“دود الخل” منه وفيه

قلت لطارق وبدا عليّ الضيق والحنق، بعدما أخذ يضيّق عليّ الخناق، وأخذ مني الغضب مأخذه:

ـ ياأخي الرئيس الفلسطيني لم يأت من السماء، إنه ابن هذا الشعب وابن قضيته، وهو يعرف من أين تُؤكل الكتف.

فقال وكأنه يستهين بي وبكلماتي سائلاً:

ـ ومن أين تُؤكل الكتف من وجهة نظر الرئيس؟

للحق أقول لك، كدت أتركه وحده وأمشي، لكني كنت سأخسر جولة الحوار هذه، فابتلعتُ ما اعتبرته إهانة وقلت:

ـ نعم إنه يعرف تماماً أنه إن حل السلطة، فهناك الكثيرون من المتكالبين الذين سيهرعون ليحملوا رايات السلطة ويبيعيون القضية برمتها للإحتلال، لذلك فهو بتمسكه بالسلطة إنما يدافع عن القضية برمتها….لكنك تعرف هؤلاء المتفذلكين، ليس من السهل إقناعهم، وكلما أتيت لهم ببرهان يأتونك ببراهين، فقال بنفس طريقته المُستفزة:

ـ ومَنْ هم هؤلاء “المتكالبين”؟                                                                                                  فقلت وبنفس الإحساس الذي بخالجني مع كل كلمة من كلماته:

ـ كيف مَنْ؟ أتريدني أن أعطيك أسماءاً؟ ألا تراهم أو تحس بهم على الأقل؟

فقال مبتسماً، الأمر الذي كاد يخرجني عن طوري:

ـ الأسماء ليست بهذه الأهمية، وأنا وإن كنت لا أعرفها كلها، فأنا أعرف من يحميها ويمولها ويُغطّي تورطها، وكما قلت أنت فهم سيحملون راية السلطة، كونهم لا يعنيهم سوى تقديم خدماتهم لمن يدفع، فهم ليسوا مثلك، لا يتمسكون برئيس أو أمير، وحتى الله بالنسبة لهم ليس أكثر من دولار آت من العم سام أو حلفائه في المنطقة.

لقد خفف عني استشهاده بكلماتي، لكن”الفرحة” لم تدم طويلاً، عندما تابع قائلاً:

ـ والذي يدعمهم ويحميهم ويغطي عليهم ويمولهم ما هو إلا الرئيس الذي تُدافع عنه، أم لديك تفسيراً لماذا ما زال الرئيس متمسكاً بهذه السلطة التي ظل يهدد بحلها حتى الآن؟ وإن كان لا يريد حلها لماذا هدد طوال الوقت بذلك؟ ولماذا جُن جنون المحتل خوفاً من تداعي السلطة وانهيارها؟

وقبل أن أقول شيئاً أكمل قائلاً:

ـ وما دام “دود الخل منه وفيه”، إذن لماذا لا يقوم رئيسك بتنظيف هذا الخل ورمي “دوده”؟ هذا إذا كان ما يزال يريد “الخل” والإبقاء عليه؟ أعني لماذا يبقي أجهزته الأمنية تنغل وتعج بمثل هذه الديدان؟ ولماذا لا يوقف التنسيق الأمني إلتزاماً بقرارات المجلس المركزي؟ ولماذا ما زال يعتقل ويقمع في مناضلي شعبه؟ ولماذا ما زال يفاوض من تحت الطاولة؟

لا أعرف لماذا ظل الغضب يتصاعد داخلي رغم صحة أسئلته التي لا أعرف لها جواباً، بالمناسبة أنت لديك موقعك في السلطة، هل لديك أجوبة لهذه الأسئلة المحقة؟

مرت فترة صمت قاطعة صخب حديثي، وأكملت من جديد أمام صمته المطبق:

ـ حتى أنت لا تمتلك أجوبة على ذلك، لا بأس، دعني أكمل لك ما جرى….

