيور عموماً، وازدادت المحرمات أكثر وأكثر داخل مجتمعاتهم، فقدسوا القدم اليمين على الشمال، والعين اليمين على العين الشمال، والجناح اليمين على الشمال، وصار الذيل الأسود فخراً، فربوا ذيولهم وصبغوها بالسواد، وكحل ذكورهم العيون، وسرعان ما إعتلى السلطات أصحاب الأذناب الطويلة، وكلما إزداد ذنب الحسون طولاً كلما علا قدراً، وبدأت ظاهرة التزاوج بين كهول الحساسين المقتدره مع إناثه القاصرات، وابتدأت ظاهرة تعدد الزوجات، وصاروا يُحرمون الرسوم والتغريد والغناء والدوح، ويحللون ويحرّضون على الحزن والبكاء، وأباحوا شراء أناثي الحساسين للذكور الغنية المقتدرة، وأحلوا العقاب للمخالفين في الرأي بدل الحوار والإقناع، وكلما ازدادوا تحريماً للاشياء، كلما إزدادت صداقتهم ودعمهم أكثر وأكثر مع قبائل الغربان والبوم، وكذلك من ببغاوات الشجر والحجر وصحاري المنطقة.
ولم يتوقف باب التحريم يوماً، بل إزداد وتعمق، فصار الفصل بين طيور المنطقة كلها، فصل على أساس نوعها ولونها و حجمها و مساحة صوتها وشكل تغريدها، عدا عن شكلها وجنسها وماهية طعاما، وابتدأوا بتحريض كل نوع على آخر، فخلقوا عدواً وهمياً لكل نوع وحجم ولون، فصار صديق الأمس عدو اليوم، وأخ الأمس ورفيقه ألد عداوة لما سيأتي من أيام، ولم يعد يتحدث إلّا القليلون عن العدو الحقيقي من غربان وبوم وببغاوات ولابسي السواد.
وكي يكتمل المشهد ويبدأ مسلسل الإقتتال بين طيور الحساسين، وبينها وبين الطيور الأخرى، ابتدأ طائر الغراب وطائر البوم وأدواتهما، بسياسة التجهيل ومسح التاريخ، فقاموا بحرق المكتبات العامة وكل ما تحويه من كتب، حيث أكدوا أن الأمية هي الطريق الأكيد إلى الجنة، على قاعدة” ما أنا بقارئ”؟!!! فالجهل المقرون بالإيمان خير من العلم والفهم المقرون بالكفر، فمقياس حسنات وسيئات الحسون لن تكون بالتعليم أو الشهادات.
كما تم تحريم الطبابة “لأن الأعمار بيد الله”، والعلاج ليس إلّا شكلاً من أشكال التدخل بما حدده الله من أعمار الطيور في اللوح المحفوظ، وتم إغلاق المسارح ودور السينما، وصارت الكتابة جريمة قد توصل صاحبها لحبل المشنقة، وتم تحريم الرسم والتصوير، وصار نحت “الأصنام” من أعظم الكبائر وأكثرها كلفة.
وتم تقليص الإحتفالات والأعياد، حيث الأعياد تستوجب الفرح، والفرح يخلق التفاؤل، الأمر الذي “لا يُرضي الله ولا ملائكته ولا كهنة المعابد”، وبالتأكيد لن يرضي معشر البوم والغربان. فتم تحريم عيد الأم، كون الأم أنثى، وهي ناقصة عضل وعقل، ولأن الله لو أراد لها عيداً لأنزل لها نصاً، وهذا ليس على الله بكثير، كما تم وقف العمل بعيد الربيع، فلا يعقل الإحتفال بالربيع بحفنة ورود متخفية مطاردة لم تصلها أيديهم بعد، وببضعة أشجار ظلت مستعصية على الموت بجذور متمسكة بالصخور، وتم تحريم عيد الحب، لأن الحب بدعة وضعية لا تتناسب ونصوص المعابد ولا توجيهات كهنتها، ولا يُعقل أن يكون هناك حب في مجتمع متعدد متنوع وبألوان وأنواع مختلفة وُجدت لتكره وتفرق لا لتحب وتجمع، أما عيد رأس السنة فهذا فحش لا يمكن الحديث فيه أو عنه، خاصة أن من يحتفل به هم الفاسقون والزنادقة فقط من قبائل بعض أنواع الطيور المشركة أو المرتدة.
