“قوة الرئيس في ضعفه”…

جاءني الكهل أبو عمر مُجَدداً، حاملاً بيده، كعادته، لعبة صغيرة لإبنتي، وجريدة لم أعد أذكر إسمها، رماها أمامي على الطاولة وهو يضحك بدموع مدرارة، لم أدرك حينها أبسبب الفرحة الكبيرة أم الحزن اللامتناهي، فأزحت الجريدة جانباً من أمامي، وشكرته على هديته، وأصغيت لما يريد قوله، غير مدرك أن الجزء الأساس فيما يريد قوله ينام متمددا في بطن “جريدته” تلك، ولما رآني أزحتها جانباً، أوقف ينبوع ضحكاته وأبقى على دموعه تتسايق للوصول إلى تجاعيد وجهه، قبل أن يُوزّعها على مساحة وجهه بظاهر يده، وقال وكأنه جاء مُصادفة فقط، وليس خصيصاً ليراني، ويُروّح قليلاً عن نفسه:

ـ ما هي آخر الأخبار يا أستاذ؟

تربطني بهذا الكهل علاقة غريبة نوعاً ما، فلا صلة قرابة بيننا ولا صداقة ربطتني، في سابق الأيام، مع أولاده الذين هم بمثل سني ومن جيلي، ولست من مخيمه القابع على مدخل المدينة لإستقبال كل قادم وزائر إليها، وكل ما في الأمر أننا إلتقينا مرة واحدة، واحدة فقط، في زيارة لأحد السجون، هو لزيارة حفيده الشاب وأنا لزيارة أخي، تجالسنا في مقعدين متجاورين في باص الصليب، دردشنا في أمور شتى، في السياسة، في أمور الناس المعيشية، في ظروف وحاجات الأسرى وهمومهم، وكان أكثر ما شرح صدره حينها، كما أذكر، تلك الإرادة “الهائلة”، كما سمّاها، لبناتنا ونسائنا، اللواتي يُهربن السائل المنوي من رجالهن لينتصرن على مشروعهم القاتل، بمشروعنا الحياتي الإنساني، وهن ، كما قال، يستطعن الإنفصال والزواج والإنجاب، بعيداً عن كل هذه الهموم، دون أن يخشين لائمة أو عتاب، ولما قلت له “أنها االإرادة والتحدي التي طالما إنتصرت على القمع والقهر وكل مشاريع الموت، التي تنتهجها “هذه الدولة” ودول العرب جميعها”، نظر إليّ مستغرباً بعض الشيء وقال: “إنه الإخلاص والأصالة قبل ذلك كله”، ثم التقط جرعة هواء وأضاف: ” إنهما الأصل في كل ذلك، لولاهما لما كان ما ذكرت أبداً”.

وسرعان ما إلتقينا بعدها في المدينة، وكنت قادماً لمكتبي الهندسي، ولا أعرف ما الذي إستحضره في تلك اللحظة بالذات، وما أن رأيته حتى توجهت إليه ودعوته لمكتبي ليشرب شيئاً، فهو من الكهول الذين لا تملّ أبداً من الجلوس معه، ولا يغادرك ولو مرة واحدة دون أن يترك أثراً أو بصمة، كما أنه من القلائل الذين لا يمكنك نسيانهم بسهولة.

وقبل دعوتي شاكراً “لطفي”، وكانت دعوتي تلك جسرا يربط بيننا، وصارت أحاديثنا تُمتّن هذه العلاقة وتقوي الجسر، بعد أن تكررت زياراته لي بشكل متباعد، وفي كل مرة كان يحمل شيئاً ليخبرني به، كما لعبة صغيرة لإبنتي مها، التي أخبرته عنها وعن عمرها في لقائنا الأول… ولم يأت يوماً لمكتبي بيدٍ فارغةٍ أبداً.

قلت وقد مددت يدي بكأس عصيرٍ أمامه:

ـ الأخبار كثيرة يا أبا عمر، ولا أدري كيف يحتملها الناس؟!!!

فقال مؤكداً قولي:

ـ صدقت والله يا أستاذ، كيف يحتملها الناس فعلاً؟!!! إن كل ما فعلوه لم يريدوا منه سوى خلق حفنة من المرتزقة المسحجين للرئيس وحاشيته، وشعب من البُلداء وغير المبالين، الذين لا يعرفون أكثر من “شعار” اللهم نفسي، ونجحوا في الأولى كما ترى، لكنهم فشلوا في الثانية وإن بدا أحياناً أن الناس مُحبطين… أم بماذا يمكن أن تُسمي تصريح الرئيس بأن” مُنفذ عملية تل أبيب إرهابياً ويجب إعدامه”؟!!!، هذا الكلام لم يقله الرئيس عن أي مجرم منهم، ولم يطالب يوماً بإعدام من أحرقوا أطفالنا ولا من قتلوا نساءنا وأولادنا… وتجد المرتزقة والطفيليين يسحجون ويكررون كالببغاوات ما يقول، ويبررون أقاويله ويفسرونها ويشرحونها وكأنهم يفسرون “القرآن الكريم”، معتقدين أن الشعب سيبتلع تفاهاتهم ويظل بالعاً لسانه ومقيداً يديه إلى الأبد.

كعادته، إبتدأ أبو عمر الحديث مباشرة ودون مراوغة، فهو، كما بدا لي، لم يتجنب يوماً قول الحقيقة مهما بدت قاسية ومهما كان ارتدادها عليه سلباً، وإلا كيف يمكنك تفسير أن إنساناً يُعتقل إدارياً في مثل سنه؟!!! وأكمل وكأنه لم ينهِ حديثه بعد:

ـ وها هو نفسه يبعث مندوباً عن منظمة التحرير بجانب مندوب عن “الجيش الحر” وبعض الدول العربية، للمشاركة في “مؤتمر هرتسيليا للمناعة القومية” الصهيوني، يبعث أو يؤيد أو يتغاضى، لا فرق، عضو لجنة تنفيذية للمنظمة، أتتخيل ذلك يا أستاذ؟ منذ متى “المناعة القومية للصهاينة كانت مفيدة لفلسطين والفلسطينيين؟!!!

وسرعان ما ابتدأت تتسع فتحة فمه وتظهر عدة أسنان متباعدة في فمه، لتلد ضحكة مصاحبة لبضع دموع من عينيه مجدداً، وقال:

ـ منظمة التحرير؟!!! أما زالت تُدعى كذلك يا أستاذ؟ ألم يُغيروا إسمها بعد؟!!! قال التحرير قال!!!

سكت قليلاً وأطلق ضحكة جديدة وزخة دموع، وأكمل متهكماً:

ـ منظمة التحرير والجيش الحر!!! كلاهما حراً وللتحرير… أرأيت المصادفة يا أستاذ؟!!!

قلت عندما أبعد دموع عينيه وأوقف ضحكته:

ـ لكن الرئيس إحتج على تصريحات حاخاماتهم ودعوتهم “لتسميم” مياه الفلسطينيين…

فقال وكأنه يحتج على كلامي:

ـ وهل المطلوب أن يسكت على ذلك أيضاً؟ السؤال الصحيح ياأستاذ، لماذا لم يقدم شكوى للمؤسسات الدولية لحقوق الإنسان بسبب ذلك وغيره أيضاً، أليس ذلك “أضعف الإيمان”؟ فبالنسبة لهم إن إحتج الرئيس أو لم يحتج، إن قال أو لم يقل، فالأمر سيّان، يعني كما قال المأثور الشعبي” قروا أبناء يعبد والّا لعمرهم قرروا”، الأمر ليس في القول أو الإحتجاج، هل رأيت يوماً طريق عودة مرصوفاً بالكلمات؟ السواعد هي الأساس ياأستاذ، مهما كانت هذه الكلمات منمقة أو ملونة أو جميلة!!!

سكتنا قبل أن يرتشف شيئاً من كأس العصير الذي ظل واقفاً أمامه مثل صنم، وسألني وكأنه يريد أن يفتح باباً لتعليقاته أكثر من محاولات معرفة الخبر:

ـ ماذا جرى في مؤتمرهم ذاك؟

فقلت فاسحاً له المجال ليعلق كما يريد، ربما تقديراً لسني عمره أو لإعجابي بتعليقاته:

ـ “كبيرهم كيسنجر”مذعور على مستقبل إسرائيل، خاصة بعد أن صارت يد “حزب الله” تُناطح مخرزهم وتنتصر عليه أيضاً، ورغم كل جبروتهم لا يستطيعون كسرها…

فقال مباشرة ودون تردد:

ـ ليبقى مذعوراً إذن، وما دام هذا مذعور، عليهم أن يقلقوا فعلاً بشأن مستقبل دولتهم…. وماذا أيضاً ياأستاذ؟

ـ يقول قادتهم أنهم لن يسمحوا للجيش السوري بالإنتصار على الدواعش والقاعدة في سوريا، فهؤلاء لم يفعلوا شيئاً ضد إسرائيل، ولن يستبدلونهم بإيران وحزب الله كما يقولون…

قلت مكملاً ما بدأته، وانتظرت تعليقاته من جديد:

ـ طبعاً يا أستاذ، أم لماذا تعتقد أن أمريكا تحاول إدراج “جبهة النصرة، تنظيم القاعدة في بلاد الشام، ضمن ما تُسميهم التنظيمات المعتدلة؟ ولماذا كل هذا التدفق بالسلاح النوعي والآلاف من المرتزقة والأموال من آل سعود والحدود التركية المفتوحة، في الوفت الذي يُحاولون فيه تجفيف كل منابع حزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية،  المالية والتسليحية ؟ ولماذا التدريب والعلاج من “إسرائيل”وفيها؟ أم أنك تعتقد ان كل ذلك عملاً خيّراً؟ هؤلاء لم يكونوا يوماً جمعيات خيرية، إنهم قساة الأرض ومجرموها، لكن ما داموا يعلنون ذلك على الملأ، هناك سببان ياأستاذ، أولهما كونهم لم يعودوا يحسبون حساباً لشعوبنا، معتقدين أنهم ليسوا أكثر من قطيع غنم أو ماعز، وهذا ما يؤلمني، لكنهم في نفس الوقت يستشعرون خطراً جدياً على مشروعهم التكفيري في المنطقة، الأمر الذي يعني أن في هذه الأمة بقايا رجال، تغرق على أبواب سواعدهم كل هذه الحثالات.

قال واقترب بالجريدة ووضعها أمامي مجدداً:

ـ أرأيت هذا يا أستاذ؟

أخذت الجريدة من يده، وبدأت أقرأ الخبر الذي كان يتصدر الجريدة، وكان يبدو مكتوباً من أحد “المسحجين” الذين شغلهم الشاغل “إستحمار” البشر ، ووضع أنفسهم في مكان المكتشفين أو الفلاسفة. وبإختصار شديد، كان الموضوع يتغنى بالرئيس، ليس من حيث طوله أو عرضه، ولا عن “عبقريته” في التوصل إلى إتفاق “أوسلو”، ولا “شطارته” وجمعه لكل ثروته، ولا عن عمله ليلاً نهاراً ليشكل كل هذه الشركات لأولاده وأحفاده وبكل رأس المال هذا …لا…لا … لا، بل كونه “أخطر رجل دبلوماسي على إسرائيل”!!! أتلاحظ معي؟ الأخطر دون جدال أو منافسة، فعلاقات إسرائيل “السيئة” مع أصدقائها بسبب حنكته!!! وتنازلاتهم للفلسطينيين دون أي مقابل بسبب سياسته!!! وتقهقر وضعها الأمني بسبب هذه السياسة أيضا!!!

شعرت وأنا أقرأ أننا نحن من ندخل مدنهم ونقتل أطفالهم، وأننا نحن من نصادر أراضيهم ونبني مكان زيتونهم “مستوطناتنا”، وأن أمريكا ودول الغرب الإستعمارية تضغط عليهم لإرضائنا، ولوهلة ظننت أن الرئيس أخطر من كل الفصائل المقاومة، وأنه أخطر من الصواريخ والمدافع والرصاص.

ونظرت إلى أبي عمر الذي كان، على ما يبدو، يتدارس تضاريس وجهي، وأخذت أبتسم، وتتسع إبتسامتي لتصبح ضحكة تتعالى، وسرعان ما التقت بضحكة أبو عمر، التي إنطلقت مجدداً مفجرة لحفنة دموع، سرعان ما أزاحها قبل أن تنزلق في الهاوية ما بين نهاية خديه وجسده الضعيف، وأوقف ضحكته فجأة وقال محدثني بحكاية من حكاياته، فقال لكن من نهاية القصة هذه المرة:

ـ كان الرجل يحدث زوجته عن معركته مع خصمه اللدود في الحارة، وعلائم الهزيمة على وجهه وجسده، لكنه لن يعترف لها بهزيمته فقال لها متباهياً متنافخاً:” تعاركنا… فلاحني ولحته… ومن شدة قوتي أصبحت تحته… وانظري لعروق رقبتي من كثر ما خنقته…”!!!

وقام أبو عمر مودعاً، وكان قد أوقف ينبوع ضحكاته لكنه لم يستطع أن يوقف نزيف دمعاته.

