أم محمد تستقبل القنطار على باب الجنة

رسالتي هذه سيدي المناضل الشهيد سمير القنطار، هي رسالة فخر متواضعة، من إنسان بسيط، لم يقم بما قمت به فيي حياتك، ولم ينل درجة الشهادة العليا التي نلتها بمداد دمك، وكلماته ليست كلمات رثاء ممن قرأته من فحول شعراء العرب في حياتك، لكنها مجرد مشاعر خالجتني طويلاً، منذ اللحظات الأولى لاستشهادك، كوني أعرفك مثل الكثيرين ولكنك لا تعرفني، سمعت عنك الكثير مثل الكثيرين قبل أن تنفض غبار سجنك منتصراً محَرراً، عرفتك من خلال عيون أم فلسطينية، كانت تعرف كيف تربي أطفالها على التعلق بقريتهم المحتلة منذ عام ثمانية وأربعين، هدموها كما فعلوا بآلاف القرى الأخرى، ونتيجة هذه التربية “المتطرفة” من وجهة نظر من إحتلوها، أخذت تزورهم لاحقاً في سجون من سجنوك أيضاً، وكوني أحد أبنائها، أصارحك القول أنني لم أدرك هذا المعنى العميق للتشبث بقرية منسية مهدمة، إلا بعدأن أجبت المحقق في مرة من المرات بأنني من تلك القرية، ورأيت الدهشة الممزوجة بالحقد  من خلال صراخه عندما أخذت أوصف له القرى المجاورة لها من باب الشرح الذي سرعان ما تحول الى تحدي، ما أدى لزيادة غضبه وسأل سؤالاً استنكارياً ” ألم تنسها بعد؟!!!  وأمام غضبه أسهبت بالوصف رغم أنني لم أزر المنطقة كلها سوى مرة واحدة حتى ذلك التاريخ.

نعم، عرفتك أكثر من خلال تلك الأم التي كانت تنقل الحجارة لمنتفضي المخيم في طيات ثوبها الفلسطيني الذي طرزته بيدها، والتي كانت تنقل بيانات القيادة الموحدة للإنتفاضة في جيب “عبها” الذي خيطته خصيصا من أجل ذلك، عرفتك من خلال تلك المرأة التي طالما أنقذت الفتيان الفلسطينيين من أيدي الجنود المدججين بالسلاح والذين لم يُبقوا على مكان من جسدها خالياً من الرصاص المطاطي في مرات عدة، والتي كافأها أهل فلسطين بجنازة مهيبة لا تليق إلا بالأبطال، وتخيل وأنت تأخذ العزاء يأتيك معظم قادة الفصائل في المخيم ليقولون لك “أنكم لا تعرفون إلّا القليل عما كانت تفعله أمكم للثورة”…

جاءتك هذه الأم زائرة مع أمك “المتبنية”، أم المناضل جبر وشاح، وعرفتك هناك من خلف القضبان، وانتظرت زيارتي بفارغ الصبر، وكأنها تحمل لي بشارة عظيمة ، وهي كذلك، قالت “لقد نجحت في زيارة سمير القنطار… وسأفعل ذلك ما دامو يسمحون لي بذلك…” وتابعت الأمر وكذلك فعلت مع سجناء عرب آخرين، حتى منعوها من ذلك، قالت أنها زارتك وبكت، بكت كثيرا رأفة بذويك الممنوعين من زيارتك. تلك الأم سيدي المناضل الشهيد توفيت على فراشها وليست في ساحة الوغى، رغم أنها كانت على بعد مسافة أقل من رصاصة، وخاصة من أحد الجنود الذي رمته في مجاري المخيم بعد أن خلصت أحد الفتيان الفلسطينيين من بين يديه، فأمطرها  وبقية زملائه بما يزيد عن ثلاثين رصاصة مطاطية دفعة واحدة.

تلك الأم ستجدها واقفة مع الشهداء منتظرة وصولك على باب الجنة، وستزفك هناك بالزغاريد، وأنت ستعرفها بالتأكيد، وستحاول أن تقص عليك حكايتها الفلسطينية، كيف هجروها وعائلتها، كيف قتلوا كلبها الصغير الذي عاد زاحفاً ليموت بين يديها ولتزرعه تحت شجرة صبار معانقاً لجذورها، وستخبرك عنا، عن أولادها وسجنهم، وعن ابنها آخر العنقود المصاب، والذي سخّروا جرحه لتعذيبه ليعترف، لكنه هزمهم، وربما ستخبرك عن ابنها البكر الذي انتزعوه من صدرها باكياً بحكم قانون العشيرة المتخلف الظالم….فحاول ان تستمع لها ولن تمل، وستعرف الحكاية الفلسطينية كما تعرفها الآن وربما بمزيد من التفاصيل.

سيدي المناضل الشهيد، لقد أيقنا باكراً أنهم كلهم وجها واحداً لنفس العملة، فالقاتل والمحرض والداعم بالسلاح والمال وقافل القنوات وقامع الرأي الآخر كلهم عاملون عند السيد الأمريكي، وكلهم بعد اغتيالك تجمعوا محتفلين  يشربون الخمر وبول البعير. وهؤلاء لا يعرفون ماذا تعني الشهادة التي تأتي لا خوفا ولا طمعا، بل شهامة ونُصرة وعزة وكرامة أولا وقبل أي شيء، ولا يدركون أن النصر لن يكون يوماً للقتلة ولا للمتآمرين وحثالات الأرض، الممولين من ملوك الغاز والرمل والنفط في مملكة آل سعود، وأن النصر لا يليق إلا بالمناضلين، لهم فقط وبهم.

سيدي المناضل الشهيد، لا أخفيك أنه لم يفاجئني موقف قادة الإخوان المسلمين، ومعظم كادراتهم، بما فيهم الجانب الفلسطيني، مستثنياً منهم جانبهم القسامي، لأنهم بكل بساطة هم صانعوا تلك الحثالات عند كل القوى الإرهابية، التي لم تقف يوماً الى جانب القوى الشعبية المناضلة، بل بجانب الثورة المضادة أينما وجدت، فكانوا مع الملك فاروق، وما أن ابتدأت المجازر لتهجير شعب فلسطين، حتى أعلنوا الجهاد في محاولة لتطويق مطالب  شعب مصر للقتال في فبسطين، رأوا الشعب ينتفض في مصر العظيمة ويطالب بالذهاب للقتال في فلسطين، ففتحوا مع حليفهم الملك فاروق باب التسجيل لهم ، فسجل للنضال في فلسطين مليون مواطن مصري، لم يرسلوا فرداً واحداً منهم إلى فلسطين، تخيل ولا فرداً واحداً!!! مجرد تنفيس باسم الدين للمد الثوري، ثم وقفوا ضد عبد الناصر المعادي للرجعية والإستعمار، وضد السلال واغتالوا القيادات التي حاربت الإستعمار الفرنسي في الجزائر تحت شعار الشيوعية والعلمانية كما فعلوا مع المناضل شكري بلعيد وغيره مؤخرا في تونس، وحاربوا بو مدين في الجزائر بعد انتصار الثورة، ووقفوا مع آل سعود وحلف بغداد الإستعماري، وضد كل القوى المناهضة للإمبريالية والرجعية، وهاهم بعد أكثر من ربع قرن على طرد الروس من أفغانستان، والتي كان فيها التصنيع والزراعة وتحرر المرأة في مستوى لم تشهده افغانستان في تاريخها الحديث، حولوها باسم الإسلام الى أكبر بلد متخلف  ومتردم وليس به بنية تحتية ولا صناعة ولا زراعة، وأصبح أكبر بلد منتج للأفيون في العالم، ونسبة الأمية تفوق ال80%، وأودعوه تحت البسطار الأمريكي بعد أن دفعت شعوبنا الدم هناك، وتزايدت نسبة المرضى والأمراض فيه وأصبح مثالاً للبلد الفاشل. وحكموا السودان فقسموه وصحروه ونشروا الفساد والإفساد وكمموا الأفواه، وزادت البطالة والتضخم وأصبح السودان منتجاً للمرتزقة عند آل سعود في اليمن، وبدلا من أن يوجهوا البنادق نحو محتل بيت المقدس يخاطب بعضهم رئيس دولة الكيان ب”صديقي العزيز” ويمتدحه كما لم يفعل المتنبي بسيف الدولة، وانظر ماذا فعلوا بسوريا وليبيا والعراق، كيف دمروا وما زالوا بناها التحتية وشردوا ملايينها وقتلوا وجرحوا ملايين أخرى، وسرقوا متاحفها وتراثها ونفطها، وماذا يحاولون أن يفعلوا بجيش مصر، وماذا فعلوا بالجزائر في تسعينات القرن الماضي قبل ذلك كله، وماذا يفعلون باليمن الآن؟ وكل ذلك لخدمة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، وانظر كيف استجلبوا الإرهابيين من كل بقاع الأرض، ورغم التدمير الذي سيدخل عامه السادس بعد قليل، إلا أن رصاصة واحدة لم تُطلق على الكيان الغاصب ولو بالخطأ، بل إن الكيان من يهاجم معهم ويعالج جرحاهم. كما أنهم من يحاول تسليم شمال سوريا الى العثمانيين الجدد الذين ما زالوا يغتصبون لواء الإسكندرون. أولئك سيدي هم تجار الدين، والتي تُعتبر التجارة الأكثر ربحاً كما قال ابن رشد، في مجتمع عربي تفوق نسبة الأمية فيه أكثر قليلاً من 70%، رغم كل أموال آل سعود المركونة في بنوك الأمريكي، بل المطلوب تجهيل المجتمعات لتحويلها الى قطيع من البهائم، لتسهل قيادتها وتفكيك المجتمعات بها ومن خلالها، لذلك فهم يغلفون بضاعتهم الفاسدة بغلاف ديني ليسهل تسويقها. أتعتقد أن الذي يغير أسم مدرسة من اسم قامة شهيد بحجم وهالة وشموخ المناضل الشهيد غسان كنفاني الى إسم أبو حذيفة كثير عليه أن يشمت باستشهادك ويحاول محو تاريخك الوطني المشرف؟!  أم أن السلطة التي لا تجرؤ على المطالبة بجثامين شهداء شعبها وتقمعه وتعتقله وتنسق أمنياً مع المحتل في وهج انتفاضته ستجرؤ على استنكار اغتيالك؟ هؤلاء جميعهم مع أسيادهم ومموليهم وداعميهم ومنظريهم، مهما كبروا وغنيوا وطالت واستطالت قاماتهم ، فإنهم لن يصلوا يوماً الى سقف نعل حذائك الذي اتسخ من رمل الطريق التي قادتك الى نهاريا.

طوبى لك سيدي المناضل الشهيد، طوبى لك مناضلاً عروبياً، فارساً متنقلاً من لبنان إلى فلسطين إلى لبنان مجددا إلى سوريا لتستشهد هناك، طوبى لك وأنت تصعد نحو السماء، طوبى لك وأنت تُزف من رفاقك الشهداء الذين سبقوك إلى هناك، من المناضلين الذين قضوا برصاصات الأعداء الجبانة أو غيرها، ستجدهم واقفين مستقبلينك بكل الفخر والعزة والإكبار، وسط الأهازيج والمواويل الشعبية، وزغاريد الأمهات. أم تعتقد أن من كان له أمهات عديدات على الأرض لن يكون له أضعافهن في السماء؟!!!

محمد النجار

الجنازة حامية والميت كلب

جلس مقابلي تماماً، أو بالأصح القول أنني أنا من جلست في مقابلة، كعادتي دائماً عندما نلتقي في مناسبات متباعدة، كي يسهل عليّ إستفزازه بأسئلتي وتعليقاتي، ولعلي لا أعرف السبب لذلك تماماً، ورغم كوننا على طرفي نقيض سياساً، لكنه ليس السبب في موقفي هذا، ولا أدري بالضبط لماذا، رغم كوني أعتقد أن للأمر جذور قديمة تمتد إلى الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، الأمر الذي لا أبوح به لأحد سوى نفسي، وبشكل خجول أيضاً، ربما كون الأمر طالما جعلني أبدو صغيراً أمامه، فأرفع الصوت كي أغطي على ما تم آنذاك، رغم أنه ومنذ ذلك اليوم الذي مر عليه ما يقرب من ثلاثة عقود، إلّا أنه لم يراجعني به يوماً، ولم أسمع منه همس أو ثرثر به لأي كان، ورغم ذلك فأنا ما زلت أحاول استفزازه في محاولة غبية ـ ربما ـ للتغطية على ما تم.

كان قد مر على الإنتفاضة الأولى أحد عشر شهراً عندما صدر بياننا الأول لتأسيس حركتنا الإسلامية السياسية، وكان  يجب حينها فرض برامجنا ورؤيتنا بأي ثمن، في غزة وفي مدن الضفة الفلسطينية، التي كانت لفصائل منظمة التحرير فيها اليد الطولى، ولليسار جذوره العريقة الممتدة عميقاً في صخور الأرض وأتربتها، وكانت التعليمات لنا واضحة بأن نفرض الحجاب على الفتيات والنساء في المدن والأرياف والمخيمات، ورغم عدم فهمي للعلاقة بين الإنتفاضة والحجابـ، إلّا أنني أخضع داخل الحركة لقانون “نفّذ ولا تناقش”، فكان يجب التنفيذ بالنسبة لي في مدينة رام الله حيث ننتمي إلى قضائها، فكان علينا البدء بالمساجد، بتحريض الأزواج والأخوة للحفاظ على “شرفهم”من خلال تحجيب زوجاتهم وأخواتهم وبناتهم، وبالندوات في النوادي وأينما كان ممكناً، وإن استعصى الأمر علينا، فيجب منعهن بالقوة وإجبارهن على ذلك. على قاعدة “من رأى منكم منكراً فليغيره….. بيده”، على أن لا يرانا أحد، والتنفيذ الذي يطبق حدود الله وشريعته على الأرض، يفرض حضورنا ووجودنا على الساحة الفلسطينية، وسلمونا بعض النقود لنشتري البيض والطماطم .

وفعلاً بدأنا بفرض “شريعة الله” على النساء حاسرات الرؤوس، واللواتي تمتلئ بهن المدينة. وكنت ضمن الأشخاص الذين يطبقون شريعة الله، حيث أخذنا نتوجه يومياً إلى مركز المدينة ، نختبئ بين البحر البشري الذي يغطي مركز المدينة، خاصة في ساعات ما قبل الإغلاق اليومي للمحلات التجارية، حيث يبدأ الإضراب التجاري في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً ويستمر حتى صباح اليوم التالي، وكنا نبدأ بقذف البيض والطماطم على رؤوس النساء الحاسرة، ونختفي كأن ليس لنا بالأمر علاقة، وكن الكثير من النساء والفتيات المنتشرات هن من نشيطات الفصائل الفلسطينية، خرجن لفعاليات أو نشاطات إنتفاضية مختلفة، ونحن كشباب كنا حينها لا نفرق بين نشيطة أو غير نشيطة، بالنسبة لنا كل حاسرة يجب “رجمها” بالبيض الفاسد والطماطم، وبقينا نكرر الأمر بشكل يومي ونمضي، ولم نكن نعرف الكثير عن مدينة رام الله سوى أنها مثلهن جميعاً، تستحق الرجم، فهذه المدينة المُستفزَّة، العاشقة، المتكبرة ، المختالة، التي تزداد جمالً وشباباً وورود، كلما ازدادت كبرا وتعمقاً في دهاليز الزمن وعمق التاريخ، تلك المدينة الساحرة الفاسقة الحاسرة المرتدة، كنا نشعر أن المدينة نفسها تتربص بنا وليس الناس فقط.