لذلك لن تكون هناك أعياد غير الأعياد الإلهية، ويكون الإحتفال بها بلبس السواد وبلطم الخدود والغم وبتنكيس الأعلام، وبإنتشار حلقات الإستغفار والتوبة والصلوات والتعبد، ليقبل الله من كامل مملكة الطيور توبتها، كطريق أكيد للوصول الى الفردوس، حيث هناك، وفقط هناك، الفرح والمرح والشجر والمطر والماء والورد والبحر والنهر والسهر والخمر والحب والعشق، وليس فى هذه الأرض الفانية.
وصار طائر الغراب والبوم يصول ويجول في البلاد، وصار يحفر تحت الأشجار لتجف وتسقط، ونقل جذورها الى مناطقه وبلاده، وتدريجياً أخذت مساحة الظلال في بلاد الحساسين تتقلص وتتناقص، ولهيب الشمس لا يجد من يصده ويتصدى له. وتم نهب أعشاش الحساسين وأثاثها، وتكسير بيوض عائلاتها الرافضة لما يدور، وصاروا ينهبون المياه ويُحولون مجراها، ومنعوا حفر الآبار وإعادة زراعة الأشجار، وقتلوا الحب ومنعوا المطر وقطفوا الورود و حملوها على أجنحة أسرابهم إلى بلدانهم البعيدة، تحت أعين الببغاوات في وضح النهار.
ومع اختفاء الزهور وجفاف الشجر، ابتدأوا بالمجازر لتهجير طيور الحساسين،فهجروا عائلات كاملة من الطيور، وقتلوا ولاحقوا، واستجلبوا العربات الكبيره لدهس جرحاها، وعيون الغربان والبوم لملاحقة الحساسين الطائرة وتمزيقها بمناقيرها ومخالبها، فصار الحزن يتعمق في النفوس، ويتجذر الغضب والنكد، وصارت الطيور تتفشش ببعضها البعض، فتقلصت مساحة العلاقات، وصار الحسون الأخ يكره أخيه، والحسون الأب يتشكك بإبنه، وأصبح “الخل الوفي” من عجائب الدنيا التي بالكاد توجد في عالم الحساسين الجديد، ولم يعد قلب أخ عل أخ، ولا صديق على صديق ولا قلب جارٍ على جار، وصار شعار”اللهم نفسي” يتفشى وينتشر بين الحساسين، وتمدد الشؤم في البلاد طولا وعرضاً، وصار التفائل من نوادر الحياة.
سنوات عديدة مرت على ذلك، فاكتشف الحسون الأب أنه تم تغيير قبلتهم، فصارت في منتصف الجانب الغربي، وأنهم أصبحوا يعبدون إلهاً غير الإله الذي عبدوه، وأن هذا الإله الجديد إله لا يعرف الرحمة بصغير أو أنثى أو حسون كهل، كما أنه لا رأفة لديه بطير أو حيوان، وأن جل همه تمزيق مملكة الحساسين، وتفريق حساسينها وتمزيقها إلى فئات متصارعة متحاربة، لنقل خيرات مملكتها الى تلك البلاد البعيدة التي ظلت عالة على خيرات طيور الأرض وحيواناتها.