محمد النجار

“لم يبتلع الذئب يوسف”…

جاءت تلك المرأة العجوز إلى بيتنا في المخيم، جادّة في البحث عن أمي، إمرأة لا تعرفها أمي ولا هي تعرف أمي، كمن يبحث عن إبرة في كوم قش، لكنها وجدتها، ووجدتنا هناك معها، نحن أولادها كلهم وأنا آخر العنقود، حيث تجاوز عمري الثلاثة عشر ربيعاً. كانت، لما وجدتنا، وكأنها فُتحت لها أبواب السماء في ليلة القدر، تحمل في قبضة يديها كيساً بداخله شيء يشبه “ماسورة البندقية”، كما أكد والدي، وتحمل على وجهها بشائر نصر.                                                                *        *        *                                                                     حصلت القصة منذ وقت طويل، منذ ما كنت أزال في بطن أمي، قبل أن يتفقا، أمي وأبي، على أن يعطياني نفس الإسم، يوسف، كي لا يموت يوسف الذي ، على الأغلب، أكله الذئب، حصلت القصة آنئذ ولم تنتهِ كما ظن الجميع، إلّا أمي، التي كانت لديها دائماً هواجسها، تماماً كما لهذه المرأة الغريبة التي بحثت عنّا أياماً وأياماً ولم تيأس أو تكل أو تمل أبداً…                                                                                                          كان أخي يوسف في مثل عمري الآن، يعني لو لم “يبتلعه الذئب”، لكان في السادسة والعشرين، وكان رابع أخوتي، وكانوا ست أطفال ذكور وثلاث إناث، كما نحن الآن ست أطفال ذكور وثلاث إناث، والفرق بينه وبيني، أن أخواتي البنات فقط هن من سبقنه في القدوم إلى الحياة، وخلفه كل إخوتي الذكور، ولما “ابتلع الذئب أخي يوسف” وجئت أنا، يوسف الجديد، كان كل إخوتي من إناث وذكور أمامي.                                            كانت العائلة أيام أخي يوسف قبل أن “يبتلعه الذئب” وبعد ذلك، تعاني من كثرة العدد ومن الجوع، مثل كل عائلات مخيمنا أو معظمها، وكانت كفَّتي والدي وعضلاته لا تستطيع جلب ما يكفي من طعام لكل هذه الأفواه، وكون يوسف، أخي الذي “ابتلعه الذئب”، أكبر أفراد إخوتي الذكور، كان لا بد أن يشحن عضلاته وينزل بها الى السوق، ليساعد أبي في جلب ما ينقص من طعام لهذه الأفواه، وكون المدينة تنضح بأبناء المخيمات الذين يحتلون كل مواقف سيارات المدينة وأسواقها وسوق خضارها، كان لا بد ليوسف للبحث عن مكان وإيجاده، ليقتطع منه بضعة أرغفة كل يوم،                                                                                                                 نسيت أن أخبركم، أن أخي يوسف الذي ظن الجميع أن الذئب قد أكله، لم يكن يستطيع أن يزاحم العمال في سوق “العمل” كما قال والدي، بسبب قصور عضلاته وصغر سنه، لذلك صنعوا منه تاجراً، أو بالأصح كما أوضحت أمي، بائعاً متجولاً، وبما أن المخيم كله كما المخيمات الأخرى، يمتلئ حتى الثمالة بالباعة المتجولين، من باعة البوظة إلى الحاملة إلى الهريسة والنمورة، وأشياء أخرى كثيرة غيرها لا تخطر إلّا على بال جائع، فقد اجتهدت أمي أن تصنع منه  بائع “ترمس” جوال، وهذا ما تم.                                                                            كان أخي يوسف، يحمل بضاعته ويسري قبل مجيء الشمس، وينادي لجلب زبائن لها متمشياً في الأسواق ومحطات الباصات، في طرق المدينة وعلى أبواب مقاهيها، لكنه يوماً لم يستطع أن يجد ما يكفي من الزبائن لبيع كل بضاعته، فكان يعود بها الى البيت غاضباً باكياً مهموماً مهزوماً مكسوراً، وتتكرر الأيام والمحاولات الفاشلة، ما يجعل بضاعته  تفسد أو تكاد، خاصة في فصل الصيف الذي كان يشوي رأس أخي يوسف ووجهه بحراراته، فما بالكم بالبضاعة التي كان أخي يوسف، الذي ظننا أن الذئب قد أكله، يحملها داخل كيس خيش بداخله كيس من النايلون؟!!! فكانت تتحول تلك البضاعة الفاسدة أو التي في طريقها القريب من ذلك، إلى طعام لإخوتي وأخواتي، ويكون أخي يوسف “وكأنك يا بو زيد ما غزيت”، كما أكدت أمي ومراراً.                                             واستمر الحال مع اخي يوسف على هذا النحو وهذا المنوال، حتى جاء يوم، كان التعب والحر قد أخذ من أخي يوسف مأخذه، وكان أخي يوسف يشعر بدوار شديد وكأنه “دوار بحر” لم يره أخي يوسف يوماً، نادى أخي يوسف على بضاعته أمام باصٍ قد وصل لتوه من إحدى القرى البعيدة، دلل عليها، لكن أحداً لم يطلب من بضاعته المخفية داخل الكيسين شيئاً، إشتد الحنق داخل أخي يوسف، وكانت في حلقه غصة، وتنازعت دموعه متسابقة للوصول إلى خديه المحروقين، ولم يدر لا كيف ولا لماذا صعد حينها أخي يوسف الى الباص،  من بابه الخلفي لما نزل منه الركاب جميعاً، رمى نفسه على أحد الكراسي الفارغة، وضع أخي يوسف كيس ترمسه على فخذيه وأسند الكرسي رأسه، ونام أخي يوسف، نـــــــــــــــــــــــام ونـــــــــــــــــام ونــــــــــــــــــــــام أخي يوسف الذي إعتقدنا أن الذئب قد أكله.                                                                          إستيقظ أخي يوسف بعد ما يقرب من الساعتين، ليجد نفسه في مكان لا يعرفه ولم يصله قبل اليوم أبداً. أردت القول أنه لم يستيقظ بل أيقظه السائق الذي وصل إلى محطته الأخيرة، في تلك القرية البعيدة، ونزل الركاب جميعاٌ ولم ينزل أخي يوسف، ولما رأى أخي يوسف نفسه غريباً في مكان بعيد غريب لم يعرفه من قبل، أخذ أخي يوسف يبكي، كان يبكي لأنه كان صغيراً ووجد نفسه وحيداً في مكان لا يعرفه، وصارت تسيل دموعه المالحة على خديه المحروقين فتزيد آلامه، لكنه لم يحس بتلك الآلام، بل بآلام أخرى غيرها، قالت أمي، أن أخي يوسف الذي كنا نظن أن الذئب أكله، كان يحس بآلام الغربة والبعد والمتاهة، هذ الآلاام التي لا مُنْجٍ منها سوى أن تضع قدمك على طريق العودة، فقط عندما ترى أن قدميك يحملنك راجعاً الى ذات المكان الذي منه أقتلعت، وهز أبي رأسه عندما قالت أمي ذلك، وأضافت، وحينها تتضاءل وتذوب كل الآلام الأخرى مهما عظمت حدتها، وازدادت حركات رأس أبي موافقاً لما قالته أمي كما لم يفعل من قبل، وقال السائق لأخي يوسف الذي كنا نظن أن الذئب أكله:                                                                                                                        ـ لا تخف ما زال هناك متسعٍ لباصات أخرى لتعود، مادمت تعرف طريقك وهدفك ستعود حتماً…                        طبطب السائق الشاب على كتفي أخي يوسف عندما حادثه، وكلماته إقتلعت بعض الخوف الذي ركب جسد أخي يوسف، الذي فكر أنه ما دام هناك متسع من الوقت ليعود، فلماذا لا يُجرب بيع بضاعته في هذا المكان البعيد عن باعة المدينة المنتشرين في كل زاوية، واستطاب أخي يوسف الفكرة، وأخذ ينادي مروجاً لبضاعته من بين دموع عينية النازفة، وكانت تلك المرأة على مقربة من دموعه الجارية، كانت متوجهة إلى بيتها قادمة من مكان ما، ولا يعرف أحداً ولا حتى أخي يوسف ولا أمي نفسها، أأشفقت عليه تلك المرأة؟ أو أحبته كون أولادها سافروا إلى بلاد غريبة ولم ترَ أحفادها منذ سنوات؟ أم أرادت أن تفعل خيراً فقط؟لا أحد يعلم، لكنها أخذته معها، أطعمته وأسقته واشترت الكثير من بضاعته، ثم نادت جاراتها ليشترين من بضاعته، ولأول مرة يحس أخي يوسف الذي ظننا أن الذئب قد أكله، بهذا الوزن الخفيف لكيس”الترمس” الذي يبيع منه، وتجرأ أكثر وصار ينادي على بقية بضاعته في طريق عودته الى الباص، وكان الناس يوقفون ويشترون منه، وما تبقى من بضاعته أنفقها جميعها في محطة باص القرية البعيدة.                                                                                                       لمّا رأى أخي يوسف أنه باع كل بضاعته، طوى كيسيه ووضعهما تحت إبطه، وغامر مشترياً حبة من “الأسكمو”، رخيصة السعر، ليزيل حرارة الشمس وخوف اليوم اللذان إندلقا دفعة واحدة في جسده قبل ساعات من تلك اللحظة، وأخذ يمتص ثلجها حتى أتى على آخرها، وقد ركب الباص الأخير المتوجه نحو مخيمنا، ولما كان أخي يوسف الذي ظننا أن الذئب قد أكله، يمتص ما علق على العود من بقايا حبة “الأسكمو”، حطت في رأسه فكرة أن يغير مكان عمله، وأن يأتي يومياً ومن الصباح الباكر إلى هذه القرية وما حولها من قرى مجاورة ليبيع بضاعته.   وهكذا كان، وصار نادراً أن يرجع أخي يوسف ببضاعته إلى البيت، ويوماً بعد آخر صار أخي يوسف ينزل من الباص في أول الطريق المؤدي الى مجموعة القرى تلك، ويمشي منادياً مروّجاً  لبضاعته، ثم يأخذ يحث خطاه داخل أزقة القرية وطرقاتها، وسرعان ما يصل للقرية الثانية والثالثة حتى ينتهي من بضاعته ثم يعود ليركب الباص راجعاً، وكانت تلك المرأة الغريبة تناديه كلما رأته، تطعمه وتسقيه وتشتري من بضاعته في كل مرة تراه، وكانت أمي تدعو لها كلما حدثها أخي يوسف عنها، تدعو لإمرأة لم ترها ولم تعرفها، ولا تعرف لها إسماً أو لقبا ولا حتى دينا أو مذهباً، وكانت تقول أن الله أعلم بما في القلوب، وأن لهذه المرأة قلب ملائكة وحنان آلهة، وأن الله، حتى لو لم تُسمها، يعرف من المقصود بدعواتها تلك، وكان أخي يوسف الذي ظننا أنه أكله الذئب، يفرح كثيراً عندما كانت أمي تدعو لتلك المرأة القاطنة في مكان بعيد.                                                                                  وظل أخي يوسف يقوم بالشيء نفسه، حتى عندما كانت تغيب هذه المرأة ويقول الناس أنها سافرت الى مكان بعيد، كن جاراتها يشترين من أخي يوسف ويطعمنه، وكأنهن ينفذن رغبة تلك المرأة حتى في غيابها، وكان يتخطى خجله ويجالسهن ويأكل من طعامهن، لكنه كان قد تعلق بتلك المرأة الغريبةبشكل خاص، وقال الكثيرون أنه كان يناديها دائماً يا”أمي”، لكن أخي يوسف لم يقل هذا السر الذي إحتفظ به لنفسه ولا مرة واحدة لأمي، وأظنه كان متخوفاً بأن تغضب كونه “أشرك” معها في أمومته أحداً، ولو كنت مكان أخي يوسف الذي ظننا أن الذئب أكله، لفعلت الأمر نفسه، لكن أمي أكدت لاحقاً لتلك المرأة الغريبة أنها لن تزعل أبدا، أكدت بلسانها وبحفنة دموع أيضا، وصدقتها تلك المرأة التي أتت من مكان بعيد، حاملة بيدها كيساً، به شيء في قبضتها مثل ماسورة البندقية.                                                                                                                        وقالت المرأة الغريبة الآتية من مكان بعيد، عندما وصلت لبيتنا ومخيمنا، أنها كانت مسافرة عندما جاء أخي يوسف، في مشواره الأخير في ذلك اليوم، لقريتهم، لكنه ـ ربما ـ لم ينجح في بيع كل بضاعته، رغم أنه دخل طرقات وأزقة كل القرى في المحيط، كما أكد من رأوه وسمعوه، ولا تدري هي لماذا، لكنها تعرف أن الأرزاق بيد الله، ربما كون القرى في ذلك اليوم قد هاجمها الجيش والمستوطنون، الذين يداهمونها بين فينة وأخرى ليستولوا على الأرض ويقتلوا الناس والزيتون، ويقول الجيران أن يوسف ربما يكون قد تأخر عن الباص الأخير الذي غادر القرية، وربما ـ قال البعض الآخر ـ أن يوسف قرر بطريقة الأطفال أن يمشي الطريق مشياً على قدميه ليصل إلى بيته في المخيم، معتقداً أن المسافة التي يقطعها الباص يمكنه قطعها بنفس الوقت، غير مدرك لصعوبة العودة، التي تحتاج إلى جهود وتحضير وتدبير وصبر وعمل، كما تحتاج إلى قطعة سلاح في يدك، لتتجنب خطر الذئاب وغدر الضباع، عندما يداهمك الليل الحالك، ويغرق بموجاته الشجر والبشر والصخر والحجر في تلك الأودية والجبال. أما يوسف، فلم يدرك أن للعودة متطلبات، فمشى عائداً دون سلاح،  وفي الطريق بين الجبال، مكمن الذئاب والضباع المتربصة، والتي، ربما،  إنقض أحدها على جسد يوسف الغض وافترسه.                                                 لكن تلك المرأة الغريبة لم تصدق ذلك الأمر يوما، وقالت أن الذئاب الحقيقية تترك خلفها أثراً، بقية عظام أو ملابس أو حتى كيس الترمس الذي كان يحمله يوسف على كتفيه، وأكدت أنها لم تصدق، أن ذئباً حقيقياً يمكنه إخفاء كل أثر بعد أكل فريسته، يوماً، وأنها تفاجأت حين عودتها من السفر وسألت عن يوسف، أن الكثيرين ممن رأوه إعتقدوا أنه عاد إلى بيته، ولما لم يعد على مدى أيام عدة قالوا ربما لم يرد أن يعود، ولما طالت عودته وكتبت الصحف عن إختفاء طفل، ظنوا أن الذئب ابتلع يوسف، ولكنني، قالت المرأة التي أتت من مكان بعيد، لم أصدق يوماً أن الذئب قد ابتلعه، ولم أرد أن آتي لأفتش المواجع عليكم، لكني لم يهدأ لي بال حتى علمت الحقيقة….                      ـ الحقيقة؟!!!                                                                                                                        ـ نعم الحقيقة، هذا ما قلته، الحقيقة التي ظهرت منذ أيام، الحقيقة التي تؤكد أن الذئاب الحقيقية ترأف بالأطفال، وأن “يوسف لم يبتلعه الذئب” أبداً…..                                                                                كانت المرأة تتحدث بثقة، وكأن الحقيقة في قبضة يدها الممسكة بعنق الكيس، وكانت تتحدث مبتهجة مسرورة، دموعها تجري مع تجاعيد وجهه، لكنها فرحة، وأكملت متوجهة بالحديث لأمي وكأنها الوحيدة التي تفهمها وتقدر ما تقول:                                                                                                                                  ـ توجهنا بالأمس لتنظيف أحد آبار القرية القديمة، والذي حرمونا من إستخدامه، فمياهنا حولوها لمستوطناتهم، لكننا لن نقبل الأمر أكثر من ذلك، حتى لو إعتقلوا القرية كلها، وما أن وطأت أقدام الشباب قعر البئر، حتى وجدوا كومة عظام ورصاصة في الجمجة، وكيسي “ترمس” يوسف.                                                             وفتحت تلك المرأة الكيس الذي في قبضتها، وأخرجت من هناك كيسي الترمس، وعظمة ساق رفيعة بطول ساقي أنا، كانت تقبض على أعلى عنقها مثلما تقبض على بندقية، وقدمتها إلى أمي، وقالت:                        ـ هذه ليست إلا عظام شهيد، أنظري جيداً، إنها عظام “إبننا”الشهيد يوسف، أطلقي الزغاريد يا أم يوسف إنه شهيد، زغردي، لم يبتلع الذئب يوسف… إنه شهيد….زغردي… زغردي…. إنها عظام الشهيد يوسف…             امتزجت الدموع بزغاريد أمي، ولم تعترض أمي على كلمة “إبننا”، بل أخذت ترددها بدورها، وصرن أخواتي يزغردن ويبكين فرحاً، وكان والدي مثل المشدوه الذي لا يعرف ماذا يقول، كان صمته أعلى من صوت مؤذن مسجدنا، وصوت تلك المرأة الآتية من مكان بعيد يقول:                                        ـ ما دام الله أكرمه بالشهادة، وأوصله لهذه المنزلة، يتوجب علينا الإحتفال به، زفته زفة العريس في يوم عرسه، قم يا ولد هات الحلوى لنحتفل…                                                                                                                      وضعت في يدي شيئاً من المال، وأخذت تزغرد من جديد وتقول بين زغرودة وأخرى:                                       ـ  لم يبتلع الذئب يوسف… وما يوسف إلا شهيداً…                                                                                                                            *          *            *                                                      ظلت الزغاريد تتعالى في بيتنا الضيق، حيث إجتمع المخيم كله فيه وحواليه، وكنت أشرح لأهل مخيمنا عن أخي يوسف الذي كنا نظن أنه أكله الذئب…                                                                                         ـ ماذا؟ لماذا أظل أردد كلمة “أخي يوسف”؟ أعرف أنكم تعرفون أنه أخي، لكن هل تعرفون ماذا يعني أن تكون أخاً لشهيد؟!!!                                                                                                                                                                                                                 محمد النجار

قبل حزيران بقليل

كنا ملتفين حول التلفاز في تلك اللحظة، وكنت قد أنهيت آخر إمتحان لدي قبل أيام ثلاثة من وصول أواخر أيار الى أوائل حزيران، ليسلّمه أمانة متابعة الطريق، مُحمله كيس الأيام على كتفيه ليمضي بها ويسير. قمت متاخراً من النوم كعادتي في أيام العطل المدرسية، شربت الشاي مع أمي وجدتي، فبقية أخوتي لم ينهوا عامهم الدراسي مثلي بعد، وللحق، فإنني بالقدر الذي أحب فيه الجلوس مع أمي، كنت بذات القدر لا أحب الجلوس مع جدتي، لكنني كنت أحاول التغطية على الأمر كي لا تغضب أمي.

أمي امرأة دائمة الحركة، ليست إلا نحلة تتنقل من مكان إلى آخر، تكاد لا تجلس أبداً، وفي معظم الأحيان لا تتناول طعام الإفطار معنا، وبالكاد تشرب الشاي، وبالتالي لا يشغلنها شيء سوى عمل البيت ، فمن غسيل الملابس والأطباق، لكيِّ الملابس لجميع أفراد البيت، لتهيئة الطعام ليكون جاهزاً مع موعد قدوم أبي من العمل، لتنظيف البيت وغسله، كما إنجاز متطلبات البيت ومشترياته… الامر الذي يجعلها لا تهتم ، أو لا تستطيع، متابعة التلفاز وبرامجه، كما تفعل جدتي، ومصيبة جدتي أنها لا تتفرج على أفلام أو مسلسلات أو موسيقى، بل شغلها الشاغل متابعة الأخبار، والأخبار فقط، ومن هنا تبتدئ القصة وتنتهي أيضاً ، فلولا عادتها هذه لما كانت هناك لا بداية ولا نهاية ولا كان هناك قصة أصلاً، وما تم ما تم.

تسكن عائلتنا في عمارة من طابقين إثنين، نقيم نحن في الطابق الثاني من شارع وادي التفاح في مدينة الخليل، فرندة البيت الأمامية تطل على الشارع الرئيس، وحمام البيت الخلفي يطل شباكه على شارعيين فرعيين في المنطقة، وجدتي التي تجلس في صالون البيت لا تفعل أكثر من تقليب صفحات التلفاز من محطة إلى أخرى، على نشرات الأخبار دون كللٍ أو ملل، نفس الأخبار التي ما فتئت سمعتها منذ لحظات.

كان الشارع الرئيس ممتلئاً بالناس على عادته في كل يوم، أناس يحاولون التصدي للمستوطنين الذين يملؤون المدينة، ويسيرون يستفزون الناس بعد أن سرقوا بيوتهم بمساعدة الجيش وأسلحتهم، بعد أن سرقوا الحرم الإبراهيمي وقسّموه، والناس الذين لا يملكون سوى سواعدهم وبضع حجارة من حجارة الجبل، ظلّوا يدافعون عن المدينة والكرامة، رغم الثمن الذي ظلوا يدفعونه بشكل يومي، وكان طلاب المدارس قد أنهوا يومهم وخرجوا للشارع، أطفال من جيلي، أكبر أو أصغر قليلاً، صاروا يقذفون الجيش المتسكع الذي يحمي مستوطنيه، والجيش الذي كان يُطلق قنابل الغاز والرصاص على صدورهم، كان ما يزال يطلق النار دون توقف.

