كنا قد تجمعنا في مقهى المدينة، المقهى الذي أخذ اسمه من كونه يشغل مركز المدينة منذ عقود، ورغم تزاحم المقاهي من حوله، إلّا أنه ظل هو الأكثر امتلاءً والأكثر شهرة، وأكثر ما زاده شهرة، كثرة الرواة المترددين عليه في لياليه الساهرة، وكان راوينا هذا، صاحب هذه الحكاية هو الأكثر شهرة، وهذا ليس فقط بسبب آلية سرده لحكاياته العديدة والمتفرقة، بل كونه يختار الحكايات الحقيقية، التي تمت على أرض الواقع، ونقلها لنا التاريخ محمولاً على ظهر السنين. ورغم ذلك، لم يخلُ الأمر من معارضين للراوي، والذين لم تكن معارضتهم لتفسد للقصص والحكايات هدفاً، ولا للود قضية. تجمّعنا وأخذ كلٌ مقعده، فلم يبقَ مقعد فارغ، ولا مكان في ممر بين طاولات إلّا للنادل الذي كان يروح ويجيء بصمت كامل، فلا تسمع رنين كأساً ولا حركة أرجل ولا حتى همسٍ قد يفسد للراوي حكايته. انتظرنا قدوم الراوي الذي لم يتأخر يوماً عن موعده، ومرت دقائق الإنتظار كعادتها بطيئة متهادية منفِّرة، مختالة بكل غرور، ونحن نحتملها بصبرنا المعهود دون أي نقد أو حتى استياء.
وجاء الراوي مع المساء كعادته، ملتفاً بعبائته، رد السلام بطريقته المعهودة وجلس في نفس المكان الذي يعتليه في لياليه جميعها. وقال الراوي بصوته الجهوري كعادته:
ـ كان ياما كان، في قديم الزمان، ولو لم يكن قد تم فعلاً لما حملته إلينا الأيام، وبالتالي لما وصل إلينا الآن.
لكن معارضيه سرعان ما نفوا أن يكون الأمر قد تم في قديم الزمان، بل إنه تم في القريب منه، وأكدوا أن الإختلاف في التوقيت لا يعني التشكيك في الحكاية بأي شكل من الأشكال، بل ما يعنيهم صحة التأريخ أيضاً، فهذا منبع حرصهم وهذه جل غايتهم. فاعترض أنصار الراوي على اعتراض المعترضين، وتجادلوا وتحاججوا، وقدم انصار الراوي حجتهم حيث قالوا أن الأمر قد تم في القديم من الزمان، وهو الزمان الوحيد الذي كانت فيه الحيوانات تتحدث. فرد المعارضون قائلين، هذا التأكيدغير دقيق، وأن الكثير من الحيوانات ما تزال تتحدث حتى وقتنا الحاضر أيضاً، وأنك في أحيانٍ كثيرة تكاد تُخدع وتعتقد أن المتحدث إنساناً، خاصة إذا تحدث دون أن تراه، أو إذا كان متخفياً أو متستراً في زي ملاك أو انسان.
ونحن، إذ نعلن عدم انحيازنا لأيٍ من الطرفين، رغم عدم حياديتنا نحو الحكاية وصحتها، الأمر الذي نلتقي به مع الراوي ومعارضيه، وذلك لا علاقة له بإمساك “العصاة”من المنتصف، بل كون الأمر لا علاقة له في جوهر القضية، بل بالتوقيت، وإننا إذ نعلن أن كلا حجج الطرفين صحيحة، رغم القرون العديدة التي تفصل بينهما، فإننا ننشر الحكاية كما هي، دون تدخل أو حذف أو تعديل، ونعتذر للقراء إن كان في الرواية كلمات تخدش الحياء العام أوشفافية الآذان الحساسة، لكننا لا ولن نعتذر إن فُهم من الحكاية أنها تقصد ملكاً أو أميراً بذاته، أو حتى تقصدهم كلهم، كوننا لسنا معنيين بما سيفهمه أو لا يفهمه كل قارئ، كما أننا لسنا في معرض رقابة على عقول البشر. لذا إقتضى التنويه.
وأكمل الراوي:
ـ كان في قديم الزمان حمار، متزوج من”آتان”واحدة، ورغم مرور سنين عدة على زواجه، إلّا أن الله لم يرزقه بأي “جحش” يملؤ عليه حياته، الأمر الذي قلب حياته الى ما يشبه الجحيم، وكاد يقلب الحب الذي يكنه لزوجته الى نوع من التنافر إذا لم نقل الكره، ولكن الله لا يترك عبيده، أو إن شئتم حميره، فسرعان ما حملت “آتانته”، فكاد الحمار أن يحملها على أماميتيه، وان يضيء لها حافريه، وعادت له ابتسامته وفرحته وابتهاجه، وعاد مرحاً ممازحاً، كما عادت علاقته بمعشر الحمير طبيعية كما كانت قبل موضوعة الحمل برمتها.
ورزق الله الحمار جحشاً ذكراً، فرح به الحمار فرحاً جماً، وأخذ ومنذ صغره يعلمه أنواع النهيق، ويتركه بين زعامات الحمير ليتعلم منها وينهل من تجاربها ومعارفها، لعله عندما يكبر أن يكون له شأنا عظيما. لكن زوجته توقفت عن الحمل من جديد، ورغم كل أنواع الأعشاب التي قدمها لها حكماء الحمير، إلا أنها انقطعت عن الحمل سنوات أخرى، ولم تُجدِ معها كل العلاجات نفعاً، ولما أصابها مع زوجها اليأس، ولم يعد هناك من الأدوية شيئاً لم تأخذه، حملت من جديد، على دون توقع، وولدت جحشاً ذكراً آخراً، وتكرر الحمل والولادة مرات ومرات، فأصبح للحمار سرباً من الأبناء الجحوش، تفصلهم عن أخيهم “البكر” سنوات طوال، لذلك فضل الحمار الأب أن يسمي إبنه البكر بالحمار الكبير، ليميزه عن بقيةأخوته، وأمام هذه التسمية لم تجد “آتانته” بُداً من أن تسمي ذكرها بالحمار الأب.
وكان الحمار الكبير يكبر وتكبر معه همومه، وأخذ يشتد زنده وتتشكل عضلات سواعده، وتكبر معه طموحاته، الأمر الذي أحدث اختلافاتٍ متعددةً على الحمار الكبير، فصار سارح الذهن شارده، دائم الغياب بذهنه رغم حضور جسده، الأمر الذي أربك أبويه وجعلهما في حيرة من أمرهما، الأمر الذي جعل والده باتخاذ قراره بالحديث مع ابنه الحمار الكبير ليعرف ما يدور في ذهنه، وهذا ما تم.
انتهز الحمار الأب فرصة خروج أبنائه الجحوش ليلعبوا و”يتفعفلوا” على رمل رصيف الطريق، وغياب زوجته”الأتانة” عند إحدى جاراتها للثرثرة كعادتها دائماً، فأخذ ولده الحمار الكبير جانباً وقال له:
ـ ما الذي يتفاعل بداخلك يا ولدي؟ ألهذه الدرجة تأخذك “الأتانات” بجمالها وغنجها؟ إنني أرى معظم “أتانات” الجيران، بل العشيرة كلها، وهن “ينهقن”ضاحكات لجلب انتباهك إليهن، وخاصة عندما رأينك بطولك وجمالك وعضلاتك المفتولة، وكأنهن يدعونك إلى تحريك “مشاعر الحمار ” التي تبلدت فيك، أو مشاعر العاطفة، أو حتى مشاعر الجنس، وأنت تقف كحمار بليد لا ترى شيئاً، إن الحمير لديها مشاعر وأحاسيس وإن كانت حميراً، لا أعرف ما الذي يدور في رأسك!!! وسكت الحمار الأب قليلاً قبل أن يكمل حديثه في محاولة لمعرفة ما يدور في ذهن ابنه الحمار الكبير:
ـ أشر لي يا بني أي “أتانة” تريد وسأذهب في هذه اللحظة بالذات لأطلبها لك من ذويها، لا يمكن أن تكون بهذا الشكل، شارد الذهن دائماً… لا تستغرب حديثي هذا، فأنا نفسي كنت شاباً كما أنت الآن، وما يمر بك الآن مر بي من قبل، عندما كنت في “سن” شبابك هذا…
فقال الحمار الكبير حاسماً الأمر، موضحاً لأبيه ما يشغل ذهنه:
ـ يا أبتِ لم تكن “الأتانات” من يشغلن بالي ويغيبن عقلي، لكنه الطموح، إن ولدك لديه طموحاً بالزعامة على العائلة والعشيرة والقبيلة ومعشر الحمير جميعاً، بل وحيوانات الجوار أيضاً، وسأفعل المستحيل من أجل ذلك…
تفاجأ الحمار الأب من كلام حماره الكبير، لكن الفكرة التي لم تخطر على باله يوماً، دللت أن لإبنه من العقل ما يستحق المساعدة وإن كان حماراً، فقال:
ـ للزعامة طريقان يا ولدي، إما أن تقوم بترشيح نفسك في انتخابات وتُنتخب ويتم ترئيسك، أو بحد السيف وتصير ملكاً، دون انتخابات أو ناخبين، في الأولى مؤكد أنك لن تفوز، كون لا أحد يقبل بأن يُزعّم عليه حماراً، ولا حتى الحمير نفسها. فما بالك ببقية الحيوانات الأخرى؟ فحدّث ولا حرج، فلا أحد منها يرغب بترئيس حمار أو تمليكه عليه، بل إن كل الحيوانات ترى نفسها على معشر الحمير، ترى مقامها أعلى ونفسها أرفع شأناً، حتى الأبقار والبغال ترى مقامها فوق مقامنا… يا لمهازل الأقدار!!!