ظل الحسون الأب يتذكر أحداث عمره وعائلته، ويتقاسم شرح الأمر لإبنه مع زوجته القابعة معه خلف القضبان، موضحَين له تاريخ “آل حسون” كما هو، إيجاباً وسلباً، وظلت الحسون الأم تكرر دائماً وأبداً، أن تزوير التاريخ لن يخدم بناء المستقبل، وأن شعب الحساسين الممتد في كافة الأنحاء، لن يخدمه سوى فتح الماضي بكل وضوح، ونقد كل سيئاته، كما استخلاص العبر من دروسه، فقالت لإبنها، ممسكة طرف الكلام من حنجرة زوجها:
ـ أمام كل ما حدث، رفض أبوك أن يظل جالساً “منتظراً الفرج”، وقرر أن لا يُبقي منقاره مغلقاً وحنجرته صامتة، كما رفض أن تُقص جناحيه وتُكتف رجليه، فالوقت كان قد صار ثميناً كما لم يكن من قبل، والزمن الذي يمر تسيل منه الدماء، ويهرب معه مستقبل أمة الحساسين جميعها، وقرر أن يعمل ، مهما كان هذا العمل بسيطاً، لكنه أفضل من السكون والسكوت والبكاء على أطلال بلاد الحساسين، “ففي الحركة بركة”كما يقولون، وعلى قاعدة “أن البعوضة تُدمي مقلة الأسد”، فصار يذهب في منتصف الليالي، يسقي ما تبقى من زهور وورود وبقايا أشجار لم يقتلعوها بعد، بمنقاره الصغير، وصار يحاول إخفاء الكتب عن عيونهم، ينقلها إلى مُغُر الجبال وكهوفها، وبدأ بالتحريض بكل ما في حنجرته من قوة على الأعداء كلهم، غرباء ومحليين، وصار يطبع البيانات ويكتب على ألواح الصبار وورق الدوالي محرضاً عليهم، ومن أغصان الزيتون بدأ بصناعة السهام، وصار بمساعدة حساسين المحاجر ، يُخزِّن الحجارة ليحارب بها أعداءنا، وانضم إليه أخوتك أول الأمر، أخوتك الذين لم ترهم أبداً بحكم ولادتك في هذا السجن اللعين، ثم أبناء الجيران، وبدأت تتشكل الزنود التي ترفض ذل قبيلتي الغربان والبوم، كما ترفض خداع الببغاوات وتحريضاتها التي حاولت تقسيم الحساسين ونجحت الى حدٍ بعيد، متعاونة مع حساسين باعت نفسها وضمائرها بأبخس الأثمان… المال.
وظل ينشر والدك خارطة بلاد الحساسين، ويحتفظ بمفاتيح قلاعها، يطبعها ويعلقها على الأشجار المثمرة والمحاجر والمتنزهات ، التي حولوها خراباً، وعلى شجيرات “إكليل المسيح الشائكة”، وأصبح ينظم مجموعات الحساسين في مجموعات صغيرة لئلا يتم إكتشافها، فشكل مجموعات لإعادة قراءة التاريخ كما هو، ومجموعات أخرى لنشره وشرحه، وشكل مجموعات للكتابة على ألواح أشجار الصبار وأوراق التين، ومنشورات على ورق الدوالي يسهل إخفاؤها وحملها وتوزيعها، كما شكل مجموعات لسقاية الزهور كي لا تفنى وتموت وتندثر، ويندثر معها الحب والصفاء والبسمة والتفاؤل، وفوق ذلك كله شكل مجموعات الحجارة والسهام، لأنه “لا يفل الحديد سوى الحديد” يابني، ونحن بأجنحتنا الصغيرة من الصعب أن نقاومهم، فكان لا بد من مواجهة مخالبهم الحادة ومناقيرهم المعكوفة القاطعة، بسلاح ما، اهتدينا إليه من واقعنا، سهام من خشب أغصان أشجار الزيتون، وحجارة من حجارة محاجرنا. وقدرني الله أن أضم جناحي إلى جناحي أبيك وأساعده بقدر إستطاعتي.
إن من أهم ما قمنا به يابني، الإتصال بحساسينا التي أجبروهها على النزوح والهجرة، ونشرنا التفاؤل رغم كل السواد الليلي الذي نشروه وما زالوا ينشرونه حتى الآن، فنحن أمة “بني حسون”، لسنا من الطيور المهاجرة التي لا وطن لها، أو التي تُبدل أوطانها في كل موسم وفصل، فلم نغادره يوماً إذا ما قسى علينا، بل كلما قسى علينا بطبيعته كلما تمسّكنا به أكثر وتكيفنا مع ظروفه، وكلما إزددنا حناناً نحوه، وإذا ما غادرناه قسراً زدنا له شوقاً وعشقاً، وإزدادت مشاعرنا للقائه لهفة، نحن أمة مستقرة ثابتة عاملة منذ آلااف السنين، لا نتخلى عن متنزهاتنا أو أشجارنا أو مقالعنا ، ولا عن بحرنا وجبالنا وسهولنا، فصحارينا نحبها كما سهولنا، ومياه بحرنا المالحة مثل أنهارنا وجداولنا العذبة، ونحب بعضنا وأهلنا وجيراننا، وعندما تحين لحظة الحقيقة تجدنا في الصفوف الأمامية للذود عنها كما نفعل الآن.