ومرت أيام وأيام، ولم نكن نعلم أن الآخرين بدأوا هم أيضا في البحث عمّن يقومون بهذا الأمر، وعيون شبابهم تبحث في كل اتجاه، وبعضهم كان يتخفى في زي الباعة في المحلات والعربات، وما هي إلّا لحظات وكان العديد منا تحت قبضاتهم، وانهالوا علينا بالضرب المبرح، وأخذوا بعضنا ليحققوا معهم، من الذي دفعهم ليفعلوا ذلك، ودور الإحتلال في هذا الأمر، وكان لعناصر اليسار الفلسطيني، الدور الأكبر في هذا الأمر كله.

ولا أدري لحسن حظي أم لسوئه، وقعت أنا بين يديه، فأمسكني من أذني رغم أنه من جيلي، وكان زميلي قبل سنوات في المدرسة والفصل، شدني بقوة، حتى صارت أذني بجانب فمه، وقال هامساً” ما الذي تفعله؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟ كبف استطعت أن تفعل ذلك؟”، وقال وما زال يمسك أذني، ولف رأسي من خلال قبضه على أذني ليُريني إمراة ما زال يسيل البيض الفاسد من شعرها الأجعد على وجهها وملابسها، وتبكي غيظا بصمت متفجر خانق، تحاول مسح البيض الفاسد ذو الرائحة القاتلة فتزداد اتساخاً،وعاد ليسألني” أكنت ترضى هذا لأمك أو لأختك؟”، أتعرف أن الناس أصبحوا يظنون أنهن مرتبطات مع الإحتلال ولذلك يُضربن بالبيض والطماطم؟!!!  أليس لديك ضمير لتخافه إن كنت لا تخاف الله؟!!!

وفي تلك اللحظة بالذات جاء ثلاثة من الشباب نحونا سائلينه:

ـ “أهذا من هؤلاء السفلة؟”

كان شرراً يتناثر من عيونهم، ولا أدري متى تراخت أصابعه من القبض على أذني، وقال على غير توقعي:

ـ ” لا… إنه إبن قريتي، لا ليس منهم”

وكان من الواضح أنهم يعرفونه ويحترمونه ويثقون به، ورغم نظرات الإرتياب التي تركوها تسيل كالمخاط فوق وجهي، فقد تركونا وانصرفوا، وأخذني هو إلى محطة الباصات وقال:                 ـ ” أرجوا أن لا أراك هنا أبداً، إلى القرية فوراً”.

وانصرفت، وصرت أتحاشى أن تلتقي عيوننا، وبعد مرور الزمن صرنا نلتقي في المناسبات المتعددة المختلفة، فنحن أبناء قرية واحدة، ولا بد من أن نلتقي في أي مناسبة… وصرت أهرب للأمام كما يقول جماعته اليساريون، فأحاول التعليق عليه، استفزازه بأسئلتي المختلفة، وكأنني أريد أن أغطي على ذاك الحدث، رغم أنه لم يحاول ولا حتى مرة واحدة أن يعيد ذلك التاريخ ويفرده أمامي ليذكرني بتفاهتي تلك.

أنهينا “مهمتنا”، حيث طلبنا “سميرة”إبنة أبي زكي إلى عاهد ابن أبي محمد، وشربنا قهوتنا، على وقع كلمات أبو زكي:

ـ ” اشربوا قهوتكم يا  جماعة، الله يجيب اللي فيه الخير، الأمر يشرفنا أيضاً، ولن نجد لإبنتنا بأخلاق إبنكم الكريمة، لكننا لا بد أن نأخذ رأي البنت فالأمر يخصها أولاً وأخيراً”.

وجلسنا نتحدث ونتسامر، ووجدت نفسي قبل ذلك أحاول الدفاع عن بعض أفعالي، أمام إستهزاء الكهول قبل الشباب، فقال أبو زكي بين الجد والمزاح:

ـ أرجوك يا أبا مصطفى، لا تبدأ بقراءة “عبس وتولى” كما فعلت في عرس علي قبل أسابيع، فالله خلق الأعراس للفرح، فالعرس ليس ميتماً لتقرأ لنا به القرآن…دعنا نفرح قليلا وسط هذا الزحام من الألم والدم

وقال  الحاج أبو خليل من بعيد ضاحكاً:

ـ “عبس وتولى” يارجل؟ ألم تجد في القرآن كله غير “عبس وتولى”؟ ألا تخاف ربك؟  ثم من أين هذه”الموضة” الجديدة؟ قرآن في الأفراح؟!!!

وسكتنا، ووجدته قبالتي يبتسم، واستفزتني ابتسامته أكثر من ضحكاتهم وقهقهاتهم جميعاً، ووجدتني أقول في طريقة أقرب إلى الإستعراض منها إلى الحديث، وكأن “السعوديين من بقية أهلي”:

ـ لقد فعلتها المملكة… ياسلام!… انتخابات بلدية وتنتخب وتترشح المرأة!!!

لكن الذي أجابني وفاجأني لم يكن سوى الحاج أبو أحمد وليس “غريمي”خالد، فقال:

ـ لا حظ أنك لا تتحدث سوى عن إنتخاب بلدية وليس عن انتخاب حكومة ولا برلمان!!! وأعتقد أن ما يجب أن يثير إستغرابنا، لا كيف شاركت المرأة في انتخابات بلدية لأول مرة في تاريخ المملكة، بل كيف يُحرم الرجال من الترشح أو الإنتخاب في هذا العصر، وفي مجتمع ذكوري كمجتمع المملكة؟!!!

فقلت في محاولة الإلتفاف على نفسي:

ـ إنها البداية… وربما شرُعوا الإنتخابات في قادم السنوات…

فقال الأستاذ حسن، مدرس اللغة العربية في مدرسة القرية:

ـ عشمك بهم مثل”عشم ابليس في الجنة”

رأيت نفسي في مواجهة تتزايد مع معظم الحاضرين، فقلت في محاولة لتعديل الأمر:

ـ يا جماعة إنهم يقودون المعارضة السورية كلها، ألم تسمعوا الجبير كيف يقول بكل الثقة أن الرئيس السوري سيغادر بالسياسة أو بالحرب؟!!!

فقال الأستاذ حسن نفسه شعراً هذه المرة:

ـ زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً            أبشر بطول سلامة يا مربعُ

حين قال أبو عمر من طرف الصالون:

ـ والله يا أخي جماعتك حيرتنا، مرة لا علاقة لكم بما يحدث في سوريا، ومرات تصطفون مع من يحارب سوريا، لا تريدون أن تدخلوا أي “محور”، وتكونون في كل المحاور، من أول “حارة” الشيخة موزة و لمملكة آل سعود وللأتراك!!! أنتم مع من بالضبط؟

ابتدأ المجتمعون بالتهامس حين قال زكي، أخو العروسة ما بين المزاح والجدية:                   ـ مع من يدفع أكثر ، وهل هذه تحتاج الى كثير من الذكاء!!!

فقلت من بين ضحكات الجميع التي لم تؤثر بي جميعها قدر ابتساماته الشامتة، رغم أنه لم بقل أي كلمة حتى هذ اللحظة:

ـ أقصد يا جماعة أن المملكة أصبحت تشكل محوراً أساسياً في المنطقة، ألم ترو محورها ضد الإرهاب؟ أربع وثلاثون دولة والحبل على الجرار….

الغريب في الأمر أن الناس كانت تنتظر أقواله هو، رغم كونه لم يُنهِ سوى الصف العاشر فقط، حيث ترك المدرسة والتحق بصفوف العمال ليعيل أسرته بعد حادثة موت أبيه، أكثر من أقوالي أنا الذي أنهيت “البكالوريوس” في علوم الشريعة والفقه، وكأنه لا ينطق عن الهوى، أو كأن أقواله منزلة من السماء، وظل هو على صمته، عندما قال الشاب النابه عزمي:

ـ وبأي جيشٍ سيحارب آل سعود الإرهاب؟ بجيش “البلاك ووتر”أم بالجيش السوداني أم السنغالي؟ ظني أنهم سيحاربون بجيش ملك آل سعود وولده، ذلك الجيش الذي أثبت في حربه على الشعب اليمني، وبكل جدارة “أنهم في الهريبة كالغزال”، فتحولت “عاصفة الحزم” إلى وبال على آل سعود وجيشهم ومرتزقتهم.                                                    وقال الطفل حازم ابن أبو عدنان الذي حضر ضمن الوفد برفقة أبيه:

ـ بابا …بابا، رئيسنا والسلطه يريدون محاربة الإرهاب معهم…

كانت الحاجة”مرثة” قد أخذت لها مكاناً مع الحاجة وطفة، في صدر الغرفة، جلسن بجانبه وكأنهن يردن الدفاع عنه من عدو محتمل، وبعد أن أشعلت الحاجة مرثة سيجارتها كالعادة، ونفثت دخانها في صدر الغرفة دون أن تبتلع شيئاً منه، قالت بكلماتها السليطة متوجهة بالحديث إليّ، عندما رأت ضحكاتي تتعالى على كلمات الصبي:

ـ وعلى ماذا “تتصهون” وفاتح فمك الذي يتسع لدجاجة بريشها، وهل أنتم أحسن؟ الرئيس وافق وأنتم لم تعترضون!!! خائفون على أن تحرموا من المال؟، متى ستتعلمون أن هؤلاء ـ وأشارت بيدها وكأنها تريني الملك وحاشيته ـ يؤمنون بأن “مَنْ دِيَّتَه مالاً أقتله”، وسوف يقتلونكم في الوقت المناسب كما قتلوا السلطة التي تستهزء بها ولست بأفضل منها.

وسرعان ما أنقذتني الحاجة وطفة من لسانها عندما قالت متحدثة عن السلطة ورئيسها:

ـ وجماعتنا لا يجدون ما يشغلهم؟! ها هو الإرهاب عندنا لماذا لا يحاربونه؟ بل إنهم يقولون عن صواريخ المقاومة… ما هذه الكلمة يابني ياخالد، فقال لها مجيباً:

ـ عبثية ياحاجة، صواريخ عبثية….

لكن الحاجة وطفة لم تعرف كيف تقول الكلمة، فقالت:

ـ آه يابني… الكلمة التي قلتها أنت

فقال أبو زكي متهكماً:

ـ ياعمي رئيسنا رجل مُطيع، مجرد “تلفون” من الأمير وأعطى الموافقة

فقال أبو خليل بعد أن أكمل لف سيجارة الهيشي وأشعلها وسحب أول سحبة منها مع جرعة من كأس شايه، وعلى دون توقع بعد أن أقسم كعادته:

ـ لا والله لم “يُحصِّل” الرئيس حتى المكالمة، بل هزة من “خنصر” الأمير، ياعمي متى يفهم هؤلاء، أنك “إن كنت رخيصاً لن تجد من يشتريك بالغالي”

فردّ عليه أبو هاني متهكما :

ـ لا ياأبا خليل، والله أنا لمّا سمعت بتشكيلهم حلفاً إسلامياً ضد الإرهاب “إرتحت واطمأن قلبي”، وقلت في نفسي “لقد تذكروا الآن وبعد ما يقرب من سبعين عاماً أن لدينا بلداً تفود الإرهاب في العالم، ربما تذكروها بعد أن رأوا على شاشات التلفاز كيف يترك هذا الكيان شبابنا ينزف حتى الموت، مانعين عنهم سيارات الإسعاف، في الوقت الذي يسارعون فيه لإسعاف مقاتلي داعش والنصرة في مشافيهم!!!

فقال زكي مجدداً مصححاً ما قاله أبو هاني:

ـ لا يا أبا هاني إنهم لم يتذكروا بعد، كما أنه ممنوع عليهم التذكر، لقد فقدوا الذاكرة بما يخص قضيتنا، أو بالأصح ربما كنا نحن الإرهابيين الذين يجب محاربتهم!!!

فقال زكي متهكماً مجدداً:

ـ طبعاً وهل هناك إرهابيون غيرنا وغير المقاومة اللبنانية؟!!!

وأكثر ما غاظني أن الجميع سكتوا وأخذوا ينصتون عندما بدأ الحديث، وكأنهم لا يريدون أن تفوتهم كلمة من كلماته، وأخذ مقود الحديث في فمه، وقال:

ـ إن آل سعود هؤلاء “لا ينطقون عن الهوى”، بل عن سيدهم الأمريكي ، لا يخرجون عن طوعه، ولا يخلفون رأياً إلّا بتوجيهاته، فمن يريد محاربة الإرهاب يوقف الدعوة لللإرهاب أولاً، فمحمد بن عبد الوهاب وفكره التفكيري هو حليفهم، وأفكاره ما تزال تُروَّّج عندهم وبتوجيهاتهم، نعم من آل سعود أنفسهم، والمملكة هي الحاضنة والداعية والناشرة لهذه الأفكار، والأمر كما تعلمون ليس له علاقة بالمذاهب والطوائف والأديان، فبالأمس القريب كانت تتحالف مع شاه إيران لتسويق “حلف بغداد” الإستعماري ولضرب ثورة عبد الناصر، وظلت بنفس الحلف لضرب قوى الثورة العربية في العالم العربي والخليج، واليوم مع الإستعمار لضرب إيران التي تدعم قوى الثورة !! هل كانت إيران بالأمس سنية واليوم أصبحت شيعية؟!!! أم أن هذا الشعار للضحك على “لحانا”؟، بل كي نبدأ حرب أمريكا بأيدينا نحن وبدماء أبنائنا كما يتم في سوريا والعراق، ولو كان ما يقولونه صحيحاً، ماذا عن ليبيا ومصر وتونس وقبل الجميع الجزائر؟ أين الشيعة في تلك البلدان؟ لماذا دمروا ليبيا إذن ويريدون تدمير مصر؟  وما داموا حريصون على مقاومة الإرهاب، لماذا تركوا القاعدة وداعش تتمدد في حضرموت وعدن ومدن الجنوب اليمني؟ يعني في المكان الذي هم موجودون فيه، ولم يُطلق عليهم آل سعود ولا طلقة واحدة!!! كي لا أقول أنهم هم آل سعود وحارة الشيخة موزة والعثمانيون الجدد من نقلهم بطائراتهم إلى اليمن بقرار أمريكي، أم أن دولة في حلف الناتو تقوم بمبادرات عسكرية دون اسشارة قيادة حلفها؟ فما بالكم بدول تابعة لم ترقَ إلى مستوى أن تكون في حلف تقوده أمريكا؟ فحجارة الشطرنج تُحَرَّك ولا تُسْتشار.