ـ إذن لن يبقى أمامنا سوى حد السيف ياأبي.
قال الحمار الكبير لأبيه بتأكيد، فأجابه الحمار الأب:
ـ السيف!!! نعم السيف، لكننا لا نملك السيف، ولا حتى ثمنه، وكما قال الشاعر:
” لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال”
ـ خياراتنا محدودة ياأبي، لذا ما علينا سوى سرقة السيف…
قال الحمار الكبير شارحاً لأبيه، وأكمل:
ـ خاصة أن أحداً لن يقبل بأن يساعد حماراً ليتولى أمور مملكة، ولن يثق به، لذا علينا المحاولة وحدنا، فإن نجحنا كان به، وخير وبركة، وإن فشلنا نعيد الكرة من جديد في محاولة جديدة….
استشاط الملك الأب غضباً، وكاد يملأ الدنيا نهيقاً مدوياً غاضباً، لولا تخوفه من أن يستدعي بنهيقه هذا فضول الجيران وانتباههم، وبالتالي كشف السر الذي ما يزال بينه وبين ابنه الحمار الكبير، وقال:
ـ ماذا تقول أيها الحمار ياابن الحمير؟!!!، وهذه شتيمة وليست توصيفاً، ألم تدرك بعد أن هذا الأمر لا تجربة فيه، الفرصة التي بين يديك هي الأولى والأخيرة، فإما النجاح وإما المقاصل على قارعة الطريق، فتتعفن جثثنا دون أن تجد من يلتهمها، لتكون عبرة لمن يعتبر!!! لذلك عليك باللعبة لكن بشكل صحيح، دراسة الأمر من كافة جوانبه، كيلا يبقى مجال لخطئ مهما كان ضعيفاً… لذا يجب البحث عمن يدعمنا في هذا الطموح، وليس سرقة سيف تذهب بك إلى غياهب السجون، وتكشف ما يدور في ذهنك من مغامرات وأخطار.
فقال الحمار الكبير بشيء من الخضوع، بعد أن أرعبه جواب أبيه لدرجة أنه بال على نفسه أو كاد، متراجعاً عن كلماته التي بدت ناضحة بالغباء، وراغباً بالتراجع عن مثل هذه الأفكار الهدامة المرعبة، التي يمكن أن تقود صاحبها الى نهاية مميتة:
ـ ومن سيقبل بأن يُملك حمارأ ياأبي؟ فأنت نفسك تؤكد أن لا أحدا يرغب بذلك.
فقال الحمار الأب موضحاً:
ـ بالعكس أيها الحمار الكبير، هناك من يرغب بتمليك الحمير كونهم حميراً أولاً وأخيراً، وأنت والحمد لله حمار ابن حمار ابن حمار، يعني حماراً أباً عن جد، كما أنك “أحمر” من إخوتك جميعاً، وظني أنك أحمر “بني حمار” جميعاً أيضاً، لذلك فأنت الأفضل والأصلح للملوكية من أبناء عشائر الحمير وقبائلها جميعاً. كما أن أباك يابني من عائلة حسب ونسب، فظني أن من قدامى أجدادنا كان البغل وكان النغل، وكان الجَمال وكان الكَمال، وكان الحُسن والعقل والبهاء، والدليل جمالك ورجاحة عقلك، أم تظن أن الكثير من الحمير يمكن أن تفكر بما فكرت فيه؟!!! لا يابني، فكلها لا تفكر إلا في “علف المساء”.
تناول الحمار الأب سيجارة وضعها في فتحة أنفه اليمين، أشعلها، وسحب نفساً عميقاً، أخرج دخان رئتيه من فتحة أنفه الشمال، وقال مهدئاً من موجات رُعب ابنه التي كان يراها تتصاعد من مرايا عينيه:
ـ اترك الأمر لي لأفكر به قليلاً، لا تستغرب أنني أفكر وإن كنت حماراً، واذهب أنت و”تفعفل” قليلاً على رصيف الطريق، واحرص على أن لا تؤذي أخوتك الجحوش، “فحمرنتك” أحياناً تخرج عن المألوف وتتعدى المعقول، واضبط لسانك كي لا تذهب وتجرنا معك الى الهاوية.
مر على هذا الأمر بضعة أشهر طوال، والحمار الأب يُقلِّب الموضوع في خلايا رأسه الكبير دون نتيجة، وكأن ما بين أذنيه ليس إلّا “مخلاة تبن” وليس دماغاً بوزن عجل صغير، ولا يدري لماذا تذكر ذلك الحدث الآن؟ لماذا في هذا اليوم بالذات، بعد مرور فصلين كاملين من حصوله، تلك الحادثة التي لن ينساها أبداً، حيث كان أقرب من أي مرة أخرى من فكي مجموعة من الكلاب الضالة، التي عادت الى وحشيتها رافضة كل عروض تدجينها وإغراءاتها التي لايمكن رفضها، معيدة حياتها الى الصيد والسرقة والإحتيال، بعدأن عاشت فيها سنوات طوال، وقال البعض أن هذه الكلاب قد قامت بجنح وجرائم متعددة حينما كانت في البيت الداجن، وخوفاً من المحاكمات والإدانات وما يتبعها من أحكام وسجون، فضلن الهروب والتشرد، واللجوء لحياة التوحش، نعم كاد أن ينتهي به الأمر بين فكي بضعة كلاب ضالة، وهو الذي تمنى إن كان لا بد من أن يكون عشاء وحش، وإن كانت نهايته بين فكي حيوان مفترس، فلتكن على الأقل بين فكي أسد وليس بضعة كلاب ضالة!!!.
وأضاف الراوي :
لقدكان الحمار الأب سارحاً في شؤونه وشئون عائلته، وينتقي حبات شعير متناثرة على رمل الطريق، وبقايا “تبنٍ” وكأنها وضعت بهدف صيد حيوانٍ غبيٍ يحمل ما بين أذنية “كيس تبن”، لا عقل يجب استعماله، وظل الحمار الأب يتبع أهواء معدته وأمعائه، دون أن يفكر ولو للحظة واحدة إلى أين يأخذه الطريق؟ ومَنْ يمكن أن يفعل ذلك أفضل من حمار بن حمار؟ حتى إذا ما رفع رأسه قليلاً عن تراب الطريق، حتى تفاجأ بمجموعة من الكلاب الضالة، كانت قد اجتمعت على عجل اختطفنه من عشيرة الأبقار، ولم يبقَ منه سوى هيكله العظمي الذي ما زال يتربع عليها زعيم الكلاب الضالة، كلب ذو رأس أبيض وبني اللون فاتحه لباقي الجسم، ولم يكن سوى كلب “البيتبول”، ذلك الكلب الشرس، القاتل، الذي لا يترك غريماً له أو فريسة على قيد الحياة، والذي لا ينام الليل إلّا قليلاّ، وفيه كل صفات الكلب إلّا الوفاء، يطفح بالقوة والشراسة والغدر، ذكي ومراوغ مثل ثعلب، قوي البصر والسمع مثل ذئب، يتمتع بالسطو والسيطرة مثل أسد.
هنا هب المعارضون للراوي مؤكدين أن الحمار الأب لم يذهب الى هناك خلف التبن وحبات الشعير، بل كان ذاهباً الى ذات المكان كما يفعل كل عام، حاملاً فوق ظهره كمية من”رطب البلح” ليخمره ويبقيه بعيداً عن أنوف الحمير وعيونها، كيلا يسرقوا نتاج عمل أماميتيه لفصل الشتاء القادم، وأضاف المعارضون أن ما يقال غير ذلك ليس إلا من باب المبالغة ب “حمرنة” الحمار الأب وتصويره على أنه لا يتبع سوى غرائزه مقابل تجميد عقله، الأمر الذي يبعدنا عن الحقيقة والحياد. وعندها أكد الراوي أن الحمار الأب لم يكن ليفعل ذلك كونه ليس بشارب للخمر أصلاً، أكد معارضوه أنه كان يُخمِّر ويُنقِّي ويبادل الخمر بالأعلاف، وأنه كان يشرب الخمر ب”الحذاء” أيضاً على حد قولهم، لكن بعيداً عن أعين القبيلة.
النتيجة أن الحمار الأب ارتعب وارتعد وتفتتت مفاصله، ما أن رآى زعيم الكلاب الضالة “يُمصمص” مخالبه من فوق الهيكل العظمي، فتساقطت حبات الشعير من بين أسنانه، ولم يستطع التحكم باصطكاك أسنانه، ولا حتى بلعاب فمه المتهافت من بين أسنانه وتحت لسانه كمزراب ماء، وبال على ذنبه من شدة الخوف، وأخذجسده يرتعش رغم حرارة ذلك النهار من أيام الصيف القائظة.