وكما ذكرت لك قمنا بنشر التفاؤل ورسمنا اللوحات بكل الألوان، وصار اللون الأسود مثل أي لون آخر لا ميزة له، وزرعنا ما أستطعنا من ورود، وصارت، من جديد، وردة شقائق النعمان بلونه الأحمر تملأ الحقول، وكذلك النرجس والسوسن وعصاة الراعي والأقحوان والطيّون والجوري والزعفران والزنبق، حتى ملأنا السهول ألواناً وعطراً، وصرنا نؤلف النكات ونكتب المسرح البيتي والأدب الساخر، وكتبنا الرواية والمقال والقصة الطويلة والقصيرة، وجمعنا شعرنا وزجلنا، وثقناه وكتبناه، كذلك ووثقنا أهازيجنا وتراثنا وقصصنا الشعبية وحكاياتنا، كما وثقنا جرائمهم وقتلهم اليومي “لأمة بني حسون”، وأساليبهم الخادعة المخادعة في تحقيقات زنازين سجونهم مع شباب الحساسين، وكذلك استخدمنا الحيوان في أدبنا كي نضللهم أكبر قدر ممكن.
لكن كما هناك حساسين تقدم دماءها من أجل قضيتها وانعتاق حساسينها، فهناك يابني أيضا حساسين تبيع قضيتها ودماء حساسينها، والفرق بينهما هو ما يحمله الصف الأول من عزة وكرامة يفتقدها الصف الثاني، ورغم أن الصف الآخر يمكن أن يخدعك حيناً لكنه لن يستطيع خداعك طيلة الأوقات جميعها، لذلك عملت عيون الغربان والبوم وتابعيهم من ببغاوات وحساسين خائنة، في الرقابة ومتابعة من يقوم بنشر ثقافة الحياة على ثقافة الموت ويُفشل مخططاتهم، واستطاعوا كشف أبوك وكشفي، ولحسن حظنا كنا حريصين في حركة طيراننا، نحوم لنكتشف آلية الحركة على أبواب عشنا، وصرنا نُموه أشكالنا والواننا، ولا نجلس في مكان واحد أكثر مما يجب، كما أكثرنا من المبيت بعيداً عن عشنا، وأصبحت حركتنا للضرورات، وصار جل إهتمامنا بإستمرار مواجهة كل أعداء بني حسون، وصار عملنا سري وبعيد عن الأعين الخائنة، حتى أن أخوتك الصغار أودعناهم لدى أجدادك حتى يكتمل نموهم وتقسى ريشات أجنحتهم، لتستطيع حملهم فوق موجات الهواء.
وسكتت الحسون الأم قليلاً، وطارت من مكانها إلى قضيب حديدي من قضبان سجنهم، وكأنها ملت وقوفها في ذات المكان، وأكملت من جديد:
ـ كنا حريصين على التمويه عند الإقتراب من عُشّنا كما شرحت لك، وذات يومٍ، والمساء قد دلق ظلمته فوق الأشجار، لم نستطع أن ندقق كما العادة، لكن هاجساً قد تملكني في تلك اللحظات، هاجس يكاد يحملني ويرمي بي خارج العش، وللأنثى حواسها التي لا تُخطئ أبداً، قد تضل أحياناً، أو تنحرف، لكنها لا تخطئ، قلت لأبيك:
ـ أنا غير مرتاحة لهذه الليلة، قلبي يقبضني وكأنني على مرجل يغلي، ينقبض وينفرج ويدق بعنف متوتر غاضب. وقمت واقفة معلقة جناحي اليمين على ريشات جناحه الشمال، وكنا لا نترك ما يُثير الشكوك في أماكن تواجدنا المكشوفة، بما في ذلك عشنا نفسه، الأمر الذي سرع في حركتنا، وكمنا لرقابة ما حول العش قبل خروجنا، ثم تقافزنا من باب سري خلفي للعش، كنا قد فتحناه لظروف الطوارئ، على غصن قريب، وتوقفنا من جديد، ثم قفزنا حول عش لزوج حساسين هرم كان على مسافة أمتار من مكاننا الأول، وتقافزنا إلى شجرة أخرى وثالثة ورابعة، واعتلينا قمة الشجرة الكثيفة، بحيث لا يهرب عشنا من بيابي عيوننا، وما هي إلّا لحظات، حتى كان العش محاصراً من كل الجوانب، وأنوار صفراء تغطي الشجرة برمتها، وغرابين وأربع بومات يداهمون العش ويقتحمونه، يحطمون جدران العش، ينزعون بابه ويلقون به الى أسفل الشجرة، ثم ينتزعون كامل فراشه ويمزقونه، بقدر الحقد الذي كان يملأُ قلوبهم، وانتهت المداهمة، أو كما قال الشاعر “أحمد فؤاد نجم” “وانتهى التفتيش مفيش”، ورأينا طائر البوم وطائر غراب يتركون البقية، ثم يركبون موجة هواء ويتوجهان لشجرة قريبة، يلتقط كل منهما جناحاً لطائر حسون خائن دلهم على “عشنا”، القيا به في عشنا سائلين:
ـ لقد أكدت لنا مجيئهما ووجودهما، أيمكن أن تخبرنا أين هم؟
فقال وريشات ذيله الطويل ترتعش، ووسط حالة من الذهول والإستغراب والخوف:
ـ أقسم أنني رأيتهما هنا ولم تفارق عيني العش أبداً…
ـ ماذا قلتً؟ أتقسم؟!!! أنسيت أيها الوغد أننا من علمناكم الضحك على ذقون الأغبياء من بوابة الدين؟ أم أنك صدقت الكذب وآمنت به؟!!! حسابك ليس الآن على أية حال أيها التافه…
ونقراه عدة نقرات في جناحيه وظهره، وأمرا حراستهما بأن يسجنوه شهراً عقاباً له، ليتعلم كيف يكون دقيقاً ومعلوماته أكيدة.
ومنذ تلك اللحظة أصبحنا نتعامل مع أنفسنا كمطاردين رسمياً، وما عدنا ننام في العش الذي بنيناه بأيدينا، وصارت حياتنا أصعب وأصعب، لكن عزاءنا أننا نعمل من أجل معشر الحساسين.
لكن مثل هذا العمل يتطلب الحركة، وكلما زادت الحركة زادت الأخطار، وقررنا سوياً عدم السكون، والغوص في البحر حتى بره الآمن، لأن:
“مَنْ لا يُحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر”
ونحن سنصعد الجبال مهما كان إرتفاعها وعلوها، حتى لو تقطعت أجنحتنا وتمزقت ريشاتنا، سنصعد الجبال ونصعد ونصعد، ولن نظل في الأودية الواطئة وحفرها، تحت أقدام الطيور الخائنة الخائبة، ولا الحيوانات الضالة التائهة.
ـ 3 ـ
ـ لكن، إن كنت تريد أن تكون متفرجاً، فعليك أن تُهيء نفسك لتدفع الثمن، فالحياد في زمن الشدة جبن، والتفرج على الدماء النازفة، جريمة، ورؤية الوطن يتحطم أمام عينيك، وأنت تتشبث بالذرائع ولا تفعل شيئاً، خيانة، ونحن لم نكن يوماً جبناء أو مجرمين أو خونة، صحيح أن ما فعلناه بالمقارنة مع من قدموا الدماء بسيط وقليل، لكن “الصرارة تسند الصخرة” يابُني أيضاً.
