إلحَقْ البوم يدلك عَ الخراب

كنت أدعو الله “بكرة وأصيلا”، وبعد كل صلاة، عندما كنت لا أقطع فرضاً، وما زلت أدعوه رغم أنني أصبحت أسهو أو أغفل عن بعض صلواتي، رغم معرفتي وحفظي للآية الكريمة التي تقول” ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون”، وبقيت أدعوه حتى بعد أن إنقطعت عن أداة الصلاة نهائياً أو كِدت بسبب هموم الحياة ومتطلباتها، كنت أدع الله لنصر أمتنا العربية وقضيته المركزية “قضيةفلسطين”، وطالما دعوت الله لنصر قادة الأمة، وخصّيت بالذكر قادة الدول الفاعلة منها، من مصر مروراً بمملكة آل سعود وصولاً الى السودان الشقيق، وأمام تطور الأحداث كنت أحياناً أتوجه لله معاتباً على عدم سماع صوتي وعدم نصرهم، مستغفراً له على تجرؤي هذا، وكثيراً ما وجدت المرحومة أمي تنصحني وسط دعواتي، بأن أكف عن الغباء وأن أستخدم عقلي، وكثيراً ما قالت لي غاضبة معاتبة:

ـ يا بُني خلق الله العقل للإنسان ليستعمله لا ليُحنطه، ومن لا يستخدم عقله يقع في المحرمات، كونه لا يستخدم هبة الله له، تصور مثلاً أن لا يستخدم الطير جناحيه، أو الحيوان عينيه، أو حتى أن لا يستخدم الإنسان يديه أو رجليه؟ أليس هذا من نكران أهمية ما أعطانا الله؟ فما بالك بأن لا يستخدم ما هوأ هم من ذلك، العقل؟      ولم أستمع لنصيحتها تلك، رغم تقاسيم وجهها الذي صار عابساً أو غاضباً وعاتباً في الوقت ذاته.   صحيح أن وجهها لا تلحظ عليه البسمة إلّا عندما تبدأ تتحدث عن قريتها المنسية المتروكة هناك في الشمال الفلسطيني، عن البيت بتفاصيله وعن أصدقائها الصغار وألعابهم الطفولية، وما تبدأ تتمادى في الذكريات وتتعمق، وتتذكر بالتالي ماذا حل بهم من تقتيل وتهجير، يعود وجهها إلى ما كان عليه من حزن وعبوس، وغالباً ما تتوجهه بدمعتين ضالتين في ثنايا أخاديد وجهها المحفورة.

وعليه ومثل معظم الناس، “وليس كوني لم آخذ من التعليم سوى القليل، فأصبحت مساعد كهربائي أحفر الحوائط أمام “مُعلمي”بخدودٍ ممتدة صحيحة مثل “مسطرة”، ليضع بها أسلاكه قبل أن أكمل تغطيتها من جديد”، لم أستمع لنصيحة أمي، إلى أن جاء يوم كانت فيه أمي نزيلة المشفى، كان صدرها يضيق بالهواء غير قادر على أن يملأ رئتيها، وكانت عندما تحاول سحب كمية منه تشعر وكأن جسدهها يتمزق ويكاد يتهاوى أمام ثقل الهواء، الذي يبدو وكأنه يقف مُتربصاً بها،  وكنت أعاودها بعد أن أنهي عملي، حتى جاء يوم وكنت بجانب سريرها، وكانت تقص علي حكاياتها المعهودة، وقالت لي مجدداً:

ـ صدّقني يا بني ليس لي ذنب أبداً،  فالله وحده من يُوزع العقول على خلقه، لكنه يغضب إن لم يستعملونه، وعليك أن تدرك هذا الأمر الآن على الأقل بعد كل هذا التأخير، وأن تبدأ بإستعماله مُتأخراً الآن خير من أن تظل….  ولم تكمل عبارتها بكلمة “حماراً” هذه المرة. وابتسمتْ، نعم، حملت نفس الإبتسامة التي كانت تحملها عادة عندما تتحدث عن قريتها المسروقة وبيتها والعابها الصغيرة هناك، وطالت ابتسامتها الآن أكثر من أي مرة ثانية، دون أن يُعاود وجهها العبوس كالعادة، ودون أن تذرف دمعتيها الضالتين دون إرادة، بل ظلت معلقة إبتسامتها على أبواب فمها على غير عادتها، وكنت أوعدها قائلاً بأنني سوف أفعل، وأنني سوف أبدأ بإستخدام عقلي، لكنها لم ترد، فهززت يدها التي وقعت على حافة السرير لتنبهني أن أمك لم تعد تسمعك ولن تفعل بعد الآن أبداً.