سكت قليلاً وارتشف شيئاً من كاسة شايه، وسط صمت الجميع واستماعهم، وأكمل من جديد:

ـ لقد قرأت عن مواطن من بلاد الحجاز، إسمه”رائف بدوي”، حائز على جائزة “سخاروف لحرية الفكر”، نفس الأمر الذي حاز جائزته عليه،حاكمه آل سعود بعشر سنوات من السجن وألف جلدة في، هؤلاء الذين يبشروننا “بديمقراطيتهم” في سوريا واليمن والعراق، تخيلوا أناساً يتم جلدهم بأهازيج دينية وعلى مرأى من الجميع وخمسين جلدة عند كل صلاة جمعة؟!!!، وفي القرن الواحد والعشرين!!!، كما حكموا على الشاعر الفلسطيني بالإعدام على كتاب شعر نشره!!! كما الإعدام على الفتيان وعلى الشيوخ لأن لديهم أفكاراً وآراءاً أخرى غير ما لدى آل سعود!!! الأمرالذي يدلل على أن من يحارب الكلمة أو الفكرة أو الرأي الآخر، ويستخف بهذا الشكل بحيوات الناس كما يفعل ضد شعبه أم في اليمن أو سوريا، لا يمكن أن يكون مؤهلاً لمحاربة الإرهاب.

فقالت الحاجة مرثة بصوت عال:

ـ صدقت والله يابني، سلم الله فمك…

وقال أبو خليل وسيجارة “الهيشي” معلقة بين شفتيه:

ـ ليس سوى تحالفاً زائفاً، كله “ظراط ع البلاط” بلا مؤاخذة

فقال أبو زكي سائلاً:

ـ إذن لماذا كل القصص والأخبار عن تحالف آل سعود هذا؟ لم تظل مجلة أو جريدة أو راديو ولا محطة تلفاز “لا تُطبل أو تزمر” لهذا التحالف؟

فقال أبو خليل مجيباً:

ـ يبدو أن “الجنازة حامية والميت كلب” يا أبا زكي

فأكدت الحاجة وطفة من مكانها ضاحكة، فاتحة فاها مظهرة فماً تساقطت معظم أسنانه منذ زمن بعيد قائلة:

ـ صدقت يا أبا خليل، فعلاً” الجنازة حامية والميت كلب”، سلم الله فمك.

وكما هي العادة، خرج منتصراً هذه المرة أيضاً، لكنه على غير عادته، وضع يده على كتفي حين غادرنا منزل أبا زكي، وقال:

ـ هؤلاء الحثالات دمروا البشر والحجر ، ارتكبوا المجازر بحق فقراء اليمن وحضارتهم، قصفوا المدارس والمشافي والمدارس والزرع والضرع، قتلّوا ويتّموا ودمّروا، ورغم ترسانتهم العسكرية  وتحالفهم غير المقدس مع أمريكا وإسرائيل، إلّا أنهم هُزموا من حُفاة اليمن، لأن الشعب اليمني شعب  يدافع عن كرامته وعزته أمام حكام ومرتزقة وبلدان تفتقد للعزة والكرامة.

وامام سكوتي وعدم تعليقي على الأمر، قال منتقلاً بعيداً في الماضي السحيق:

ـ قاتل الله السياسة، أتعلم أنني أحن كثيراً الى سنوات الدراسة، حين كنا نتزاحم على المقعد الأول في الفصل!!! كأن الأمر قد تم بالأمس القريب….

ومشينا … مشينا بين الحقول… بين أشجار الزيتون… ومن طرف السماء البعيد انطلقت بضع شعاعات برق أضاءت لنا الطريق، وابتدأت حبات المطر تتساقط على رؤوسنا وعلى كل الأشياء، وكما كنا نفعل عندما كنا صغاراً، توجهنا إلى شجرة تين عملاقة، واقفة على طرف الطريق لنستظل ببقايا ما ظلت تحمله من أوراق، مختبئين من حبات المطر، ورغم كوننا وحدنا لم يذكر شيئاً عن تلك الحادثة أبداً….

محمد النجار

ماذا تبقّى من منظمة التحرير؟!!!

لعله من نافل القول أن إنطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لهي من أهم الأحداث الهامة في تاريخ الثورة الوطنية المعاصرة، لما أضافته للثورة الفلسطينية من إضافة فكرية وتقافية ونضالية ونوعية أيضاً، فمنذ إنطلاق الثورة الفلسطينية كانت الجبهة هي الرقم الثاني بعد حركة التحرير الوطني الفلسطيني”فتح”، على الصعد كافة، الجماهيرية منها والنضالية في الخارج وفي الوطن المحتل وفي كامل التواجد الفلسطيني، هذا عدا عن دورها المميز على صعيد علاقاتها مع حركة التحرر الوطني العربية وكذلك علاقاتها النوعية مع حركات التحرر العالمية، “لكن لهذا وذاك بحث آخر أوسع من هذه العجالة بكثير”.

أما ما ميز الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن كامل فصائل العمل الوطني الفلسطيني، أنها:

  • أول من أرست الإستراتيجيةالسياسية التي ربطت بين التكتيكي والإستراتيجي، ووضعت الأول في خدمة الثاني، ببرنامج عمل مبني على تبني النظرية العلمية.

  • الحرص الكبير على ارساء أجواء الديمقراطية في الساحةالفلسطينية، وظلت نائية بنفسها عن كل مشاريع الإقتتال الفلسطيني الداخلي الكثيرة والمتعددة.                                   * ظلت قياداتها الأقل تورطاً في الفساد المالي والسرقات التي اشتهرت بها قيادات وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية.

  • على مستوى الداخل تميزت بتفردها في “إنتاج” قيادات ثورية سرية العمل والحركة، الأمر الذي أذهل الإحتلال الصهيوني وقياداته، فكلما أعلن عن إعتقال قياداتها تفاجأ بأنهم وفي الكثير من الأحيان لم يكونوا حتى أعضاء في الجبهة ناهيك على أنهم قيادات!!!

  • تفردت أيضاً بخلق تجربة الإختفاء للكثير من القيادات والكادرات الحزبية ولسنوات طوال وصلت حتى سبعة عشر عاماً كما صرّح الإحتلال نفسه، وقيادة العمل الحزبي والجماهيري والنضالي، وأحياناً الوطني العام، ومن أهم أركانه الإنتفاضة الشعبية الأولى.

  • كانت من السباقين أيضاً في رفع شعار”عدم تسليم الذات” كالخراف للإحتلال وجنوده، وبالتالي ظهور ظاهرة “المطاردين” وانتشارها على نطاق شعبي ووطني في المدن والريف والمخيمات، وخاصة في الزمن الصعب، في المفترقات الوطنية الهامة.

  • كذلك تفردت في رفع شعار” الإعتراف خيانة”، وتطبيقة بالدماء والشهداء، وأصبح هو الشعار الجامع لممارسة أعضاؤها وكادراتها داخل زنازين الإحتلال، وأصبح من أهم بنود المحاسبة التنظيمية والتقييم الحزبي الكادري، وأصبح على أبواب “الحزب” حُماة أشداء، تحمي أعضاءه وأسراره وبرامجه.

  • كانت من أشد الحريصين على الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولو كانت على حسابها كفصيل، في الكثير من الأحيان. وهذه النقطة بالذات التي أريد نقاشها ولو بشكل سريع ماراً على أهم محطات مسيرة الثورة الفلسطينية الحديثة :

منذ إنطلاق الثورة الفلسطينية، وأثناء تواجد الثورة في الأردن ظلت القيادة الفلسطينية الفردية والمتفردة قابضة على القرار الوطني الفلسطيني، والذي تم تتويجه بعدم دعم الحركة الوطنية الأردنية، وإلغائها والحلول محلها، كما والقرار الأخطر بالخروج من المدن والمخيمات إلى الأحراش حيث تم القضاء على القوة العسكرية الفلسطينية، واستشهاد على ما يزيد عن ثلاثين ألف شهيد. رغم آراء كل الفصائل الأخرى والتي لم تؤخذ بعين الإعتبار.

وبعد إنتقال المنظمة إلى لبنان، ورغم كون الحركة الوطنية اللبنانية متبلورة وذات تاريخ نضالي طويل، إلا أن نفس القيادة الفردية وبنفس الطريقة ألغت دور الحركة الوطنية اللبنانية، بل وحاولت أن تخلق “بالمال” منظمات رديفة سريعة “البصم” وتم فرضها على الحركة الوطنية اللبنانية، تماماً كما تفعل الأنظمة الرجعية العربية في المنطقة.

بعد الأجتياح للبنان ودخول بيروت، ورغم شعار الحركة الوطنية اللبنانية ـ الفلسطينية، الذي نادى بالمقاومة، “جاؤوا لعندنا بأرجلهم”،وبأن ما تم هو فرصة لإيلام الإحتلال، حيث كان الوصول له أمراً صعباً بسبب الحدود والأسلاك الشائكة والألغام، والآن جاؤوا هم بأنفسهم، إلا أن نفس القيادة وبنفس الطريقة وبشكل فردي، ساومت وعقدت الصفقات، واتفقت مع فيليب حبيب، على سحب المقاتلين ودخول الدهليز الأمريكي، ووزعت مقاتليها على بلدان تبعد آلاف الكيلومترات عن حدود فلسطين، حيث تم إغتيال القيادات من الصفوف الأولى في تونس، وتحول الكثيرين الى شؤونهم الخاصة.

وأيضاً وبشكل فردي تم افتعال حرب المخيمات والتي تورطت بها فصائل فلسطينية أخرى.

كما أنه وبشكل فردي تم تفريغ برنامج العمل الوطني الفلسطين من ميزاته من خلال التعامل مع المشاريع التسووية التصفوية في المنطقة، ابتدأت بشعار”لعم” للإعتراف بالكيان الصهيوني، ولاحقاً بالغاء الميثاق الوطني الفلسطيني، وسرعان ما وافقت القيادة الفردية بإلغاء صفة “العنصرية” عن الكيان العبري.

وبعد أن نقلت الإنتفاضة الأولى إمكانية تحرير الأرض وجعل من إقامة الدولة الفلسطينية “إمكانية واقعية”، دخلت نفس القيادة وبفرديتها المعهودة، التفاوض بوفد أردني فلسطيني مشترك، لتفاجئ الجميع بالتوقيع على اتفاق “أوسلو” والذي يبدو أنها حتى لم تقرأه، ناهيك عن بحثه فلسطينياً من متخصصين وأكاديميين وفصائل واستراتيجيين، وكان أبرز ما تم فيه وعلى هامشه، إبقاء ما يزيد عن 12000 أسيراً فلسطينياً في السجون الصهيونية، والذي ما زال بعضهم حتى الآن. كما عدم المس بالعملاء وأدوات الإحتلال بأي شكل من الأشكال بما في ذلك عملاء روابط القرى، كما إعتقال “المحرضين” و”المخربين” وقمع التظاهرات وعدم المس بالمستوطنين لأنهم شأن إسرائيلي.

كما أن القيادة المتنفذة الفردية لم توافق يوماّ على إقرار قانون التمثيل النسبي داخل المؤسسات الفلسطينية، وأغرقت المجالس الوطنية كما اللجنة التنفيذية للمنظمة بمن أسمتهم بالمستقلين والذين لم يكونوا في أغلبيتهم الساحقة سوى مجموعة من المرتزقة، ممثلين لأنظمة الردة، من رجعيات عربية في المنطقة، كل ما يقومون به هو “البصم”، أو رفع الأيدي وهز الرؤوس حسب الطلب.

كما كانت الأغلبية الساحقة من المنح الدراسية والسياسية والعسكرية،هي من نصيب تنظيم القيادة”حركة فتح” وتوزع على المحاسيب والمعارف، ويتم بيع الكثير منها لصالح تجار السفارات.

معظم مدراء المكاتب ولاحقاً السفارات الفلسطينية كانت من نصيب تنظيم فتح، “ونحن هنا لا نتحدث عن مناضلين” بل عن أناس في معظمهم محاسيب وتجار وعملاء أنظمة، ولم يكن للفصائل إلا ما ندر حتى من العاملين داخل هذه السفارات، الوضع الذي ما زال مستمراً حتى وقتنا هذا.

مالية منظمة التحرير لم تكن سوى بأسماء القائد الأعلى بالأساس وما زالت بالطبع، وبعض قيادات الصف الأول بنسب لا تتعدى” بضع ملايين”، وإذا نظرنا الآن لورثة هؤلاء القادة سنجدهم أصحاب ملايين من دماء الشهداء وآلام الجرحى والأسرى، وميزانية المنظمة كلها والتي لم يعرف قيمتها أحد، تجزم بعض المصادر أنها تجاوزت الخمس مليارات بقليل، أصبحت من نصيب أرملة الرئيس السابق، والأمر الآن كما هو ولم يتغير منه شيء. والمفارقة أن تنظيم الجبهة الشعبية كلما كان لديه موقف رافض للقرارات الفردية، كلما قطعت عنه القيادة الرسمية مخصصاته المالية، وكأن هذه الأموال ملك شخصي لهم ورثوها عن آبائهم وليست أموال الشعب الفلسطيني.

وكي لا نضيع في التفاصيل نقول، أن هذه القيادة، قيادة منظمة التحرير ومنذ وجود المنظمة، قد أمسكت بالمنظمة من عنقها حتى قتلتها، وأبقتها منظمة ميتة لا قيمة لها ولا أهمية ولا قرار، وأنها تتذكر المنظمة والوحدة الوطنية إن أرادت تمرير قرار أو مشروع تصفوي ما ويلزمها “ختم” المنظمة.

أنها أفرغت المنظمة ومجلسها الوطني وكافة هيئاتها  ومؤسساتها الشعبية من كل محتوى وطني ورسمي وأبقتها جثة هامدة ميتة، كما فعلت باللجنة التنفيذية والمجلس الوطني والمجلس المركزي، ولاحقا حتى بالمجلس التشريعي.

إن شعار الوحدة الوطنية، هو بالنسبة لها شعار حق يراد به باطل، ترفع لواءه وقتما كانت بحاجة إليه، والمطلوب من الآخرين احترامه دائماً حتى النخاع، ومن الواضح أن معظم “إن لم تكن كل” القرارات المفصلية المهمة لم يتم استشارة القوى الفلسطينية بها، بل وفي مرات كثيرة كانت تتفاجأ بالأمر من وسائل الإعلام.