قالت الحسون الأم شارحة لإبنها، وكأنها حفظت قصيدة عن ظهر قلب، وتلقيها متخلصة من عبئ ثقيلٍ ظلت تحمله منذ سنوات وسنوات، وتابعت من جديد:
ـ إستمر حالنا كمطاردين سنوات، الأمر الذي جعلنا نعتاد الأمر رغم صعوبته، لكن كما قالوا “مَنْ لا يعمل لا يُخطئ”، وكان خطؤنا سبباً في وضعنا الذي تراه الآن، حيث عملنا مع الكثير من الحساسين في مرحلة المطاردة، وكانت مهمة بعضهم تأمين الملاذ الآمن لنا لنستطيع الإستمرار في عطائنا، ولم نكن نعرف الكثير عمّن يعمل معنا غير أنهم مؤتمنون، وكان آخرهم حسوناً يمتاز بالصوت العالي، تراه يسبح في الفضاء مثل صقر، غناؤه ذكرنا بالأيام الخوالي التي تميزت بالأهازيج الشعبية والمواويل، وكان يبدو أنه من أشد الحساسين تحمساً للعمل، لكنه لا يريد العمل إلّا في أصعب الأعمال، نقل السهام المصنوعة من أغصان الزيتون وحجارة المقاليع، الأمر الذي جعلنا نتأنى كوننا لا نعرفه كما ينبغي، أو كوننا لا نعرف عنه لكثير، وبدأنا نستفسر من الذين بعثوا به لمساعدتنا، لكنهم لم يكونوا يعرفون عنه أكثر مما نعرف، فآثرنا التريث والتروي، وصرنا نسوق الحجج كي نحجب عنه الرؤى، ونبعده عن مكامن أسرارنا، ولما يأس من الأمر ومنا، واعتقد أننا لا نعرف شيئاً عما يريد، لجأ للخيار الآخر.
جاْءنا يوماً مع بدايات الظلام، على ورقة شجرة خروب تحاذي كرم زيتون، قريباً من مكان إعتاد رؤيتنا به، وعلى غير العادة تأخرنا قليلاً قبل أن نغادر إلى المبيت، كان يلهث لهاثاً متعباً وكأن أحداً كان يطارده، ولحظنا قدومه في غير موعد أو إتفاق، فقررنا المبيت في بطن الجبل على أن نذهب لبيتنا السري، وازدادت شكوكنا وقررنا الحذر أكثر، لكنه فاجأنا وقال:
ـ هيا أيها الحسونين بسرعة، حلّت ساعة الرحيل، يبدو أن مكانكما هذا قد تسللت أخباره وانكشف أمره، ووجودكما هنا حتى لساعات مملوءة بالخطر، ولقد أمّنت لكم مرقداً جديداً أكثر سرية وأماناً.
وفكرنا بسرعة تليق بلحظتنا تلك، وقدّرنا، إن كان “عميلاً” لقبائل البوم والغربان، فلا فائدة من الهروب من المكان في تلك اللحظة، فربما يكونون مختفين في أي مكان، وسيلقون القبض علينا، وإن لم يكن، فلن يضرنا إتباعه، وإتخذنا قرارنا بسرعة، ورأينا أن إتباعه أقل خطورة من أي شيء آخر، فعلى الأقل لن نكشف أي من أسرارنا لأحد؟ وركب موجات الهواء أمامنا، وكان ظلام الليل قد بدأ يسكب نفسه فوق الأشجار وفي الفضاء، وصارت عيوننا تعجز عن رؤية الأشياء، وسرعان ما حط بجانب حوض ماء ليشرب ونرتاح قليلاً، قبل أن نُكمل طيراننا وتحملنا أجنحتنا إلى المجهول، وما أن حطت أرجلنا على الأرض، وقبل أن تهدأ أجنحتنا عن الحركة، كانت شباكهم قد إنقضت علينا تعصر أجسادنا، ووجدنا أنفسنا بين أيدي البوم والغربان، تُكتفنا حبائل مصائدهم، وتعتصر عظامنا وريشاتنا بقوة، وكان هو خارج الشِباك، ينظر إلينا ويضحك، ويشير إلينا ويخاطب غراباً قائلاً:
ـ إنهما في حوزتكم الآن، إعرفوا منهما ما عجزت عنه أنا… وذهب.
وأدركنا في تلك اللحظة بالذات، أننا كنا ضحية “عصفور” خائن أحمق، باع نفسه بثمنٍ بخس، ومن يضع ثمناً لنفسه يابني، وبغض النظر عن هذا الثمن، لا يمكنك الوثوق به، لأنه ببساطة يكون قد غادر طبائع الحساسين وتاريخها وموروثها.