وكوني لا أحب الأخبار ولا سماعها، أمسكت بهاتفي الخلوي وقمت إلى الفرندة وأخذت أُصوّر مشهد الجيش وراشقي الحجارة، كمخرج من الملل، كوني لا أستطيع أن أشاهد فيلما أو مسلسلاً لأن جدتي إحتلت شاشة التلفاز في صالون البيت، وشدني مشهد الجيش عندما ألقى القبض على “هيثم”، و”هيثم” هو أحد أبناء مدرستي الذي يصغرني بقبضة سنين، وجارنا ، في الوقت نفسه، القاطن في بيت مجاور، كان قد عاد لتوه من المدرسة، بعد أن أنهى إمتحاناته اليوم بالذات، متوجهاً إلى بيته، وأخذت أُصوّره متخيلاً كيف ستكون ردة فعله وانقباضات وجهه، عندما يطلقون سراحه وأريه “الفيلم” الذي وثّقت به إعتقاله وضربه، لكن الأمور لا تسير دائماً كما نشتهي أو نحب، فقد أخذ الجنود “هيثم”، أركبوه مقدمة الدورية العسكرية ليحميهم من حجارة الطفال، درع بشري كما يقولون، وتوجوا به إلى الشوارع الخلفية، حيث يمكنهم ضربه وإهانته دون متابعة وملاحقة من عيون الشهود.                                                                                                                      لاحقت فكرتي، وانتقلت من “الفرندة” إلى حمام البيت لأكمل التصوير، ومررت من أمام جدتي التي كانت ما تزال تتفرج على مشهد على الشاشة، وترغي وتزبد وتعلق وتقول، فسحبت كلماتها فضول عينيّ إلى الشاشة أثناء مروري…

  •     *       *

كان يحتل الشاشة تقريراً يظهر فيه الرئيس مرة وبعضاً من حاشيته مرة أخرى، يتحدثون عن السلام وما جلبه من أمن وأمان للبلاد والعباد، و”أننا نحن الفلسطينيون لن نوقف التنسيق الأمني مهما كثر الرافضون له، فنحن أعرف بمصالأح شعبنا من كل المزايدين”.

وعلقت جدّتي من بين بواقي أسنانها:

ـ طبعاً، أنتم الآلهة والشعب مجرد أصنام، وهل للأصنام كلام إذا ما تحدثت الآلهة؟!!! فمنذ قدومكم و”مصالح”       شعبنا محفوظة ومُصانه والحمد لله…

وأكمل المتحدث، ذو الصلعة الواسعة مثل طريق أسفلتي واسع في غابة هزيلة،حديثه:

ـ وسنعمل على ان يكون هناك تطبيعاً شاملاً من الدول العربية والإسلاميه، كما أكد سيادة الرئيس، إذا ما وافقت حكومتهم على “السلام”…

وعلقت جدتي من جديد:

ـ آه طبعاً، هذا “فوق البيعة”… يعني بالعربي “زيادة البياع”… فعلاً “الشحادة عادة”…و”وين ما ضربت الأقرع يسيل دمه، هذا إذا كان عنده دماً”

وأكمل المتحدث ذو الصلعة الواسعة التي تكاد تُغطي مساحة رأسه، متابعاً ومدافعاً عن مقترح الرئيس:

ـ تطبيع يخدمهم ويخدمنا ويخدم السلام، وأننا ،كإثبات حسن نية، نوافق على تبادل أراضٍ معهم…

فعلقت جدتي وكأنها مصرة على الرد على كل ما يقولونه، متوجهة بكلامها إلى شاشة التلفاز:

ـ ما هي قصتكم؟ تكذبون الكذبة وتصدقونها… تتحدث عن مبادلة الأراضي وكأنها أرض أبوك، ولا تخص هذا الشعب المسكين…صدق من قال” لا تاخذ من الأقرع نصيحة، لو ربك بحبو لجعل راسه صحيحة”

وسرعان ما قال شخص آخر، أظهره التقرير، غير الأول، لكن من الحاشية نفسها، يُكمل ما قاله صاحبه، لكن بصورة  تُظهره وكأنه متمايز عنه:

ـ أنا لا أتفق مع هذا الرأي، التنسيق الأمني لا يجب أن يكون هكذا، عليهم أن يطلبوا منا ما يريدون ونحن من يقوم بالتنفيذ، وليس أن يقتحموا هم بأنفسهم مناطق السلطة ليعتقلوا ويحاصروا ويقتلوا…

وضعت جدتي يدها عل خدها وقالت ترد على ما سمعت:

ـ شوفي ياأختي “جاء ليكحلها… عماها”، فعلاً كما قال المثل” لا تشمتي ياخدّوجة، أنا عورة وأنت عوجة”… لماذا “يستحمرنا” هؤلاء إلى هذه الدرجة؟!!! فعلاً”قال له مَن فرعنك يافرعون قال له لم أجد من يوقفني عند حدي”…

ثم أن جدتي بدا وكأنها لم تعد تسمع كل كلامهم، فكلامهم متشابه ومكرر ومعاد، لكنها ظلت تعلق على ما ترى وتسمع أحياناً، خاصة عندما كان الرجل “الأقرع” في حذاء أحدهم، والذي لم يكن من حاشية الرئيس، وكان يلبس عباءة سوداء كليل شتاء هذا العام ، يحيط بكامل طرفها خطاً ذهبياً يعطي العباءة ثمناً وهيبة، وبدا أنه قد جاء لتوه من الصحراء فاغتسل ولبس واحتل موقعه أمام شاشة التلفاز ليدلي بتصريحه، وظل يردد عبارة واحدة ويكررها ويلف حولها، ” نحن نوافق على ما يوافق عليه الأخوة الفلسطينيين، نحن مع السلام الدائم والعادل…. إيــــــــــــــه”، ولما سأله صحفي عن أي فلسطينيين يتحدث؟ ف”أغلب الفلسطينيين يرفضون أوسلو ومجراه”، قال:

ـ نحن نتحدث عن قيادة الفلسطينيين الحقيقية،  ولا نتحدث عن المغامرين والمتطرفين….

وهنا ثارت ثائرة جدتي، فصارت تتحدث وكأن هؤلاء جميعهم أمامها في الواقع وليسوا في التلفاز، وتريد بكلامها أن تضع لهم حداً:

ـ ظلوا هكذا أيها الأنذال، دافعوا عن سلامهم ومذلتنا، ولتعلموا أننا نحن “المغامرون” في هذا الوطن العربي و “متطرفيه”، الحائل الوحيد بينهم وبين غرف نومكم. ها أنتم خلعتم كل ملابسكم، صرتم عراة كما جئتم لهذه الدنيا أمامهم، قدمتم لهم كل ما طلبوا ولم يطلبوا، ماذا أخذتم مقابل ذلك غير العار؟!! عار لفكم كأشخاص ودول وأشباه دول وممالك وحارات، لماذا لم تكونوا بهذه الحصافة والإنسانية في العراق وسوريا وليبيا واليمن؟!!! لماذا لم تكونوا هناك أيضاَ رجالات سلام؟!!! … نعم، نحن المغامرون الطريق الوحيد لمسح ما جلبتموه لأمتنا من عار، إصمتوا على ذبحنا، وشاركوا في تدمير أوطاننا واستحمار شعوبنا، لكنكم لا أنت ولا هم، تستطيعون وقف تقدمنا أو قتل إرادتنا، أو مسح ما إستجلبتموه من  ذبح وذل وعار، وسندفنه معكم في غياهب صحرائكم…

  •      *        *

كنت قد غادرت الصالون ،إلى الحمام، من أمام جدتي، وكل كلماتها تتساقط في أذني كلمة بعد أخرى، ووقفت على المرحاض لأستطيع إكمال تصوير “هيثم”، الذي أخذه الجنود إلى الشوارع الخلفية شبه الفارغة ليكملوا حلقات التمتع بضربه، وفي ذهني كشف تصويره هذا لأقرابي وأصدقائي، لنضحك عليه ومعه، والتلفاز مازالت الأصوات المتحدثة به تصل لأذني مثل نباح كلب، لا يعرف السكوت، وأدخلت “هيثم” في عدسة تصوير هاتفي، وأكملت التصوير، والرئيس من التلفاز يصرخ غاضباً ويقول:

ـ أنا لست ضد الكفاح المسلح فقط، أنا ضد كل أشكال العنف أيضاً…

فردت عليه جدتي بحنق:

ـ لماذا تترأس شعباً يريد ذلك إذن؟ يا أخي “حل عن ظهرنا”، مدة رئاستك “خلصت، فارقنا”…

لقد قيدوا أيدي هيثم خلف ظهره، وشنطة كتبه معلقة فوق كتفيه، وسرعان ما غمّموا عينيه بشريطة متسخة بيضاء، وألقوا به أرضاً، إقترب منهم أحد المستعربين ،الذي كان قبل قليل ملثماً وبين راشقي الحجارة، بعد أن خلع لثامه المُزيف، وصورته بلثامه ودون لثام، همس في أذن الضابط بكلمات لم أستطع فك طلاسمها لبعدها عن أذني ولكونها، ربما، بلغة لا أعرفها، أمر الضابط جنوده، فرفعوا هيثم عن الأرض التي ألقوه فوقها عند وصولهم للشارع الخلفي، وتوجهوا به إلى الدورية العسكرية ليضعوه في داخلها.

كانت حرارة شمس نهاية أيار قد اندلقت في الشوارع وفوق رؤوس الناس، وكنت أرى بنفسي كيف تفجرت أشعة الشمس ينابيع عرق من على رأس “هيثم” مارّة بعروق رقبته الضعيفة إلى كل أنحاء جسده، وما أن وقف به الجنود مقيداً مغمّى العينين على باب الدورية العسكرية، حتى علا صوت الجهاز في يد الضابط، فتقدم في تلك اللحظة المستعرب وقد تناول مسدسه المختبئ خلف ظهره، وقال الرئيس في تلك اللحظة بالذات مُصرحاً، في جهاز التلفاز الذي تسمعه جدتي، وكلامه يتدفق في أذني رصاصات قاسية صلبة:

ـ أنا ضد الإنتفاضة أيضاً… الإنتفاضة دمرتنا…

وانطلقت رصاصة واحدة من مسدس الضابط المستعرب، بعد أن نظر يميناً وشمالاً، ليتأكد من أن الشارع لا يضم الكثير من الشهود،  ولمّا ظن أن أحداً لا يوثق ما يفعله، وضع رأس المسدس في رأس هيثم، وأطلق طلقة واحدة، طلقة واحدة فقط وكلمات الرئيس الصارخة” الإنتفاضة دمرتنا”، إخترقتا جمجمة “هيثم” الذي إعتلى شهيداً لتوه درجات السماء نحو الشمس. وجدّتي ترد صارخة، تخاطبه وكأنه أمامها:

ـ نسيتَ ان تقول أن المفاوضات أحيتنا، وأوسلو نهض بشعبنا، والتنسيق الأمني حرر أسرانا وحمى شبابنا وأطفالنا من القتل…

واحتضن هيثم الأرض بوجهه، ولثم ترابها وكأنه يُقبّل أمه، واختلط دمه مع التراب بشكل غريب، كأنه أراد أن يجبل التراب بدمه مع سابق إصرار، وكان جدول الدم يسيل ويسيل، ولم أكن لأصدق يوماً ان جسد الشهيد يمكن أن يحوي كل هذا القدر من الدماء، وكأن هذه الدماء تتزايد خصيصاً لتروي تراب الأرض، لتصير كما كانت تقول جدتي دوماً متسائلة بإستنكار وإصرار، عندما يعلو ويرتقي أي شهيد، بعد أن تسقي دماؤه الأرض:

ـ ماذا كنتم تعتقدون؟!!! أم” من أين للزيتون كل هذا الزيت؟”…

  •         *          *

كنت قد بقيت مشدوها جراء ما رأيت، لم أكن مصدقاً عيناي، بل إعتقدت للحظة أنني ما رأيت سوى كابوس، وأن عيناي تكذب عليّ كما تكذب عينا تائه عطش في سراب الصحراء، وبقيت أنظر من شباك الحمام وهاتفي الخلوي في يدي، ومددت جسدي للخارج أكثر وكأنني أريد أن أثبت لنفسي كذب بؤبؤي عيني، وفي تلك اللحظة بالذات رأوني، لم يرتبكوا كثيراً، فستدافع عنهم دولتهم وقضاءهم كما في كل مرة، لكنهم قرروا اخذ الهاتف كي لا أستطيع نشر ما رأيت، والتفّوا إلى الشارع الرئيس ليجدوني ويصادروا هاتفي.

نزلت من على المرحاض، وصرخت:

ـ لقد رأوني يا”ستي”، لقد رأوني وسيحضرون لمصادرة الهاتف…

ولم أفكر للحظة في مجيئهم لإعتقالي، لكنني أجبت على الأسئلة التي كانت تتوالى من عيني جدتي دون كلام، وأكملت:

ـ لقد قتلوا “هيثم” ياجدتي… قتلوه

ولم تسأل جدتي عمّن يكون “هيثم”، فللشهداء نفس الصورة والقيمة في صدرها وقلبها، وأنا لم أكن أعلم قبل ذلك أن جدتي، هذه العجوز المعمّرة، يمكن أن تفهم ما أريد قوله وبهذه السرعة، وأكثر من ذلك أنني لم أتصور يوماً أن جدتي “الحادة” مثل سكين، يمكن أن تكون ببرودة الأعصاب هذه، في وقت الشدة، قالت بهدوء ووضوح، وقد مدت يدها لأسقط فيها هاتفي:

ـ إياك أن تعترف بما فعلت… سيعتقلونك ويعذبونك، سيسألونك عنه، وأشارت بيدها لتريني عما تتحدث، هذه فرصتك لتكون رجلاً، لا تُفرّط بهذه الفرصة التي لا تتكرر كثيراً إلّا للرجال، إجلس الآن وتفرج على التلفاز وكأن شيئاً لم يكن….

وخرجت إلى الغرفة الأخرى، عرفت لاحقاً أنها أعطت الهاتف لأمي وأخرجتها من المنزل لتعطيه لبعض الجيران البعيدين عن بيتنا، وسرعان ما داهم الجنود البيت، وقابلتهم جدتي، وسألتهم وكأنها من باب التحدي ليس أكثر:

ـ ما الذي تريدونه؟ “هي وكالة من غير بواب؟”البيوت لها حرمتها…

وأخذت تدافعهم على الباب، تحاول منعهم بكل السبل، وكأنها تريد تحويل الأمر الذي جاؤوا من اجله وتغيير هدفه، لكنهم دفعوها ودخلوا، فعضلاتهم أقوى من عظام شيخوختها، لكنها ما أن دخل آخرهم حتى دفعته بكل ما استطاعت من قوة، فتدعثر بقدميه وأسقط واحداً من الجنود الذين كانوا أمامه، فارتفعت حالة الخوف لتتحول إلى جبن داخلهم، كما قال أبي، وهوت على رأس من أسقطته ب”بابوج” قدمها البلاستيكي، واخذت تضرب به رأسه ووجهه، وفي مثل هذ الحالات” يتصاعد الجبن داخل الخائف ويكبر، فما بالك بالجبان من الأصل؟”، والسلاح كما أكد أبي، “في يد الجبان يجرح”، فما بالك إن كان هذا الجبان عدواً؟”، وعندما صار الخوف يتصاعد من ضربات بابوج جدتي، وارتفع منسوب الجبن المجبول بالحقد والكره، وصل الجبن إلى أقصاه ومنتهاه، أخذ الضابط بندقيته الرشاش من على كتفه، وافرغ في جسد جدتي مخزناً كاملاً من الرصاص، فانفجرت ينابيع الدم القاني من جسد جدتي، وسال مدراراً على بلاط البيت، وبابوجها ما زال يهوي على رأس الجندي المتمدد أمامها …

قال لي أبي ونحن نستقبل العزاء المشترك، محتفلين ونوزع الحلوى لإستشهاد جدتي وإستشهاد “هيثم”، قبل إعتفالي بيوم واحد فقط:

ـ حتى وإن إستشهدت جدتك في البيت، وسالت دماؤها على “المصطبة”، فإن دمها قد روى الأرض، فلدماء الشهداء طريقتها في الوصول للأرض لترويها، أم من أين تعتقد أن للزيتون كل هذا الزيت؟!!!

محمد النجار

لمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذا؟!!!

ظلّت الكثير من الأسئلة تدق رأسي دون هوادة، خاصة بعد بعض الحوارات ،المُصرّة على قلب الحقائق، مع البعض، والذين لا يريدون أن يروا ما يدور في منطقتنا، من حرب كونية على مقدراتنا وتاريخنا وبلادنا وشعوبنا ، إلا حرباً طائفية!!! فلا أمريكا تطمع بنا وبخيرات بلادنا، ولا “آل سعود” هم رأس الأفعى في المنطقة، ولا ما يتم لمصلحة الكيان الصهيوني!!! ولا….إلخ، بل إن إيران”الشيعية”، هي فقط السبب وراء الحروب وإدامتها واستدامتها، ومعها حزب الله طبعاً، ولا يمكن أن تنتهي الحرب إلًا بعد الخلاص من إيران “الشيعية”، تاريخاً وطوائف ومذاهب وحتى جغرافيا إن أمكن!!! الأمر الذي يعني طبعاً إدامة الصراع واستمراره إلى آخر إنسان في الجانبين، وبهذا نكون نحن”السنة” قد نظفنا بيتنا من الداخل ونتفرغ لحرب الكيان الصهيوني!!! كلام خالٍ من أي منطق، فلماذا لا يمكننا أن نضع أيدينا مع إيران، ونتخلص من الكيان الصهيوني أولاً، فهذا لا يصح، ولماذا لا نتخلص من الصهاينة وحدنا ثم نرى أمورنا مع إيران فلا يصح أيضاً، فلا يصح معنا نحن “السنة” إلا إستعداء إيران فقط، وتحويل الصهاينة إلى حلفاء محتملين!!!