حاول الحمار الأب التراجع الى الخلف، رفع حافره الخلفي ليضعه بخفة في الوراء، فاصطدمت أذناه بصوت جرس كنذير شؤم، صوت انذار نتائجه وخيمة، نظر الحمار نحو المكان الذي جاء منه الصوت المُحذِّر، فإذا ببصره يقع على أفعىً ذات قرنين عظميين، برأس ضخم مخيف بالنسبة إلى طول جسدها، حراشف على كامل جسدها، رافعةرأسها مقتربة من أعلى فخذه، تُنتج فحيحاً مع كل حركة مع حركاتها، كانت قصيرة الطول، تسير على الرمال بشكل جانبي وتحمل جرسها في مؤخرة ذيلها. وما أن رأها الحمار الأب وقد رفعت رأسها، حتى أيقن أنه ما أن يضع حافره على الأرض أو حتى قبل ذلك، ستكون أنياب الأفعى السامة تفرغ سمها داخل فخذه، فوقف الحمارحاملا فخذه، معلقه في الهواء، وبدأت عيناه تلقي دموعه على صفحات وجهه، واستمر معلقاً فخذه في الهواء حتى تركته الأفعى وانسحبت، وما أن غادرت مكانها حتى رأى الحمار الأب زعيم الكلاب الضالة وقد بدأ بالتحرك نحوه، لكن عمر الحمار الأب لم يكن قد انتهى بعد، وما هي الّا لحظات حتى توقفت الأفعى المرقطة ذات القرنين والجرس، أعلنت أنها تحميه بهزة من ذيلها ،حيث أطلقت رنات تعرفنها زعيمات الأفاعي السامة، كما حلفاؤها من الكلاب الضالة وآخرين لم يعرفهم الحمار الأب بعد، أشارت الأفعى لزعيم الكلاب الضالة بإشارة للتراجع عن مهاجمة الحمار، وسرعان ما توقفت وأشارت بحركة من ذيلها للحمار الأب ليتبعها.
عرّفته الأفعى القصيرة المرقطة ذات القرنين والجرس المعلق في نهاية ذنبها، بأنها ملكة ملكات الأفاعي السامة، وسألته عمّا أتى به الى هذه المنطقة البعيدة عن قبيلة الحمير وعشائرهم، والحمار الأب الذي كان ما يزال تحت رعب الصدمة، لم يستطع الإجابة، وأكملت الأفعى الملكة قائلة:
ـ هيا …
وأخذته الى سطل ماء ليشرب ويهدئ من روعه، وظلت تحدثه، رغم أنه لم يتوقف عن البول على نفسه. وعادت إلى القول من جديد:
ـ أنت محظوظ لأن الكلاب الضالة وزعيمها أكلوا حد التخمة، وأنت محظوظ أيضاً كونك وجدتني وأنا بحالة جيدة ونفسٍ طيبة هادئة، وكما يقال أنه” ربما ضارة نافعة “وأنه ” لا صداقة إلّا من بعد عداوة”، فيبدو أن ربك يريد لنا صداقة صادقة وغير مسبوقة، يعلم الله أنك دخلت قلبي، وهذا رغم حصوله إلا أنه شيء نادر.
وأشارت بيدها نحو مكان يحتضن شجرة نخيل، تقابلها على بعد أمتار ثقوب في رمال متيبسة بسبب الهواء والماء وعوامل الطبيعة، وقالت:
ـ إن أردت أي مساعدة يمكنك القدوم الي هنا، قف تحت الشجرة ونادى على الأفعى الملكة بنهيق خفيف، ستجدني بجانبك في لحظات…هيا لأوصلك الى ديارك، بين قبيلة الحمير وعشائرها قبل أن تجوع الكلاب من جديد.
وأخذته مطبطبة على قخذه بجرس ذيلها، وسارا يتبعهم من بعيد زعيم الكلاب الضالة وبضع كلاب أُخر، وظلت تثرثر معه طيلة الطريق، تستفسر عن الحيوانات التي تجاور قبائل الحمير، عن الأعشاب التي تنمو في أرضه، عن الماء وكمياتها في أرضهم، والحمار الأب يقدم لها كل ما تطلب من معلومات، حتى وصلا الى مدخل أراضي قبيلة الحمير وعشائرهم، شدت على حافره وقالت مؤكدة:
ـ لا تتردد في المجيء إلي إن كنت بحاجةالى أيما شيء، فما أستطيع فعله لك سأفعله، وما لا أستطيع فلدي من المعارف والحلفاء الكثيرين لمساعدتي، فأنا لا أعدم وسيلة من أجل ذلك… نعم لدي الكثير من الحلفاء لكن الأصدقاء قليل أيها الحمار الموقر، أفهمت الآن لماذا أنا مصرة على صداقتك وأفخر بها؟!!! هيا إلى بيتك قبل أن يداهمنا المساء، وينثر ليله المعتم فوق بيوتنا…
ما أن غادر الحمار الأب “الملكة الأفعى” حتى جاء زعيم الكلاب الضالة اليها غاضباً معاتباً، معبراً عن غضبه وعتابه من خلال نباح طويل حاد متقطع في أول الأمر، منتهياً بوصلة كاملة مستمرة من النباح الطويل المستمر، وسألها:
ـ ما الذي فعلتيه أيها الأفعى الملكة؟ أكان حراماً أم عيباً أن نحتفظ بهذه الكمية المهولة من اللحم؟ صدقيني إنه لذيذ وإن كان لحم حماراً، أم كنت تعتقدين أننا س”نَزْوَر” إن نحن أكلنا من لحم ذاك الحمار؟ خذي رأينا على الأقل في مثل هذه القرارات الهامة.
والأفعى الملكة التي افتعلت أنها لم تسمع شيئاً من زعيم الكلاب، سألته على غير توقع:
ـ ما الذي جعلك تتعقبني؟ ألهذه الدرجة فقدان الثقة؟
ـ لا، أبداً، أقصد… ليس صحيحاً…
ارتبك زعيم الكلاب كثيراً أمام سؤال الأفعى الملكة، وظل يتعثر بالحروف حتى اهتدى إلى جملة يقولها، فقال:
ـ أتيت كي لا يباغتك الحمار و”يرفسك”، يعني لحمايتك…
ابتسمت الأفعى مظهرة أنيابها، وقالت:
ـ وهل تعتقد أنني بحاجة لحمايتك أيها الزعيم؟ أتعتقد أن هذه الأنياب وهذا الجسد رغم قصره، والمليء بالسم القاتل بحاجة إلى حمايتك؟ خاصة من حمار؟
افتعل زعيم الكلاب بدوره عدم سماعه لأسئلة الملكة الأفعى، وسأل نابحاً بود، قافزاً عن الجو الحاد الذي ساد:
ـ ما الذي يدور برأسك أيتها الملكة؟ أموت وأعرف كيف تفكرين!!!
ونبح الكلب ضاحكا وكأن شيئاً لم يكن، حين أصدرت الأفعى الملكة فحيحاً ضاحكاً مترافقاً مع رنات سعيدة من جرس ذيلها، قالت كلمات لم تخل من جدية تامة:
ـ أبعدالله عنك الموت وكل سوء أيها الزعيم، وربما أنت محق في ضرورة آخذ رأيكم، وكما تعلم فأنا لست ملكة مُتَفرِّدة، وقراراتي في مجملها جماعية أيضاً، لكن هناك قرارات علينا اتخاذها بسرعة، لا وقت لأخذ آراء فيها، أعني تكون المبادرة فيها هي الأهم، وهي سيدة الموقف، كون الزمن لا يتوقف لينتظر استشارات واجتماعات.
توقفت في منتصف الطريق وقالت:
ـ صدقني أيها الحليف الزعيم، أنني لم أفكر بالأمر إلّا في تلك اللحظة، ولم أرغب أن أفقد أهمية اللحظة، وخاصة أن الجوع لم يصبنا أو يداهمنا بعد، وأنت وجماعتك كنتم قد انتهيتم لتوكم من أكل عجل كامل.
احتضنت رقبة زعيم الكلاب الضالة، معلقة جرس ذيلها على جانب رقبته، وقالت:
ـ تعال أيها الحليف العزيز لنلتقي مع بقية زعيمات الأفاعي، كما مع ملك الضباع لأخبركم بما فكرت به، وبما دار في ذهني، فأنا أفعى لا أنظر بين قدمي فقط، وربما لذلك لم يخلق لي الله قدمين، إنني أرسم للبعيد، للبعيد البعيد أيها الكلب، أفهمت؟ هيا بنا …
كان الحمار الأب يروح ويجيء على طول الطريق، يفكر بما عليه فعله ليوصل ابنه البكر الحمار الكبير ملكاً على عشائر الحمير وقبائلها، وعلى بعض قبائل الحيوانات الأخرى، حتى أن زوجته علقت له “مخلاة التبن” في رأسه عندما رفض قاطعاً دخول زريبتهم، وأخبرها أنه لن يلتقي هذه الليلة معها ومع الحمار الكبير وبقية جحوش البيت، كما أنه لن يلتفّ معهم حول مائدة العشاء. ظل يروح ويجيء كهائم على وجهه، متسائلاً كيف ومن أين يمكنه الحصول على السيف، مدركاً أنه بحاجة الى من يساعده في ذلك، وبدون مساعدة لن يحصل على أكثر من ملئ حافره هواء. وقال في نفسه” عليك أن تأتي على ظهور المخالب والنيوب لحيوان مفترس أو حتى مجموعة حيوانات، هذا هو الطريق الوحيد، فخير أن تكون حماراً ملكاً من أن تكون حماراً من العامة، وليس صحيحاً أن الحمار يظل حماراً حتى ولو كان ملكاً”.