إبتدأ التحقيق معنا من المكان الذي كان يريد معرفته “العصفور المُغيث”، عن سهام الحساسين وحجارة المقالع، عن الحساسين الأشداء الذين يستخدمونها، أين هم ومن هم، من يصنع ومن ينقل ومن يُدرِّب؟ وكانت زنازين أقفاصهم قبراً لم نعتقد يوماً أننا سنخرج منها أحياء أبداً، كان الموت المتربص معلقاً على كامل جدران الزنزانة، يهاجمنا مع كل غرزة مخلب حاد أو طعنة منقار معكوف، مع غياب وعينا المتكرر جراء شراسة التعذيب، مع دمائنا النازفة وريشنا المنتوف، هل رأيت يوماً حسونين عاريين من ريشهما؟!! هكذا كنا نحن الإثنان، مقتلعي الريش والأظافر، على حافة الموت، وما أن نفتح أعيننا حتى يختفي الموت من جديد، وما أن يختفي في زاوية الزنزانة حتى يظهر من جديد، وظل على حاله متربصاً طيلة شهور، لكنه غادر بعدها هارباً مهزوماً، أمام رؤيته تدفق نبع الحياة المتواصل من إرادة أجسامنا الهزيلة الضعيفة، تلك الإرادة التي لم تستعصِ على الموت فقط، بل هزمته أيضاً.
كان تعذيبهم أصعب من الموت وأقسى، كم تمنينا الموت ولم نجده، كانوا يوصلوننا إلى حافة الموت ثم يسحبوننا من بين مخالبه، فالميت لا يتحدث ولا يكشف أسراراً، هكذا كانوا يقولون، لهذا لم يقتلوننا، فمن الطبيعي أن يعتقدوا ذلك، بعكسنا نحن، فنحن نعتقد أن الحسون الحي فقط هو من لا يتحدث، يسكت في وقت السكوت، يحافظ على أسرار وطنه ولا يكشفها، مهما عذبوه ونتّفوا ريشه وأدموا جلده أو كسروا عظمه، وأن الإنتصار عليهم واجب بالحياة أولاً، وإن تعذر ذلك، فبالموت.
إنتهى التحقيق بعد شهور، وأمام سكوتنا المنتصر، صار لزاماً عليهم إختراع تهمة ما ليدخلوننا السجن بقرار من محاكمهم الصورية، فوجهوا لنا تهمة أكل اللحم، وتهمة أكل اللحم من قبل الحساسين تهمة يعاقب عليها قانون البوم والغربان، ونحن كما تعلم لا نأكل اللحم ولا ننوي ذلك، وأضافوا لها تهمتين سنظل نمارسهما مهما طال الزمن أم قصر، حيازتنا لريشنا الملوّن غير المصبوغ بالسواد الليلي، وتهمة الغناء والصدح والتغريد المتواصل الداعي للتفاؤل، ومثل هذه التهم تُغيبك في سجونهم سنوات وسنوات.
تناول الحسون الأب، مجدداً، الحديث من منقار زوجته، واستمر في الحديث وكأنهما قد حضرا لأمر سرد حكايتهما منذ زمن، وقال:
ـ مرت على قصتنا هذه سنين، لم نعد نعرف لها عددا، وحركة حساسيننا التي لعبنا دوراً وساهمنا في وقوفها على ساقيها، قد اشتد عودها، وصارت تُرعب البوم والغربان، وإن كان بعض حساسيننا يصادقون هؤلاء الأعداء، ويسامحونهم في دماء حساسيننا، كما ويطاردون معهم شباب الحساسين، ويحاولون إسكات تغريداتهم، لكنهم لن ينجحوا ما دامت الحساسين تبيض وتفقص وتربي أجيال الحساسين على العزة والكرامة، وها هي أمك أمامك مثالاً، فنحن الحساسين كما البلابل” لا نحوك عشاً داخل القفص، كي لا نورثه العبودية”، فإن أمك حافظت على حمل البيضة التي أفقستك، من الخارج، من عشنا في زمن المطاردة، حافظت عليها لتتحدى موتهم بالحياة التي وهبتها لك، رغم كل محاولاتهم لقتل الحياة فينا وفيك.
سكت قليلاً، وتلفت حواليه محركاً رأسه في كل الإتجاهات، وعينيه تحاول إلتقاط أي تغيير في حركة حراس البوم والغربان، ونظر إلى زوجته نظرة فهمت منها أن تتابع اليقظة أكثر من المعتاد، وأكمل:
ـ إنك يابني ما تزال تسير في أزقة مراهقتك، وقريباً ستطير في فضاءات شبابك وطرقاته، وما زال أمامك الكثير لتصل عتبات الشيخوخة التي وصلناها نحن، وعليك أن تدرك، أن الحياة ليست بطول السنين، بل بعدد البصمات التي تتركها فيها، فإما أن تعيش كما يتوجب العيش، برأس شامخة في السماء، أو تموت كما يتوجب الموت، وتظل بموتك حياً، أو أن تمر من الحياة خاضعاً ذليلاً دون أن يشعر بك أو يحس أحداً…واعلم أن الحساسين مثل البلابل، “لا تصدح إلا خارج القفص”.