هكذا قال محاوري في حوارنا الأخير، فازداد طرق السؤال رأسي، لماذا، وازدادت الأسئلة التي تبدأ به أكثر، فتجاهلت “كيف ومتى وأين وهل ومن وإلى متى”، لأنني لو طرحت كل ما يدور في رأسي من أسئلة لما أنهيت مقالتي هذه أبداً، وعليه سأطرح فقط بعض ما يدور في رأسي من أسئلة تتعلق ب”لماذا”، منوهاً أنني لست من أنصار لا الدول الدينية ولا الأحزاب الدينية، وأنني أرى أن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة تخصه وحده، ولا يحق لأي كان التدخل بها، لا من قريب ولا بعيد، كما أنني لاحظت أن كل أصحاب النظرة الطائفية والمتمسكين بها، معجبين أشد الإعجاب بالنظام “الغربي”، والذي لا يفرق بين أبنائه لأي بسبب، دين أو لون أو جنس أو معتقد، لكنهم “عندنا” يريدون مجتمعاً بلون واحد فقط، هذا إذا ظل هناك لون بعد الصراع الدائر….

ولنبدأ بالأسئلة، التي أرجوا أن لا يجيب عليها أو يقرأها أحداً من المتعصبين، من أي طرف كان، وهي أسئلة برسم التفكير لكل مَنْ يدعي أن الصراع الدائر في منطقتنا ما هو إلا صراع طائفي، وليس صراعاً سياسياً في جوهره، مغلفاً بغلاف طائفي:

  • لماذا إصرار الدول “السنية” على حرف إتجاه البوصلة، من فلسطين وتحريرها، ومن العداء للصهيونية إلى جعل العداء لإيران؟ وهل صحيح أن “طويل العمر” ملك آل سعود، دعم بناء المستوطنات بعشرات ملايين الدولارات؟ ودعم حملة إنتخابات نتنياهو ب80 مليون دولار، كما نؤكد الصحافة العبرية؟

  • إذا كان الصراع طائفياً لماذا إذن لم تقم “الدول السنية”، وعل رأسها دولة “آل سعود”، بمحاربة إيران أيام الشاه؟ أم أن إيران كانت “سنية”آنذاك؟

  • لماذا تم افتعال حروب متتالية مع إيران بعد إنتصار الثورة مباشرة؟ رغم أن الإنجليز “حلفاء” الدول السنية “وأبرز داعميهم حتى اليوم (هم مَن سلم الأهواز لإيران، تماماً كما سلّم الفرنسيون لواء الإسكندرونة لتركيا والإنجليز  لمناطق نجران وعسير وجيزان لآل سعود أنفسهم)، وكذلك سيطرت إيران على الجزر الإماراتية أثناء حكم الشاه، فلماذا لم تحارب الدول “السنية” وعلى رأسها آل سعود الشاه “الشيعي” ولم نسمع من هذه “الدول السنية” ولو كلمة واحدة بهذا الشأن آنذاك؟. بل إن علاقتهم مع الشاه كانت استراتيجية، وهو من ساعدهم على ضرب القوى الثورية التي نشأت في بلادهم!!! ولم نسمع “بسنة أو شيعة”، ولا عن اي دور “تشييعي” لإيران في المنطقة.!!!

  • لماذا اكتشف حكام الدول “السنية”، “شيعية إيران” بعد أن تم رفع العلم الفلسطيني فوق سفارة”إسرائيل” الموروثة من عهد الشاه، وتحويلها لسفارة “فلسطين”؟ وفي نفس الوقت الذي إبتدأت أمريكا بفرض حصارها على إيران؟

  • وما دام الموضوع هو “سنة وشيعة”، فلماذا تقيم هذه الممالك والدول والحكام “السنة”، أرفع العلاقات وأكثرها تطوراً، مع دولة أذربيجان “الشيعية”، صاحبة العلاقات الأكثر تميزاً بالكيان الصهيوني، وخاصة من الناحية الأمنية، التي تضر أول ما تضر بقضية”العرب السنة” في فلسطين؟!!!

  • لماذا، والأمر كذلك، لم تدعم الدول “السنية”وعلى رأسها بلاد “مملكة الخير” وقيادتها، آل سعود، الفصائل “السنية” في فلسطين، بعُشر ما قدمته لما إستجلبته من حثالات بشرية لتدمير أوطاننا في سوريا والعراق وليبيا واليمن و”الحبل على الجرار”؟ وتركت الأمر لإيران”الشيعية” لدعم فلسطين “السنية” وفصائلها؟ وتركت خلايا “حزب الله الشيعي” يدرب ويعلم وينقل السلاح ويُهربه إلى القطاع المحاصر، وتُعتقل بعض خلاياه في الدولة المصرية “السنية”؟ ولم تقدم أي نوع من الدعم للقضية الفلسطينية “السنية”، على مدار 68 سنة من عمر القضية، ولا حتى فتوى واحدة من شيوخ “السنة” العباقرة في بلاد آل سعود، بل أنها أوقفت حتى التبرعات لهذه القضية…

  • لماذا لم تقم الدول “السنية” بمحاربة محتلي المسجد الأقصى المبارك” أولى القبلتين وثالث الحرمين” رغم مرور 49 عاماً على إحتلاله، وشيوخ فتنتها كما القرضاوي “ينبحون” لمحاربة سوريا لنشر الديموقراطية هناك؟!!! ويستعيذ الله متبرئاً ممن يقولون بمحاربة “إسرائيل” بعد الإنتهاء من سوريا، ويشحذ من أمريكا المزيد من التدمير لبلداننا، ” ضربات لسوريا من أجل الله ياأمريكا”، الغريب أن البلاد والمقدسات محتلة من”اليهود الصهاينة” وهم ينادون بالديمقراطية في بلدان يحكمها “مسلمون”!!! والأغرب أنهم يريدون الديمقراطية التي يمنعونها في بلادهم، والإنتخابات التي لم يجرونها يوماً، والدستور وهم لا يملكون دستوراً… مع ملاحظة أن كاتب هذه السطور من أشد مؤيدي حرية الرأي والفكر والتعبير والإختيار، وضد كل أنواع التمييز الديني أو العرقي أو المذهبي والطائفي، أو اللون أو الجنس أو العرق، ومع تشكيل الأحزاب إلّا الدينية منها، والتبادل السلمي للسلطة.

  • بل لماذا تبرعت “مملكة الخير” أطال الله عمر قادتها آل سعود”، بفلسطين، في رسالة موثقة عبر الحلفاء الإنجليز، إلى “المساكين اليهود” أو حتى “إلى غيرهم “كما ورد في الرسالة؟ أعيد “تبرعت” بفلسطين وكأنها من بقايا موروث آبائهم العملاء الفاسدين المتخلفين الجهلة”!!!

  • لماذا لم تستخدم “مملكة الخير”ودول النفط “السنية”علاقاتها بالغرب، أو بالنفط، أو أموال النفط، لدعم قضيتها الأولى قضية فلسطين”السنية”؟

  • لماذا حارب آل سعود “السنة، الثورة الناصرية”السنية”، متحالفاً مع شاه إيران “الشيعي”؟ وراعيتهما أمريكا، أم أنه لم يكن “شيعياً” وإنما نحن الجهلة  المفتقدين للثقافة نعتقد ذلك؟ ولماذا إستدعت الحرب عليه من إسرائيل في حرب 67، معتبرة في رسالتها أن نظام ناصر إذا إستمر دون تدمير حتى سنة 70 فإن نظام “آل سعود” لن يعيش أبداً ليصل لعام 1970، أم أن الصهاينة هم صهاينة “سنة”؟

  • وما دام الأمر طائفي، لماذا إستُجلبت “القاعدة “من العالم إلى ليبيا لتدمير بناها التحتية، وذبح عشرات الآلاف من البشر “السنة”، وتدمير أول شيء النهر العظيم الذي خضّر حتى الصحراء الليبية؟ وأين الشيعة في ليبيا؟ وأين الشيعة من مصر التي يحاولون تدميرها وتقسيمها ؟

  • لماذا ترتضي الدول “السنية”، قائدة الثورة”السنية” في الوطن العربي، ل”تنظيماتها ومناضليها في جبهة النصرة وداعش وأحرار الشام وجيش الإسلام في سوريا” أن يُعالجوا في المستشفيات”الصهيونية” ويزورهم ويلتقيهم “نتنياهو” نفسه، وكل وسائل إعلامهم، ووسائل إعلام الأنظمة “السنية” تغطي على الأمر وتمنع نشره في وسائل إعلامها، وكأنها بذلك تحجب الحقيقة؟ وكيف ترتضي لقيادة الثورة “السنية” في سوريا بالتبرع بهضبة الجولان لإسرائيل مقابل دعمها بإسقاط الأسد؟ كما وكيف ترتضي للثوار”السنة” بالتدرب على أيدي ضباط الصهاينة، وأن يقود عملياتهم في غرفة عمليات “موك” في الأردن ضباطاً “إسرائيليين” بجانب ضباط من طرف آل سعود وأمريكا والأردن؟ والآن يقوم الصهاينة بإنشاء غرفة عمليات مشتركة مع ” المناضليين الجهاديين السنة” من “جبهة النصرةـ تنظيم القاعدة في بلاد الشام ـ لإقامة شريط عازل في الجولان على غرار ما تم في جنوب لبنان؟

  • لماذا لا يُحارب آل سعود، كقيادة للدول “السنية” أمريكا، التي أسقطت القيادة العراقية السنية “صدام حسين” ، بل إستدعت أمريكا وتحالفاتها لإسقاطه بعد أن رفع شعار”نفط العرب للعرب”؟ وفي الوقت الذي رفضت فيه إيران “الشيعية” أن تفتح أراضيها للغزو الأمريكي للعراق ، رغم محاربته لها 8 سنين طوال، فعلت ذلك دول النفط وغير النفط “السنية”، من مصر إلى دولة آل سعود إلى دولة “النعاج” كما سمّاها رئيس وزرائها آنذاك حمد الصغير، إلخ؟  بعد أن حاصروه وقتلوا من شعب العراق ما يزيد عن مليون طفل فقط بسبب حصارهم…

  • لماذا لا تُحرضون “السنة” في لبنان وتدعمونهم بالصواريخ كما فعلت إيران مع حزب الله، لمحاربة إسرائيل، خاصة وأن لديهم قيادة ثورية مثلكم (من الحريري إلى السنيورة إلى فتفت “شرّيب الشاي” مع الجيش الإسرائيلي، إلى ريفي)؟ ولماذا تحالفاتهم فقط مع جعجع وأمثاله، أحد أهم أبطال مجزرة صبرا وشاتيلا، القاتل المحكوم في المحاكم اللبنانية نفسها؟

  • لماذا دعمتم يا آل سعود، ياقادة “السنة”، إثيوبيا، الدولة التي ـ ربماـ من أكثر الدول الإفريقية تعاوناً مع “إسرائيل”، في بناء سد النهضة الذي يحرم الدول “السنية” العربية”مصر والسودان”من المياه، يعطش شعبهما ويصحر أراضيهما، وبتعاون مباشر مع إسرائيل؟

  • لماذا أصبحت إيران دولة نووية رغم حصاراً أمريكياً ودولياً ومنكم أنتم أنفسكم أيها الدول “السنية”، وآل سعود على رأسكم، وصار عندها ما يقرب من الإكتفاء الذاتي إقتصادياً، وأنتم بدلاً من أن تتعلموا منها، وتثبتوا لها أنكم “السنة” لستم بأقل شأنا، فإنكم ما زلتم تعتمدون في إقتصادكم بنسبة أكثر من 90% على النفط، وبدلاً من طلب مساعدتها تحاربونها، وأنتم أيها الكسالى الخائبين، يا آل سعود، ما زلتم تستوردون خضارا ،فقط خضـــــــــــــار، من مختلف دول العالم بأكثر من 30 مليار دولار، أقول مليار وليس مليون، في العام الواحد، وتستوردون المياه بأعلى من أسعار نفط شعبكم المنهوب…وصارت “سلة غذاء الوطن العربي”، السودان، التي تمتلك 30 مليون رأساً من الأبقار، وخمسين مليون رأساً من الماعز ومياه النيل وعشرات الأنهار الأخرى، صارت صحراء وجائعة وجاهلة ومتخلفة وتبيع أبناؤها لآل سعود ليقتلونهم في حرب اليمن، ويمزقها الفساد والبيروقراطية,… رغم “سنيتها” وتطبيقها للشريعة الإسلامية السنية أيضاً.” في هولندا مجرد مليون رأس من الأبقار، وبدون “سِنّة” ولا “شريعة”، صارت من صفوف الدول الأولى في العالم في تصنيع الأجبان والشوكولاتة، وبدون أمية ولا فساد ولا إفساد. أما السودان الذي  إتبع نصائح “سنة” قطر وآل سعود فتقسمت بلاده إلى قسمين، وبدلاً من الإهتمام بمصالح الوطن والمواطن، يقوم بمحاكمة فتاة تلبس بنطالاً أو أخرى تتزوج مسيحياً، لكنها لم تحاسب فاسداً واحداً أو لصاً واحداً.

  • لماذا تتقدم الدول “السنية” دول العالم في الفشل والجهل وتفشي الأمراض والأمية، مصر والصومال وموريتانيا واليمن والسودان والباكستان وأفغانستان.

  • لماذا لم تستثمر الدول الغنية “السنية” أموال خيرات شعبها، في الدول “السنية” المحتاجة لذلك، بدلاً من إبقائها في بلاد الغرب وبنوكها؟ مثل مصر والسودان واليمن، الأمر الذي يُطور هذه الدول ويقضي على البطالة والفقر، ويجعل الدول المستَثمِرة رابحة في نفس الوقت. أم أنهم يدركون أن أمريكا لن تسمح لهم بذلك، وربما تصادر هذه الأموال شاهرة في وجوههم ملف حقوق الإنسان كما هو متوقع!!!

  • لماذا تصر قيادة الدول “السنية” لمحاربة كل من يحارب أمريكا وإسرائيل، ولشيطنته وملاحقته وتوقبف قنواته الإعلامية؟، وكما دفعت أمريكا بإعترافها، ما يفوق على 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله، هكذا تفعل الدول “السنية” بقيادة آل سعود مع فصائل المقاومة العراقية التي طردت الأمريكي خارج العراق في 2011، ومن بينها بعض فصائل الحشد الشعبي في العراق، أو مناهضوا سياسة التدمير التي أنتجها آل سعود في اليمن من “أنصار الله” وغيرها من فصائل إسلامية ويسارية…

  • لماذا يُحارب آل سعود”السنة”، أعداء أمريكا وإسرائيل، ليس في المنطقة فقط بل والعالم أيضاً؟ وتكيل لهم كل التهم وتدفع الأموال من جيب شعبها، لتحصد أمريكا الثمار، وهذه مجرد أمثلة على ذلك:

ـ دفع آل سعود “السنة” مبالغ طائلة بعد فوز الحزب الشيوعي الفرنسي، وكذلك الحزب الشيوعي الإيطالي في إنتخابات بلادهم، للأحزاب الأخرى كي لا يدخلوا في تحالفات معهما كي لا يستطيعا تشكيل حكومات كل في بلدهما، هل كان أولئك شيعة؟ وهل إعتدوا على سيادة بلدان العرب أو المسلمين؟ وبأي حق يتدخل آل سعود في شؤونهم الداخلية؟ ولمصلحة مَنْ؟ أليس لمصلحة أمريكا وبأموال العرب؟!!!

ـ دفع الأموال لشراء البشر والسلاح وبشعارات دينية لمحاربة الإتحاد السوفييتي السابق، لتعود أفغانستان للحظيرة الأمريكية وبأموال عربية، هل كان السوفييت شيعة وأمريكا دولة سنية؟!!! وما شأن آل سعود بذلك؟ ولماذا سكتوا عن تحويل أفغانستان “السنية” إلى دولة فاشلة؟

ـ دعم آل سعود أعداء الثورة الساندينية، بالمال والسلاح، الكونتراس، كي لا يصل أعداء أمريكا للحكم آنذاك، وزهقت نتيجة ذلك عشرات آلاف الأرواح، ودمرت البلاد، بأموال العرب ولمصلحة أمريكا، فهل كانت الثورة الساندينية “شيعية”؟ وبماذا أساءت للسعودية لتقف موقفها ذلك؟

ـ أغرق آل سعود السوق بالنفط وأنزلوا سعره من 120 دولاراً للبرميل إلى أقل من 30 لكي يضربوا الإقتصاد الفنزويلي المعادي للأمريكي وكذلك الروسي المنافس له، وليضربوا الإقتصاد الإيراني أيضاً، فإن كان هناك خسارة بيِّنة لإيران في مليون برميل تصدره في اليوم الواحد كبيرة ومؤثرة، فإن خسارة آل سعود كانت أحد عشر ضعف الخسارة الإيرانية، كونها كانت تبيع أحد عشر ضعف المنتج الإيراني، ومن الرابح من جراء ذلك؟ أمريكا بالتأكيد، وآل سعود”جكر في الطهارة يشخون في لباسهم”.