ظلت تتدفق الكلمات من بين شفتيه مثل نبع لا ينبض، وأكمل قائلاً:

ـ رئيسك يا عزيزي ليس بأفضل من هؤلاء الذين تعترض عليهم، ألم يلفت نظرك أن أول شيءٍ عمله عندما صار رئيساً هو تجميع كل السلطات بين يديه؟ الأمر الذي حارب رئيسه عرفات عليه مدة عام ونصف دون حديث أو معايدة أو حتى مكالمة هاتفية، مدعوماً بأبواق محقة ومشتراة من صحافة وإعلام، ألا يثير الأمر فضولك؟!!! ولماذا يلغي هذا الرجل ـ كسابقه ـ  مؤسسات المنظمة ولمصلحة مَنْ؟

خلت أنه أنهى حديثه، لكني كنت مخطئاً، فهؤلاء يتحدثون وكأنهم مبرمجون، لا يكفون عن الكلام حتى تنتهي البرمجة، وتابع أسئلته قائلاً:

ـ ألم يثر اهتمامك أن هذا الرجل لم يصدق ولو مرة واحدة بخصوص وعوده مع الإحتلال؟ ألم يثر فضولك أن معظم حاشية الرئيس ما هي إلا شخصيات أقل ما يمكن وصفها بأنها تافهة، ذليلة، جبانة، علاقتها بالإحتلال عميقة كثيفة مميزة ولا يربطها بشعبنا سوى كيس المال القادم من الرئيس وبإسمه؟ وكلها أصبحت من أصحاب العقارات والملايين؟ وحتى الرئيس نفسه من أين له ولأولاده كل هذه الفلل والشركات والملايين؟

ماذا أقول لك؟ كوني لا أجوبة شافية لدي كففت عن رفع صوتي، ولم أعد قادراً على الدفاع عن الرئيس وحاشيته ـ كما أسماها ـ وهو كمن ينتظر ليفرغ كل ما في صدره من غضب أو حقد، رفع يده ليطلب من نادل المقهى فنجانا آخراً من القهوة، وتابع من جديد:

ـ وها هو رئيسك لا يهمه حصار غزة ولا جوع أبنائها، لا تزايدوا على قادة حماس فأنتم لستم بأفضل منهم بهذا الأمر، فرئيسك يعطي نظام السيسي حقاً بإغلاق المعبر، وكأن المعبر ملكه!!! وكأن من يموت في القطاع المحاصر لا يعنون أحداً، وبدون حياء هو وهم يتحدثون عن المصالحة الوطنية، ورئيسك يشترط مصالحة على أساس برنامج المنظمة!!! أيمكن أن تقول لي عن أي برنامج يتحدث؟ أو حتى عن أي منظمة يتحدث؟ وهل أبقت السلطة منذ توقيعها اتفاقية العار في “أوسلو” على برنامج تحرير لمنظمة التحرير؟!!! أم المقصود برنامج تجريد الشعب سلاحه كخطوة لتجريده من ارادة النضال والقتال ؟!!!                                                           وبعد لحظات سكوت قال “آآآه” وكأنه تذكر شيئاً، وأكمل بإستهزاء:                                                            ـ الآن أدركت!!! ربما يعتقد أنه قصفهم ب”صواريخه غير العبثية”  عندما قال لهم ” ياعمي حلّو عنا”!!!

أصدقك القول أنني قلت ما قلت من باب المماحكة لا اكثر، كون حديثه كان يدور في رأسي دون أن أسمح ولو للحظة واحدة للساني أن يخون عقلي ويدلق ما به أمام الناس، فما بالك أمام هؤلاء المتطرفين؟

ارتشف القهوة وبخارها يتصاعد، أعاد الفنجان الى صحنه الصغير على سطح الطاولة، حرّك رأسه ميمنة وميسرة وكأنه يأسف على حديثه مع شخص مثلي، الأمر الذي أجج غضبي وزاده الى أقصاه، فقلت بنبرة احتجاج قاسٍ:

ـ ألا تخاف الله يا رجل؟ اتشبه الرئيس ببعض من حوله من اللصوص والحثالات البشرية؟ إنهم يعملون من أجل المال، لكن الرئيس، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!!!