وعليه، أعتقد أن موضوع الوحدةالوطنية الفلسطينية هو من أهم المواضيع إذا كان الجميع يريدها، ويُحاسَب بموادها، وتكون قيادة المنظمة قيادة جماعية “لكل حسب وزنه الفعلي في الساحة”، لكن أن يريدها البعض والآخر يستغلها ويستفيد منها فقط، إذن عن أي وحده وطنية نتحدث؟!!! بل إنني أرى إن التعايش مع مثل هذا الشكل من” الوحدة الوطنية” إنما يخلق داخل تنظيم الجبهة الشعبية، حفنة من أشباه المناضلين والذين لا يهمهم سوى قدوم آخر الشهر ليقبضوا المعاش، مع ما لهذا الأمر من إنعكاسات خطيرة جداً على مستقبل الجبهة نفسها، كوننا نتحدث عن قبادات من المفروض أن تكون قيادات من الصف الأول. فما قيمة الوحدة الوطنية إن ظلت على حالها الذي كانت عليه منذ البدء حتى الآن؟!!! وما قيمتها إن كانت الجبهة الشعبية رغم ما لها من وزن ونضالات وتاريخ غير فاعلة ولا كلمة لها ولا تأثير داخلها؟!!! وهل هناك وحدة وطنية بمؤسسات منظمة ميتة كما هي الآن؟!!! وهل هناك وحدة وطنية إن كان من يتحكم بالموقف السياسي والمقدرات المالية شخص واحد حتى وإن كان رئيساً للسلطة أو لحركة فتح أو أي كان؟!!! وهل هناك وحدة وطنية داخل ثورة دون برنامج كفاحي ثوري، مستنداً على برنامج سياسي واضح وميثاق وطني جامع؟!!! وهل هناك وحدة وطنية تحت سقف قيادة ما تزال تحاصر القطاع مع نظام مصر لتعميم الإستسلام فيه، بعد أن وصفت أسلحته بالعبثية؟!!! وهل هناك وحدة وطنية مع من ما يزال يضع يده في يد القاتل نتنياهو، ولم يستنكر اقتحام العدو لمناطق ا، ولا لقتله اليومي واعداماته بدم بارد، بل يساعده في الإعتقالات تاركاً له المدن متى أراد ليدخل ويعبث بها وبأبنائها كما يريد ووقتما يريد؟!!! وهل هناك وحدة وطنية مع من لا يلتزم بمقررات هيئة في المنظمة كالمجلس المركزي، تطالبه بوقف التنسيق الأمني، وهو يرفض بإصرار الإلتزام بذلك رغم وعوده المكررة الكاذبة؟

لست أدري كم هو صعب الإجابة على مثل هذه الأسئلة وغيرها الكثير الكثير، وهل يجب أن تظل الجبهة إسمياً داخل المؤسسات الميتة كشاهد زور على كل موبيقات القيادة دون أن تستطيع أن تفعل شيئاً؟ أم أن تبدأ بالعمل على تطوير الذات تنظيمياً، وأنعكاس ذلك كفاحياً ونضالياً على أرض الواقع، لتشكل مركز استقطاب يساري ثوري جامع  لا نقاش فيه ولا منازعة عليه، في قادم الشهور أو السنين القليلة المقبلة، لتشكل قاطرة العمل الوطني الموحد القادم ضد الإحتلال ؟!!!

محمد النجار

عندما صار الحمار ملكاً

كنا قد تجمعنا في مقهى المدينة، المقهى الذي أخذ اسمه من كونه يشغل مركز المدينة منذ عقود، ورغم تزاحم المقاهي من حوله، إلّا أنه ظل هو الأكثر امتلاءً والأكثر شهرة، وأكثر ما زاده شهرة، كثرة الرواة المترددين عليه في لياليه الساهرة، وكان راوينا هذا، صاحب هذه الحكاية هو الأكثر شهرة، وهذا ليس فقط بسبب آلية سرده لحكاياته العديدة والمتفرقة، بل كونه يختار الحكايات الحقيقية، التي تمت على أرض الواقع، ونقلها لنا التاريخ محمولاً على ظهر السنين. ورغم ذلك، لم يخلُ الأمر من معارضين للراوي، والذين لم تكن معارضتهم لتفسد للقصص والحكايات هدفاً، ولا للود قضية. تجمّعنا وأخذ كلٌ مقعده، فلم يبقَ مقعد فارغ، ولا مكان في ممر بين طاولات إلّا للنادل الذي كان يروح ويجيء بصمت كامل، فلا تسمع رنين كأساً ولا حركة أرجل ولا حتى همسٍ قد يفسد للراوي حكايته. انتظرنا قدوم الراوي الذي لم يتأخر يوماً عن موعده، ومرت دقائق الإنتظار كعادتها بطيئة متهادية منفِّرة، مختالة بكل غرور، ونحن نحتملها بصبرنا المعهود دون أي نقد أو حتى استياء.

وجاء الراوي مع المساء كعادته، ملتفاً بعبائته، رد السلام بطريقته المعهودة وجلس في نفس المكان الذي يعتليه في لياليه جميعها.  وقال الراوي بصوته الجهوري كعادته:

ـ كان ياما كان، في قديم الزمان، ولو لم يكن قد تم فعلاً لما حملته إلينا الأيام، وبالتالي لما وصل إلينا الآن.

لكن معارضيه سرعان ما نفوا أن يكون الأمر قد تم في قديم الزمان، بل إنه  تم في القريب منه، وأكدوا أن الإختلاف في التوقيت لا يعني التشكيك في الحكاية بأي شكل من الأشكال، بل ما يعنيهم صحة التأريخ أيضاً، فهذا منبع حرصهم وهذه جل غايتهم. فاعترض أنصار الراوي على اعتراض المعترضين، وتجادلوا وتحاججوا، وقدم انصار الراوي حجتهم حيث قالوا أن الأمر قد تم في القديم من الزمان، وهو الزمان الوحيد الذي كانت فيه الحيوانات تتحدث. فرد المعارضون قائلين، هذا التأكيدغير دقيق، وأن الكثير من الحيوانات ما تزال تتحدث حتى وقتنا الحاضر أيضاً، وأنك في أحيانٍ كثيرة تكاد تُخدع وتعتقد أن المتحدث إنساناً، خاصة إذا تحدث دون أن تراه، أو إذا كان متخفياً أو متستراً في زي ملاك أو انسان.

ونحن، إذ نعلن عدم انحيازنا لأيٍ من الطرفين، رغم عدم حياديتنا نحو الحكاية وصحتها، الأمر الذي نلتقي به مع الراوي ومعارضيه، وذلك لا علاقة له بإمساك “العصاة”من المنتصف، بل كون الأمر لا علاقة له في جوهر القضية، بل بالتوقيت، وإننا إذ نعلن أن كلا حجج الطرفين صحيحة، رغم القرون العديدة التي تفصل بينهما، فإننا ننشر الحكاية كما هي، دون تدخل أو حذف أو تعديل، ونعتذر للقراء إن كان في الرواية كلمات تخدش الحياء العام أوشفافية الآذان الحساسة، لكننا لا ولن نعتذر إن فُهم من الحكاية أنها تقصد ملكاً أو أميراً بذاته، أو حتى تقصدهم كلهم، كوننا لسنا معنيين بما سيفهمه أو لا يفهمه كل قارئ، كما أننا لسنا في معرض رقابة على عقول البشر. لذا إقتضى التنويه.

  •     *     *      *

وأكمل الراوي:

ـ كان في قديم الزمان حمار، متزوج من”آتان”واحدة، ورغم مرور سنين عدة على زواجه، إلّا أن الله لم يرزقه بأي “جحش” يملؤ عليه حياته، الأمر الذي قلب حياته الى ما يشبه الجحيم، وكاد يقلب الحب الذي يكنه لزوجته الى نوع من التنافر إذا لم نقل الكره، ولكن الله لا يترك عبيده، أو إن شئتم حميره، فسرعان ما حملت “آتانته”، فكاد الحمار أن يحملها على أماميتيه، وان يضيء لها حافريه، وعادت له ابتسامته وفرحته وابتهاجه، وعاد مرحاً ممازحاً، كما عادت علاقته بمعشر الحمير طبيعية كما كانت قبل موضوعة الحمل برمتها.

ورزق الله الحمار جحشاً ذكراً، فرح به الحمار فرحاً جماً، وأخذ ومنذ صغره يعلمه أنواع النهيق، ويتركه بين زعامات الحمير  ليتعلم منها وينهل من تجاربها ومعارفها، لعله عندما يكبر أن يكون له شأنا عظيما. لكن زوجته توقفت عن الحمل من جديد، ورغم كل أنواع الأعشاب التي قدمها لها حكماء الحمير، إلا أنها انقطعت عن الحمل سنوات أخرى، ولم تُجدِ معها كل العلاجات نفعاً، ولما أصابها مع زوجها اليأس، ولم يعد هناك من الأدوية شيئاً لم تأخذه، حملت من جديد، على دون توقع، وولدت جحشاً ذكراً آخراً، وتكرر الحمل والولادة مرات ومرات، فأصبح للحمار سرباً من الأبناء الجحوش، تفصلهم عن أخيهم “البكر” سنوات طوال، لذلك فضل الحمار الأب أن يسمي إبنه البكر بالحمار الكبير، ليميزه عن بقيةأخوته، وأمام هذه التسمية لم تجد “آتانته” بُداً من أن تسمي ذكرها بالحمار الأب.

وكان الحمار الكبير يكبر وتكبر معه همومه، وأخذ يشتد زنده وتتشكل عضلات سواعده، وتكبر معه طموحاته، الأمر الذي أحدث اختلافاتٍ متعددةً على الحمار الكبير، فصار سارح الذهن شارده، دائم الغياب بذهنه رغم حضور جسده، الأمر الذي أربك أبويه وجعلهما في حيرة من أمرهما، الأمر الذي جعل والده باتخاذ قراره بالحديث مع ابنه الحمار الكبير ليعرف ما يدور في ذهنه، وهذا ما تم.

انتهز الحمار الأب فرصة خروج أبنائه الجحوش ليلعبوا و”يتفعفلوا” على رمل رصيف الطريق، وغياب زوجته”الأتانة” عند إحدى جاراتها للثرثرة كعادتها دائماً، فأخذ ولده الحمار الكبير جانباً وقال له:

ـ ما الذي يتفاعل بداخلك يا ولدي؟ ألهذه الدرجة تأخذك “الأتانات” بجمالها وغنجها؟ إنني أرى معظم “أتانات” الجيران، بل العشيرة كلها، وهن “ينهقن”ضاحكات لجلب انتباهك إليهن، وخاصة عندما رأينك بطولك وجمالك وعضلاتك المفتولة، وكأنهن يدعونك إلى تحريك “مشاعر الحمار ” التي تبلدت فيك، أو مشاعر العاطفة، أو حتى مشاعر الجنس، وأنت تقف كحمار بليد لا ترى شيئاً، إن الحمير لديها مشاعر وأحاسيس وإن كانت حميراً، لا أعرف ما الذي يدور في رأسك!!! وسكت الحمار الأب قليلاً قبل أن يكمل حديثه في محاولة لمعرفة ما يدور في ذهن ابنه الحمار الكبير:

ـ أشر لي يا بني أي “أتانة” تريد وسأذهب في هذه اللحظة بالذات لأطلبها لك من ذويها، لا يمكن أن تكون بهذا الشكل، شارد الذهن دائماً… لا تستغرب حديثي هذا، فأنا نفسي كنت شاباً كما أنت الآن، وما يمر بك الآن مر بي من قبل، عندما كنت في “سن” شبابك هذا…

فقال الحمار الكبير حاسماً الأمر، موضحاً لأبيه ما يشغل ذهنه:

ـ يا أبتِ لم تكن “الأتانات” من يشغلن بالي ويغيبن عقلي، لكنه الطموح، إن ولدك لديه طموحاً بالزعامة على العائلة والعشيرة والقبيلة ومعشر الحمير جميعاً، بل وحيوانات الجوار أيضاً، وسأفعل المستحيل من أجل ذلك…

تفاجأ الحمار الأب من كلام حماره الكبير، لكن الفكرة التي لم تخطر على باله يوماً، دللت أن لإبنه من العقل ما يستحق المساعدة وإن كان حماراً، فقال:

ـ للزعامة طريقان يا ولدي، إما أن تقوم بترشيح نفسك في انتخابات وتُنتخب ويتم ترئيسك، أو بحد السيف وتصير ملكاً، دون انتخابات أو ناخبين، في الأولى مؤكد أنك لن تفوز، كون لا أحد يقبل بأن يُزعّم عليه حماراً، ولا حتى الحمير نفسها. فما بالك ببقية الحيوانات الأخرى؟ فحدّث ولا حرج، فلا أحد منها يرغب بترئيس حمار أو تمليكه عليه، بل إن كل الحيوانات ترى نفسها على معشر الحمير، ترى مقامها أعلى ونفسها أرفع شأناً، حتى الأبقار والبغال ترى مقامها فوق مقامنا… يا لمهازل الأقدار!!!

ـ إذن لن يبقى أمامنا سوى حد السيف ياأبي.

قال الحمار الكبير لأبيه بتأكيد، فأجابه الحمار الأب:

ـ السيف!!! نعم السيف، لكننا لا نملك السيف، ولا حتى ثمنه، وكما قال الشاعر:

” لا خيل عندك تهديها ولا مال                    فليسعد النطق إن لم يسعد الحال”

ـ خياراتنا محدودة ياأبي، لذا ما علينا سوى سرقة السيف…

قال الحمار الكبير شارحاً لأبيه، وأكمل:

ـ خاصة أن أحداً لن يقبل بأن يساعد حماراً ليتولى أمور مملكة، ولن يثق به، لذا علينا المحاولة وحدنا، فإن نجحنا كان به، وخير وبركة، وإن فشلنا نعيد الكرة من جديد في محاولة جديدة….

استشاط الملك الأب غضباً، وكاد يملأ الدنيا نهيقاً مدوياً غاضباً، لولا تخوفه من أن يستدعي بنهيقه هذا فضول الجيران وانتباههم، وبالتالي كشف السر الذي ما يزال بينه وبين ابنه الحمار الكبير، وقال:

ـ ماذا تقول أيها الحمار ياابن الحمير؟!!!، وهذه شتيمة وليست توصيفاً، ألم تدرك بعد أن هذا الأمر لا تجربة فيه، الفرصة التي بين يديك هي الأولى والأخيرة، فإما النجاح وإما المقاصل على قارعة الطريق، فتتعفن جثثنا دون أن تجد من يلتهمها، لتكون عبرة لمن يعتبر!!! لذلك عليك باللعبة لكن بشكل صحيح، دراسة الأمر من كافة جوانبه، كيلا يبقى مجال لخطئ مهما كان ضعيفاً… لذا يجب البحث عمن يدعمنا في هذا الطموح، وليس سرقة سيف تذهب بك إلى غياهب السجون، وتكشف ما يدور في ذهنك من مغامرات وأخطار.

فقال الحمار الكبير بشيء من الخضوع، بعد أن أرعبه جواب أبيه لدرجة أنه بال على نفسه أو كاد، متراجعاً عن كلماته التي بدت ناضحة بالغباء، وراغباً بالتراجع عن مثل هذه الأفكار الهدامة المرعبة، التي يمكن أن تقود صاحبها الى نهاية مميتة:

ـ ومن سيقبل بأن يُملك حمارأ ياأبي؟ فأنت نفسك تؤكد أن لا أحدا يرغب بذلك.

فقال الحمار الأب موضحاً:

ـ بالعكس أيها الحمار الكبير، هناك من يرغب بتمليك الحمير كونهم حميراً أولاً وأخيراً، وأنت والحمد لله حمار ابن حمار ابن حمار، يعني حماراً أباً عن جد، كما أنك “أحمر” من إخوتك جميعاً، وظني أنك أحمر “بني حمار” جميعاً أيضاً، لذلك فأنت الأفضل والأصلح للملوكية من أبناء عشائر الحمير وقبائلها جميعاً. كما أن أباك يابني من عائلة حسب ونسب، فظني أن من قدامى أجدادنا كان البغل وكان النغل، وكان الجَمال وكان الكَمال، وكان الحُسن والعقل والبهاء، والدليل جمالك ورجاحة عقلك، أم تظن أن الكثير من الحمير يمكن أن تفكر بما فكرت فيه؟!!! لا يابني، فكلها لا تفكر إلا في “علف المساء”.