عرفت وقتها أو تنبهت لأهمية إستخدام عقلي، وقررت أن أستخدمه إحتراماً لذكراها ولوعدي لها قبل مغادرتها الدنيا بلحظات.

لم أقل هذا الأمر للمتجمعين في عزاء جارنا “علي الدلاّل” بوفاة أبيه، حيث كنا في اليوم الثالث للعزاء، حيث انتهت أيام العزاء أو كادت، ولم يظل سوى المقربين من عائلة المتوفى، حيث كان الطقس شتوياً بارداً، وكنا في صالون بيته تتوسطنا “صوبة” من الغاز، ناثرة دفأها في ثنايا الغرفة، حين قال الشيخ صالح مؤيداً ما أسماهم بالإسلاميين الذين “يجاهدون” في سوريا، ومعلقاً على تدخل “حزب الله” الذي أوقف “الربيع العربي” وتمدده من خلال تدخله بالحرب مع الجيش هناك، ووجدتني أبدأ الحوار وابتسامة أمي “رحمها الله” أمامي، لأأكد لها أنني على عهدي بأن أستخدم عقلي:

ـ هذا الربيع يا شيخ صالح حولته أمريكا واسرائيل الى شتاء قارص قاحل، وحزب الله لم يفعل سوى الدفاع عن نفسه، لأن دوره كان قادماً بعد تفكيك سوريا.

وختمت بعبارة أمي قائلاً:

ـ علينا أن نستخدم عقولنا وإلاّ حاسبَنا الله يا سيدي الشيخ…

استفزالشيخ كلامي، واستفزه أكثر أنني أخذت مكانه في التحليل والتحريم، فانتفض قائلاً:

ـ إياك والفتوى، الزم حدودك ولا تعتدي على أمور المختصين وشؤونهم، إن هذا فقط من شأن أهل الخبرة والمعرفة والإختصاص، العالمين بشؤون الدين، وهذا شأننا نحن العلماء، أما أنت!!!

قال الشيخ صالح جملته الأخيرة مستفزاً كوني إعتديت على صلاحياته، وأنا الذي لم أقصد ذلك ارتبكت وكست وجهي الحمرة والخجل، لولا أن التقط جارنا أمجد الحديث فقال:

ـ أنتم العلماء؟!!! وما الذي اخترعتموه لتصبحوا علماءاً؟ أم تعتقد أن كل من عرف “أن يفك الخط “ويحفظ بضع آيات من القرآن أصبح عالماً؟

كان ارتباك الشيخ أكثر من ارتباكي، فتلعثم قليلاً قبل أن يُنقذه أمجد ويكمل من جديد:

ـ لنبقى في ما هو الأهم ياشيخ، فالله كما يعلم الجميع لم يوكل أحدا على الأرض، تركنا لشؤوننا وشؤون دنيانا، وهو على كل حال “الغفور الرحيم إن نسينا أو أخطأنا”، أما الربيع العربي الذي تبشرنا به بعد أن أذاقونا ديمقراطيته في العراق بمحاولات تحويله لبلد طائفي، وقتلهم بالجوع مايزيد على مليون عراقي، وبالنار والدم على نصف مليون آخر، سرقوا الربيع ليملؤوه دماً وتفجيراً ودماراً، فأي ربيع هذا الذي يقتل ما يزيد على نصف مليون مواطن ويجرح ما يزيد على 2 مليون آخرين ويشرد عشرة ملايين ويدمر البنية التحتية للبلدان؟!!!