  • ما دام “الدواعش” وجبهة النصرة، وما شابههم من حثالات بشرية “ثواراً”، لماذا يذبحون الناس ويفجرون أنفسهم في المساجد والأسواق الشعبية، ويصرخون”جئناكم بالذبح” هل هذا الإسلام “السني” الذي يريدون حكمنا به؟ وهل لائحة النساء في زواج النكاح اللواتي يُطلقن ويُزوجن بأوامر “سنية شرعية”ما يقرب من عشرين مرة في اليوم الواحد، ويدفع لها ثمن النكاح، هل هذا من الإنسانية في شيء؟ وهل هو من الديانات لا سيما المذهب السني في شيء؟ وهل يختلف عن بيوت الدعارة في شيء؟ولماذا تركت الدول الغربية القتلة للقدوم إلى سوريا والعراق وسهلت مرورهم؟ ولماذا ساعدتهم أمريكا وقطر وآل سعود؟ وإن كانت تريد أمريكا محاربتهم لماذا تركتهم يتدربون تحت سلطتها وبسلاحها وفي معسكراتها في تركيا وليبيا، ولماذا لم تقدم للجيش العراقي حتى الآن السلاح المطلوب، رغم أنه دفع ثمنه منذ سنوات؟ وماداموا يريدون محاربتهم لماذا جلبوهم إلى ليبيا “السنية”، والتي ليس بها من الشيعة أحد؟ وكيف لم يروا الأسطول البحري الذي يزيد عن 3000 صهريج وينقل النفط المسروق من العراق وسوريا ويتوجه الى تركيا واسرائيل؟ وكيف سمحوا لدويلة الشيخة موزة بشراء 3200 عربة تويتا مجهزة للقتال من اليابان ويدخلونها من تركيا إلى سوريا؟ وكيف لم يرَ الأمريكان مئات الآليات والدبابات ومدافع الهاون والصواريخ التي تتنقل في العراق وسوريا وما بينهما على مساحة آلاف الكيلومترات المربعة؟ في الوقت الذي ترى فيه لو مجرد مناضل فلسطيني واحد في قطاع غزة وتقصفه، لكنها لا تقصفهم؟ وكيف لم تر نقلهم بطائرات تركية وقطرية إلى جنوب اليمن؟ ولماذا قام آل سعود “السنة”وكذلك دولة قطر”السنية” بعزل الجنرال “السني” السوداني”الدابي”، الذي بعثته الجامعة العربية للتحقيق في أحداث سوريا منذ بدايات احداثها، عندما إتهموا النظام بقتل المتظاهرين، وعاد ليقول لرئيس وزراء قطر السابق “حمد الأصغر”، إوقفوا دعمكم وتسليحكم للإرهاب، تتوقف الحرب في سوريا، فكان نتاج تقريره عزله ووقف مهمته.
  • لماذا لم نرَ أو نقرأ أو نسمع رغم كل عمليات التفجير في المساجد والكنائس والأسواق، وتدمير الآثار والتاريخ، والتقتيل والذبح في كامل الفسيفساء العربية، من المناضلين “السنة”، عن أي عملية ضد الكيان الصهيوني، ولو عن طريف الخطأ؟ ولماذا يقتلون من “السنة” أكثر ما يقتلون من المذاهب والطوائف الأخرى، لكل من لا يتطابق وآراءهم؟ وفي المقابل لماذا لم نسمع عن “شيعي”يفجر نفسه في مناطق السنة؟بل أن “الشيعة”في الحشد الشعبي، “والذي يضم في صفوفه عشرات آلاف “السنة”، هم مَنْ يُحرر المناطق “السنية”، لاحظ “السنية” من براثن داعش وأخواتها، ولماذا لم يتوجه الدواعش للمناطق الشيعية في وسط العراق وجنوبه ليحتلوه ماداموا يريدون القضاء على “الرافضة”؟ بل داهموا المناطق “السنية” فقط وذبحوا أهلها ودمروا بنيانها واغتصبوا نساءها؟ ولماذا لم نسمع هذا التقسيم الطائفي عن “سنة وشيعة” بين الأكراد؟

  • لماذا، وهذه ال”لماذا”، كان يجب أن تكون في البداية ربما، لماذا يعتقد هؤلاء “المناضلين السنة”، ومن خلفهم داعميهم وأولهم آل سعود، أن الجنة من حقهم ونصيبهم حصراً ودون غيرهم؟ فلا نصاً يؤكد ذلك، ولا منطق أيضاً، فمذاهب الإسلام من”سنية بمذاهبه الأربعة” الشافعي والحنفي والحنبلى والمالكي” وفرقها من السنية والإباضية والشيعية، يتفرع عنها: أهل الحديث والسلفية والأشاعرة والماتريدية والمرحبة والمعتزلة والجهمية والصوفية والإثنا عشرية والزيدية والأصولية والأخبارية والشيخية والإسماعيلية والنزارية والمستعلبة والعلوية والأذارفة والنجدات والأحمدية والقرآنيين والبهرة  …إلخ والتي تصل الى 73 فرقة، كلها تدّعي أنها تمثل الإسلام “الصحيح”، وكيف  يستطيع هؤلاء التفكير أن لهم ميزة على الطوائف الأخرى وعلى الأديان الأخرى بما فيها الديانات الوضعية، عدا أن ليس لهم فضلاً أو ميزة حتى على ما في طائفتهم نفسها، ألم يحن الوقت ليتدينوا كما يريدون لكن بإبعاد الدين عن السياسة، ألا يكفي ما فعله الدين المسيس في البشرية جمعاء؟ تخيلوا 73 فرقة ومذهب إسلامي، ومثلها أو أقل قليلاً من الديانات الأخرى، والجميع بدون إستثناء يدعي أنه الصحيح، وإلا لغير مذهبه لو كان لديه شك فيه، فلو أراد كل طرف فرض رؤيته على الآخر ماذا يمكن أن يتم في عالمنا العربي؟ تخيلوا إلى أين يمكن أن توصلنا التقسيمات الطائفية والدينية، وربما لو تبعنا العرقية والقومية أيضاً، ستصبح أكبر دولة عربية حسب طائفتها ومذهبها أصغر بكثير من ملعب كرة قدم، دولاً متحاربة متذابحة إلى مالا نهاية، هذا إذا لم نفنِ بالحروب بعضنا بعضا!!!

  • لماذا لا يترك هؤلاء الدين لصاحبه، الله، ولماذا يتدخلون بصنع الله بخلقه؟ ومن أعطاهم الحق بذلك؟ فالدين كما ذكرنا لله والوطن للجميع، فلنترك ما لله لله، ولنتضافر لإعلاء صرح الوطن، ولا نترك أحداً ليتدخل في شؤون الله تحت أي إسم أو ذريعة، فهذه العلاقة بين الإنسان وربه من أشد العلاقات شخصية وخصوصية، ولا يحق لكائن من كان أن يتدخل بها، أما شيوخ الفتنة الذين بحرضون على العنف في أوساط فقراء الشعب وبغض النظر من أي ديانة أو طائفة هم، فنسألهم لماذا لا تبعثون أبناءكم ليفجرون أنفسهم ويصعدون ليحجزوا لكم مكاناً في الجنة؟ وإن كانوا “ملوا زوجاتهم”ويريدون الحوريات، فلماذا لا يذهبون هم أنفسهم ليفجروا أنفسهم ويصعدون الى السماء، بدلاً من تحريض الفقراء ؟ ولماذا لا يعطون الفقراء جزءً من جنانهم الأرضية إن كانوا بهذا الإيمان الذي يدّعون؟ولماذا يبعثون أولادهم وبناتهم إلى بلاد الغرب “الكافرة”، ويبعثون أبناء الفقراء لتفجير أنفسهم في خلق الله وعباده؟ وأكرر من أين لهم التأكد من صحة طائفتهم أو مذهبهم؟ ومن أين يعرفون أن لهم الجنة دون غيرهم؟ بل من قال أصلاً أن لهم الجنة؟، فالله ،حتى الله الرؤوف الرحيم، لا يرحم العملاء والمجرمين…

محمد النجار

سجن الحساسين…

ـ 1 ـ

                    ظل السجن كما كان منذ قرون، سجن كبير تملؤه أقفاص الحساسين، مغلقة بقضبان حديدية من السقف العالي، مثبتة في الحوائط من أربع زواياها، أقفاص صغيرة لا تتسع لأكثر من حسونين إلى ثلاثة حساسين، وبعضها فقط، لأصحاب الأحكام العالية، لأكثر من ذلك، حول كل قفص أسلاك شائكة كثيرة، فتبدو مثل لفات “تِبن”أو “قشٍ” هائلة لا يكاد يدخلها الهواء، لتُرغم من فيه على عدم التواصل مع الأقفاص الأخرى، فتواصل الحساسين والبلابل واليمام، وكافة أنواع طيور المنطقة خطير على الأمن العام للببغاوات في كافة أرجاء المنطقة، ويتجاوزها إلى الغربان والبوم في المحيط كله وربما أبعد من ذلك بكثير. يحيط السجن أبراج عالية، يقف في كل زاوية منه برجاً منها، يتجاوز طوله حوائط السجن، مثل عملاق يجاوره قزم، فيكشف ما في داخل السجن، ويطل على شوارعه المحاذية، كما ويدور فوق سطح السجن المربع، جنود الغربان والبوم، يُكثِّفون أنظارهم من خلال سقف الأسلاك الشائكة، ليراقبوا ساحات السجن و”فورة” حساسينة القابعة فيه، موجهين فوهات بنادقهم إلى كل ما يتحرك، ويثير الريبة، داخله.

ومنذ قدوم البوم والغربان، إلى بلاد الحساسين الواسعة، مدعوة من ببغاوات المنطقة ومرحب بها، إزداد عدد السجون وارتفعت حوائطها، والشيء الوحيد الذي تم تشييده في طول البلاد وعرضها هو السجون، سواء كان ذلك في مناطق الببغاوات منفردة أو في مناطق البوم، أو في مناطقهم المشتركة، المدعومة من الغربان فُرادى ومجتمعة. فتم تحويل معظم المدارس الى سجون، وكذلك الكثير من المشافي، وفي الكثير من الأحيان كانت تتم الإحتفالات بتشييدها كما لم يُحتفل بأي شيء آخر، وفي أحيانٍ كثيرة، كان يتم إقتلاع الأشجار وهدم المتنزهات، ليرتفع مكانها السجون العالية، المكتوب على بابها: ” العصا لمن عصا” وتحتها عبارة أخرى مكتوبة بحروف مذهَّبة واضحة، وأكثر إتساعاً من العبارة التي سبقتها: ” لا تعصي ملكك، فتنال ذل الدنيا وعذاب الآخرة…فطاعة الملوك من طاعة الله”. وكان يتناوب الحراسه الغربان منذ طلوع الفجر حتى غياب شمس النهار، والبوم منذ غياب الشمس حتى ظهور شعاعات الفجر الأولى، كون قبائل الغربان تميزت بقوة الرؤى في النهار، وقبائل البوم تميزت بها ليلاً.

مازالت قبائل الغربان والبوم تتناوب حراستهم، والحسون الأب والأم وثالثهما حسونهما الصغير داخل القفص، يراقبون الوقت الذي يمر ببطء شديد ثقيل، لم يره أي منهم في حياته قط، فحياة السجن لا تشبهها حياة، وحالة من شبه الصمت تكاد تملأ عليهم القفص كله، لولا بعض أطراف الحديث الذي يتجاذبه أحدهم مع الآخر بين حين وحين. منذ أن تم اصطيادهم ثم حبسهم، وبعد أن زرعوا الرعب في صدور أفواج بقية الحساسين وأدموها بمناقيرهم الجارحة، وهجّروا معظمها من على أراضيها، منذ ذلك الوقت لم يعد يعرف الحسون الزوج كم من الوقت قد مر عليهم، وهم قابعون بؤساء غير قادرين على فعل شيء يذكر، غير بضع رسائل مُهربة من سجنه إلى رفاق الخارج، يساعدهم فيها في رسم بعض برامج وتفاصيل عمل، جراء تجربة طويلة في عمل سري مضني أمضاه في غارب السنين، وها هو حسونه الصغير يكبر أمام عينيه، ويقف ومعه زوجته على أبواب طريق الشيخوخة، المتجهة حتماً إلى الموت، وتمر عليه لحظات يكاد ييأس من كل شيء، لولا تلك الإرادة الصلبة التي طالما امتلكتها الحساسين والبلابل والدوري والكناري وطائر الكروان واليمام والحمام، رغم كل ما مر بها من مآسي داخل أوطانها نفسها، متصدين لها بأجسادها الهزيلة.

نبع الذكريات المتفجر في عروقه يظل يسقي عقله بأحاديث الأجداد، تلك الأحاديث التي تشرَّبها عن كل شيء، عن الحياة والعمل والعشوش والأشجار والأمل، وها هو يسقيها لإبنه الحسون الصغير، منذ أن نقر بطن البيضة بمنقاره الهش ليُفتتها ويخرج للحياة، فوجد نفسه في سجن يحرمه من الحركة أو التنفس أو حتى الطيران، ليعرفها ويحفظها عن ظهر قلب، فالحسون الأب نفسه لم يعد يعرف بالضبط من أين له كل هذه الثقة على مغادرة القفص، والعودة الى الأشجار والطرقات وحياة البراري وفضاء الحرية، وهو لا يمتلك شيئاً سوى إرادة لم تهزمها سنوات السجن ولم تُلغها ثقافة الذل والخنوع، التي تحاول ترويجها قبائل الغربان والبوم وأبواق الببغاوات في كامل السهل ومساحات الأشجار، وربما كان دور حثّ رفيقة عمره له، على التشبث بهذه الإرادة، التي سوف تكسر قوة السجان وعيدان الأقفاص القاسية وأسلاكها، الدور الفصل في ذلك، والتي لا يعرف لا كيف ولا من أين تتسلح بها وتأتي، ولا كيف تعطيها كل هذا الزخم والصلابة والعنفوان، وبجانبها وصايا الأجداد، من تجارب الحساسين والبلابل والحمام واليمام وبقية أصناف الطيور المقيمة في كافة أرجاء المنطقة، فوق مساحات الأشجا المنتشرة وعلى مساحات الأرض القريبة والبعيدة، وفهمه وهضمه لتلك التجارب.

يتذكر الآن عندما إلتقاها للمرة الأولى، كانت تطير في سرب غير سربه، لفت انتباهها بتغريده المميز والمستمر مع بقية الذكور، كي يحافظ غلى السرب ولا تتوه الحساسين وتتفرق،خاصة الصغبرة منها، والتحق بسربه سربها، فكما يقول المثل”الموت مع الجماعة رحمة”، فما بالك بالحياة مع الجماعة؟!!! ورآها هو في ذات اللحظة التي تداخلت بها حساسين السربين، وكانت ما تزال طائرة راكبة موجات الهواء وتتمايل مع نسماته، تحلق فاردة أجنحتها عائمة بجسدها فوق موجات الهواء، وريش جناحيها كشعر ناعم أملس يشاكس الهواء ويتمنع أمام محاولات اقتحاماته المتتالية، وريشات ذيلها تنفرد وتتكاثف وتتتحرك ذات اليمين وذات الشمال لتساعدها في تغيير اتجاه حركتها المتكرر، وجسدها المنساب الملون يحمله الجناحان، ويقتحم جموع الهواء كفارس مقدام يعتلي صهوة حصان جامح لم ينفض عن جسده غبار المعركة بعد، شاقاً صفوف جيش الأعداء متقدما بحد السيف، رأى سهام عينيها السوداء المحاطة بدائرتين ذهبيين، فأضحت مثل هدف داخل دائرة تقتحم عليه نشاطه وتربك ألحان تغريده، لكنه تمالك نفسه ولم يستسلم لحالة الإرباك هذه، وافتعل أنها بحركاتها تلك تريد أن تحييه، وما عليه بالتالي إلّا رد “التحية” بمثلها بل بأحسن منها، مطلقاً العنان لدقات قلبه لتكمل لحن غنائه، وفي تلك اللحظة التي حط السربان على مجموعة من أشجار الفاكهة وبضع أشجار صبار، وشجيرات أشواك من أشواك “إكليل المسيح”،وقبل أن يُكمل رقصاته، ذهبت هي لتلك الشجيرات، شجيرات “إكليل المسيح”الشائكة على وجه التحديد، وكأنها تلمح له بأن الحياة بجانبها لن تكون سهلة، وأن عليه التفكير قبل أن يبدأ مغامرته معها، فحلاوة الحياة بقربها لن تخلو من المرارة ، وأن الراحة بين رويشاتها تمر عبر تذليل الصعاب، فهي تماماً مثل الشجيرات الشائكة هذه، لا تأخذ بذور طعامك منها دون آلام شوكها، وكادت تستحضر له ماقاله أمير الشعراء،الشاعر الحكيم أبي الطيب المتنبي الذي قال:

                      “تريدين” لقيان المعالي رخيصة                       ولا بد دون الشهد من إبر النحل

لكنها عدلت، رمت نفسها في حضن موجة هواء هادئة، وتركت له أن يفهم الأمر وحده، قبل أن تتوقف وسط أشواك “إكليل المسيح”، لتلقط بذوراً من بذورها وتبتلعها، حتى إذا حام حولها فارداً أجنحته، مبرزاً ألوان جسده مزهواً بها الى درجة الغرور ربما، حيث رفع رأسه واشرأب بعنقه عالياً ليظهر عليهما  اللون الأبيض والأسود والأحمر القاني، فارداً جناحيه لترى كيف يغطيهما اللون البني الفاتح  والأصفر اللامع ، وعليهما الأسود الليلي المرسوم كأنه بيديي خطاط مُحترف، وتمتد الألوان ليغطي بهما ريشات ظهره، وسرعان ما تقلب أمامها على موجة هواء حارة أشعلتها الشمس بروية منذ اختفى الصباح، ليريها اللون الأبيض الصافي كأشعة فجر هذا اليوم وقطرات نداه، قبل أن تذيبها شمس الصباح وتذهب، الأبيض المحاذي لللون الفاتح من البني والمجاور له، المتطاول على طول بطنه والذي عمّق البياض في بياض أبيضه بياضاً.

في هذه اللحظة بالذات، قفزت لتظهر له أنها ليست أقل منه ألواناً ونشاطاً وحيوية وجمالاً بالتأكيد وحُسناً، وأن أنوثتها الشابة المتفلتة، طاغيةفوق ذلك كله، تزيد جمالها جمالاً، وألوان ريشها بريقاً وجذباً،  وتكاد ـ لو تركت العنان لنفسهاـ أن توصلها إلى درجة الغرور.