بدأ الحسون الأب يتحدث خافضاً صوته وكأنه يخاف أن يسمعه أحد، واقترب من أذني إبنه وتابع الحديث:
ـ ستخرج من هنا هذا المساء، ستذهب إلى هذا العنوان، يجب أن تحفظ العنوان عن ظهر قلب، وأن تُحلق بحذر، فعيون البوم كما القطط، ترى أفضل في الظلام، في هذه الليلة عليك أن تُثبت أنك حسون من ظهر حسون، وأنك تنتمي لأمة الحساسين وليس الببغاوات، عليك الوصول لشجرة الصبار على ضفاف المدينة، ومن هناك ستأتي لتوصلك ،البلابل واليمام، الى حيث يجب أن تصل.
ـ لكنني لا أعرف الطيران يا أبي…
ـ ماذا؟ لا تعرف الطيران؟!!! وهل هناك طائر لا يعرف الطيران؟!!! أهناك سمكة لا تعرف العوم؟!!! الأمر ببساطة شديدة أن ترمي نفسك في بحر الهواء، أن تركب موجاته، وستجد نفسك لا تريد النزول…
فقالت أمه بعد أن اقتربت بدورها من أذنه الأخرى:
ـ وإياك بعد وصولك إلى بر الأمان أن تكف لحظة عن التغريد…
اقترب الليل، وكانت بقايا النهار تنسحب من أمامه بتراجع مدروس، وسارت أمه أمامه خطوتين وقفزة، أزاحت بعض الريشات اللواتي كن يُغطين زاوية القفص المثبت بقوة في حائط السجن، وكان الحائط يحاذي واد سحيق، وكانت الحسون الأم وزوجها قدحفرا حديد القفص على مدار سنوات بمنقاريهما الأعزلين الضعيفين، كما حفرا الحائط فاتحين خندقاً يوصل إلى أطراف باب الحرية.
ـ 4 ـ
كانت الأضواء الصفراء، قبل لحظات، قد أضاءت القفص، وانتهى غراب وبومة، كالعادة، من العدد داخل القفص كما في كل ليلة، ومباشرة أزاحت الحسون الأم الريشات عن الحفرة، دخلت أمام إبنها قبل أن يعيد زوجها الريشات وكأنهن بقايا ريش كبر وضعفت أوصاله فتساقط، ويراقب المكان خوف إنكشاف سرهما الذي بنياه على إمتداد سنوات من الصبر، ومشت أمام إبنها زاحفة، حتى أوصلته الى نهاية النفق ، إحتضنته، فرجاها أن يأتيان معه، فأخبرته قائلة:
ـ هروبنا جميعاً مستحيل، سيكتشفون أمرنا بعد دقائق، وسيرجعوننا قبل أن نصل إلى أي مكان، فأنت تعرف أنهم يظلون طوال الليل يضيئون الأقفاص ليتأكدوا أن أحداً لم يفر، أما أنت فيمكنك ذلك، وسنحاول التمويه على وجودك بريشنا الذي نتفناه خصيصاً لهذا الأمر، الآن هي اللحظة المناسبة، قبل تغيير الحراسة، فالغراب عدا عن تعبه المتراكم، فعيناه لا تساعداه على الرؤيا في مثل هذا الوقت، وعليك التحرك قبل إستلام البوم حراسته الليلية، هيا تحرك…
وكررت على مسامعه، وكأنها توصيه بأهم أمر في حياة الحساسين:
ـ بعد وصولك لبر الأمان، إياك أن تُغير لون ريشك، أو أن تكف عن التغريد…
وقذفت به على موجه هواء كان يحملها معه النهار المنسحب، ليصل هناك بعيدا، إلى مكان رفاقه وأخوته الحساسين، إلى بر الأمان، مع خيوط فجر النهار القادم….
محمد النجار