فقلت مُتشجعاً أمام أقوال أمجد التي أعرفها لكني لا أُحسن صياغتها وقولها:

ـ كيف يكون ربيعاً وبوصلته ليست نحو فلسطين؟ فالعدو أصبحت إيران و”إسرائيل” أصبحت دولة صديقة؟ علينا استنخدام عقولنا…

وأكمل أمجد دون أن يُعقب على أقوالي:

ـ ابتدأ الربيع بتونس، فأحضر لنا الإخوان المسلمين، تحالفوا مع أمريكا ووضعوا أيديهم بأيدي نفس الطبقة السياسية التي حكمت وسرقت وقمعت، وبدأوا يغازلون الكيان وينشئون قنوات للتطبيع معه، وها نحن بعدخمس سنوات من الثورة، حيث زاد الفقراء فقراً، وحكومات بلا برامج اقتصادية أو إجتماعية أو حتى كرامة وطنية، بل ابتكروا لنا الإغتيالات السياسية …أما في مصر فالحال ذاته، حكومة العسكر ثم حكومة الإخوان المتحالفة أمريكياً، وتأكيد الإلتزام بإتفاقيات الذل في كامب ديفيد والإرتهان لصندوق النقدالدولي… وبعد خروج ما يقارب من الأربعين مليون في الشارع ضد الإخوان وسياستهم وثقافتهم الطائفية المشبوهة الموبوءة، عاد العسكر للحكم عبر الكذب والدعم الخليجي وسياسة الفهلوة، فرفع الدعم عن المواد الأساسية، وارتهنوا أكثر لدول الخليج وأموالهم وللبنك الدولي، وازداد الفقر وتعمق تهميش الطبقات الشعبية، وعاد تحالف الجيش مع البرجوازية التي حكمت البلاد وأوصلتها إلى الهاوية وأخرج رموزها من السجون وأودع المناضلين والقيادات والكادرات الثوريه التي قادت الثورة مكانهم… وفوق ذلك كله تحاصر القطاع بشعبه ومقاومته لخدمة المشروع الصهيوني بكل بشاعة ووقاحة…

لم يعجبني كثيراً الرجوع للماضي، رغم كونه صحيحاً وأقرب إلى فهمي وتفكيري، وقال أمجد مكملاً:

ـ هل تساءلت يا شيخ ولو مرة واحداً لماذا ليبيا ولماذا سوريا؟ فهناك عشرات الدول العربية والملكيات الأسوأ حالاً على المستويات كافة، فهل يُعقل أن تُحرر قطر ليبيا؟ وآل سعود سوريا؟ فعلاً “لاحق البوم يدلك ع الخراب “، فقد تدخلت قطر في السودان فأصبح السودان الواحد سودانين ، وفي ليبيا فأغرقتها بتنظيم القاعدة ودمروها وأحرقوها وربما إن استطاعوا فسيقسمونها لثلاثة، وربكم يعلم كم ستصبح سوريا بعدكل هذا القتل والتهجير والدمار .

فقلت مؤكداً رأيي ناصحاً:

ـ عليك أن تستخدم عقلك”بلا مؤاخذة” ياشيخنا ولن تضل أبداً …

يبدوا أن كلمة “ولا مؤاخذة” خففت غضب الشيخ الذي ظل يدافع عن “أولي الأمر” وتحريم الخروج عليهم مهما كان السبب، وكأن الأمر لا علاقة له سوى بالدين. فقال فؤاد الشاب الجامعي الذي على أبواب التخرج:

ـ أمعقول ياسيدي الشيخ أن آل سعود يريدون لنا ديقراطية في سوريا؟ طيب ليعملوا دستوراً لبلادهم أولاً . سكت قليلاً وتابع قائلاً:

ـ وهل من يدمر اليمن وشعبه ويحتل البحرين ويقمع ثورتها يريد تطبيقاً للديمقراطية؟ إن من يدمر الإنسان والحضارة والتاريخ لصالح أعداء الأمة هذا وإن امتلك شعارات براقة ما هو إلّا عدو لأمته. فما بالك عندما يكون هو نفسه فاقداً ليس فقط للديمقراطية التي يحاول تسويقها فقط، بل للشرعية أيضاً…

وعلقت أنا على الأمرقائلاُ :

ـ صحيح، يجب أن نستخدم عقولنا، البوصلة يجب أن تظل نحو فلسطين…

وسرعان ما تدخل أبو أسامة أستاذ اللغة العربية ليقول:

ـ تخيلوا لو صرفوا هذه الأموال التي دمروا بها إنساننا وحضارتنا على التصنيع والتعليم والتطبيب في الوطن العربي، ربما ما بقي جاهلاً أو أمياً أو عاطلاً عن العمل، ولأصبح وطننا “جنة الله على الأرض”…