وحلّقت قليلاً في الهواء وتمايلت عل أجنحتة، وحطت على شجرة صبار، وتبعها هو أيضاً، طار حواليها، تبعها دون أن يقطع حبل طيرانها ولا وجهته، ووقف على “كوز” صبار آخراً مقابلها، وغردت قليلاً، وغرد هو أكثر، وتقافزت طائرة في الهواء، وتقافز خلفها، وسرعان ما ارتفع عالياً في السماء، وبمنقاره كان يشق الهواء ويرتفع مثل صقر، ثم توقف فجأة، توقف في مكانه، وكأنه معلق مشنوق يتدلى في الهواء دون حبل،  وأخذ يغرد ويغرد ويغرد، وأطلق العنان لقلبه وحنجرته فأخرجتا ألواناً من الألحان والأنغام لم يعرفها معشر الحساسين من قبل، ودقات قلبه تكمل اللحن وتدق وتدق وتدق، عازفة ألحاناً لم يسبق له أن تصور أن جسده يضمها ويحويها، ثم غير اتجاه حركته، بإنقلاب فريد في الهواء، فأصبح الرأس المتسلح بمنقار صغير في الأسفل والذيل في الأعلى، ثم ضم الجناحين وأرجعهما لمكانهما حول جسده الفتي، ممدداً رجليه إلى الخلف لتصل إلى منتصف ذيله، وانطلق كالسهم من ذلك العلو، تحت شهقات عجائز الحساسين اللواتي إعتقدن أنه فعلاً “من الحب ما قتل”، ووصفته الببغاوات المجاورة بالمغامر، لكنه لم يُصغِ لكلام أحد، خاصة الببغاوات، لأنه كان يدرك في صميم نفسه أن الببغاوات لا تتكلم، لا تعرف أن تتحدث رغم إفتعالها ذلك، لكنها تردد فقط ما يقوله الآخرون، وكاد يقول ما قاله سيد الشعراء أبو الطيب المتنبي ذاته، رداً على إتهامه بالمغامر:

  إذا غامرت في أمر مروم                                 فلا تقنع بما دون النجوم                                              فطعم الموت في أمر حقير                               كطعم الموت في أمر عظيم

وقال في قريرة نفسة:” وهل هناك أعظم من الحب ليموت، إن كان سيموت، من أجله؟!!!”  وهوى بجسده مثل نسر جارح إلى شجرة الفاكهة حيث كانت من على غصنها تنظر إليه، إنقض وكأنه نسر على فريسة، حتى إذا وصل على مقربة منها تقدم برجليه إلى الأمام متزلجاً بهما على صدر موجات الهواء، مخففاً من سرعته حتى توقف تماماً في بطن موجة هوائية حارة، مطلقاً العنان لجناحيه لتتراقص متحركة للأعلى والأسفل، حركات قصيرة سريعة متسارعة، دون أن يتوقف عن التغريد، مزغرداً زغروداتٍ طويلة متعالية، تتطاول وتتمدد وتتوسع وتتعالى، وهو يهز رأسه يميناً وشمالاً فارداً عضلات جناحيه، وكاشفاً عن قوة جسده وفتوته، وأكثر من تودده لها راقصاً قافزاً عارضاً مهاراته في الهواء، ثم تقافز من لوح صبار إلى آخر غير عابئ بالشوك الإبري الذي يملئ الشجيرات .

وابتسمت هي، واقتربت منه بكامل حسنها، بجمال ريشها المنفوش وألوانه الصافية، بجسدها الذي ما تزال تؤرجحه وتتراقص به أمام عينيه، وسكبت كل أنوثتها من طرف عينها ،دفعة واحدة، في قلب عينيه، وابتسمت من جديد، فارتبكت دقات قلبه وتلعثمت ابتساماته، فازداد لون ريشات عنقه الأحمر ورأسه إحمراراً، بعد أن تدفق لون دم شرايينه فوقها واندلق، ولم يعد، أي منهما، يحس بوجود الحساسين الأخرى حواليه، ولا بالبلابل والحمام والدوري واليمام، ولا الكناري وطائر الكروان، ولا حتى بطائر الفر ، القادم من هجرته مقيماً على  شواطئ البحر، خصيصاً، باحثاً عن مصدر هذه الألحان. وعاد وارتفع عالياً في عين الشمس، وارتفعت هي أيضاً لملاقاته، وتقابلا تحت ظلال غيمتين ممتلئتين ظهرتا فجأة ،على غير توقع، في المكان، ونظرا الى عيون بعضهما، وشاهدا سنابل القمح وزهور الأقحوان في أقاصي كل بؤبؤة، وسرعان ما ارتفعت دقات القلب، كأنها تقف على أبواب الإنفجار، رغم أن هذه الأجساد الفتية ربما لا تحتمل مثل هذا الإنفجار، أطلقا ألحانهما من جديد،  ورغم عنف صوت دق القلب الكبير، كانت تتفتح أزهاراً وشمساً وربيعاً وظلالاً،  لعلاقة حب بين حسونين جميلين، أسرتهما لحظة عشق ستبقى فارقة في حياتهما، وأخذت الطيور تبتسم، وتتقافز فرحاً وطرباً، وصار هو يذهب ليلتقط حبات بذور ليطعمها ويسرق قُبلة، مدللاً على بذرة حب أخذت تتنامى وتكبر وتتفتح بسرعة مدهشة مع توالي الأيام.

لم يمر طويل وقت حتى قررا الزواج، وتشكل وفد من أهل الحسون الذكر ليطلب يد الحسون الأنثى، ترأس الوفد أكبر أعضاء الحساسين سناً، وتبرع الحساسين بالهدايا والطعام ليظهروا لعائلة الحسون العروس مدى جديتهم واهتمامهم بموضوع هذا الزواج، وكذلك ليظهروا كرمهم وتكاثفهم ووحدتهم أيضاً، وليبينوا لبقية الطيور،  إيمانهم  بما وصل اليه تطور الحسانين، على مدى تاريخهم كله، بوحدانية الزواج، وبعمق قناعتهم بالمساواة بين الذكور والإناث، وبجدية “إبنهم”في طلبه ومسعاه، وقالوا:

ـ مِثْلُنا لا “يمزح” في مثل هذه الأمور الجادة، وحسوننا والحمد لله قليلة أمثاله، سواء في النشاط في طلب الرزق أو الشجاعة أو في مواجهة الصعاب، ومجيؤنا لحد بابكم تقدير واعتراف لقيمتكم ومكانتكم أيضاً، وحسونكم الأنثى ستكون محل تقدير العائلة كلها، ونرجوا أن لا تردوننا خائبين.

فقالت عائلة الحسون الأنثى، رادة ومتجاوبةً مع كلمات أهل الحسون الذكر:

ـ نحن نتشرف بكم ونقدر قدومكم، وطائركم أظهر شجاعة مميزة، من خلال العرض الذي قدمه أمام الطيور جميعها، وليس أمام عوائل طائر الحسون فقط، ولقد رأيناه جميعاً في لاحق الأيام أيضاً مظهراً حبه وعشقه، رأيناه وهو يجلب لها بضع حبات من بذور الأشواك ويضعه في فمها، مظهراً لها حبه، ورأيناه وهو يغرد مغنياً بأهازيج الحساسين ومواويلها، وكي لا نكون متواضعين فقط، بل نرى الأشياء والأمور كما هي، فللحق فإبنتنا أيضاً لا تقل عن إبنكم، فهي قابلته التغريد بالتغريد، والحب بالحب، والجمال والشباب والحيوية بمثلها.

فقال كبير الوفد الضيف مؤكداً:

ـ صدقت، وتأكيدي هذا ليس من باب المجاملة، فكلنا راى ما رأيت، ولا مجال هنا لقول ما ينفي ما رأته العيون.      فقالت أم الحسون الأنثى من باب التباهي:

ـ ولا تنسوا أيضاً أننا في داخل عائلتنا، نمتاز والحمدلله، بالصبر والتحمل والمثابرة مثل بقية الحساسين وكافة طيور المنطقة في البلاد كلها، وفوق ذلك كله بالخصوبة، نعم الخصوبة، انظروا بأنفسكم وسترون أن أناثينا قادرة على خلق الحياة مرة أو مرتين في نفس العام، كما أنها تستمر تعمل رغم رقودها على البيض، وتدافع عن عشوشها جناحاً بجناح وقوائم بقوائم مع ذكورها، ولم تعتد على تركهم في النائبات وصعوبات الزمن وغدره.            لذلك لا  ينطبق علينا قول الشاعر:

   ما أكثر الأصدقاء حين تعدهم                                 لكنهم في النائبات قليل

فنحن والحمدلله تجدنا أول ما تجدنا حاضرين جاهزين، عندما تعز الطيور ويتفرق شملها في أيام الشدة، عندما تصير للمواقف أثمان وتضحي الكلمات مِخرزاً والأفعال سيوفا، تجدنا في لحظات الحقيقة حاملين لواءها، لا يوقفنا عن مناصرة الحق لومة لائم.

وطال الحديث، وتعارفوا وتحاوروا وتضاحكوا وتمازحوا ، وشربوا المياه وأكلوا الثمار، واتفقوا على تفاصيل الأحتفال بعقد القران لهذين الحسونسن الشابين، وابتدأ الجميع بالتحضير للإحتفال.

وجاء الموعد، وكانت الدعوات قد وجهت الى جميع الحساسين والطيور المُسالمة في المنطقة، من خلال التغاريد المنتشرة من حناجر الحساسين الشابة المتنقلة في كافة الأرجاء، فأقبلت الحساسين من كافة أماكن تواجدها، جاءت من أعشاشها في المتنزهات العامة، من الحدائق، من البساتين والأراضي الزراعية، من المقالع الحجرية والكروم وأشجار الصبار، جاءت حاملة للأزهار وورود الحدائق، محملة ببذور الأشجار وببعض الحبوب التي تكفي لأطعام الضيوف المحتفلين جميعاً، كما وحضرت وفود عديدة من بقية أنواع الطيور الأخرى وأشكالها المختلفة، وكانت المفاجأة كبيرة عندما جاءت الحساسين الأقارب من المتنزهات والصخاري المجاورة، ومن على مناطق “شرق المتوسط وجنوبه أيضا”، كما من مناطق عديدة مجاورة، للمباركة والمشاركة بهذه الفرحة وهذا الإحتفال. ورقصوا وغنوا مغردين وكان الغناء يكمل بعضه بعضاً، ورغم بعد المسافات التي أتى منها المحتفلين، إلا أنه لم يكن بينهم أي صوت نشاز، قد يُشوّه صوت ألحان الغناء المنساب جدولاً جميلاً متتابعاً، الذي ملأ الأجواء فرحاً وحباً وابتسامٍاتٍ وحياة.

وقبل أن تنتهي الإحتفالات كان الحسونان العروسين قد توجها الى شجرة فاكهة مثمرة، حيث ينتظرهما عشاً مؤقتاً لقضاء شهر العسل، حيث أمضيا أجمل الأوقات، فازداد حبهما حباً، وحياتهما قرباً، وتغريدهما تداخلاً وجمالا وتكاملاً، وكانت تلك اللحظات هي التي وضعت اللبنة الأولى لحياة مشتركة صلبة لا يمكن هدم أسوارها القوية.    وما أن انتهى شهر عسلهما، حتى عادا ليبنيا عشهما منقاراً بجانب منقار وجناحاً بجناح مع بعضهما البعض، وعادت تغريداتهما تتوالى وتتعالى، منبهة بقية حساسين المنطقة بأن هناك بيتاً جديداً سوف يُبنى، وأن عائلة جديدة تتشكل، ومن الواجب على الجميع الحفاظ غلى “حق الجيرة”، وبدلاً من أن يُقال”كوم حجار ولا هالجار” فقد سألا هما عن “الجار قبل الدار” ، فجاءتهما المساندة والمساعدة والترحيب والتبريك، مؤكدين لهما أن حق الجيرة لديهم هو حق لا يُناقش، كونه حق مقدس.

  ـ 2 ـ

إنه يتذكر الآن بعض ما تم بعد عرسهما في تلك الأيام، وهذا ما ظل يشرحه لإبنه الحسون الصغير بالتفصيل، منذ تلك اللحظة التي بدأت تتشكل مجموعات بين الحساسين الذكور، يملؤها الحقد والتعصب وعمى البصيرة، مجموعات مدفوعة من طيور صحراوية مجاورة، متحالفة مع “الغربان والبوم”، استعار بعضها ألوان الحساسين، واستُجلبت الببغاوات من أماكن بعيدة، لتوهم جهلاء الحساسين أنها من جلدتها، مُستغلين تشابه ألوانها مع ألوان الحساسين، ولم يُدرك الكثير من الحساسين، أن “القطة المتربصة ليس من أجل جمال أصواتهم، بل من أجل لحومهم”، لكن مع ذلك، وكي لا “تدفن الحساسين رؤوسها كالنعامة في التراب”، فلا بد للتنويه أن قوي البصيرة لا يعوزه كثير ذكاء ليدرك أن تغريد تلك الطيور، كان تغريداً شاذاً، وألوانها باهتة ونظراتها حاقدة، لكن ما جعل بعضها ينخدع، كونها ركبت موجة سذاجة بعض الحساسين لتنتشر داخل مجتمعها وتحاول تصحيره، وما دام هناك سُذج، فالنتيجة بشكل أو بآخر نوع من المأساة، لأنه “ما دام في السماء نسوراً هائمة، فهناك على الأرض جثث هامدة”، فالسذاجة و”عمى الألوان”، وتراكم الأخطاء لبعض قادة الحساسين، جعلت من عامة الحساسين تساهم، دون وعي أو إدراك، بتسريع ما يُخطط لها ويحاك، وانطبق عليها المأثور الشعبي “دجاجة حفرت على رأسها عفرت”، واتبعت في البدء ما رددته الببغاوات من أقوال دون وعي، ولاحقاً ما خططته أسراب البوم والغراب، و”من يتبع البوم لن يصل إلّا للخراب”.

رمت الكثير من الحساسين بصيرتها من أعالي السماء إلى وديان سحيقة، ولم تلحظ أن هذه الطيور تأكل دون أن تُنتج أو تتعب، وتجلس معظم أوقاتها تدعو وتستغفر، وكأن معشر الحساسين لم تفعل سوى الموبيقات في حياتها، وبدأت تبني المعابد المعتمة من الحجارة الثمينة، ولا أحد يعلم من أين أتت وبأي أموال ولا كيف أتوا بها، لكن ما لفت الإنتباه أن معظم الداعين في هذه المعابد كانوا من اللصوص وقطاع الطرق، لكن الحساسين قابلتهم بالقول الساذج القائل” سبحان مُغير الأحوال، ليس بكثير على الله هدايتهم”، فصارت اللصوص من علية القوم وأئمة معابده وكهنوته، وبدأوا يُغدقون الأموال على “نُخب” الحساسين وقادتها وعلمائها ومعلميها، وما أن قويت شوكتهم قليلاً حتى بدأوا يحاولون فرض قوانين لم تعرفها الحساسين، فأخذوا يُفرّقون بين ذكور الحساسين وإناثهم، ثم حرّموا عمل الأنثى ومشاركتها في بناء العشوش وفي إحضار الطعام، ولمّا رأوا أن بعض الأناث إستحسن الراحة وسمعن أقوالهم، قالوا أن الأنثى تنقصها القوة والعضلات للعمل، كما ينقصها العقل للتفكير والتجريد، والحساسين التي لم تُعطِ وزناً في بداية الأمر، ولم تدقق في داعميهم وعلاقاتهم وانتماءاتهم، وجدت نفسها في معركة داخلية، تحاول فيه الطيور الوافدة تحييد نصف مجتمع الحساسين، من خلال زج إناثه في أعشاشها وتحريم خروجها، وأن “أحد جناحيها” قد يُقطع من أُصوله بمثل هذه القوانين .

وكما يقول المأثور الشعبي، “إن أول الرقص حجلان”، فقد إبتدأ الأمر بتحريم ظهور ألوان ريشات الحساسين الإناث، على الذكور من الحساسين في أول الأمر، ثم على ذكور”الطير من كل جنس”، ثم تحريم رؤيتها من ذكور قبائل الحيوان!!!، ولم يمر طويل وقت حتى حرّمت صوت تغريد إناث الحساسين واعتبرته “عورة” يحاسب عليه الإله يوم الحساب، وتحاسب عليه القوانين في الدنيا، وتم تحريم ظهور مناقيرها وعيونها، وأوصت بتغطية رؤوسها والإقلال من خروجها، وإن اضطرت فعليها أن تغض من بصرها وتحني رؤوسها، وبدا إنحناء الرؤوس يجد له طريقاً عند بعض الحساسين، وصار مألوف رؤية طوابيراً من الحساسين طائرة محنية الرؤوس بعد أن كانت رؤوسهم مرفوعة دوماً وتعانق السماء.

وأمام رفض معظم إناث الحساسين للقوانين الجديدة التي استهدفتهن، سرعان ما أخذت القيادة الجديدة وتحالفاتها من البوم والغربان وببغاوات المنطقة، بتُجميع قمامات البيض الفاسد، ورجم من لم يلتزمن بإرشاداتها وقوانينها، في المتنزهات والطرقات والأسواق، وحتى في أعشاشها على الأشجار، ثم تغادر هاربة كي لا يراها أحد.

إزدادت مطالب التحالف الجديد في بلاد الحساسين الواسعة، وتم تحويل ما سبق الى قوانين يُمنع تجاوزها، ويعاقب عليها، وبدأت القوانين تزداد بإضطراد، فتم تحريم ألوان الحساسين الذكور، لأن سلف الحساسين لم يكونوا ذووا ألوان كما زعموا، وأن الإبقاء على الألوان عند الذكور ليس إلّا تشبهاً بالإناث، فصارت الكثير من ذكور الحساسين تصبغ ريشها باللون الأسود. ولم يمر طويل وقت حتى إلتحق بهم جهلة الحساسين ومنبوذيهم، كذلك إنتهازييهم ومنتفعيهم، وكل الكسالى الذين لم يعملوا يوماً في حياتهم، كما ومن تغيَّب وعيهم أيضاً.