تناول الحمار الأب سيجارة وضعها في فتحة أنفه اليمين، أشعلها، وسحب نفساً عميقاً، أخرج دخان رئتيه من فتحة أنفه الشمال، وقال مهدئاً من موجات رُعب ابنه التي كان يراها تتصاعد من مرايا عينيه:

ـ اترك الأمر لي لأفكر به قليلاً، لا تستغرب أنني أفكر وإن كنت حماراً، واذهب أنت و”تفعفل” قليلاً على رصيف الطريق، واحرص على أن لا تؤذي أخوتك الجحوش، “فحمرنتك” أحياناً تخرج عن المألوف وتتعدى المعقول، واضبط لسانك كي لا تذهب وتجرنا معك الى الهاوية.

مر على هذا الأمر بضعة أشهر طوال، والحمار الأب يُقلِّب الموضوع في خلايا رأسه الكبير دون نتيجة، وكأن ما بين أذنيه ليس إلّا “مخلاة تبن” وليس دماغاً بوزن عجل صغير، ولا يدري لماذا تذكر ذلك الحدث الآن؟ لماذا في هذا اليوم بالذات، بعد مرور فصلين كاملين من حصوله، تلك الحادثة التي لن ينساها أبداً، حيث كان أقرب من أي مرة أخرى من فكي مجموعة من الكلاب الضالة، التي عادت الى وحشيتها رافضة كل عروض تدجينها وإغراءاتها التي لايمكن رفضها، معيدة حياتها الى الصيد والسرقة والإحتيال، بعدأن عاشت فيها سنوات طوال، وقال البعض أن هذه الكلاب قد قامت بجنح وجرائم متعددة حينما كانت في البيت الداجن، وخوفاً من المحاكمات والإدانات وما يتبعها من أحكام وسجون، فضلن الهروب والتشرد، واللجوء لحياة التوحش، نعم كاد أن ينتهي به الأمر بين فكي بضعة كلاب ضالة، وهو الذي تمنى إن كان لا بد من أن يكون عشاء وحش، وإن كانت نهايته بين فكي حيوان مفترس، فلتكن على الأقل بين فكي أسد وليس بضعة كلاب ضالة!!!.

  •    *    *    *

وأضاف الراوي :

لقدكان الحمار الأب سارحاً في شؤونه وشئون عائلته، وينتقي حبات شعير متناثرة على رمل الطريق، وبقايا “تبنٍ”  وكأنها وضعت بهدف صيد حيوانٍ غبيٍ يحمل ما بين أذنية “كيس تبن”، لا عقل يجب استعماله، وظل الحمار الأب يتبع أهواء معدته وأمعائه، دون أن يفكر ولو للحظة واحدة إلى أين يأخذه الطريق؟ ومَنْ يمكن أن يفعل ذلك أفضل من حمار بن حمار؟ حتى إذا ما رفع رأسه قليلاً عن تراب الطريق، حتى تفاجأ بمجموعة من الكلاب الضالة، كانت قد اجتمعت على عجل اختطفنه من عشيرة الأبقار، ولم يبقَ منه سوى هيكله العظمي الذي ما زال يتربع عليها زعيم الكلاب الضالة، كلب ذو رأس أبيض وبني اللون فاتحه لباقي الجسم، ولم يكن سوى كلب “البيتبول”، ذلك الكلب الشرس، القاتل، الذي لا يترك غريماً له أو فريسة على قيد الحياة، والذي لا ينام الليل إلّا قليلاّ، وفيه كل صفات الكلب إلّا الوفاء، يطفح بالقوة والشراسة والغدر، ذكي ومراوغ مثل ثعلب، قوي البصر والسمع مثل ذئب، يتمتع بالسطو والسيطرة مثل أسد.

هنا هب المعارضون للراوي مؤكدين أن الحمار الأب لم يذهب الى هناك خلف التبن وحبات الشعير، بل كان ذاهباً الى ذات المكان كما يفعل كل عام، حاملاً فوق ظهره كمية من”رطب البلح” ليخمره ويبقيه بعيداً عن أنوف الحمير وعيونها، كيلا يسرقوا نتاج عمل أماميتيه لفصل الشتاء القادم، وأضاف المعارضون أن ما يقال غير ذلك ليس إلا من باب المبالغة ب “حمرنة” الحمار الأب وتصويره على أنه لا يتبع سوى غرائزه مقابل تجميد عقله، الأمر الذي يبعدنا عن الحقيقة والحياد. وعندها أكد الراوي أن الحمار الأب لم يكن ليفعل ذلك كونه ليس بشارب للخمر أصلاً، أكد معارضوه أنه كان يُخمِّر ويُنقِّي ويبادل الخمر بالأعلاف، وأنه كان يشرب الخمر ب”الحذاء” أيضاً على حد قولهم، لكن بعيداً عن أعين القبيلة.

النتيجة أن الحمار الأب ارتعب وارتعد وتفتتت مفاصله، ما أن رآى زعيم الكلاب الضالة “يُمصمص” مخالبه من فوق الهيكل العظمي، فتساقطت حبات الشعير من بين أسنانه، ولم يستطع التحكم باصطكاك أسنانه، ولا حتى بلعاب فمه المتهافت من بين أسنانه وتحت لسانه كمزراب ماء،  وبال على ذنبه من شدة الخوف، وأخذجسده يرتعش رغم حرارة ذلك النهار من أيام الصيف القائظة.

حاول الحمار الأب التراجع الى الخلف، رفع حافره الخلفي ليضعه بخفة في الوراء، فاصطدمت أذناه بصوت جرس كنذير شؤم، صوت انذار نتائجه وخيمة، نظر الحمار نحو المكان الذي جاء منه الصوت المُحذِّر، فإذا ببصره يقع على أفعىً ذات قرنين عظميين، برأس ضخم مخيف بالنسبة إلى طول جسدها، حراشف على كامل جسدها، رافعةرأسها مقتربة من أعلى فخذه، تُنتج فحيحاً مع كل حركة مع حركاتها، كانت قصيرة الطول، تسير على الرمال بشكل جانبي وتحمل جرسها في مؤخرة ذيلها. وما أن رأها الحمار الأب وقد رفعت رأسها، حتى أيقن أنه ما أن يضع حافره على الأرض أو حتى قبل ذلك، ستكون أنياب الأفعى السامة تفرغ سمها داخل فخذه، فوقف الحمارحاملا فخذه، معلقه في الهواء،  وبدأت عيناه تلقي دموعه على صفحات وجهه، واستمر معلقاً فخذه في الهواء حتى تركته الأفعى وانسحبت، وما أن غادرت مكانها حتى رأى الحمار الأب زعيم الكلاب الضالة  وقد بدأ بالتحرك نحوه، لكن عمر الحمار الأب لم يكن قد انتهى بعد، وما هي الّا لحظات حتى توقفت الأفعى المرقطة ذات القرنين والجرس، أعلنت أنها تحميه بهزة من ذيلها ،حيث أطلقت رنات تعرفنها زعيمات الأفاعي السامة، كما حلفاؤها من الكلاب الضالة وآخرين لم يعرفهم الحمار الأب بعد، أشارت الأفعى لزعيم الكلاب الضالة بإشارة للتراجع عن مهاجمة الحمار، وسرعان ما توقفت وأشارت بحركة من ذيلها للحمار الأب ليتبعها.

عرّفته الأفعى القصيرة المرقطة ذات القرنين والجرس المعلق في نهاية ذنبها، بأنها ملكة ملكات الأفاعي السامة، وسألته عمّا أتى به الى هذه المنطقة البعيدة عن قبيلة الحمير وعشائرهم، والحمار الأب الذي كان ما يزال تحت رعب الصدمة، لم يستطع الإجابة، وأكملت الأفعى الملكة قائلة:

ـ هيا …

وأخذته الى سطل ماء ليشرب ويهدئ من روعه، وظلت تحدثه، رغم أنه لم يتوقف عن البول على نفسه. وعادت إلى القول من جديد:

ـ أنت محظوظ لأن الكلاب الضالة وزعيمها أكلوا حد التخمة، وأنت محظوظ أيضاً كونك وجدتني وأنا بحالة جيدة ونفسٍ طيبة هادئة، وكما يقال أنه” ربما ضارة نافعة “وأنه ” لا صداقة إلّا من بعد عداوة”، فيبدو أن ربك يريد لنا صداقة صادقة وغير مسبوقة، يعلم الله أنك دخلت قلبي، وهذا رغم حصوله إلا أنه شيء نادر.

وأشارت بيدها نحو مكان يحتضن شجرة نخيل، تقابلها على بعد أمتار ثقوب في رمال متيبسة بسبب الهواء والماء وعوامل الطبيعة، وقالت:

ـ إن أردت أي مساعدة يمكنك القدوم الي هنا، قف تحت الشجرة ونادى على الأفعى الملكة بنهيق خفيف، ستجدني بجانبك في لحظات…هيا لأوصلك الى ديارك، بين قبيلة الحمير وعشائرها قبل أن تجوع الكلاب من جديد.

وأخذته مطبطبة على قخذه بجرس ذيلها، وسارا يتبعهم من بعيد زعيم الكلاب الضالة وبضع كلاب أُخر، وظلت تثرثر معه طيلة الطريق، تستفسر عن الحيوانات التي تجاور قبائل الحمير، عن الأعشاب التي تنمو في أرضه، عن الماء وكمياتها في أرضهم، والحمار الأب يقدم لها كل ما تطلب من معلومات، حتى وصلا الى مدخل أراضي قبيلة الحمير وعشائرهم، شدت على حافره وقالت مؤكدة:

ـ لا تتردد في المجيء إلي إن كنت بحاجةالى أيما شيء، فما أستطيع فعله لك سأفعله، وما لا أستطيع فلدي من المعارف والحلفاء الكثيرين لمساعدتي، فأنا لا أعدم وسيلة من أجل ذلك… نعم لدي الكثير من الحلفاء لكن الأصدقاء قليل أيها الحمار الموقر، أفهمت الآن لماذا أنا مصرة على صداقتك وأفخر بها؟!!! هيا إلى بيتك قبل أن يداهمنا المساء، وينثر ليله المعتم فوق بيوتنا…

ما أن غادر الحمار الأب “الملكة الأفعى” حتى جاء زعيم الكلاب الضالة اليها غاضباً معاتباً، معبراً عن غضبه وعتابه من خلال نباح طويل حاد متقطع في أول الأمر، منتهياً بوصلة كاملة مستمرة من النباح الطويل المستمر، وسألها:

ـ ما الذي فعلتيه أيها الأفعى الملكة؟ أكان حراماً أم عيباً أن نحتفظ بهذه الكمية المهولة من اللحم؟ صدقيني إنه لذيذ وإن كان لحم حماراً، أم كنت تعتقدين أننا س”نَزْوَر” إن نحن أكلنا من لحم ذاك الحمار؟ خذي رأينا على الأقل في مثل هذه القرارات الهامة.

والأفعى الملكة التي افتعلت أنها لم تسمع شيئاً من زعيم الكلاب، سألته على غير توقع:

ـ ما الذي جعلك تتعقبني؟ ألهذه الدرجة فقدان الثقة؟

ـ لا، أبداً، أقصد… ليس صحيحاً…

ارتبك زعيم الكلاب كثيراً أمام سؤال الأفعى الملكة، وظل يتعثر بالحروف حتى اهتدى إلى جملة يقولها، فقال:

ـ أتيت كي لا يباغتك الحمار و”يرفسك”، يعني لحمايتك…

ابتسمت الأفعى مظهرة أنيابها، وقالت:

ـ وهل تعتقد أنني بحاجة لحمايتك أيها الزعيم؟ أتعتقد أن هذه الأنياب وهذا الجسد رغم قصره، والمليء بالسم القاتل بحاجة إلى حمايتك؟ خاصة من حمار؟

افتعل زعيم الكلاب بدوره عدم سماعه لأسئلة الملكة الأفعى، وسأل نابحاً بود، قافزاً عن الجو الحاد الذي ساد:

ـ ما الذي يدور برأسك أيتها الملكة؟ أموت وأعرف كيف تفكرين!!!

ونبح الكلب ضاحكا وكأن شيئاً لم يكن، حين أصدرت الأفعى الملكة فحيحاً ضاحكاً مترافقاً مع رنات سعيدة من جرس ذيلها، قالت كلمات لم تخل من جدية تامة:

ـ أبعدالله عنك الموت وكل سوء أيها الزعيم، وربما أنت محق في ضرورة آخذ رأيكم، وكما تعلم فأنا لست ملكة مُتَفرِّدة، وقراراتي في مجملها جماعية أيضاً، لكن هناك قرارات علينا اتخاذها بسرعة، لا وقت لأخذ آراء فيها، أعني تكون المبادرة فيها هي الأهم، وهي سيدة الموقف،  كون الزمن لا يتوقف لينتظر استشارات واجتماعات.

توقفت في منتصف الطريق وقالت:

ـ صدقني أيها الحليف الزعيم، أنني لم أفكر بالأمر إلّا في تلك اللحظة، ولم أرغب أن أفقد أهمية اللحظة، وخاصة أن الجوع لم يصبنا أو يداهمنا بعد، وأنت وجماعتك كنتم قد انتهيتم لتوكم من أكل عجل كامل.

احتضنت رقبة زعيم الكلاب الضالة، معلقة جرس ذيلها على جانب رقبته، وقالت:

ـ تعال أيها الحليف العزيز لنلتقي مع بقية زعيمات الأفاعي، كما مع ملك الضباع لأخبركم بما فكرت به، وبما دار في ذهني، فأنا أفعى لا أنظر بين قدمي فقط، وربما لذلك لم يخلق لي الله قدمين، إنني أرسم للبعيد، للبعيد البعيد أيها الكلب، أفهمت؟ هيا بنا …

  •    *    *      *

كان الحمار الأب يروح ويجيء على طول الطريق، يفكر بما عليه فعله ليوصل ابنه البكر الحمار الكبير ملكاً على عشائر الحمير وقبائلها، وعلى بعض قبائل الحيوانات الأخرى، حتى أن زوجته علقت له “مخلاة التبن” في رأسه عندما رفض قاطعاً دخول زريبتهم، وأخبرها أنه لن يلتقي هذه الليلة معها ومع الحمار الكبير وبقية جحوش البيت، كما أنه لن يلتفّ معهم حول مائدة العشاء. ظل يروح ويجيء كهائم على وجهه، متسائلاً كيف ومن أين يمكنه الحصول على السيف، مدركاً أنه بحاجة الى من يساعده في ذلك، وبدون مساعدة لن يحصل على أكثر من ملئ حافره هواء. وقال في نفسه” عليك أن تأتي على ظهور المخالب والنيوب لحيوان مفترس أو حتى مجموعة حيوانات، هذا هو الطريق الوحيد، فخير أن تكون حماراً ملكاً من أن تكون حماراً من العامة، وليس صحيحاً أن الحمار يظل حماراً حتى ولو كان ملكاً”.