فجأة… ودون سابق انذار ، وجدت الحمار يزيح “المخلاة” الفارغة من رأسه، ويبدأ بالرقص والقفز في الهواء، وينهق بكل ما في صدره من هواء ضاحكاً، قائلاً كما قال العالم نيوتن ذات يوم:
ـ وجدتها وجدتها…
وكان الحمار الأب ما يزال ينهق فرحاً، غير آبهٍ في الوقت الذي كان قد زحف نحو ساعات منتصف الليل وغادرها قبل ساعة أو يزيد، وظل يتقافز وكأنه فقد عقلة، وكان قد أخذ قراره بالذهاب الى “الملكة الأفعى” وطلب مساعدتها، الأمر الذي يتطلب منه البحث عن هدية مناسبة، وبدأ يفكر في ماهية هذه الهدية التي تليق بملكة ملكات الأفاعي المُتَوَّجة، ولا يعرف لماذا لم يتجاوب عقله في أكثر من التفكير بطعام لهذه الأفعى كهدية، وكان قد قرر أن يسرق زوج أرانب لتتمتع بأكله، لكنه وفجأة أيضاً، تذكر أقوال حصانٍ كان يتسلى بأكل بعض الأعشاب بالقرب من أراض قبيلة الحمير قائلاً له:
ـ لماذا لا تريد أن تخرج من “حماريتك”؟ “تَنجّر” أيها الحمار؟ لماذا هذا الإصرار على أن تبقى حماراً؟!!! من يسمعك يعتقد أن تكون حماراً ميزة، أو مدعاة للفخر!!!
إلتقى الحمارُ الحصانَ حينها صدفة، كان في مثل سِنّه، يتحدث بلغته رغم اختلاف مناطقهما، كان الحمار الأب غاضبا، أو بالأصح القول أن بقايا الغضب لم تتبخر من رأسه بعد، بسبب ابنه “الجحش الصغير، نعم بسبب الجحش الذي كان يحب أن يسميه”الجحش آخر العنقود”. كان هذا الجحش الصغير وعلى غير عادةإخوته جميعاً، يحب أن يحفر الأرض ويُخرج من طياتها السطحية قوالبه الرملية، وما أن يسحب فالباً حتى ينهال التراب من الأعلى إلى المكان المحفور المنخغض، وفي أحد المرات انهال التراب دون توقف، وظل ينهال وكأنه في فراغ، تاركاً في الأعلى مكاناً أخذ يتكشف فيه عن بفايا أبنية متهدمة قديمة، فخاف الجحش الصغير وفرّ راجعاً، لكنه فبل الفرار كان قد استوقفه وسط الإنهيارات الرملية تمثالاً صغيراً قديماً، لا تجد في هذا الزمن له مثيلاً.
حمل الجحش الصغير تمثاله وتوجه به إلى البيت، وكان قد أعجبه التمثال فلم يكف عن اللعب به، ومازال يلعب حتى دخل الحمار الأب باب المنزل، فوجد ابنه يلعب بالتمثال الصغير، فاستشاط غضباً، وأخذ جسده بالإرتعاش وكأن أفعى قد أفرغت به سموم جسدها، وكاد أن يتشنج، وصرخ بعلو صوته منهقاً:
ـ صنم يا إبن الحمار، صنم؟ ألم تجد لك شيئاً يُغضب الله أكثر من ذلك؟
واندفع نحو جحشه الصغير ليخلصه إياه ويكسره، فليس من المعقول أن يُبقي صنماً يتحدى الله في بيته، لن يقبل أن يترك ما يُشرك بالله وينازعه عبادته في داخل منزله. واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، واستغفر ربه، ونوى أن يوزع “مخلاتي تبن ومخلاة شعير” على فقراء الحمير تكفيراً عمّا اقترفه ابنه. لكن الجحش الصغير أخفى التمثال الصغير خلف ظهره وأخذ ينهق باكياً، ورجا ابوه “الحمار الأب” أن يتركه ليلعب به قليلاً، ثم وبعد أن يملّ من اللعب به فليكسره كما يريد. فقال له الحمار الأب سائلاً بشكل استنكاري:
ـ بصنم؟ أتريد أن تلعب بصنم ياابن الحمير؟
والجحش الصغير، “آخر العنقود”، الذي كان لا يفهم تماماً إن كان أبوه يشتمه موبخاً أم مجرد ينسبه إلى عائلة الحمير، قال:
ـ ماذا يعني “صنم” يا أبي؟
وأمام هذا السؤال المغرق في الجهل، أدرك الحمار الأب أن ابنه آخر العنقود ما زال صغيراً، وأن لا ذنب عليه كونه ما زال صغيراً ولايفهم ما يدور حوله، فقرر ترك “الصنم” بين يديه، ليلعب به متسلياً، خاصة بعد أن رأى دموع عينيه تسيل فوق وجهه الأسمر الطويل مثل جدول، على أن يأخذه ويكسره لاحقاً دون أن يراه ابنه.
وخرج الحمار الأب تاركاً الجحش الصغير في حضن أمه ووسط أخوته الجحوش، وما أن تمشّى قليلاً حتى التقى الحصان في مكان قريب، ولما رآه الحمار يتخبط في غضبه متعثراً بخطواته الحزينة، سأله عن حاله وأحواله، ليخفف عنه غضبه ويزيل عنه أحزانه، فحدثه الحمار الأب بكل ما به من حزن، عن أسباب حزنه، وعمّا رآه بأم عينه وفي بيته ومع ابنه “آخر العنقود”، وبدأ يُقسم أغلظ الأيمان بأنه لن يُبقي هذا “الصنم” في بيته مهما كلفه ذلك.
كان استغراب الحصان شديداً لما سمع الحمار الأب يقول “ما أنزل الله به من سلطان” على حد قوله، وسرعان ما قال للحمار:
ـ على حد علمي أنك أمضيت معظم أوقاتك بين أقربائي الخيول، وأن منهم من حاول أن يعلمكم القراءة والكتابة، وبنوا لكم المدارس، وعلموكم الزراعة واستخراج المياه من باطن الأرض، وعلموكم بناء البيوت بدل الخيام، وزراعة المراعي بدل مطاردتها واللحاق بالغيوم لتزرعوا تحتها خيامكم لتشربوا ماءاً، وتنتظرون العشب ليتم دورة حياته ويخرج الى ما فوق الأرض معلناً عن نفسه….لكن يبدوا وكما قال المأثور الشعبي”علّم في المتبلّم يُصبح ناسياً”، فما بالك إن كنت تعلم حماراً “بعيد عنك”!!!
وسكت الحصان قليلاً كي يفهم الحمار الأب تماماً ما أراد قوله، ثم أكمل ما ابتدأ به:
ـ تربيت بيننا وما زلت حماراً، وما زلت أذكر أباك جيداً، عندما كنت ما أزال مُهراُ وأنت جحشاً، كان يأتي بك ويربطك بيننا علّك تصير حصاناً مثلنا، أو تتعلم منا عادات الخيول، لكن صدق المأثور الشعبي الذي قال” الحمار حمار ولو بين الخيول ربى”.
أُسْتُفِزَّ الحمار الأب كثيراً من أقوال الحصان، وتفاربت أذنيه الطويلة متصادمة، وكاد يهجم على لسان الحصان ويظل يعضه حتى يقطعه، عله يكف عن الكلام، وعن هذه “الكبرياء”التي لا قيمة لها ولا وزن، وقال:
ـ لماذا كل هذه المحاضرة أيها الحصان، فأنت أولاً وأخيراً دابة مثلي، وأنت ونحن من خلق الله، ولا خير لأحدنا عن الآخر إلّا بالتقوى، ولم أفعل إلّا أن أشكو لك همِّي كصديق قريب، وتجمعنُا صلة قرابة بعيدة …
فقال الحصان دون أن يُعقّب على كلام الحمار الأب:
ـ وها أنت ما تزال تسأل بماذا أغضبتني!!! أغضبطتني بحديثك عن”الصنم”، تتحدث وكأنك وجدت ابنك والعائلة يركعون ويسجدون أمام “الصنم” كما تسميه، إنك لا تريد أن تفهم أن مرحلة الأصنام كانت مرحلة في التاريخ مرت وانتهت، ولا أن تفهم أن ليس كل تحفة فنية صنماً، هذه البلاد التي تراها على امتداد العين احتضنت شعوبا وأمماً وديانات، ما أنتج حضارات عريقة وثقافات، وما تسميه “صنماً” هو من نتاج تلك الحضارات.
سكت هُنيهة من جديد وقال:
ـ أعني أن ما تسميه “صنماً” فربما كان تحفة فنية لا تقدّر بثمن، لأنه يحمل شذى الماضي وعبق التاريخ، أفهمت الآن؟ لا يُقدر بثمن!!!