فقال موجهاً لي اتهاما أكثر منه سؤالاً:

ـ لماذا تستعيذ الله من الشيطان؟ اظن أن الشيطان معشش في رؤوسكم؟ إذا كانت الحاشية بهذا الوصف، فهي ليست إلّا جيش لحد بتشكيلته الفلسطينية، وإذا كان رئيسك يعمل من أجل الوطن وليس المال، لماذا قال أنه يؤيد كل ما تقوم به مملكة آل سعود؟ ألا يعني هذا تأييده للعدوان على اليمن؟ ألا يعني تأييد موقف آل سعود في دعمهم للدواعش والقاعدة وحربهم في سوريا والعراق وليبيا ومصر؟ ألا يعني هذا دعم موقفهم في اعداماتهم للأصوات المعارضة وللمثقفين والكتاب وكل من يملك عقلاً؟ ثم لماذا لم يطالب بالإفراج عن الشاعر الفلسطيني المحكوم بالإعدام قهرا وتجبرا؟ أكل ذلك من أجل المال؟ بماذا سيفيده المال بعد أن يقضي على قضية شعبه؟ أأنت أعمى أم تتعامى؟ ألا ترى أن وزارة الصحة الفلسطينية ترفض أن تسجل الشهيد نشأت ملحم كشهيد فلسطيني كونه من الأرض المحتلة من الثماني وأربعين؟ أتعتقد أنهم بعيدين عن تفكير الرئيس وتوجيهاته؟ طبعاً أنت لا توافق على ما أقول، تماماً بقيت كما أنت، أتذكر كيف كنت تدافع عن الرئيس عرفات أيضاً وبنفس الطريقة مهما قال ومهما فعل؟ الا تريد أن تدرك أنهم بشراً خطائين ؟ وأننا كنا نعبد أصناماً وليس آلهة؟ أنا من طرفي كففت عن عبادة الأصنام، اعبدها أنت كيفما تشاء وقدر ما تشاء….

وللحق أنني تذكرت نفسي طوال الفترة الماضية، وتذكرت كيف كنت “أبصم” على كل ما يقولون، وما زلت كذلك، ربما كوني لا أريد أن أصدق ان رئيسا لحركة تحرر  فلسطينية يكون مشروع “أوسلو” أكثر ما استطاع أن يوصلنا له، وأنه حوّل المناضلين الى أتباع شخصيين، وسرعان ما حوّلهم إلى أدوات قمع وقهر تعمل في خدمة الإحتلال… نظر نحوي نظرة شفقة وقال:

ـ لقد قرأت في مكانٍ ما، أن وفداً من الثورة الفييتنامية جاء في زيارة لقيادة ثورتنا في بيروت، ولما رأوا المكاتب والتبذير  والإستهلاك قالوا لهم: ” ثورة بهذه الرفاهية وبهذا البذخ لن تنتصر أبداً “، هذا كان آنذاك فما بالك الآن؟!!!    وقام من على كرسيه متوجهاً الى داخل المقهى، دفع ثمن الطلبات عنه وعني وذهب…

هذا بالضبط ما تم بيننا.

أنهيت حديثي مع العقيد الفلسطيني “أبو غضب”، الذي استدعاني لمكتبه حيث تم الحديث، حين أسند ظهره على كرسيه الهزاز، تصفح وريقاته التي كان يسجل بها ملاحظاته، وقال:

ـ قلت لي أن هذا ما تم بينك وبين طارق، لكن معلوماتنا تقول أنك ما زلت تُخفي عنا الكثير من المعلومات، على كل حال أنت من سيتعب وليس أنا، أنا سأغادر الآن وألعب مع أطفالي وألاطف زوجتي وأقبلها وأعانقها، وما عليك إلا أن تبقى “راكباً رأسك”، عندما تقرر أن تعترف بالحقيقة كاملة، أخبر المجند ليناديني…

لا أدري لماذا ذكرتني كلماته بكلمات ضابط المخابرات الإسرائيلي “كوهين”، الذي ظل يردد نفس الكلمات على مسامعي أثناء تحقيقه معي في الماضي غير البعيد.

ضغط على “زر” على حافة مكتبه، دخل احد المجندين الفلسطينييين، أخذني من ذراعي، وتوجه بي الى زنزانة كنت قد زرتها سابقاً، حيث فاجأني طارق بوجوده، حاملاً شفته الممزقة والتي ما تزال تنزف دماً….

محمد النجار

أضف تعليق