فجأة… ودون سابق انذار ، وجدت الحمار يزيح “المخلاة” الفارغة من رأسه، ويبدأ بالرقص والقفز في الهواء، وينهق بكل ما في صدره من هواء ضاحكاً، قائلاً كما قال العالم نيوتن ذات يوم:

ـ وجدتها وجدتها…

وكان الحمار الأب ما يزال ينهق فرحاً، غير آبهٍ في الوقت الذي كان قد زحف نحو ساعات منتصف الليل وغادرها قبل ساعة أو يزيد، وظل يتقافز وكأنه فقد عقلة، وكان قد أخذ قراره بالذهاب الى “الملكة الأفعى” وطلب مساعدتها، الأمر الذي يتطلب منه البحث عن هدية مناسبة، وبدأ يفكر في ماهية هذه الهدية التي تليق بملكة ملكات الأفاعي المُتَوَّجة، ولا يعرف لماذا لم يتجاوب عقله في أكثر من التفكير بطعام لهذه الأفعى كهدية، وكان قد قرر أن يسرق زوج أرانب لتتمتع بأكله، لكنه وفجأة أيضاً، تذكر أقوال حصانٍ كان يتسلى بأكل بعض الأعشاب بالقرب من أراض قبيلة الحمير قائلاً له:

ـ لماذا لا تريد أن تخرج من “حماريتك”؟ “تَنجّر” أيها الحمار؟ لماذا هذا الإصرار على أن تبقى حماراً؟!!! من يسمعك يعتقد أن تكون حماراً ميزة، أو مدعاة للفخر!!!

إلتقى الحمارُ الحصانَ حينها صدفة، كان في مثل سِنّه، يتحدث بلغته رغم اختلاف مناطقهما، كان الحمار الأب غاضبا، أو بالأصح القول أن بقايا الغضب لم تتبخر من رأسه بعد، بسبب ابنه “الجحش الصغير، نعم بسبب الجحش الذي كان يحب أن يسميه”الجحش آخر العنقود”.        كان هذا الجحش الصغير وعلى غير عادةإخوته جميعاً، يحب أن يحفر الأرض ويُخرج من طياتها السطحية قوالبه الرملية، وما أن يسحب فالباً حتى ينهال التراب من الأعلى إلى المكان المحفور المنخغض، وفي أحد المرات انهال التراب دون توقف، وظل ينهال وكأنه في فراغ، تاركاً في الأعلى مكاناً أخذ يتكشف فيه عن بفايا أبنية متهدمة قديمة، فخاف الجحش الصغير وفرّ راجعاً، لكنه فبل الفرار كان قد استوقفه وسط الإنهيارات الرملية تمثالاً صغيراً قديماً، لا تجد في هذا الزمن له مثيلاً.

حمل الجحش الصغير تمثاله وتوجه به إلى البيت، وكان قد أعجبه التمثال فلم يكف عن اللعب به، ومازال يلعب حتى دخل الحمار الأب باب المنزل، فوجد ابنه يلعب بالتمثال الصغير، فاستشاط غضباً، وأخذ جسده بالإرتعاش وكأن أفعى قد أفرغت به سموم جسدها، وكاد أن يتشنج، وصرخ بعلو صوته منهقاً:

ـ صنم يا إبن الحمار، صنم؟ ألم تجد لك شيئاً يُغضب الله أكثر من ذلك؟

واندفع نحو جحشه الصغير ليخلصه إياه ويكسره، فليس من المعقول أن يُبقي صنماً يتحدى الله في بيته، لن يقبل أن يترك ما يُشرك بالله وينازعه عبادته في داخل منزله. واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، واستغفر ربه، ونوى أن يوزع “مخلاتي تبن ومخلاة شعير” على فقراء الحمير تكفيراً عمّا اقترفه ابنه. لكن الجحش الصغير أخفى التمثال الصغير خلف ظهره وأخذ ينهق باكياً، ورجا ابوه “الحمار الأب” أن يتركه ليلعب به قليلاً، ثم وبعد أن يملّ من اللعب به فليكسره كما يريد. فقال له الحمار الأب سائلاً بشكل استنكاري:

ـ بصنم؟ أتريد أن تلعب بصنم ياابن الحمير؟

والجحش الصغير، “آخر العنقود”، الذي كان لا يفهم تماماً إن كان أبوه يشتمه موبخاً أم مجرد ينسبه إلى عائلة الحمير، قال:

ـ ماذا يعني “صنم” يا أبي؟

وأمام هذا السؤال المغرق في الجهل، أدرك الحمار الأب أن ابنه آخر العنقود ما زال صغيراً، وأن لا ذنب عليه كونه ما زال صغيراً ولايفهم ما يدور حوله، فقرر ترك “الصنم” بين يديه، ليلعب به متسلياً، خاصة بعد أن رأى دموع عينيه تسيل فوق وجهه الأسمر الطويل مثل جدول، على أن يأخذه ويكسره لاحقاً دون أن يراه ابنه.

وخرج الحمار الأب تاركاً الجحش الصغير في حضن أمه ووسط أخوته الجحوش، وما أن تمشّى قليلاً حتى التقى الحصان في مكان قريب، ولما رآه الحمار يتخبط في غضبه متعثراً  بخطواته الحزينة، سأله عن حاله وأحواله، ليخفف عنه غضبه ويزيل عنه أحزانه، فحدثه  الحمار الأب بكل ما به من حزن، عن أسباب حزنه، وعمّا رآه بأم عينه وفي بيته ومع ابنه “آخر العنقود”، وبدأ يُقسم أغلظ الأيمان بأنه لن يُبقي هذا “الصنم” في بيته مهما كلفه ذلك.

كان استغراب الحصان شديداً لما سمع الحمار الأب يقول “ما أنزل الله به من سلطان” على حد قوله، وسرعان ما قال للحمار:

ـ على حد علمي أنك أمضيت معظم أوقاتك بين أقربائي الخيول، وأن منهم من حاول أن يعلمكم القراءة والكتابة، وبنوا لكم المدارس، وعلموكم الزراعة واستخراج المياه من باطن الأرض، وعلموكم بناء البيوت بدل الخيام،  وزراعة المراعي بدل مطاردتها واللحاق بالغيوم لتزرعوا تحتها خيامكم لتشربوا ماءاً، وتنتظرون العشب ليتم دورة حياته ويخرج الى ما فوق الأرض معلناً عن نفسه….لكن يبدوا وكما قال المأثور الشعبي”علّم في المتبلّم يُصبح ناسياً”، فما بالك إن كنت تعلم حماراً “بعيد عنك”!!!

وسكت الحصان قليلاً كي يفهم الحمار الأب تماماً ما أراد قوله، ثم أكمل ما ابتدأ به:

ـ تربيت بيننا وما زلت حماراً، وما زلت أذكر أباك جيداً، عندما كنت ما أزال مُهراُ وأنت جحشاً، كان يأتي بك ويربطك بيننا علّك تصير حصاناً مثلنا، أو تتعلم منا عادات الخيول، لكن صدق المأثور الشعبي الذي قال” الحمار حمار ولو بين الخيول ربى”.

أُسْتُفِزَّ الحمار الأب كثيراً من أقوال الحصان، وتفاربت أذنيه الطويلة متصادمة، وكاد يهجم على لسان الحصان ويظل يعضه حتى يقطعه، عله يكف عن الكلام، وعن هذه “الكبرياء”التي لا قيمة لها ولا وزن، وقال:

ـ لماذا كل هذه المحاضرة أيها الحصان، فأنت أولاً وأخيراً دابة مثلي، وأنت ونحن من خلق الله، ولا خير لأحدنا عن الآخر إلّا بالتقوى، ولم أفعل إلّا أن أشكو لك همِّي كصديق قريب، وتجمعنُا صلة قرابة بعيدة …

فقال الحصان دون أن يُعقّب على كلام الحمار الأب:

ـ وها أنت ما تزال تسأل بماذا أغضبتني!!! أغضبطتني بحديثك عن”الصنم”، تتحدث وكأنك وجدت ابنك والعائلة يركعون ويسجدون أمام “الصنم” كما تسميه، إنك لا تريد أن تفهم أن مرحلة الأصنام كانت مرحلة في التاريخ مرت وانتهت، ولا أن تفهم أن ليس كل تحفة فنية صنماً، هذه البلاد التي تراها على امتداد العين احتضنت شعوبا وأمماً وديانات، ما أنتج حضارات عريقة وثقافات، وما تسميه “صنماً” هو من نتاج تلك الحضارات.

سكت هُنيهة من جديد وقال:

ـ أعني أن ما تسميه “صنماً” فربما كان تحفة فنية لا تقدّر بثمن، لأنه يحمل شذى الماضي وعبق التاريخ، أفهمت الآن؟ لا يُقدر بثمن!!!

لا يدري الحمار لماذا تنهال عليه الذكريات كتراب جففته شمس الصيف الصحراوية و يتساقط في بئر عميق، وقال في نفسه:

ـ سيكون هذا “الصنم” هديتي إلى الملكة الأفعى، ما دام بهذه القيمة المرتفعة، وثمن الهدية يدلل على قيمة الحمار الذي يُقدمها، وعسى أن تكون قيمته كما يصف ذلك الحصان “الخرف”.

وذهب الحمار الأب إلى البيت، وأخذ “التمثال” التاريخي الملقى بين أقدام الجحوش وحوافرها، وكان قد جمّع كومة من أوراق أشجار النخيل، وأخذ يلف بها التمثال حتى غطاه كاملاً، وغرس في وجه الأوراق بضع حبّات بلح حمراوات، وتهيأ للمسير إلى بيت الأفعى في اليوم التالي.

  •   *   *   *

حمل الحمار الأب هديته على ظهره، وانسل مع قدوم الفجر متوجهاً إلى مقر الأفعى الملكة، ظل رأسه يفكر طوال الطريق كله، رغم ما يسببه له التفكير من تعب وإجهاد، ورغم خروجه عن عادة الحمير، فميزة الحمير التي خرج عنها الحمار الأب، هي إبقاء العقل في حالة ارتياحٍ دائمٍ، بعيداً عن تعب الأيام ومشاكلها، لكن عادة معشر الحمير لم تُلزمه أو تمنعه من التفكير على طول الطريق. داهمته الشمس فقضت على بقايا البرد المختبئة بين ثنايا جلدة، وبدأت تنشر حرارتها على كامل الطريق، والحمار الأب ما يزال يسير، حتى وصل  الى شجرة النخيل التي يقصدها، وكما أوصته الأفعى الملكة، أخذ ينهق نهاقاً خفيفاً منادياً على الأفعى الملكة ، والتي جاءت تزحف مسرعة وكأن أحداً أزعجها وقلل من راحتها، وقالت معاتبة:

ـ ألم أوصيك أن تنهق بلطف أيها الحمار؟ لقد أيقظت كل الأفاعي وأخفت صغارها…

فقال الحمار الأب في محاولة للدفاع عن نفسه:

ـ وهذا ما فعلته بالضبط أيها الملكة الأفعى، هذا أخفت صوت استطعت أن أخرجه من حنجرتي.

وكادت أن تقول الأفعى بصوت مرتفع،” كنت حماراً وبقيت حماراً، فعلاً إن أنكر الأصوات لصوت الحمير” لولا أن قررت أن الوقت ليس مناسباً في هذه اللحظة بالذات، بل إنها أخذت ترحب به وأخذته معها إلى ديوان الأفاعي لتحتفل بقدومه.

قرعت الأفعى الملكة جرس ذيلها منادية، فأقبلن قائدات الأفاعي واحدة بعد الأخرى، فحضرت أول ما حضرت الأفعى “الكوبرا” فاردة رأسها وكأنها تحمل تاجها الملكي فوق رأسها، فاردة طولها والذي بحجم عدة أفاعٍ من حجم الملكة الأفعى، مختالة مغرورة به، وبين أنيابها سموم قل مثيلها في كافة الأنحاء. تبعتها الأفعى النفاثة برأسها العريض المغطى بالحراشف، نافثة الهواء الذي ملأت به جوفها في الهواء بشدة، جاءت برفقة الأفعى الرملية، ذات الرأس المدبب والعنق النحيل، وبجسدها المنشاري الضعيف القصير، والذي يحوي كمية هائلة من السموم، جاءت فرحة وكأنها تتزلق فوق الرمال، ومن مكان أكثر بعداً جاء الأفعى الأسود الخبيث، بجسده النحيل وذيله الإبري، بعيونه الصغيرة كعيني لص محترف، كما حضرت أفعى الحنش بجسدها المتطاول المغطى بالحراشف، والأفعى النمر بشكله وألوانه النمرية، بمرونة جسدها وأنيابها القوية. جئن الأفاعي فرحات مزغردات بعد الأمر الذي تلقينه من الأفعى الملكة، وابتدأن بالطبل والرقص والغناء، مرحبات بقدوم الحمار الأب، مقدمين له الفاكهة والخضار، كما قدمن له خمور البلح مع “مازة” من الشعير، وأحضروا له “تحلبة” :”مخلاة من التبن”. ولم يفوت الملكة الأفعى من أن تقدم للحمار خلوة مع “آتان” جميلة، وأمرت بتصوير الحمار الأب في كل حركاته بما في ذلك داخل خلوته نفسها، متذرعة بأنها لا تعرف ما يخبئه الزمن لمملكتها، رغم أنها تتعامل مع حمار.

استمرت الإحتفالات حتى منتصف النهار، حتى أمرت الملكة الأفعى بالإنتقال الى غرفة خاصة أسمتها بغرفة الخيارات الكبيرة، وحضر معها الإجتماع مع الحمار قادة الأفاعي، خاصة قواها الضاربة الممتلئة بالسموم ممثلة بالأفعى الكوبرا والأسود الخبيث.

ابتدأت “الأفعى الملكة المجلجلة” اجتماعها بإحضار هدية الحمار الأب وفتحها أمام الجميع، وما أن رأتها حتى عُقد لسانها من التاريخ المتجمع بهذه الكثافة في هذا التمثال، والذي يكاد ينطق متحدثاً عن الأمم والحضارات المتداخلة التي جبلته، لكنها أرادت أن تُبقي الحمار مكسورا مهزوماً أمامها، فسألت بين الجد والمزاح:

ـ ما هذا؟!!!

ـ إنه… أقصد… ابني… الصنم …

قال الحمار كلمات لم يفهمها أحد، لكن الأفعى الملكة أدركت أنه لا يعلم ماهية هذه الهدية، وكادت تصرخ من شدة الغباء والجهل في الكتلة “الحماربة” الموجودة أمامها قائلة في سرّها:

ـ”حتى إنه لا يعلم ماذا حمل من تاريخ فوق ظهره هذا الحمار”.

وأدركت أنها أمام مرحلة مهمة من حياة مملكتها كلها، حين جاءها صوت الحمار معتذراً:

ـ أعرف أن هديتي المتواضعة هذه، ليست بمستوى مقامكم الرفيع، إن هذا “الصنم”….