لا يدري الحمار لماذا تنهال عليه الذكريات كتراب جففته شمس الصيف الصحراوية و يتساقط في بئر عميق، وقال في نفسه:
ـ سيكون هذا “الصنم” هديتي إلى الملكة الأفعى، ما دام بهذه القيمة المرتفعة، وثمن الهدية يدلل على قيمة الحمار الذي يُقدمها، وعسى أن تكون قيمته كما يصف ذلك الحصان “الخرف”.
وذهب الحمار الأب إلى البيت، وأخذ “التمثال” التاريخي الملقى بين أقدام الجحوش وحوافرها، وكان قد جمّع كومة من أوراق أشجار النخيل، وأخذ يلف بها التمثال حتى غطاه كاملاً، وغرس في وجه الأوراق بضع حبّات بلح حمراوات، وتهيأ للمسير إلى بيت الأفعى في اليوم التالي.
حمل الحمار الأب هديته على ظهره، وانسل مع قدوم الفجر متوجهاً إلى مقر الأفعى الملكة، ظل رأسه يفكر طوال الطريق كله، رغم ما يسببه له التفكير من تعب وإجهاد، ورغم خروجه عن عادة الحمير، فميزة الحمير التي خرج عنها الحمار الأب، هي إبقاء العقل في حالة ارتياحٍ دائمٍ، بعيداً عن تعب الأيام ومشاكلها، لكن عادة معشر الحمير لم تُلزمه أو تمنعه من التفكير على طول الطريق. داهمته الشمس فقضت على بقايا البرد المختبئة بين ثنايا جلدة، وبدأت تنشر حرارتها على كامل الطريق، والحمار الأب ما يزال يسير، حتى وصل الى شجرة النخيل التي يقصدها، وكما أوصته الأفعى الملكة، أخذ ينهق نهاقاً خفيفاً منادياً على الأفعى الملكة ، والتي جاءت تزحف مسرعة وكأن أحداً أزعجها وقلل من راحتها، وقالت معاتبة:
ـ ألم أوصيك أن تنهق بلطف أيها الحمار؟ لقد أيقظت كل الأفاعي وأخفت صغارها…
فقال الحمار الأب في محاولة للدفاع عن نفسه:
ـ وهذا ما فعلته بالضبط أيها الملكة الأفعى، هذا أخفت صوت استطعت أن أخرجه من حنجرتي.
وكادت أن تقول الأفعى بصوت مرتفع،” كنت حماراً وبقيت حماراً، فعلاً إن أنكر الأصوات لصوت الحمير” لولا أن قررت أن الوقت ليس مناسباً في هذه اللحظة بالذات، بل إنها أخذت ترحب به وأخذته معها إلى ديوان الأفاعي لتحتفل بقدومه.
قرعت الأفعى الملكة جرس ذيلها منادية، فأقبلن قائدات الأفاعي واحدة بعد الأخرى، فحضرت أول ما حضرت الأفعى “الكوبرا” فاردة رأسها وكأنها تحمل تاجها الملكي فوق رأسها، فاردة طولها والذي بحجم عدة أفاعٍ من حجم الملكة الأفعى، مختالة مغرورة به، وبين أنيابها سموم قل مثيلها في كافة الأنحاء. تبعتها الأفعى النفاثة برأسها العريض المغطى بالحراشف، نافثة الهواء الذي ملأت به جوفها في الهواء بشدة، جاءت برفقة الأفعى الرملية، ذات الرأس المدبب والعنق النحيل، وبجسدها المنشاري الضعيف القصير، والذي يحوي كمية هائلة من السموم، جاءت فرحة وكأنها تتزلق فوق الرمال، ومن مكان أكثر بعداً جاء الأفعى الأسود الخبيث، بجسده النحيل وذيله الإبري، بعيونه الصغيرة كعيني لص محترف، كما حضرت أفعى الحنش بجسدها المتطاول المغطى بالحراشف، والأفعى النمر بشكله وألوانه النمرية، بمرونة جسدها وأنيابها القوية. جئن الأفاعي فرحات مزغردات بعد الأمر الذي تلقينه من الأفعى الملكة، وابتدأن بالطبل والرقص والغناء، مرحبات بقدوم الحمار الأب، مقدمين له الفاكهة والخضار، كما قدمن له خمور البلح مع “مازة” من الشعير، وأحضروا له “تحلبة” :”مخلاة من التبن”. ولم يفوت الملكة الأفعى من أن تقدم للحمار خلوة مع “آتان” جميلة، وأمرت بتصوير الحمار الأب في كل حركاته بما في ذلك داخل خلوته نفسها، متذرعة بأنها لا تعرف ما يخبئه الزمن لمملكتها، رغم أنها تتعامل مع حمار.
استمرت الإحتفالات حتى منتصف النهار، حتى أمرت الملكة الأفعى بالإنتقال الى غرفة خاصة أسمتها بغرفة الخيارات الكبيرة، وحضر معها الإجتماع مع الحمار قادة الأفاعي، خاصة قواها الضاربة الممتلئة بالسموم ممثلة بالأفعى الكوبرا والأسود الخبيث.
ابتدأت “الأفعى الملكة المجلجلة” اجتماعها بإحضار هدية الحمار الأب وفتحها أمام الجميع، وما أن رأتها حتى عُقد لسانها من التاريخ المتجمع بهذه الكثافة في هذا التمثال، والذي يكاد ينطق متحدثاً عن الأمم والحضارات المتداخلة التي جبلته، لكنها أرادت أن تُبقي الحمار مكسورا مهزوماً أمامها، فسألت بين الجد والمزاح:
ـ ما هذا؟!!!
ـ إنه… أقصد… ابني… الصنم …
قال الحمار كلمات لم يفهمها أحد، لكن الأفعى الملكة أدركت أنه لا يعلم ماهية هذه الهدية، وكادت تصرخ من شدة الغباء والجهل في الكتلة “الحماربة” الموجودة أمامها قائلة في سرّها:
ـ”حتى إنه لا يعلم ماذا حمل من تاريخ فوق ظهره هذا الحمار”.
وأدركت أنها أمام مرحلة مهمة من حياة مملكتها كلها، حين جاءها صوت الحمار معتذراً:
ـ أعرف أن هديتي المتواضعة هذه، ليست بمستوى مقامكم الرفيع، إن هذا “الصنم”….
ـ لا عليك… ما يهمنا هو أنت أيها الحمار، وهديتك تكتسب أهميتها كونها من حمار مثلك أيها الصديق الوفي، يكفي أنها مغلفة بشكل يُدلل على ذوق رفيع وإحساسٍ عال. لذلك…
وأشارت بيدها إلى الخادم ليضعها في صدر الغرفة، وأكملت:
ـ ضعها بالضبط هناك فهي رغم كل شيء من صديق عزيز مخلص ومهم… إنها من صديق حمار.
والحمار الذي وجد نفسه مقصراً، مقارنة باستقبال الأفاعي له، وبإحتفالاتهن به ومعه، وظن كل الظنون السيئة بالحصان الذي “إستحمره” بهذا الشكل واستغباه، مما سبب له كل هذا الإحراج، لكن صوت الأفعى أعاده إلى الواقع من جديد، قالت:
ـ إنتهينا من الإحتفال بك أيها الحمار الصديق، قل لنا بماذا نستطيع خدمتك!!! كي نُعيدك لديارك دون أن يلحظك أحد، تفضل…
عدّل الحمار من جلسته، أزاح مؤخرته معدلاً ظهره على ظهر الكنبة، لتساعده في مزيد من الراحة، وبدأ يقول:
ـ تعلمن “يا طويلات العمر” أن لكل منا طموح، ولدى ولدي “الحمار الكبير” طموح مشروع، طموح بأن يصير ملكاً على عشائر الحمير وقبائلها، فهو أول حمار يفكر بهذا الأمر وبهذه الشمولية، كما أنه ربما الحمار الوحيد الذي يعرف أن الأمر ليس ممكناً بغير السيف، ونعنقد أنكم يمكن أن تساعدونا بامتلاكه، ونحن وإن كنا لانملك الآن الكثير، لكنا نعدكم بأن تأخذوا كل ما تريدون إن أنتن ساعدتننا، وكما يقول المأثور الشعبي”خذوهم فقراء يغنيكم الله”، وأملنا بكم وبالله كبير، وأملنا بأن لا تُخيبن آمالنا، فخذننا و”بعون الله” لن تندمن أبداً.