فقلت مجدداً:

ـ نعم البوصلة يجب أن تظل نحو فلسطين، وعلينا أن نستخدم عقولنا

فرد المختار أبو فراس، والذي أخذ لقبه كونه يسارع في حل الإشكالات التي تسوقها الأيام بين الناس، بعد ترأسه للجنة الإصلاح في الحارة:

ـ بل قل لو سلّحوا الثورة الفلسطينية بما سلّحوا به هؤلاء لما بقيت إسرائيل على الخارطة منذ زمن.. والأغرب لهؤلاء الذين يسمونهم ثواراً، قصفهم للمدنيين، قتلهم للأسرى، وحصارهم لشعبهم كما في العديد من المدن والقرى السورية كما كان عليه الوضع في بلدتي “نبل والزهراء” قبل تحريرهما من الجيش السوري، فهل هناك ثوار يفعلون ذلك؟ وهل هناك ثوار يسرقون ويستولون على قوافل طعام الناس ويتاجرون به؟ أو يسرقون أدويتهم ويعودون بيعها بأضعاف ثمنها؟

فقال العجوز ابو أحمد بتهكمه المعهود وبإبتسامة خبيثة من بين شفتيه:

ـ يا عمي هؤلاء الثوار غير كل ما عرفناه أو سمعنا به في حيواتنا، فمعظمهم ثواراً وافدين، ليسوا مرتزقة لا سمح الله، فالقرغيز والشيشان والأفغان والإيغور والأتراك ثوار غيورون على تحرير سوريا، ويتم اختيارهم للمهمات الصعبة، لذلك يكلف الواحد منهم دولة آل سعود المائة ألف دولاراً أمريكياً، وليس مثل ثوارنا الفلسطينيين أو اللبنانيين.

فعاود أمجد الحديث من جديد وكأنه يريد إكمال موضوع لم ينتهِ، وسط ضحكات الناس وابتساماتهم:

ـ وبعد أن أخذت تتوالى إنتصارات الجيش السوري يريد آل سعود محاربة الإرهاب في سوريا، وكأنهم ليسوا من استحضروه وسلحوه ودعموه هناك؟!!! والحقيقة أنهم يريدون مواجهة الإنتصارات السورية وإيقافها …أتعلمون…

قال كلمته الأخيرة ليظل الناس مشدودين لما سيقوله، لكنني قاطعته قائلاً:

ـ نعم، علينا أن نستخدم عقولنا والبوصلة تظل نحو فلسطين…

وتابع هو بعد أن أخذ نفساً عميقاً من هواء الغرفة وكأنه لم يسمع ما قلته:

ـ لا تستغربوا أن تروا الأمريكان أنفسهم يقومون ببضع غارات جوية في الفترة الفادمة على جماعات الإرهاب ليقولوا أنهم لهم الباع الطويل في تحرير سوريا منه، تماماً كما يفعلون الآن في العراق وكما فعلوا في نهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا، حيث أرادوا مشاركة الروس الإنتصارات دون أن يدفعوا ثمناً!!!

وسكت قليلاً وتابع قائلاً:

ـ ورأيي أن أهم ما في الموضوع هو ما قاله الأخ عادل، وأشار بيده نحوي، أن البوصلة يجب أن تظل نحو فلسطين، وأي محاولة لتغيير إتجاهها أو حرفه هي محاولة مشبوهة، وأن نتساءل دائماً مَنْ المستفيد من كل هذا الخراب الذي عصف في الوطن العربي؟ أليست هي إسرائيل؟!!!

كدت أطير فرحاً عندما استشهد بكلماتي هذ الشاب الجامعي، وبطرف عيني كنت أرى الشيخ سالم وهو يمسد لحيته ويهدهدها كمن يُمسِّد على ظهر قطة، ولم أتحدث مجدداً حيث قالت لي أمي ذات يوم” إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”، وبقيت مستمعا إلى أن غادرنا بيت العزاء بعدأ ن دخل المساء ظلام الليل متدثراً بعباءته، وازددت اصراراً على أن أستخدم عقلي دائماً في كل الأمور المهمة وغير المهمة أيضاً….

محمد النجار

أضف تعليق