ـ لا عليك… ما يهمنا هو أنت أيها الحمار، وهديتك تكتسب أهميتها كونها من حمار مثلك أيها الصديق الوفي، يكفي أنها مغلفة بشكل يُدلل على ذوق رفيع وإحساسٍ عال. لذلك…

وأشارت بيدها إلى الخادم ليضعها في صدر الغرفة، وأكملت:

ـ ضعها بالضبط هناك فهي رغم كل شيء من صديق عزيز مخلص ومهم… إنها من صديق حمار.

والحمار الذي وجد نفسه مقصراً، مقارنة باستقبال الأفاعي له، وبإحتفالاتهن به ومعه، وظن كل الظنون السيئة بالحصان الذي “إستحمره” بهذا الشكل واستغباه، مما سبب له كل هذا الإحراج، لكن صوت الأفعى أعاده إلى الواقع من جديد، قالت:

ـ إنتهينا من الإحتفال بك أيها الحمار الصديق، قل لنا بماذا نستطيع خدمتك!!! كي نُعيدك لديارك دون أن يلحظك أحد، تفضل…

عدّل الحمار من جلسته، أزاح مؤخرته معدلاً ظهره على ظهر الكنبة، لتساعده في مزيد من الراحة، وبدأ يقول:

ـ تعلمن “يا طويلات العمر” أن لكل منا طموح، ولدى ولدي “الحمار الكبير” طموح مشروع، طموح بأن يصير ملكاً على عشائر الحمير وقبائلها، فهو أول حمار يفكر بهذا الأمر وبهذه الشمولية، كما أنه ربما الحمار الوحيد الذي يعرف أن الأمر ليس ممكناً بغير السيف، ونعنقد أنكم يمكن أن تساعدونا بامتلاكه، ونحن وإن كنا لانملك الآن الكثير، لكنا نعدكم بأن تأخذوا كل ما تريدون إن أنتن ساعدتننا، وكما يقول المأثور الشعبي”خذوهم فقراء يغنيكم الله”، وأملنا بكم وبالله كبير، وأملنا بأن لا تُخيبن آمالنا، فخذننا و”بعون الله” لن تندمن أبداً.

فقالت “الأفعى الملكة” مؤكدة على كلام الحمار الأب، بين الهمز و بين الغمز، متلفتة إلى بقايا الأفاعي اللواتي كن يشعرن بالإهانة كونهن مجبرات ليجلسن ويستمعن إلى حمار، لكن للضرورة أحكام:

ـ أشاركك الرأي أن التفكير بطلب المسعادة هذا، ومن مملكتنا على وجه الدقة لا يمكن أن يصدر إلّا عن حمار ابن حمار يا طويل العمر، من حمارٍ أصيل، ونحن وبحمد الله و بجانب تقديرنا لك ولإبنك، فإننا نعدك بأن نكون عند حسن ظنكما…سندرس الأمر بمنتهى السرعة ونستشير حلفاءنا في الأمر، وسنرى ما يحب عمله وكيف سنعمله وسنبلغكم بالتفاصيل… أكمل كأس خمرك، وتوكل على الله وعد الى عشيرتك، قبل أن يلحظ تأخرك أحداً، واحرص شديد الحرص على أن لا تتفوه ولو بكلمة واحدة عن اجتماعنا هذا، وعليك تحضير حمير القبيلة للتدريب، وعليك أن تبدأ بحذوهم جميعاً، فأنتم معشر الحمير لستم أقل شأناً من الخيول، كما أن رفسات أرجلكم يجب أن تكون قاتلة

  •   *   *   *

عاد الحمار الأب إلى موطنه، بدأ بحذو الحمير بالحذوات التي قدمتها له الملكة الأفعى وعاد بها محملة على ظهرة، كان يقوم بالأمر بسرية كاملة، قائلاً:” أنه وجد الحذوات ملقاة على قارعة الطريق، في قطعة أرض صحراوية لا ينبت فيها عشب أو بقول، وأنه لن يأخذ ثمناً لشيء وهبه الله لمعشر الحمير”، الأمر الذي حسّن صورته في عيون القبيلة، وبدأ يخلق من عائلته قيادة لها، وخلق نوعاً من الثقة بين عشيرته وقيادتها المتشكلة حديثاً ، وكي لا يظل يُنادى باسم الحمار الأب وابنه بالحمار الكبير، قرر بأن يتحول اسم العائلة كلها بإسم “آل حمار”.

وخلال حذوه للحمير من قبيلته، قرر الحمار الأب أن يبدأ بتهيئة الأجواء لبدء حربه على بقية العشائر الأخرى من عشائر الحمير وقبائلها، كما أنه بدأ باختيار “مشروع الجنود” في ذهنه، ليبدأ تدريباتهم في الوقت المناسب، وكما أوصته الملكة الأفعى، ابتدأ كل”آل حمار”  بالتحريض على القبائل الأخرى، وخاصة قبائل الحمار الوحشي، وبنشر الأكاذب حولهم، واتهامهم بالإرتداد عن الدين وبالعودة إلى عبادة الأصنام، وفي مرات كثيرة بالإلحاد، وضرورة الوقوف في وجوههم كي لا يتعمم الفساد، ويسود الكفر والإلحاد والزندقة في المجتمع “الحميري” الكبير، ولاحقاً تم اتهام حمير القبائل الأخرى الذكور بالتحرش “بأتانات” “آل حمار”، ومرات بسبي نسائهم وخطف جحوشهم، فاتهم بعضهم بعضاً، وتخاصموا وتعاتبوا وتقاتلوا، الأمر الذي عمّق الهوّة بين عشائر الحمير وقبائلهم، وعمق الحاجة إلى قيادة شابة قادرة على الدفاع والحوض عن العشيرة بقيادة ” آل حمار”، وازداد حرق المحاصيل بين القبائل، وازداد تلويث المياه وتسميمها، وابتدأت الحروب بينها ما أدى لإضعافها من بعضها البعض، وبدأت عمليات الكره تزداد وتتعمق عمليات الثأر، وأخذ “آل حمار” يوزعون الشعير والبرسيم والتبن لعائلات الجنود المقترحين، كما أوصت الملكة الأفعى كلما أرسلت كمية من تلك الخيرات قائلة:”إطعم الفم تستحي العين”، فازداد إلتفاف العشيرة حول “آل حمار” أكثر، وأضحت هي القبادة الفعلية لعشيرتهم بدون جدال.

وبعد أن نضجت الأمور كما أرادت الأفعى الملكة “الداهية” كما سماها زعيم الكلاب، أخذت الأفعى الملكة جمعاً من الكلاب الضالة، الذين ابتدأوا بتدريب قبيلة “بني حمار”، تدريبهم على السيوف بشكل خاص، وكان التدريب يستمر من ساعات الفجر الأولى، ويستمر حتى ما بعد العشاء.  مع عمليات التدريب، أعطت “الأفعى الملكة” الأمر بحفر الخنادق وبناء القواعد في ثنايا ما تبقى من مساحة الليل الدامس. لكن الأمر الذي رفضت الأفعى حتى نقاشه مع “آل حمار”، هو موضوع السلاح “الإستراتيجي” كما أسمتها، والتي تشمل الرماح  والمنجنيق، كونها ستظل في أيدي قطيع الكلاب والأفاعي و بعض قبائل الضباع، “التي وعدتها “ملكة الأفاعي” بوطن لها مكان مملكة الخيول والتي لا تبعد كثيراً عن عشيرة “آل حمار”، متذرعة بأنها لا يمكن أن تتصور ماذا يمكن أن يحصل إن وقع هذا السلاح في أيدي غير موثوقة وخارجة عن السيطرة.

بدأت الحرب بقصف مكثف بالمنجنيق، وكانت العشائر مسالمة نائمة، ولم تتصور أن جهنم ستنزل عليها وعلى عائلاتها من السماء، وسرعان ما ابتدأت الرماح تخترق أجسادهم، وأمام هروبهم من الجحيم الذي لم يروا مثله حتى في أحلامهم، تابعتهم سيوف “آل حمار” من خلفهم ومن أمامهم، والتي قتلت كل شيء يتحرك. وأمام التقهقر الذي أصاب القبائل المستهدفة من “آل حمار”، فقد تايعت “ملكة الأفاعي” والكلاب الضالة بقصف معاقل عشائر الإبل والخيول والخراف والأبقار، وبعد أن جردوا قبائل الخيول من أسلحتها و”حذواتها” وقال البعض حتى من أسنانها، وأفلتوا عليها قطعان الكلاب الضالة وقطعان الضباع المتسلحة بكل أنواع السلاح حتى ما كان محرماً منه، وأخذوا يقتلون كل من رأوه سواء كان مجنداً أم مدنياً، فقتلوا الخيول شيباً وشباناً، وقتلوا الأمهار والأفراس، وبقروا بطون الحوامل منها، وكرروا الموت في الطرق والحقول ودور العبادة، وِطردوا معظم من لم تصلهم سيوفهم ورماحهم ومنجنيقهم، وزرعوا هناك قاعدة للضباع، متفقين معهم على حماية “آل حمار” وحماية مصالح الأفاعي والكلاب في المنطقة جميعها، مقابل أخذ حصتهم من عائدات المرابح جميعها.

بسط “آل حمار” سلطتهم الكاملة على منطقتهم والمناطق المجاورة، من عشائر الحمار الوحشي والإبل والأبقار  والخراف، و بحماية من قاعدة الضباع التي زودتها مملكة الأفاعي بكل أنواع الأسلحة وبكل أشكال الضباغ وأنواعها وألوانها المجلوبة من كل بقاع العالم، ووقّعت مملكة الأفاعي مع مملكة “آل حمار” على تقديم الحماية لهم وإعطائهم الحق باستخراج المياه والمعادن من رمال المملكة، مقابل حمايتها، وكذلك مقابل تقديم الخبراء والمستشارين، على أن تأخذ مملكة”آل حمار” بعضاً من نتائج حصاد ما يتم استخراجه.                              كما أقرت المملكة وملكة الأفاعي، أن تشتري مملكة “آل حمار” شعيرها وتبنها من مملكة الأفاعي أو ممن تشير بهم اليه. وكون الحرب قد حطت أوزارها عمليا من وجهة نظر “آل حمار”، وبدأوا بالتوجه الى الإهتمام بشئونٍ أخرى، إلّا أن الملكة الأفعى غلّطت هذا الفهم، وقالت إن ما مضى هو أبسط الأمور، وأن القادم أعظم، وإن لم يتم التحضير للفترة القادمة، فقد تشهد المملكة إنقلابا ربما يعيد الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه، الأمر الذي جعل الحمار الأب  وابنه الحمار الكبير، ترتعد فرائضهما، ويكادا يبولا على أذنابهما من جديد، لولا أن تدخلت الملكة الأفعى لتطمينهما، قائلة لهما:

ـ هيا لنتهيء لتمليك الحمار الكبير ونحتفل به مع أبناء” آل حمار” كلهم، ولنضع مهمات المرحلة القادمة، كي يظل الملك وعائلته والمملكة كلها في أمن وأمان.

  •   *   *   *

وابتدأت الإحتفالات بتنصيب “الحمار الكبير” ملكاً على كامل أراضي المملكة ورمالها، وحضرن الأفاعي والكلاب الضالة والضباع، ودعون أصدقاءهن وحلفاءهن لمشاركتهن الفرحة، وسُكبت الخمور وشربوا الأنخاب، وذبحوا العجول والأبقار والخراف المسبية، وأحضروا الراقصات وأشعلوا النيران، ورقص “بنو حمار” كلهم، وهنأ الجحوش أخيهم الملك وتمنى الكثيرون منهم لو أنهم كانوا مكانه في هذا العرس الملكي المهيب، وغرس “آل حمار” سيوفهم في بطون من أسروه من قبائل الحمار الوحشي، وحرقوا بعضهم أحياءً إنتقاماً وكرهاً، وأكلت الحمير اللحم علّها تصبح حيوانات كاسرة، وبدأوا بنبش مقابر العشائر المعارضة ليتعلموا أن لا معارضة لنظام “آل حمار”، وليكونوا درساً لمن تُسوّل له نفسه بالتفكير للتصدي لهم أو لأي حمار من قبيلتهم.      وانطلقت في السماء فحيح الأفاعي ونباح الكلاب وزمجرة الضباع ونهيق الحمير، معلنة عن فرحتها، واستمرت الأعراس أياما طوالا، فُرضت ضريبتها على العامة من قبائل الحمير كلها، وجيء بالقبائل لمبايعة الملك وتهنئته، وسجلوا أسماء القادمين ليستطيعوا تحديد المتخلفين ليسهل الإنتقام منهم لاحقاً، وهذا ما تم فعلاّ، ولم تُقبل أعذار المرضى أو العُجَّز ولا حتى مصابي الحروب الذين حاربوا مع “آل حمار” ومن أجلهم!!!.

ظلت قبيلة “آل حمار” تتغنّى بالعرس الملكي والذي تحول مع مرور الزمن الى عرس وطني، والذي وصلت أصداءه إلى كافة ممالك الحيوانات، ورويداً رويداً بدأوا ينسجون القصص عن الحمار الملك والحكايات، وأخذت تُنشر الصور للملك”الشجاع” وهو يحتضن سيفه، أو وهو يطعن الحمار الوحشي، وأخرى وهو “يرفس” حصاناً بحوافره ويرديه قتيلاً. وأخذوا يقولون الحكايات عن سرعة الملك الحمار التي تتفوق على سرعة الخيل مرّات ومرات، وجماله الطبيعي الذي يتفوق على جمال الغزال، ورسم البعض للحمار الملك النيوب الأحدّ من نيوب الليوث، وبعيون كحيلة كعيون أبقار الوحش، وزادت القصص عن ملك “آل حمار” وتزايدت، حتى أضحى الملك الحمار الحدث الأبرز الوحيد الذي لا تنتهي قصصه ولا تنتهي حكاياته.

قال ملك”آل حمار” “للأفعى الملكة”، في شكرٍ واضح وفي محاولةٍ لإظهار العرفان بما فعلته مملكتها له ولعائلته:

ـ ” من نظر إليَّ بعينٍ أنظر إليه بالإثنتين” “طال عمرك” “أطلبي تُعطين”!!!

فقالت الملكة الأفعى بوضح ما بعده وضوح:

ـ نحن أعطينا حتى الآن أيها الحمار الملك، ولم ننتهِ من العطاء بعد، فكما تعلم لن يستطيع حمار مهما علا شأنه، حتى لو كان ملكاً، أن يحافظ على هذا المُلك دوننا، لذلك حان الوقت لأن نأخذ لا أن نُعطى، أليس كذلك أيها الحمار!!!