فقالت “الأفعى الملكة” مؤكدة على كلام الحمار الأب، بين الهمز و بين الغمز، متلفتة إلى بقايا الأفاعي اللواتي كن يشعرن بالإهانة كونهن مجبرات ليجلسن ويستمعن إلى حمار، لكن للضرورة أحكام:
ـ أشاركك الرأي أن التفكير بطلب المسعادة هذا، ومن مملكتنا على وجه الدقة لا يمكن أن يصدر إلّا عن حمار ابن حمار يا طويل العمر، من حمارٍ أصيل، ونحن وبحمد الله و بجانب تقديرنا لك ولإبنك، فإننا نعدك بأن نكون عند حسن ظنكما…سندرس الأمر بمنتهى السرعة ونستشير حلفاءنا في الأمر، وسنرى ما يحب عمله وكيف سنعمله وسنبلغكم بالتفاصيل… أكمل كأس خمرك، وتوكل على الله وعد الى عشيرتك، قبل أن يلحظ تأخرك أحداً، واحرص شديد الحرص على أن لا تتفوه ولو بكلمة واحدة عن اجتماعنا هذا، وعليك تحضير حمير القبيلة للتدريب، وعليك أن تبدأ بحذوهم جميعاً، فأنتم معشر الحمير لستم أقل شأناً من الخيول، كما أن رفسات أرجلكم يجب أن تكون قاتلة
عاد الحمار الأب إلى موطنه، بدأ بحذو الحمير بالحذوات التي قدمتها له الملكة الأفعى وعاد بها محملة على ظهرة، كان يقوم بالأمر بسرية كاملة، قائلاً:” أنه وجد الحذوات ملقاة على قارعة الطريق، في قطعة أرض صحراوية لا ينبت فيها عشب أو بقول، وأنه لن يأخذ ثمناً لشيء وهبه الله لمعشر الحمير”، الأمر الذي حسّن صورته في عيون القبيلة، وبدأ يخلق من عائلته قيادة لها، وخلق نوعاً من الثقة بين عشيرته وقيادتها المتشكلة حديثاً ، وكي لا يظل يُنادى باسم الحمار الأب وابنه بالحمار الكبير، قرر بأن يتحول اسم العائلة كلها بإسم “آل حمار”.
وخلال حذوه للحمير من قبيلته، قرر الحمار الأب أن يبدأ بتهيئة الأجواء لبدء حربه على بقية العشائر الأخرى من عشائر الحمير وقبائلها، كما أنه بدأ باختيار “مشروع الجنود” في ذهنه، ليبدأ تدريباتهم في الوقت المناسب، وكما أوصته الملكة الأفعى، ابتدأ كل”آل حمار” بالتحريض على القبائل الأخرى، وخاصة قبائل الحمار الوحشي، وبنشر الأكاذب حولهم، واتهامهم بالإرتداد عن الدين وبالعودة إلى عبادة الأصنام، وفي مرات كثيرة بالإلحاد، وضرورة الوقوف في وجوههم كي لا يتعمم الفساد، ويسود الكفر والإلحاد والزندقة في المجتمع “الحميري” الكبير، ولاحقاً تم اتهام حمير القبائل الأخرى الذكور بالتحرش “بأتانات” “آل حمار”، ومرات بسبي نسائهم وخطف جحوشهم، فاتهم بعضهم بعضاً، وتخاصموا وتعاتبوا وتقاتلوا، الأمر الذي عمّق الهوّة بين عشائر الحمير وقبائلهم، وعمق الحاجة إلى قيادة شابة قادرة على الدفاع والحوض عن العشيرة بقيادة ” آل حمار”، وازداد حرق المحاصيل بين القبائل، وازداد تلويث المياه وتسميمها، وابتدأت الحروب بينها ما أدى لإضعافها من بعضها البعض، وبدأت عمليات الكره تزداد وتتعمق عمليات الثأر، وأخذ “آل حمار” يوزعون الشعير والبرسيم والتبن لعائلات الجنود المقترحين، كما أوصت الملكة الأفعى كلما أرسلت كمية من تلك الخيرات قائلة:”إطعم الفم تستحي العين”، فازداد إلتفاف العشيرة حول “آل حمار” أكثر، وأضحت هي القبادة الفعلية لعشيرتهم بدون جدال.
وبعد أن نضجت الأمور كما أرادت الأفعى الملكة “الداهية” كما سماها زعيم الكلاب، أخذت الأفعى الملكة جمعاً من الكلاب الضالة، الذين ابتدأوا بتدريب قبيلة “بني حمار”، تدريبهم على السيوف بشكل خاص، وكان التدريب يستمر من ساعات الفجر الأولى، ويستمر حتى ما بعد العشاء. مع عمليات التدريب، أعطت “الأفعى الملكة” الأمر بحفر الخنادق وبناء القواعد في ثنايا ما تبقى من مساحة الليل الدامس. لكن الأمر الذي رفضت الأفعى حتى نقاشه مع “آل حمار”، هو موضوع السلاح “الإستراتيجي” كما أسمتها، والتي تشمل الرماح والمنجنيق، كونها ستظل في أيدي قطيع الكلاب والأفاعي و بعض قبائل الضباع، “التي وعدتها “ملكة الأفاعي” بوطن لها مكان مملكة الخيول والتي لا تبعد كثيراً عن عشيرة “آل حمار”، متذرعة بأنها لا يمكن أن تتصور ماذا يمكن أن يحصل إن وقع هذا السلاح في أيدي غير موثوقة وخارجة عن السيطرة.
بدأت الحرب بقصف مكثف بالمنجنيق، وكانت العشائر مسالمة نائمة، ولم تتصور أن جهنم ستنزل عليها وعلى عائلاتها من السماء، وسرعان ما ابتدأت الرماح تخترق أجسادهم، وأمام هروبهم من الجحيم الذي لم يروا مثله حتى في أحلامهم، تابعتهم سيوف “آل حمار” من خلفهم ومن أمامهم، والتي قتلت كل شيء يتحرك. وأمام التقهقر الذي أصاب القبائل المستهدفة من “آل حمار”، فقد تايعت “ملكة الأفاعي” والكلاب الضالة بقصف معاقل عشائر الإبل والخيول والخراف والأبقار، وبعد أن جردوا قبائل الخيول من أسلحتها و”حذواتها” وقال البعض حتى من أسنانها، وأفلتوا عليها قطعان الكلاب الضالة وقطعان الضباع المتسلحة بكل أنواع السلاح حتى ما كان محرماً منه، وأخذوا يقتلون كل من رأوه سواء كان مجنداً أم مدنياً، فقتلوا الخيول شيباً وشباناً، وقتلوا الأمهار والأفراس، وبقروا بطون الحوامل منها، وكرروا الموت في الطرق والحقول ودور العبادة، وِطردوا معظم من لم تصلهم سيوفهم ورماحهم ومنجنيقهم، وزرعوا هناك قاعدة للضباع، متفقين معهم على حماية “آل حمار” وحماية مصالح الأفاعي والكلاب في المنطقة جميعها، مقابل أخذ حصتهم من عائدات المرابح جميعها.
بسط “آل حمار” سلطتهم الكاملة على منطقتهم والمناطق المجاورة، من عشائر الحمار الوحشي والإبل والأبقار والخراف، و بحماية من قاعدة الضباع التي زودتها مملكة الأفاعي بكل أنواع الأسلحة وبكل أشكال الضباغ وأنواعها وألوانها المجلوبة من كل بقاع العالم، ووقّعت مملكة الأفاعي مع مملكة “آل حمار” على تقديم الحماية لهم وإعطائهم الحق باستخراج المياه والمعادن من رمال المملكة، مقابل حمايتها، وكذلك مقابل تقديم الخبراء والمستشارين، على أن تأخذ مملكة”آل حمار” بعضاً من نتائج حصاد ما يتم استخراجه. كما أقرت المملكة وملكة الأفاعي، أن تشتري مملكة “آل حمار” شعيرها وتبنها من مملكة الأفاعي أو ممن تشير بهم اليه. وكون الحرب قد حطت أوزارها عمليا من وجهة نظر “آل حمار”، وبدأوا بالتوجه الى الإهتمام بشئونٍ أخرى، إلّا أن الملكة الأفعى غلّطت هذا الفهم، وقالت إن ما مضى هو أبسط الأمور، وأن القادم أعظم، وإن لم يتم التحضير للفترة القادمة، فقد تشهد المملكة إنقلابا ربما يعيد الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه، الأمر الذي جعل الحمار الأب وابنه الحمار الكبير، ترتعد فرائضهما، ويكادا يبولا على أذنابهما من جديد، لولا أن تدخلت الملكة الأفعى لتطمينهما، قائلة لهما:
ـ هيا لنتهيء لتمليك الحمار الكبير ونحتفل به مع أبناء” آل حمار” كلهم، ولنضع مهمات المرحلة القادمة، كي يظل الملك وعائلته والمملكة كلها في أمن وأمان.
وابتدأت الإحتفالات بتنصيب “الحمار الكبير” ملكاً على كامل أراضي المملكة ورمالها، وحضرن الأفاعي والكلاب الضالة والضباع، ودعون أصدقاءهن وحلفاءهن لمشاركتهن الفرحة، وسُكبت الخمور وشربوا الأنخاب، وذبحوا العجول والأبقار والخراف المسبية، وأحضروا الراقصات وأشعلوا النيران، ورقص “بنو حمار” كلهم، وهنأ الجحوش أخيهم الملك وتمنى الكثيرون منهم لو أنهم كانوا مكانه في هذا العرس الملكي المهيب، وغرس “آل حمار” سيوفهم في بطون من أسروه من قبائل الحمار الوحشي، وحرقوا بعضهم أحياءً إنتقاماً وكرهاً، وأكلت الحمير اللحم علّها تصبح حيوانات كاسرة، وبدأوا بنبش مقابر العشائر المعارضة ليتعلموا أن لا معارضة لنظام “آل حمار”، وليكونوا درساً لمن تُسوّل له نفسه بالتفكير للتصدي لهم أو لأي حمار من قبيلتهم. وانطلقت في السماء فحيح الأفاعي ونباح الكلاب وزمجرة الضباع ونهيق الحمير، معلنة عن فرحتها، واستمرت الأعراس أياما طوالا، فُرضت ضريبتها على العامة من قبائل الحمير كلها، وجيء بالقبائل لمبايعة الملك وتهنئته، وسجلوا أسماء القادمين ليستطيعوا تحديد المتخلفين ليسهل الإنتقام منهم لاحقاً، وهذا ما تم فعلاّ، ولم تُقبل أعذار المرضى أو العُجَّز ولا حتى مصابي الحروب الذين حاربوا مع “آل حمار” ومن أجلهم!!!.