بعد أن سبغوا ريشهم وتوشحوا بالسواد فوق سواد ريشهم، أخذوا يحملون مخالب الحيوانات الكاسرة ومناقيرهم الحادة، وبدأوا بمحاولة فرض ألوان ريشهم الأسود على بقية الحساسين، معتبرين أنها قوانيناً إلهية صالحة لكل زمان ومكان، وأنها أيضاً من قوانين الحساسين المتوارثة، المتناسبة مع عصور الحساسين ومناخات بلادهم على مر العصور، وأن ما تم إلغاءه من قوانين، كونها  ليس لها  مصداقية ولاقداسة لأنها قوانين وضعية، وصاروا يرجمون الإناث الرافضة للتخلي عن ألوان ريشها بالحجارة، وأحيانا بقص بضع ريشات من ريشهن المفرود متباهيات بألوانه، ويطيرون مختبئون بين أسراب الحساسين الأخرى، وما فتئوا أن تبنوا رسمياً قوانين الببغاوات والغربان التي دعمتهم بالعلف والمخالب والمناقير الحادة، ليفرضوا قوانينهم على كافة معشر الحساسين، وصار مألوفاً رؤية هذه الطيور الكاسرة في سماء بلاد الحساسين وأراضيها، وصار هذا التحالف مكشوف ودون مواربة.

وابتدأت هموم الحساسين ومشاكلها تتزايد، وأخذت تقسمهم حالات الجدل وتوسع الهوة بينهم، فصارت تتباين آراؤهم، وتحتد أكثر ساحات نقاشاتهم، وبدأوا ينقسمون إلى فئات حسب اللون والنوع والجنس والإنتماء للمعبد، ما أدّى لإضعاف قوتهم وتراجع مكانتهم، بين أمم الحساسين المختلفة والطيور عموماً، وازدادت المحرمات أكثر وأكثر داخل مجتمعاتهم، فقدسوا القدم اليمين على الشمال، والعين اليمين على العين الشمال، والجناح اليمين على الشمال، وصار الذيل الأسود فخراً، فربوا ذيولهم وصبغوها بالسواد، وكحل ذكورهم العيون، وسرعان ما إعتلى السلطات أصحاب الأذناب الطويلة، وكلما إزداد ذنب الحسون طولاً كلما علا قدراً، وبدأت ظاهرة التزاوج بين كهول الحساسين المقتدره مع إناثه القاصرات، وابتدأت ظاهرة تعدد الزوجات، وصاروا يُحرمون الرسوم والتغريد والغناء والدوح، ويحللون ويحرّضون على الحزن والبكاء، وأباحوا شراء أناثي الحساسين للذكور الغنية المقتدرة، وأحلوا العقاب للمخالفين في الرأي بدل الحوار والإقناع، وكلما ازدادوا تحريماً للاشياء، كلما إزدادت صداقتهم ودعمهم أكثر وأكثر مع قبائل الغربان والبوم، وكذلك من ببغاوات الشجر والحجر وصحاري المنطقة.

ولم يتوقف باب التحريم يوماً، بل إزداد وتعمق، فصار الفصل بين طيور المنطقة كلها، فصل على أساس نوعها ولونها و حجمها و مساحة صوتها وشكل تغريدها، عدا عن شكلها وجنسها وماهية طعاما، وابتدأوا بتحريض كل نوع على آخر، فخلقوا عدواً وهمياً لكل نوع وحجم ولون، فصار صديق الأمس عدو اليوم، وأخ الأمس ورفيقه ألد عداوة لما سيأتي من أيام، ولم يعد يتحدث إلّا القليلون عن العدو الحقيقي من غربان وبوم وببغاوات ولابسي السواد.

وكي يكتمل المشهد ويبدأ مسلسل الإقتتال بين طيور الحساسين، وبينها وبين الطيور الأخرى، ابتدأ طائر الغراب وطائر البوم وأدواتهما، بسياسة التجهيل ومسح التاريخ، فقاموا بحرق المكتبات العامة وكل ما تحويه من كتب، حيث أكدوا أن الأمية هي الطريق الأكيد إلى الجنة، على قاعدة” ما أنا بقارئ”؟!!! فالجهل المقرون بالإيمان خير من العلم والفهم المقرون بالكفر، فمقياس حسنات وسيئات الحسون لن تكون بالتعليم أو الشهادات.

كما تم تحريم الطبابة “لأن الأعمار بيد الله”، والعلاج ليس إلّا شكلاً من أشكال التدخل بما حدده الله من أعمار الطيور في اللوح المحفوظ، وتم إغلاق المسارح ودور السينما، وصارت الكتابة جريمة قد توصل صاحبها لحبل المشنقة، وتم تحريم الرسم والتصوير، وصار نحت “الأصنام” من أعظم الكبائر وأكثرها كلفة.

وتم تقليص الإحتفالات والأعياد، حيث الأعياد تستوجب الفرح، والفرح يخلق التفاؤل، الأمر الذي “لا يُرضي الله ولا ملائكته ولا كهنة المعابد”، وبالتأكيد لن يرضي معشر البوم والغربان. فتم تحريم عيد الأم، كون الأم أنثى، وهي ناقصة عضل وعقل، ولأن الله لو أراد لها عيداً لأنزل لها نصاً، وهذا ليس على الله بكثير، كما تم وقف العمل بعيد الربيع، فلا يعقل الإحتفال بالربيع بحفنة ورود متخفية مطاردة لم تصلها أيديهم بعد، وببضعة أشجار ظلت مستعصية على الموت بجذور متمسكة بالصخور، وتم تحريم عيد الحب،  لأن الحب بدعة وضعية لا تتناسب ونصوص المعابد ولا توجيهات كهنتها، ولا يُعقل أن يكون هناك حب في مجتمع  متعدد متنوع وبألوان وأنواع مختلفة وُجدت لتكره وتفرق لا لتحب وتجمع، أما عيد رأس السنة فهذا فحش لا يمكن الحديث فيه أو عنه، خاصة أن من يحتفل به هم الفاسقون والزنادقة فقط من قبائل بعض أنواع الطيور المشركة أو المرتدة.

لذلك لن تكون هناك أعياد غير الأعياد الإلهية، ويكون الإحتفال بها بلبس السواد وبلطم الخدود والغم وبتنكيس الأعلام، وبإنتشار حلقات الإستغفار والتوبة والصلوات والتعبد، ليقبل الله من كامل مملكة الطيور توبتها، كطريق أكيد للوصول الى الفردوس، حيث هناك، وفقط هناك، الفرح والمرح والشجر والمطر والماء والورد والبحر والنهر والسهر والخمر والحب والعشق، وليس فى هذه الأرض الفانية.

وصار طائر الغراب والبوم يصول ويجول في البلاد، وصار يحفر تحت الأشجار لتجف وتسقط، ونقل جذورها الى مناطقه وبلاده، وتدريجياً أخذت مساحة الظلال في بلاد الحساسين تتقلص وتتناقص، ولهيب الشمس لا يجد من يصده ويتصدى له. وتم نهب أعشاش الحساسين وأثاثها، وتكسير بيوض عائلاتها الرافضة لما يدور، وصاروا ينهبون المياه ويُحولون مجراها،  ومنعوا حفر الآبار وإعادة زراعة الأشجار، وقتلوا الحب ومنعوا المطر وقطفوا الورود و حملوها على أجنحة أسرابهم إلى بلدانهم البعيدة، تحت أعين الببغاوات في وضح النهار.

ومع اختفاء الزهور وجفاف الشجر، ابتدأوا بالمجازر لتهجير طيور الحساسين،فهجروا عائلات كاملة من الطيور، وقتلوا ولاحقوا، واستجلبوا العربات الكبيره لدهس جرحاها، وعيون الغربان والبوم لملاحقة الحساسين الطائرة وتمزيقها بمناقيرها ومخالبها، فصار الحزن يتعمق في النفوس، ويتجذر الغضب والنكد، وصارت الطيور تتفشش ببعضها البعض، فتقلصت مساحة العلاقات، وصار الحسون الأخ يكره أخيه، والحسون الأب يتشكك بإبنه، وأصبح “الخل الوفي” من عجائب الدنيا التي بالكاد توجد في عالم الحساسين الجديد، ولم يعد قلب أخ عل أخ، ولا صديق على صديق  ولا قلب جارٍ على جار، وصار شعار”اللهم نفسي” يتفشى وينتشر بين الحساسين، وتمدد الشؤم في البلاد طولا وعرضاً، وصار التفائل من نوادر الحياة.

سنوات عديدة مرت على ذلك، فاكتشف الحسون الأب أنه تم تغيير قبلتهم، فصارت في منتصف الجانب الغربي، وأنهم أصبحوا يعبدون إلهاً غير الإله الذي عبدوه، وأن هذا الإله الجديد إله لا يعرف الرحمة بصغير أو أنثى أو حسون كهل، كما أنه لا رأفة لديه بطير أو حيوان، وأن جل همه تمزيق مملكة الحساسين، وتفريق حساسينها وتمزيقها إلى فئات متصارعة متحاربة، لنقل خيرات مملكتها الى تلك البلاد البعيدة التي ظلت عالة على خيرات طيور الأرض وحيواناتها.

ظل الحسون الأب يتذكر أحداث عمره وعائلته، ويتقاسم شرح الأمر لإبنه مع زوجته القابعة معه خلف القضبان، موضحَين له تاريخ “آل حسون” كما هو، إيجاباً وسلباً، وظلت الحسون الأم تكرر دائماً وأبداً، أن تزوير التاريخ لن يخدم بناء المستقبل، وأن شعب الحساسين الممتد في كافة الأنحاء، لن يخدمه سوى فتح الماضي بكل وضوح، ونقد كل سيئاته، كما استخلاص العبر من دروسه، فقالت لإبنها، ممسكة طرف الكلام من حنجرة زوجها:

ـ أمام كل ما حدث، رفض أبوك أن يظل جالساً “منتظراً الفرج”، وقرر أن لا يُبقي منقاره مغلقاً وحنجرته صامتة، كما رفض أن تُقص جناحيه وتُكتف رجليه، فالوقت كان قد صار ثميناً كما لم يكن من قبل، والزمن الذي يمر تسيل منه الدماء، ويهرب معه مستقبل أمة الحساسين جميعها، وقرر أن يعمل ، مهما كان هذا العمل بسيطاً، لكنه أفضل من السكون والسكوت والبكاء على أطلال بلاد الحساسين، “ففي الحركة بركة”كما يقولون، وعلى قاعدة “أن البعوضة تُدمي مقلة الأسد”، فصار يذهب في منتصف الليالي، يسقي ما تبقى من زهور وورود وبقايا أشجار لم يقتلعوها بعد، بمنقاره الصغير، وصار يحاول إخفاء الكتب عن عيونهم، ينقلها إلى مُغُر الجبال وكهوفها، وبدأ بالتحريض بكل ما في حنجرته من قوة على الأعداء كلهم، غرباء ومحليين، وصار يطبع البيانات ويكتب على ألواح الصبار وورق الدوالي محرضاً عليهم، ومن أغصان الزيتون بدأ بصناعة السهام، وصار بمساعدة حساسين المحاجر ، يُخزِّن الحجارة ليحارب بها أعداءنا، وانضم إليه أخوتك أول الأمر، أخوتك الذين لم ترهم أبداً بحكم ولادتك في هذا السجن اللعين، ثم أبناء الجيران، وبدأت تتشكل الزنود التي ترفض ذل قبيلتي الغربان والبوم، كما ترفض خداع الببغاوات وتحريضاتها التي حاولت تقسيم الحساسين ونجحت الى حدٍ بعيد، متعاونة مع حساسين باعت نفسها وضمائرها بأبخس الأثمان… المال.

وظل ينشر والدك خارطة بلاد الحساسين، ويحتفظ بمفاتيح قلاعها، يطبعها ويعلقها على الأشجار المثمرة والمحاجر والمتنزهات ، التي حولوها خراباً، وعلى شجيرات “إكليل المسيح الشائكة”، وأصبح ينظم مجموعات الحساسين في مجموعات صغيرة لئلا يتم إكتشافها، فشكل مجموعات لإعادة قراءة التاريخ كما هو، ومجموعات أخرى لنشره وشرحه، وشكل مجموعات للكتابة على ألواح أشجار الصبار وأوراق التين، ومنشورات على ورق الدوالي يسهل إخفاؤها وحملها وتوزيعها، كما شكل مجموعات لسقاية الزهور كي لا تفنى وتموت وتندثر، ويندثر معها الحب والصفاء والبسمة والتفاؤل، وفوق ذلك كله شكل مجموعات الحجارة والسهام، لأنه “لا يفل الحديد سوى الحديد” يابني، ونحن بأجنحتنا الصغيرة من الصعب أن نقاومهم، فكان لا بد من مواجهة مخالبهم الحادة ومناقيرهم المعكوفة القاطعة، بسلاح ما، اهتدينا إليه من واقعنا، سهام من خشب أغصان أشجار الزيتون، وحجارة من حجارة محاجرنا. وقدرني الله أن أضم جناحي إلى جناحي أبيك وأساعده بقدر إستطاعتي.

إن من أهم ما قمنا به يابني، الإتصال بحساسينا التي أجبروهها على النزوح والهجرة، ونشرنا التفاؤل رغم كل السواد الليلي الذي نشروه وما زالوا ينشرونه حتى الآن، فنحن أمة “بني حسون”، لسنا من الطيور المهاجرة التي لا وطن لها، أو التي تُبدل أوطانها في كل موسم وفصل، فلم نغادره يوماً إذا ما قسى علينا، بل كلما قسى علينا بطبيعته كلما تمسّكنا به أكثر وتكيفنا مع ظروفه، وكلما إزددنا حناناً نحوه، وإذا ما غادرناه قسراً زدنا له شوقاً وعشقاً، وإزدادت مشاعرنا للقائه لهفة، نحن أمة مستقرة ثابتة عاملة منذ آلااف السنين، لا نتخلى عن متنزهاتنا أو أشجارنا أو مقالعنا ، ولا عن بحرنا وجبالنا وسهولنا، فصحارينا نحبها كما سهولنا، ومياه بحرنا المالحة مثل أنهارنا وجداولنا العذبة، ونحب بعضنا وأهلنا وجيراننا، وعندما تحين لحظة الحقيقة تجدنا في الصفوف الأمامية للذود عنها كما نفعل الآن.

وكما ذكرت لك قمنا بنشر التفاؤل ورسمنا اللوحات بكل الألوان، وصار اللون الأسود مثل أي لون آخر لا ميزة له، وزرعنا ما أستطعنا من ورود، وصارت، من جديد، وردة شقائق النعمان بلونه الأحمر تملأ الحقول، وكذلك النرجس والسوسن وعصاة الراعي والأقحوان والطيّون والجوري والزعفران والزنبق، حتى ملأنا السهول ألواناً وعطراً، وصرنا نؤلف النكات ونكتب المسرح البيتي والأدب الساخر، وكتبنا الرواية والمقال والقصة الطويلة والقصيرة، وجمعنا شعرنا وزجلنا، وثقناه وكتبناه، كذلك ووثقنا أهازيجنا وتراثنا وقصصنا الشعبية وحكاياتنا، كما وثقنا جرائمهم وقتلهم اليومي “لأمة بني حسون”، وأساليبهم الخادعة المخادعة في تحقيقات زنازين سجونهم مع شباب الحساسين، وكذلك استخدمنا الحيوان في أدبنا كي نضللهم أكبر قدر ممكن.

لكن كما هناك حساسين تقدم دماءها من أجل قضيتها وانعتاق حساسينها، فهناك يابني أيضا حساسين تبيع قضيتها ودماء حساسينها، والفرق بينهما هو ما يحمله الصف الأول من عزة وكرامة يفتقدها الصف الثاني، ورغم أن الصف الآخر يمكن أن يخدعك حيناً لكنه لن يستطيع خداعك طيلة الأوقات جميعها، لذلك عملت عيون الغربان والبوم وتابعيهم من ببغاوات وحساسين خائنة، في الرقابة ومتابعة من يقوم بنشر ثقافة الحياة على ثقافة الموت ويُفشل مخططاتهم، واستطاعوا كشف أبوك وكشفي، ولحسن حظنا كنا حريصين في حركة طيراننا، نحوم لنكتشف آلية الحركة على أبواب عشنا، وصرنا نُموه أشكالنا والواننا، ولا نجلس في مكان واحد أكثر مما يجب، كما أكثرنا من المبيت بعيداً عن عشنا، وأصبحت حركتنا للضرورات، وصار جل إهتمامنا بإستمرار مواجهة كل أعداء بني حسون، وصار عملنا سري وبعيد عن الأعين الخائنة، حتى أن أخوتك الصغار أودعناهم لدى أجدادك حتى يكتمل نموهم وتقسى ريشات أجنحتهم، لتستطيع حملهم فوق موجات الهواء.