وختمت حديثها بسؤال جرده من ملوكيته، فهم منه الحمار أن حياته ومماته وفقره وغناه هو في أيدي مملكة الأفاعي وحلفائها، وأنها قصدت إفهامه أن ما يحاول تصويره لقبائل الحمير وعشائرها، لا يمر عليهم خاصةً وأنها ومملكتها من صنعتاه، فقال في محاولة للإعتذار والخضوع:

ـ معكِ حق “طال عمرك”، وهذا ما قصدته… أنت تأخذين ولا تطلبين أو تُعطين، فالبلد تحت أمرك، والحمير وملكها تحت تصرفك…

طبطبت الأفعى الملكة على ظهر الحمار الملك بطرف ذيلها، مشجعة على الخضوع أكثر، وضغطت على طهره، فأخذ يركع رويداً رويداً، حتى لامس رأسه حذاء الأفعى، اقتربت بحذاءها قليلاً إلى فمه، فاحتضنه الحمار الملك بحافريه وانهال تقبيلاٌ به، وابتدأت دموع الخضوع والمهانة تنهال على صفحات وجهه الطويل، فقالت له الأفعى وهي ما تزال تضغط على رأسه ليزداد للحذاء تقبيلاً:

ـ لا عليك لا عليك، إننا حلفاء وأصدقاء أيضاً، وسنظل كذلك ما دمت ترغب بصداقتنا وتتمسك بنا حليفاً، فمن ناحيتنا نحن مخلصون لهذه الصداقة، رغم أنّ الكثيرين يعبون الأمر علينا قائلين”أنكم لا تستطيعون تعليم حماراً، فالحمير تُركب ظهورها فقط وتُقاد”، ونحن لم نركب ظهوركم أيها الحمار، لذا فالأمر يعتمد عليك فقط، على مدى تفهمك لمصالحنا المشتركة، فلا تهدم ما بنيناه سوياً…

ـ معاذ الله، فأنا لست سوى أحد أملاككم، وما عليكم سوى الأمر وما علي سوى الطاعة.   قال الحمار الملك كلماته هذه، في الوقت الذي أخذت فيه الملكة الأفعى ترفع رأسه وشفتيه عن نعل حذاءها، وأخذت تطبطب من جديد على ظهره وتقول:                                      ـ أستغفر الله العظيم … أستغفر الله العظيم… هيا ياصاحب الجلالة، أيها الحمار المبجل لنضع برنامج السنوات القادمة….

وابتدأت الملكة الأفعى تقرأ توصياتها لتسهل للحمار الملك حكم البلاد، لكنها طالما ما أعادت على مسامع ملك “آل حمار” ما كان يكرههه، وهو تكرار مناداته بالحمار لتذكره بنفسه:

ـ إبدأوا ياصاحب السعادة، أيها الحمار المبجل، بتأليه الملك، فلتُعلق صورك في كافة الشوارع والساحات، في البيوت ودور العبادة، ولتفرض الضرائب على أي حمار لا يعلق صورك في بيته، فأنت ملك البلاد وإن كنت حماراً، كلامك مسموع وطاعتك واجبة. ورمت أمامه صورة حمارٍ يقف على خلفيتيه مثل حصان جامح، رأسه في الأعلى وفي يده سيف ومن خلفه منجنيق، ومكتوب في أسفل الصورة:

“مليكنا زين الحمير      زين الحمير مليكنا”

ـوعليكم باستمرار الحروب مع قبائل الحيوانات الأخرى، لتظل لكم خاضعة وتحسب لكم ألف حساب وحساب، وبين قبائل الحيوانات وعشائرها مع بعضها البعض، وسلحوا كل الأطراف لتظل ضعيفة وتظلوا الأقوياء، واربطوا الجميع بأموالكم ليظلوا بحاجتكم وتحت سطوتكم وسيطرتكم، وكي لا يخرجون عن طوعكم وأوامركم، واسبوا الجميع واقتلعوا مزروعاتهم وأشجارهم وسمموا مياههم، واستنكروا وتبرأوا من ذلك كله وكأن ليس لكم فيه يداً.

نظرت من جديد في الورقة التي بين يديها وتابعت شارحة، كون الحمار لن يساعده عقله على حفظ ما تقوله:

ـ وعليكم أيها الحمار والملك العزيز، أن تُطلقوا اللحى والسوالف وتحلقوا الشوارب، فللحمار الشَعور هيبة ورجولة، وعليكم بتعدد الآتانات، واترك الشعب يغرق بالتزاوج ويبتعد عن السياسة، وإياك بأن تعطي الأتانة حرية الحركة أو العمل أو التعليم أو التعبير، كون ذلك رجس من عمل الشيطان، واتركهن سجينات بيوت أزواجهن وأباءهن، فذلك يُحَيِّد عنك “شرور” نصف مجتمع الحمير، ويظل النصف الآخر الذي ستحكمه بحد السيف والمقاصل، فكما تعلم أيها الحمار الملك” العصا لمن عصا”، ولكنك تحتاج التجهيل بجانب السيف يا طويل العمر.

ـ التجهيل؟!!! كم كنت أود أن يتعلم الحمير أيتها الملكة العظيمة، لكن وما دمت لا تريدين…!!!

قال ملك “آل حمار” في لهجة أقرب إلى الرجاء والتمني، وسرعان ما تفاجأ من إجابة الملكة الأفعى التي قالت:

ـ ومن قال أننا لن تعلمهم؟، علّمهم طاغة الله وطاعة الملك، وأن طاعة الملك وإن كان حماراً لهي من طاعة الله، وأن أي خروج عن أقوال الملك أو أفعاله أو أوامره ما هي إلّا خروج عن طاعة الله، عاقبتها السف في الدنيا وجهنم وبئس المصير في الآخرة، علمهم فلسفة التجهيل أيها الحمار…..الملك…                                                                                 ولما نظرت الملكة الأفعى في عيني الحمار الملك، وجدتها جاحظة منطفئة شبه ميتة، فأدركت أن ملك “آل حمار” لم يفهم الكثير مما قالته، فقالت:

ـ أقصد أنك بحاجة بجانب السيف إلى العمامة، فالسيف للقتل ونشر الخوف والتخويف، والعمامة لفن التجهيل، لتحارب القبائل الأخرى باسم الله وباسم الملك، أي للربط بينك وبين الخالق، من معك فقد آمن ومن خالفك فقد كفر، من مات وهو يحارب باسمك ومن أجلك فقد مات شهيداً له جنات تجري من تحتها الأنهار، وله أنهار الخمور كما الجواري الحسان والغلمان، ومن مات وهو ليس كما أنت عليه فله جهنم وبئس المصير خالداً فيها إلى أبد الآبدين. وعليهم أن يشرحوا ويؤكدوا لكل معشر الحمير أينما حلوا أو ارتحلوا أو تواجدوا على احراق الكتب الجاحدة الكافرة، والكتب الكاذبة واللوحات التاريخية وهدم الأوثان وتحطيم الأصنام وتدمير المقابر وقطع الأشجار ذات العمر الطويل لأن ذلك يعارض أوامر الله ويخالف شرائعه، وتدمير كل ما لا يمكن نقله من بقايا البيوت المحملة بالتاريخ والمعابد الأثرية، ونقل ما يمكن حمله من “الأصنام” الأخرى التي يمكن حملها ونقلها، لحليفتنا الجديدة في المنطقة، “مملكة الضباع”، كي تساعدهم في بناء تاريخ لهم وتشكيل حضارة خاصة بهم، فليس من المعقول أن نتركهم وشأنهم ودون مساعدة منا بعد مساعداتهم لكم ولنا!!!

وسكتت الملكة الأفعى وكأنها تريد أخذ جرعة هواء لم يسغفها الوقت لأخذها في الوقت المناسب، وعادت لتنظر الى الحمار الملك والذي ما يزال غير قادر على فهم كل ما يدور حوله، ثم أكملت علّ بعض الوصايا تعلق في رأس هذا الحمار، أو تثير فيه فضول استعمال عقله:

ـ ولا ننسى ايها الحمار المبجل، أن على العمامة أن تُفلسف آلية لغزو الأفكار، وأن تعلم أن الفكرة كالسهم إن أصابت قتلت، أو كالمنجنيق اينما سقطت حرقت، لذا عليك أن تجعل ما يقوله الملك قانوناً يجب تطبيقه والإلتزام به، كما عليك أبها الحمار الملك أن لا تسمح بزراعة الأزهار لأنها تدعو للتفاؤل، ولا بزراعة الأشجار لأنها تبعدك عن ذكر الله، وأن لا تسمح بتجمع أكثر من حمارين اثنين، لأن التجمعات تدعو للفتنة، وعليكم شراء محطات وصحف ومذياعات  لنشر أفكار أصحاب العمامة في كل مكان، وأوعز أيها الحمار الملك لبعض “بني حمار” أن تُقيم ذات الشيء للطبل والرقص والعنف وشرح دين الملوك، ونشر صور الملك وأحاديثه وكتبه ، وورعه وتقواه وإيمانه وصلاته وصيامه وقعوده وقيامه، وعفّته ورقته وخشوعه وقناعته، وهل أهم من الملك ليتحدث عنه العامة وإن كان حماراً أيها الملك المبجل،  وعليك أن ….

وسكتت الملكة الأفعى على غير توقع، سكتت بعد أن أبقت عينيها معلقة في عيني الحمار، ملك “آل حمار” كلهم، اللتين ظلتا عينين مفتوحتين على أقصاهما، عينان ضبابيتان ميتتان ليس بهما حياة.  رمت الأوراق التي من يدها على الطاولة أمام الحمار، قائلة في نفسها”فعلاً ليستا سوى عيني حمار”، وسرعان ما أمرته بتشكيل لجنة من أذكى حمير “بني حمار” ويأمرهم بتنفيذ ما في الأوراق بحذافيره تحت إشراف الأفعى “الأسود الخبيث”، وأمرته بتشكيل لجنة عسكرية من أكثر ضباط الحمير طاعة، وبإشراف الأفعى “الكوبرا”، التي قامت أول ما قامت بتجميع أفضل الضباط الذين تمرسوا في حروب”آل حمار” الطويلة، وخرجت بهم للتدريب كما أعلنت، وهناك سرعان ما أمرت حلفاءها الكلاب الضالة والضباع لتنقض عليهم وتمزقهم ولم تُبق منهم غير هياكلهم العظمية. وعادت إلى الحمار الملك لتُعْلِمه أن حيوانات مفترسة ضخمة، لم تر لها مثيلاً من قبل، انقضت عليهم أثناء التدريب وقتلت الضباط جميعاً، فرد الحمار ملك”آل حمار” فائلاً ودون تردد:

ـ فداك الضباط جميعاً طال عمرك، فدال كل الضباط….

وظلت الأفعى “الكوبرا” تقود جيوش المملكة وتدربهم  بمباركة ملك الحمبر جميعاً.              وأخذت تمر السنون واحدة بعد أخرى، وصارت الأفاعي والكلاب الضالة والضباع، تحفر جحوراً في مملكة “آل حمار”، وتبني البنايات وتزرع فيها أكواماً من الأسلحة، وبدأت تستخرج الماء من باطن الأرض، ويُقسم البعض أن مياهاً ذات لون أسود كانت تخرج من نفس تلك الأرض، وأخذت الأفاعي تأخذها وتبدلها بالشعير والتبن، وتبادلها بالمياه المستخرجة من الأرض ذاتها، وأنها كانت تستبدل وعاءً من الماء العادي مفابل اثنين من الماء الأسود، وأخذت مملكة الأفاعي تحمل الماء الأسود في سفن وسيارات شحن كبيره، ومددوا له الأنابيب الضخمة لتصلهم تلك المياه دون عناء، ومتأخراً بدأوا يعطون جزءً من ناتج بيع تلك المياه “للملك الحمار” و”لآل حمار”. ويؤكد الرواة أن الأمر ما يزالا معمولاً به حتى وقتنا هذا والله أعلم.

وأكمل الراوي حكايته قائلاً:

وقيل أن الملك الحمار، كان قد احتج يوماً على النسبة الهزيلة”كما وصفها” التي تعطيها له مملكة الأفاعي، مقابل الماء الأسود المنقول لديارها، إلى أحد أفراد العائلة الحمير من “آل حمار”، يعني من عائلة الملك الحمار نفسها، والذي نقل تفاصيل الحديث وأضاف عليه للملكة الأفعى، ما جعل ملكة الأفاعي تُعطي أوامرها للأفعى الكوبرا أن تضع له من سمها كمية قاتلة بين حبات الشعير التي يتحلى بها الملك الحمار كل مساء، قائلة:

ـ أقتلوا هذا الحمار وهاتوا حماراً آخراً لنعينه ملكاً، يبدوا أنه قد بدأ يستخدم عقله، وهذا يخالف إرادة الله هه هه هه هه

وضحكت الأملكة الأفعى كما لم تضحك من قبل.

وقامت بنفسها بأخذ العزاء من عامة الشعب، وذرفت الدموع، وشقت ملابسها، وبقيت بنفسها طيلة أيام الحداد بجانب آل حمار في مصيبتهم، ومشت في جنازة الحمار حتى واراه التراب، كما ظلت حتى بويع الحمار الجديد ملكاً، والذي لم يكن أحداً آخراً سوى أخو الحمار القتيل، الحمار الأكبر بين الأخوة الجحوش جميعا.

وفي الأثناء كبر بقية أخوة الملك الجحوش وصاروا حميراً كاملين مُكملين، وجاء الحمار الأب إلى “الأفعى الملكة” أثناء قيلولتها، سلم وجلس بالقرب من ذيلها، فنهضت بعد أن سمعت بحركات جسده الثقيلة، وسألت بعد أن رحبت به:

ـ أهلاً وسهلاً بالحمار ابن الحمار، ما الذي جاء بك بعد كل هذه السنين؟ والله اشتقت لك…    ـ إشتاقت لك العافية أيتها “الملكة الأفعى” المبجلة، ووضع يده على حزام وسطها وأكمل، “يدي في حزامك” أيها الملكة…

فقالت الملكة الأفعى التي تعلّمت عادات مملكة الحمير وأهلها منذ زمن:

ـ “وَصَلْتَ ياطويل العمر” ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك؟

ـ أنا “طمعان” في جودك وكرمك… فكما تعلمين الجحوش كبرت، وتطمع في أن تُملكينها بعض الممالك، ولن ننسى فضلك هذا بإذن الله… وأنت تعرفيننا جيداً، وتعرفين حمارنا المرحوم جيداً…

قال الحمار الأب راجيا، حين قالت له الأفعى الملكة:

ـ يقولون أن “الطمع في الدين”، لكن يبدو أن عند معشر الحمير “الطمع في الحكم”، وأنت كما تعلم “غالي وطلبك رخيص”، سأولي أولادك الحمير على بعض الإمارات القريبة، فأنا كما أعرفك أعرف نفسي أيضاً…فكما تعلم “لعلنا لن نجد أفضل من الحمار ملكاً”

  •   *   *   *

وهنا ثارت ثائرة المعارضين للراوي قائلين، أن الأفعى الملكة لم تقل ” لعلنا لن نجد أفضل من الحمار ملكاً”، بل قالت ” يظل الحمار حماراً حتى لو صار ملكاً”.

واختلفوا ولم يتفقوا وتجادلوا وتحاججوا، وشكلوا لجنة مشتركة للتدقيق في الأمر ومتابعته، وانفضضنا من حولهم وحول الراوي مُشتتين، حائرين، من نصدق ومن نُكذّب؟ أقوْل الراوي ب “لن تجد الأفعى أفضل من الحمار ملكاً” أم قول معارضيه بقولها ” الحمار حمار حتى لو صار ملكاً”….

محمد النجار