ظلت قبيلة “آل حمار” تتغنّى بالعرس الملكي والذي تحول مع مرور الزمن الى عرس وطني، والذي وصلت أصداءه إلى كافة ممالك الحيوانات، ورويداً رويداً بدأوا ينسجون القصص عن الحمار الملك والحكايات، وأخذت تُنشر الصور للملك”الشجاع” وهو يحتضن سيفه، أو وهو يطعن الحمار الوحشي، وأخرى وهو “يرفس” حصاناً بحوافره ويرديه قتيلاً. وأخذوا يقولون الحكايات عن سرعة الملك الحمار التي تتفوق على سرعة الخيل مرّات ومرات، وجماله الطبيعي الذي يتفوق على جمال الغزال، ورسم البعض للحمار الملك النيوب الأحدّ من نيوب الليوث، وبعيون كحيلة كعيون أبقار الوحش، وزادت القصص عن ملك “آل حمار” وتزايدت، حتى أضحى الملك الحمار الحدث الأبرز الوحيد الذي لا تنتهي قصصه ولا تنتهي حكاياته.
قال ملك”آل حمار” “للأفعى الملكة”، في شكرٍ واضح وفي محاولةٍ لإظهار العرفان بما فعلته مملكتها له ولعائلته:
ـ ” من نظر إليَّ بعينٍ أنظر إليه بالإثنتين” “طال عمرك” “أطلبي تُعطين”!!!
فقالت الملكة الأفعى بوضح ما بعده وضوح:
ـ نحن أعطينا حتى الآن أيها الحمار الملك، ولم ننتهِ من العطاء بعد، فكما تعلم لن يستطيع حمار مهما علا شأنه، حتى لو كان ملكاً، أن يحافظ على هذا المُلك دوننا، لذلك حان الوقت لأن نأخذ لا أن نُعطى، أليس كذلك أيها الحمار!!!
وختمت حديثها بسؤال جرده من ملوكيته، فهم منه الحمار أن حياته ومماته وفقره وغناه هو في أيدي مملكة الأفاعي وحلفائها، وأنها قصدت إفهامه أن ما يحاول تصويره لقبائل الحمير وعشائرها، لا يمر عليهم خاصةً وأنها ومملكتها من صنعتاه، فقال في محاولة للإعتذار والخضوع:
ـ معكِ حق “طال عمرك”، وهذا ما قصدته… أنت تأخذين ولا تطلبين أو تُعطين، فالبلد تحت أمرك، والحمير وملكها تحت تصرفك…
طبطبت الأفعى الملكة على ظهر الحمار الملك بطرف ذيلها، مشجعة على الخضوع أكثر، وضغطت على طهره، فأخذ يركع رويداً رويداً، حتى لامس رأسه حذاء الأفعى، اقتربت بحذاءها قليلاً إلى فمه، فاحتضنه الحمار الملك بحافريه وانهال تقبيلاٌ به، وابتدأت دموع الخضوع والمهانة تنهال على صفحات وجهه الطويل، فقالت له الأفعى وهي ما تزال تضغط على رأسه ليزداد للحذاء تقبيلاً:
ـ لا عليك لا عليك، إننا حلفاء وأصدقاء أيضاً، وسنظل كذلك ما دمت ترغب بصداقتنا وتتمسك بنا حليفاً، فمن ناحيتنا نحن مخلصون لهذه الصداقة، رغم أنّ الكثيرين يعبون الأمر علينا قائلين”أنكم لا تستطيعون تعليم حماراً، فالحمير تُركب ظهورها فقط وتُقاد”، ونحن لم نركب ظهوركم أيها الحمار، لذا فالأمر يعتمد عليك فقط، على مدى تفهمك لمصالحنا المشتركة، فلا تهدم ما بنيناه سوياً…
ـ معاذ الله، فأنا لست سوى أحد أملاككم، وما عليكم سوى الأمر وما علي سوى الطاعة. قال الحمار الملك كلماته هذه، في الوقت الذي أخذت فيه الملكة الأفعى ترفع رأسه وشفتيه عن نعل حذاءها، وأخذت تطبطب من جديد على ظهره وتقول: ـ أستغفر الله العظيم … أستغفر الله العظيم… هيا ياصاحب الجلالة، أيها الحمار المبجل لنضع برنامج السنوات القادمة….
وابتدأت الملكة الأفعى تقرأ توصياتها لتسهل للحمار الملك حكم البلاد، لكنها طالما ما أعادت على مسامع ملك “آل حمار” ما كان يكرههه، وهو تكرار مناداته بالحمار لتذكره بنفسه:
ـ إبدأوا ياصاحب السعادة، أيها الحمار المبجل، بتأليه الملك، فلتُعلق صورك في كافة الشوارع والساحات، في البيوت ودور العبادة، ولتفرض الضرائب على أي حمار لا يعلق صورك في بيته، فأنت ملك البلاد وإن كنت حماراً، كلامك مسموع وطاعتك واجبة. ورمت أمامه صورة حمارٍ يقف على خلفيتيه مثل حصان جامح، رأسه في الأعلى وفي يده سيف ومن خلفه منجنيق، ومكتوب في أسفل الصورة:
“مليكنا زين الحمير زين الحمير مليكنا”
ـوعليكم باستمرار الحروب مع قبائل الحيوانات الأخرى، لتظل لكم خاضعة وتحسب لكم ألف حساب وحساب، وبين قبائل الحيوانات وعشائرها مع بعضها البعض، وسلحوا كل الأطراف لتظل ضعيفة وتظلوا الأقوياء، واربطوا الجميع بأموالكم ليظلوا بحاجتكم وتحت سطوتكم وسيطرتكم، وكي لا يخرجون عن طوعكم وأوامركم، واسبوا الجميع واقتلعوا مزروعاتهم وأشجارهم وسمموا مياههم، واستنكروا وتبرأوا من ذلك كله وكأن ليس لكم فيه يداً.
نظرت من جديد في الورقة التي بين يديها وتابعت شارحة، كون الحمار لن يساعده عقله على حفظ ما تقوله:
ـ وعليكم أيها الحمار والملك العزيز، أن تُطلقوا اللحى والسوالف وتحلقوا الشوارب، فللحمار الشَعور هيبة ورجولة، وعليكم بتعدد الآتانات، واترك الشعب يغرق بالتزاوج ويبتعد عن السياسة، وإياك بأن تعطي الأتانة حرية الحركة أو العمل أو التعليم أو التعبير، كون ذلك رجس من عمل الشيطان، واتركهن سجينات بيوت أزواجهن وأباءهن، فذلك يُحَيِّد عنك “شرور” نصف مجتمع الحمير، ويظل النصف الآخر الذي ستحكمه بحد السيف والمقاصل، فكما تعلم أيها الحمار الملك” العصا لمن عصا”، ولكنك تحتاج التجهيل بجانب السيف يا طويل العمر.
ـ التجهيل؟!!! كم كنت أود أن يتعلم الحمير أيتها الملكة العظيمة، لكن وما دمت لا تريدين…!!!
قال ملك “آل حمار” في لهجة أقرب إلى الرجاء والتمني، وسرعان ما تفاجأ من إجابة الملكة الأفعى التي قالت:
ـ ومن قال أننا لن تعلمهم؟، علّمهم طاغة الله وطاعة الملك، وأن طاعة الملك وإن كان حماراً لهي من طاعة الله، وأن أي خروج عن أقوال الملك أو أفعاله أو أوامره ما هي إلّا خروج عن طاعة الله، عاقبتها السف في الدنيا وجهنم وبئس المصير في الآخرة، علمهم فلسفة التجهيل أيها الحمار…..الملك… ولما نظرت الملكة الأفعى في عيني الحمار الملك، وجدتها جاحظة منطفئة شبه ميتة، فأدركت أن ملك “آل حمار” لم يفهم الكثير مما قالته، فقالت:
ـ أقصد أنك بحاجة بجانب السيف إلى العمامة، فالسيف للقتل ونشر الخوف والتخويف، والعمامة لفن التجهيل، لتحارب القبائل الأخرى باسم الله وباسم الملك، أي للربط بينك وبين الخالق، من معك فقد آمن ومن خالفك فقد كفر، من مات وهو يحارب باسمك ومن أجلك فقد مات شهيداً له جنات تجري من تحتها الأنهار، وله أنهار الخمور كما الجواري الحسان والغلمان، ومن مات وهو ليس كما أنت عليه فله جهنم وبئس المصير خالداً فيها إلى أبد الآبدين. وعليهم أن يشرحوا ويؤكدوا لكل معشر الحمير أينما حلوا أو ارتحلوا أو تواجدوا على احراق الكتب الجاحدة الكافرة، والكتب الكاذبة واللوحات التاريخية وهدم الأوثان وتحطيم الأصنام وتدمير المقابر وقطع الأشجار ذات العمر الطويل لأن ذلك يعارض أوامر الله ويخالف شرائعه، وتدمير كل ما لا يمكن نقله من بقايا البيوت المحملة بالتاريخ والمعابد الأثرية، ونقل ما يمكن حمله من “الأصنام” الأخرى التي يمكن حملها ونقلها، لحليفتنا الجديدة في المنطقة، “مملكة الضباع”، كي تساعدهم في بناء تاريخ لهم وتشكيل حضارة خاصة بهم، فليس من المعقول أن نتركهم وشأنهم ودون مساعدة منا بعد مساعداتهم لكم ولنا!!!