وسكتت الحسون الأم قليلاً، وطارت من مكانها إلى قضيب حديدي من قضبان سجنهم، وكأنها ملت وقوفها في ذات المكان، وأكملت من جديد:

ـ كنا حريصين على التمويه عند الإقتراب من عُشّنا كما شرحت لك، وذات يومٍ، والمساء قد دلق ظلمته فوق الأشجار، لم نستطع أن ندقق كما العادة، لكن هاجساً قد تملكني في تلك اللحظات، هاجس يكاد يحملني ويرمي بي خارج العش، وللأنثى حواسها التي لا تُخطئ أبداً، قد تضل أحياناً، أو تنحرف، لكنها لا تخطئ، قلت لأبيك:

ـ أنا غير مرتاحة لهذه الليلة، قلبي يقبضني وكأنني على مرجل يغلي، ينقبض وينفرج ويدق بعنف متوتر غاضب.      وقمت واقفة معلقة جناحي اليمين على ريشات جناحه الشمال، وكنا لا نترك ما يُثير الشكوك في أماكن تواجدنا المكشوفة، بما في ذلك عشنا نفسه، الأمر الذي سرع في حركتنا، وكمنا لرقابة ما حول العش قبل خروجنا، ثم تقافزنا من باب سري خلفي للعش، كنا قد فتحناه لظروف الطوارئ،  على غصن قريب، وتوقفنا من جديد، ثم قفزنا حول عش لزوج حساسين هرم كان على مسافة أمتار من مكاننا الأول، وتقافزنا إلى شجرة أخرى وثالثة ورابعة، واعتلينا قمة الشجرة الكثيفة، بحيث لا يهرب عشنا من بيابي عيوننا، وما هي إلّا لحظات، حتى كان العش محاصراً من كل الجوانب، وأنوار صفراء تغطي الشجرة برمتها، وغرابين وأربع بومات يداهمون العش ويقتحمونه، يحطمون جدران العش، ينزعون بابه ويلقون به الى أسفل الشجرة، ثم ينتزعون كامل فراشه ويمزقونه، بقدر الحقد الذي كان يملأُ قلوبهم، وانتهت المداهمة، أو كما قال الشاعر “أحمد فؤاد نجم”  “وانتهى التفتيش مفيش”، ورأينا طائر البوم وطائر غراب يتركون البقية، ثم يركبون موجة هواء ويتوجهان لشجرة قريبة، يلتقط كل منهما جناحاً لطائر حسون خائن دلهم على “عشنا”، القيا به في عشنا سائلين:

ـ لقد أكدت لنا مجيئهما ووجودهما، أيمكن أن تخبرنا أين هم؟

فقال وريشات ذيله الطويل ترتعش، ووسط حالة من الذهول والإستغراب والخوف:

ـ أقسم أنني رأيتهما هنا ولم تفارق عيني العش أبداً…

ـ ماذا قلتً؟ أتقسم؟!!! أنسيت أيها الوغد أننا من علمناكم الضحك على ذقون الأغبياء من بوابة الدين؟ أم أنك صدقت الكذب وآمنت به؟!!! حسابك ليس الآن على أية حال أيها التافه…

ونقراه عدة نقرات في جناحيه وظهره، وأمرا حراستهما بأن يسجنوه شهراً عقاباً له، ليتعلم كيف يكون دقيقاً ومعلوماته أكيدة.

ومنذ تلك اللحظة أصبحنا نتعامل مع أنفسنا كمطاردين رسمياً، وما عدنا ننام في العش الذي بنيناه بأيدينا، وصارت حياتنا أصعب وأصعب، لكن عزاءنا أننا نعمل من أجل معشر الحساسين.

لكن مثل هذا العمل يتطلب الحركة، وكلما زادت الحركة زادت الأخطار، وقررنا سوياً عدم السكون، والغوص في البحر حتى بره الآمن، لأن:

“مَنْ لا يُحب صعود الجبال       يعش أبد الدهر بين الحفر”

ونحن سنصعد الجبال مهما كان إرتفاعها وعلوها، حتى لو تقطعت أجنحتنا وتمزقت ريشاتنا، سنصعد الجبال ونصعد ونصعد، ولن نظل في الأودية الواطئة وحفرها، تحت أقدام الطيور الخائنة الخائبة، ولا الحيوانات الضالة التائهة.

ـ 3 ـ

ـ  لكن، إن كنت تريد أن تكون متفرجاً، فعليك أن تُهيء نفسك لتدفع الثمن، فالحياد في زمن الشدة جبن، والتفرج على الدماء النازفة، جريمة، ورؤية الوطن يتحطم أمام عينيك، وأنت تتشبث بالذرائع ولا تفعل شيئاً، خيانة، ونحن لم  نكن يوماً جبناء أو مجرمين أو خونة، صحيح أن ما فعلناه بالمقارنة مع من قدموا الدماء بسيط وقليل، لكن “الصرارة تسند الصخرة” يابُني أيضاً.

قالت الحسون الأم شارحة لإبنها، وكأنها حفظت قصيدة عن ظهر قلب، وتلقيها متخلصة من عبئ ثقيلٍ ظلت تحمله منذ سنوات وسنوات، وتابعت من جديد:

ـ إستمر حالنا كمطاردين سنوات، الأمر الذي جعلنا نعتاد الأمر رغم صعوبته، لكن كما قالوا “مَنْ لا يعمل لا يُخطئ”، وكان خطؤنا سبباً في وضعنا الذي تراه الآن، حيث عملنا مع الكثير من الحساسين في مرحلة المطاردة، وكانت مهمة بعضهم تأمين الملاذ الآمن لنا لنستطيع الإستمرار في عطائنا، ولم نكن نعرف الكثير عمّن يعمل معنا غير أنهم مؤتمنون، وكان آخرهم حسوناً يمتاز بالصوت العالي، تراه يسبح في الفضاء مثل صقر، غناؤه ذكرنا بالأيام الخوالي التي تميزت بالأهازيج الشعبية والمواويل، وكان يبدو أنه من أشد الحساسين تحمساً للعمل، لكنه لا يريد العمل إلّا في أصعب الأعمال، نقل السهام المصنوعة من أغصان الزيتون وحجارة المقاليع، الأمر الذي جعلنا نتأنى كوننا لا نعرفه كما ينبغي، أو كوننا لا نعرف عنه لكثير، وبدأنا نستفسر من الذين بعثوا به لمساعدتنا، لكنهم لم يكونوا يعرفون عنه أكثر مما نعرف، فآثرنا التريث والتروي، وصرنا نسوق الحجج كي نحجب عنه الرؤى، ونبعده عن مكامن أسرارنا، ولما يأس من الأمر ومنا، واعتقد أننا لا نعرف شيئاً عما يريد، لجأ للخيار الآخر.

جاْءنا يوماً مع بدايات الظلام، على ورقة شجرة خروب تحاذي كرم زيتون، قريباً من مكان إعتاد رؤيتنا به، وعلى غير العادة تأخرنا قليلاً قبل أن نغادر إلى المبيت، كان يلهث لهاثاً متعباً وكأن أحداً كان يطارده، ولحظنا قدومه في غير موعد أو إتفاق، فقررنا المبيت في بطن الجبل على أن نذهب لبيتنا السري، وازدادت شكوكنا وقررنا الحذر أكثر، لكنه فاجأنا وقال:

ـ هيا أيها الحسونين بسرعة، حلّت ساعة الرحيل، يبدو أن مكانكما هذا قد تسللت أخباره وانكشف أمره، ووجودكما هنا حتى لساعات مملوءة بالخطر، ولقد أمّنت لكم مرقداً جديداً أكثر سرية وأماناً.

وفكرنا بسرعة تليق بلحظتنا تلك، وقدّرنا، إن كان “عميلاً” لقبائل البوم والغربان، فلا فائدة من الهروب من المكان في تلك اللحظة، فربما يكونون مختفين في أي مكان، وسيلقون القبض علينا، وإن لم يكن، فلن يضرنا إتباعه، وإتخذنا قرارنا بسرعة، ورأينا أن إتباعه أقل خطورة من أي شيء آخر، فعلى الأقل لن نكشف أي من أسرارنا لأحد؟ وركب موجات الهواء أمامنا، وكان ظلام الليل قد بدأ يسكب نفسه فوق الأشجار وفي الفضاء، وصارت عيوننا تعجز عن رؤية الأشياء، وسرعان ما حط بجانب حوض ماء ليشرب ونرتاح قليلاً، قبل أن نُكمل طيراننا وتحملنا أجنحتنا إلى المجهول، وما أن حطت أرجلنا على الأرض، وقبل أن تهدأ أجنحتنا عن الحركة، كانت شباكهم قد إنقضت علينا تعصر أجسادنا، ووجدنا أنفسنا بين أيدي البوم والغربان، تُكتفنا حبائل مصائدهم، وتعتصر عظامنا وريشاتنا بقوة، وكان هو خارج الشِباك، ينظر إلينا ويضحك، ويشير إلينا ويخاطب غراباً قائلاً:

ـ إنهما في حوزتكم الآن، إعرفوا منهما ما عجزت عنه أنا… وذهب.

وأدركنا في تلك اللحظة بالذات، أننا كنا ضحية “عصفور” خائن أحمق، باع نفسه بثمنٍ بخس، ومن يضع ثمناً لنفسه يابني، وبغض النظر عن هذا الثمن، لا يمكنك الوثوق به، لأنه ببساطة يكون قد غادر طبائع الحساسين وتاريخها وموروثها.

إبتدأ التحقيق معنا من المكان الذي كان يريد معرفته “العصفور المُغيث”، عن سهام الحساسين وحجارة المقالع، عن الحساسين الأشداء الذين يستخدمونها، أين هم ومن هم، من يصنع ومن ينقل ومن يُدرِّب؟ وكانت زنازين أقفاصهم قبراً لم نعتقد يوماً أننا سنخرج منها أحياء أبداً، كان الموت المتربص معلقاً على كامل جدران الزنزانة، يهاجمنا مع كل غرزة مخلب حاد أو طعنة منقار معكوف، مع غياب وعينا المتكرر جراء شراسة التعذيب، مع دمائنا النازفة وريشنا المنتوف، هل رأيت يوماً حسونين عاريين من ريشهما؟!! هكذا كنا نحن الإثنان، مقتلعي الريش والأظافر، على حافة الموت، وما أن نفتح أعيننا حتى يختفي الموت من جديد، وما أن يختفي في زاوية الزنزانة حتى يظهر من جديد، وظل على حاله متربصاً طيلة شهور، لكنه غادر بعدها هارباً مهزوماً، أمام رؤيته تدفق نبع الحياة المتواصل من إرادة أجسامنا الهزيلة الضعيفة، تلك الإرادة التي لم تستعصِ على الموت فقط، بل هزمته أيضاً.

كان تعذيبهم أصعب من الموت وأقسى، كم تمنينا الموت ولم نجده، كانوا يوصلوننا إلى حافة الموت ثم يسحبوننا من بين مخالبه، فالميت لا يتحدث ولا يكشف أسراراً، هكذا كانوا يقولون، لهذا لم يقتلوننا، فمن الطبيعي أن يعتقدوا ذلك، بعكسنا نحن، فنحن نعتقد أن الحسون الحي فقط هو من لا يتحدث، يسكت في وقت السكوت، يحافظ على أسرار وطنه ولا يكشفها، مهما عذبوه ونتّفوا ريشه وأدموا جلده أو كسروا عظمه، وأن الإنتصار عليهم واجب بالحياة أولاً، وإن تعذر ذلك، فبالموت.

إنتهى التحقيق بعد شهور، وأمام سكوتنا المنتصر، صار لزاماً عليهم إختراع تهمة ما ليدخلوننا السجن بقرار من محاكمهم الصورية، فوجهوا لنا تهمة أكل اللحم، وتهمة أكل اللحم من قبل الحساسين تهمة يعاقب عليها قانون البوم والغربان، ونحن كما تعلم لا نأكل اللحم ولا ننوي ذلك، وأضافوا لها تهمتين سنظل نمارسهما مهما طال الزمن أم قصر، حيازتنا لريشنا الملوّن غير المصبوغ بالسواد الليلي، وتهمة الغناء والصدح والتغريد المتواصل الداعي للتفاؤل، ومثل هذه التهم تُغيبك في سجونهم سنوات وسنوات.

تناول الحسون الأب، مجدداً، الحديث من منقار زوجته، واستمر في الحديث وكأنهما قد حضرا لأمر سرد حكايتهما منذ زمن، وقال:

ـ مرت على قصتنا هذه سنين، لم نعد نعرف لها عددا، وحركة حساسيننا التي لعبنا دوراً وساهمنا في وقوفها على ساقيها، قد اشتد عودها، وصارت تُرعب البوم والغربان، وإن كان بعض حساسيننا يصادقون هؤلاء الأعداء، ويسامحونهم في دماء حساسيننا، كما ويطاردون معهم شباب الحساسين، ويحاولون إسكات تغريداتهم، لكنهم لن ينجحوا ما دامت الحساسين تبيض وتفقص وتربي أجيال الحساسين على العزة والكرامة، وها هي أمك أمامك مثالاً، فنحن الحساسين كما البلابل” لا نحوك عشاً داخل القفص، كي لا نورثه العبودية”، فإن أمك حافظت على حمل البيضة التي أفقستك، من الخارج، من عشنا في زمن المطاردة، حافظت عليها لتتحدى موتهم بالحياة التي وهبتها لك، رغم كل محاولاتهم لقتل الحياة فينا وفيك.

سكت قليلاً، وتلفت حواليه محركاً رأسه في كل الإتجاهات، وعينيه تحاول إلتقاط أي تغيير في حركة حراس البوم والغربان، ونظر إلى زوجته نظرة فهمت منها أن تتابع اليقظة أكثر من المعتاد، وأكمل:

ـ إنك يابني ما تزال تسير في أزقة مراهقتك، وقريباً ستطير في فضاءات شبابك وطرقاته، وما زال أمامك الكثير لتصل عتبات الشيخوخة التي وصلناها نحن، وعليك أن تدرك، أن الحياة ليست بطول السنين، بل بعدد البصمات التي تتركها فيها، فإما أن تعيش كما يتوجب العيش، برأس شامخة في السماء، أو تموت كما يتوجب الموت، وتظل بموتك حياً، أو أن تمر من الحياة خاضعاً ذليلاً دون أن يشعر بك أو يحس أحداً…واعلم أن الحساسين مثل البلابل، “لا تصدح إلا خارج القفص”.

بدأ الحسون الأب يتحدث خافضاً صوته وكأنه يخاف أن يسمعه أحد، واقترب من أذني إبنه وتابع الحديث:

ـ ستخرج من هنا هذا المساء، ستذهب إلى هذا العنوان، يجب أن تحفظ العنوان عن ظهر قلب، وأن تُحلق بحذر، فعيون البوم كما القطط، ترى أفضل في الظلام، في هذه الليلة عليك أن تُثبت أنك حسون من ظهر حسون، وأنك تنتمي لأمة الحساسين وليس الببغاوات، عليك الوصول لشجرة الصبار على ضفاف المدينة، ومن هناك ستأتي لتوصلك ،البلابل واليمام، الى حيث يجب أن تصل.

ـ لكنني لا أعرف الطيران يا أبي…

ـ ماذا؟ لا تعرف الطيران؟!!! وهل هناك طائر لا يعرف الطيران؟!!! أهناك سمكة لا تعرف العوم؟!!! الأمر ببساطة شديدة أن ترمي نفسك في بحر الهواء، أن تركب موجاته، وستجد نفسك لا تريد النزول…

فقالت أمه بعد أن اقتربت بدورها من أذنه الأخرى:

ـ وإياك بعد وصولك إلى بر الأمان أن تكف لحظة عن التغريد…

اقترب الليل، وكانت بقايا النهار تنسحب من أمامه بتراجع مدروس، وسارت أمه أمامه خطوتين وقفزة، أزاحت بعض الريشات اللواتي كن يُغطين زاوية القفص المثبت بقوة في حائط السجن، وكان الحائط يحاذي واد سحيق، وكانت الحسون الأم وزوجها قدحفرا حديد القفص على مدار سنوات بمنقاريهما الأعزلين الضعيفين، كما حفرا الحائط فاتحين خندقاً يوصل إلى أطراف باب الحرية.

ـ 4 ـ

كانت الأضواء الصفراء، قبل لحظات، قد أضاءت القفص، وانتهى غراب وبومة، كالعادة، من العدد داخل القفص كما في كل ليلة، ومباشرة أزاحت الحسون الأم الريشات عن الحفرة، دخلت أمام إبنها قبل أن يعيد زوجها الريشات وكأنهن بقايا ريش كبر وضعفت أوصاله فتساقط، ويراقب المكان خوف إنكشاف سرهما الذي بنياه على إمتداد سنوات من الصبر، ومشت أمام إبنها زاحفة، حتى أوصلته الى نهاية النفق ، إحتضنته، فرجاها أن يأتيان معه، فأخبرته قائلة:

ـ هروبنا جميعاً مستحيل، سيكتشفون أمرنا بعد دقائق، وسيرجعوننا قبل أن نصل إلى أي مكان، فأنت تعرف أنهم يظلون طوال الليل يضيئون الأقفاص ليتأكدوا أن أحداً لم يفر، أما أنت فيمكنك ذلك، وسنحاول التمويه على وجودك بريشنا الذي نتفناه خصيصاً لهذا الأمر، الآن هي اللحظة المناسبة، قبل تغيير الحراسة، فالغراب عدا عن تعبه المتراكم، فعيناه لا تساعداه على الرؤيا في مثل هذا الوقت، وعليك التحرك قبل إستلام البوم حراسته الليلية، هيا تحرك…

وكررت على مسامعه، وكأنها توصيه بأهم أمر في حياة الحساسين:

ـ بعد وصولك لبر الأمان، إياك أن تُغير لون ريشك، أو أن تكف عن التغريد…

وقذفت به على موجه هواء كان يحملها معه النهار المنسحب، ليصل هناك بعيدا، إلى مكان رفاقه وأخوته الحساسين، إلى بر الأمان، مع خيوط فجر النهار القادم….

محمد النجار