وسكتت الملكة الأفعى وكأنها تريد أخذ جرعة هواء لم يسغفها الوقت لأخذها في الوقت المناسب، وعادت لتنظر الى الحمار الملك والذي ما يزال غير قادر على فهم كل ما يدور حوله، ثم أكملت علّ بعض الوصايا تعلق في رأس هذا الحمار، أو تثير فيه فضول استعمال عقله:
ـ ولا ننسى ايها الحمار المبجل، أن على العمامة أن تُفلسف آلية لغزو الأفكار، وأن تعلم أن الفكرة كالسهم إن أصابت قتلت، أو كالمنجنيق اينما سقطت حرقت، لذا عليك أن تجعل ما يقوله الملك قانوناً يجب تطبيقه والإلتزام به، كما عليك أبها الحمار الملك أن لا تسمح بزراعة الأزهار لأنها تدعو للتفاؤل، ولا بزراعة الأشجار لأنها تبعدك عن ذكر الله، وأن لا تسمح بتجمع أكثر من حمارين اثنين، لأن التجمعات تدعو للفتنة، وعليكم شراء محطات وصحف ومذياعات لنشر أفكار أصحاب العمامة في كل مكان، وأوعز أيها الحمار الملك لبعض “بني حمار” أن تُقيم ذات الشيء للطبل والرقص والعنف وشرح دين الملوك، ونشر صور الملك وأحاديثه وكتبه ، وورعه وتقواه وإيمانه وصلاته وصيامه وقعوده وقيامه، وعفّته ورقته وخشوعه وقناعته، وهل أهم من الملك ليتحدث عنه العامة وإن كان حماراً أيها الملك المبجل، وعليك أن ….
وسكتت الملكة الأفعى على غير توقع، سكتت بعد أن أبقت عينيها معلقة في عيني الحمار، ملك “آل حمار” كلهم، اللتين ظلتا عينين مفتوحتين على أقصاهما، عينان ضبابيتان ميتتان ليس بهما حياة. رمت الأوراق التي من يدها على الطاولة أمام الحمار، قائلة في نفسها”فعلاً ليستا سوى عيني حمار”، وسرعان ما أمرته بتشكيل لجنة من أذكى حمير “بني حمار” ويأمرهم بتنفيذ ما في الأوراق بحذافيره تحت إشراف الأفعى “الأسود الخبيث”، وأمرته بتشكيل لجنة عسكرية من أكثر ضباط الحمير طاعة، وبإشراف الأفعى “الكوبرا”، التي قامت أول ما قامت بتجميع أفضل الضباط الذين تمرسوا في حروب”آل حمار” الطويلة، وخرجت بهم للتدريب كما أعلنت، وهناك سرعان ما أمرت حلفاءها الكلاب الضالة والضباع لتنقض عليهم وتمزقهم ولم تُبق منهم غير هياكلهم العظمية. وعادت إلى الحمار الملك لتُعْلِمه أن حيوانات مفترسة ضخمة، لم تر لها مثيلاً من قبل، انقضت عليهم أثناء التدريب وقتلت الضباط جميعاً، فرد الحمار ملك”آل حمار” فائلاً ودون تردد:
ـ فداك الضباط جميعاً طال عمرك، فدال كل الضباط….
وظلت الأفعى “الكوبرا” تقود جيوش المملكة وتدربهم بمباركة ملك الحمبر جميعاً. وأخذت تمر السنون واحدة بعد أخرى، وصارت الأفاعي والكلاب الضالة والضباع، تحفر جحوراً في مملكة “آل حمار”، وتبني البنايات وتزرع فيها أكواماً من الأسلحة، وبدأت تستخرج الماء من باطن الأرض، ويُقسم البعض أن مياهاً ذات لون أسود كانت تخرج من نفس تلك الأرض، وأخذت الأفاعي تأخذها وتبدلها بالشعير والتبن، وتبادلها بالمياه المستخرجة من الأرض ذاتها، وأنها كانت تستبدل وعاءً من الماء العادي مفابل اثنين من الماء الأسود، وأخذت مملكة الأفاعي تحمل الماء الأسود في سفن وسيارات شحن كبيره، ومددوا له الأنابيب الضخمة لتصلهم تلك المياه دون عناء، ومتأخراً بدأوا يعطون جزءً من ناتج بيع تلك المياه “للملك الحمار” و”لآل حمار”. ويؤكد الرواة أن الأمر ما يزالا معمولاً به حتى وقتنا هذا والله أعلم.
وأكمل الراوي حكايته قائلاً:
وقيل أن الملك الحمار، كان قد احتج يوماً على النسبة الهزيلة”كما وصفها” التي تعطيها له مملكة الأفاعي، مقابل الماء الأسود المنقول لديارها، إلى أحد أفراد العائلة الحمير من “آل حمار”، يعني من عائلة الملك الحمار نفسها، والذي نقل تفاصيل الحديث وأضاف عليه للملكة الأفعى، ما جعل ملكة الأفاعي تُعطي أوامرها للأفعى الكوبرا أن تضع له من سمها كمية قاتلة بين حبات الشعير التي يتحلى بها الملك الحمار كل مساء، قائلة:
ـ أقتلوا هذا الحمار وهاتوا حماراً آخراً لنعينه ملكاً، يبدوا أنه قد بدأ يستخدم عقله، وهذا يخالف إرادة الله هه هه هه هه
وضحكت الأملكة الأفعى كما لم تضحك من قبل.
وقامت بنفسها بأخذ العزاء من عامة الشعب، وذرفت الدموع، وشقت ملابسها، وبقيت بنفسها طيلة أيام الحداد بجانب آل حمار في مصيبتهم، ومشت في جنازة الحمار حتى واراه التراب، كما ظلت حتى بويع الحمار الجديد ملكاً، والذي لم يكن أحداً آخراً سوى أخو الحمار القتيل، الحمار الأكبر بين الأخوة الجحوش جميعا.
وفي الأثناء كبر بقية أخوة الملك الجحوش وصاروا حميراً كاملين مُكملين، وجاء الحمار الأب إلى “الأفعى الملكة” أثناء قيلولتها، سلم وجلس بالقرب من ذيلها، فنهضت بعد أن سمعت بحركات جسده الثقيلة، وسألت بعد أن رحبت به:
ـ أهلاً وسهلاً بالحمار ابن الحمار، ما الذي جاء بك بعد كل هذه السنين؟ والله اشتقت لك… ـ إشتاقت لك العافية أيتها “الملكة الأفعى” المبجلة، ووضع يده على حزام وسطها وأكمل، “يدي في حزامك” أيها الملكة…
فقالت الملكة الأفعى التي تعلّمت عادات مملكة الحمير وأهلها منذ زمن:
ـ “وَصَلْتَ ياطويل العمر” ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك؟
ـ أنا “طمعان” في جودك وكرمك… فكما تعلمين الجحوش كبرت، وتطمع في أن تُملكينها بعض الممالك، ولن ننسى فضلك هذا بإذن الله… وأنت تعرفيننا جيداً، وتعرفين حمارنا المرحوم جيداً…
قال الحمار الأب راجيا، حين قالت له الأفعى الملكة:
ـ يقولون أن “الطمع في الدين”، لكن يبدو أن عند معشر الحمير “الطمع في الحكم”، وأنت كما تعلم “غالي وطلبك رخيص”، سأولي أولادك الحمير على بعض الإمارات القريبة، فأنا كما أعرفك أعرف نفسي أيضاً…فكما تعلم “لعلنا لن نجد أفضل من الحمار ملكاً”
وهنا ثارت ثائرة المعارضين للراوي قائلين، أن الأفعى الملكة لم تقل ” لعلنا لن نجد أفضل من الحمار ملكاً”، بل قالت ” يظل الحمار حماراً حتى لو صار ملكاً”.
واختلفوا ولم يتفقوا وتجادلوا وتحاججوا، وشكلوا لجنة مشتركة للتدقيق في الأمر ومتابعته، وانفضضنا من حولهم وحول الراوي مُشتتين، حائرين، من نصدق ومن نُكذّب؟ أقوْل الراوي ب “لن تجد الأفعى أفضل من الحمار ملكاً” أم قول معارضيه بقولها ” الحمار حمار حتى لو صار ملكاً”….
محمد النجار